الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونسجل هنا ملاحظتين على قدر كبير من الأهمية فيما يتعلق بتأسيس "القيروان":
أولاهما: لقد أنشأ عقبة للمسلمين قاعدة يحكم فيها البلاد التي يفتحها وتصدر منها الغزوات. ومعنى هذا أنه -بعمله هذا- قد جعل "إفريقية" ولاية إسلامية جديدة، لأنه ما دام قد أنشأ بها مسجدا ودارا للإمارة فقد أصبحت المنطقة كلها جزءا من الدولة الإسلامية، ولا يجوز بعد ذلك للمسلمين أن يتخلوا عنها، وبالفعل كان من الممكن -قبل ذلك- أن ينسحبوا من "إفريقية" إلى "برقة" أو إلى مصر كما كانوا يفعلون. أما الآن فلا بد لهم أن يثبتوا في هذه الناحية، وإن فقدوها -لسبب ما- فيجب عليهم أن يستعدوها مرة أخرى، لأنها جزء من الديار الإسلامية1.
وثانيتهما: وكما أفادت هذه المدينة حركة الفتوح كبرى من الناحية العسكرية فقد أفادت أيضا في العمل على نشر الإسلام والعروبة في المغرب. وهذا هو الغرض الأساسي من الفتوح، وذلك حينما سنحت الفرصة للاتصال السلمي بين البربر والعرب والمقيمين بالمدينة في الفترات التي تتوقف فيها الحروب؛ الأمر الذي ساعد على تقبل بعض البربر للدين الجديد باقتناع دون أي شبهة اضطرار. وقد زاد هذا الأمر أهمية أن الكثيرين من هؤلاء البربر الذين أسلموا أخذوا ينتظمون في جيوش المسلمين، ويسيرون معهم لإتمام فتح البلاد2.
1 معالم تاريخ المغرب والأندلس، لحسين مؤنس -ص"36".
2 راجع: التطور السياسي للمغرب، للدكتور طاهر راغب ص"38-39"، فجر الأندلس لحسين مؤنس ص"40".
ثانيًا: عزل عقبة وولاية أبي المهاجر ديار "55-62هـ/ 674-681م
"
…
ثانيا: عزل عقبة وولاية أبي المهاجر دينار "55-62هـ/ 674-681م"
وبينما كان عقبة يتخذ الأهبة للخروج للغزو الواسع النطاق -بعد أن أتم تأسيس "نقطة الارتكاز"- إذا معاوية بن أبي سفيان "الخليفة" يفاجئه بالعزل "سنة 55هـ/ 674م". وكان من المتوقع بعد أن قام عقبة بهذا العمل المجيد أن تكافئه الدولة بأن تتركه في ولايته ليتم ما بدأه، إلا أنه -بدلا من ذلك- يتلقى أمرا بعزله عن "إفريقية"1
1الكامل "3/ 321"، البيان المغرب "1/ 21".
وكان الخليفة قد ولى على مصر مسلمة بن مخلد الأنصاري "سنة 47هـ/ 667م" وهو من أنصار البيت الأموي الذي أعانوا معاوية على الوصول إلى الخلافة، فكافأه بولاية مصر، وظل واليا عليها إلى سنة "62هـ/ 681م". وعندما رأى مسلمة أن "إفريقية" أصبحت ولاية وميدانا جديدا واسعا للفتوحات طمحت نفسه إلى أن يحوزها، فسعى عند الخليفة في عزل عقبة، وجمعت له الولاية على مصر وإفريقية معا، ثم ولى على "إفريقية" رجلا من أهل مصر مولى له -نائبا عنه- هو "أبو المهاجر دينار"1.
وكان مسلمة قد أوصى الوالي الجديد أن يعزل عقبة أحسن العزل"2، فلما قدم أبو المهاجر "إفريقية" أساء عزل هذا القائد الكبير، وحبسه. ولم يكتف بذلك، وإنما كره نزول "القيروان"، ونزل في قرية صغيرة على بعد ميلين منها، تعرف بـ "تكرور" أو "تكروان" رغبة في التقليل من أهمية العاصمة الجديدة، وإيجاد بديل عنها، وبل وحث الناس على تعمير الموضع الجديد3. وقد خرج عقبة فتوجه إلى دمشق، وشكا للخليفة، فطيب نفسه، ولكنه لم يرده إلى ولايته. يقول ابن عذارى: "ولما قدم عقبة على معاوية قال له: فتحت البلاد، ودانت لي، وبنيت المنازل، واتخذت مسجدا للجماعة، وسكنت الناس "أي بنيت لهم مساكن"، ثم أرسلت عبد الأنصار فأساء عزلي؟ فاعتذر له معاوية
…
وتراخى الأمر حتى توفي -أي الخليفة- "سنة 60هـ" وأفضى الأمر "أي الخلافة" إلى يزيد ابنه"4.
والحق أن أبا المهاجر كان من خيرة الولاة، وعلى قدر كبير من الحكمة، ولم يكن أقل كفاءة من عقبة بن نافع، فهما ينتميان إلى مدرسة واحدة، هي مدرسة الإسلام، وتعلم فيها الاثنان معنى الجهاد، والتضحية في سبيل الله عز وجل. ورغم كل ما ذكره المؤرخون من خلاف بين القائدين، أو ما حدث بينهما من إساءة
1 راجع الكامل "3/ 321". والبيان "1/ 21"، وفتوح مصر والمغرب لابن عبد الحكم ص"197".
2 فتوح مصر والمغرب ص"197".
3 فتوح مصر والمغرب لابن عبد الحكم ص"197"، البيان المغرب "1/ 21-22".
4 البيان المغرب لابن عذارى "1/ 22". وورد في الكتاب نفسه أن عقبة دعا على أبي المهاجر أن يمكنه الله منه، فبلغت أبا المهاجر دعوته، فقال:"هو عبد لا ترد دعوته"، لم يزل خائفا منه، نادما على ما فعل معه -وراجع أيضا: فتوح مصر والمغرب لابن عبد الحكم ص"197".
نجدهما يشتركان في هدف واحد هو العمل -ما أمكنهما- على نشر كلمة الله سبحانه وتعالى في المغرب، وإن اختلف كل منهما في القيام بهذا الواجب. فقد كان عقبة عسكريا صرفان تميل طبيعته إلى حسم الأمور، مستخدما سيفه وجنده. بينما كان أبو المهاجر رجلا سياسيا محنكا، استخدم السيف حين كان له ضرورة، ومال إلى اللين ليتمن من قلوب بعض البربر ويضمهم إلى الإسلام، ويخرجهم من ساحة الأعداء، إلى ساحة المحايدين1.
وكان أبو المهاجر دينار أول قائد مسلم يقدر على أن يخرج من سهل تونس ويتوغل في هذاب "المغرب الأوسط" ويهاجم القبائل البربرية في مواطنها الحصينة، ووصلت غزواته إلى "تلمسان"، وهي أكبر قواعد القسم الشرقي من المغرب الأوسط. وفي هذه النواحي كانت منازل قبيلة "أوربة"، وهي قبائل البربر "البرانس" في ذلك الحين، ويدين أفرادها بدين النصرانية. ويتزعمها رجل بربري قوي يسمى "كسيلة بن لمرم"2، وكان متحالفا مع الروم البيزنطيين ضد العرب. وقد استطاع أبو المهاجر أن يغزو مواقع "أوربة" في جبال "الأوراس"، وأن يكتسب رئيسها كسيلة" إلى الإسلام، فأسلمن وتبعه نفر كبير من قومه3. وبعد أن قضى أبو المهاجر في هذا الغزو نحو من سنتين "59-61هـ" على إلى معسكره، وأقام به عاما واحدا حتى عزل. وكان الظروف السياسية في عاصمة الدولة الإسلامة "دمشق" قد تغيرت، فمات الخليفة معاوية "سنة 60هـ/ 679م"، وتولى من بعده ابنه يزيد. وكان يزيد مقتنعا بعقبة بن نافع وحسن بلائه في فتح إفريقية، فأعاده مرة أخرى إليها -بعد أن استجاب لشكواه- وعزل أبا المهاجر "سنة 62هـ/ 681م"4.
1 راجع: دراسات أندلسية، للدكتور محمد عبد الحميد عيسى "ص25". تاريخ المغرب العربي للدكتور سعد زغلول "1/ 152".
2 كسيلة -بفتح الكاف وكسر السين المهملة، وهذا هو الصحيح. وقد ضبطت في "البيان المغرب 1/ 28، 29". بضم الكاف وفتح السين. وأما "لمرم" فهي بفتح اللام والراء، وبينهما ميم ساكنة، وآخرها ميم "راجع: فتح العرب للمغرب ص17".
3 راجع: معالم تاريخ المغرب والأندلس ص "37-38"، وفجر الأندلس ص"40""وكلاهما لحسين مؤنس". وراجع عن دور أبي المهاجر دينار في حملته "البيان المغرب 1/ 28-29". والعبر، لابن خلدون "6/ 146".
4 البيان المغرب "1/ 22".