الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهت للحملة الجهادية التي قادها عقبة بن نافع لفتح البلاد المغربية، فإنها تعتبر من كبريات الحملات العسكرية في تاريخ هذا الإقليم، شملت المغارب الثلاثة، وأدخلت المسلمين إلى مناطق لم يدخلوها من قبل، وحققت عدة انتصارات عسكرية مهمة، وعرفت البربر في مناطق نائية بالإسلام، وتكفي هذه النتائج التي حققتها هذه الحملة ردا على من قلل من أهميتها، وأضعف من قيمتها.
وبقي أن نقول: إن هذ المجاهد الكبير -عقبة بن نافع- يعتبر بحق من أعظم قادة الفتح الإسلامي، وواحد من أكبر بناء الدولة الإسلامية. ولا يقارن في هذا المجال إلا بالقائد الكبير "قتيبة بن مسلم الباهلي" الذي تولى مهمة الفتوح في الجناح الشرقي لدولة الإسلام، وإليه يرجع الفضل في التغلب على مقاومة الترك الوثنيين وفتح بلادهم للإسلام، والوصول به إلى "كاشغر" في إقليم "سنكيانج" في غرب الصين الحالية. وكان "عقبة" و"قتيبة" متعاصرين، واحد منهما وصل بحدود دولة الإسلام إلى أقصاها غربا، والثاني وصل بها إلى أقصاها شرقا.
رابعًا: زهير بن قيس البلوي واسترداد القيرون "69-71هـ/ 688م-689م
"
…
رابعا: زهير بن قيس البلوي واسترداد القيروان "69-71هـ/ 688م-689م"
لم تستطيع الخلافة الأموية أن تهتم بأمور "إفريقية" إثر مقتل عقبة بن نافع واحتلال "كسيلة" البربري للقيروان إلا بعد وقت طويل؛ لأن ظروف الخلافة لم تسمح بذلك. لقد توفي يزيد بن معاوية "64هـ/ 682م"، وخلفه ابنه معاوية "الثاني" ولم يكمل عاما واحدا حتى تنازل عن الخلافة دون أن يعين من يخلفه، وانتهى الأمر -في العام نفسه- إلى مروان بن الحكم. وكان عبد الله بن الزبير قد ثار على الأمويين بعد موت يزيد، واستولى على الحجاز والعراق ودخلت مصر في طاعته، واتسع سلطانه، وأعلن نفسه خليفة. وقد انشغل مروان بن الحكم بمحاربة الزبيريين واستعادة البلاد إلى الأسرة الأموية، ثم مات سريعا "عام 65هـ/ 683م"
تاركا الخلافة لابنه عبد الملك الذي ورث واقعا سياسيا مرهقا عمل بمهارة فائقة وجهد دؤوب على تعديله. وبعد أن هدأت الأحوال شيئا فشيئا ابتداء من "68هـ/ 687م" وثبتت الخلافة الأموية لعبد الملك اتسع أمامه الوقت ليقوم بعمل عسكري لاستعادة القيروان والمغرب.
وكان زهير بن قيس -الذي انسحب بالمسلمين من "القيروان" بعد مقتل عقبة- لا يزال منتظرا في "برقة" إلى أن تأتيه الإمدادات لكي ينهض إلى "إفريقية" من جديد. ونظرا لأنه "صاحب عقبة، وهو مثله دينا وعقل، وأعلم الناس بسيرته وتدبيره، وأولاهم بطلب دمه" -كما تقول الرواية1- فقد وقع الاختيار عليه ليقود الحملة العسكرية الجديدة، وأمده الخليفة عبد الملك بالخيل والرجال والعتاد والمال.
سار زهير بن قيس بجيشه إلى "القيران" سنة "69هـ/ 688م"، وكان كسيلة قد تركها هو ومن معها من البربر والروم، واحتمى بالجبل على مقربة منها، فلما وصل زهير لم يدخل المدينة وإنما أقام بظاهرها ثلاثة أيام، إلى أن استراح الجيش استعدادا للمعركة الكبرى، وفي اليوم الرابع التقى الجمعان بالقرب من القيروان -على مسيرة يوم منها- في معركة لم تعرف "إفريقية" لها مثيلا من قبل؛ إذ فشى القتل في الفريقين "حتى يئس الناس من الحياة" كما يقول الرواة، وما كاد اليوم يشرف على الانتهاء حتى حقق المسلمون نصرا كبيرا، فانهزم البربر والروم، وقتل "كسيلة" وكثير من كبار أصحابه، وطارد المسلمون فلول المنهزمين إلى مسافات بعيدة2.
عودة زهير إلى "برقة" ومقتله في معركة مع الروم "69هـ/ 688م":
رجع زهير إلى "القيروان" ليرتب أمورها ويصلح من أحوال المسلمين بها. وبعد أن تم له من ذلك ما أراد واطمأن إلى أنه لم يعد هناك خطورة "لخلو البلاد من عدو أو ذي شوكة" أعلن أنه عائد إلى المشرق ومن أراد من أصحابه. ويبدو أنه لم يكن مستريحا للمقام في تلك البلاد، ويفسر الرواة ذلك بأن زهيرا "كان من رؤساء العابدين وأشراف المجاهدين وكبراء الزاهدين، وأنه رأى بإفريقية ملكا عظيما فأبى أن يقيم وقال: إنما قدمت للجهاد، فأخاف أن أميل إلى النيا فأهلك"3.
1 البيان المغرب "1/ 31".
2 البيان المغرب "1/ 32-33"، الكامل "3/ 453".
3 البيان "1/ 33"، فتوح مصر والمغرب ص"202".
وكان الروم بالقسطنطينية فد بلغهم مسير زهير ومعه الجيش كله من "برقة" إلى "القيروان" لقتال كسيلة، فاغتنموا الفرصة وخرجوا من جزيرة "صقلية" في مراكب كثيرة وقوة عظيمة فأغاروا على "برقة"، وأصابوا فيها سبيا كثيرا وقتلوا ونهبوا، وأقاموا بها مدة أربعين يوما1. وقد وافق ذلك رجوع زهير إلى المشرق فأخبر بخبرهم، فأمر العساكر بالإسراع والجد في قتالهم، وعجل هو بالمسير ومعه سبعون من أصحابه أكثرهم من التابعين وأشراف العرب المجاهدين، وعندما علم الروم بقدومه أخذوا في الاستعداد للرحيل عن "برقة"، وفي الوقت الذي وصل "زهير" فيه إلى ساحل مدينة "درنة" -التي اتخذها الروم مركز لهم- كان الروم يدخلون سباياهم من نساء المسلمين وذراريهم إلى المراكب. قال ابن الأثير: "فلما رآه المسلمون استغاثوا به فلم يمكنه الرجوع، وباشر القتال، واشتد الأمر، وعظم الخطب، وتكاثر الروم عليهم، فقلتوا زهيرا وأصحابه، ولم ينج منهم أحد، وعاد الروم بما غنموا من القسطنطينية"2.
وهكذا أصيب المسلمون بكارثة ثانية في "إفريقية"، ووصلت أنباء مقتل زهير وأصحابه إلى "دمشق"، فكان لها رنة حزن عميقة، وتوقف الفتح مرة أخرى عدة سنوات، وكان لا بد من مواجهة حاسمة بعد أن طال الأمر كثيرا.
1 د. سعد زغلول: تاريخ المغرب العربي "ج1 ص176".
2 الكامل "3/ 453-454".