المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فتح إسبانيا وبلاد الغال "جنوب فرنسا - موجز عن الفتوحات الإسلامية

[طه عبد المقصود عبد الحميد أبو عبية]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌أولًا: الفتوحات في الشرق

- ‌مدخل

- ‌ بلاد ما وراء النهر:

- ‌ فتح بلاد السند "حملات محمد بن القاسم

- ‌ثانيا: الفتوحات في الجانب البيزنطي

- ‌سيطرة المسلمين على الحوض الشرقي للبحر المتوسط في عصر الراشدين:

- ‌سياسة معاوية بن أبي سفيان البحرية في مواجهة الروم

- ‌بناء الأسطول والتمهيد البري والبحري لفتح القسطنطينية:

- ‌منطقة الثغور الشامية وأهميتها في توسيع الفتوحات بآسيا الصغرى "الأناضول

- ‌حصار القسطنطينية في عصر بني أمية

- ‌مدخل

- ‌المحاولة الأولى: حملة سفيان بن عوف "سنة 49هـ/ 669م

- ‌المحاولة الثانية: حصار السبع سنوات "54-60هـ/ 674-679م

- ‌الحصار الثالث للقسطنطينية بقيادة مسلمة بن عبد الملك "97-98ه

- ‌ثالثا: فتوح المغرب والأندلس وبلاد غالة "جنوب فرنسا

- ‌طبيعة الفتح الإسلامي لبلاد المغرب:

- ‌مراحل الفتح الإسلامي للمغرب

- ‌المرحلة الأولى: مرحلة الاستكشاف والاستطلاع "22-50هـ/ 643-670م

- ‌أولًا: عمرو بن العاص وأولى المحاولات "فتح برقة- ودان- فزان- طرابلس

- ‌ثانيا: فتح إفريقية

- ‌المرحلة الثانية: الاستقرار والفتح المؤقت "50-71هـ/ 670-689م

- ‌أولا: عقبة بن نافع في ولايته الأولى وتأسيس مدينة القيروان "50-55هـ/ 670-674م

- ‌ثانيًا: عزل عقبة وولاية أبي المهاجر ديار "55-62هـ/ 674-681م

- ‌ثالثا: ولاية عقبة بن نافع الثانية ومحاولة فتح المغرب الأقصى "62-64هـ/ 681-684م

- ‌رابعًا: زهير بن قيس البلوي واسترداد القيرون "69-71هـ/ 688م-689م

- ‌المرحلة الثالثة: إتمام الفتح وتثبيت سلطان المسلمين في المغرب "73-95هـ/ 692-714م

- ‌فتح إسبانيا وبلاد الغال "جنوب فرنسا

الفصل: ‌فتح إسبانيا وبلاد الغال "جنوب فرنسا

‌فتح إسبانيا وبلاد الغال "جنوب فرنسا

":

أ- فتح إسبانيا:

يعتبر فتح إسبانيا "الأندلس"، تابعا لفتوح المسلمين في الغرب، وقد كان فتحا رائعا من الناحية العسكرية أضاف إلى دولة الإسلام قطرا ضخما من أقطار أوروبا، وامتد الإسلام به على ثلاث قارات. وبهذا الفتح نجح المسلمون في دخول القارة الأوروبية من الغرب، في حين فشلوا في دخولها بمحاولة فتح "القسطنطينية" من الشرق، ثم أتيحت لهم الفرصة بعد ذلك للتوغل في غرب أوروبا حتى وصلوا إلى قرب نهر "السين" في جنوب بلاد غالة "فرنسا". ومن ذلك الحين أصبح الإسلام عاملا رئيسيا من العوامل الموجهة لتاريخ الغرب الأوروبي1.

وكان "القوط" -وهم قبائل جرمانية- آخر الشعوب التي حكمت "إسبانيا"، في الفترة ما بين أوائل القرن الخامس الميلادي إلى أن فتحها المسلمون "سنة 711م"، أي قرابة قرنين من الزمان. وقد اتخذوا من مدينة "طليطلة" -في شمال البلاد- عاصمة لهم. وفي السنوات الثلاثين الأخيرة من حكم القوط في "إسبانيا" أساءوا الحكم بين الرعية، إلى الحد الذي جعل المستشرق الفرنسي "ليفي بروفنسال" يطلق على هذه السنوات وصف "السنوات العجاف" بالنسبة لما يعرف من تاريخ إسبانيا القوطية، حيث كانت هذه الفترة مشحونة بالفوضى والاضطرابات، وأصاب المدن اضمحلال عام نتيجة لاضطراب أمور الدولة، وعدم الإحساس بالأمن، وسوء الأحوال المعيشية وسياسة الاستغلال. ويرجع السبب في ذلك إلى كثرة المنازعات والصراع بين الطبقات والحاكمين، وفيما بين الحكام القوط أنفسهم، إضافة إلى تفكك المجتمع الإسباني وقيامه على الطبقات المتحاجزة. وبعبارة مجملة: كانت إسبانيا قبل الفتح الإسلامي تشكو الفشل السياسي، والتأخر الاقتصادي، والتفكك الاجتماعي، والظلم الطبقي.

وقبل الفتح بسنة واحدة -أو تزيد- قام أحد رجال الجيش -ويدعي "رودريك"

1 راجع: أطلس التاريخ الإسلامي للدكتور/ حسين مؤنس "ص135".

ص: 92

"Rodrgo" -ويعربه العرب إلى "لذريق"- بالاستيلاء على السلطة، وعزل الملك "غيطشة""Witiza" وأصبح الحاكم الفعلي للبلاد، واتبع سياسة ظالمة، فتغيرت قلوب الناس عليه، واشتعلت ضده نيران الثورات في "طليطلة" وغيرها، يقودها أتباع الملك السابق وأفراد أسرته، حيث كانوا يتحينون الفرصة لاستعادة ملكهم، وقد وجودها في الفتح الإسلامي، فلجأوا إلى المسلمين للاستعانة بهم1.

مقدمات الفتح:

بعد أن اغتصب "لذريق" عرق إسبانيا أمعن في مطاردة أفراد بيت الملك "غيطشة" وتتبع أنصاره بالأذى، ففروا من إسبانيا والتمسوا سبل النجاة، إما إلى أقصى الشمال، أو إلى مدينة "سبتة" وهي ولاية إفريقية تابعة للقوط، وكانت حصنا منيعا من الحصون الإفريقية التي لم يخضها المسلمون بعد، كما كانت ثغرا له قيمته على مضيق جبل طارق. ويبدوا أن حاكم "سبتة" آنذاك -ويدعى "يليان" "JULIAN" كان من أنصار الملك "غيطشة" وأنه كان يدين له بالولاء. ويقال: إنه كان يمت بصلة القرابة والنسب إلى أسرة الملك، فلما انتزع "لذريق" عرش إسبانيا من أصحابه عمد "يليان" -بمعاونة أنصار الملك المخلوع وأقربائه- إلى استرجاع ملكهم، مستعينا في ذلك بالمسلمين الذين دانت لهم بلاد الشمال الإفريقي، وكان ذلك مقدمة الفتح.

وتتفق المصادر العربية على أن "يليان" توجه بنفسه إلى طارق بن زياد قائد القوات الإسلامية المعسكرة عند مدينة "طنجة" بالمغرب الأقصى -والقريبة من مدينة "سبتة"- يعرض عليه أن يساعده في دخول الأندلس. ولم يتردد طارق في الاتصال فورا بموسى بن نصير -وكان مقيما في القيروان- فأبلغه ما كان من أمر "يليان" ورحب بما عرضه عليه2.

1 راجع التفاصيل عن الأوضاع السياسية والاجتماعية في إسبانيا قبل الفتح الإسلامي: المسلمون في الأندلس للمستشرق الهولندي "دوزي" -ترجمة د. حسين حبشي "ج1 ص27-47"، دولة الإسلام في الأندلس لمحمد عبد الله عنان "1/ 30-32"، وتاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس للدكتور السيد عبد العزيز السالم ص"51-65"، وتاريخ المسلمين في المغرب والأندلس للدكتور طه عبد المقصود ص"185-188".

2 ابن عبد الحكم: فتوح مصر والمغرب ص205 "ط الهيئة العامة لقصور الثقافة -سلسلة الذخائر"، ابن القوطية: تاريخ افتتاح الأندلس ص8 "ط بيروت 1958م". ابن عذارى: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب ج2 ص6. نفح الطيب للمقري "1/ 229، 230، 231، 252-254".

ص: 93

كان موسى بن نصير متلهفا على افتتاح الأندلس، لكنه لم يشأ أن يقحم المسلمين في مغامرة لا يعلم نتائجها إلا الله، ولم يكن قد وثق بعد بيليان، ثم إنه لا يستطيع أن يقبل على هذا العمل العسكري الكبير دون أن يستأذن الخليفة أو يستشيره فيما هو مقبل عليه. وهذا ما حدث بالفعل؛ فكتب إلى الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك "يخبره بالذي دعاه إليه يليان من أمر الأندلس، ويستأذنه في اقتحامها. فكتب إليه الوليد "أن خضها بالسرايا حتى ترى وتختبر شأنها، ولا تغرر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال". فراجعه "موسى":"إنه ليس ببحر زخار، إنما هو خليج منه يبين للناظر ما خلفه". فكتب إليه: "وإن كان، فلا بد من اختباره بالسرايا قبل اقتحامه"1.

لقد ترددت الخلافة -بادئ الأمر- بالقيام بمثل هذا العمل الكبير، خوفا على المسلمين من المخاطرة في مفاوز، أو إيقاعهم في مهالك. لكن موسى أقنح الخليفة بالأمر، ثم تم الاتفاق على أن يسبق الفتح اختبار المكان بالسرايا، أو الحملات الاستطلاعية.

عمل موسى بن نصير بهذه النصيحة، وأرسل في رمضان "سنة 91هـ/ 711م" سرية استكشافية مكونة من خمسمائة جندي -فيهم مائة فارس- بقيادة "طريف بن مالك" الملقب بأبي زرعة، وهو مسلم بربري، ويقال إنه من أصل عربي ينتسب إلى قبيلة "معافر" أو "نخع" اليمنية2. وقد عبر هذا الجيش الزقاق "مضيق جبل طارق" من سبتة، بسفن "يليان" أو بسفن غيره، ونزل في جزية تعرف باسم "بالوما "PALOMAS" التي عرفت فيما بعد باسم "جزيرة طريف". وعادت هذه الحملة بالغنائم الوفيرة، وبالأخبار المشجعة على الاستمرار في عملية الفتح3.

وقبل الحديث عن الخطوة التالية في فتح الأندلس نشير ها إلى ملاحظتين:

الأولى: كانت فكرة فتح شبه الجزيرة الإيبيرية فكرة إسلامية خالصة. بل

1 نفح الطيب ج1 ص253، البيان المغرب ج2 ص5، أخبار مجموعة "ص5-6".

2 نفح الطيب "1/ 233، 254"، صفة جزيرة الأندلس "من الروض المعطار للحميري""ص8".

3 راجع نفح الطيب "1/ 253"، دولة الإسلام في الأندلس لمحمد عبد الله عنان 1/ 40، تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس للسيد عبد العزيز سالم ص70، التاريخ الأندلس للحجي ص45-46.

ص: 94

ويروى أنها فكرة قديمة تمتد إلى أيام الخليفة الراشد عثمان بن عفان1. وكان القائد عقبة بن نافع الفهري "63هـ" يفكر في اجتياز المضيق إلى إسبانيا لو استطاع2. ويذكر الذهبي أن موسى بن نصير جهز ولده عبد الله، فافتتح جزيرتي "ميورقة" و"منورقة" وهما من الجزر القريبة من شواطئ إسبانيا الشرقية، وكان ذلك سنة 89هـ3، أي قبل الفتح بعامين تقريبا، أما الاتصال بيليان -حاكم سبتة- أو بغيره من الإسبان فإنه جاء مواتيا -على ما يبدو- في الوقت الذي كان موسى بن نصير يفكر في تنفيذ فكرة الفتحز ومن هنا يمكن القول: إن اتصالات الجانب الإسباني بموسى ومساعداتهم ربما كانت عاملا مساعدا سهل سير الفتح أو عجل به. لكن المبادأة ومرد العمليات وإنجازها كانت من الجانب الإسلامي الذي اندفع مع الفتح بقوة فائقة مرتكز على عقيدته4.

والثانية: لقد اعتقد "يليان" -وأتباعه- أن الاتصال بالمسلمين في التخلص من "لذريق" الحاكم المستبد لا يزيد على الاستعانة بهم في إنزال ضربة قاصمة بالقوط، ثم يعودون إلى حدودهم ببلاد المغرب محلمين بالغنائم، وغاب عنهم أن المسلمين حملة رسالة سامية، وأنهم مكلفون بتبليغها لكل الناس، وأن ما يشغلهم قبل كل شيء هو نشر مبادئ دينهم السمحة وتعريف الشعوب بها.

مراحل الفتح:

ويطول المقام لو أردنا أن نتتبع -في هذا المختصر- مراحل الفتح الإسلامي بكل تفاصيلها، لكن حسبنا أن نجمع هذه التفاصيل في النقاط التالية:

أولا: عبور طارق بن زياد بقواته إلى الأندلس:

اطمأن موسى بن نصير إلى النتائج التي حققتها الحملة الاستطلاعية بقيادة طريف ابن مالك، وزادت رغبته في الفتح، واشتد عزمه وتلهفه على السير في هذه المغامرة، فأعد حملة عسكرية قوامها سبعة آلاف جندي، وجلهم من المسلمين البربر، وأمر

1 البيان المغرب "ج2 ص4"، نفح الطيب "1/ 204-205".

2 البيان المغرب "ج1 ص26".

3 الذهبي: العبر في خبر من غبر "ج1 ص14""ط الكويت".

4 راجع: التاريخ الأندلس للحجي "ص44، 45".

ص: 95

عليهم قائدا من قواده المشهورين بحسن القيادة والكفاءة وقوة الإخلاص، هو مولاه طارق بن زياد" وهو -في أصح الآراء- بربري من قبيلة "نفزة"1.

ومن الغريب أن يكون الجيش الذي أعده للحملة مكونا كله من البربر باستثناء عدد قليل من العرب "لا يزيد على الثلاثمائة". وهذه هي المرة الأولى في تاريخ الفتوح الإسلامية يتولى فيها جيش كامل من المغلوبين فتح قطر من الأقطار الكبرى كالأندلس. ويدل هذا على أن بربر المغرب قد حسن إسلامهم، وأصبحوا على هذا النحو يؤلفون القوة الكبرى التي اعتمد عليها موسى بن نصير في فتح الأندلس عسكريا. ويبدوا أن البربر كانوا أكثر معرفة من العرب ببلاد الأندلس، فالمغرب والأندلس يؤلفان وحدة جغرافية وتاريخية في آن واحد2.

عبر طارق بن زياد بجيشه من "سبتة""أو من "طنجة"" إلى الطرف الآخر من المضيق في الخامس من شهر رجب -أو في شعبان- "عام 92هـ/ 711م"، في السفن الأربعة التي كانت ملكا ليلان ووضعها في خدمة المسلمين3. وذكر المؤرخ ابن عذارى أن "يليان كان "يحمل أصحاب طارق في مراكب التجار التي تختلف إلى الأندلس، ولا يشعر أهل الأندلس بذلك، ويظنون أن المراكب تختلف بالتجار، فحمل الناس فوجا بعد فوج إلى الأندلس4. ولا شك أن موسى استعان في العبور ببعض قطع من أسطوله الإسلامي الذي أنتجته دار الصناعة بتونس5، والقول بأن القيام بعملية فتح إقليم كبير مثل الأندلس يمكن أن يفي بحاجته استعارة سفن قول بعيد، فمن الراجح تماما أنه كانت للمسلمين سفنهم، استعملها جيشهم في هذا الفتح6.

1 البيان المغرب ج1 ص43، ص5، نفح الطيب "1/ 254".

2 السيد عبد العزيز سالم: تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس "ص71".

3 أخبار مجموعة "ص6".

4 ابن عذارى: البيان المغرب "ج2 ص6".

5 هي دار الصناعة التي أقامها حسان بن ثابت لصناعة السفن اللازمة لمدافعة الروم في البر والبحر والإغارة على بلادهم. وبهذه السفن بعث موسى بن نصير قائده "عياش بن أخيل" إلى صقلية فغزاها "تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس "ص72"، وراجع: البيان المغرب "ج1 ص42".

6 راجع: التاريخ الأندلسي لعبد الرحمن الحجي "ص47-49".

ص: 96

تجمع الجيش الإسلامي -بعد العبور- عند جبل "كالبي""CALPE" الذي عرف فيما بعد باسم "جبل طارق"، وأقام طارق بتلك المنطقة عدة أيام بني خلالها سورا أحاط بجيوشه سماه "سور العرب"1، وأقام قاعدة حربية بجوار الجبل على الساحل لحماية الجيش من الخلف في حالة الانسحاب، في موضع يقابل "الجزيرة الخضراء" وعليه أقيمت هذه المدينة فيما بعد. "وهذا الميناء يسهل اتصاله بميناء "سبتة" المغربي، على حين يصعب اتصاله بإسبانيا لوجود مرتفعات بينهما"2. ولم يمض وقت طويل حتى اشتبك الجيش الإسلامي مع قوات القوط في عدة معارك بالقرب من "الجزيرة الخضراء" انتصر فيها المسلمون يقول الرازي -وهو من كبار المؤرخين الأندلسيين- "لما بلغ لذريق خبر طارق ومن معه ومكانهم الذي هم فيه بعث إليهم الجيوش، جيشا بعد جيش. وكان قد قود على أحدهم ابن أخت له يسمى "ينج" وكان أكبر رجاله، فكانوا عند كل لقاء يهزمون ويقتلون، وقتل "ينج" وهزم عسكره"، فقوى المسلمون، وركب الرجالة الخيل، وانتشروا بناحيتهم التي جازوا بها"3.

ثانيا: معركة وادي برباط "أو: وادي لكه": الفاصلة

وبينما كان لذريق مشغولا بإخماد بعض الثورات في "بنبلونة" -في الشمال- جاءه الخبر بمجيء الجيوش الإسلامية وانتصارهم على قواته في عدد من المعارك، فهاله ما حدث، وأصيب بهلع ورعب شديدين، وكر راجعا إلى "طليطلة"، وبدأ يعبأ جيشه للقاء المسلمين. ويذكر المؤرخون أنه جمع مائة ألف مقاتل. وقيل سبعين ألفا4. وقد وصلت أنباء تلك الحشود إلى طارق بن زياد، فكتب إلى موسى بن نصير يستمده، فأمده بخمسة آلاف جندي، على رأسهم "طريف بن مالك" وأغلبهم من الفرسان، وبهم كملت عدة الجيش الإسلامي اثني عشر ألفا5.

1 البيان المغرب "2/ 9"، نفح الطيب "1/ 218".

2 المسملون في الأندلس -للدكتور عبد الله جمال الدين ص7. وذكر الحميري أن موسى أيسر المراسي للجواز وأقربها من بر العدوة، ويحاذيه مرسى مدينة سبتة "الروض المعطار في خبر الأقطار للحميري "ص74".

3 البيان المغرب "ج2 ص8".

4 أخبار مجموعة "ص7"، نفح الطيب "1/ 233، 255-257"، دولة الإسلام في الأندلس "1/ 42". ويذكر الحميري أن لذريق جمع ستمائة ألف فارس "الروض المعطار ص10"، وهذه مبالغة واضحة "وراجع: تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس للسيد عبد العزيز سالم ص75".

5 أخبار مجموعة "ص7"، نفح الطيب "1/ 257".

ص: 98

وقد واصل طارق بن زياد السير بجيوشه ومشى في محاذاة الساحل، وأقام معسكره في منطقة سهلية واسعة في كورة "شذونة" جنوب غرب إسبانيا بالقرب من نهر "برباط" ووادي "لكه" الذي يصب في المحيط مدينة "قادس" الساحلية1. وفي هذه المنطقة تم اللقاء بين الجيش الإسلامي والجيش القوطي، ودار معركة هائلة استمرت ثمانية أيام "من الأحد 28 رمضان -إلى الأحد الخامس من شوال/ 19-26 يوليو 711م"، وانتهت بهزيمة القوط هزيمة ساحقة، بعد أن اقتتل الطرفان "اقتتالا شديدا حتى ظنوا أنه الفناء"، وتبع المسلمون فلول القوط بالقتل والأسر، ولم يرفعوا عنهم السيف ثلاثة أيام2. وقد اختلفت الروايات في شأن مصير "لذريق"، فقيل: إنه قتل غريقا في "وادي لكه". ويذكر البعض أنه فر من الميدان والتقى بالمسلمين في معركة أخرى شمال إسبانيا في ولاية شلمنقة وقتل فيها، وهذا الرأي الأخير ضعيف، لا تدعمه الأدلة3.

وتعد معركة "وادي لكه" معركة فاصلة، توقف عليها مصير إسبانيا في يد المسلمين، بحيث يمكن القول "إن جميع المعارك التي حدثت بعد ذلك في بقية أنحاء شبه الجزيرة كانت بمثابة مناوشات بسيطة -وإن كان بعضها مهما وقويا- إذا قورنت بهذه المعركة الفاصلة، ولم يستغرق استيلاء المسلمين على إسبانيا بعد ذلك -رغم وعورة مسالكها وقسوة مناخها- أكثر من ثلاث سنوات، وهذا يدل على أن المقاومة كانت قد ضعفت تقريبا"4.

ثالثا: الاتجاه نحو الشمال وفتح طليطلة عاصمة القوط

وبعد هذا النصر العظيم الذي حققه طارق بن زياد وجنده كان لابد أن يجنى

1 التاريخ الأندلسي للحجي "ص56". ويطلق ابن عذارى على "وادي لكه" اسم "وادي الطين""البيان المغرب 2/ 7" ويبدو أنه سمي كذلك لقلة مياهه وكثرة طينه. ويسميه ابن عبد الحكم "وادي أم حكيم "فتوح مصر والمغرب ص206". وراجع: تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس "ص79"، المسلمون في الأندلس ص8".

2 البيان المغرب 2/ 7-8، فتوح مصر والمغرب "ص206-207"، نفح الطيب "1/ 259".

3 تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس "ص80"، "ص97-99"، معالم تاريخ الأندلس والمغرب لحسين مؤنس "ص238"، التاريخ الأندلسي للحجي ص57. دراسات المغرب والأندلس للدكتور أحمد مختار العبادي "ص34".

4 العبادي: دراسات في تاريخ المغرب والأندلس "ص35".

ص: 99

ثماره قبل أن تتجمع فلول القوط مرة أخرى، فزحف إلى الشمال نحو مدينة "طليطلة" قبل أن يتدارك القوط الأمر ويحكموا الدفاع عنها، وفي طريقه إليها فتح عدة مدن، مثل "مورور" و"إستجة" و"قرطبة" و"إلبيرة" و"غرناطة"، ثم توجه إلى "طليطلة" ودخلها سنة "93هـ" دون مقاومة فوجدها خالية "ليس فيها إلا اليهود في قوم قلة"1 وقد فر حاكمها مع أصحابه من كبار القوط والقساوسة -في اتجاه شمال شرقي- حاملين معهم ذخائر الكنيسة، فترك طارق فرقة من جنوده في "طليطلة" ومضى يطارد الفارين في الطريق الذي يسميه العرب "وادي الحجارة" وعند بلدة صغيرة تسمى "الكالا دي هنارس" -"ويسميها العرب "قلعة عبد السلام" وتسمى أيضا بمدينة "المائدة"2" أدرك المسلمون فيها الهاربين من طليطلة، وغنموا ما كانوا معهم من ذخائر بالغة القيمة3. ولم يتجاوز طراق بن زياد المنطقة التي وصل إليها، فلربما "خشى أن يقطع عليه العدو الطريق في هذه البلاد الجبلية الذي بذلوه، وثقلوا بالغنائم التي جمعوها"4 فعاد إلى "طليطلة" في أوائل 93هـ "أواخر 711".

رابعا: عبور موسى بن نصير إلى الأندلس واستكمال الفتح

كتب طارق بن زياد إلى موسى بن نصير يحيطه بأنباء الفتح وما أحرزه من نجاح، ويطلب منه المدد. وعلى الفور قرر موسى التوجه إلى الأندلس، وأصدر أوامره إلى طارق بوقف الفتح حتى يلحق به. وكان طبيعيا أن يهرع موسى للحاق بقائده، فأخذ معه قوة قدرها "18000" ثمانية عشر ألف مقاتل، معظمهم من العرب هذه المرة، وفيهم الكثير من زعماء العرب الشامية القيسية، والعرب اليمينة

1 البيان المغرب "2/ 12".

2 تبعد قلعة "هنارس" -الذي كانت تعرف بقلعة عبد السلام أو "المائدة"- تبعد عن مديد "عاصمة إسبانيا الآن""34" كم شمالا "راجع: رحلة الأندلس للدكتور حسين مؤنس ص"335-336"، مديد العربية، للدكتور محمود علي مكي ص41".

3 البيان المغرب 2/ 12، فتوح مصر والمغرب "ص207"، نفح الطيب "1/ 161، 265، 272"، تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس "ص83-84"، معالم تاريخ المغرب والأندلس "ص236-237"، المسلمون في الأندلس "ص9"، التاريخ الأندلسي للحجي ص"65-66".

4 دراسات في تاريخ المغرب والأندلس للعبادي "ص36".

ص: 100

الكلبية، وعبر من سبتة إلى الجزيرة الخضراء بالأندلس، فأقام بها أياما للراحة والتأهب لخوض المعركة القادمة، ثم أجمع على المسير نحو "طليطلة" في طريق غير الطريق الذي سار فيه طارق؛ ليفتح هو الآخر فتوحا جديدة، فمر بمدينة "إشبيلية" وفتحها بعد حصار شديد، وكانت من أعظم مدائن الأندلس، وأعجبها بنيانا وآثارا. ثم مضى موسى بعد ذلك إلى مدينة "ماردة" التي تقع على نهر آنُهْ "راجع الخريطة" -وكانت من المدن الحصينة، ذات الأسوار المنيعة والأبراج العالية- فحاصرها طويلا، إلى أن استسلمت له، ودخلها صلحا "في مطلع شوال 94هـ". وبعد شهر من الإقامة فيها تحرك موسى بن نصير صوب "طليطلة"، فلما وصل إلى "طلبيرة" -على نهر التاجُهْ "راجع الخريطة"- خرج طارق بن زياد للقائه هناك، وسلمه قيادة الفتح، وعادا معا بالجيش إلى "طليطلة"، فأقاما بها طوال فصل الشتاء، ثم نهضا لاستكمال فتح شمال الأندلس.

اتجه طارق بن زياد بقواته إلى الشمال الشرقي، واحتل مدينة "سرقسطة" الواقعة على نهر "إبرو"، وصعد إلى قرب جبال "البرتات""التي تفصل إسبانيا عن جنوب فرنسا"، ثم عاد واتجه غربا محاذيا نهر "إبرو". وعند مدينة "أشترقة""راجع موقعها على الخريطة" التقى بموسى بن نصير وجيشه، وسار الاثنان لفتح شمال غرب الأندلس. فأما موسى فقد دخل "أبيط""Oviedo" بعد أن عبر جبال "كنتبرية"، ووصل إلى ساحل خليج "بسكاي" عند بلدة "خيخون""راجع الخريطة". وأما طارق فقد بلغ مداخل إقليم "جليقية" في أقصى الشمال الغربي.

وهنا أحس موسى أنه أتم فتح الأندلس، فعاد إلى "طليطلة" ليواصل عمله كأول والٍ من ولاة الأندلس، ولكن الخليفة الوليد بن عبد الملك كان قد استدعاه مع طارق بن زياد إلى دمشق، فترك ابنه "عبد العزيز بن موسى" واليا على الأندلس في "المحرم 95هـ/ سبتمبر 713م"1 ليقوم بما تقتضيه أحوال البلاد من التنظيم والإصلاح، وبه يبدأ عصر الولاة بالأندلس.

1 راجع التفاصيل عن عبور موسى بن نصير إلى الأندلس، ومواصلة عمليات الفتح: تاريخ المسلمين في المغرب والأندلس للدكتور/ طه عبد المقصود عبد الحميد "ص199-205"، مع المراجع المذكورة في هوامش هذه الصفحات.

ص: 101

وهكذا نرى هذين الفاتحين العظيمين قد خلّفا الأندلس وراءهما بعد أن قاما بما يمكن اعتباره معجزة من معجزات الفتوحات الإسلامية في مدة قاربت أربع سنوات من الجهاد المتصل والحركة الدائمة. لقد استطاع هذان الرجلان -مع جيش من المسلمين من بين عرب وبربر لا يزيد على ثلاثين ألف مقاتل- أن يفتحا قطرا أوروبيا واسعا يعتبر من أصعب الأقطار الأوروبية من الناحية الجغرافية. وقد قام المسلمون بهذا الفتح العظيم بشجاعة تعتبر مضرب المثل، وساروا على خطة عسكرية وسياسية واضحة، تدل على خبرة جيدة بمسائل الحروب وفتوح البلدان، وقاد موسى وطارق ورجالهما بحزم ونظام وبصيرة تذكرنا بقيادة خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وعمرو بن العاص وأبي عبيدة بن الجراح وقتيبة بن مسلم ومحمد بن القاسم في فتوحات المشرق.

ومع أن المسلمين وصلوا بفتوحاتهم إلى الركن الشمالي الغربي -وهو الإقليم المسمى "أشتوريش" في منطقة "جليقية" وشارفوا سواحل المحيط عند خليج "بسكاي"- فإنهم في الواقع لم يفرضوا سلطانهم تماما على هذه النواحي كلها؛ لوعورة مسالكها، وبرودة مناخها. وقد حدث أن بعض فلول الجيش القوطي المنهزم بزعامة قائد منهم يدعى "بلاي""Pelayo""ت 737م" استطاعت أن تعتصم بالجبال الشمالية في هذه المنطقة، وهي التي يسميها الإسبان بقمم أوروبا -في سلسلة جبال "قنتبرية"- وهي عبارة عن ثلاثة جبال شامخة، وبها مغارة تعرف بكهف "كوفا دونجا"، ويسميها العرب "صخرة بلاي"؛ لأنه اختبأ فيها هو وأصحابه، وكان عددهم لا يزيد عن الثلاثين -فيما بدا للفاتحين- فلما حاصرهم المسلمون وأعياهم أمرهم تركوهم وانصرفوا؛ استقلالا لعددهم، واستخفافا بشأنهم1.

وفي هذه البؤرة الصغيرة "كوفا دونجا" -أو صخرة بلاي- نبتت نواة دولة إسبانيا النصرانية، ونبتت معها حركة المقاومة الإسبانية التي أخذت تنمو وتتسع حتى استولت على مدينة "ليون" ثم سيطرت على جميع المنطقة الشمالية الغربية التي صارت تعرف بمملكة "ليون"، ولقد أحاطت هذه المملكة نفسها بسلسلة من القلاع والحصون لحماية نفسها من هجمات المسلمين، وعرفت هذه الحصون في المصادر العربية باسم منطقة

1 نفح الطيب "1/ 276"، وراجع البيان المغرب "2/ 29".

ص: 102

وهكذا نرى هذين الفاتحين العظيمين قد خلّفا الأندلس وراءهما بعد أن قاما بما يمكن اعتباره معجزة من معجزات الفتوحات الإسلامية في مدة قاربت أربع سنوات من الجهاد المتصل والحركة الدائمة. لقد استطاع هذان الرجلان -مع جيش من المسلمين من بين عرب وبربر لا يزيد على ثلاثين ألف مقاتل- أن يفتحا قطرا أوروبيا واسعا يعتبر من أصعب الأقطار الأوروبية من الناحية الجغرافية. وقد قام المسلمون بهذا الفتح العظيم بشجاعة تعتبر مضرب المثل، وساروا على خطة عسكرية وسياسية واضحة، تدل على خبرة جيدة بمسائل الحروب وفتوح البلدان، وقاد موسى وطارق ورجالهما بحزم ونظام وبصيرة تذكرنا بقيادة خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وعمرو بن العاص وأبي عبيدة بن الجراح وقتيبة بن مسلم ومحمد بن القاسم في فتوحات المشرق.

ومع أن المسلمين وصلوا بفتوحاتهم إلى الركن الشمالي الغربي -وهو الإقليم المسمى "أشتوريش" في منطقة "جليقية" وشارفوا سواحل المحيط عند خليج "بسكاي"- فإنهم في الواقع لم يفرضوا سلطانهم تماما على هذه النواحي كلها؛ لوعورة مسالكها، وبرودة مناخها. وقد حدث أن بعض فلول الجيش القوطي المنهزم بزعامة قائد منهم يدعى "بلاي""Pelayo""ت 737م" استطاعت أن تعتصم بالجبال الشمالية في هذه المنطقة، وهي التي يسميها الإسبان بقمم أوروبا -في سلسلة جبال "قنتبرية"- وهي عبارة عن ثلاثة جبال شامخة، وبها مغارة تعرف بكهف "كوفا دونجا"، ويسميها العرب "صخرة بلاي"؛ لأنه اختبأ فيها هو وأصحابه، وكان عددهم لا يزيد عن الثلاثين -فيما بدا للفاتحين- فلما حاصرهم المسلمون وأعياهم أمرهم تركوهم وانصرفوا؛ استقلالا لعددهم، واستخفافا بشأنهم1.

وفي هذه البؤرة الصغيرة "كوفا دونجا" -أو صخرة بلاي- نبتت نواة دولة إسبانيا النصرانية، ونبتت معها حركة المقاومة الإسبانية التي أخذت تنمو وتتسع حتى استولت على مدينة "ليون" ثم سيطرت على جميع المنطقة الشمالية الغربية التي صارت تعرف بمملكة "ليون"، ولقد أحاطت هذه المملكة نفسها بسلسلة من القلاع والحصون لحماية نفسها من هجمات المسلمين، وعرفت هذه الحصون في المصادر العربية باسم منطقة

1 نفح الطيب "1/ 276"، وراجع البيان المغرب "2/ 29".

ص: 103

أ- ولاية "سبتمانية"، وتشتمل على سبع مدن، وعاصمتها "أربونة".

ب- ولاية "أكيتانية" -تقع إلى الشمال الغربي من "سبتمانية"- وعاصمتها "برديل" الواقعة على مصب نهر الجارون.

ج- إقليم "بروفانس" -يقع إلى الشمال الشرقي من "سبتمانية"- وعاصمته مدينة "أبنيون"، وتقع على وادي رودنة "نهر الرون".

د- إقليم "برغندية" غربي "نهر لارون"، وعاصمته مدينة "لوذون".

هـ- المنطقة الواقعة شمال "نهر اللوار" حتى ألمانيا الحاضرة، وكانت خاضعة للدولة "الميروفنجية".

1-

حملة السمح بن مالك الخولاني "100-102هـ":

وأول من غزا "بلاد غالة" من الولاة: السمح بن مالك الخولاني "100-102هـ"، فقد بدأ بالاستيلاء على "أربونة"، ثم مضى في تقدمه حتى فتح "طولوشة""تولوز"، واستولى على ولاية سبتمانية كلها، وأقام بها حكومة مسلمة في هذا الوقت المبكر. وقد اتخذ من "أربونة" قاعدة للجهاد وراء جبال البرت، وتوغل في إقليم "أكيتانية"، غير أنه استُشهد في موقعة بالقرب من "طولوشة" انهزم فيها المسلمون، وقتل منهم عدد كبير، وذلك في يوم عرفة "سنة 102هـ"، فتولى القيادة عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي، وأقروه واليا للأندلس حتى يأتي الوالي الجديد، وكانت هذه هي ولايته الأولى ولم يدم فيها أكثر من شهر1.

2-

حملة عنبسة بن سحيم الكلبي "107-110هـ":

تولى عنبسة بن سحيم الكلبي "سنة 103هـ"، وكان كالسمح بن مالك صالحا قويا، فقضى أربع سنوات من ولايته في تنظيم أمور الدولة وإصلاح الجيش وإعداده لمواصلة غزو بلاد الفرنجة، وقد عبر "عنبسة" بجيوشه جبال البرتات، وتابع حركة الفتوح لإقليم "سبتمانية" بمدنه السبع، وافتتح إقليم "بروفانس"، واتجه شرقا حتى بلغ

1 عن جهاد السمح بن مالك وراء البرتات راجع: تاريخ العلماء والرواة بالأندلس لابن الفرضي "1/ 230"، نفح الطيب "1/ 235"، البيان المغرب "2/ 26"، تاريخ المسلمين وآثارهم بالأندلس ص"137، 138"، التاريخ الأندلسي للحجي ص"185-188"، دولة الإسلام في الأندلس لمحمد عبد الله عنان "1/ 81".

ص: 104

نهر "الرون" ثم صعد مع النهر شمالا حتى بلغ مدينة "ليون"، وتوغل بعدها حتى كان على بعد سبعين كيلومترا من جنوبي باريس الحالية، وهي أبعد نقطة وصل إليها المسلمون شمالا، وتبعد نحو ثمانمائة كيلومتر شمال جبال البرتات. وفي طريق عودته تصدت له جموع كبيرة من الفرنجة، فاستشهد في إحدى المعارك "سنة 107هـ"، فقام بقيادة الجيش والعودة إلى "أربونة""عذرة بن عبد الله الفهري" الذي حكم حتى ربيع الأول سنة 110هـ1.

وبالرغم من أن وصول الجيوش الإسلامية إلى هذا الحد، وأن ذلك يعد دليلا قاطعا على ما امتازوا به من جرأة وقوة وإيمان، فإننا لا نستطيع القول -كما يرى الدكتور حسين مؤنس- بأن "عنبسة" فتح جنوبي غالة أو حوض الرون "بالمعنى الحقيقي"؛ لأنه في الواقع لم يفعل شيئا لتثبيت أقدام المسلمين فيما وصلوا إليه من البلاد، ولكنه على أي حال الفاتح المسلم الوحيد الذي وصل إلى هذا المدى في فتوحه. وكان لا بد من حملات ضخمة أكثر نظاما ليتم فتح هذه النواحي، كما أتمت حملات زهير بن قيس، وحسان بن النعمان، وموسى بن نصير عمل عقبة بن نافع في المغرب2.

وقد أثارت حملة عنبسة مخاوف أوروبا كلها، حيث إنه اقتحمها اقتحاما، وأوغل بجيشه في داخل بلادها دون أن يستطيع أحد مقاومته، الأمر الذي جعل القائم بمملكة الفرنجة إذ ذاك -وهو "شارك مارتل" أو "كارل"، وتسميه مصادرنا العربية "قارله"- يشعر بأنه لا بد من القيام بعمل حاسم إذا عاد المسلمون مرة أخرى. وبالفعل بدأ يستعد لهذا اللقاء، فأخذ يجمع القوات والسلاح والأزواد، وصالح أمراء "برغندية"، واتفق مع رجال "سبتمانية"، ومع دوق "حاكم""أكيتانية" ليقوموا معا بعمل حاسم ضد المسلمين3.

3-

معركة بلاط الشهداء "114هـ/ 732م"، واستشهاد عبد الرحمن الغافقي:

وبعد أن توالى على الأندلس سبعة من الولاة بين سنتي "107-112هـ/ 725-730م" تفاقمت خلالها المشكلات وازدادت الاضطرابات وانتشر الخلل

1 راجع: البيان المغرب "2702"، معالم تاريخ المغرب والأندلس لحسين مؤنس "ص254"، المسلمون في الأندلس للدكتور عبد الله جمال الدين "موسوعة سفير 7/ 14".

2، 3 د. حسين مؤنس: معالم تاريخ الأندلس ص"255".

ص: 106

والخلاف بين الزعماء ورجال القبائل1، عُيِّن عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي واليا "في صفر 112هـ"، وهذه هي ولايته الثانية، وكان من أعظم قواد المسلمين في الأندلس عدلا وصلاحا وقدرة وكفاءة، وقد قضى ما يقرب من عام نظم خلاله شئون البلاد، ثم أعلن الجهاد ضد الفرنجة، وكون جيشا هائلا يتراوح عدده ما بين سبعين ألفا ومائة ألف، جلهم من البربر.

وفي أوائل سنة 114هـ/ 732م سار الغافقي بجيوشه نحو الشمال، وعبر جبال "ألبرت" من طريق "بنبلونة" متجها إلى دوقية "أكيتانية" أعظم ولايات غالة في ذلك الوقت فاكتسحها، ودخل عاصمتها "برديل" عنوة، ثم واصل زحفه حتى أشرف بجيشه على نهر "اللوار" واستولى على مدينتي "بواتييه" و"تور"، وما كاد يخرج الجيش الإسلامي من "بواتييه" في طريقه نحو باريس حتى فوجئ عبد الرحمن الغافقي بوصول جيش هائل من الفرنج والمرتزقة يقوده "شارل مارتن""قارله".

وعلى بعد عشرين كيلومترا شمال "بواتييه" في الطريق إلى "تور" جنوبي مجرى اللوار في موضع قريب من طريق روماني قديم هو المسمى "بالبلاط"، حدثت المعركة الكبرى بين الجيشين في أواخر شعبان 114هـ/ أكتوبر 732م.

وقد تكون هذه المعركة وقعت بالقرب من موضع يطلق عليه اليوم اسم "مواسيه لاباتاي" Moussais la bataille. وتصمت المصادر العربية عن ذكر تفاصيل هذه الموقعة الفاصلة، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أنها كانت كارثة على جيش المسلمين، بحيث نفر قدامى المؤرخين من مجرد ذكرها، فاندرجت أخبارها في زوايا النسيان.

وقد استمرت المعركة ثمانية أيام، مما يدل على أنها كانت معركة حامية. والحق أن كلا من الجانبين بذل أقصى وسعه في القتال، وصبر المسلمون صبرا طويلا حتى تجمعت عليهم قوات نصرانية من كل ناحية، ولم يقتصر الأمر على الفرنجة، بل انضم إليهم كثيرون من أجناس أخرى "ألمان، وسُواف، وسكسون". وآخر مراحل المعركة كان هجوما عنيفا على مؤخرة الجيش الإسلامي، فانتهبت الغنائم، وتزعزع

1 راجع البيان المغرب "2/ 27، 28"، نفح الطيب "1/ 235، 236".

ص: 107

نظام الجيش، وبينما يحاول الغافقي إعادة النظام إلى جيشه أصابه سهم فقتله، فعم الاضطراب بين المسلمين وكثر القتل فيهم، واشتد الفرنج عليهم، لكنهم صبروا حتى جن الليل وتحاجز الفريقان دون فصل، ثم انسحب المسلمون نحو مراكزهم في "سبتمانيا" تاركين غنائمهم، وأصبح الفرنجة فلم يجدوا لهم أثرا سوى الجرحى ومن لم يتمكنوا من مرافقة الجيش المنسحب، فأجهزوا عليهم، وانتهبوا ذخائر عظيمة، ولم يفكروا في تتبع المسلمين1.

ومهما قيل من أسباب لتعليل خسارة المسلمين في معركة "بلاط الشهداء" -من مثل ما قيل عن وجود خلاف في الجيش الإسلامي "العرب والبربر"، وابتعاد الجيش عن بلاد الإسلام بحيث أصبح على بعد "400 كم" شمال جبال ألبرت التي تبعد عن قرطبة مسافة "900 كم" مما جعل موالاته بالمؤن والإمداد أمرا عسيرا، بينما كانت خطوط إمداد الفرنجة سهلة ومتصلة، إضافة إلى أن المناخ لم يكن مناسبا لخوض الجنود والخيول العربية تلك المعركة القاسية، وأن المسلمين ساروا مثقلين بغنائم المعارك السابقة، مما دفع العدو إلى ضرب مؤخرة الجيش الإسلامي فارتبكت صفوفه، هذا إلى أن إمارات "غالة" كانت قد تكتلت جميعا لمواجهة جيوش الإسلام وصدها عن الجنوب2- أقول: مهما قيل من مثل هذه التعليلات وغيرها، وبعيدا عن مدى صحة بعضها وواقعيتها، فإن معركة بلاط الشهداء كانت أعظم لقاء بين الإسلام والنصرانية، وبين الشرق والغرب، ففي سهول "تور"، و"بواتييه" فقد المسلمون سيطرتهم على أوروبا، وارتد تيار الفتح الإسلامي أمام الأمم الشمالية كما ارتد قبل ذلك بأعوام أمام أسوار القسطنطينية، وأخفقت بذلك آخر محاولة بذلتها الخلافة لافتتاح أمم الغرب وإخضاع النصرانية لصولة الإسلام، ولم تتح للإسلام

1 عن معركة بلاط الشهداء راجع بتوسع: دولة الإسلام في الأندلس لمحمد عبد الله عنان "1/ 92-111"، معالم تاريخ المغرب والأندلس لحسين مؤنس ص"140-147"، التاريخ الأندلسي للحجي ص"193-203"، المسلمون في الأندلس لعبد الله جمال الدين "موسوعة سفير "7/ 15، 16"، الأندلس في التاريخ لشاكر مصطفى ص"26". وراجع: الكامل لابن الأثير "4/ 404"، البيان المغرب "2/ 28"، نفح الطيب "1/ 236، 3/ 15، 16".

2 راجع معالم تاريخ المغرب والأندلس لحسين مؤنس ص257، تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس للسيد سالم ص"143".

ص: 108

المتحد فرصة أخرى؛ لينفذ إلى قلب أوروبا في مثل كثرته وعزمه واعتزازه يوم مسيره إلى بلاط الشهداء. وبينما شغلت إسبانيا بمنازعاتها الداخلية، إذ قامت فيما وراء ألبرتات إمبراطورية فرنجية عظيمة موحدة تهدد الإسلام في الغرب، وتنازعه السيادة والنفوذ1.

وعلى الرغم من هزيمة المسلمين في بلاط الشهداء "بواتييه"، فقد بقيت حامية عسكرية عربية في مدينة "أربونة" جنوب غربي فرنسا نحو عشرين سنة محتفظة بذلك البلد وبجانب كبير من "سبتمانية"، ولم ينسحب المسلمون من "غالة" تماما إلا بعد قيام الدولة الأموية في الأندلس "سنة 138هـ/ 756م" وقرار عبد الرحمن الداخل "صقر قريش" بسحب قوات المسلمين من "غالة"، والاكتفاء بسلطان المسلمين على الأندلس.

1 د. محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس "1/ 111".

ص: 109