المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من أسباب قسوة القلوب اليوم، وفراغها من الخوف من الله عز وجل - التفكر والاعتبار بآيات الكسوف والزلازل والإعصار

[عبد الكريم الحميد]

الفصل: ‌من أسباب قسوة القلوب اليوم، وفراغها من الخوف من الله عز وجل

‌من أسباب قسوة القلوب اليوم، وفراغها من الخوف من الله عز وجل

لقد كان من أسباب رحيل الخوف ظلمة القلوب لِمَا غطاها من ران الذنوب لَمَّا انتشر داء التعطيل والإلحاد حتى ملأ العالم بواسطة علوم دخيلة على المسلمين مجالها الطبيعة المقطوعة عمن خلقها ويُدَبِّرها، ومن هنا رحَل الخوف، ومن هنا عُزِل المالك سبحانه عن التصرف في ملكه، وذلك في عقول الطغام أشباه الأنعام حيث أصبحوا لا يذكرون الله ولا يخشونه حينما يقع بأس الله وغضبه كالكسوف والزلازل والأعاصير وغيرها، وإنما ينسبون ذلك للطبيعة وكأنها تتصرف بذاتها!.

قال تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1)، فأين التضرع عند حدوث الحوادث؟!.

قال ابن الجوزي: (الدنيا دار الإله، والمتصرِّف في الدار بغير أمر صاحبها لص) انتهى.

(1) سورة الأنعام، الآية:43.

ص: 9

لقد عُزِل المالك سبحانه عن ملكه وامتلأت الأرض باللصوص!.

ولو فَتَّش المسلمون اليوم بصدق عن سبب قسوة قلوبهم وبُعدهم عن خالقهم لوجدوا أن أعظم أسباب ذلك هو هذه العلوم المادية الإلحادية التي نشأ عليها الصغير وهرم عليها الكبير، لأنها جاءت من ملاحدة عزلوا الله عن علومهم الكوْنية إطلاقاً، وصارت فتنتها من أعظم الفتن التي تشَرَّبتها القلوب، فالأسباب عندهم مستقلة عن مُسَبِّب.

كيف يتأتَّى والحال هكذا خوفٌ من الله وتجنبٌ لمساخطه؟!.

والله المستعان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

ص: 10

الآيات والكوارث سببها الكفر والمعاصي

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على قوله تعالى: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} (1)، قال:(فخوَّف العبادَ مُطْلقاً، وأمرهم بتقواه لئلا ينزل [بِهم] الْمَخُوف، وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين، والإنذار هو الإعلام بما يُخاف منه، وقد وُجدت الْمَخُوفات في الدنيا، وعاقب الله على الذنوب أمماً كثيرة كما قَصَّه في كتابه، وكما شُوهِدَ مِن الآيات) انتهى (2).

ولقد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم بأن هذه الآيات والكوارث العظيمة ليس حصولها بمجرد سبب طبيعي مجرد فحسب، بل بسبب ما يرتكبه بنو آدم من الكفر والمعاصي والذنوب، حيث بيَّن سبحانه أنه قد أخذ بمثل هذه الآيات أُمَماً كثيرة بسبب ما ارتكبوه من الكفر والمعاصي والذنوب، فقال سبحانه وهو يعدد أصناف ما أصاب به أولئك الأقوام بسبب ذنوبهم: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ

(1) سورة الزمر، من الآية:16.

(2)

منهاج السنة النبوية، 5/ 299.

ص: 11

أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (1).

وقال عز وجل: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} (2).

وقال تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (3)، وقال سبحانه:{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} (4).

وقد دمر الله جنوب أمريكا الكافرة الجائرة بريح عاتية تُذَكِّرنا بما أصاب عادٍ قوم هود، وصاحَب تلك الريح غرق عظيم صبت السماء ماءه صباً، وتفجرت الأرض بفيضانات عارمة، فالتقى الماء على أمر قد قدر

(1) سورة العنكبوت، الآية:40.

(2)

سورة الأنعام، الآية:6.

(3)

سورة آل عمران، الآية:11.

(4)

سورة غافر، الآية:21.

ص: 12

مع رياح شديدة، فغرقت مدينة كاملة بأسرها، حتى {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} (1)، {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} (2).

وقد أخبر الله سبحانه أنه بمثل هذه الأعاصير العاتية قد أخذ عادٍ قوم هود حين كفروا به وكذبوا رسوله هود – عليه السلام، حتى جعلتهم تلك الريح العاتية بأمر ربها كأعجاز نخل خاوية، فقال سبحانه:{فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ ? فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} (3).

كما أخبر سبحانه أنه أخذ قومَ نوح بالطوفان العظيم الذي تفجر من الأرض عيوناً، وانفتحت السماء بماء عظيم تصبه صباً، فالتقى الماء على أمر قد قدر، حتى أغرقهم سبحانه عن آخرهم، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر بعد أن كفروا بربهم وكذبوا رسوله؛ فقال سبحانه: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ? فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ? فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ? وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى

(1) سورة محمد، من الآية:10.

(2)

سورة هود، من الآية:83.

(3)

سورة فصلت، الآيات: 14 - 15.

ص: 13

الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ? وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ? تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ ? وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (1).

وأخبر سبحانه أنه أخذ بالمطر الشديد والسيل العرم قبيلة (سبأ)(2) حينما كفرت بربها وبِنِعَمِهِ عليها، حتى مزقها كل ممزق، وجعلها أحاديث للناس وعبرة لهم، وآية لكل صبار شكور، فقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ? فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ? ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ? وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ ? فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ? وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ? وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ

(1) سورة القمر، الآيات: 9 - 15.

(2)

وهي قبيلة يمنية مشهورة، وبلدتهم معروفة يقال لها (مأرب)؛ أنظر (تفسير الشوكاني، 4/ 319)، و (معجم البلدان، لياقوت الحموي، 3/ 181).

ص: 14

مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} (1).

قال الإمام ابن القيم: (وهل في الدنيا والآخرة شرور وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي، فما الذي أخرج الأبوين من الجنة دارِ اللذة والنعيم والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب!.

وما الذي أخرج إبليسَ من ملكوت السماء، وطرَدَه، ولَعَنَه، ومَسَخ ظاهره وباطنه، فَجُعِلَتْ صورته أقبح صورة وأشنعها، وباطنه أقبح من صورته وأشنع، وبُدِّل بالقرب بُعداً، وبالرحمة لعنةً، وبالجمال قبحاً، وبالجنةِ ناراً تلظى، وبالإيمان كفراً، وبموالاتِ الولي الحميد أعظم عداوة ومُشاقة، وبزَجَل التسبيح والتقديس والتهليل زجَل الكفر والشرك والكذب والزور والفحش، وبلباس الإيمان لباس الكفر والفسوق والعصيان، فهان على الله غاية الهوان، وسَقَط من عينه غاية السقوط، وحلَّ عليه غضبُ الربِّ تعالى، فأهواه ومَقَته أكبر المقت فأرداه، فصار قوَّاداً لكل فاسق ومجرم رضي لنفسه بالقيادة بعد تلك العبادة والسيادة، فعياذا بك اللهم من مخالفة أمرك وارتكاب نهيك.

وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماءُ فوق رؤوس الجبال!.

وما الذي سلَّط الريحَ العقيم على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه

(1) سورة سبأ، الآيات: 15 - 21.

ص: 15

الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية، ودمرت مامرَّت عليه من ديارهم وحروثهم وزروعهم ودوابهم حتى صاروا عبرة للأمم إلى يوم القيامة!.

وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قَطَّعَت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم!.

وما الذي رفَع قرى اللوطية حتى سَمِعت الملائكةُ نبيحَ كلابهم، ثم قَلَبَها عليهم فجعل عالِيَهَا سافلها فأهلكهم جميعاً، ثم أتبعهم حجارة من سجيل السماء أمطرها عليهم، فجَمَع عليهم من العقوبة ما لم يجمعه على أمةٍ غيرهم، ولإخوانهم أمثالها .. {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} (1)!.

وما الذي أرسل على قوم شعيبٍ سحابَ العذابِ كالظُّلل، فلمَّا صار فوقَ رؤسهم أمطر عليهم ناراً تلظى!.

وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر، ثم نُقلت أرواحهم إلى جهنم فالأجساد للغَرَق والأرواح للحرق!.

وما الذي خَسَف بقارون وداره وماله وأهله! .. وما الذي أهلك القرونَ من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمَّرها تدميراً!.

وما الذي أهلك قوم صاحبَ يس بالصيحة حتى خمدوا عن آخرهم!.

(1) وقد ورد أن مثل هذه العقوبة ما هي ببعيد من ظالمي هذه الأمة إذا فعلوا مثل فعل قوم لوط.

ص: 16

وما الذي بعث على بني إسرائيل قوماً أولي بأسٍ شديدٍ، فجاسوا خلال الديار، وقتلوا الرجالَ، وسبوا الذراري والنساء، وأحرقوا الديار، ونهبوا الأموال، ثم بعثهم عليهم مرة ثانية، فاهلكوا ما قدروا عليه وتَبَّروا ما عَلَوْ تتبيراً!.

وما الذي سلَّط عليهم أنواعَ العذاب والعقوبات، مرةً بالقتل والسبي وخراب البلاد، ومرةً بجوْرِ الملوك، ومرة بمسخهم قردة وخنازير، وآخر ذلك أقسم الرب تبارك وتعالى ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب! (1).

قال الإمام أحمد، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا صفوان بن عمر وحدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه، قال: لما فتحت قبرص فُرِّق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء جالساً وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء .. ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟!، فقال: " ويحك يا جبير!، ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله

(1) وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته تتبع آثارهم وتقترف ما اقترفوه، وقد حصل الأمر كما أخبر وزيادة، فهل لهم الْمُرّة ولنا الحلوة؟!، .. وسُنن الله لا تتبدل، قال تعالى بعد ذكره عقوبات الأمم المتقدمة بذنوبها:{أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُر ِ} [سورة القمر، آية: 43]، وسُنن الله عادته، وهي لا تتبدل ولا تتحول ولا تتغير؛ فالحذر الحذر من التشبه بالكفار وتتبع آثارهم واقتراف ما اقترفوه.

ص: 17

فصاروا إلى ما ترى! (1) انتهى (2).

ولهذا حذر الله عباده من شؤم الذنوب والمعاصي التي تجلب الكوارث والدمار والبوار، فقال سبحانه وهو يذكرهم بما حلَّ بمن كَفَر به وعصاه من العقوبات والكوارث المدمرة:{فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} (3)، وقال تعالى:{وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} (4)، وقال سبحانه:{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً} (5)، وقال سبحانه:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (6).

فالحذر الحذر قبل أن تحل بنا عقوبات الإله العظيم ونحن على أحوال لا

(1) أخرجه أحمد في (الزهد، 1/ 142)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 216)، وأخرج سعيد بن منصور نحوه في (سننه، 2/ 290).

(2)

الجواب الكافي، ص (26).

(3)

سورة الحج، آية:25.

(4)

سورة الحج، آية:48.

(5)

سورة الطلاق، آية:8.

(6)

سورة النحل، آية:111.

ص: 18

ترضيه تعالى، فقد ذَكَّرَنا سبحانه بما عاقب به مَن كفر به وعصاه، وأكثر من تذكيرنا بذلك رحمة بنا وإعذاراً قبل أن يأخذنا بذنوبنا وبما فعل السفهاء منا، وواللهِ لن تنفعنا إحالة هذه الكوارث لـ (الطبيعة) إذا وقع بنا أمرُ الله، وحلت بساحتنا العقوبات كما حلت بمن قبلنا ومَن حولنا بعد أن بارزوا ربهم بالمعاصي والمنكرات، ونسأل الله يلطف بنا وبالمسلمين، وأن لا يؤاخذنا بذنوبنا ولا بما فعل السفهاء منا.

وسيأتي الكلام في آخر الكتاب - إن شاء الله - على أسباب تأخر العقوبات الكونية العامة على كثيرٍ من الناس في هذا الزمان بعد أن بارزوا الله بشتى أنواع المنكرات إلا ما شاء الله، بينما تحل بأسلافهم في الماضي حينما يرتكبون بعض ما يُرتكب اليوم من المعاصي والمنكرات التي لم يسبق لها مثيلاً في كَمِّها وكيفيتها وصِفَتها - ولا حول ولا قوة إلا بالله -.

هل معرفة الأسباب الطبيعية لحدوث الآيات والكوارث ينافي الخوف من الله، وأنها عقاباً منه؟!

ص: 19

لقد كان كثير من السلف يعلمون الأسباب الطبيعية لهذه الآيات والكوارث، وما كان ذلك حائلاً بينهم وبين معرفة الحكمة من إحداثها.

غير أن كثيراً من الناس في وقتنا لَمَّا علموا بعضَ الأسباب التي يُجريها الرب سبحانه لآياته، وهي بعض أسباب حصول الآية أو احتمال حصولها رأوْا أنهم شَبّوا عن الطَّوْق، فتركوا ربْط الأسباب بِمُسَبِّبها لمن يَرَوْنهم " دراويشاً " حتى صاروا بينهم موْضعَ سخريةٍ وتندّر!، فابتعدوا عن ربهم وتنكّروا لدينهم، ويحسبون أنهم على شيء، وإنما هم كطفل في خطواته الأولى قَدَّر في نفسه استغناءه عن والديه فهام في خطواته المتعثرة مبتعداً عن والديه مُتَخيلاً قدرته على الاستقلال عنهما فكان ضحيةَ خَوَاطِره كما قيل في المثل:(إذا أراد الله حَتْفاً بنملة، أتاحَ لها جناحان فطارا بِها!)، أيْ طارا بها عن بيتها وعن أصحابها لأنها أجنحة تقود إلى الحتْف، وسُرْعان ما تساقطت، وإذا هي في المتاهة والضياع!.

والأسباب التي عرفها هؤلاء هي أن الكسوف يُحَدّد وقته مُسْتَقْبَلاً ويقع كما حُدِّد؛ والزلازل عرفوا أن سببها أبخرة في داخل الأرض مُتحجّرة فتُريد الخروج فتحصل الزلازل، والأعاصير والفيضانات لها أوقات ومواسم

ص: 20

معلومة، وبما أن الأمر كذلك فالخوف والتخويف بعد انفتاح العلوم والتطور ورُقي الإنسان لا معنى له، إنما كان ذلك للإنسان البدائي في عصور الظلمات.

وبعضهم أخذه الشيطان لأبعد من هذا، وهو أن الفضاء لا حَدَّ له، وفيه ملايين المجرات، والمسافات بينها خيالية، فأغفله الشيطان عن ذكر ربه فنسيه أو أنكره!، كيف إذا انضاف إلى هذه المسافات الخيالية في الفضاء الذي لا يُحد أن عُمْرَ الأرضِ يُقدرُ بملايينِ السنين، وأن الكائنات ما تزال في تطور، وأن الدين ظاهرة اجتماعية كما في هذه العلوم الدخيلة على أهل الإسلام والتي مَبْناها على الإلحاد والتعطيل (1).

والمراد هنا أن معرفة بعض الأسباب الكونية لا توجب الغفلة عن مسببها، أو إنكاره.

فإذا عُلِمَ أن سببَ كسوفِ الشمسِ هو مرور القمر بينها وبين الأرض، ولا يكون ذلك إلا في آخر الشهر؛ وعُلِمَ أن سبب خسوف القمر هو وقوع ظل الكرة الأرضية عليه فتحجب نورَه المستفاد من الشمس ولا يكون ذلك إلا في ليالي الإبدار ..

(1) وفي كتابيْ (الفرقان في بيان إعجاز القرآن) و (هداية الحيران في مسألة الدوران) الرد على هؤلاء.

ص: 21

فإنه يقال:

أولاً: هذا معلوم عند السلف قبل زماننا ومُدَوَّن في كتبهم مثل ابن تيمية وابن القيم - رحمهما الله - وغيرهم.

ثانياً: العلم بذلك لا يُعارض ما جعل الله هذه الآيات سبباً له من التخويف لتحصل التوبة والرجوع إلى الله؛ فلا تنافي إطلاقاً بين معرفة هذه الأسباب وبين ما ورد في الشرع بشَأنها إلا عند من يُريد التفلّت من العبودية لتكون حاله - كما قاله ابن القيم رحمه الله:

هَرَبُوا مِنَ الرِّقِّ الذي خُلِقوا لَهُ

فَبُلُوا بِرِقِّ النَّفْسِ وَالشيطَانِ!

ويكون ممن صَدَّق عليه إبليس ظنه .. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (1).

قال الحسن البصري رحمه الله: (لما أهبط الله آدم عليه الصلاة والسلام مِن الجنةِ ومعه حواء هبط إبليس فرِحاً بما أصاب منهما، وقال:" إذا أصبت من الأبوين ما أصبت فالذرية أضعف وأضعف "، وكان ذلك ظناً من إبليس فأنزل الله عز وجل: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ

(1) سورة سبأ، الآية:20.

ص: 22

إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}) (1).

وقال رحمه الله: (واللهِ ما ضربهم بعصا ولا أكرههم على شيء، وما كان إلا غروراً وأماني دعاهم إليها فأجابوه)(2).

وهل إذا عَلِمَ الإنسانُ أن النطفةَ إذا استقرت في الرِّحم أن الطفل يولد بعد تسعة أشهر يوجب له إغفال أو إنكار الخالق سبحانه؟!، فالربُّ سبحانه أجرى عادته في أمور توجب إيمان الكافر وزيادة إيمان المؤمن، فكيف انقلبت الموازين في هذا الزمان السوء؟!.

وهل إذا علم الإنسانُ أن الْحَبَّ والنوى إذا بُذِر في الأرض وسُقِيَ أنه تنبت منه هذه النباتات والأشجار العجيبة يوجب له ذلك قَصْر الأمر على السبب والانقطاع عن الفاعل سبحانه؟!.

وهكذا فيما لا يُحصى من معرفة الأسباب وتَحْيين أوقاتها، ثم إن معرفة الأسباب وأوقات انعقادها قد أجراه الله في الرحمة كما أجراه في العذاب والنقمة، فالصلوات الخمس مَوْقوته وشهر رمضان ووقت الحج وآخر الليل مَوَاسم رحمة وأحايينها معلومة فهل في ذلك تعارض؟!.

(1) تفسير ابن كثير، 3/ 536.

(2)

تفسير الصنعاني، 3/ 130.

ص: 23

كذلك أجرى الله عادته أن كسوف الشمس لا يكون إلا في آخر الشهر وخسوف القمر في منتصفه وأخبر سبحانه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أن ذلك مما يُخَوِّف الله به عباده؛ كذلك إذا أَطْلَعَ الله بعض الخلق على الوقت الذي سوف يحصل فيه الكسوف أو الخسوف بحساب سيْر الشمس والقمر ووقع كما أخبر، فهل يتعارض ذلك مع موجب الخوف وأنه سبحانه جعل ذلك آية يُخَوِّف بها عباده؟! (1).

وشاهد ذلك أن يُقارن الكسوف والخسوف في أيامه حَوَادث وآيات غضب ونقمة كما حصل هذه الأيام من الأعاصير والفيضانات في دولة أمريكا، فلا تعارض أن ذلك عذاب ونقمة.

وقد قارن ذلك كسوف الشمس والحمد لله، ونسأله المزيد من فضله حيث أخبر الحسّابون أن ذلك سيقع آخر شهر شعبان، والله أعلم؛ أما تَقَدُّم شهر ونحوه أوْ تأخره فلا يُعارض المقارنة، ومازالت النقمة مستمرة والحمد لله.

وقد قال ابن القيم رحمه الله: (نَعَم لا ننكر أن الله سبحانه يُحدِث عند الكسوفَيْن من أقضيته وأقداره ما يكون بلاءاً لقوم ومصيبة لهم، ويجعل

(1) والإعلام بالكسوف قبل وقوعه ليس من هَدْيِ أهلِ الإسلام وإن كان يُعلم بحساب سيْر الشمس والقمر، ولكن المراد هنا أنه ليس من عِلْم الغيب الذي استأثر الله به.

ص: 24

الكسوف سبباً لذلك، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم عند الكسوف بالفزع إلى ذكر الله والصلاة والعتاقة والصدقة والصيام، لأن هذه الأشياء تدفع مُوجب الكسف الذي جعله الله سبباً لما جعله، فلولا انعقاد سبب التخويف لما أمر بدفع مُوجبه بهذه العبادات، ولله تعالى في أيام دهره أوقات يُحدث فيها ما يشاء من البلاء والنعماء ويقضي من الأسباب ما يدفع مُوجب تلك الأسباب لمن قام به أو يُقلله أو يُخففه؛ فمن فزِع إلى تلك الأسباب أو بعضها اندفع عنه الشر الذي جعل الله الكسوف سبباً له أو بعضه.

ولهذا قَلَّ ما تسلم أطراف الأرض حيث يخفى الإيمان وما جاءت به الرسل من شرٍّ عظيم يحصل بسبب الكسوف، وتسلم منه الأماكن التي يظهر فيها نور النبوة والقيام بما جاءت به الرسل، أو يقلّ فيها جداً.

ولَمَّا كَسَفت الشمسُ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قام فزعاً مسرعاً يجرّ رداءه ونادى في الناس " الصلاة جامعة "(1)؛ وخطبهم بتلك الخطبة البليغة وأخبر أنه لم يَرَ كَيَوْمه ذلك في الخير والشر وأمرهم عند حصول مثل تلك الحالة بالعتاقة والصدقة والصلاة والتوبة، فصلوات الله وسلامه على أعلم

(1) روى فقرة " يجر رداءه " البخاري برقم (993) عن أبي بكرة رضي الله عنه، وروى فقرة " الصلاة جامعة " البخاري برقم (998) ومسلم برقم (901) عن عائشة رضي الله عنها.

ص: 25

الخلق بالله، وبأمره، وشأنه، وتعريفه أمور مخلوقاته، وتدبيره، وأنصحهم للأمة، ومن دعاهم إلى ما فيه سعادتهم في معاشهم ومعادهم، ونهاهم عما فيه هلاكهم في معاشهم ومعادهم) انتهى (1).

أنظر قوله: (وقَلَّ ما تسلم أطراف الأرض حيث يخفى الإيمان وما جاءت به الرسل من شر عظيم يحصل بسبب الكسوف) وتأمل الشواهد .. {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (2).

وتأمل الآن كيف كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم حين حدوث الكسوف والخسوف حيث لم يقف مثلاً مع الحالة الطبيعية لكسوف الشمس وهو حيلولة القمر بينها وبين الأرض، ولكن لِمَا أعطاه الله من المعرفة العظيمة به والتعلق بربه مسبِّبِ الأسباب سبحانه كان علمه صلى الله عليه وسلم مع معرفة تلك الأسباب الطبيعية والعلم بما وراء تلك الأسباب، وهو الخوف من الله تعالى بالفزع إلى الصلاة واللجوء إلى ربه عز وجل؛ فَعَن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، فقام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم قام فأطال القيام، وهو دون القيام الأول، ثم ركع فأطال الركوع، وهو دون

(1) مفتاح دار السعادة، 2/ 209.

(2)

سورة هود، الآية:102.

ص: 26

الركوع الأول، ثم سجد فأطال السجود، ثم فعل في الركعة الثانية مثلما فعل في الأولى، ثم انصرف وقد انجلت الشمس، فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:" إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله، وكبروا، وصلوا، وتصدقوا "، ثم قال: " يا أمَّة محمد .. واللهِ ما من أحدٍ أغْيَر من الله أن يزني عبده، أو تزني أمَتُه، يا أمة محمد .. واللهِ لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً!) (1).

وعن أبي موسى – رضي الله عنه قال: (خسفت الشمس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فقام فَزِعاً يخشى أن تكون الساعةَ، حتى أتى المسجد، فقامَ يصلي بأطول قيامٍ وركوعٍ وسجودٍ، ما رأيته يفعله في صلاة قط، ثم قال: " إن هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله يرسلها يخوف بها عباده، فإذا رأيتم منها شيئاً فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره ")(2).

وإن من علامات رحيل الخوف من القلوب أن بعضَ الحسَّابين ممن ينتسب للإسلام يَصِف الكسوف القادم (3) بأنه (كسوف جميل)!، فأين

(1) رواه البخاري برقم (997)، ومسلم برقم (901).

(2)

رواه مسلم برقم (912).

(3)

الذي أعلن الحسَّابون أنه سيكون آخر شهر شعبان من هذا العام (1426هـ)، والله تعالى أعلم.

ص: 27

هذا من قول الله عز وجل {وَمَا نُرْسِلُ بِالآياتِ إِلَاّ تَخْوِيفاً} (1)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم عن كسوف الشمس وخسوف القمر بأنهما:(آيتان من آيات الله، يُخوِّف الله بهما عِبادَه)؛ أمَا نَخَاف من قول الله عز وجل: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَاّ طُغْيَاناً كَبِيراً} (2)؟!.

حقاً (إنها السُّنن)(3)، فإن الكفار يبتهجون ويفرحون بمنظر الكسوف والخسوف، ويتابعون ذلك بآلات التصوير وغيرها من مكبرات ومقربات البعيد، وما يزيدهم ذلك إلا طغياناً كبيراً!.

قال شيخ الإسلام رحمه الله بعد أن ذكر قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته)، وفي

(1) سورة الإسراء، الآية:59.

(2)

سورة الإسراء، الآية:60.

(3)

أخرج ابن حبان في صحيحه برقم (6702) والطبراني في الكبير برقم (3291) والمروزي في السنة برقم (39) عن أبي واقد الليثي – رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم يقال لها " ذات أنواط "، قال: فمررنا بالسدرة، فقلنا: يا رسول الله .. اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط!، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(الله أكبر! .. إنها السُّنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل " {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [سورة الأعراف، من الآية: 138] .. لتركبن سنن من كان قبلكم)، وقد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة بأن هذه الأمة ستتبع سَنن من كان قبلها - نسأل الله السلامة والعافية -، ومن ذلك ما جاء في صحيح البخاري برقم (3269) ومسلم برقم (2669) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لتتبعن سَنن مَن قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع حتى لو سلكوا جُحر ضب لسلكتموه!، قلنا: يا رسول الله .. اليهود والنصارى؟!، قال: فَمَن!).

ص: 28

رواية: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد، ولكن الله تعالى يخوف بهما عباده)(1)؛ قال رحمه الله بعد أن ذكر ذلك: (فذكر صلى الله عليه وسلم أن من حكمة ذلك تخويف العباد كما يكون تخويفهم في سائر الآيات كالرياح الشديدة، والزلازل، والجدب، والأمطار المتواترة، ونحو ذلك من الأسباب التي قد تكون عذاباً؛ كما عذّب الله أُمَماً بالريح والصيحة والطوفان قال تعالى: {فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} (2)، وقال تعالى:{وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآياتِ إِلَاّ تَخْوِيفاً} (3)، وإخباره - سبحانه - بأنه يُخَوِّف عباده بذلك يبين أنه قد يكون سبباً لعذاب ينزل كالرياح العاصفة الشديدة، وإنما يكون ذلك إذا كان الله قد جعل ذلك سبباً لما ينزل في الأرض) انتهى (4).

وقال: (والتخويف يتضمن الأمر بطاعته، والنهي عن معصيته)(5).

(1) رواه البخاري برقم (1001) من حديث أبي بكرة، ومسلم برقم (912) من حديث أبي موسى.

(2)

سورة العنكبوت، من الآية:40.

(3)

سورة الإسراء، الآية:59.

(4)

مجموع الفتاوى، 35/ 169.

(5)

النبوات، ص (318).

ص: 29

وقال رحمه الله: (وهذا بيان منه صلى الله عليه وسلم أنهما سبب لنزول عذاب بالناس، فإن الله إنما يُخَوِّف عباده بما يخافونه إذا عصوه وعصوا رسله وإنما يخاف الناس مما يضرّهم، فلولا إمكان حصول الضرر بالناس عند الخسوف ما كان ذلك تخويفاً، قال تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآياتِ إِلَاّ تَخْوِيفاً}، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بِمَا يُزيل الخوفَ [حيث] أمَر بالصلاة، والدعاء، والاستغفار، والصدقة، والعتق .. حتى يكشف ما بالناس، وصلى صلى الله عليه وسلم بالمسلمين صلاةً طويلة) انتهى (1).

وقال: (وأما كون الكسوف أو غيره قد يكون سبباً لحادث في الأرض من عذاب يقتضي موتاً أو غيره فهذا قد أثبته الحديث نفسه، وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم لا يُنافي لكوْن الكسوف له وقت محدد يكون فيه حيث لا يكون كسوف الشمس إلا في آخر الشهر ليلة السِّرار، ولا يكون خسوف القمر إلا في وسط الشهر وليالي الإبدار، ومن ادّعى خلاف ذلك من المتفقّهة أو العامة فلِعدم علمه بالحساب، ولهذا يمكن المعرفة بما مضى من الكسوف وما يُستقبل كما يمكن المعرفة بما مضى من الأهِلة وما يُستقبل (2)، إذْ كل ذلك بحساب كما قال تعالى: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ

(1) مجموع الفتاوى، 24/ 259.

(2)

أما العمل على حساب ما يُستقبل من الأهلة فباطل شرعاً، وقد أنكره شيخ الإسلام – كما في (مجموع الفتاوى / ج 15، 25، 27) -، وعليه عمل أهل الكتاب – مثل ما يُسمى بـ (التقويم) -.

ص: 30

سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانا} (1)، وقال تعالى:{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (2) انتهى.

ولزيادة البيان والرد على مَن زعم أن ما حصل في أمريكا هو موسم أعاصير وفيضانات فقد قال ابن تيمية رحمه الله قال: (كما أن تعذيب الله لمن عذبه بالريح الشديدة والباردة كقوم عاد كانت في الوقت المناسب، وهو آخر الشتاء كما ذكر ذلك أهل التفسير وقصص الأنبياء (3) انتهى؛ فتأمل هذا الكلام وأن الريح الشديدة التي سلّطها الله على عاد قوم هود عليه السلام الذين قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} (4) كانت في وقت هبوب الرياح الشديدة الباردة، وقد وَصَفَها سبحانه بأنها "

(1) سورة الأنعام، من الآية:96.

(2)

سورة الرحمن، آية:5.

(3)

وقد أستُفيد من كون هذه الريح المدمرة كانت في موسم الشتاء التي تكثر فيه الرياح وتشتد من قوله تعالى: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [سورة الحاقة، من الآية: 6]، وآيات أخرى تبين بأن هذه الريح كانت (صرصراً)، فمعنى ريح (صرصر) أي الريح الباردة الشديدة البرودة، كما جاء في (مختار الصحاح، ص 151)، و (تفسير ابن كثير، 4/ 413)، و (تفسير القرطبي، 15/ 347)، وغيرها.

وقد استنبط البعض - أيضاً - بكون هذه الريح قد جاءت في موسم الشتاء الذي تكثر وتشتد فيه، من قوله تعالى عن قوم عاد:{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ? تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [سورة الأحقاف، الآيات: 24 – 25]، فكونهم قالوا بأنه (عارض ممطرنا) دليل على أنه كان في موسم الأمطار الذي تكثر فيه الرياح وتشتد؛ والله أعلم.

(4)

سورة فصلت، الآية:15.

ص: 31

عاتية "، فهو سبحانه قد زاد في سرعتها وبردها وقوتها، فجعلها ريح عذاب كـ (الأعاصير) وما يحصل بسببها من فيضانات في وقتنا.

وإليك كلام شيخ الإسلام في ذلك؛ حيث قال رحمه الله: (فإذا كان الكسوف له أجل مسمى لم يُنافِ ذلك أن يكون عند أجله يجعله الله سبباً لما يقتضيه من عذاب وغيره لمن يُعذّب الله في ذلك الوقت أو لغيره ممن ينزل الله به ذلك، كما أن تعذيب الله لمن عذّبه بالريح الشديدة الباردة كقوم عاد كانت في الوقت المناسب وهو آخر الشتاء كما ذكر ذلك أهل التفسير وقصص الأنبياء.

وكذلك الأوقات الذي يُنزل الله فيها الرحمة كالعشر الآخرة من رمضان والأُوَل من ذي الحجة، وكجوف الليل، وغير ذلك هي أوقات محدودة لا تتقدّم ولا تتأخر، وينزل فيها من الرحمة مالا يُنزل في غيرها) انتهى (1).

(1) أنظر: مجموع الفتاوى، 35/ 176.

ص: 32