المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ما هي حقيقة (الطبيعة) التي يحال إليها ما يجريه الله من الآيات والكوارث - التفكر والاعتبار بآيات الكسوف والزلازل والإعصار

[عبد الكريم الحميد]

الفصل: ‌ما هي حقيقة (الطبيعة) التي يحال إليها ما يجريه الله من الآيات والكوارث

‌ما هي حقيقة (الطبيعة) التي يُحال إليها ما يجريه الله من الآيات والكوارث

؟!

سسنة (240هـ):

ة (64هـ):

إنه من التعطيل والإلحاد إحالة الحوادث إلى الطبيعة وقطع ذلك عن مالكها المتصرف فيها سبحانه.

ثم ما هي الطبيعة؟!، هل هي خالقة أو مُدَبِّرة؟!، إنها مخلوقة مُدَبَّرة .. إنها آلة بيد مُحَرِّكها ومُسَكِّنها سبحانه.

قال ابن القيم رحمه الله عن الفلاسفة والطبائعيين وزنادقة الأطباء: (وليست الطبيعة عندهم مربوبة مقهورة تحت قهر قاهر، وتسخير مسخِّر يُصَرِّفها كيف يشاء، بل هي المتصرفة المدبِّرة!)(1).

إن الفلاسفة والطبائعيين هم الذين ملأت علومهم الأرض اليوم وليس لله فيها ذكر، وهي التي فتحت باب الإلحاد والزندقة.

فانظر مثلاً إلى نظرية " داروين " التي عليها مدار علوم الغرب الدخيلة على أهل الإسلام، وليس لله فيها ذكر مع الكوْنيات، وأنه سبحانه كوَّنَها؛ بل ينسبون ما يرون من الكائنات والحوادث التي تجري فيها إلى

(1) طريق الهجريتين، ص (256).

ص: 33

الاتفاق، وأن ذلك كله يحدث من ذاته، وهذا عيْن التعطيل.

وتأمل الآن بعض الأجوبة القاطعة لأمثال هؤلاء:

قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله: (فمِن أوضح الدلالة على معرفة الله سبحانه وتعالى على أن للخلق صانعاً ومدبراً أن الإنسان إذا فكر في نفسه رآها مُدَبَّرة، وعلى أحوالٍ شتى مُصَرَّفَة.

كان نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاماً ولحماً، فيعلم أنه لا ينقل نفسه من حال النقص إلى حال الكمال، لأنه لا يقدر أن يُحْدِثَ في الحال الأفضل التي هي حال كمال عقله وبلوغ أشدّه عضواً من الأعضاء، ولا يُمكنه أن يزيد في جَوَارحه جارحة، فيدلّه ذلك على أنه في وقت نقصه وأوَان ضعفه عن فعل ذلك أعْجز.

وقد يرى نفسه شاباً، ثم كهلاً، ثم شيخاً، وهو لم ينقل نفسه من حال الشباب والقوة إلى حال الشيخوخة والهرم ولا اختاره لنفسه، ولا في وِسْعه أن يُزَايل حال الْمَشِيب ويُرْجِع قوة الشباب، فيعلم بذلك أنه ليس هو الذي فعل هذه الأفعال بنفسه، وأن له صانعاً صَنَعَه وناقِلاً نقله من حال إلى حال، ولولا ذلك لم تتبدّل أحواله بلا ناقل ولا مُدَبِّر).

وذكر الخطابي بعد ذلك كلاماً، ثم قال: (فأمَّا ما ادّعوْه من قبول النطفة بما فيها من القوة الإغتذاء والتربية، فإن ذلك لا يُنكر إذا صح العلم

ص: 34

به في طريق العادات) انتهى (1).

هذا الكلام الأخير، وهو قوله:(فأما ما ادّعوه) إلى آخره .. هو معتقد هؤلاء الدهرية المعطلة الذين غَزَتْ علومهم المسلمين، وطَبّقت الأرض كلها، وتزندق بسببها كثيرون.

وهذا الكلام - أيضاً - على نَسَقِ موضوع هذا الكتاب من حيث قطْع الأسباب عن مُسبّبها - سبحانه -، المتصرف فيها؛ مما نَتج عنه عزل المالك الحق عن ملكه!.

فكلام أرباب هذه العلوم العصرية في الكسوف والزلازل والرياح الشديد العاتية التي تُسبب الأعاصير وغير ذلك من الحوادث الطبيعيّة واحد، وقد تبين الكلام على هذه الأشياء، ويأتي إن شاء الله زيادة بيان، وإنما الكلام هنا على النطفة وكلام الخطابي فيها وهو:(قبول النطفة بما فيها من القوة الإغتذاء).

وهو نَفْس كلام هؤلاء في الخلايا وانقسامها وما تحويه من مَوادّ، فالشيخ الخطابي لا يُنكر هذه الأسباب إذا صحّ العلم بها، لكن تأمل الآن ما يأتي من رَدِّهِ عليهم.

قال رحمه الله بعد الكلام السابق: (ولكن الذي ننكره من ذلك

(1) بيان تلبيس الجهمية لا بن تيمية، 1/ 178 – 179.

ص: 35

أن يكون هذا الفعل للنُّطفة بذاتها من غير مدبِّر دَبَّرها لذلك).

تأمل ما تقدم تعلم أن أرباب هذه العلوم ومَن قلّدهم مغرورون بما حصل لهم من اكتشاف بعض الأسباب والتدقيق فيها بقطعها عن الخالق المدبِّر سبحانه.

ثم إن الخطابي بعد ذلك سَيُبَرْهِن على كلامه السابق، ويفضح الملاحدة، وإخوانهم في وقتنا (الداروينيين / القرديين) بأربعة أمثلة تكشف زَيْفهم وتُظهر إلحادهم:

الأول: قال رحمه الله: (ولو كان هذا جائزاً من غير مُدَبِّر حكيم عالِم قدير يعلم كيف يُدَبِّر النطفة ويُقلبها أطواراً، ويُسوّي منها السمع لِما يصلح له، ويضعه في موضعه، والبصر في مكانه الذي يليق به في البدن، وكذلك تعليق اليدين العاملتين في موضعهما والرجلين الحاملتين في أخصّ المواضع بهما، ووضع كل شيء من القلب والكبد والطحال وسائر الأجسام في الذي هو أملك به وأشكل لِما أُعِدَّ له من الفعل).

الثاني: ثم قال رحمه الله في جواب الشرط: (لَجَاز أن يرتفع الماء من تِلقاء نفسه، ويختلط بالطين، ويقع الطين في قالب اللبن، وينطبع به، ثم يزحف إلى موضع البناء فيرتفع بعضه على بعض فَيَنْتَضِد حتى يكون بناءاً رفيعاً محكماً مشيّداً من غير بانٍ ولا رافع ساق على ساق، بل ينطبع

ص: 36

الماء والتراب بنفسهما لا بشيء سواهما، فإن لم يكن هذا جائزاً لأنه ليس من طبع الماء والتراب أن يكون منهما ما وصَفْت، فكذلك غير جائز تركيب الإنسان وتصويره وتخطيطه على ما عليه الإنسان من جنس الصورة وعجيب التركيب بنفس النطفة وطبعها).

الثالث: ثم قال: (ويُجاز على هذا بطبع الخشب وجود سفينة اجتمعت أجزاؤها، واعتدلت وتماسكت وداخل بعضها بعضا وقرُبَتْ من الساحل معها دَقْلها (1) وآلاتها، يعبر من يريد العبور من المسافرين، ثم تعود بنفسها إلى مركزها ومرْساها كذلك).

الرابع: ثم قال: (ويُجاز بطبع الماء والنار والتربة أن يوجد حَمّام (2) في أسفله نار، وفي بيوته ماء على غاية الاعتدال في الحرارة والرطوبة من غير بانٍ بناه ومُسَخِّن سَخّنَه، ومُدَبِّر دَبَّره.

فإن لم يَجز شيء مما ذكرناه، فلْيكن مثل ما ادّعَوْه من النطفة واجتماع خلْق الإنسان منها من غير مُدَبِّر حكيم دَبّره وأحْكمه، فهذا الدليل يتضمن أن المحدَث لا بُد له من محدِث وأن ما فيه من الحكمة لا بد له من قاصد حكيم) انتهى (3).

(1) الدقل هو: خشبة يُمد عليها شراع السفينة، وتسميها البحرية:" الصاري ".

(2)

المقصود بالحمامات هنا هي التي يُسَخّن فيها الماء للاستحمام، وتوجد في البلاد الباردة مثل الشام.

(3)

بيان تلبيس الجهمية، 1/ 178 - 179.

ص: 37

وأخيراً .. (تمخّض الجمل فَوَلَدَ فأراً)، فالغربيون كأنهم بدأوا يستحيون من نظرية داروين التي تجعلهم أحفاد القِرَدة!، فلجئوا إلى ما سَمَّوْه " التصميم الذكي "، وهذه النظرية ترى أن الخلْق من فعل قوْة خفيّة؛ وعلى كل حال فهذا الاعتقاد يهدم بنيان نظرية داروين إن اعترفوا به وأقرّوه!، ويفضح المقلّدة العُمِي مِن أمثال الزنديق العراقي (معروف الرصافي) الذي يرى أن الأديان ليست وحْياً منزلاً على الأنبياء وإنما هي موضوعة ومُبتدعة!، كذلك الزنديق العراقي (جميل الزهاوي) الذي يفتخر بِقِرْديّته فيقول:

إنْ نحْنُ إلَاّ أقْرُدٌ

مِن نَسْلِ قِردٍ هَالِكِ

فَخْرٌ لَنَا ارْتقاؤنا

فِي سُلًَّمِ الْمَدَارك

ويالَهُ مِن فَخْر!! .. وكل أرباب ملايين السنين المزعومة في الماضي السحيق وأهل السِّجل الجيلوجي والديناصورات الْمُتخيَّلة يرجعون إلى (داروين) وقروده فهو أصلهم ونسبهم، وعلى هذا مَبْنى العلوم العصرية التي يعكف عليها من يدّعي الإسلام، وقد ذكرت ذلك في كتاب (الفرقان في بيان إعجاز القرآن)، ويتبعهم أيضاً أهل ملايين المجرات المزعومة وأهل دوران الأرض.

وليُعلم أنه حتى الإقرار بتصميم ذكيٍّ - كما يقولون - وقوة خفيّة ليس هو الإقرار بمعتقد المسلمين الذين يعتقدون بالخالق لكل شيء

ص: 38

سبحانه، وهو رب العالمين الحي القيوم المتّصف بصفات الجلال والعظمة والعُلوّ فوق عرشه المجيد العظيم الذي فوق سمواته.

وحتى الذي يُقِرّ بهذا الربِّ سبحانه وحياته وما يتّصف به لا يدخل في الإسلام حتى يُقرّ بأنه (لا إله إلا الله)، وتصديقها الإقرار بشهادة (أن محمداً رسول الله) واتّباعه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وأما المتفلسفة وأتباعهم فغايتهم أن يستدلوا بما شاهدوه من الحِسّيات ولا يعلمون ما وراء ذلك، مثل أن يعلموا أن البخار المتصاعد ينعقد سحاباً، وأن السحاب إذا أصْطك حدث عنه صوت، ونحو ذلك؛ لكن علمهم بهذا كعلمهم بأن المني يصير في الرحم، لكن ما الموجب لأن يكون المني المتشابه الأجزاء تُخلق منه هذه الأعضاء المختلفة والمنافع المختلفة على هذا الترتيب المحكم المتقن الذي فيه من الحكمة والرحمة ما بَهَر الألباب؟!) انتهى (1).

هذا هو مذهب أهل العلوم التجريبية الذين يزعمون أنهم لا يؤمنون إلا بالمحسوس، وتأمل قوله:(ولا يعلمون ما وراء ذلك) تجد أن هذه العلوم التي ملأت الدنيا في زماننا تدور على هذا الفلَك - أيْ فلَك الأسباب المقطوعة عن المسبِّب سبحانه وتعالى.

(1) مجموع الفتاوى، 6/ 558.

ص: 39

وهل انعزل الْمَلِك الحق عن ملكه لما عزله الخلق؟! .. لقد {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} ! (1).

وقال ابن القيم - أيضاً - عن الطبيعة: (ولم يعلم هؤلاء الجهال الضُّلاّل أن الطبيعة قوّة وصِفَة فقيرة إلى محلها ومحتاجه إلى حامل لها، وأنها من أدَل الدلائل على وجود أمر مَن طَبَعها وخلقَها وأوْدَعها الأجسام، وجعل فيها هذه الأسرار العجيبة؛ فالطبيعة مخلوق من مخلوقاته، ومملوك من مماليكه وعبيده، مسخّرة لأمره تعالى، مُنْقادة لمشيئته.

ودلائل الصَّنْعَة، وأمارات الخلق، والحدوث وشواهد الفقر والحاجة شاهدة عليها بأنها مخلوقة مصنوعة لا تخلق، ولا تفعل، ولا تتصرف في ذاتها ونفسها، فضْلاً عن إسناد الكائنات إليها) انتهى (2).

وقال رحمه الله عن الطبيعة وتفاعلات عناصرها وآثارها، قال:(فعناصر العالَم ومَوَادّهُ مُنْقادة لربها وفاطرها وخالقها يُصَرِّفها كيف يشاء ولا يسْتعصي عليه منها شيء أراده، بل هي طَوْع مشيئته، مُذَلَّلَة مُنْقادة لقدرته، ومَن أنكر هذا فقد جحد رب العالمين، وكَفَر به، وأنكر ربوبيته) انتهى (3).

(1) سورة غافر، من الآية:83.

(2)

طريق الهجرتين، ص (152).

(3)

كتاب الروح، ص (73).

ص: 40

وقال ابن القيم رحمه الله في كلام له نفيس يضع فيه الطبيعة موضعها الصحيح، وأن الربَّ سبحانه بتصرُّفهِ فيها وتقليبه أحوالها:(يُظهر عليها أثرَ القهر والتسخير والعبودية، وأنها مصرفة مدبرة بتصريف قاهرٍ قادرٍ كيف يشاء، ليدل عباده على أنه هو وحده الفعال لِمَا يريد المدَبِّر لخلقه كيف يشاء، وأن كلَّ ما في المملكة الإلهيةِ طوْعَ قدرته وتحت مشيئته، وأنه ليس شيء يستقل وحده بالفعل إلا الله).

وذكر رحمه الله – أن الأسبابَ هي مظهَر أفعال الربِّ سبحانه وحكمته، ومع ذلك فقد جعل سبحانه للأسباب ما يُعاوِقها ويُمانِعها ويسلبها تأثيرها، فتارة يسلب سبحانه النارَ إحراقها ويجعلها برْداً كما جعلها على خليله بَرداً وسلاماً، (وتارة يمسك بين أجزاء الماء، فلا يتلاقى كما فعل بالبحر لموسى وقومه، وتارة يشق الأجرام السماوية كما شق القمر لخاتم أنبيائه ورسله، وفتح السماء لمصعده وعروجه، وتارة يقلب الجماد حيواناً كما قَلَبَ عصا موسى ثعباناً، وتارة يغير هذا النظامَ ويُطْلِع الشمسَ من مغربها كما أخبر به أصدق خلقه عنه، فإذا أتى الوقت المعلوم فشق السموات وفَطَرها، وَنَثَر الكواكبَ على وجه الأرض، ونَسَفَ جبالَ العالَم ودَكَّها مع الأرض، وكوَّرَ شمسَ العالَم وقَمَرَه، ورأى ذلك الخلائق عياناً .. ظهرَ للخلائق كلهم صدقه وصدقَ رسله وعموم قدرته وكمالها، وأن العالمَ بأسره منقادٌ لمشيئته، طوْع قدرته، لا يستعصي عليه انفعاله لما يشاؤه ويريده

ص: 41

منه، وَعَلِمَ الذين كفروا وكذَّبوا رسلَه من الفلاسفة والمنجمين والمشركين والسفهاء الذين سموا أنفسهم " الحكماء " أنهم كانوا كاذبين) انتهى (1).

ولقد أصبحت الحوادث في زماننا تُنْسَب إلى أسبابها مقطوعة عن مُقَدِّرها ومُدَبِّرها سبحانه وتعالى، ولذلك رحل الخوف من القلوب، أمَّا المؤمن فتنفذ بصيرته من الأسباب، والتعلق بها، والْجَوَلان في محيطها إلى الفاعل الحق سبحانه؛ فيخافه ويرجوه ويُحِبُّه.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (الله سبحانه غطى حقائق الأشياء عن أبصار الخلق بما يُشاهدونه من تعلق المسببات بأسبابها فنسبوها إليها) انتهى (2).

تأمل قوله: (فنسبوها إليها) وكأنه رحمه الله يصف أهل وقتنا، فالكلام عن آية الزلازل إذا وقعت تملأ الدنيا الكتابة عنها، وذكرها، ودقّة التفاصيل في ما تُحدثه من دمار وهلاك، ويُغفل ذكر الله الفاعل، بينما لا يُغفل ذكر (ريختر) ومقياسه، كذلك الأعاصير وغيرها!.

نَعَم .. لقد شُغِل أهل الوقت عن حقائق الأمور بالظواهر والقشور، فلم يَعُدْ للآيات تأثير كما كان في الماضي، حيث يحصل الخوف من مالك الْمُلْك سبحانه، فيرجع الخلق إلى ربهم بالتوبة والذل والانكسار، وهذا من ثمار هذه

(1) مفتاح دار السعادة، 2/ 163.

(2)

مدارج السالكين، 3/ 504.

ص: 42

الآيات، قال تعالى:{وَمَا نُرْسِلُ بِالآياتِ إِلَاّ تَخْوِيفاً} (1)، وقال تعالى:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} (2).

قال ابن القيم رحمه الله عن الزلازل: (ولما كانت الرياح تجول فيها - يعني الأرض -، وتدخل في تجاويفها، وتحدث فيها الأبخرة، وتخفق الرياح، ويتعذّر عليها المنْفذ .. أذِن الله سبحانه لها في الأحيان بالتنفس فتحدث فيها الزلازل العظام، فيحدث من ذلك لعباده الخوف والخشية والإنابة والإقلاع عن معاصيه والتضرع إليه والندم، كما قال بعض السلف - وقد زُلزلت الأرض -: " إن ربكم يسْتعتبكم "، وقال عمر بن الخطاب - وقد زلزلت المدينة - فخطبهم ووعظهم وقال: " لئن عادت لا أساكنكم فيها ") انتهى (3).

تأمل قوله رحمه الله: (فيُحدث من ذلك لعباده الخوف، والخشية، والإنابة، والإقلاع عن معاصيه والتضرع إليه والندم)، وهل يوجد شيء من هذا في زماننا، أم هو الانشغال بـ (ريختر) ومقياسه، وكم هلك بالزلزال؟!، وما الذي دمَّره؟!، وانتهى الأمر!؛ وهذا من علامات الخذلان والْحِرْمان - نسأل الله السلامة والعافية -.

(1) سورة الإسراء، الآية:59.

(2)

سورة آل عمران، الآية:28.

(3)

مفتاح دار السعادة، 1/ 221.

ص: 43

لقد جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (إن المرأةَ إذا خلعت ثيابها في غير بيت زوجها هتكت ما بينها وبين الله عز وجل من حجاب، وإن تطيبت لغير زوجها كان عليها ناراً وشناراً، فإذا استحلوا الزنا وشربوا الخمور بعد هذا وضربوا المعازف غار الله في سمائه فقال للأرض: [تزلزلي بهم]، فإن تابوا ونَزَعوا وإلا هدمها عليهم ")(1)، فتأمل ذلك، ونسأل الله أن يلطف بنا وبالمسلمين، وأن لا يؤاخذنا بذنوبنا ولا بما فعل السفهاء مِنا.

وكذلك الكسوف فإنه يُحَدَّ وقته ومقداره في المواضع المختلفة في الأرض ومُدَّته بتفاصيل دقيقة، وكل ذلك انشغال بالقشور عن الحقيقة، وذلك أن المراد تخويف العباد ليعملوا ما أُمروا به عند وقوع هذه الآيات – كما تقدم بيانه - من التوبة والإقلاع عما يسخط الله، وما نرى هذه الآيات إلا سُلِبَت معناها، بل صارت تزيد الضالين ضلالاً، والمدبرين إعراضاً!.

(1) أخرجه الحاكم في " مستدركه " برقم (8575)، ونعيم بن حماد في " الفتن " برقم (1729) من حديث أنس بن مالك، وقال الحاكم (هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه)، وسيأتي ذكره كاملاً إن شاء الله.

ص: 44

وعن محمد بن جُبير بن مُطْعِم عن أبيه رضي الله عنه قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بَلَغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} (1) .. كاد قلبي أن يطير) (2).

قال ابن كثير رحمه الله: (أي وُجِدُوا من غير مُوجِد؟!، أم همُ الذين أوجدوا أنفسَهم؟! - أي لا هذا ولا هذا -؛ بل الله هو الذي خَلَقَهم وأنشأهم بعد أن لَمْ يكونوا شيئاً مذكوراً) انتهى (3).

ولو فهِم الطبائعيُّون الداروينيون القرديون هذه الآية كما فهِمها جُبيْر رضي الله عنه لَعَلموا يقيناً أن موادَّ العالَم مخلوقة ومُصرَّفة أيضاً، وأنه لاشيء يخلق نفْسه ويُكَوِّنها، ولا ريبَ أنه لوْ قيل لهم:" إن عِمارةً بَنَتْ نفْسها، وسيَّارةً كوَّنَتْ نفْسَها " لقالوا: " هذا مُحال بل لا بُدَّ من صانع ".

وإذا كان هذا يُعلم ببداهة العقل فكيف سَاغَ عزْل الملك المالك المدبِّر عن تصرُّفهِ في مُلكهِ؟!، حتى قريش لم تفعل هذا، ففي القرآن بيان تضرعهم في الشدائد، فأين حتى فِعل (قريش) في زماننا؟!.

(1) سورة الطور، الآية:35.

(2)

رواه البخاري برقم (4573).

(3)

تفسير ابن كثير، 4/ 244.

ص: 45

بهذا الكنزِ العظيم تعرف أن (الطبيعة) ليست مستقلة بذاتها

إن المؤمن معه في الدنيا كنز من كنوز الجنة ورِثَهُ من نبيه صلى الله عليه وسلم يقيس به كل حركة وسكون في هذا الكون لا سيما هذه الآيات العظيمة من الكسوف والزلازل والأعاصير وغيرها، وهذا الكنز هو:(لا حول ولا قوة إلا بالله)(1).

فهذه الكلمة شأنها عظيم - كما ذكر ابن القيم رحمه الله في بيان معناها -، حيث قال: (فإن العالم العلوي والسفلي له تحوّل من حال إلى حال [يعني من سكون إلى حركة، ومن حركة إلى سكون .. على تنوّع ذلك]، وذلك التحوّل لا يقع إلا بقوة يقع بها التحوّل، فكذلك الحول، وتلك القوة قائمة بالله وحده ليست بالتحويل، فيدخل في هذا كل حركة في

(1) أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي موسى الأشعري " عبد الله بن قيس " رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سَفَر، فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(أيها الناس! .. أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمّ ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً بصيراً قريباً، وهو معكم)، قال: وأنا خلفه، وأنا أقول " لا حول ولا قوة إلا بالله "، فقال:(يا عبد الله بن قيس!: ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟)، فقلت: بلى يا رسول الله، قال:(قل: " لا حول ولا قوة إلا بالله ").

ص: 46

العالَم العلوي والسفلي وكل قوة على تلك الحركة) انتهى (1).

تأمل قوله رحمه الله: " وتلك القوة قائمة بالله وحده ليست بالتحويل " .. إن معرفة ذلك معرفة قلب مع التوفيق تخرجك من النظر إلى الأسباب مقطوعة عن الفاعل سبحانه في كل حركة وسكون في الكون لاسيما الآيات الكبرى مثل الأعاصير والزلازل وغيرها كما تقدم بيانه.

قال شيخ الإسلام: (فلفظ " الحوْل " يتناول كل تحوّل من حال إلى حال، و " القوة " هي القدرة على ذلك التحوّل، فَدَلّت هذه الكلمة العظيمة على أنه ليس للعالَم العلوي والسفلي حركة وتحوّل من حال إلى حال، ولا قدرة على ذلك إلا بالله) انتهى (2).

وقال ابن القيم رحمه الله على كلمة (لا حول ولا قوة إلا بالله): (ولما كان الكنز هو المال النفيس المجتمع الذي يخفى على أكثر الناس وكان هذا شأن هذه الكلمة كانت كنزاً من كنوز الجنة فأوتيها النبي صلى الله عليه وسلم من كنزٍ تحت العرش، وكان قائلها أسلم واستسلم لمن أزِمَّة الأمور بيديه وفَوّضَ أمره إليه) انتهى (3).

(1) شفاء العليل، ص (112).

(2)

كتاب " شرح حديث النزول "، ص (186).

(3)

شفاء العليل، ص (112).

ص: 47

ولا عجب .. فإن هذا الكنز العظيم يَعْقِد لك معاقدَ توحيدِ الربوبيةِ الذي هو توحيد فعل الرب سبحانه، ومُلكيَّته، وتدبيره شأنَ مملكته.

كما أن (لا إله إلا الله) تعقد لك معاقدَ توحيد الإلهية والعبودية الذي هو توحيد أفعالك، فيبقى التوحيد الثالث .. وهو الذي يتضمن معرفة الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى.

إن مَن يعتقد استقلال الأسباب بالتأثير معطِّل، ومَن يعتقد أن الاستقلال بالتأثيِر في الكون ليس إلا لقدرة الإله عز وجل لكنه لا يذكره ولا ينقاد لطاعته فهو ضال.

لقد تتابعت آياتٌ من الزلازل والكسوفات والأعاصير والوباء والحروب ولا شيء يتغير إلا زيادة مبارزة الربّ بما يزيد غضبه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ص: 48

الأشياء التي يحصل بها اليقين، وأنواع التفكر والاعتبار

قال شيخ الإسلام رحمه الله فيما يحصل به اليقين، وأنه بثلاثة أشياء:

(أحدها: تدبّر القرآن.

والثاني: تدبر الآيات التي يُحدثها الله في الأنفس والآفاق التي تبين أنه حق - يعني القرآن -.

والثالث: العمل بموجب العلم، قال تعالى:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (1)، والضمير عائد على القرآن [يعني قوله تعالى:{أَنَّهُ الْحَقُّ} ].

ثم قال: (فبيّن سبحانه أنه يُري الآيات المشهودة ليبيّن صِدق الآيات المسموعة مع أن شهادته بالآيات المسموعة كافية).

(1) سورة فصلت، الآية:53.

ص: 49

ثم قال: (وأما الآيات المشهودة فإنه ما يُشْهَد ويُعلَم بالتواتر من عقوبات مكذّبي الرسل ومَن عصاهم، ومِن نَصْرِ الرُّسل وأتباعهم على الوجه الذي وَقَع، وما عُلم مِن إكرام الله تعالى لأهل طاعته، وجَعْل العاقبة لهم، وانتقامه من أهل معصيته، وجَعْل الدائرة عليهم .. فيه عبرة تُبين أمره ونهيه وَوَعْدَه ووعيده، وغير ذلك مما يوافق القرآن) انتهى (1).

وأنا أسُوق هذا عِظَة إلى مَن ظنوا أنهم قد شَبُّوا عن الطوق من قومنا بزعمهم، وفرحوا بما عندهم من العلم .. والله سبحانه يقول:{وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} (2)، لأن الشأن في الانتفاع بالعِظَة، وهي - كما قال ابن القيم رحمه الله: (نوعان: عِظة بالمسموع، وعظة بالمشهود.

فالعِظَة بالمسموع: الانتفاع بما يسمعه من الهدى والرشد والنصائح التي جاءت على لسان الرسل وما أوحي إليهم، وكذلك الانتفاع بالعظة من كل ناصح ومرشد في مصالح الدين والدنيا.

والعِظَة بالمشهود: الانتفاع بما يراه ويشهده في العالَم من مواقع العِبَر، وأحكام القَدَر ومجاريه، وما يشاهده من آيات الله الدالة على

(1) مجموع الفتاوى، 3/ 331 - 332.

(2)

سورة يونس، الآية:101.

ص: 50

صدق رسله) انتهى (1).

فهذه الزلازل والأعاصير وسائر الكوارث التي يُحْدثها الله في الكون عظة بالمشهود، واعتبار لمن يعتبر.

فتفكر الآن بما أحلَّ بِمَن أشبهوا الذين قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} (2) وتشابه صفاتهم؛ قال ابن تيمية رحمه الله: (وأما عَاد [قوم هود – عليه السلام] فذَكَر الله عن عادٍ التجبّر وعِمارة الدنيا)(3).

ولقد كان السلف تُفيدهم الآيات الرجوعَ إلى ربهم، والتوبة من ذنوبهم، وسأذكر في الباب التالي - إن شاء الله - أمثالاً لهذه الأحوال، وما الذي يُؤَمِّننا وقد تعدّى السيل الزُّبى؟!.

(1) مدارج السالكين، 1/ 444.

(2)

سورة فصلت، الآيات: 14 - 15.

(3)

النبوات، ص (57).

ص: 51

ذِكْر حوادث عظيمة من القديم والحديث تبين وقوعَ عذابِ اللهِ وعقابه في الدنيا لمن كفر به وعصَاه، وما في ذلك من العِظة والعبرة لمن يعتبر

وهنا سأنقل من دواوين أهل الإسلام بعضَ ما جرى على المسلمين من الحوادث والكوارث المدهشة لئلا يظن من يَدّعي الإسلام أنه في أمان، فما أهْون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره، ولعلنا نرجع إلى ربنا بتوبة صادقة.

والمراد من نقل بعض ما ذكره العلماء والمؤرخون من هذه الآيات والحوادث العظيمة لِمَا يظهر فيها من العبرة لمن يعتبر والازدجار لمن يزدجر، ونعوذ بالله أن نكون ممن قال الله تعالى عنهم:{وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} (1)، أو الذين قال عنهم:{نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} (2)، أو الذين قال عنهم:{فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} (3).

وفيما يلي بعض ما جرى في القديم والحاضر من العقوبات الربانية

(1) سورة يونس، الآية:101.

(2)

سورة التوبة، الآية:67.

(3)

سورة الحديد، الآية:16.

ص: 52

والآيات الإلهية، وفي أكثر ما سأذكره من هذه الحوادث ذكر ما يفعله الناس أثناء حصولها من الخوف من الله تعالى، ودعائه، والتوبة إليه؛ وهذا هو الذي عليه المؤمن الموفَّق.

• من أحداث سنة (69 هـ):

في سنة تسع وستين أصاب أهل البصرة طاعون جارف، دام لأربعة أيام، فمات في اليوم الأول سبعون ألفاً، وفي اليوم الثاني واحد وسبعون ألفاً، وفي اليوم الثالث ثلاثة وسبعون ألفاً، وأصبح الناس في اليوم الرابع موتى إلا قليلاً من آحاد الناس (1).

• من أحداث سنة (226 هـ):

قال ابن الجوزي: (وفي سنة ست وعشرين ومائتين مُطِر أهل تيماء مطراً وبرَداً كالبيض، فقتل بها ثلثمائة وستين إنساناً، وهدم دوراً، وسُمِع في ذلك صوتٌ يقول:" ارحمْ عبادَك، اعفُ عَن عبادِك "، ونظروا إلى أثرِ قدمٍ طولها ذراع بلا أصابع، وعرضها شبران، الخطوة إلى الخطوة خمس أذرع، أو سِتّ، فاتبعوا الصوت، فجعلوا يسمعون صوتاً،

(1) أنظر: البداية والنهاية 8/ 262؛ وقال ابن كثير: (قال ابن جرير وفي هذه السنة [سنة 66هـ] كان الطاعون الجارف بالبصرة، وقال ابن الجوزي في " المنتظم ": كان في سنة أربع وستين؛ وقد قيل إنما كان في سنة تسع وستين، وهذا هو المشهور الذي ذكره شيخنا الذهبي وغيره) والله أعلم.

ص: 53

ولا يرون شخصاً!) انتهى (1).

• من أحداث سنة (233 هـ):

قال الذهبي في أحداث سنة ثلاث وثلاثين ومائتين: (فيها كانت الزلزلة المهولة بدمشق، دامت ثلاث ساعات، وسقطت الجدران، وهرب الْخَلْق إلى الْمُصَلَّى يَجأرون إلى الله، ومات عدد كبير تحت الرَّدْم، وامتدت إلى أنطاكية، فيقال " إنه هَلَك من أهلها عشرون ألفاً "، وامتدت إلى الموصل، فزعم بعضهم أنه هلك بها تحت الردم خمسون ألفاً) انتهى (2)؛ وكذا قال اليافعي (3).

• من أحداث سنة (240 هـ):

قال السيوطي: (وفي سنة أربعين ومائتين سَمِعَ أهل أخلاط صيحة عظيمة من جوِّ السماء فمات منها خلق كثير، ووقع بَرَدٌ بالعراق كبيض الدجاج، وخُسف بثلاث عشرة قرية بالمغرب)(4).

• من أحداث سنة (242 هـ):

(1) تلقيح فهوم أهل الأثر في عيون التاريخ والسير ص (64)، وقال ابن الجوزي عَقِب ذكر هذه الحادثة:(ذكر جميع ذلك محمد بن حبيب الهاشمي في تاريخه).

(2)

العبر في خبر مَن غَبَر، 1/ 413.

(3)

في: مرآة الجنان وعبرة اليقظان، 2/ 108.

(4)

تاريخ الخلفاء، ص (348).

ص: 54

1 -

قال ابن العماد الحنبلي في أحداث سنة اثنتين وأربعين ومائتين: (وزلزلت الري وجرجان وطبرستان ونيسابور وأصبهان وقُمّ وقاشان، كلها في وقت واحد، وتقطعت جبال، ودنا بعضها من بعض، وسمع للسماء والأرض أصوات عالية).

ثم قال: (وزلزلت الدامغان فسقط نصفها على أهلها فهلك بذلك خمسة وعشرون ألفاً، وسقطت بلدان كثيرة على أهلها)(1).

وقال ابن كثير بأنه في هذه السنة أصاب أهل الرَّي زلزلة شديدة جداً، وتبعتها رجفة هائلة تهدمت منها الدور ومات منها خلق كثير، وخرج بقية أهلها إلى الصحراء (2).

2 -

ووقع في هذه السنة بِحَلب طائر أبيض دون الرخمة في شَهر رمضان فَصَاح:

[يا معشر الناس .. اتقوا الله، الله، الله]؛ وصاح أربعين صوتاً، ثم طار، وجاء من الغد ففعل كذلك، وكتب البريد بذلك، وأشهد عليه

(1) شذرات الذهب، 2/ 99.

(2)

البداية والنهاية، 11/ 4.

ص: 55

خمسمائة إنسان سمعوه (1).

• من أحداث سنة (304 هـ):

في سنة أربع وثلاثمائة وقع الخوف في بغداد من حيوان يقال له " الزبزب" ذكر الناس أنهم يرونه بالليل على الأسطحة، وأنه يأكل الأطفال، ويقطع ثدِيّ المرأة، فكانوا يتحارسون، ويضربون بالطاسات ليهرب، واتخذ الناس لأطفالهم مكابّ، ودام عِدّة ليال (2).

• من أحداث سنة (344 هـ):

في سنة أربع وأربعين وثلاثمائة زلزلت مصر زلزلة صعبة، هدمت البيوت، ودامت ثلاث ساعات، وفزع الناس إلى الله بالدعاء (3).

• من أحداث سنة (346 هـ):

في سنة ست وأربعين وثلاثمائة نقص البحر ثمانين ذراعاً، وظهر فيه جبال وجزائر وأشياء لم تعهد!، وكان بالري ونواحيها زلازل عظيمة،

(1) تاريخ الخلفاء ص (348)، والمنتظم 11/ 295، وتلقيح فهوم أهل الأثر لابن الجوزي ص (64)، وشذرات الذهب 2/ 100، والنجوم الزاهرة 2/ 307.

(2)

تاريخ الخلفاء ص (381)؛ وذكره ابن الأثير في الكامل، 6/ 495؛ والهمداني في تكملة تاريخ الطبري ص (17).

(3)

أنظر: تاريخ الخلفاء، ص (399).

ص: 56

وخسف ببلد الطالقان، ولم يُفلت من أهلها إلا نحو ثلاثين رجلاً، وخُسف بمائة وخمسين قرية من قرى الري، واتصل الأمر إلى حلوان فخسف بأكثرها، وقذفت الأرض عظام الموتى، وتفجرت منها المياه، وتقطع بالريّ جبل، وعُلّقت قرية بين السماء والأرض بمن فيها نصف النهار، ثم خُسِف بها، وانخرقت الأرض خروقاً عظيمة، وخرج منها مياه مُنتنة ودخان عظيم؛ هكذا نقل ابن الجوزي (1).

• من أحداث سنة (425 هـ):

1 -

ذكر ابن كثير أنه في سنة خمس وعشرين وأربعمائة كثرت الزلازل بمصر والشام فهدمت شيئاً كثيراً، ومات تحت الهدم خلق كثير، وانهدم من الرملة ثلثها، وتقطع جامعها تقطيعاً، وخرج أهلها منها هاربين فأقاموا بظاهرها ثمانية أيام، ثم سكن الحال فعادوا إليها، وخُسف بقرية البارزاد وبأهلها وبقرها وغنمها، وساخت في الأرض، وكذلك قرى كثيرة هنالك (2).

2 -

وذكر ابن الجوزي أنه في هذه السنة عَصَفَت ريحٌ سوداء بنصيبين [في العراق]، فألْقت شيئاً كثيراً من الأشجار كالتوت والجوز

(1) المصدر السابق، ص (400).

(2)

البداية والنهاية، 12/ 36.

ص: 57

والعِنّاب، واقْتلعتْ قصراً مُشَيّداً بحجارة وآجر وكِلْس، فألقته وأهله، فهلكوا، ثم سقط مع ذلك مطر أمثال الأكف والزنود والأصابع، وجَزَر البحر من تلك الناحية ثلاث فراسخ، فذهب الناس خلف السمك، فرجع البحر عليهم فهلكوا، وفيها كثر الموت بالخَوَانِيق حتى كان يُغلق الباب على من في الدار كلهم موتى، وأكثر ذلك كان ببغداد، فمات من أهلها في شهر ذي الحجة سبعون ألفاً (1).

• من أحداث سنة (434 هـ):

قال ابن كثير في سنة أربع وثلاثين وأربعمائة: (وفيها وقعت في مدينة تبريز [الفارسية] زلزلة عظيمة، فهدمت قلعتها وسورها ودورها، ومن دار الإمارة عامة قصورها، ومات تحت الهدم خمسون ألفاً)(2).

• من أحداث سنة (441 هـ):

ذكر ابن الجوزي أنه في ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وأربعمائة ارتفعت سحابة سوداء - في أرض العراق -، فزادت على ظلمة الليل، وظهر في جوانب السماء كالنار المضيئة، فانزعج الناس، وخافوا، وأخذوا في الدعاء والتضرع، فانكشف في أثناء الليل بعد ساعة، وكانت

(1) أنظر المصدر السابق.

(2)

البداية والنهاية، 12/ 50.

ص: 58

قد هَبّتْ ريح شديدة جداً قبل ذلك، فأتلفت شيئاً كثيراً من الأشجار، وهدّمت رَوَاشنَ كثيرةٍ في دار الخلافة ودار المملكة (1).

• من أحداث سنة (448 هـ):

قال ابن كثير: (وفي سنة ثمان وأربعين وأربعمائة رجع غلاء شديد على الناس، وخوفٌ ونهبٌ كثير ببغداد، ثم أعقب ذلك فناء كثير بحيث دُفن كثير من الناس بغير غسل ولا تكفين، وغَلَتْ الأشربة وما تحتاج إليه المرضى كثيراً، واعترى الناس موت كثير واغْبَرّ الجو وفسد الهواء؛ قال ابن الجوزي: " وعَمَّ هذا الوباء والغلاء مكة، والحجاز، وديار بكر والموصل وبلاد الروم، وخراسان، والجبال، والدنيا كلها "، هذا لفظه في "المنتظم" قال: " ورد كتاب من مصر أن ثلاثة من اللصوص نقبوا بعض الدور فوُجِدوا عند الصباح موتى، أحدهم على باب النقب، والثاني على رأس الدرجة، والثالث على الثياب التي كَوَّرها ليأخذها فلم يُمْهَل " (2).

• من أحداث سنة (449 هـ):

قال ابن كثير رحمه الله: (ثم دخلت سنة تسع وأربعين وأربعمائة فيها كان الغلاء والفناء مستمرين ببغداد وغيرها من البلاد بحيث خَلَت أكثر

(1) أنظر المصدر السابق، 12/ 59.

(2)

أنظر: البداية والنهاية 12/ 68.

ص: 59

الدور، وسُدّت على أهلها أبوابها بما فيها، وأهلها موتى فيها، ثم صار المارّ في الطريق لا يلقى إلا الواحد بعد الواحد.

وأكل الناس الجيف والنّتَن من قِلّة الطعام، وَوُجِدَ مع امرأة فَخِذ كلب قد اخضَرّ، وشوى رجلٌ صَبِيَّة في الأتون وأكلها!، وسقط طائر ميت من حائط فاحتوشته خمسة أنفس فاقتسموه وأكلوه!.

وورد كتابٌ من بخارى أنه مات في يوم واحد منها ومن معاملاتها ثمانية عشر ألف إنسان، وأُحصي من مات في هذا الوباء من تلك البلاد إلى يوم كُتِبَ فيه الكتاب بألفِ ألفٍ وخمسمائة ألف وخمسين ألف إنسان، والناس يمرّون في هذه البلاد فلا يرون إلا أسواقاً فارغة وطُرقات خالية وأبواباً مغلقة ووحشة وعدم أنيس، وحكاه ابن الجوزي .. قال: وجاء الخبر من أذربيجان وتلك البلاد بالوباء العظيم، وأنه لا يسلم من تلك البلاد إلا العدد اليسير جداً!.

ووقع وباء بالأهواز وبواط وأعمالها وغيرها حتى طَبَّق البلاد، وكان أكثر سبب ذلك الجوع، كان الفقراء يشوون الكلاب، وينبشون القبور، ويشوون الموتى ويأكلونهم، وليس للناس شُغل في الليل والنهار إلا غسل الأموات وتجهيزهم ودفنهم، فكان يُحفر الحفير فيدفن فيه العشرون والثلاثون!.

ص: 60

وكان الإنسان بينما هو جالس إذ انشقّ قلبه عن دم الْمُهجة فيخرج منه إلى الفم قطرة فيموت الإنسان من وقته!.

وتاب الناس وتصدّقوا بأكثر أموالهم فلم يجدوا أحداً يقبل منهم، وكان الفقير تُعْرَض عليه الدنانير الكثيرة والدراهم والثياب، فيقول:" أنا أريد كسرة، أريد ما يسد جوعي " فلا يجد ذلك!، وأراق الناس الخمور وكسروا آلات اللهو ولزموا المساجد للعبادة وقراءة القرآن، وقلَّ دارٌ يكون فيها خمر إلا مات أهلها كلهم!.

ودُخِلَ على مريض له سبعة أيام في النّزْع، فأشار بيده إلى مكان فوجدوا فيه خابية من خمر، فأراقوها، فمات من وقته بسهولة.

ومات رجل في مسجد، فوجدوا معه خمسين ألف درهم فعرضت على الناس فلم يقبلها أحد، فتركت في المسجد تسعة أيام لا يريدها أحد، فلما كان بعد ذلك دخل أربعة ليأخذوها فماتوا عليها، فلم يخرج من المسجد منهم أحدٌ حيّ بل ماتوا جميعاً.

وكان الشيخ أبو محمد عبد الجبار بن محمد يشتغل عليه سبعمائة مُتَفَقِّه فمات وماتوا كلهم إلا اثني عشر نفراً منهم.

وأرسل السلطان رسولاً إلى بعض النواحي، فتلقاه طائفة فقتلوه

ص: 61

وشَوَوْه وأكلوه!) انتهى (1).

• من أحداث سنة (455 هـ):

ذكر ابن كثير أنه في سنة خمس وخمسين وأربعمائة كانت زلزلة عظيمة بواسط وأرض الشام، فهدمت قطعة من سور طرابلس، وفيها وقع بالناس مُوتان (2) بالجدري والفجأة، ووقع بمصر وباء شديد، وكان يخرج منها كل يوم ألف جنازة (3).

• من أحداث سنة (460 هـ):

قال ابن الأثير في أحداث سنة ستين وأربعمائة: (وفيها في جمادى الأولى كانت بفلسطين ومصر زلزلة شديدة، خربت الرملة، وطلع الماء من رؤوس الآبار، وهلك من أهلها خمسة وعشرون ألف نسمة، وانشقت الصخرة بالبيت المقدس، وعادت بإذن الله تعالى، وعاد البحر من الساحل مسيرة يوم، فنزل الناس إلى أرضه يلتقطون منه، فرجع الماء عليهم فأهلك منهم خلقاً كثيراً) انتهى (4).

(1) البداية والنهاية، 12/ 70.

(2)

الموتان بضم الميم، وهو الموت الكثير الوقوع؛ أنظر: لسان العرب لابن منظور 2/ 93.

(3)

البداية والنهاية، 12/ 89.

(4)

الكامل في التأريخ، 8/ 381.

ص: 62

• من أحداث سنة (462 هـ):

قال ابن كثير: (وفي سنة اثنتين وستين وأربعمائة كان غلاء شديد بمصر، فأكلوا الجِيَف والميتات والكلاب، فكان يباع الكلب بخمسة دنانير، وماتت الفِيَلة فأُكلتْ ميتاتها، وأفنيت الدواب فلم يبق لصاحب مصر سوى ثلاثة أفراس بعد أن كان له العدد الكثير من الخيل والدواب؛ ونزل الوزير يوماً عن بغلته فغفل الغلام عنها لضعفه من الجوع، فأخذها ثلاثة نفر فذبحوها وأكلوها فأُخذوا فصُلبوا، فما أصبحوا إلا وعظامهم بادية قد أخذ الناس لحومهم فأكلوها، وظُهِرَ على رجل يقتل الصبيان والنساء ويدفن رؤوسهم وأطرافهم ويبيع لحومهم فَقُتِل وأُكِل لحمه، وكانت الأعراب يقدمون بالطعام يبيعونه في ظاهر البلد لا يتجاسرون يدخلون لئلا يُخطف ويُنهب منهم، وكان لا يجسر أحد أن يدفن ميته نهاراً وإنما يدفنه ليلاً خفية لئلا يُنبش فيؤكل (1).

واحتاج صاحب مصر حتى باع أشياء من نفائس ما عنده، مِنْ ذلك إحدى عشر ألف درع، وعشرون ألف سيف مُحَلّى، وثمانون ألف قطعة بلّور كبار، وخمسة وسبعون ألف قطعة، من الديباج القديم،

(1) وهذا لا يفعله أهل الإيمان والعقل، فذبح بني آدم وأكل لحومهم وأكل لحوم الموتى شيء، وحِل الميتة ونحوها للمضطر شيء آخر.

ص: 63

وبيعت ثياب النساء والرجال، وغير ذلك بأرخص ثمن، وكذلك الأملاك وغيرها (1).

• من أحداث سنة (485 هـ):

في سنة خمس وثمانين وأربعمائة جاء بَرَدٌ شديد عظيم بالبصرة، وَزْن الواحدة منها خمسة أرطال إلى ثلاثة عشر رطلاً، فأتلفت شيئاً كثيراً من النخيل والأشجار، وجاءت ريحٌ عاصف قاصف، فألقت عشرات الألوف من النخيل، فإنا لله وإنا إليه راجعون .. {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير} (2)(3).

• من أحداث سنة (524 هـ):

في سنة أربع وعشرين وخمسمائة وقعت زلزلة عظيمة بالعراق، تهدَّم بسببها دورٌ كثيرة ببغداد، ووَقَع بأرض الموصل مطَرٌ عظيم، فسقط بعضه ناراً تأجج، فأحرقت دوراً كثيرة وخلقاً من ذلك المطر وتهارب الناس، وفيها وُجِدَ ببغداد عقارب طيارة لها شوكتان فخاف الناس منها خوفاً شديداً (4).

(1) البداية والنهاية، 12/ 99.

(2)

سورة الشورى، الآية:30.

(3)

البداية والنهاية، 12/ 139.

(4)

البداية والنهاية، 12/ 200.

ص: 64

• من أحداث سنة (531 هـ):

قال ابن كثير في أحداث سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة: (وفيها كَثُر موتُ الفجأةِ بأصبهان، فمات ألوف من الناس، وأُغلقت دور كثيرة.

وفيها طلع بالشام سحاب أسود أظلمت له الدنيا، ثم ظهر بعده سحاب أحمر كأنه نار أضاءت له الدنيا، ثم جاءت ريح عاصف ألقت أشجاراً كثيرة، ثم وقع مطر شديد، وسقط بَرَد كبار) (1).

• من أحداث سنة (533 هـ):

أما أحداث سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة فقد قال الذهبي فيها: (قال ابن الجوزي: فيها كانت زلزلة عظيمة بجنزة [الفارسية] أتت على مئة ألف وثلاثين ألفاً أهلكتهم، فسمعت شيخنا ابن ناصر يقول:" إنه خسف بجنزة، وصار مكان البلد ماء أسود ".

وأما ابن الأثير فذكر ذلك في سنة أربع الآتية، وأن الذين هلكوا مائتا ألف وثلاثون ألفاً) انتهى (2).

وذكر ابن كثير أنه في هذه السنة زُلزل أهل حلب في ليلة واحدة

(1) المصدر السابق، 12/ 211 - 212.

(2)

العبر في أخبار مَن غبر، 4/ 91.

ص: 65

ثمانين مرة (1).

• من أحداث سنة (544 هـ):

في سنة أربع وأربعين وخمسمائة زُلزلت الأرض زلزالاً شديداً، وتموجت الأرض عشر مرات، وتقطع جبل بحلوان، وانهدم الرباط النهر جوري، وهلك خلق كثير بالبرسام (2) لا يتكلم المرضى به حتى يموتوا (3).

• من أحداث سنة (549 هـ):

قال العاصمي المكي: (وفي " قلادة النحر " في حوادث سنة تسع وأربعين وخمسمائة .. كانت قصة أهل قرية المعلف، وهي قرية بين الكدر والمهجم من أعمال تهامة اليمن، وفي " كفاية المستبصر " هما قريتان اسم أحدهما معلف والأخرى سحلة، أرسل الله عليهما سحابة سوداء فيها رجف، وبرق، وشُعَل نارٍ تلتهب، وريح، فلما رأوا ذلك زالت عقولهم فالتجأ منهم قومٌ إلى المساجد، فغشيهم العذاب فاحتملت الريح أصل القريتين من تحت الثرى بمساكنهم بمن فيها من الرجال والنساء والأطفال

(1) البداية والنهاية، 12/ 215.

(2)

قال المناوي في كتابه (التعاريف، ص 134): (البرسام: ورَم حار، يعرض للحجاب الذي بين الكبد والأمعاء، ثم يتصل إلى الدماغ؛ قال ابن دريد: وهو معرب) انتهى.

(3)

البداية والنهاية، 12/ 225.

ص: 66

والدواب فألقتهم بمكان بعيد نحو خمسة أميال من حيث احتملتهم، فوجدوا حيث ألقتهم صرعى، ولبعضهم أنين وهم صُمٌّ وَبُكْمٌ وعميٌ، فماتوا عن آخرهم يومهم، نسأل الله السلامة والعافية لنا ولجميع المسلمين) انتهى (1).

• من أحداث سنة (552 هـ):

قال شهاب الدين المقدسي عن زلازل هائلة ضربت الشام: (ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وخمس مائة، ففي ليلة تاسع عشر صفر وافت زلزلة عظيمة وتلتها أخرى، وكذا في ليلة العشرين واليوم بعدها، وتواصلت الأخبار من ناحية الشمال بعظيم تأثير هذه الزلازل.

وفي ليلة الخامس والعشرين من جمادى الأولى وافت أربع زلازل وضج الناس بالتهليل والتسبيح والتقديس.

ووردت الأخبار من ناحية الشمال بما يسوء سماعه ويرعب النفوس ذكره بحيث انهدمت حَمَاة وقلعتها، وسائر دورها ومنازلها على أهلها من الشيوخ والشبان والأطفال والنسوان، وهم العدد الكثير والجم الغفير بحيث لم يسلم منهم إلا القليل اليسير!.

(1) سمط النجوم العوالي، 3/ 506.

ص: 67

وأما حَلَب فهدمت بعض دورها وخرج أهلها منها إلى ظاهر البلد، وكفر طاب، وأفامية، وما والاها ودنا منها وبعد عنها من الحصون والمعاقل إلى جبلة، وجبيل، فأثرت بها الآثار المستبشعة، وأتلفت سلمية وما اتصل بها إلى ناحية الرحبة وما جاورها، ولو لم يدرك العباد والبلاد رحمة الله تعالى ولطفه ورأفته لكان الخطب أفظع!.

وقد نَظَم في ذلك مَن قال:

روَّعتنا زَلَازلٌ حادِثاتٌ

هَدَمَتْ حِصْنَ شَيْزَرٍ وَحِمَاهُ

وبلاداً كثيرةً وحصوناً

فإذا مَا رَنَتْ عيونٌ إليهَا

وإذا مَا قَضَى مِنَ اللهِ أمرٌ

حَارَ قلبُ اللبيبِ فيهِ وَمَنْ كَـ

وتراهُ مُسَبِّحاً بَاكِيَ العَيْـ

جَلَّ ربي فِي مُلكهِ وَتعَالَى

.

بقضاءٍ قضاهُ ربُّ السماءِ

أهلكتْ أهلَهُ بسوءِ القضاءِ

وثغوراً موثَّقَاتِ البِنَاءِ

أجرتِ الدمع عِندها بالدماءِ

سَابِقٌ فِي عِبَادِهِ بالمضاءِ

ـانَ له فطنة وَحُسْنُ ذكَاءِ

ـنِ مُروَّعاً مِنْ سَخطةٍ وَبَلَاءِ

عَنْ مَقالِ الْجُهالِ والسُّفَهَاءِ

.

وأما أهل دمشق فلما وافتهم الزلزلة في ليلة الاثنين التاسع والعشرين من رجب ارتاع الناس من هولها، وأجفلوا من منازلهم والمسقف إلى الجامع والأماكن الخالية من البنيان خوفاً على أنفسهم، ووافت بعد ذلك أخرى، ففتح البلد وخرج الناس إلى ظاهره والبساتين والصحراء وأقاموا عدة ليال

ص: 68

وأيام على الخوف والجزع، يسبحون ويهللون ويرغبون إلى خالقهم ورازقهم في اللطف بهم والعفو عنهم.

وفي الرابع والعشرين من رمضان وافت دمشق زلزلة روَّعت الناس وأزعجتهم لِما وقع في نفوسهم مما قد جرى على بلاد الشام من تتابع الزلازل فيها.

ووافت الأخبار من ناحية حَلَب بأن هذه الزلزلة جاءت فيها هائلة، فقلقلت من دورها وجدرانها العدد الكثير وأنها كانت بحماة أعظم مما كانت في غيرها، وأنها هدمت ما كان عمر فيها من بيوت يلتجأ إليها، وأنها دامت فيها أياماً كثيرة، في كل يوم عدة وافرة من الرجفات الهائلة يتبعها صيحات مختلفات تُوفِيِ على أصوات الرعود القاصفة المزعجة، فسبحان من له الحكم والأمر.

وتلا ذلك ردفات متوالية أخف من غيرهن، فلما كان ليلة السبت العاشر من شوال وافت زلزلة هائلة بعد صلاة عشاء الآخرة أزعجت وأقلقت وتلاها في إثرها هزة خفيفة.

وكذا ليلة العاشر من ذي القعدة وفي غدها زلازل، وليلة الثالث والعشرين والخامس والعشرين منه أيضاً زلازل، نفر الناس من هولها إلى الجامع والأماكن المنكشفة، وضجوا بالتكبير والتهليل والتسبيح والدعاء

ص: 69

والتضرع إلى الله تعالى) انتهى (1).

• من أحداث سنة (569 هـ):

ذكر ابن الجوزي في تأريخه " المنتظم " في أحداث سنة تسع وستين وخمسمائة بأنه سقط عندهم ببغداد بَرَد كبار كالنارنج، ومنه ما وَزْنه سبعة أرطال.

ثم أعقب ذلك سيل عظيم وزيادة عظيمة في دجلة لم يُعهد مثلها أصلاً فخرّب أشياء كثيرة من العمران والقرى والمزارع حتى القبور، وخرج الناس إلى الصحراء، وكَثر الضجيج والابتهال إلى الله، حتى فرّج الله عز وجل، وتناقصت زيادة الماء - بحمد الله ومَنِّه -.

وأما الموصل فإنه كان بها نحو ما كان ببغداد، وانهدم بالماء نحو من ألفي دار، واسْتَهْدَم بسببه مثل ذلك، وهلك تحت الهدم خلق كثير (2).

• من أحداث سنة (575 هـ):

ذكر ابن كثير أنه في سنة خمس وسبعين وخمسمائة كانت زلزلة عظيمة انهدمت بسببها قلاعٌ وقرى، ومات خلق كثير من الورى، وسقط من

(1) أنظر كتاب الروضتين في أخبار الدولتين " النورية والصلاحية "، 1/ 332 - 335.

(2)

أنظر: البداية والنهاية، 12/ 273.

ص: 70

رؤوس الجبال صخور كبار، وصادمت بين الجبال في البراري والقفار، مع بُعْدِ ما بين الجبال من الأقطار؛ وفيها أصاب الناس غلاء شديد وفناء شديد وجهد جهيد، فمات خلق بهذا وهذا، فإنا لله وإنا إليه راجعون (1).

• من أحداث سنة (593 هـ):

1 -

ذكر السيوطي أنه (في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة انقض كوكبٌ عظيم سُمِعَ لانقضاضه صوت هائل، واهتزت الدور والأماكن، فاستغاث الناس وأعلنوا بالدعاء، وظنوا ذلك من أمارات القيامة)(2).

2 -

وقال ابن كثير رحمه الله في حوادث هذه السنة: (فيها ورد كتاب من القاضي الفاضل إلى ابن الزكي يخبره فيه: أن في ليلة الجمعة التاسع من جمادى الآخرة أتى عارض [في مصر] فيه ظلمات مُتكاثفة، وبُروق خاطفة، ورياح عاصفة، فَقَوِيَ الجو بها، واشتد هبوبها حتى أثبت لها أعِنَّة مُطْلَقات، وارتفعت لها صفقات، فرجفتْ لها الجدران واصطفقت، وتلاقت على بُعْدِها واعتنقت، وثار السماء عَجَاجاً حتى قيل:" إن هذه على هذه قد انطبقت "، ولا يُحسب إلا أن جهنم قد سال منها وادٍ، وعدا منها عادٍ، وزاد عصف الريح إلى أن أطفأ سُرُج

(1) البداية والنهاية، 12/ 304.

(2)

تأريخ الخلفاء، ص (455).

ص: 71

النجوم، ومزقت أدِيِمَ السماء، ومَحَت ما فوقه من الرقوم، فكنا كما قال تعالى:{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ} (1)!، ويردون أيديهم على أعينهم من البوارق لا عاصم لخطف الأبصار، ولا ملجأ من الخَطْب إلا معاقل الاستغفار، وفرَّ الناس نساءً ورجالاً وأطفالاً، ونفروا من دُورهم خِفَافًا وثقالاً .. لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، فاعتصموا بالمساجد الجامعة، وأذْعنوا [لله] بأعناق خاضعة، ووجوه عانية، ونفُوس عن الأهل والولد سالية، ينظرون من طَرْفٍ خَفي، ويتوقعون أيّ خَطْب جلي، قد انقطعت من الحياة عِلَقُهُمْ، وعَمِيَت عن النجاة طُرُقُهم، ووقعت الفكرة فيما هم عليه قادمون وقاموا إلى صَلاتهم، وَوَدّوا لو كانوا من الذين عليها دائمون) انتهى.

قلت: قارن بين كلام السلف عن الآيات، وما يفعله الناس حين حدوثها من التوبة والرجوع إلى الله، وبين ما نحن فيه من عدم ذكر الله بالكلية حين حدوث الآيات والحوادث، وكلّ ما يحصل مِنَّا هو ذكر الأسباب وآثارها!.

ثم قال القاضي الفاضل: (إلى أن أُذِن بالركود، وأُسْعِف الهاجدون بالهجود، فأصبح كل مسلم على رفيقه يُهنِّيه بسلامة طريقه، ويرى أنه قد

(1) سورة البقرة، الآية:19.

ص: 72

بُعث بعد النفخة، وأفاق بعد الصيحة والصرخة، وأن الله قد رَدّ له الكَرَّة، وأحياه بعد أن كاد يأخذه على غِرّة!.

ووردت الأخبار، بأنها كَسَرت المراكبَ في البحار، والأشجارَ في القِفَار، وأتلفت خَلْقاً كثيراً من السُّفَّار، ومنهم مَن فرَّ فلا ينفعه الفرار).

إلى أن قال: (ولا يحسب المجلس أني أرسلت القلم مُحَرَّفاً، والعلم مُجَوَّفًا، فالأمر أعظم، ولكن الله سَلَّم.

ونرجو أن الله قد أيقظنا بما به وعَظَنا، ونبهنا بما فيه ولهنا، فما من عباده مَن رأى القيامة عياناً، ولم يلتمس عليها من بعد ذلك برهاناً، إلا أهل بلدنا، فمَا قَصَّ الأولون مثلها في المثُلات، ولا سبَقت لها سابقة في المعضلات!.

والحمد لله الذي مِن فضله قد جعلنا نخبر عنها ولا يُخبر عنا، ونسأل الله أن يصرف عنا عارض الحِرص والغرور، ولا يجعلنا من أهل الهلاك والثبور) انتهى (1).

قال تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ? كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ

(1) البداية والنهاية، 13/ 13.

ص: 73

مُسْتَنْفِرَةٌ ? فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} (1).

قال ابن القيم رحمه الله: (شبههم في إعراضهم ونفورهم عن القرآن بِحُمُر رأت الأسد أو الرماة ففرت منه، وهذا من بديع القياس والتمثيل، فإن القوم في جهلهم بما بعث الله به رسوله كالْحُمُر وهي لا تعقل شيئاً، فإذا سمعت صوت الأسد أو الرامي نَفَرت منه أشد النفور، وهذا غاية الذم لهؤلاء، فإنهم نَفَروا عن الهدى الذي فيه سعادتهم وحياتهم كنفور الحمر عما يهلكها ويعقرها) انتهى (2).

• من أحداث سنة (596 هـ):

قال السيوطي: (وفي سنة ست وتسعين وخمسمائة توقف النيل بمصر، بحيث كَسَرها، ولم يُكمل ثلاثة عشر ذراعاً، وكان الغلاء المفرط بحيث أكلوا الْجِيَفَ والآدميين.

وفَشَا أكل بني آدم واشتهر وَرُوِي من ذلك العجب العجاب، وتَعَدَّوْا إلى حفر القبور وأكل الموتى، وتمزّق أهل مصر كل ممزق، وكثُر الموت من الجوع بحيث كان الماشي لا يقع قدمه أو بصره إلا على ميت أو مَن هو في السياق، وهلك أهل القرى قاطبة بحيث إن المسافر يمر بالقرية

(1) سورة المدثر، الآيات من 49 – 51.

(2)

إعلام الموقعين، 1/ 164.

ص: 74

فلا يرى فيها نافخ نار، ويجد البيوت مفتحة وأهلها موتى.

وقد حكى الذهبي في ذلك حكايات يقشعر الجِلْدُ من سماعها، قال:" وصارت الطرق مُزَرَّعة بالموتى وصارت لحومها للطير والسباع، وبيعت الأحرار والأولاد بالدراهم اليسيرة، واستمر ذلك إلى أثناء سنة ثمان وتسعين وخمسمائة ") (1).

• من أحداث سنة (597 هـ):

1 -

قال الذهبي في أحداث سنة سبع وتسعين وخمسمائة: (وفي شعبان كانت الزلزلة العظمى التي عمت أكثر الدنيا)(2).

(وقال صاحب المرآة وغيره: كانت زلزلة عظيمة من الصعيد، هدمت بنيان مصر، فمات تحت الهدم خلق كثير، ثم امتدت إلى الشام والسواحل والجزيرة وبلاد الروم والعراق وتهدم بالشام دور كثيرة، وخسفت قرية من أرض بصرى.

وأما السواحل؛ فهلك بها شيء كثير، وخرِبت مَحَالٌّ كثيرة من طرابلس وصور وعكا ونابلس، ولم يبقَ من نابلس سوى حارة السامرة،

(1) تاريخ الخلفاء، ص (455).

(2)

العبر في خبر مَن غَبَر، 4/ 296.

ص: 75