المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌خطبة بليغة حول الزلازل وأسبابها الشرعية: - التفكر والاعتبار بآيات الكسوف والزلازل والإعصار

[عبد الكريم الحميد]

الفصل: ‌خطبة بليغة حول الزلازل وأسبابها الشرعية:

ومات بها ثلاثون ألفاً تحت الهدم، وخرج الناس إلى الميادين يستغيثون، وسقط غالب قلعة بعلبك، وخرج قوم من بعلبك يجنون الريباس من جبل لبنان، فالتقى عليهم الجبلان، وما توا بأسرهم، وقطعت البحر إلى قبرص وانفرق البحر فصارَ أطواداً، وقذف بالمراكب إلى ساحله، وامتدت إلى ناحية الشرق: خلاط، وأرمينية، وأذربيجان، والجزيرة، وأحصي من هلك في هذه الزلزلة على وجه التقريب، فكان ألفَ ألفِ إنسان.

‌خطبة بليغة حول الزلازل وأسبابها الشرعية:

وقال بعض البلغاء في ذلك:

أما بعد؛ فإنه لَمَّا حدث بِمُلْكِ الشام من الزلازل، ووجد في أكثرها من عظيم البلايا والبلابل، حتى طغَت من أرض الجزيرة إلى بلاد الساحل، وهدمت الحصون والمعاقل، وأخرَبَت مالا يُحصى من الدور والمنازل، وسوَّتِ العالي من البنيان بالأسافل، وأوحشت من أهلها المجالسُ والمحافل، وكَثُرت في الدنيا اليتامى والأرامل، وأجهضت كثيراً من أجِنّةِ الحوامل؛ فكان ما حدَث عِبرة للبيب العاقل، وحسرة على الْمُصِرِّ الغافل، وتنبيهاً على إخلاص التوبة من المتغافل، وإزعاجاً للمتباطيء عن الطاعة والمتثاقل، وما ظَلَم الله عبادَه بإهلاك النسل والناسل، ولكنهم تعاموْا عن الحق، وتمادوْا في الباطل، وأضاعوا الصلوات، وعكفوا على الشهوات

ص: 76

والشواغل، وأهدروا دمَ المقتول، وأرشوْا في ترك القاتل، وارتكبوا الفجور، وشربوا الخمور، وانتشر فسقهم في القبائل، وأكلوا الربا والرِّشا وأموال اليتامى وهي شر المآكل، وزهدوا فيما رُغِّبوا فيه، وطمعوا في الحاصل، ومَن بقي منهم إنما يُستدرج في أيام قلائل، وما جرى على البلاد فعِبرة وموعظة للخارج والداخل، والله يَمُنّ على الإسلام وأهله بفرج عاجل، ويوفقهم للقيام بمرضاته من أداء الفرائض والنوافل، ويكفيهم من عذابه الأليم الهائل، وينجيهم من عقابه الآجل والعاجل، فهو مجيب المضطر ومعطي السائل، وفارج الكرب الفادح والْخَطْب النازل) انتهى (1).

2 -

وقال السيوطي: (وفي سنة سبع وتسعين وخمسمائة - في سَلْخ المحرم [أي في آخره]- ماجت النجوم، وتطايرت تطاير الجراد، ودام ذلك إلى الفجر، وانزعج الخلق، وضجوا إلى الله تعالى) انتهى (2).

والملاحدة في زماننا ومقلدوهم من مرضى القلوب والعقول يقولون " هذا حصل لأجل النجم الفلاني، أو المذنّب الذي يُكمل دورته بعد كذا من السنين " .. وعلى تقدير صحة هذا الكلام فهو من جنس تعليلهم

(1) باختصار من: كشف الصلصلة عن وصف الزلزلة للسيوطي، ص (111 - 114).

(2)

أنظر: تأريخ الخلفاء، ص (455).

ص: 77

كسوف الشمس بأن القمر يصير بينها وبين الأرض فيحجب نورها، وتعليلهم خسوف القمر بأنه يحصل بسبب تغطية ظِل الأرض له حيث تتفق حيلولتها بينه وبين الشمس التي يستفيد نوره منها، ومن جنس تعليلهم الزلازل بأنها أبخرة محتجرة في باطن الأرض فتطلب لها مخرجاً فتحصل الهزات الأرضية كما يسمونها، ومن جنس الأوبئة التي تنتقل بواسطة البهائم أو الحشرات أو غير ذلك، ومن جنس تعليلهم حدوث الأعاصير والفيضانات بأن هذا وقتها.

فالمراد هنا ليس إنكار الأسباب، وإنما المراد تجريد التفات القلب إلى المسبب الذي لا تتحرك ذرة في الكون إلا بتحريكه ولا تسكن إلا بتسكينه، وهذا من توحيد الربوبية.

كذلك فإن المراد - أيضاً - أن هذه آيات يُخَوِّف الله بها عباده ليرجعوا إليه قبل لقائه بتوبتهم مما يغضبه، وهذا من توحيد الإلهية.

فالأول: إثبات الأسباب باعتبارها آلات مُحرَّكة بالتخويف.

والثاني: العمل بمقتضى ما جُعِلَتْ سبباً له، وهو حصول التوبة والإنابة والإقلاع عما يسخط الله.

فالأول: التوحيد العلمي، وهو فعل الرب سبحانه.

والثاني: التوحيد العملي، وهو فعل العبد.

ص: 78

• من أحداث سنة (617 هـ):

في سنة سبع عشرة وستمائة خرج التتار إلى بلاد الإسلام فأحدثوا فيها من الدمار والقتل ما لا يُوصف حتى قال المؤرخ الشهير ابن الأثير الذي عاصر الحادثة [والمتوفى سنة 630] وهو يصف عُظْمَ المصيبةِ التي حلت بالإسلام وأهله آنذاك، قال: (لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدِّم إليه رِجْلاً وأؤخر أخرى، فَمَن الذي يسهل عليه أن يكتب نعيَ الإسلام والمسلمين، ومَن الذي يَهُونُ عليه ذكرَ ذلك؟!، فياليت أمي لم تلدني، ويا ليتني متُّ قبل هذا وكنت نَسْياً مَنسِياً!، إلا أني حَثَّني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها، وأنا متوقف، ثم رأيت أن تَرْكَ ذلك لا يجدي نفعاً، فنقول: هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى التي عَقَمَتِ الأيامُ والليالي عن مثلها، عَمَّت الخلائق، وخصت المسلمين؛ فلو قال قائل: إن العالم مُذ خلقَ الله سبحانه وتعالى آدمَ إلى الآن لم يُبتلوا بمثلها لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها.

ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله بختنصر ببني إسرائيل من القتلِ، وتخريب البيت المقدس، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس!.

ص: 79

وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى مَن قتلوا، فإن أهلَ مدينةٍ واحدةٍ ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يَرَوْن مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج، وأما الدجال فإنه يبقي على مَن اتبعه، ويُهلك مَن خالفه، وهؤلاء لم يُبقوا على أحدٍ، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشَقُّوا بطونَ الحوامل، وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا اليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح، فإن قوماً خرجوا من أطراف الصين فقصدوا بلاد تركستان مثل كاشغر وبلاساغون، ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر مثل سمرقند وبخاري وغيرهما، فيملكونها، ويفعلون بأهلها ما نذكره، ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان، فيفرغون منها ملكاً وتخريباً وقتلاً ونهباً، ثم يتجاوزونها إلى الري وهمذان وبلد الجبل، وما فيه من البلاد إلى حد العراق، ثم بلاد أذربيجان وأرانية ويخربونها، ويقتلون أكثر أهلها، ولم ينج إلا الشريد النادر في أقل من سنة .. هذا ما لم يسمع بمثله!، ثم لما فرغوا من أذربيجان وأرانية ساروا إلى دربندشروان فملكوا مدنه ولم يسلم غير القلعة التي بها ملكهم.

ثم تابعوا الزحف إلى القلعة وبها نحو أربعمائة فارس من المسلمين، فبذلوا جهدهم ومنعوا القلعة اثني عشر يوماً يقاتلون جمع الكفار وأهل البلد فقتل بعضهم، ولم يزالوا كذلك حتى زحفوا إليهم ووصل النقابون إلى

ص: 80

سور القلعة فنقبوه، واشتد حينئذٍ القتال، ومَن بها من المسلمين يرمون بكل ما يجدون من حجارة ونار وسهام، فغضب اللعين ورد أصحابه ذلك اليوم، وباكَرهم من الغد، فجدوا في القتال، وقد تعب مَن بالقلعة ونصبوا وجاءهم مالا قبل لهم به، فَقَهَرهم الكفار، ودخلوا القلعة، وقاتلهم المسلمون الذين فيها حتى قُتلوا عن آخرهم.

ودخل الكفار البلد فنهبوه، وقتلوا مَن وجدوا فيه، وأحاط بالمسلمين فأمر أصحابه أن يقتسموهم، فاقتسموهم وكان يوماً عظيماً من كثرة البكاء من الرجال والنساء والولدان.

وتفرقوا أيدي سبا، وتمزقوا كل ممزق، واقتسموا النساء أيضاً، وأصبحت بخارى خاوية على عروشها، كأن لَمْ تغنَ بالأمس، وارتكبوا من النساء العظيم والناس ينظرون ويبكون ولا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم شيئاً مما نزل بهم، فمنعهم مَن لم يرضَ بذلك واختار الموت على ذلك فقاتل حتى قتل؛ وممن فعل ذلك واختار أن يُقتل ولا يرى ما نزل بالمسلمين الفقيه الإمام ركن الدين إمام زاده وولده، فإنهما لَمَّا رأيا ما يفعل بالحرم قاتلا حتى قُتلا، وكذلك فعل القاضي صدر الدين خان، ومن استسلم أخذ أسيراً، وألقوا النارَ في البلد والمدارس والمساجد وعذبوا الناسَ بأنواع العذاب.

ص: 81

وأما العامة [الذين في مدينة مرو حينما حاصرهم التتار] فإنهم قسموا الرجال والنساء والأطفال فكان يوماً مشهوداَ من كثرة الصراخ والبكاء والعويل، وأخذوا أربابَ الأموالِ فضربوهم وعذبوهم بأنواع العقوبات في طلب الأموال، فربما مات أحدهم من شدة الضرب ولم يكن بقي له ما يفتدي به نفسه، ثم إنهم أحرقوا البلدَ وأحرقوا تربة السلطان سنجر، فبقوا كذلك ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع أمر بقتل أهل البلد كافة وقال: هؤلاء عَصَوْا علينا، فقتلوهم أجمعين، وأمر بإحصاء القتلى فكانوا نحو سبعمائة ألف قتيل، فإنا لله وإنا اليه راجعون مما جرى على المسلمين ذلك اليوم) انتهى (1).

• من أحداث سنة (654 هـ):

ذكر أهلُ العلمِ النارَ التي ظهرت في أرض الحجاز - التي ورد فيها الحديث المخرج في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضئ أعناق الإبل بِبُصْرى "(2) -؛ فقال الحافظ النووي: (وقد خرجت في زماننا نارٌ بالمدينة، سنة أربع وخمسين وستمائة، وكانت ناراً عظيمة جداً من جَنب المدينة الشرقي وراء الحرة،

(1) باختصار شديد من: الكامل في التأريخ لا بن الأثير، 10/ 399 - 423.

(2)

أخرجه البخاري برقم (6701) ومسلم برقم (2902) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً.

ص: 82

تواتر العلم بها عند جميع الشام، وسائر البلدان، وأخبرنى مَن حضرها من أهل المدينة) انتهى (1).

وذكر القرطبي ظهور هذه النار العظيمة، وقد أطال في وصفها، حتى ذكر أنها رُئيت في مكة ومن جِبال بُصْرى في الشام (2).

وقد ذكر ابن كثير رحمه الله عِدّةَ كُتبٍ وردت متواترة إلى دمشق من الحجاز بصفة أمر هذه النار التي شوهدت معاينة؛ وقد اخترت منها كتاباً واحداً أنقله هنا، وفيه بيان أنه في وقت واحد غرقت بغداد واشتعلت أرض الحجاز بالنار التي أخبر بوقوعها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن كثير: (ثم قال أبو شامة: ومن كتاب آخر من بعض بني الفاشاني بالمدينة يقول فيه: " وصل إلينا في جمادى الآخرة نَجّابة من العراق، وأخبروا عن بغداد أنه أصابها غرق عظيم حتى طفح الماء من أعلى أسوار بغداد إليها وغرق كثير منها، ودخل الماء دار الخلافة وسط البلد وانهدمت دار الوزير وثلاثمائة وثمانون داراً، وانهدم مخزن الخليفة، وهلك من خزانة السلاح شيء كثير، وأشرف الناسُ على الهلاك، وعادت السفن تدخل إلى وسط البلدة وتخترق أزقّة بغداد.

(1) شرح النووي على صحيح مسلم، 18/ 28.

(2)

التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة، ص (636).

ص: 83

قال الفاشاني يصف نار الحجاز: وأما نحن فإنه جرى عندنا أمر عظيم .. لَمَّا كان بتاريخ ليلة الأربعاء الثالث من جمادى الآخرة ومن قبلها بيومين عاد الناس يسمعون صوتاً مثل صوت الرعد، فانزعج لها الناس كلهم، وانتبهوا من مراقدهم، وضَجّ الناس بالاستغفار إلى الله تعالى، وفزعوا إلى المسجد، وصلَّوا فيه، وتَمَّت ترجف بالناس ساعة بعد ساعة إلى الصبح، وذلك اليوم كله يوم الأربعاء وليلة الخميس كلها وليلة الجمعة، وصُبح يوم الجمعة ارتجت الأرض رجّة قوية إلى أن اضطرب منار المسجد بعضه ببعض، وسُمع لسقف المسجد صرير عظيم، وأشفق الناس من ذنوبهم، وسَكَنَت الزلزلة بعد صبحِ يوم الجمعة إلى قبل الظهر، ثم ظهرت عندنا بالحرّة وراء قريظة على طريق السوارقيّة بالمقاعد مسيرة من الصبح إلى الظهر نار عظيمة تنفجر من الأرض، فارتاع لها الناس روعة عظيمة، ثم ظهر لها دخان عظيم في السماء ينعقد حتى يبقى كالسحاب الأبيض، فيصل إلى قبل مغيب الشمس من يوم الجمعة، ثم ظهرت النار لها ألْسُنٌ تصعد في الهواء إلى السماء حمراء كأنها القلعة، وعَظُمت، وفزع الناس إلى المسجد النبوي، وأقرّوا بذنوبهم، وابتهلوا إلى الله تعالى، وأتى الناس إلى المسجد من كل فج، ومن النخل، وخرج النساء من البيوت والصبيان، واجتمعوا كلهم، وأخلصوا إلى الله، وغطّت حُمْرة النار السماءَ كلَّها حتى بقي الناسُ في مثل ضوء القمر، وبقيت السماء

ص: 84

كالْعَلَقة، وأيقن الناسُ بالهلاك أو العذاب، وبات الناس تلك الليلة بين مُصَلٍّ، وتالٍ للقرآن، وراكع وساجد، وداع إلى الله عز وجل، ومُتنصِّل من ذنوبه ومستغفر وتائب).

قلت: بالنظر في هذا يُعلم أن الخوف لا ينتفي لِعِلِّة العلم بوقوع الْمَخُوف حيث خاف الناس هذا الخوف العظيم وفزعوا إلى ربهم، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بظهور هذه النار، فكذلك العلم بوقت الكسوف والخسوف لا يتنافى مع الخوف، مع التنبه للفارق بين ظهور النار وهو علم غيب محض لا يمكن العلم به إلا بالوحي وبين وقت حدوث الكسوف .. فهذا يُعلم بحساب سَيْر الشمس والقمر وليس هو من الغيب، والمراد هنا أن علّة عدم خوفنا ليس لمجرد علمنا بأوقات هذه الحوادث وأسبابها، وإنما لاختلاف قلوبنا عن السلف الذين ينتفعون بآيات التخويف حيث تُسْفِر عن آثار طيبة من التوبة والإنابة.

ثم قال الفاشاني: (ولَزِمَتْ النار مكانها، وتناقص تضاعفها ذلك، ولهبها، وصعد الفقيه والقاضي إلى الأمير يعظونه، فَطَرَح الْمَكْس [وهو مثل ما يُسمى: الجمرك، والضرائب]، وأعتق مماليكه كلهم وعبيده، وردّ علينا كل مالنا تحت يده وعلى غيرنا.

وبقيت تلك النار على حالها تلتهب التهاباً وهي كالجبل العظيم ارتفاعاً

ص: 85

، وكالمدينة عَرْضاً، يخرج منها حصىً يصعد في السماء ويهوي فيها، ويخرج منها كالجبل العظيم نار ترمي كالرعْد، وبقيت كذلك أياماً، ثم سالت سيلاناً إلى وادي أجْلين تنحدر مع الوادي إلى الشظا حتى لحق سيلانها بالبحرة بحرّة الحاج، والحجارة معها تتحرك وتسير حتى كادت تقارب حرّة العريض، ثم سكنت ووقفت أياماً، ثم عادت ترمي بحجارة خلفها وأمامها حتى بنت لها جبلين، وما بقي يخرج منها من بين الجبلين لسان لها أياماً، ثم إنها عظمت، وسناؤها إلى الآن، وهي تتّقد كأعظم ما يكون، ولها كل يوم صوت عظيم في آخر الليل إلى ضحوة، ولها عجائب ما أقدر أن أشرحها لك على الكمال، وإنما هذا طرف يكفي، والشمس والقمر منكسفان إلى الآن (1)، وكُتِبَ هذا الكتاب ولها شهر، وهي في مكانها ما تتقدم ولا تتأخر) انتهى (2).

وقد قال بعضهم أبياتاً (3):

يا كاشفَ الضُّرِّ صَفْحاً عَنْ جَرَائِمِنَا

لقدْ أحاطتْ بنا يَا ربُّ بأساءُ

نشكُو إليكَ خُطوباً لا نُطيق لَهَا

حمْلاً ونَحن بها حَقاً أحِقَّاءُ

زلازلٌ تخشَع الصُّمُّ الصِّلَاب لَهَا

وكيف يَقوى على الزلزالِ شَمَّاءُ

عَن منظرٍ منه عينُ الشمسِ عَشْواءُ

(1) يريد ضعف ضوئهما.

(2)

البداية والنهاية، 13/ 189.

(3)

المصدر السابق، 13/ 191.

.

ص: 86

مِنَ الهضابِ لَهَا في الأرضِ إرسَاءُ

أقامَ سَبعاً يَرُجّ الأرضَ فانصدَعَتْ

موجٌ عليهِ لفرطِ البَهْجِ وَعْثَاءُ

بَحرٌ مِنَ النارِ تجري فوقه سُفُنٌ

كأنها دِيِمَة تنصبّ هَطْلاءُ

كَأنما فوقهُ الأجبالُ طافيةٌ

رُعْباً وترعدُ مثل السَّعْفِ أضَوَاءُ

ترمي لَهَا شَرَراً كالقَصْرِ طائشة

أَنْ عادتِ الشمسُ منهُ وَهْيَ دَهْمَاءُ

تنشقّ منها قلوبُ الصخرِ إنْ زَفَرَتْ

فليلةُ التَّمِّ بَعْدِ النُّورِ لَيْلاءُ

مِنها تكاثفَ فِي الجوِّ الدخانُ إلى

بِمَا يُلاقي بها تحتَ الثرى الماءُ

قد أثَّرت سَفْعة في البدْرِ لفحتها

أنْ كادَ يُلحقها بالأرضِ إهْوَاءُ

تُحَدّثُ النَّيِّراتُ السبع ألْسنها

لِ اللهِ يَعْقِلُهَا القومُ الألِبَّاءُ

وقد أحاطَ لظاهَا بالبروجِ إلَى

مِنَّا الذنوبُ وساءَ القلبَ أسْوَاءُ

فيا لَهَا آيةٌ مِن معجزاتِ رَسُو

واصفحْ فكلٌّ لِفَرْطِ الجهلِ خَطّاءُ

فباسمك الأعظمِ المكنونِ إن عَظُمَت

عذابُ عَنهُمْ وعَمّ القومَ نعمَاءُُ

فاسمحْ وهَبْ وتفضَلْ وامحُ واعفُ وجُدْ فقومُ يونسَ لَمَّا آمنوا كُشِفَ الْ

عَلى عُلَا مِنبرِ الأوْرَاقِ وَرْقاءُ

فارحَمْ وصَلِّ على المختارِ مَا خَطَبَتْ

ولو أن هذه الآية كائنة في زماننا لَمَا زاد مقلدة الغرب الملحد من مرضى العقول والقلوب والنفوس على أن هذا بركان مشتعل، وأن درجة حرارته كذا، واتساع فوَّهته كذا، وأن سبب ذلك موادّ منصهرة في باطن الأرض! .. إلى آخر الهذيان الصاد عن الإيمان، بينما لا ذِكر لله في ملكه وفعله، فضلاً عن خوفه سبحانه والتوبة إليه!.

ص: 87

ولا ريب أن مَن سَلَكَ هذا المسلك من أهل زماننا لَوْ عاصروا طوفانَ قومِ نوحٍ عليه السلام، وريحَ عاد، وقلْبَ ديار قوم لوط عليه السلام، وانفلاق البحر لموسى عليه السلام، وغرق فرعون وقومه .. وغير ذلك من آيات العذاب التي أخذ الله بها أعداءَه وأعداءَ رسله لقالوا عن ذلك كله مثل ما يقولونه اليوم في آيات رب العالمين، وهو الفناء مع الأسباب الطبيعية وحْدِها، وعزل مدبِّر الطبيعة وخالقها ومُسبب الأسباب ومقدرها سبحانه!، حتى وإن كان مَن حلَّت بهم عقوباتِ الإله العظيم في وقتنا قد زادوا على ما أتته الأمم المعذبة قبلهم!.

• من أحداث سنة (656 هـ):

إن ما آلت إليه أحوالنا يُخشى من عواقبه، وإن سنن الله لا تتغير، وقد جرت أمورٌ عِظَام على مَن كان قبلنا مع عِظَم الفارق بيننا وبينهم، فليس ما أتوه من المعاصي مقارب لِمَا أتيناه لا بالكثرة ولا بالكيفية وقد سُلِّطَتْ عليهم الأعداء كما جرى على أهل بغداد من التتار سنة ستمائة وست وخمسين.

قال ابن كثير: (في هذه السنة أخَذَتِ التتارُ بغداد، وقتلوا أهلها حتى الخليفة، وانقضت دولة بني العباس فيها؛ وقد سُتِرَتْ بغداد ونُصبت فيها المجانيق والعرّادات وغيرها من آلات الممانعة التي لا ترد من قدر الله سبحانه

ص: 88