المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره أذهب من ذوي العقول عقولهم - التفكر والاعتبار بآيات الكسوف والزلازل والإعصار

[عبد الكريم الحميد]

الفصل: ‌ إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره أذهب من ذوي العقول عقولهم

وتعالى شيئاً كما ورد في الأثر: " لن يغني حذر من قَدَر " وكما قال تعالى: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} (1)، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} (2).

وأحاطت التتار بدار الخليفة يرشقونها بالنبال من كل جانب حتى أُصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حظاياه، جاءها سهمٌ من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك وفزع فزعاً شديداً، وأُحْضر السهم الذي أصابها بين يديه فإذا عليه مكتوب: "‌

‌ إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقَدَره أذهب من ذَوِي العقول عقولهم

! ".

فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز وكثرت الستائر على دار الخلافة.

وكان قدوم " هلاكوخان " بجنوده كلها، وكانوا نحو مائتي ألف مقاتل، ووصل بغداد بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فأحاطوا ببغداد من ناحيتيها الغربية

(1) سورة نوح، من الآية:4.

(2)

سورة الرعد، الآية:11.

ص: 89

والشرقية، ومالُوا على البلد فقتلوا جميع مَن قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبّان، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش وقِني الوسخ، وكمنوا كذلك أياماً لا يظهرون، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة، فيقتلونهم بالأسطحة حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وكذلك في المساجد والجوامع والرُّبَط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى، ومَن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي.

وعادت بغداد بعدما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس وهم في خوف وجوع وذلّة وقلّة، وهذا الأمر لم يُؤرَّخ أبشع منه منذ بنيت بغداد وإلى هذه الأوقات!.

وقد اختلف الناس في كمية من قُتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة فقيل: ثمانمائة ألف، وقيل: ألفُ ألفٍ وثمانمائة ألف، وقيل: بلغت القتلى ألفي ألف، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا وقوة إلا بالله العلي العظيم، وما زال السيف يقتل أهل بغداد أربعين يوماً، وقُتل الخليفة

ص: 90

المستعصم بالله أمير المؤمنين، وقُتل معه ولده الأكبر أحمد، ثم قُتل ولده الأوسط عبد الرحمن، وأُسِرَ ولده الأصغر مبارك، وأسرت بناته الثلاث فاطمة وخديجة ومريم، وأُسر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألف بِكْر فيما قيل، والله أعلم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولما انقضى الأمر المقدّر، وانقضت الأربعون يوماً بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صُورهم، وأنتنتْ من جِيَفهم البلد، وتغيّر الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدّى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغيّر الجو وفساد الريح فاجتمع على الناس الغلاء، والوباء، والفناء، والطعن والطاعون؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولَمَّا نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقِني والمقابر كأنهم الموتى إذا نُبشوا من قبورهم وقد أنكر بعضهم بعضاً، فلا يعرف الوالد ولده، ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد فتفانوْا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى، بأمر الذي يعلم السّر وأخفى {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (1) انتهى (2).

(1) سورة طه، آية:8.

(2)

البداية والنهاية، 13/ 200 - 203.

ص: 91

• من أحداث سنة (718 هـ):

وذكر ابن كثير أنه في سنة ثمان عشرة وسبعمائة وصلت الأخبار في المحرم من بلاد الجزيرة (1)، وبلاد الشرق سنجار والموصل وماردين وتلك النواحي بغلاءٍ عظيم، وفناء شديد، وقلة الأمطار، وخوف التتار، وعدم الأقوات، وغلاء الأسعار، وقِلّة النفقات، وزوال النعم، وحلول النقم، بحيث إنهم أكلوا ما وجدوا من الجمادات والحيوانات والميْتات، وباعوا حتى أولادهم وأهاليهم، فَبِيعَ الولد بخمسين درهماً وأقلّ من ذلك، حتى إن كثيراً لا يشترون من أولاد المسلمين، فكانت المرأة تصرخ بأنها نصرانية لِيُشترى منها ولدها لتنتفع بثمنه، ويحصل له من يطعمه، فيعيش وتأمَن عليه من الهلاك، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ووقعت أحوال صعبة يطول ذكرها، وتنبو الأسماع عن وصْفها.

وذَكر أنه ترحّل منهم قريب الأربعمائة، وأنهم هلكوا في الطريق بسقوط الثلج عليهم، وطائفة أخرى صحبوا التتار، فلما انتهوا إلى عقبة صعدها التتار، ثم منعوهم أن يصعدوها لئلا يتكلفوا بهم، فماتوا عن آخرهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم (2).

(1) ليست جزيرة العرب بل هي بلدة مجاورة للشام وتقع بين دجلة والفرات؛ أنظر: معجم البلدان 2/ 134.

(2)

البداية والنهاية، 14/ 86.

ص: 92

ثم قال: (وفي ثاني صفر جاءت ريح شديدة ببلاد طرابلس، فأهلكت لهم كثيراً من الأمتعة، وقتلت خلقاً منهم، وكسرت الأمتعة والأثاث، وقتلت جِمالاً كثيرة وغيرها، وكانت ترفع البعير في الهواء مقدار عشرة أرماح ثم تلقيه مقطعاً، ثم سقط بعد ذلك مطر شديد، وبَرَدٌ عظيم بحيث أتلف زروعاً كثيرة في قرىً عديدة نحو من أربعة وعشرين قرية) انتهى (1).

• من أحداث سنة (725 هـ):

وقال اليافعي في أحداث سنة خمس وعشرين وسبعمائة: (في جمادى الأولى كان غرق بغداد الْمَهُول، حتى بقيت كالسفينة، وساوى الماء الأسوار، وغرق أمم من الفلاحين، وعَظُمت الاستغاثة بالله، ودام خمس ليال، وعُمِلَت سكور فوق الأسوار، ولولا ذلك - بعد الله - لغرق جميع البلد، وليس الخبر كالعيان، وقيل تهدَّم بالجانب الغربي نحو خمسة آلاف بيت) انتهى (2).

• من أحداث سنة (749 هـ):

1 -

ذكر ابن كثير - أيضاً - أنه في سنة تسع وأربعين وسبعمائة

(1) المصدر السابق.

(2)

مرآة الجنان، 4/ 272.

ص: 93

تواترت الأخبار بوقوع البلاء في أطراف البلاد، فذُكر عن بلاد القِرْم أمر هائل ومُوتان فيهم كثير، ثم ذكر أنه انتقل إلى بلاد الإفرنج حتى قيل إن أهل قبرص مات أكثرهم أو ما يقارب ذلك، وكذلك وقع بغزّة أمر عظيم، وقد جاءت مطالعة نائب غزة إلى نائب دمشق أنه مات من يوم عاشوراء إلى مثله من شهر صفر نحو من بضعة عشر ألفاً، ودعا الناس برفع الوباء عن البلاد، وذلك أن الناس لَمَّا بَلَغَهم من حلول هذا المرض في السواحل وغيرها من أرجاء البلاد يتوهمون ويخافون وقوعه بمدينة دمشق - حماها الله وسلّمها -، مع أنه قد مات جماعة من أهلها بهذا الداء، وكثر الموت في الناس بأمراض الطواعين، وزاد الأموات كل يوم على المائة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وإذا وقع في أهل بيت لا يكاد يخرج منه حتى يموت أكثرهم، وقد توفي في هذه الأيام من هذا الشهر خلق كثير وجمّ غفير ولاسيما من النساء فإن الموت فيهن أكثر من الرجال بكثير كثير، وشرع الخطيب في القنوت بسائر الصلوات والدعاء برفع الوباء، وحصل للناس بذلك خضوع وخشوع وتضرع وإنابة، وكثرت الأموات جدًّا وزادوا على المائتين في كل يوم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وتضاعف عدد الموتى، وتعطلت مصالح الناس، وتأخّرت الموتى عن إخراجهم، وَوَقَّف نائب السلطنة نعوشاً كثيرة في أرجاء البلد واتّسع الناس بذلك ولكن كَثُر الموتى، وخرج الناس إلى الجامع يتضرعون إلى الله

ص: 94

ويسألونه في رفع الوباء عنهم، فصام أكثر الناس، ونام الناس في الجامع وأحْيَوْ الليل كما يفعلون في شهر رمضان.

ولَمَّا أصبح الناس يوم الجمعة خرجوا من كل فج عميق واليهود والنصارى والسامرة والشيوخ والعجائز والصبيان والفقراء والأمراء والكبراء والقضاة من بعد صلاة الصبح، فما زالوا هنالك يدعون الله تعالى حتى تعالى النهار جداً، وكان يوماً مشهوداً، وفي منتصف شهر جمادي الآخرة قَوِيَ الموت وتزايد، وبالله المستعان.

وكان يُصَلَّى في أكثر الأيام في الجامع على أزْيد من مائة ميت، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وبعض الموتى لا يؤتى بهم إلى الجامع، وأما حوْل البلد وأرجائها فلا يعلم عدد من يموت بها إلا الله عز وجل رحمهم الله آمين.

2 -

وحصل بدمشق وما حولها ريح شديدة أثارت غباراً شديداً اصفرّ الجوُّ منه ثم اسودّ حتى أظلمت الدنيا، وبقي الناس نحواً من ربع ساعة يستجيرون الله، ويستغفرون، ويبكون مع ما هم فيه من شدة الموت الذريع، ورجا الناس أن هذا الحال يكون ختام ما هم فيه من الطاعون، فلم يزدد الأمر إلا شدة، وبالله المستعان) انتهى (1).

(1) البداية والنهاية، 14/ 225 – 228.

ص: 95

والآن نذكر أحداثاً قريبة من وقتنا، وأحداثاً في وقتنا أيضاً:

• من أحداث سنة (1187 هـ):

وقال عثمان بن بشر في أحداث سنة سبع وثمانين ومائة وألف: (وفي هذه السنة وقع الطاعون العظيم في بغداد والبصرة ونواحيهما، ولم يبْقَ من أهل البصرة إلا القليل، وذَكَروا أنه مات فيه منهم ثلاث مائة وخمسون ألفاً، ومات من أهل الزبير نحو ستة آلاف)(1).

• من أحداث سنة (1204 هـ):

قال ابن بشر في أحداث سنة أربع ومائتين وألف: (وفيها نزَل على بلَد حريملاء برَد في الشتاء من خوارق العادات، قَتَل ما وَقَع عليه من البهائم والطيور وغيرها، وخسَفَ السطوح والأواني حتى النحاس، وأهلك الأشجار وكسَرها، وأهلك جميعَ زروعهم، وجأروا إلى الله، فَرِحِمَهم ودَفَع عنهم) انتهى (2).

• من أحداث سنة (1247 هـ):

قال ابن بِشر في أحداث سنة سبع وأربعين ومائتين وألف: (وفي هذه

(1) عنوان المجد في تأريخ نجد، 1/ 113.

(2)

عنوان المجد، 1/ 155.

ص: 96

السنة وقع الطاعون العظيم الذي عَمَّ العراق والسواد والمجرَّة وسوق الشيوخ والبصرة والزبير والكويت وما حولها، وليس هذا مثلَ الوباء الذي قبله المسمى " العقاص "، بل هو الطاعون المعتاد - نعوذ بالله من غضبه وعقابه -.

وحل بهم الفناء العظيم الذي انقطع منه قبائل وحمائل، وخلَت من أهلها منازل، وإذا دخل في بيت لم يخرج منه وفيه عينٌ تطْرُف، وجَثَى الناس في بيوتهم لا يجدون مَن يدفنهم، وأموالهم عندهم ليس لها والي، وأنتنت البلدان من جِيَفِ الإنسان، وبقيت الدواب والأنعام سائبة في البلدان ليس عندها من يُعلفها ويسقيها حتى مات أكثرها، ومات بعض الأطفال عطشاً وجوعاً، وخرَّ أكثرهم في المساجد صريعاً لأن أهاليهم إذا أحسوا بالألم رمَوْهُم في المساجد رجاءَ أن يأتيهم مَن يُنقذهم فيموتون فيها لأنها لايُقام فيها جماعة.

وبقيَت البلدان خالية لا يأتي إليها أحد، وفيها من الأموال ما لا يُحصى عدّه إلا الله، فما كان في النصف من ذي الحجة من السنة المذكورة ارتفع بإذن الله تعالى) انتهى (1).

(1) المصدر السابق، 2/ 58 - 59.

ص: 97

هذه الحوادث العظيمة نماذج مما جرى في ديار الإسلام قديماً وحديثاً، ونعوذ بالله أن نكون ممن قال الله تعالى عنهم:{وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَاّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} (1).

إنها آيات فيها اعتبار لمن يعتبر، وازدجار لمن يزدجر، والذي لم أنقله هنا أكثر مما نقلته إذِ المراد بيان ما آلت إليه أحوال العالَم اليوم من الأمان من حلول العقوبات العاجلة قبل يوم القيامة بسبب المعاصي، وأنّ آيات التخويف في وقتنا بدلاً من أن توقظنا من غفلتنا وتردّنا إلى ربنا أصبحت من أسباب زيادة المعاصي والذنوب حيث قُطِعَت عن الخالق وأوقِفَتْ مع أسبابها الطبيعية كما تقدم بيان ذلك فصار هذا بلاء على بلاء، وقد قال تعالى:{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ ? أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ ? أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَاّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} (2).

ثم إن المراد من ذِكْر ما تقدم من هذه الآيات والمصائب العظيمة أنها إذا أصيب بها العباد في الزمن الماضي فإنهم يتوبون إلى ربهم، فيكون في ذلك منفعة لهم بالتذكير، وهذا هو المقصود.

(1) سورة الأنعام، الآية: 4؛ وسورة يس، الآية:46.

(2)

سورة الأعراف الآيات: 96 - 99.

ص: 98

• من أحداث سنة (1424 هـ):

وفي فجر يوم الجمعة الموافق لليوم الثالث من شهر ذي القعدة من سنة أربع وعشرين وأربعمائة وألف وقع زلزال مَهُول ومدمر في مدينة تابعة لـ (بَم) الإيرانية، حتى خلَّف أكثر من ثمانين ألف قتيل، وسوَّى قرى كاملة تابعة لهذه المدينة بالأرض حتى أصبحت قاعاً صفصفاً بإذن الله القوي العزيز.

• من أحداث سنة (1425 هـ):

في وقتٍ كانت تمتلئ فيه شواطئ جنوب شرق آسيا بما لا يحصيهم إلا الله من الكفار والفجار والفسّاق، والزواني والزناة، وأصوات المعازف ومناتن الخمور والمخدرات تملأ تلك الأماكن .. شاء الله - الذي يغار أن تُنتهك محارمه - أن يكتسح البحرُ هؤلاء - الذين كفروا بربهم وعصوْه - بأمواج كالجبال عذاباً لهم وعبرة لغيرهم، وقد كان يوماً مشهوداً من كثرة الصراخ والرعب الشديد الذي أصاب هؤلاء الأقوام من شدة بأس الله حتى لقد قال بعضُ مَن رآهم وهم يركضون هرباً من الأمواج الهائجة: لقد تذكرت قوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ ? لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ? قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ? فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ

ص: 99

حَصِيداً خَامِدِينَ}! (1)، وقد صار ما أصابهم من بأس الله أمراً مهولاً هزت له أصقاع الدنيا.

ففي يوم الأحد الرابع عشر من شهر ذي القعدة من سنة خمس وعشرين وأربعمائة وألف وقع زلزالٌ هائل ضرب قاع المحيط فَنَتَج عنه طوفانٌ عظيم في جنوب شرق آسيا حيث تعاظمت الأمواج الصادرة من قاع البحر ، وتحوَّلت هذه الأمواج في دقائق معدودة إلى طوفان بحري عظيم أسموه بـ (تسونامي) - أيْ موجة الميناء -، وقد أخذ يتجه نحو الشاطئ الممتليء بأولئك الكفرة والفجرة بسرعة 500 كلم في الساعة، ووصل طول موجته إلى أكثر من 40 متراً، أتت بإذن الله القوي العزيز على مُدنٍ وقرى بأكملها مخلفة مشاهدَ خرابٍ لا سابق لها، حيث دُمرت بقوةِ الله سواحلَ بما فيها، وسُوِّيت قرى كاملة بالأرض حتى أصبحت خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مَشِيد، ولم يبقَ سوى حطام المنازل وأطلال المدن بعد أن خلَّف هذا الطوفان العظيم بإذن ربه أكثر من مائتي ألف قتيل ومئات الآلاف من المفقودين وملايين المشردين.

وبعد أن رجع البحر لحالته الطبيعية أسفرت شواطئه التي غمرها بأمواجه الهائجة عن حالة يكفي بعضها ليأخذ منها المسلم العبرةَ والعِظة

(1) سورة الأنبياء، الآيات: 12 - 15.

ص: 100

ليعود إلى ربه عودة صادقة حيث تحولت تلك الشواطئ إلى خراب بلاقع بعد أن كانت جناتٍ زاهية، وأصبح الذين كانوا بالأمس يملئونها بالعري والفساد كأنهم بين الدمار الذي خلفه الطوفان أعجاز نخل خاوية حيث رؤيت جثثهم تملأ المكان وليس عليها ما يسترها!، فلا إله إلا الله القوي العزيز الذي أحال تلك الأماكن ما بين عشية وضُحاها من جناتٍ وكنوز ومقام كريم إلى أماكن يملؤها الدمار والخراب .. قال تعالى:{فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (1)، فهل من معتبر {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} ؟! (2).

وبما أن الحق ما شهدت به الأعداءُ - كما يقال - فقد قرأت لبعض الخبراء الأمريكيين بأن قوة الزلزال الذي تسبب بهذا الطوفان العظيم يمكن تقديرها بالقوة التفجيرية لقرابة مليون قنبلة ذرية!، فلا إله إلا الله القوي العزيز الذي تشهد كل ذرة في الكون على وجوده وقيوميته، وتشهد كل حادثة مدمرة يجريها في الكون كمثل ما ذكرنا على عظمة جبروته وأنه القوي العظيم الذي لا غالب ولا قاهر له.

(1) سورة العنكبوت، الآية:40.

(2)

سورة محمد، الآية:24.

ص: 101

• من أحداث سنة (1426 هـ):

1 -

في صبيحة يوم الاثنين، الموافق للرابع والعشرين من شهر رجب من عامنا هذا - عامَ ستةٍ وعشرين وأربعمائة وألف - ضرب إعصارٌ مدمر غير مسبوق جنوبَ شرقِ (أمريكا)، حتى خلَّف آلاف القتلى ودماراً واسعاً في ثلاث ولاياتٍ أمريكية حتى جعل - بإذن الله - واحدةً منها خاويةً على عروشها وكأن لم تغنَ بالأمس! .. قال تعالى:{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}

(1).

ولقد شَبَّهَ حاكمُ أحدِ الولاياتِ الأمريكية التي ضربها هذا الإعصار العظيم بأن ولايته هذه - الذي أصبح جميع مبانيها حطاماً بسبب الإعصار - كمدينة (هيروشيما) التي دمرتها أمريكا بقنبلة ذرية قبل ستين عاماً (الموافق لـ 28/ 8 / 1363هـ) حتى قُتِل من أهلها وجُرح أكثر من مائة وثلاثين ألفاً وتحولت مبانيها إلى حطام وركام.

وقد قرأت بعض ما أعلنه بعض الناس ممن كان يقيم بهذه الولاية - التي أغرقها الإعصار بأمر ربِّه بفيضانات عظيمة وأمطار لا سابق لها - بأنها قد عَقَدت العَزْم بمحاربة الجبار جل جلاله بالقيام باحتفال كبير - يقومون به كلّ عام، وعلى مدى ثلاثٍ وثلاثين سَنَة -، ويضم اللوطية والزناة من

(1) سورة النمل، الآية:52.

ص: 102

مختلف أنحاء أمريكا والعالَم، ويبدأ هذا الحفل الخبيث - الذي يحضره أكثر من مائةِ ألفٍ من أشباه الرجال، والنساء من كل مكان - بالمعازف الصاخبة، وإذا شَرِبُوا من الخمور حتى الثُّمالة والسُّكْر قاموا بفعل الفواحش من اللواط والزنا والسِّحاق - والعياذ بالله -، ولقد حَلم الله عليهم وأملى لهم أكثر من ثلاثين عاماً، ولكنهم لَمَّا تمادوْا في طغيانهم شاء جبارُ السموات والأرض- الذي لا تتبدل ولا تتغير سُننه في إهلاك الظالمين- أن يغرقهم ويدمر مكانهم الذي هيئوه لهذا الاحتفال الماجن تدميراً، وقبل ثلاثة أيام من إقامته أرسل الله على مدينتهم إعصاراً عظيماً قال رئيسهم (بوش) بأنه لم يسبق لأمريكا أن حلت بها كارثة (طبيعية) كهذه التي خلفها الإعصار بإذن الله حتى صارت تلك الولاية بأسرها ولايةً خاوية على عروشها!؛ فسبحان القوي الجبار الذي يُملي للظالم حتى إذا أخذه لَم يُفلته، وإذا أراد أخْذَه أخَذه أخْذ عزيزٍ مقتدر، فهل من معتبر والله تعالى يقول:{وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} (1)؟!.

وإن مما يبين عُظْم ما حل بالقوم ما أعلنه الأمريكان بأنه قد انتحر من شُرطة هذه الولاية - التي أغرقها الإعصار بأمر ربه بفيضانات مدمرة وأمطار عارمة - قريباً من خمسمائة شرطي، وسبب انتحارهم هو أن نفوسهم لم تستطع تَحَمُّل ما شاهدته من الدمار العظيم الذي حلّ بمدينتهم هذه حتى

(1) سورة هود، من الآية:83.

ص: 103

هلك من ذويهم وأولادهم وأموالهم ومُمْتلكاتهم ما جعلهم يفضلون الموت على أن يبقوْا أحياءاً تتقطع نفوسهم حَسَرات على ما يشاهدونه من العذاب الذي حل بهم، وقد صدق الله:{وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (1).

ولقد خلَّف ذلك الإعصار العظيم خسائرَ ماديةٍ وماليةٍ هائلةٍ قُدرت بأكثر من مائتي مليار دولار.

وما إن حاول القومُ التعافي من بعض صدمة هذا الإعصار المدمر حتى حَلَّ بساحتهم إعصار آخر أسموه بـ (ريتا) في العشرين من شهر شعبان، فزاد الطين بِلَّة، حتى استفحلت خسائرهم في الأرواح والممتلكات والأموال، والحمد لله رب العالمين.

وما يزالون يستفتحون على أنفسهم بمزيد من النكال والعذاب حيث أعلنوا بأن ولاياتهم مقبلة على أنواع شتى من الكوارث، من زلازل وأعاصير مدمرة، وما يسمونه بانفلونزا الطيور، وبراكين هائلة غير مسبوقة تغطي بِحِمَمِها سماء أمريكا وقد تنفجر في أي لحظة كما يقولون؛ ونسأل الله الذي قال:{إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} (2) .. أن يجازيهم في الدنيا بما

(1) سورة التوبة، الآية:85.

(2)

سورة الأنفال، من الآية:19.

ص: 104

استفتحوا به على أنفسهم بأن يدمرهم تدميراً، وأن يجعلهم كأنْ لَمْ يَغْنَوْا بالأمس.

2 – وفي ضحى يوم السبت، الموافق للخامس من شهر رمضان من عامِنا هذا - عام (1426هـ) - ضربَ زلزالٌ عظيمٌ باكستان وكشمير ودولاً بجنوب آسيا، ثم زُلزلت في نفْسِ هذا اليوم قريباً من خمسين مرة - كما ذكرت باكستان -؛ وقد خلَّفت هذه الزلازل العظيمة في باكستان وكشمير قريباً من سبعين ألفَ قتيل، ومثلهم من الجرحى، وملايين المشردين، كمَا دَمَّرتْ قرى كاملة حتى سوَّتها بالأرض؛ نسأل الله السلامةَ والعافية.

وقد أُعلن أنه خلال خمسة عشر عاماً ماضية فقط شَهِد العالَمُ أربعةً وعشرين زلزالاً مَهُولاً ومدمِّراً، فَضْلاً عن الزلازل الصغرى التي أصبحت من كثرتها لا يحصيها إلا الله!، ولا عجب من كثرتها فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بتكاثر الزلازل في آخر الزمان حيث قال:(لا تقوم الساعة حتى تكثر الزلازل)(1).

وقد وقعت آية الزلازل التي ضربت جنوب آسيا بعد كسوف الشمس كَمَا وقعت آية إعصار أمريكا قبله مما يوضح ما تقدم من كلام شيخ الإسلام وتلميذه - رحمهما الله - من مقارنة الحوادث للكسوف في مواضع الكُفر والمعاصي.

(1) أخرجه البخاري برقم (989) و (6704) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 105

ولقد كانت آثار هذه الزلازل التي يخوِّف الله بها عباده ليتوبوا الانشغال بالأسباب وآثارها حتى بلَغ الْهَوَس بمن ترَوَّوْا من علوم الملاحدة أن يُشيروا ببناء مساكن تُقَاوم الزلازل مع الاعتناء بالإنذار المبكِّر .. {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} (1)، وليس للدواء الشافي والْمُعْتَصَم الكافي ذكر الذي هو الرجوع إلى الله بالمتابِ ليندفع عن العباد شرُّ الدنيا والآخرة، قال تعالى:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (2).

ومما يُبيِّن عُظْمَ ما آلت إليه الحالُ أن (قُريشاً) تُخلص لله في الشدة، وتدعوه، وتلجأ وتتضرع إليه؛ بينما لا أثر اليوم لهذا لأن البلاء جاءَ مِن علوم الملاحدة التي شَمِلَت الأرض كلها، ومدارها على التعطيل.

وهذه العقوبات والآيات الأربع الأخيرة قد حلت في وقتنا فيما يُقارب السَّنتَيْن فقط، وقد سُمِّيَ بعضها بأسماء تُبْعدها عن الفاعل سبحانه وتُلْغي ذكره عز وجل، فالطوفان العظيم الذي أغرق جنوب شرق آسيا أسْمَوْه بـ (تسونامي)، وثالثة الأثافِي ذلك الأعاصير العظيمة التي أسموها بـ (كاترينا) و (ريتا) وغيرها (3)، ولا كأن للكون رباً يغضب إذا كُفِر

(1) سورة الحشر، من الآية:2.

(2)

سورة المؤمنون، آية:115.

(3)

وأهل وقتنا يُسمون الفواحش مثل الزنا وعمل قوم لوط بـ (الجنس) و (الشذوذ)، ونحو ذلك مما يُحيل المعنى ويهوِّن هذه الكبائر، كذلك فإن هذه التسمية تلغي حدود الله المنوطة بمسمياتها كما ورد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالحذر من التلاعب بالمسميات الشرعية وتسميتها بغير ما سماه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

ص: 106

به أو انتهكت محارمه، فغاية ما يحصل اليوم من أكثر الناس تجاه هذه الحوادث العظيمة هو الكلام في الأسباب وآثارها بينما الملِكُ المالك سبحانه معزول عن ذلك حيث لا ذِكْر له، ولا خوف منه، ولا رجوع إليه، لا مِمَّن حلّ بساحتهم العذاب، ولا ممَّن أريد منهم الاعتبار والحذر من عقوبات الملك الجبار! .. فيا لَه من عالَم ضالٍّ ومرْذول، قال تعالى:{وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَاّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً} (1)، والمراد: القرى الظالمة؛ ولا تسأل عن هذه المواضع التي أخذها الله بالهلاك والعذاب، والأرض مملوءة مما يشابهها ..

والليالي مِنَ الزمانِ حُبَالَى

مُثقلَاتٍ يَلِدْنَ كُلَّ عَجِيبَهْ!

نسأل الله الرحيم أن يدفع عنا وعن المسلمين البلاء، وأن يُلحق أعداءه بالقرون الأولى.

(1) سورة الإسراء، الآية:58.

ص: 107

الفرق بين عقوبات الله على الكفار وعلى المسلمين

بعض الجهلة يُهَوِّن من شأن عقوبات الله لأعدائه الكفرة بما يحصل للمسلمين كما تقدم أمثله لذلك وكأنّ الأمر مُشْتَرَك دون فارق، وهذا ضَلال.

أما الكفار فيأخذهم الله بكفرهم ولهم عذاب الدنيا والآخرة، ولذلك ذكر الله تعالى في كتابه الكريم أنه أخذ الأمم الكافرة السابقة بالعذاب على تنوعه بسبب ذنوبهم والذي أعظمها الكفر، حيث قال سبحانه:{فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (1)، وقال عز وجل:{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} (2)، وقال تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ

(1) سورة العنكبوت، الآية:40.

(2)

سورة الأنعام، الآية:6.

ص: 108

شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1)، وقال سبحانه:{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} (2).

وأما المسلمون فليس ما يعاقبهم الله به مماثلاً لِما يعاقب به الكفار بل هو أهْون، كذلك فيه تكفير لسيئاتهم وتمحيص لهم، كما أنه موعظة لهم وعِبْرة، كذلك فإن فيه الرحمة والخير الكثير لِمَا يحصل بسببه من توبتهم ورجوعهم إلى مولاهم الحقّ - سبحانه - بالانكسار والذُّل والخوف الذي يحجزهم عن التعرض لسخط ربهم؛ وقد تقدم من الأمثلة ما يوضح هذا - ولله الحمد -.

ومما يُبيِّن كَوْن ما يجري على المسلمين من العقوبات من الزلازل ونحوها يُعتبَر من تكفير السيئات هو ما جاء في الحديث الصحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنَّ أمتي أمةٌ مرحومة، ليس عليها في الآخرة عذاب إلا عذابها في الدنيا: القتل، والبلاء، والزلازل)(3).

ومما يوضح كون هذه الزلازل وغيرها من الكوارث عقاباً على الكافرين وموعظة للمؤمنين ورحمة بهم هو ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه

(1) سورة آل عمران، الآية:11.

(2)

سورة غافر، الآية:21.

(3)

أخرجه الإمام أحمد برقم (19767) وأبو داود برقم (4278).

ص: 109

أنه قال: (دخلت على عائشة رضي الله عنها ورجل معي، فقال الرجل: يا أم المؤمنين حدثينا حديثاً عن الزلزلة، فأعرضت عنه بوجهها، قال أنس فقلت لها: حدثينا يا أم المؤمنين عن الزلزلة؛ فقالت: " يا أنس .. إن حدثتك عنها عشت حزيناً، وبعثت حين تبعث وذلك الحزن في قلبك "، فقلت: يا أماه حدثينا، فقالت: " إن المرأةَ إذا خلعت ثيابها في غير بيت زوجها هتكت ما بينها وبين الله عز وجل من حجاب، وإن تطيبت لغير زوجها كان عليها ناراً وشناراً، فإذا استحلوا الزنا وشربوا الخمور بعد هذا وضربوا المعازف غار الله في سمائه فقال للأرض: [تزلزلي بهم]، فإن تابوا ونَزَعوا وإلا هدمها عليهم "، فقال أنس: عقوبة لهم؟!، قالت: " رحمة وبركة وموعظة للمؤمنين، ونكالاً وسُخطة وعذاباً للكافرين "، قال أنس: فما سمعت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً أنا أشدّ به فرحاً مِنِّي بهذا الحديث، بل أعيش فرحاً وأُبْعث حين أُبْعث وذلك الفرح في قلبي - أو قال -: في نفسي) انتهى (1).

أما في زماننا هذا فلم يَعُدْ في الآيات المتلوّة ولا المشهودة اعتبار ولا ازدجار، بل إن الضلال يزيد إلا ما شاء الله، وما الذي يؤمِّننا من عذاب الله، فليس لنا الْحُلوة وللكفار المرّة إذا سلكنا طريقهم - كما قال ذلك بعض الصحابة، رضي الله عنهم.

(1) أخرجه الحاكم في " مستدركه " برقم (8575)، ونعيم بن حماد في " الفتن " برقم (1729)، وقال الحاكم (هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه).

ص: 110

قال ابن القيم في كتابه (مفتاح دار السعادة) في كلامه عن الجبال: (فهذا حال الجبال وهي الحجارة الصلبة وهذه رِقَّتها وخشيتها وتدكدكها من جلال ربها وعظمته، وقد أخبر عنها فاطرها وباريها أنه لَو أُنزل عليها كلامه لخشعت ولتصدّعت من خشية الله؛ فيا عجباً من مُضغة لحم أقسى من هذه الجبال تسمع آيات الله تتلى عليها ويُذكر الرب تبارك وتعالى فلا تلين ولا تخشع ولا تنيب!، فليس بمستنكر على الله عز وجل ولا يخالف حكمته أن يخلق لها ناراً تذيبها إذْ لم تَلِنْ بكلامه وذِكره وزواجره ومواعظه، فمن لم يَلِن لله في هذه الدار قلبه، ولم يُنِب إليه ولم يُذِبْه بحبه والبكاء من خشيته .. فليستمتع قليلاً، فإن أمامه الْمُلَيِّن الأعظم [يعني النار - نعوذ بالله منها -]، وسَيُرَدّ إلى عالم الغيب والشهادة فيرى ويعلم) انتهى (1).

(1) مفتاح دار السعادة، 1/ 221.

ص: 111