الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجزء الثاني
العصر الأموي
تأليف:
أ. د. عبد الشافي محمد عبد اللطيف
أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة الأزهر
الفصل الأول
*قيام الخلافة الأموية وتطورها
قامت الخلافة الأموية رسميا فى شهر ربيع الأول من سنة (41هـ)، بعد
أن تنازل (الحسن بن على بن أبى طالب) - رضى الله عنه - عن
الخلافة لمعاوية بن أبى سفيان -رضى الله عنه - وبايعه هو وأخوه
(الحسين)، وتبعهما الناس فى (الكوفة)، وأصبح بذلك (معاوية) خليفة
للمسلمين وحده، ولُقِّب بأمير المؤمنين، وكان قبل ذلك يلقَّب بالأمير
فقط.
واستبشر المسلمون خيرًا بهذا التطور، وحمدوا الله - تعالى - على
انتهاء الفتن والحروب، وسمُّوا ذلك العام عام الجماعة؛ حيث عادت
إلى الأمة الإسلامية وحدتها، واجتمع شملها على خليفة واحد، بعد
الفرقة والنزاع، ولقى ما فعله (الحسن بن على) كل تقدير وإجلال من
جمهور المسلمين، وأثنى عليه كثير من العلماء، ورأوا فيما أقدم
عليه تحقيقًا لنبوءة جده (محمد) حين قال: (إن ابنى هذا سيد، ولعل
الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين - صحيح البخارى
تطور نظام الخلافة فى العصر الأموى:
عرفنا فيما سبق كيف قامت الخلافة الإسلامية عقب وفاة الرسول
صلى الله عليه وسلم وكيف كان يتم اختيار الخليفة فى دولة
الراشدين بالبيعة المباشرة من المسلمين لخليفتهم، بعد أن يرشحه
عدد من الصحابة، كما حدث فى خلافة الصديق، حيث بايعه عدد من
الصحابة فى (سقيفة بنى ساعدة) بيعة خاصة، كانت بمثابة ترشيح
له لمنصب الخلافة، ثم جاءت البيعة العامة له فى مسجد الرسول - صلى
الله عليه وسلم - - بعد مواراة جسده الطاهر تحت الثرى - لتزكى ذلك
الترشيح وتوافق عليه، ومن ثم أصبح (أبو بكر الصديق) أول خليفة
لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى حكم الدولة الإسلامية، باختيار
حُر من المسلمين.
وعندما مرض (أبو بكر) -رضى الله عنه - مرض الموت قال للمسلمين:
(إنه قد نزل بى ما ترون - يعنى المرض الشديد - ولا أظننى إلا ميِّتًا
لما بى من المرض، وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتى، وحلَّ عنكم
عقدتى، ورد عليكم أمركم، فأمِّروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن
أمرتم فى حياة منِّى كان أجدر ألا تختلفوا بعدى).
وتصرُّف (أبى بكر الصديق) دليل ساطع وبرهان قوى على أن اختيار
الحاكم من حق الأمة وحدها، لكن الصحابة فوَّضوه فى اختيار خلف
له، وألحُّوا عليه فى ذلك، فقبل تكليفهم، ووقع اختياره على (عمر
بن الخطاب) -رضى الله عنه - لكفاءته وقدرته وسابقته فى الإسلام،
ولم يكتفِ (الصديق) باختياره هو لعمر بن الخطاب، بل استطلع آراء
كبار الصحابة حول مرشحه، مع أنه مفوض من الصحابة فى اختيار
خليفة لهم، ويعلم بأن (عمر) هو أفضل الصحابة بعده، وأصلحهم
لتولِّى الخلافة، لكنه آثر ألا ينفرد وحده باختيار خليفة له.
ولما اطمأنت نفسه إلى أن الغالبية ممن شاورهم تؤيد اختيار (عمر)،
جمع الناس حوله، وحدَّثهم قائلا: (أترضون بمن أستخلف عليكم،
فإنى والله ما آلوت من جهد الرأى، ولا ولَّيت ذا قرابة، وإنى قد
استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، فقالوا:
سمعنا وأطعنا).
ولم تنعقد بيعة (عمر) ليصبح خليفة إلا بعد وفاة (أبى بكر)، وبمبايعة
الناس له بيعة عامة، ولو لم يرضَ الناس بترشيح (أبى بكر)، ورفضوا
مبايعة (عمر)، ما كان لعهد (أبى بكر الصديق) عليهم حجة أو سلطان.
وجاء اختيار (عثمان بن عفان) - رضى الله عنه - ببيعة عامة حرَّة من
بين الستة الذين رشحهم (عمر بن الخطاب) -رضى الله عنه - ليختاروا
واحدًا منهم، وقد حصرها فيهم؛ لأنهم بقية العشرة المبشرين بالجنة،
والذين تُوفِّى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ.
ولما قُتل (عثمان بن عفان) شهيدًا، ألحَّ الصحابة على (علىِّ بن أبى
طالب) أن يقبل الخلافة، بعد أن سادت الفوضى مدينة رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وامتنع كبار الصحابة عن قبول الخلافة، فقبل
علىّ الخلافة؛ لينقذ الأمة من الفتن، وبايعه معظمهم، ولا جدال فى أن
قيام علىّ بالأمر فى ذلك الوقت العصيب كان تضحية تنطوى على
شجاعة حيث تحمل المسئولية فى أصعب الظروف وأدقها.
وكان متوقعًا أن تنهى بيعته بالخلافة حالة الفوضى التى سادت
البلاد بعد مقتل (عثمان)، لكن الأحداث تطورت سريعًا من سيئ إلى
أسوأ، وانتهى به الحال أن قُتل شهيدًا، وقبل وفاته استشاره
أصحابه فى بيعة ابنه (الحسن) بعده، فقال لهم: (لا آمركم ولا
أنهاكم، أنتم أبصر)، لكنهم بايعوا (الحسن)، الذى تنازل عن الخلافة
لمعاوية كما ذكرنا.
وخلاصة ما سبق أن طريقة اختيار الخليفة فى عهد الراشدين كانت
تتم ببيعة حرة وعامة بعد ترشيح شخص أو أكثر، وأن ترشيح
الخليفة السابق لم يكن ملزمًا للأمة، بل لها أن توافق أو تعترض،
وهذا هو نظام الشورى فى الإسلام الذى يشبه فى مصطلحات العصر
الحديث النظام الديمقراطى.
ولم يفكر أى واحد من الخلفاء الراشدين فى أن يعهد بالأمر إلى أحد
من أبنائه أو أقربائه، حرصًا منهم على إبعاد فكرة الوراثة عن نظام
الحكم الإسلامى إبعادًا تاما، وقد وضَّح (أبو بكر الصديق) هذا المعنى
عندما رشَّح (عمر) فى قوله: (أترضون بمن أستخلف عليكم؟ فإنى
والله ما آلوت من جهد الرأى، ولا وليت ذا قرابة)، كما استبعد (عمر
بن الخطاب) ابنه (عبدالله) تمامًا من الترشيح، بل استبعد ابن عمه
(سعيد بن زيد) أيضًا من الترشيح مع أهل الشورى؛ دفعًا لشبهة
القرابة مع أن الشروط تنطبق عليه.
ولم يُؤثَر عن (عثمان) شىء من ذلك، وترك (على بن أبى طالب) الأمر
للأمة لاختيار من ترضاه، ورفض ترشيح ابنه (الحسن) للخلافة أو
الوصاية له بالبيعة.
أسلوب اختيار الخليفة الأموى:
لم يكن أحد يظن أن بيعة المسلمين لمعاوية بن أبى سفيان ستكون
إيذانًا بتأسيس دولة أموية وراثية وكان المسلمون قد استبشروا خيرًا
بهذه البيعة بعد فترة من الفتن والحروب، حتى إن بعض الصحابة
الذين كانوا قد توقفوا فى بيعة (على) - رضى الله عنه - بايعوا
(معاوية)، دعمًا لوحدة الأُمة ولمِّ شملها، مثل:(سعد بن أبى وقاص)
و (عبدالله بن عمر).
وربما توقَّع الناس أن (معاوية) سيحذو حذو من سبقه من الخلفاء
الراشدين ويترك الأمر شورى للمسلمين، يختارون للخلافة من بعده من
يرونه أهلا لتولى تبعات هذا المنصب الجليل، أو سيجتهد فى اختيار
شخص يراه أصلح الناس لتولِّى منصب الخلافة، ويكون بعيدًا عن
قرابته كما فعل الخلفاء قبله، لكن (معاوية) فاجأ الأمة الإسلامية
بترشيح ابنه (يزيد) للخلافة من بعده، وبدأ فى أخذ البيعة له فى
حياته، بدعم من أهل الشام، ولما نجح فى ذلك لم يكن صعبًا عليه أن
ينتزع البيعة لابنه من بقية الأقطار الإسلامية، بالترغيب تارة
وبالترهيب تارة أخرى.
ولم يعارض (معاويةَ) فى خطواته هذه سوى أهل (الحجاز)، الذين
رأوا فى عمله خروجًا على ما ألفه المسلمون فى اختيار خليفتهم
ببيعة حرة قائمة على الشورى، وتركزت المعارضة فى ثلاثة من
أبناء كبار الصحابة، هم (الحسين بن على بن أبى طالب)، و (عبدالله
بن الزبير)، و (عبدالله بن عمر).
وقد تطورت معارضة الأوَّلين إلى خروج (الحسين) على (يزيد) بعد
موت (معاوية)، واستشهاده فى موقعة (كربلاء) المشهورة سنة
(61هـ)، وإلى دعوة (عبدالله بن الزبير) بالخلافة لنفسه بعد موت (يزيد
بن معاوية) سنة (64هـ)، ثم دخوله فى صراع مع الأمويين، انتهى
بمقتله سنة (73هـ)، بعد أن دامت خلافته تسع سنوات، أمَّا (عبدالله
بن عمر)، فقد بايع (يزيد) حفاظًا على وحدة المسلمين، بعد أن رأى
أن استمراره فى معارضته لن يكون فى مصلحة الأمة الإسلامية.
وقد دافع عن عمل (معاوية) كثير من المؤرخين، ورأوا فى صنيعه
عملا ضروريا للحفاظ على وحدة الأمة، واجتناب العودة إلى الحروب
الأهلية، ويقف على رأس هذا الفريق المؤرخ الكبير (عبدالرحمن بن
خلدون) مؤيِّدًا إقدام (معاوية) على هذه الخطوة بقوله: (والذى دعا
معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون سواه إنما هو مراعاة المصلحة
فى اجتماع الناس، واتفاق أهوائهم، باتفاق أهل الحل والعقد حينئذٍ
من بنى أمية؛ إذ بنو أمية يومئذٍ لا يرضون سواهم، وهم عصابة قريش
- أى أكثرهم قوة - وأهل الحل أجمع، وأهل الغلب منهم، فآثره
بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها، وعدل عن الفاضل إلى
المفضول؛ حرصًا على الاتفاق واجتماع الأهواء، الذى شأنه أهم عند
الشارع، لا يظن بمعاوية غير هذا، فعدالته وصحبته مانعة من سوى
ذلك، وحضور أكابر الصحابة لذلك وسكوتهم عليه، دليلٌ على انتفاء
الريب فيه، فليسوا ممن يأخذهم فى الحق هوادة، وليس معاوية ممن
تأخذه العزة فى قبول الحق، فإنهم كلهم أجلُّ من ذلك وعدالتهم
مانعة).
ويدعم (ابن خلدون) رأيه هذا بأن ولاية العهد من الخليفة القائم إلى
شخص يتولى الخلافة بعده أمر جائز لا حرج فيه، فيقول: (قد عرف
ذلك من الشرع بإجماع الأمة على جوازه وانعقاده، إذ وقع من أبى
بكر - رضى الله عنه - لعمر بن الخطاب بمحضر من الصحابة، وأجازوه
وأوجبوا على أنفسهم به طاعة عمر رضى الله عنه وعنهم).
وما قاله (ابن خلدون) يمكن الرد عليه بأن (أبا بكر) عهد إلى (عمر)؛
لأنه رآه أصلح الصحابة لتولى الخلافة بعده وتحمُّل تبعاتها، وقد كان
كذلك بالفعل، ولم تكن تربطه به صلة قرابة قريبة، وقد أوضح ذلك
بقوله: (أترضون بمن أستخلف عليكم؟ فإنى والله ما آلوت من جهد
الرأى، ولا ولَّيت ذا قرابة)، كما أن (عمر) لم يصبح خليفة بترشيح
(أبى بكر الصديق) واختياره له فحسب، بل برضى المسلمين وبيعتهم
له.
ولو أن (معاوية) عهد إلى أحدٍ غير ابنه، واجتهد فى اختيار من هم
أصلح للخلافة بعده، ما اعترض عليه أحد، ولحقَّق الغرض الذى قصده
(ابن خلدون) من ولاية العهد، وهو سد أبواب الخلاف بين المسلمين،
ومن ثم فإن الاعتراضات على تصرف (معاوية) جاءت من اختياره ابنه
لولاية العهد دون سواه، لا من فكرة ولاية العهد نفسها.
وأياً ما كان الأمر فإن الخلافة حُصِرت فى الأسرة الأموية، يتوارثها
الأبناء والإخوة، ولم يكتفِ الخليفة منهم بتولية العهد لواحد فقط، بل
درجوا على تولية أكثر من ولى للعهد، وكان (مروان بن الحكم)
مؤسس الفرع المروانى أول من بدأ هذا التقليد، فقد عهد إلى ابنه
(عبدالملك) ثم (عبدالعزيز) بولاية العهد، وقد تابعه فى هذا كل من
جاء بعده حتى آخر دولتهم، وقد جرَّ هذا الأمر عليهم المتاعب، وأوقد
نار الفتنة والصراع بين أبناء الأسرة الأموية، مما كان له أكبر الأثر
فى تدهور الدولة والإسراع بسقوطها فى نهاية الأمر.
وعلى الرغم من استقرار الخلافة بنظام التوريث فإن الأمويين حافظوا
على نظام البيعة من حيث الشكل فكان الخليفة القائم يعهد من بعده
بولاية الأمر إلى ابنه أو أخيه، ثم تؤخذ البيعة من الناس لمن صدر له
كتاب العهد فى حياة الخليفة القائم، ثم تجدد له بعد وفاته، ومغزى
هذا أنهم كانوا على يقين أن مجرد العهد ليس ملزمًا شرعًا للناس، بل
لابد من البيعة العامة.
الفتوحات الإسلامية فى العصر الأموى:
شهد العصر الأموى أوسع حركات الفتح الإسلامى وأكثرها نشاطًا
فى التاريخ الإسلامى كله بعد فتوحات الخلفاء الراشدين، التى شملت
(العراق) و (بلاد فارس) كلها، و (مصر) والشام، ثم توقفت الفتوحات
الإسلامية، أو كادت تتوقف بسبب الفتن والحروب الأهلية التى حدثت
بين المسلمين.
وقد استأنف المسلمون فتوحاتهم بعد اجتماع شملهم على (معاوية بن
أبى سفيان) وتوحدهم تحت رايته فى عام الجماعة سنة (41هـ)،
وحقق الأمويون أعظم إنجازاتهم على الإطلاق فى ذلك الميدان
العظيم، وامتدت فتوحاتهم إلى مناطق عديدة فى قارات العالم القديم
(آسيا - إفريقيا - أوربا) ففتحوا فى عهد (الوليد بن عبدالملك) بلاد (ما
وراء النهر) (آسيا الوسطى) وإقليم (السند) فى (شبه القارة الهندية)،
واستكملوا فتح الشمال الإفريقى كله من حدود (مصر) الغربية إلى
(المحيط الأطلسى)، ثم عبروا (مضيق جبل طارق) إلى القارة الأوربية،
ليفتحوا (الأندلس)، و (جنوبى فرنسا)، كما استولوا على معظم الجزر
فى (شرقى البحر المتوسط) وشرقيه وجنوبيه، ثم واصلوا ضغطهم
على مدينة (القسطنطينية)، عاصمة الدولة البيزنطية، وحاصروها أكثر
من مرَّة.
التيارات والأحزاب السياسية والدينية:
شغلت الدولة الأموية فى التاريخ الإسلامى إحدى وتسعين سنة (41 -
132هـ)، وامتدت حدودها من حدود (الصين) شرقًا إلى (الأندلس) غربًا،
ومن بحر (قزوين) شمالا إلى (المحيط الهندى) جنوبًا، وعمل خلفاؤها
فى جد ومثابرة وحسن سياسة على نشر الإسلام فى تلك الرقعة
الكبيرة، ونمت الحضارة الإسلامية ونهضت فى عهدهم.
وهذه الأعمال تشهد للأمويين بدورهم البارز فى التاريخ الإسلامى،
وتخفف كثيرًا من النقد الذى وجه إليهم، ومما يزيد المرء إعجابًا
وتقديرًا لإنجازهم أنهم قاموا بتلك الأعمال الجليلة، وهم يصارعون
أعداء أشداء من تيارات وأحزاب سياسية ودينية، لم يتركوا فرصة
للثورة عليهم إلا انتهزوها.
من تلك الأحزاب من تذرَّع بالدين يحارب به، ويتَّهم (بنى أمية) بالخروج
على الدين وقواعده، وأنهم مغتصبون للسلطة، كالخوارج والشيعة.
وهناك شخصيات أعلنت التمرد والثورة على (بنى أمية) لأهداف
شخصية، ولتحقيق طموحات ذاتية، والوصول إلى الحكم بأى ثمن،
مثل (المختار بن أبى عبيد الثقفى)، و (عبدالرحمن بن محمد بن
الأشعث)، و (يزيد بن المهلب).
الخوارج:
كان الخوارج من أنصار (على بن أبى طالب)، وشهدوا معه معركتى
(الجمل) و (صفين)، ثم انشقوا عليه لما قبل التحكيم بينه وبين
(معاوية)، فسمَوا الخوارج، لخروجهم على إمامهم، ولما بالغوا
وتطرَّفوا فى عدائهم له، وعاثوا فى الأرض فسادًا، اضطر إلى
مقاتلتهم فى معركة (النهروان)، ثم عادوا (بنى أمية) ودخلوا فى
صراع طويل معهم.
وكانوا فى مبدأ أمرهم فرقة واحدة، يدور خلافهم مع بقية الأمة حول
الخلافة ومَن أحق بها، ومجمل أمرهم أن الخلافة حق لمن يصلح لها
من المسلمين، وتتوافر فيه شروطها من العلم والأمانة والشجاعة،
وليس من الضرورى أن يكون عربيا فضلا عن أن يكون قرشيا.
ولو أنهم حصروا خلافهم مع غيرهم فى جدل وحوار نظرى يقوم على
مقارعة الحجة بالحجة والدليل بالدليل لما كان فى الأمر شىء، ولكن
الخطر كل الخطر جاء من لجوئهم إلى العنف واستخدام السيف فى
فرض آرائهم، وقد بدأ مع (على بن أبى طالب) مما جعل خصومهم
يواجهون القوة بالقوة، وتكبَّدت الأمة الإسلامية عشرات الآلاف من
الضحايا من أبنائها نتيجة هذه الخصومة العنيفة.
وظل الخوارج فرقة واحدة، تتبنَّى أفكارًا ومبادئ واحدة حتى وفاة
(يزيد بن معاوية) سنة (64هـ)، ثم بدأ الشقاق والخلاف يدب بينهم هم
أنفسهم، فانقسموا فرقًا وأحزابًا، حتى وصل عددهم إلى ثلاثين
فرقة، ثم تطور تفكيرهم بمرور الزمن، وبدءوا يخوضون فى قضايا
تدخل فى صلب الدين، مثل مباحثهم فى مرتكب الكبيرة هل مؤمن أو
كافر، وغير ذلك من القضايا، وأشهر فرق الخوارج التى ناصبت
الدولة الأموية العداء وشنت عليها الحرب، هى:
الأزارقة:
هم أتباع (نافع بن الأزرق)، أحد زعماء الخوارج الكبار، وهى تعد
أشد فرق الخوارج تطرفًا فى أفكارها السياسية والدينية، فهى
ترى الخروج على الخليفة الذى يخالفها فى آرائها وقتاله، وأتباعها
يتبرءون ممن لا يوافقهم على ذلك، ويَعدُّونهم من القاعدين، ويكفرون
مرتكب الذنوب الكبيرة ويحكمون بخلوده فى النار، مخالفين فى ذلك
صريح القرآن الكريم، حيث يقول الله تعالى:} إن الله لا يغفر أن يشرك
به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء {. [النساء: من 48]. ويبيحون دماء
مخالفيهم فى الرأى.
النجدات:
وينسبون إلى (نجدة بن عامر)، وهم أقل تطرفًا من (الأزارقة)؛ لأنهم
لا يقولون بكفر مرتكب الكبائر.
البيهسية:
وينسبون إلى زعيمهم (بيهس)، وهم أقل تطرفًا من (الأزارقة)، ويرون
أن مخالفيهم فى الرأى منافقون، تجرى عليهم أحكام المنافقين،
لكنهم يجيزون حوارهم، والتزاوج معهم، وميراثهم.
الصفرية:
أتباع (زياد بن الأصفر)، وهم كذلك أقل تطرفًا من (الأزارقة)،
ومعتدلون فى أفكارهم.
الشيعة:
تعنى كلمة (الشيعة): الأهل والأتباع والأنصار، كما فى قوله - تعالى،
فى معرض حديثه عن (موسى)، عليه السلام: (فاستغاثه الذى من
شيعته على الذى من عدوهـ). [القصص: من 15].
وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة، بعضهم لبعض، غير أن هذه
الكلمة أصبحت علمًا على أنصار (على بن أبى طالب) -رضى الله عنه -
وذريته من بعده، فإذا قيل: إن فلانًا من الشيعة، عُرف أنه منهم، أو
قيل: فى مذهب الشيعة كذا، أى: عندهم.
وقد نشأ التشيع بسيطًا فى أول الأمر ثم تطور بمضى الزمن، وأصبح
مذهبًا دينيا وسياسيا، كما كان أتباعه فرقة واحدة، شأنهم فى ذلك
شأن الخوارج، ثم لم يلبثوا أن تفرعوا إلى فرق، مثل: (الإمامية الاثنا
عشرية)، و (الزيدية) و (الإسماعيلية).
ويخالف رأى الشيعة فى الخلافة جمهور الأمة الإسلامية التى ترى أن
الخلافة أمر من الأمور العامة، يفوض للأمة أمر البت فى شأنها،
وتختار من تراه الأصلح لدينها ودنياها لتولى منصب الخلافة.
أمَّا هم فيرون أن الإمامة ليست من المصالح العامة التى تفوَّض إلى
الأمة، بل هى ركن من أركان الإسلام، لا يجوز للنبى - صلى الله عليه
وسلم - إغفاله، ولا تفويض الأمة فيه، بل يجب عليه تعيين الإمام للأمة
بعده، وأن الإمام لابد أن يكون معصومًا من الكبائر والصغائر،
ويزعمون أن النبى صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وعيَّن (على بن
أبى طالب)، وقد تعددت ثوراتهم المسلحة ضد الدولة الأموية طلبًا
للخلافة.
انتشار الإسلام فى العصر الأموى:
امتدت الفتوحات الإسلامية من حدود (الصين) إلى (الأندلس)، ومن (بحر
قزوين) إلى (المحيط الهندى)، وأدخلت فى الدولة الإسلامية شعوبًا
كثيرة، مختلفة فى الديانات والمذاهب واللغات والأجناس والثقافات
والعادات والتقاليد، ولم تكن تلك الفتوحات غزوًا عسكريا مستغلا
للشعوب ناهبًا لثرواتها، وإنما كان فتحًا دينيا وثقافيا ولغويا،
فانتشر الإسلام فى البلاد المفتوحة بخطى حثيثة، وتغيرت أوضاعها
السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ويمكن القول: إن هذا العالم الفسيح أصبح عالمًا إسلاميا واحدًا،
فسيادة المسلمين عليه لاتنازع، والإسلام هو الدين الغالب فى سماحة
ورحمة، والحاكم فى عدل، ولم تأخذ المسلمين نشوة النصر والغلبة،
التى قد تحملهم على الكبر والتعالى وإذلال الشعوب المغلوبة، بل
عاملوهم معاملة كريمة، وصانوا أرواحهم وأموالهم وعقائدهم،
وحفظوا عهودهم ومواثيقهم معهم، ووفوا بها فى صدق وإخلاص،
وأشركوا أبناءهم فى حكم بلادهم وإدارتها.
عوامل انتشار الإسلام:
أولا عالمية الإسلام:
لا جدال فى أن الإسلام دين عالمى، ورسالته للجنس البشرى كله؛
لقوله تعالى مخاطبًا نبيَّه صلى الله عليه وسلم: {وما أرسلناك إلا
كافة للناس بشيرًا ونذيرًا}. [النبأ: 28].
وقال تعالى: {قل يا أيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعًا} .
[الأعراف: 158].
وقال النبى صلى الله عليه وسلم: (إن مثلى ومثل الأنبياء من قبلى
كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية،
فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وُضعت هذه
اللبنة؛ فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين). [صحيح البخارى].
وليس معنى عالمية الإسلام أن يُنشَر بالقوة وبحد السيف، كما يزعم
أعداء الإسلام، ولكن بالحكمة والموعظة الحسنة كما أمر النبى - صلى
الله عليه وسلم -.
- ثانيًا: التسامح:
تعامل المسلمون الفاتحون مع أبناء الشعوب المفتوحة بتسامح
ورحمة، وقد شهد بذلك غير المسلمين، فيقول (جوستاف لوبون): (لم
يعرف التاريخ فاتحًا أرضى من العرب).
وليس أدل على وجود هذه السياسة المتسامحة من رد (أبى عبيدة بن
الجراح) الجزية التى أخذها من أهل (حمص) إليهم، حين اضطر إلى
الانسحاب من (حمص) للدفاع عن (دمشق)، ولما سألوه فى دهشة عن
سبب ذلك، قال لهم: (إنما رددنا عليكم أموالكم، لأنه بلغنا ما جُمِع لنا
من الجموع - يقصد الروم الذين تجمَّعوا للهجوم على دمشق- وإنكم قد
اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، فرددنا عليكم ما
أخذنا منكم).
فقال أهل (حمص): (لولايتكم وعدلكم أحب إلينا لحاكمنا فيه من الظلم
والغشم -يقصدون الحكم البيزنطى- وردَّكم الله إلينا سالمين، والله لو
كانوا هم ما ردُّوا علينا شيئًا).
- ثالثًا: إشراك أبناء البلاد المفتوحة فى إدارة بلادهم:
أدرك المسلمون أن سير الأمور فى البلاد المفتوحة سيرًا حسنًا،
وتحقيق مصالح أهلها يكمُن فى الأسلوب الإدارى الذى سيتبعونه
فى إدارة البلاد، ومن ثم لم يترددوا فى الاحتفاظ بالنظم الإدارية التى
وجدوها فى البلاد سواء التى كانت تابعة للدولة البيزنطية مثل (مصر)
و (الشام) و (شمالىّ إفريقيا)، أو التى كانت تابعة للفرس، مثل
(العراق) وبلاد فارس نفسها، ولم يكتفوا بذلك، بل طوروا من النظم ما
يرونه ضروريا، ليتفق مع دينهم ونظامهم السياسى والاجتماعى
القائم على أسس من الشريعة الإسلامية، وما يحقق الصالح العام
للدولة وللأمة.
وكان (عمر بن الخطاب) هو أول من سنَّ هذه السنة، فاقتبس نظام
الدواوين، الذى يشبه نظام الوزارات فى الدولة الحديثة من النظم
الفارسية والبيزنطية، ولم يجد غضاضة فى ذلك.
ولم يقف المسلمون عند حد الاستفادة من النظم الإدارية التى وجدوها
فى البلاد المفتوحة، بل أبقوا أيضًا على الجهاز الإدارى الذى يسيِّر
العمل، واحتفظوا لأنفسهم بالمناصب العليا كالإمارة، وقيادة الجيش
والقضاء والشرطة.
وإزاء هذه السياسة كان المجال رحبًا أمام أبناء البلاد المفتوحة
الذين لم يعتنقوا الإسلام للوصول إلى المناصب العليا فى الجهاز
الإدارى، التى كانوا محرومين من توليها فى ظل الحكومات السابقة
على الفتح الإسلامى، على حين كان الطريق مفتوحًا لمن يسلم منهم
للوصول إلى مناصب الإمارة أو قيادة الجيوش، مثل (طارق بن زياد)
الذى كان من أصل بربرى، لكنه صار من كبار الفاتحين، وفى ذلك
يقول أحد الباحثين: (إن روح الإسلام الحقَّة هى التى حفَّزت العرب
إلى اتباع سياسة التسامح الدينى نحو المصريين .. أى أن الأقباط
أصبحوا يتمتعون بحرية تامة فى الدين، كما أصبح لهم نصيب كبير
فى إدارة بلادهم .. ولم يقتصر القبط على الأعمال الإدارية الصغيرة،
بل شقوا طريقهم إلى أعمال لها خطورتها، ففى ولاية عبد العزيز بن
مروان على مصر (65 - 85هـ) كان هناك كاتبان قبطيان لإدارة مصر،
واحد لمصر العليا - الصعيد - والآخر لمصر السفلى - الدلتا - بل أكثر من
ذلك فقد تولَّى ولاية الصعيد والٍ قبطى اسمه بطرس .. كما كان حاكم
مريوط قبطيا اسمه تاوناس).
ولم يحدث هذا فى (مصر) وحدها بل كان ذلك فى البلاد المفتوحة
كلها، ففى الشام - مقر الدولة الأموية - بقى أهم الدواوين وأخطرها،
وهو ديوان الخراج - الذى يمثل وزارة المالية فى الوقت الحاضر - فى
أيدى المسيحيين من أسرة (سرجيوس الرومى).
ونتيجة لهذه السياسولاية عبد العزيز بن مروان على مصر (65 - 85هـ)
كان هناك كاتبان قبطيان لإدارة مصر، واحد لمصر العليا - الصعيد -
والآخر لمصر السفلى - الدلتا - بل أكثر من ذلك فقد تولَّى ولاية
الصعيد والٍ قبطى اسمه بطرس .. كما كان حاكم مريوط قبطيا اسمه
تاوناس).
ولم يحدث هذا فى (مصر) وحدها بل كان ذلك فى البلاد المفتوحة
كلها، ففى الشام - مقر الدولة الأموية - بقى أهم الدواوين وأخطرها،
وهو ديوان الخراج - الذى يمثل وزارة المالية فى الوقت الحاضر - فى
أيدى المسيحيين من أسرة (سرجيوس الرومى).
ونتيجة لهذه السياسة شعر أهل الذمة - اليهود والنصارى - بالأمان
والاطمئنان، فأقبلوا على اعتناق الإسلام فى حرية تامة ودون إكراه.
- رابعا: الأوضاع الدينية فى البلاد المفتوحة:
أقبل كثير من أبناء البلاد المفتوحة على اعتناق الإسلام لبساطته
وملاءمته للفطرة الإنسانية، ولعدم اقتناعهم بالأديان التى كانت
سائدة فى بلادهم، ومعظمها كانت ديانات وضعية وثنية
كالزرادشتية، و (البوذية)، و (المانوية) و (المزدكية)، حتى (اليهودية)
و (النصرانية) دخلها الزيف والتحريف والتعقيد، وأصبحت كل منهما
تستعصى على الفهم. يقول أحد الباحثين المسيحيين: (ومن المرجح
أن تأثير المسيحية فى السواد الأعظم من شعب مصر كان قليلا فى
القرن السابع - عند الفتح الإسلامى لها- وأن التعليقات النظرية التى
استغلها زعماؤهم فى إثارة شعور الكراهية والمقاومة فى وجه
الحكومة البيزنطية، كان يمكن أن يدركها عدد قليل جدا من الناس،
كما أن سرعة انتشار الإسلام قد تكون راجعة إلى عجز ديانة
كالديانة المسيحية، وعدم صلاحيتها للبقاء، أكثر من أن تكون راجعة
إلى الجهود الظاهرة التى قام بها الفاتحون لجذب الآهلين إلى
الإسلام).
- خامسًا: أثر سياسة الدولة الأموية فى انتشار الإسلام:
حافظ الأمويون على روح التسامح الإسلامى فى سياستهم للبلاد
المفتوحة إلى حد كبير، فالتزموا بنصوص المعاهدات وروحها التى
أعطيت لأهالى تلك البلاد، فلم ينكثوا عهدًا أو ينقضوا معاهدة، وإذا
حدث شىء من هذا فإن الدولة تسارع بتصحيح الخطأ، ولم تذكر
المصادر التاريخية سوى حدث واحد من هذا القبيل وقع فى العصر
الأموى، حين نقض (قتيبة بن مسلم) عهده مع أهل (سمرقند)، وكان
قد دخل مدينتهم بناءً على اتفاق معهم على أن يخرج منها بعد أن
يبنى فيها مسجدًا، لكنه لم يخرج منها ناقضًا اتفاقه معهم، فشكوا
إلى (عمر بن عبدالعزيز)، فأمر الوالى بأن يحقق فى المسألة
بإنصاف، فحكم القاضى المسلم بإخراج المسلمين من (سمرقند)، وأن
ينابزوا أهلها على سواء، فكرهوا القتال، وأقروا المسلمين على
البقاء فيها، وأسعدهم هذا المسلك من الحكومة الإسلامية التى لم
تفرق بين المسلم وغير المسلم فى العدل، فأقبلوا على اعتناق
الإسلام.
انتشار الإسلام فى الشام:
كان معظم سكان الشام عند الفتح الإسلامى من العرب الذين هاجروا
من شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام بعدة قرون، وأقاموا هناك
ممالك وإمارات، وإلى جانب هؤلاء كانت هناك أقليات من اليهود
والأرمن المسيحيين، والروم، والأكراد.
وقد وقف عرب الشام فى بداية الفتوحات الإسلامية فى عهد
الراشدين مع الروم ضد أبناء عمومتهم العرب الفاتحين، ظنا منهم
أنهم جاءوا إلى الشام لمزاحمتهم فيه، وأخذ أرضهم وأموالهم، لكنهم
حين فطنوا إلى أهداف المسلمين الرفيعة ورسالتهم السامية، القائمة
على العدل والحرية والمساواة، اطمأنت نفوسهم إلى الإسلام،
وأَنسوا إلى جانب المسلمين، وبخاصة بعد انتهاء المعارك ووضوح
نتائجها، وزوال سلطان الروم عنهم.
وقد أدَّى ذلك إلى مشاركة عرب الشام عربَ الجزيرة فى عقيدتهم
ومثلهم وتطلعهم للحياة، وبخاصة أنهم وجدوا أبواب العمل فى الدولة
الإسلامية مفتوحة أمامهم، فمن أسلم أصبح منهم، وربما تدفعه
مواهبه إلى الصفوف الأولى مع كبار القادة العظام، مثل (حسان بن
النعمان) الذى كان ينتمى إلى الأسرة الحاكمة فى الشام عند الفتح
الإسلامى، ومن بقى على مسيحيته شارك فى ميادين العمل الإدارى
والمالى.
وكان نشر الإسلام فى الشام موضع عناية المسلمين وهدفهم، منذ
الخطوات الأولى للفتح، فقد أرسل (يزيد بن أبى سفيان) إلى (عمر بن
الخطاب) يطلب معلمين من الصحابة، يعلمون الناس شرائع الإسلام
ويقرءونهم القرآن، فبعث إليه عددًا من كبار الصحابة، منهم: (عبادة
بن الصامت)، و (أبو الدرداء)، و (معاذ بن جبل)، رضى الله عنهم،
وبدأت القبائل العربية التى كانت تقطن الشام قبل الفتح الإسلامى
تقبل على الإسلام عن اختيار وفى حرية تامة، فأسلمت أغلبية قبيلة
(الغساسنة) كبرى القبائل العربية فى الشام، وكانت لها دولة تبسط
سلطانها على (جنوبىّ سوريا)، و (شرقى الأردن)، وكذا قبائل (لخم)
و (جذام) و (كلب).
ولم يقتصر الدخول فى الإسلام على القبائل العربية بل اعتنق الإسلامَ
كثيرٌ من المسيحيين غير العرب؛ كالأرمن والروم، لما فيه من بساطة
وسماحة، بالقياس إلى المسيحية التى تحولت إلى طلاسم وألغاز
وجدل عقيم.
ويذكر (توماس آرنولد) أن (انتشار الإسلام بين نصارى الكنائس
الشرقية كان نتيجة شعور بالاستياء من السفسطة المذهبية التى
جلبتها الروح الهللينية إلى اللاهوت المسيحى، لأنها أحالت تعاليم
المسيح عليه السلام البسيطة السامية إلى عقيدة محفوفة بمذاهب
عويصة، مليئة بالشكوك والشبهات، فأدى ذلك إلى خلق شعور من
اليأس، بل زعزع أصول العقيدة الدينية ذاتها، فلما أهلَّت آخر الأمر
أنباء الوحى الجديد فجأة من الصحراء، لم تعد تلك المسيحية الشرقية
التى اختلطت بالغش والزيف، وتمزَّقت بفعل الانقسامات الداخلية،
قادرة على مقاومة إغراء الدين الجديد - الإسلام - الذى بدَّد بضربة
واحدة من ضرباته كل الشكوك التافهة، وقدَّم مزايا مادية جديدة إلى
جانب مبادئه الواضحة البسيطة التى لا تقبل الجدل، وحينئذٍ ترك
الشرق المسيح، وارتمى فى أحضان نبى بلاد العرب).
وكان من الطبيعى أن يكون حجم انتشار الإسلام فى الشام كبيرًا،
لقربه من (الحجاز) منزل الوحى، ووفود كثير من الصحابة إليه فى
الفتوحات وبعدها، وإقامتهم فيه، وإقامة كثير من أفراد جيوش الفتح
الوافدة من الجزيرة العربية فى الشام.
ولما قامت الدولة الأموية سنة (41هـ) واتخذت من (دمشق) عاصمة لها،
اتسع نطاق انتشار الإسلام بين القبائل العربية، وأصبح الشام قطرًا
عربيا إسلاميا خالصًا، يعيش فيه بعض الأقليات المسيحية واليهودية
فى حرية وأمان.
انتشار الإسلام فى مصر:
فُتحت (مصر) فى عهد (عمر بن الخطاب)، ومنذ الأيام الأولى للفتح
أقبل بعض المسيحيين على الدخول فى الإسلام بحرية تامة وحتى
قبل تمام الفتح، فقد كتب (يوحنا النقيوسى) - وهو رجل دين مسيحى
كان قريبًا من حوادث الفتح - أن بعض المصريين تركوا الدين
المسيحى وأسلموا، وصحبوا جيوش العرب أثناء الفتح، كان منهم
(يوحنا) أحد رهبان (دير سيناء).
واستمرت حركة الدخول فى الإسلام فى زيادة مطردة، فدخل على
عهد الخليفة (هشام بن عبد الملك) أربعة وعشرون ألفًا منهم الإسلام
دفعة واحدة سنة (108هـ).
ولم يكن دخول الإسلام مقصورًا على طبقة بعينها، بل دخل فيه ناس
من كل الطبقات، كما اعتنقه كثير من الروم الذين بقوا فى (مصر) بعد
الفتح الإسلامى.
وباستمرار دخول المسيحيين فى (مصر) فى الإسلام أصبح أغلبية
السكان مسلمين، وتعلموا اللغة العربية، وأصبحت (مصر) بلدًا عربيا
إسلاميا، وبقى بعض الأقباط على دينهم حتى الآن، وهذا دليل
سماحة الإسلام، وآية على أن من اعتنق الإسلام منهم اعتنقه عن
رضى واقتناع ودون إكراه، فلو أكره الفاتحون المسلمون الأقباط
على ترك دينهم والدخول فى الإسلام؛ لما بقى مسيحى واحد فى
(مصر).
وكان دور المسلمين فى جذب المسيحيين وغيرهم دور الداعى إلى
دينه بالحكمة والموعظة الحسنة، والقدوة الطيبة، بالإضافة إلى جو
الحرية وسريان روح الرحمة والتسامح الذى أشاعه الخلفاء والحكام
والأمراء، ولم يعد المسلمون أنفسهم طبقة متميزة على أهل البلاد،
وإنما اختلطوا بهم وتعايشوا معهم وصاهروهم، وعاملوهم بتقدير
واحترام، خاصة أن النبىَّ أوصى المسلمين خيرًا بأهل (مصر) حين
يفتحونها، فإن لهم ذمة ورحمًا، فهاجر أم (إسماعيل) عليه السلام
منهم، وكذلك (مارية القبطية) التى تزوجها النبى - صلى الله عليه
وسلم - وأنجب منها (إبراهيم).
انتشار الإسلام فى شمالى إفريقيا:
تشمل منطقة (شمالى إفريقيا) المنطقة التى تمتد من حدود (مصر)
العربية حتى شاطئ (المحيط الأطلنطى)، وهى من أكثر المناطق التى
أرهقت المسلمين فى فتحها، الذى استغرق نحو سبعين سنة، وذلك
بسبب المقاومة العنيدة التى لقيها المسلمون من سكان البلاد،
ومعظمهم من (البربر) الذين يعتزون بحريتهم وكرامتهم.
وكانت مقاومتهم الشديدة للفتح ترجع إلى جهلهم بطبيعة الإسلام
وأهدافه ومبادئه، وظنهم أن الفاتحين كغيرهم من الغزاة، جاءوا
لاستغلال بلادهم والاستيلاء على خيراتها، فلما فهموا الإسلام وما
يحمله من عزة وكرامة، واحتكوا بالفاتحين المسلمين وسماحتهم
ورحمتهم أقبلوا على الإسلام بحماس لا نظير له، وحملوا رايته،
وجاهدوا فى سبيله، وشاركوا فى فتوحاته، فكان لهم فى فتح
(الأندلس) بلاءٌ حسن.
وعلى الرغم من طول أمد فتح (شمالى إفريقيا)؛ بسبب المقاومة
العنيدة التى أبداها السكان فإن استجابتهم للإسلام واعتناقهم له
كان أسرع وأوسع انتشارًا مما حدث فى بلاد المشرق الأسبق فتحًا
مثل (العراق) و (الشام) و (مصر). وقد بدأ السكان يقبلون على الإسلام
منذ فتح (عمرو بن العاص) برقة فى عهد (عمر بن الخطاب)، وظل
هؤلاء متمسكين بإسلامهم على الرغم من توقف الفتوحات فترة
طويلة؛ بسبب الفتن الداخلية فى الدولة، بدليل وجود كثير من أهل
البلاد فى جيش (عقبة بن نافع)، عندما أسند إليه (معاوية) قيادة
جيش الفتح فى (شمالى إفريقيا)، كما أسلم على يدى (عقبة) فى
تلك الفترة أعداد كبيرة.
ثم خطا الإسلام فى المغرب خطوات واسعة، وسعى سعياً حثيثًا فى
عهد (أبى المهاجر دينار)؛ لحسن سياسته التى جذبت ملك البربر
(كسيلة) إلى الإسلام، وأسلم بإسلامه أعداد هائلة، وكان (أبو
المهاجر) يبنى مسجدًا فى كل مدينة يفتحها، ويعمل على امتزاج
العرب الفاتحين بأهالى البلاد؛ ليكون لذلك أثره فى تعليمهم الدين
واللغة العربية.
ثم كان ظهور (حسان بن النعمان) ومن بعده (موسى بن نصير) فى
(شمالىّ إفريقيا) من عوامل التمكين للإسلام فى البلاد؛ فاستطاع
(حسان) أن يقضى على الوجود البيزنطى قضاءً تاما، ثم على
مقاومة (الكاهنة) التى تزعمت البلاد بعد مقتل (كسيلة).
والعجيب أن هذه المرأة العنيدة وهى تخوض معركتها الأخيرة مع
(حسان)، أوصت أبناءها بالانضمام إليه واعتناق الإسلام إن هى
هزمت فى الحرب، فلما حدث ذلك أسلم أبناؤها، وعيَّنهم (حسَّان)
أمراء على قبائلهم، وأسلم بإسلامهم اثنا عشر ألف رجل دفعة
واحدة.
وأمَّا (موسى بن نصير) فقد ركز اهتمامه على نشر الإسلام بين
السكان، وكان يأمر جنده العرب بتعليم (البربر) المسلمين فى جيشه
القرآن الكريم، وتفقيههم فى الدين، كما ترك بين قبائل (المصامدة)
سبعة عشر رجلا من العرب ليقوموا بالغرض نفسه.
وكان لعمر بن عبدالعزيز أثر كبير فى نشر الإسلام بالمغرب، فقد
أرسل عشرة رجال من صلحاء التابعين إلى هناك، ليعلموا الناس
الدين، فتوافد عليهم الناس من أنحاء البلاد كلها، ليتلقوا عنهم أمور
دينهم.
ومن المعروف أن المسيحية قد دخلت (شمالى إفريقيا) منذ القرون
الأولى لميلاد السيد المسيح، عليه السلام، وبخاصة فى منطقة
الساحل المطلة على (البحر المتوسط) فى حين بقيت المناطق الداخلية
البعيدة عن الساحل على وثنيتها.
انتشار الإسلام فى الأندلس:
لمَّا فتح المسلمون (الأندلس) فى أواخر القرن الهجرى الأول (92 -
95هـ) كانت ديانة معظم السكان هى المسيحية الكاثوليكية،
بالإضافة إلى جالية يهودية كبيرة وبعض الوثنيين، ثم بدأت أعداد
كبيرة منهم تعتنق الإسلام، يأتى فى مقدمتهم طبقة الرقيق التى
وجدت فى الإسلام نجاتها وخلاصها من الظلم والاضطهاد الذى كانت
تعانيه تحت حكم (القوط).
ولم تكن طبقة الرقيق وحدها هى التى أسرعت إلى اعتناق الإسلام،
بل اعتنقه كثير من الوثنيين وأشراف المسيحيين، بالإضافة إلى
أعداد كبيرة من الطبقات الوسطى والدنيا، بل إن بعض القساوسة
اعتنق الإسلام، مثل (تيود سكلوس) الذى كان رئيس أساقفة
(إشبيلية).
وقد حدث ذلك كله فى السنوات الأولى، التى أعقبت الفتح الإسلامى
مباشرة، دون إكراه من المسلمين لإجبار أهل (الأندلس) وحملهم على
الإسلام حملا، بل أقبلوا عليه عن رضى واقتناع تام، ساعد على ذلك
بساطة الإسلام وبعده عن التعقيدات الكهنوتية التى حفلت بها
ديانتهم، واختلاط المسلمين الفاتحين بأهل البلاد ومصاهرتهم، وقد
فعل ذلك أعداد كبيرة من المسلمين، حتى الأمراء منهم، فقد تزوج
(عبدالعزيز بن موسى بن نصير) بابنة الملك القوطى (رذريق)، وحذا
حذوه كثير من القادة والجنود، ونتج عن هذه المصاهرات جيل جديد
فى الأندلس) عُرف بالمولدين، وهم الذين ولدوا من آباء عرب وأمهات
أندلسيات، وهؤلاء نشئوا مسلمين بطبيعة الحال، وسرعان ما تزايد
عددهم، وأصبحوا يشكلون غالبية السكان، واحتلوا مكانة كبيرة فى
المجتمع وكان لهم دورهم فى تسيير أمور الدولة الإسلامية.
وقد أصبح هذا الجزء الذى يقع فى جنوبى غربى (أوربا) بلدًا عربيا
مسلمًا فى حرية تامة ودون تعصب أو إكراه، ولم يستغل الفاتحون
المسلمون انتصارهم على (القوط) فى استئصال المسيحية من البلاد
كما فعل (فرديناند) و (إيزابيلا) فى استئصال المسلمين بعد ذلك
بثمانية قرون.
انتشار الإسلام فى العراق:
كان معظم سكان (العراق) عند الفتح الإسلامى عربًا من قبائل
(ربيعة)، مثل:(بكر بن وائل) و (تغلب)،ثم جاء المناذرة اللخميون ومن
هم من قبائل (اليمن)، فأقاموا فى (العراق) إمارة عربية عُرفَت
بإمارة (المناذرة)، كانت خاضعة للفرس، تأتمر بأمرهم، وتصد غارات
القبائل العربية عليهم، وهجمات البيزنطيين وحلفائهم غساسنة
الشام، وقبيل ظهور الإسلام أنهى الفرس سنة (602م) حكم المناذرة،
وحكموا (العراق) حكمًا مباشرًا.
ولم يكن موقف عرب (العراق) من الفاتحين المسلمين عدائيا صريحًا،
وإنما تراوح بين العداء والوقوف مع الفرس وتأييدهم وبين التعاون
مع العرب الفاتحين، ثم الترحيب بهم بعد توالى انتصاراتهم على
الفرس فى (القادسية) و (نهاوند).
وقد وجد سكان (العراق) أنفسهم بعد الفتح تحت حكم المسلمين
يعاملون معاملة حسنة، تُحفظ لهم كرامتهم وحريتهم، وتصان
عقائدهم، ولم تنتزع أرضهم، ولم يجبرهم أحد على الدخول فى
الإسلام، وكانوا قبل ذلك أقرب ما يكونون إلى حال الرق، ذلا
واستعبادًا للفرس، فأقبلوا على اعتناق الإسلام فى حرية تامة.
ولم يسلم عرب (العراق) فقط، بل أسلم كثير من الفرس أنفسهم، الذى
يعيشون فى (العراق)، وقدموا للمسلمين مساعدات كثيرة، ووقفوا
إلى جانبهم فى المعارك، فاستشار (سعد بن أبى وقاص) من أسلم
من الفرس فى كيفية التغلب على الفيلة الفارسية المدربة على الحرب
والقتال، ولم تكن للفاتحين المسلمين خبرة بمواجهتها فى ساحات
المعارك، فدلوه على مقاتلها، بأن تُضرب فى عيونها ومشافرها،
فلا تستطيع القتال بعد ذلك.
ثم ازداد إقبال الفرس على الدخول فى الإسلام بعد انتصار المسلمين
فى (القادسية)، فأسلم أربعة آلاف من (الديلم) دفعة واحدة، وجاهدوا
مع الفاتحين فى (نهاوند)، ويدل تزايد الإقبال على الدخول فى
الإسلام، سواء من العرب أو من غيرهم على أن اشتراك الطبقات
المقهورة مع الفرس ضد المسلمين فى البداية، إنما كان خوفًا من
بطشهم، فلما تحطمت قوتهم فى (القادسية) زال الخوف، وأقبل الناس
على الإسلام.
وإلى جانب هؤلاء أسلمت أعداد كبيرة من الأساورة والأشراف وعلية
القوم، فرحَّب بهم القادة العرب، وأشركوهم معهم فى الحكم،
فيروى (الطبرى) أن (سعد بن أبى وقَّاص) كتب إلى (عبدالله بن
المعتم) أن أخلف على (الموصل)(مسلم بن عبداللهـ) الذى كان قد أُسِرَ
فى (القادسية)، وأن (القعقاع بن عمرو التميمى) استخلف على
(حلوان) - مدينة فارسية شمالى شرقى (المدائن) - بعد فتحها، رجلا
فارسيا اسمه (قباذ).
وقد أخذ الإسلام ينتشر فى (العراق) باطِّراد إلى أن أصبح بلدًا عربيا
إسلاميا خالصًا فى العصر الأموى، ومركزًا ودعامة لتثبيت الحكم
الإسلامى فى بلاد فارس، ومنطلقًا للفتوحات الإسلامية فى بلاد (ما
وراء النهر) و (السند).
انتشار الإسلام فى بلاد فارس:
كانت الديانة الرئيسية فى بلاد فارس قبل الفتح الإسلامى هى الديانة
(الزرادشتية)، وهى ديانة وثنية، تؤمن بأن للعالم إلهين، أحدهما إله
الخير، والآخر إله الشر، وإلى جانب تلك الديانة التى كان يدين بها
ملوك (آل ساسان) توجد (البوذية) و (المانوية) و (المزدكية) بالإضافة
إلى اليهودية والمسيحية على نطاق ضيق.
ولم يأخذ المسلمون من هذه الأديان موقفًا عدائيا، ولم يتخذوا إجراءً
ضدها، بل صانوا للناس حرية الاعتقاد، إلى الحد الذى اعتدُّوا فيه
بالمجوسية الفارسية وهى عبادة النار، وعاملوا أتباعها معاملة أهل
الكتاب من اليهود والنصارى، فقبلوا منهم الجزية نظير بقائهم على
دينهم.
ولما اطمأنت نفوس أهل فارس أو معظمهم إلى حكم الفاتحين نظروا
إلى دينهم، مقارنين بينه وبين ما لديهم من أديان فلم يجدوا وجهًا
للمقارنة، فكلها أديان وثنية مليئة بالخرافات والأوهام، فتركوها غير
آسفين، وأقبلوا على الإسلام فى حرية تامة، ودون ضغط أو إكراه،
ولم يفعل ذلك أتباع الديانات الوثنية فقط، وإنما فعله كثير من
المسيحيين. يقول (آرنولد): (وقد أدَّى تغير الحكومة - الساسانية -
إلى تخليص الكنيسة المسيحية المضطربة فى فارس من استبداد ملوك
الساسانيين الذين أثاروا الخلافات .. وزادوا فى فوضى الطوائف -
المسيحية - المتنافرة، ولعل هذه الأحوال المضطربة قد هيأت عقول
الناس لذلك التحول الفجائى فى شعورهم، الذى سهل تغيير العقيدة،
وإلى جانب الاضطراب السياسى فى الدولة ظهرت تلك الفوضى
الأخلاقية التى ملأت عقول المسيحيين .. فمالوا إلى هذا النظام العجيب
من التنسيق العقلى، الذى ينمو فيه الدين الجديد فى سهولة ويسر،
ويكتسح أمامه أكثر الأديان الأخرى، ويحاول أن يقيم الحالة الدينية
والاجتماعية على أسس جديدة، وبعبارة أخرى كان أهل فارس قد
بلغت عقليتهم درجة ساعدتهم على التحول إلى ذلك الدين الجديد،
والترحيب باعتناقه فى حماسة ملحوظة؛ لما يمتاز به من البساطة،
وهكذا قدر للإسلام أن يبدد بضربة واحدة كل هذه الغيوم، وأن يفتح
أمام الناس سبلا واضحة من الآمال الكبيرة، وأن يخلصهم فى أقرب
وقت من عبوديتهم وحالتهم السيئة).
وقد تتابع دخول الفرس بأعداد كبيرة فى الإسلام دون إكراه،
مدفوعين بالدعوة الصادقة التى يقوم بها المسلمون لدينهم،
والتعريف به وشرح مبادئه، والالتزام بها فى حياتهم، كل ذلك كان له
عظيم الأثر فى التمكين للإسلام فى البلاد.
ثم خطا الأمويون خطوات واسعة أدَّت إلى انتشار الإسلام واللغة
العربية فى بلاد فارس، تمثلت فى تهجير عشرات من القبائل العربية
إلى الأقاليم الفارسية وتسكينهم فيها، فنقل (زياد بن أبى سفيان)
والى (العراق) فى خلافة (معاوية) سنة (51هـ) خمسين ألف أسرة
عربية من أهل (البصرة) و (الكوفة) إلى (خراسان) دفعة واحدة،
وتتابعت بعد ذلك الهجرات العربية إلى الأقاليم الفارسية بأعداد
كبيرة؛ مما كان له أثر كبير فى نشر الإسلام عن طريق المعايشة،
والقدوة العملية، وإقامة شعائر الدين.
وفى الوقت نفسه هاجرت أعداد كبيرة من الفرس إلى المدن العربية
الجديدة كالبصرة و (الكوفة)، بقصد العمل فى التجارة والأعمال
الحرفية، كأعمال البناء التى لا يجيدها العرب، كما عمل كثيرون
منهم فى دواوين الدولة، وقد بلغ عدد العمال من الفرس - أى
الموظفين - المقيدين فى ديوان (عبيدالله بن زياد) والى (البصرة) (55 -
64هـ) مائة وأربعين ألفًا، وهو رقم غير مبالغ فيه، لأن ديوان
(البصرة) كان يشمل الموظفين المدنيين فى جنوبى (العراق)، وكل
المقاطعات الجنوبية الشرقية من بلاد فارس حتى (خراسان) شمالا.
وقد علل (ابن زياد) استخدام هذا العدد الكبير من الفرس فى الديوان
بكفاءتهم ومهارتهم وأمانتهم فى العمل، وهذا يعنى ثقة الدولة
بالموظفين من الفرس، وهذه الثقة شجعتهم على الدخول فى الإسلام.
وأدَّى وجود أعداد كبيرة من الفرس فى البيوت العربية، ومصاهرتهم
للعرب، إلى انتشار الإسلام بينهم، واتخاذ أسماء وألقاب عربية.
ويمكن إجمال القول بأن غالبية الشعب الفارسى تحولت إلى الإسلام
فى العصر الأموى، وأصبحت عنصرًا مؤثرًا فى المجتمع والدولة
الإسلامية ذاتها، وكانت فى طليعة المجاهدين فى فتح بلاد (ما وراء
النهر).
موقف الموالى الفرس من الدولة الأموية:
كان لبعض الموالى الفرس مواقف عدائية ضد الدولة الأموية، على
الرغم من تسامح الحكومة مع الفرس وإشراكهم فى الإدارة، بل
تفضيلهم أحيانًا على العرب أنفسهم؛ فلم يتركوا فرصة للخروج عليها
إلا انتهزوها، ولا دعوة لثائر إلا انضموا تحت لوائه، أيا كان اتجاهه
السياسى، فانضموا إلى (ابن الزبير)، و (المختار الثقفى)،
و (عبدالرحمن بن الأشعث)، و (يزيد بن المهلب)، وغيرهم، وناصروا
الخوارج، وتحالفوا مع الشيعة دائمًا.
وهذه المواقف العدائية من الدولة الأموية جعلت بعض الباحثين يظنون
أنهم فعلوا ذلك لظلم وقع عليهم من الدولة، وراحوا يكيلون التهم
جزافًا للأمويين بأنهم متعصبون للعرب ضد الفرس، وهذا اتهام لا دليل
عليه وبعيد عن واقع الأمر، فالدولة الأموية عُرفَت بتسامحها مع غير
المسلمين من أهل الذمة، فكيف يضيق صدرها بالمسلمين من الموالى
ولعل السبب الرئيسى فى عداء الموالى للدولة الأموية يكمن فى أن
كثيرين من أبناء فارس لم يستطيعوا التخلص تمامًا من ماضيهم، حيث
كانوا أصحاب السيادة على العرب، ولهم نفوذ فى العالم، فلما فتح
المسلمون بلادهم عزَّ عليهم أن يحكمهم العرب، فعملوا كل ما فى
وسعهم لتقويض الدولة الأموية.
ولم يكن الموالى كلهم يعادون العرب، ولذا نستطيع أن نقسم الموالى
إلى أربع طوائف رئيسية، هى:
- الطائفة الأولى: أسلمت إسلامًا حقيقيا، ارتفع بها فوق العصبية
القومية، مثل:(سلمان الفارسى)، رضى الله عنه، و (الحسن البصرى)
التابعى المعروف، وهذه الطائفة لم تر بأسًا فى أن يحكمها العرب،
ونظرت إليهم نظرة تقدير واحترام؛ لأنهم سبب هدايتها، وبادل العرب
هذه الطائفة ودا بود وتقديرًا بتقدير، وكان كبار التابعين من
الموالى، مثل (الحسن البصرى)، و (محمد بن سيرين)، و (عطاء بن
يسار)، و (عطاء بن أبى رباح)، موضع احترام المجتمع والدولة، وكان
تأثيرهم فى الحركة العلمية عظيمًا.
- الطائفة الثانية: وهى التى أسلمت إسلامًا رقيقًا، ولم تتخلص من
الماضى تمامًا، وظلت تفخر بالأمجاد الفارسية القديمة، وهذه الطائفة
لم ترفض الإسلام دينًا ولكنها رفضت السيادة والحكم العربيين، وظلت
تسعى للقضاء عليهما بدأب شديد، وكانت نواة الحركة الشعوبية
التى نادت بتفضيل الفرس على العرب.
- الطائفة الثالثة: وهى التى أسلمت نفاقًا، لأنها رأت أن السبيل إلى
المال والجاه والسلطان لا يكون إلا بالدخول فى الإسلام، فأعلنت
اعتناقه ولم يدخل الإيمان قلوبها، ولم تدع فرصة للكيد للعرب إلا
انتهزتها، كما دعت إلى الشعوبية والمذاهب الدينية القديمة، وهذه
الطائفة كانت أساسًا لحركة الزندقة.
- الطائفة الرابعة: وهى التى لم تسلم، وبقيت على مجوسيتها بفضل
الحرية التى منحها العرب لأهل بلاد فارس.
والذى نريد أن نخلص إليه أن القول باضطهاد الدولة الأموية للموالى،
وعداء الموالى للدولة كان رد فعل لذلك، هو قول بعيد عن الحقيقة،
فلم تكن هناك سياسة مرسومة للأمويين تعادى الموالى الفرس، وفى
الوقت نفسه لا ننكر أن يكون بعض العرب قد نظر إلى الموالى الفرس
نظرة تعالٍ وتكبر، لكن ذلك لم يكن سياسة دولة، وإنما كان نظرة
البدو الجفاة الذين لم يفهموا الإسلام على وجهه الصحيح.
انتشار الإسلام فى بلاد ماوراء النهر:
فتح (قتيبة بن مسلم الباهلى) بلاد (ماوراء النهر) - آسيا الوسطى-
فى خلال عشر سنوات (86 - 96هـ)، وأقبل كثير من أهالى تلك البلاد
على الدخول فى الإسلام، لما فيه من عدل وسماحة ورحمة، وشجعهم
على ذلك أن معظمهم وثنيون يعبدون الأصنام، وبعضهم يدين بالأديان
التى كانت منتشرة فى بلاد فارس المجاورة لهم، مثل (الزرادشتية)
و (المانوية) و (المزدكية)، وكلها أديان فاسدة، ولم يكن تمسك الناس
بها قويا، ولذا سرعان ما أقلعوا عنها بعد أن قارنوا بينها وبين
الإسلام، فأقبلوا عليه فى حماس شديد.
وعندما دخل (قتيبة بن مسلم) مدينة (سمرقند) سنة (93هـ)، وجد فيها
عددًا كبيرًا من الأصنام، فقرر تحطيمها، فخوَّفه سكانُها من ذلك،
وقالوا له: إن من يقترب منها تهلكه، فلم يبالِ بذلك، وأقسم ليحطمنَّها
بيده، فحطمها وحرقها بالنار، فلما رأى الناس ذلك ولم يحدث لقتيبة
شىء أدركوا أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر، وأسرعوا إلى اعتناق
الإسلام.
وقد تردَّد صدى هذه الحادثة فى المدن الأخرى، فأسلم من أهلها
أعدادٌ هائلة، حتى إنه لما سار قتيبة لفتح إقليم (الشاش) فيما وراء
نهر (سيحون) سنة (94هـ)، أى بعد سنة واحدة من تحطيمه لأصنام
(سمرقند)، كان جيشه يضم عشرين ألف مسلم من أهل (بخارى).
وحرص الفاتحون المسلمون على دعوة الناس إلى الإسلام بالحكمة
والموعظة الحسنة، والتأثير فيهم بالقدوة الطيبة، وكان (قتيبة بن
مسلم) يُعنَى ببناء المساجد فى المدن والقرى؛ حتى تؤدى فيها
الصلاة، ويقوم الدعاة فيها بتعليم الناس شعائر الإسلام وشرائعه.
غير أن تزايد إقبال الناس على الإسلام جعل الولاة المسلمين أمام
مشكلة مالية، جعلتهم يأخذون الجزية من المسلمين الجدد من أهل
البلاد، مخالفين بذلك قواعد الإسلام التى تقرر أن لا جزية على من
أسلم، ولم يطل هذا الأمر كثيرًا، إذ صحح (عمر بن عبد العزيز) هذا
الإجراء الخاطئ وكتب إلى الولاة موبخًا إياهم على فعلتهم، قائلا
قولته المشهورة: (قبَّح الله رأيكم، إن الله بعث محمدًا - صلى الله عليه
وسلم - هاديًا ولم يبعثه جابيًا).
وكان الخليفة (عمر بن عبد العزيز) معنيا بنشر الإسلام فى تلك
المنطقة، وكتب إلى ملوك بلاد (ما وراء النهر) وأمرائهم ودعاهم إلى
الإسلام، فأسلموا وتسمَّوا بأسماء عربية.
وتتابعت جهود الأمويين لنشر الإسلام فى هذه البلاد بعد (عمر بن
عبدالعزيز)، وبخاصة فى عهد (هشام بن عبدالملك)(105 - 125هـ)،
الذى أسند ولاية (خراسان) و (ما وراء النهر) إلى (أشرس بن عبدالله
السلمى)، المسمى بالكامل لصلاحه وتقواه، فما إن استقر فى
(خراسان) حتى شرع فى توجيه الدعاة والفقهاء إلى بلاد (ماوراء
النهر)؛ لدعوة الناس إلى الإسلام.
وقد مضت حركة نشر الإسلام فى بلاد (ما وراء النهر) مطَّردة مزدهرة،
بفضل جهود (صالح بن طريف) وأمثاله من أهل الصلاح والتقوى، وإن
اعترض ذلك بعض المعوقات التى كانت تأتى فى الغالب من بعض
الولاة الذين كانوا يفضلون الجباية على الهداية، مخالفين بذلك قواعد
الإسلام، غير أن هذه السياسة الخاطئة كانت تجد دائمًا من يصححها
ويقومها من الخلفاء والولاة.
وقد استاء المسلمون الجدد من أهل بلاد (ما وراء النهر) من دفع
الجزية، لا لكونها عبئًا ماليا كبيرًا فحسب، بل لإحساسهم بالمهانة من
دفعها وهم مسلمون؛ إذ لاجزية على المسلم، ومن ثم تمسكوا بحقهم
الشرعى الذى كفله لهم الإسلام، فقاوموا الولاة، ومن أجل ذلك
وجدوا استجابة من قمة الدولة لإنصافهم، وتضامنًا من إخوانهم العرب
المسلمين لمساعدتهم على الحصول على حقهم.
وخلاصة القول أن غالبية الناس فى بلاد (ماوراء النهر) تحولت إلى
الإسلام، وأصبحت بلادهم جزءًا عزيزًا من العالم الإسلامى، وأهدت
إلى العالم الإسلامى عددًا لا حصر له من العلماء فى شتى العلوم
الإسلامية، وغدت بعض مدنه مثل (بخارى) و (سمرقند) و (جرجان) من
أكبر المراكز الحضارية فى العالم الإسلامى وأشهرها.
وقد رسخ الإسلام فى تلك المنطقة رسوخًا عميقًا، ظهر أثره فى
ثبات أهلها أمام موجات الغزو العاتية التى تعرضت لها، مثل غزوات
المغول المدمِّرة فى القرن (7 هـ = 13 م)، كما تعرضت لمحنة الحكم
الشيوعى الملحد فى القرن (14 هـ = 20 م)، الذى حاول بشتى الطرق
وبأقسى الأساليب الوحشية محو الإسلام، لكنه فشل فشلا ذريعًا
أمام ثبات المسلمين وإصرارهم على التمسك بعقيدتهم، وبعد انهيار
(الاتحاد السوفييتى) سنة (1411هـ = 1991م) وزوال الحكم الملحد،
تنفَّس الناس الصعداء وعادت بلادهم إلى حظيرة العالم الإسلامى.
ولم يكتفِ أهالى تلك المنطقة باعتناق الإسلام، وإنما جنَّدوا أنفسهم
للدفاع عنه على حدوده الشرقية عند (الصين) والأتراك الشرقيين،
وأصبحت بلادهم معبرًا رئيسيا للإسلام إلى (الصين) وغيرها من بلاد
شرقى آسيا وجنوبى شرقيها إلى حوض (نهر الفولجا) شمالا؛ حيث
كانت قوافل الدعاة والتجار تجوب الطرق التجارية بين العالم
الإسلامى وتلك البلاد، يدعون إلى الإسلام، وقد وجدوا استجابة طيبة
وسريعة.
انتشار الإسلام فى السند:
كان إقليم (السند) مملكة مستقلة عندما فتحه المسلمون فى أواخر
القرن الأول الهجرى بقيادة (محمد بن القاسم الثقفى)، وسادت فيه
عدة ديانات كانت هى نفسها السائدة فى سائر ممالك شبه القارة
الهندية وولاياتها، مثل:(البرهمية)، و (البوذية).
ويؤكد لنا التاريخ أن الاتصال بين أهل (السند) والمسلمين سبق بزمن
طويل فتح بلادهم، وأنهم عرفوا كثيرًا عن الإسلام ومبادئه، بل إن
بعضهم أسلم مبكرًا، يروى (البلاذرى) أن كثيرين من أهل (السند) -
المنبوذين - قد أسلموا مبكرًا، بعد أن انحازوا إلى المسلمين؛ فرارًا
من اضطهاد البراهمة، فعندما كان (أبو موسى الأشعرى) يفتح إقليم
(الأهواز) غربى بلاد فارس، فى عهد (عمر ابن الخطاب) أرسل له زعيم
سندى اسمه (سياهـ) قائلا: (إننا قد أحببنا الدخول معكم فى دينكم
على أن نقاتل معكم عدوكم من العجم) واشترط أن يفرض له ولقومه
من العطاء، وأن ينزلوا حيث شاءوا من البلاد، فوافق (عمر بن
الخطاب) على ذلك لما كتب له (أبو موسى) يستأذنه.
وبعد انتهاء الفتح، نزل هؤلاء (البصرة)، وفرض لهم العطاء، ثم سألوا
أى القبائل أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل لهم:
(بنو تميم)، فحالفوهم وخططت لهم الأحياء السكنية.
وقد عمل كثير منهم فى بيت المال؛ لخبرتهم فى الشئون المالية، فقد
كان فى بيت مال البصرة منهم فى عهد (على بن أبى طالب) أربعون
رجلا، كما عمل بعضهم فى الأعمال الحرَّة، وبخاصة فى الصرافة،
فيروى الجاحظ: (إنك لا ترى فى البصرة صيرفيًا إلا وصاحب كيسه -
أى خزانته - سندى).
وكل هذه الشواهد تؤكد اتصال أهل (السند) بالمسلمين قبل فتح
بلادهم، ومن الطبيعى أن يتردد بعضهم على وطنه، وينقل للناس
هناك أخبار الإسلام والمسلمين، ومعاملتهم الرحيمة ممَّا هيأ قلوبهم
للإسلام، والإقبال عليه بعد الفتح الإسلامى لبلادهم.
فمنذ الخطوات الأولى للفتح بدأت شخصيات كبيرة تعتنق الإسلام،
وعندما تقدَّم (محمد بن القاسم) بعد فتح (الديبل)، وجه الدعوة إلى
الأمراء والحكام والوزراء والأعيان وعامة الشعب؛ للدخول فى الإسلام
فاستجاب له كثيرون.
وكانت هناك أقاليم تدخل فى الإسلام جملة واحدة، مثل إقليم
(سوسيان)، فقد روى فى سبب إسلامهم أنهم كانوا قد أرسلوا
جاسوسًا من عندهم إلى معسكر المسلمين لمعرفة أخبارهم، وأثناء
اختفائه حان وقت الصلاة، فقام أحد الجنود وأذَّن بالصلاة بصوت
خاشع جميل مؤثر، ثم اصطف الجنود خلف قائدهم (محمد بن القاسم)
فى صفوف منتظمة، فلما رأى الجاسوس السندى هذا المشهد الرائع
تأثر به تأثرًا كبيرًا، وعاد إلى قومه، وأخبرهم بما رأى، فقالوا: إذا
كان العرب متحدين متمسكين بدينهم على هذا النحو وهم فى وقت
الحرب، فإننا لايمكننا التغلب عليهم، وقرروا إرسال وفد منهم إلى
(محمد بن القاسم)، وانتهى الأمر بإسلامهم جميعًا، وانضمامهم إلى
المسلمين، وأقاموا حفل تكريم للقائد المسلم (محمد بن القاسم) الذى
هداهم للإسلام.
وكان إقبال أهل (السند) على الإسلام عظيمًا على اختلاف طبقاتهم،
فأسلم إلى جانب عامة الشعب الحكامُ والقوَّاد والوزراء وأمراء
المناطق المختلفة، مثل الأمير (كاكة بن جندر) ابن عم الملك (داهر) ملك
(السند).
وأدَّى سلوك المسلمين السوىُّ إلى جذب الناس إلى الإسلام، وبخاصة
سلوك (محمد بن القاسم) الذى اهتم بإقامة المساجد وأداء الشعائر
الدينية، فلم يكن يدخل مدينة إلا ويبنى فيها مسجدًا، وقد تابع خلفاء
(محمد بن القاسم) فى (السند) سياسته فى بناء المساجد.
وقد بلغ قمة النجاح فى انتشار الإسلام فى (السند) فى خلافة (عمر
بن عبدالعزيز) (99 - 101هـ)، الذى كان لسمعته الطيبة أثر عظيم فى
دخول أعداد كبيرة من أهل (السند) فى الإسلام لما دعاهم إلى ذلك،
فأسلموا وتسمَّوا بأسماء عربية.
وأصبح هذا الإقليم منذ دخول الإسلام فيه جزءًا عزيزًا من العالم
الإسلامى، ولا يزال يمثل قوة رئيسية من قواه؛ فقد شارك فى صنع
التاريخ الإسلامى والحضارة الإسلامية، فلولا الإسلام لبقى ذلك الإقليم
منزويًا فى عزلته، دون أن يكون له مثل ذلك الدور الذى قام به فى
ظل الإسلام، ونختم الحديث عن انتشار الإسلام فى (السند) بشهادة
واحد من أبنائه هو العلامة (أبو الحسن الندوى) الذى يقول:
(إن دخول الإسلام إلى بلاد السند وبلاد الهند، كان فاتحة عصر جديد،
عصر علم ونور وحضارة وثقافة .. لم يكن العرب المسلمون من طراز
أولئك الغزاة الذين إذا دخلوا قرية أفسدوها، واعتبروها بقرة حلوبًا،
أو ناقة ركوبًا، يحلبون ضرعها، ويركبون ظهرها، ويجزون صوفها،
ثم يتركونها هزيلة عجفاء، ولا يعتبرون أنفسهم كالإسفنج،
يتشرب الثروة من مكان، ويصبها فى مكان آخر، كما كان شأن
الإنجليز فى الهند، وفرنسا فى الجزائر والمغرب الأقصى، وإيطاليا
فى طرابلس وبرقة، وهولندا فى إندونسيا، لم يكن العرب المسلمون
مثل هؤلاء الغزاة المستغلين، بل وهب العرب البلاد التى فتحوها
أفضل ما عندهم من عقيدة ورسالة، وأخلاق وسجايا، ومقدرة
وكفاية، وتنظيم وإدارة، وأقبلوا عليها بالعقل النابغ، والشعور
الرقيق، والذوق الرفيع، والقلب الولوع، واليد الحاذقة الصناع،
فنقلوها من طور البداوة إلى طور الحضارة، ومن عهد الطفولة إلى
عهد الشباب الغض، فأمنت بعد خوف، واستقرت بعد اضطراب،
وأخذت الأرض زخرفها، وبلغت المدنية أوجها، وتحولت الصحارى
الموحشة والأراضى القاحلة إلى مدن زاخرة وأرض خصبة، وتحولت
الغابات إلى حدائق ذات بهجة، والأشجار البرية إلى أشجار مثمرة
مدنية، ونشأت علوم لا علم للأولين بها، وفنون وأساليب فى
الحضارة لا عهد لهم بها فى الماضى، وانتشرت التجارة، فكأنما
ولدت هذه البلاد فى العهد الإسلامى ميلادًا جديدًا، ولبست ثوبًا
قشيبًا).
الجانب الحضارى:
الحضارة الإسلامية فى العصر الأموى:
تعنى الحضارة عند بعض الباحثين كل نشاط إنسانى فى الحياة،
سواء أكان فكريا يتمثل فى العلوم والفنون والآداب، وما ينتج عن
ذلك من نظم سياسية واقتصادية واجتماعية وإدارية، ومن عادات
وتقاليد وأخلاق، أم كان ماديا ملموسًا، يتمثل فى البناء والتشييد
والعمران، كبناء المدن والقرى وتخطيطهما، والتأنق فى بناء
المساكن والمساجد، ودور التعليم والقلاع والحصون، كما تتمثل فى
العناية بالأوضاع الاقتصادية للبلاد، كبناء السدود والخزانات لتخزين
المياه واستخدامها فى الزراعة والصناعة، أو فى تعبيد الطرق
وإقامة المصانع.
وقد عرفت الحضارة الإسلامية فى العصر الأموى كل هذه الأنشطة،
وهى وإن اشتركت مع غيرها من الحضارة الإنسانية فى بعض
السمات، فإنها تتميز عنها بسمات خاصة بها؛ لأن الإسلام هو الذى
أنشأها ورعاها وتمثلت فيها قيمه ومبادئه وسماحته ورحمته وآدابه.
وهى كغيرها من الحضارات البشرية أخذت وأعطت وتعلَّمت من
غيرها، وعلَّمت غيرها، وانفتحت على الحضارات كلها بما فيها من
ثقافات وأفكار، شعارها: الحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو
أحق الناس بها.
ولقد قامت الحضارة الإسلامية على دعامتين أساسيتين:
الدعامة الأولى:
القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وكان تأثيرهما فى نشوء
الحضارة الإسلامية وارتقائها وتألقها من وجهين:
- الأول: حثهما على العلم والتعلم والتفكر فى الكون وأسراره،
وتسخيره لمنفعة الإنسان، وعدهما طلب العلم فريضة على كل مسلم،
ودعوتهما إلى رفع شأن العلم والعلماء، والشواهد على ذلك من
كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كثيرة، من ذلك:
قول الله تعالى: {قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما
يتذكر أولو الألباب} [الزمر: من 9].
وقوله تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} .
[المجادلة من11].
وقوله تعالى فى أول ما نزل من القرآن: {اقرأ باسم ربك الذى خلق
خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذى علَّمَ بالقلم}. [العلق: 1 -
4].
وقوله صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم). [ابن
ماجة].
وقوله صلى الله عليه وسلم أيضًا: (من سلك طريقًا يطلب به علمًا
سهَّل الله له طريقًا إلى الجنة). [رواه الحاكم].
- الوجه الآخر: يتمثل فى العلوم الكثيرة التى انبثقت من القرآن
والسنة كالتفسير وعلوم القرآن، والفقه والأصول، والحديث وعلومه،
والمغازى والسير والتاريخ، واللغة العربية وآدابها وغير ذلك.
الدعامة الأخرى:
وهى دعامة لا يُنكَر دورها فى ازدهار الحضارة الإسلامية، وتتمثل
فى التراث الحضارى الهائل، الذى ورثه المسلمون عن الأمم السابقة
فى البلاد التى فتحوها، كتراث الحضارة الإغريقية والفارسية
والهندية والمصرية القديمة.
وكان من حسن الطالع أن ذلك التراث الحضارى كان موجودًا فى
المناطق التى شملتها الدولة الأموية، فحافظت عليه وصانته من
الضياع، وهو ما يحسب للأمويين، فلولا يقظتهم وسعة أفقهم لضاع
من الإنسانية كثير من هذه الكنوز الحضارية، التى أنتجها العقل
البشرى فى القرون السابقة لظهور الإسلام، غير أن الاستفادة
الكاملة جاءت فى العصر العباسى، حيث بدأت ترجمة العلوم والفنون
إلى اللغة العربية، وصُحِّحت أخطاؤها، ثم أضاف إليها المسلمون من
عبقريتهم الخلاقة ما شهد به علماء الغرب فى العصر الحديث.
الإدارة والنظم فى العصر الأموى:
أولا: الإدارة:
اتسعت الدولة الإسلامية فى العصر الأموى وامتدت حدودها شرقًا من
(الصين)، إلى (الأندلس) غربًا، ومن بحر (قزوين) شمالا إلى (المحيط
الهندى) جنوبًا، وأصبحت تتكون من الأقسام الإدارية الآتية:
1 -
الحجاز: ويشمل (مكة المكرمة) و (المدينة المنورة) و (الطائف)، وكان
الوالى يقيم فى (المدينة).
2 -
اليمن: وكانت فى معظم الأحيان ولاية مستقلة، يحكمها والٍ يعين
من قبل الخليفة، وأحيانًا أخرى كانت تضاف إلى والى (الحجاز)،
فيعين عليها واليًا من قبله.
3 -
العراق: وتشمل حدودها الإدارية كل ولايات الدولة الفارسية
القديمة، وأقاليم (ما وراء النهر) و (السند)، وكان الأمويون فى أغلب
الأحيان يجعلون (العراق) والشرق الإسلامى كله تحت إدارة والٍ واحد،
يُعيَّن من قبله ولاة على بقية الأقاليم، وقد حدث ذلك فى عهد (معاوية
بن أبى سفيان)؛ حيث عهد إلى (زياد بن أبى سفيان) بولاية (العراق)
والمشرق، وفى عهد (عبد الملك بن مروان) حيث ولَّى (الحجاج بن
يوسف الثقفى) أمر المشرق كله.
4 -
الجزيرة: وتشمل ولايات (الموصل) و (أرمينيا)،و (أذربيجان).
5 -
الشام: ولم يكن يعين لها والٍ؛ حيث كانت هى مقر الخلافة
الأموية، وكان الخليفة يقوم بهذا الدور.
6 -
مصر: وكان يتبعها (شمالىُّ إفريقيا)، ثم أصبحت ولاية مستقلة
تقريبًا، منذ تولاها (موسى بن نصير)(85هـ)، وعاصمتها (القيروان).
7 -
الأندلس: وكانت فى بداية الفتح الإسلامى لها تتبع ولاية (شمالى
إفريقيا)، ثم أصبحت ولاية مستقلة منذ خلافة (عمر بن عبدالعزيز).
وكان الخلفاء الأمويون يعينون لكل ولاية من هذه الولايات واليًا من
قبلهم، وهو بدوره يختار مساعديه وأعوانه، وكانوا يحرصون فيمن
يقع عليه اختيارهم للإمارة أن يكون من المعروفين بالحزم وحسن
السياسة والقدرة الإدارية، وأن يكون من الأسرة الأموية نفسها، أو
من أكثر الرجال ولاءً وإخلاصًا لها.
وتمتَّع هؤلاء الولاة بسلطات واسعة، مكنَّتهم من التصرف بما يرونه
محققًا لمصالح الدولة والمجتمع، وكانت هذه السياسة التى اتبعها
الأمويون مع ولاتهم مختلفة عن سياسة الخلفاء الراشدين؛ حيث كانت
سلطات ولاتهم مقيَّدة، وحرصوا على الفصل بين السلطات السياسية
والإدارية والعسكرية، وبين السلطات المالية والقضائية، بمعنى أنهم
كانوا يعينون إلى جانب الوالى - الذى يُسمَّى والى الحرب والصلاة-
واليًا لبيت المال يُسمَّى صاحب الخراج، وكان مسئولا أمام الخليفة
مباشرة، حتى لا تمتد أيدى الولاة إلى أموال الدولة، كما كانوا
يعينون القضاة للأقاليم بأنفسهم.
أما فى العصر الأموى، فكان الولاة يشرفون غالبًا على الشئون
المالية، ولاشك أن أسلوب الخلفاء الراشدين كان أسلم وأقوى حرصًا
على المال العام. وإذا شئنا أن نستخدم التعبيرات العصرية فى مجال
الإدارة قلنا إن إدارة الخلفاء الراشدين كانت مركزية، وكان ذلك
مطلوبًا فى ذلك الوقت؛ حيث كانت الدولة فى مرحلة البناء، وكان
الخلفاء الراشدون راغبين فى الاطلاع على كل شىء بأنفسهم، على
حين كان طابع الإدارة الأموية لامركزيا، نظرًا لاتساع الدولة، وبُعد ما
بين الولايات وعاصمة الخلافة فى (دمشق)، ولايعنى هذا أن الولاة
كانوا فى العصر الأموى يفعلون ما يشاءون دون رقابة أو محاسبة
من الخلفاء الذين لم يكونوا يترددون فى عزل أى والٍ مهما تكن
درجة قرابته منهم إذا ثبت أنه أخل بواجبات وظيفته، أو لم يقم بما
هو مكلف به على النحو الأكمل.
وكانت دقة الأمويين فى اختيار ولاتهم هى التى مكنتهم من حكم
هذه الدولة العملاقة وإدارتها وبسط الأمن والنظام فى ربوعها
الممتدة الأطراف، التى ضمت شعوبًا مختلفة الأجناس واللغات
والثقافات والعادات والتقاليد، ومن ثم فإن صهر هذه الشعوب فى
بوتقة واحدة، وإخضاعها لنظام واحد، لم يكن أمرًا سهلا، فى وقت
كانت فيه الخيل هى أسرع وسيلة للمواصلات.
وكان نجاح الأمويين فى إدارة الدولة الإسلامية بوساطة رجالهم -
ومعظمهم كانوا من أفذاذ الرجال- دليلا على عبقرية إدارية، وقدرة
فائقة فى فن الحكم وإدارة البلاد، ومهارة فى سياسة الناس، ولا
يقلل من ذلك أخطاؤهم واتهامات ناقديهم.
أبرز الولاة فى العصر الأموى:
حفل العصر الأموى بالكثير من الأسماء اللامعة التى تألقت فى فن
الحكم والإدارة، ومن أشهر تلك الأسماء:(عمرو بن العاص)، و (المغيرة
بن شعبة)، و (عتبة بن أبى سفيان)، و (مروان بن الحكم)، (ومسلمة بن
مخلد الأنصارى)، و (عقبة بن نافع)، و (عبدالعزيز بن مروان)، و (المهلب
بن أبى صفرة) وأولاده، و (زهير بن قيس البلوى)، و (حسان بن
النعمان الغسانى)، و (مسلمة بن عبدالملك)، و (قتيبة بن مسلم
الباهلى)، و (محمد بن القاسم الثقفى)، و (موسى بن نصير)، وابنه
(عبدالعزيز)، و (طارق بن زياد)، و (قرة بن شريك)، و (عبدالحميد بن
عبدالرحمن)، و (الجراح بن عبدالله الحكمى)، و (عدى بن أرطأة)،
و (السمح بن مالك الخولانى).
كما برز (عمر بن هبيرة)، و (بشر بن صفوان)، و (العباس بن الوليد)،
و (خالد بن عبدالله القسرى)، وأخوه (أسد بن عبدالله)، و (يوسف بن
عمر الثقفى)، و (الجنيد بن عبدالرحمن)، و (أشرس بن عبدالله السلمى)،
و (مروان بن محمد بن مروان)، و (يزيد بن عمر بن هبيرة)، و (نصر بن
سيار).
ثانيًا: النظم فى العصر الأموى:
كان من الطبيعى عندما قامت الدولة الأموية أن يتوسَّع الأمويون فى
إنشاء الأجهزة الإدارية والدواوين؛ لملاءمة تطور الحياة، واتساع
مساحة الدولة الإسلامية المتزايد، وهذه الدواوين تقوم بالأعمال
والاختصاصات التى تقوم بها الوزارات فى الدول المعاصرة، فديوان
الجند الذى أنشأه (عمر بن الخطاب) كان يقوم بالعمل الذى تقوم به
وزارة الدفاع حاليًا، ففيه تُدوَّن أسماء الجند وأعطياتهم - رواتبهم -
ورتبهم العسكرية، وكانت الأسماء تُدوَّن حسب القبائل، حتى تتميز
كل قبيلة من غيرها، كما يقول (الماوردى)، (فكأن كل قبيلة كانت
تمثل فرقة من فرق الجيش).
وإلى جانب (ديوان الجند) نشأ (ديوان العطاء)، وهو المختص
بالمخصصات المالية التى كانت تدفعها الدولة للناس، و (ديوان الخراج)
وهو يشبه وزارة المالية فى الوقت الحاضر، فكل موارد الدولة المالية
كانت تدخل إلى هذا الديوان، مثل غنائم الفتوحات، وخراج الأرض،
والزكاة، والعشور، وهى ضرائب كانت تُوخَذ من التجار الذين يدخلون
بتجارتهم إلى البلاد الإسلامية، وهى شبيهة برسوم الجمارك فى
الوقت الحاضر، وكانت هذه الضريبة على ثلاثة أنواع تبعًا لنوعية
التجار، فالتجار المسلمون يؤخذ منهم ربع عشر تجارتهم، والتجار من
أهل الذمة من مواطنى الدولة الإسلامية يؤخذ منهم نصف العشر، أما
التجار من الكفار الذين يدخلون البلاد الإسلامية بتجارتهم، فيؤخذ منهم
العشر.
وكانت حصيلة تلك الأموال تدخل (ديوان الخراج)، ويُنقَق منها على
الجند، والموظفين، والمرافق العامة للدولة، وهذا الديوان كان موجودًا
من عصر الراشدين، لكنه تطوَّر واتسع نطاق عمله باتساع الدولة فى
العصر الأموى.
وهناك دواوين أخرى أنشأها الأمويون أنفسهم، منها:
ديوان البريد:
وأصل هذا الديوان فى الواقع كان موجودًا منذ عهد النبى - صلى الله
عليه وسلم -، فقد بعث كثيرًا من الرسائل إلى الملوك والأمراء
المعاصرين له، يدعوهم إلى الإسلام، وحمل هذه الرسائل سفراء
ومبعوثون من قِبله، لكن (معاوية بن أبى سفيان) أنشأ لهذا النوع من
العمل ديوانًا خاصا، وهو الجديد فى ذلك الأمر، وجعل له موظفين
معينين، يقومون على العمل به، وقام (ديوان البريد) بمهمتين:
- الأولى: نقل الرسائل من دار الخلافة وإليها، وكان بعضها رسائل
داخلية، وهى المتبادلة بين الخليفة وولاة الأقاليم وكبار الموظفين،
وبعضها الآخر رسائل خارجية وهى التى يتبادلها الخليفة مع ملوك
الدول الأجنبية وزعمائها.
- والأخرى: مراقبة أعمال الولاة وكبار الموظفين، ومتابعة سلوكهم
وأسلوبهم فى إدارة ولاياتهم، وموافاة الخلافة بتقارير منتظمة؛
حتى يكون الخليفة على علم تام بكل ما يجرى فى كل الولايات.
وكانت تلك المهمة جليلة الشأن، تُطْلع الخليفة على أى خلل أو قصور
فى الإدارة، فيسارع إلى تدارك ذلك، ولذا اهتم الأمويون بديوان
البريد اهتمامًا عظيمًا لأثره البالغ فى حسن سير الإدارة ومراقبة
الموظفين.
ديوان الخاتم:
وهو يختص بحفظ نسخة من المراسلات التى كانت تدور بين الخليفة
وولاته وكبار موظفيه فى الداخل، أو بينه وبين غيره من الحكام
الأجانب، بعد ختمها بخاتم خاص، وهو بذلك أشبه ما يكون بإدارة
الأرشيف فى النظم الإدارية الحديثة، وكانت النسخة المرسَلة تُطوَى
وتغلق بالشمع، حتى لا يمكن فتحها والاطلاع على محتوياتها إلا عند
الضرورة، وقد أنشأ هذا الديوان (معاوية بن أبى سفيان)؛ لمنع
التزوير والتلاعب فى مراسلات الدولة.
وكان ختم الرسائل بخاتم خاص معروفًا فى الدولة الإسلامية منذ عهد
النبى صلى الله عليه وسلم، فعندما عزم النبى - صلى الله عليه
وسلم - على إرسال رسائله إلى الملوك والأمراء المعاصرين له،
لدعوتهم إلى الإسلام، قال له بعض أصحابه: إن الأعاجم - يقصدون
(كسرى) و (قيصر) - لا يقبلون رسالة إلا إذا كانت مختومة؛ فاتخذ
خاتمًا من فضة لختم رسائله، نقش عليه: محمد رسول الله، واتخذ له
حاملا خاصًا، سُمى (حامل خاتم النبى)، وكان اسمه (معيقب بن أبى
فاطمة الدوسى)، وظل الخلفاء الراشدون يستخدمونه فى ختم
رسائلهم حتى سقط من يد (عثمان بن عفان) - رضى الله عنه - فى بئر
(أريس)، فاتخذ خاتمًا آخر صنع على مثاله، لكن (معاوية بن أبى
سفيان) طوَّر تلك البدايات طبقًا لمقتضيات العصر، واتساع رقعة
الدولة، وكثرة المراسلات المتبادلة.
ديوان الرسائل:
ووظيفته صياغة الكتب والرسائل والعهود التى كانت تصدر عن دار
الخلافة، سواء إلى الولاة والعمال فى الداخل، أو إلى الدول
الأجنبية، كما يتلقى الرسائل الآتية من تلك الجهات أيضًا، وعرضها
على الخليفة.
وكان كُتاب ذلك الديوان يختارون بعناية، من بين المشهورين بالبلاغة
والفصاحة، والمعروفين بالتبحر فى اللغة العربية وآدابها وعلوم
الشريعة الإسلامية، والمتصفين بالمروءة والأخلاق الحميدة، كما
يراعى أن يكونوا من أرفع الناس حسبًا ونسبًا.
وقد حفل العصر الأموى بأفذاذ الكتَّاب، كان أشهرهم على الإطلاق
(عبدالحميد بن يحيى)، كاتب الخليفة (مروان بن محمد)، آخر خلفاء
(بنى أمية)، وصاحب الرسالة المشهورة التى وجهها إلى الكُتَّاب
ناصحًا ومعلمًا، وهى آية من آيات الفصاحة والبلاغة، وضمّنَها
الشروط التى يجب أن توجد فى من يقوم بتلك المهمة الجليلة بين يدى
الخلفاء والأمراء.
واختص (ديوان الرسائل) - إلى ما سبق - بقيامه بالعلاقات الخارجية
مع الدول الأجنبية، وإشرافه على الوفود التى كانت تأتى من
الخارج، لعقد معاهدة أو تبادل منافع، وتعهدهم فى بيوت الضيافة
المعدة لذلك، وتعيين المرافقين لهم - حسب أهميتهم - طوال مدة
إقامتهم، وإطلاعهم على المعالم والأماكن التى تستحق الزيارة، كما
كان يشرف على الوفود التى كانت ترسلها الدولة الأموية إلى
الخارج، وإعدادها الإعداد الكافى، وهذا يعنى أن (ديوان الرسائل)
كان يقوم بما يشبه وظيفة وزارة الخارجية فى الحكومات المعاصرة.
ديوان العمال:
ويختص بتسجيل أسماء الموظفين المدنيين فى الدولة، وترتيب
أعمالهم ووظائفهم، وتحديد رواتبهم، وقد سبقت الإشارة إلى أن
سجلات ذلك الديوان فى (البصرة) وحدها فى ولاية (عبيدالله بن زياد)
(55 - 64هـ)، كانت تحوى مائة وأربعين ألف موظف مدنى.
تعريب دواوين الخراج:
كانت كل الدواوين التى سبق الحديث عنها يجرى العمل فيها منذ
نشأتها باللغة العربية، ما عدا (ديوان الخراج) الذى كان يستخدم
لغات أجنبية، كالفارسية فى بلاد فارس و (العراق)، واليونانية فى
(مصر) و (الشام).
وظل هذا الوضع مستمرا حتى خلافة (عبدالملك بن مروان)(65 - 86هـ)،
الذى أخذ على عاتقه تعريب دواوين الخراج؛ لأن الضرورة التى دعت
إلى استخدام اللغات غير العربية فيها قد زالت، بوجود عدد كافٍ من
الموظفين العرب الذين يجيدون العمل فى تلك الدواوين، واستعد
(عبدالملك) لهذا العمل استعدادًا جيِّدًا، بإعداد فريق كبير من العاملين
العرب، المدربين للعمل فى دواوين الخراج، المجيدين للفارسية
واليونانية؛ ليتسنَّى لهم ترجمة أعمال تلك الدواوين إلى العربية، ولم
يكن ذلك العمل سهلا يسيرًا، وإنما تطلَّب جهدًا وعملا دائبًا.
وأول ديوان عُرِّب هو (ديوان الخراج) المركزى فى (دمشق) عاصمة
الخلافة الأموية وحاضرتها، وأشرف على ذلك العمل (سليمان بن سعد
الخشنى) الذى كان يعد من أبرز الكتاب فى عهد (عبدالملك)،
وشاركه عدد كبير من الموظفين، وقد نجح (سليمان) فى إنجاز ذلك
العمل فى سنة كاملة، وكافأه الخليفة على ذلك بخراج إقليم الأردن
كله لمدة عام، ممَّا يدل على أهمية ذلك العمل واهتمام الخلافة
بإنجازه فى أقصر وقت.
ثم تكفَّل (الحجاج بن يوسف الثقفى) والى (العراق) بنقل (ديوان
الخراج) فيها، وفى بقية الأجزاء الشرقية من الدول الإسلامية إلى
اللغة العربية، وعهد بتلك المهمة إلى كاتبه (صالح بن عبدالرحمن)،
وأشرف (عبدالله بن عبدالملك بن مروان) والى (مصر)(85 - 90هـ) على
نقل ديوان خراجها من اليونانية إلى العربية.
واستمرت عملية تعريب دواوين الخراج نحو نصف قرن من الزمان،
وكان آخر ديوان خراج تم تعريبه هو ديوان (خراسان)، على يد (نصر
بن سيار) سنة (124هـ)، فى خلافة (هشام بن عبدالملك)، وبذلك
أصبحت اللغة العربية هى اللغة الوحيدة السائدة فى كل المعاملات
المالية فى الدولة الإسلامية.
ولم يقتصر أثر تعريب الدواوين على النواحى المالية والإدارية، وإنما
كان له أثر عظيم فى انتشار الإسلام واللغة العربية فى البلاد
المفتوحة، لأن أبناء تلك البلاد أقبلوا على تعلُّم العربية؛ ليبقُوا فى
وظائفهم فى الديوان، ثم قادتهم العربية إلى معرفة الإسلام فأقبلوا
على اعتناقه.
وكما قام (عبد الملك بن مروان) بتعريب دواوين الخراج، أقدم على
خطوة أخرى لا تقل أهمية عن تعريب الدواوين، وهى تعريب النقد
المتداول فى الدولة، وكانت الدولة الإسلامية إلى عهده تستخدم
الدنانير البيزنطية، فقضى على هذا وأمر بإنشاء دور لسك النقود
فى (دمشق) وغيرها من المدن الإسلامية، لسك العملات التى تحمل
شعارات إسلامية، وألغى تداول العملات غير الإسلامية، وبهذا صبغ
الدولة كلها، بأجهزتها ودواوينها بالصبغة العربية الإسلامية.
الحاجب:
- (وظيفة الحاجب) من الوظائف المهمة فى الدولة الإسلامية، وهى
وثيقة الصلة بدار الخلافة، واختص صاحبها بترتيب مواعيد الخليفة،
وعرض الأعمال عليه، وتنظيم دخول القادمين لمقابلته من كبار رجال
الدولة والأمراء والوزراء والقادة، فهى أشبه بوظيفة (رئيس ديوان
رئاسة الجمهورية) فى النظم الجمهورية المعاصرة، أو وظيفة (رئيس
الديوان الملكى) فى النظم الملكية.
وقد حرص خلفاء (بنى أمية) أن يكون حُجَّابهم من أهل بيتهم، أو من
أقرب الناس إليهم من أهل الشرف والحسب والنسب، ومن ذوى الفقه
والرأى، والثقافة العالية، والعلم الغزير؛ لأنهم عدُّو (الحاجب) وجههم
الذى يطالعون به الناس، ولسانهم الذى يتحدثون به إليهم، كما
حرصوا أن يكون حجَّاب ولاتهم فى الأقاليم على المستوى نفسه.
القضاء فى العصر الأموى:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتولَّى القضاء بنفسه فى
(المدينة)، ثم أذن لبعض أصحابه بالقضاء بين الناس، لما انتشر أمر
الدعوة الإسلامية فى شبه الجزيرة العربية، وكثرت القضايا
والخصومات، وكانوا يقضون على أساس القرآن الكريم والسنة
النبوية، والاجتهاد فيما لم يرد فيه نص من كتاب الله أو سنة رسوله،
ومن الصحابة الذين كانوا يتولون القضاء فى حياة النبى - صلى الله
عليه وسلم - (عمر بن الخطاب) و (على بن أبى طالب)،و (معاذ بن جبل)،
و (عبد الله بن مسعود)، وغيرهم.
ولما بويع (أبو بكر الصديق) بالخلافة، وانشغل بمحاربة المرتدين
وتسيير الجيوش لفتح (العراق) و (الشام)، وكثرت عليه أعباء الدولة؛
خصَّ (عمر بن الخطاب) بالقضاء فى (المدينة).
وفى عهد (عمر بن الخطاب) اتسعت الدولة اتساعًا كبيرًا، فعيَّن قضاة
من قبله على الولايات، فعيَّن (كعب بن سور) على قضاء (البصرة)،
و (شريحا) على قضاء (الكوفة)، ومن أشهر من تولوا القضاء فى عهد
(عمر)(أبو موسى الأشعرى)، الذى كتب له (عمر) رسالة مشهورة،
بين له فيها أهم الأسس والمبادئ التى ينبغى للقاضى أن يسير
عليها، واستمر (عثمان) و (على بن أبى طالب) فى تعيين القضاة من
قبلهم على الولايات.
وسار الأمويون على سنة الراشدين فى تعيين القضاة على الأقاليم،
وحرصوا على أن يكون قضاتهم من أهل الاجتهاد والورع والتقى،
ولم يتدخلوا فى عملهم، وخضعوا لأحكامهم مثل غيرهم من عامة
الناس.
وقد اتسعت دائرة عمل القضاة فى العصر الأموى، نظرًا إلى اتساع
مساحة الدولة، وكثرة المشاكل والمنازعات بين الناس، مما أدَّى إلى
اتساع دائرة الفقه الإسلامى، لأن كثيرًا من أحكام القضاة فى تلك
الفترة أصبحت قواعد فقهية عند تدوين الفقه بعد ذلك، وكان بعض
القضاة يسجل أحكامه فى القضايا التى يفصل فيها، وأول من فعل
ذلك قاضى (مصر)(سليم التجيبى) فى عهد (معاوية بن أبى سفيان).
ومن أشهر القضاة فى العصر الأموى (أبو إدريس الخولانى)،
و (عبد الرحمن بن حجيرة)، و (أبو بردة بن أبى موسى الأشعرى)،
و (عبد الرحمن بن أذينة)، و (هشام بن هبيرة)، و (عامر بن شراحبيل
الشعبى)، و (عبد الله بن عامر بن يزيد اليحصبى)، وكثيرون غيرهم.
قضاء المظالم:
استُحدث هذا النظام القضائى فى العصر الأموى، وهو نوع من أنواع
القضاء المستعجل، الذى يتطلب البتّ السريع فى القضايا التى لا
تحتمل الانتظار، ويبدو أن الذى أدَّى إلى استحداث هذا النوع من
القضاء هو حدوث خصومات بين أطراف غير متكافئة، كأن يكون أحد
طرفى الخصومة أميرًا أو واليًا أو من عِلْية القوم، الأمر الذى يتطلب
حزمًا وشدة، لردع الخصم المتعالى.
ولم يُعمَل بهذا النوع من القضاء فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم
ولا فى عصر الخلفاء الراشدين، لأن الناس كانوا فى الغالب لا يتعالى
أحدهم على خصمه، على حين تغيَّر الحال بعض التغيُّر فى العصر
الأموى، ولم يعد الوازع الدينى كما كان فى العهد النبوى وعصر
الراشدين، ولم يعد القضاء العادى كافيًا للفصل فى جميع
المنازعات، لمجاهرة بعض الناس بالظلم والتعالى على الخصوم،
فدعت الضرورة إلى إنشاء هذا النوع المسمى بقضاء المظالم، وكان
له ديوان يعرف بديوان المظالم، وكانت سلطته أعلى من سلطة
القاضى.
ونظرًا إلى أهمية هذا القضاء وما يتطلبه من الحزم والهيبة، فقد كان
بعض خلفاء (بنى أمية) يتولونه بأنفسهم، وأول من جلس منهم لقضاء
المظالم هو (عبدالملك بن مروان).
وكما كان قاضى المظالم يقضى بين الأفراد عامة، فإنه كان يقضى
بين الأفراد وكبار المسئولين، الذين يحيدون عن طريق العدل
والإنصاف من الولاة وعمال الخراج.
الحسبة:
(الحسبة) نظام إسلامى يقوم بالإشراف على المرافق العامة، ومنع
أى انحراف، وعقاب المذنبين، وهى وظيفة دينية شبه قضائية،
عرفها التاريخ الإسلامى من بدايته.
تقوم على فكرة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، امتثالا لقوله
تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف
وينهون عن المنكر} [آل عمران: من 104].
والأصل فى هذا النظام الإسلامى هو قيام الناس جميعًا بهذا الواجب
الذى هو من فروض الكفاية، لكن الدولة الإسلامية لم تدع ذلك الأمر
للأفراد؛ خوفًا من حدوث فتن ومشاحنات، وإنما نظَّمته، وجعلته
وظيفة خاصة لها مسئول، يعاونه عدد كبير من الناس.
ولا يعنى تنظيم الدولة لوظيفة (الحسبة) منع الأفراد من الأمر بالمعروف
والنهى عن المنكر، بل من واجبهم القيام بهذا، بشرط أن يكون القائم
به عالمًا فقيهًا، وألا يؤدى أمره بالمعروف إلى منكر، ونهيه عن
المنكر إلى منكر أشد، وأن يكون عمله عن طريق النصيحة.
ولما لم يكن من طبيعة الناس كلهم الاستجابة إلى النصح بالتى هى
أحسن، فقد نشأت وظيفة (المحتسب)، واشترط فى شاغلها أن يكون
من أهل الهيبة، ليضرب بقوة على أيدى العابثين بأمن المجتمع فى
غذائه وصناعته وتجارته، وعلى من لا يراعى أصول الشريعة
ومبادئها فى سلوكه، ويضايق الناس بأقواله وأفعاله.
ولم يقتصر عمل (المحتسب) على ضبط سلوك العامة، ومراقبة
أعمالهم، وإنما شمل كبار موظفى الدولة، لحملهم على أداء عملهم
على أفضل ما يكون، ومنعهم من الفساد والتعدى على الناس وقبول
الرشوة، وغير ذلك.
وبدأ نظام (الحسبة) مع بداية الدولة الإسلامية، مثل غيره من النظم
التى سبق الحديث عن بعضها، فقد ثبت فى الصحيح أن الرسول
صلى الله عليه وسلم كان أول من باشر عمل (المحتسب) بنفسه، مما
يدل على أهميته، فروى (أبو هريرة) - رضى الله عنه - أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم مرَّ على رجل يبيع القمح فى سوق (المدينة)
وأمامه صبرة - كومة كبيرة - فأدخل فيها يده الشريفة، فأصابت
بللا، فقال:(ما هذا يا صاحب الطعام؟). فقال: أصابته السماء يا
رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: (أفلا جعلته فوق الطعام كى
يراه الناس؟ من غشَّ فليس منَّا). [صحيح مسلم].
وكان النبى صلى الله عليه وسلم يعين من الصحابة من يقوم بهذا
العمل ويراقب الأسواق لمنع الغش فى كل شىء، فكلَّف (عمر بن
الخطاب) بمراقبة سوق (المدينة المنورة)، وعين (سعيد بن العاص)
لمراقبة سوق (مكة) بعد فتحها.
واستمر الخلفاء الراشدون يباشرون عمل (المحتسب) بأنفسهم أحيانًا،
وينيبون غيرهم للقيام به فى أحيان أخرى.
ولما اتسعت الدولة الإسلامية فى عصر (بنى أمية)، عجز الخلفاء عن
القيام بعمل (المحتسب) بأنفسهم؛ لانشغالهم بمهام كثيرة سياسية
وإدارية وعسكرية، وخصصوا لهذا العمل من يقوم به، وأصبح نظام
(الحسبة) ووظيفة (المحتسب) من أهم النظم الإسلامية التى تعمل على
سلامة المجتمع، وتنقيته من كل المفاسد.
وقد امتد عمل (المحتسب) إلى كل مجالات الحياة تقريبًا، وقد لخَّص
(ابن خلدون) فى مقدمته اختصاصات (المحتسب) فقال: (ويبحث -
المحتسب - عن المنكرات، ويعزِّر ويؤدب على قدرها، ويحمل الناس
على المصالح العامة فى المدينة، مثل المنع من المضايقة فى
الطرقات، ومنع الحمالين وأهل السفن من الإكثار فى الحمل - لئلا
تغرق السفينة بمن فيها - والحكم على أهل المبانى المتداعية
للسقوط بهدمها، وإزالة ما يتوقَّع من ضررها على السابلة - أى:
المارة فى الطريق - والضرب على أيدى المعلمين فى المكاتب
وغيرها فى الإبلاغ - أى المبالغة - فى ضربهم للصبيان المتعلمين، ولا
يتوقف حكمه على تنازع أو استعداء، بل له النظر والحكم فيما يصل
إلى علمه من ذلك، ويرفع إليه، وليس له الحكم فى الدعاوى مطلقًا،
بل فيما يتعلق بالغش والتدليس فى المعايش وغيرها، وفى المكاييل
والموازين، وله أيضًا حمل المماطلين على الإنصاف، وأمثال ذلك مما
ليس فيه سماع بيِّنة، ولا إنفاذ حكم، وكأنها أحكام ينزَّه القاضى
عنها لعمومها، وسهولة أغراضها، فتدفع إلى صاحب هذه الوظيفة
ليقوم بها، فوضعها على ذلك أن تكون خادمة لمنصب القضاء).
وإذا نظرنا إلى عمل (المحتسب) الذى هدفه هو راحة الناس فى ضوء
النظم الحكومية المعاصرة نجده موزعًا بين العديد من الوزارات
والهيئات، مثل وزارة التموين، والصحة، والصناعة، والتعليم،
والزراعة، والداخلية، والنيابة العامة، ومصلحة الدمغة، والموازين،
والمرافق بمختلف أنواعها.
الشرطة:
يُعدُّ جهاز (الشرطة) من أقدم الأجهزة فى الدولة الإسلامية، فقد عُرف
منذ عهد النبى صلى الله عليه وسلم، وكان له (صاحب شرطة) - أى
رئيس لها - فعن (أنس بن مالك) أنه قال: (كان قيس بن سعد بن عبادة
من النبى صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير).
[صحيح البخارى].
ومن الذين عُرفوا بالقيام بوظيفة الشرطى فى (المدينة) فى عهد
الرسول صلى الله عليه وسلم: (سعد بن أبى وقاص) و (بديل بن
ورقاء)، و (أوس بن ثابت بن عرابة)، و (رافع بن خديج).
واستمر الخلفاء الراشدون فى الاستعانة ببعض الصحابة للقيام بعمل
الشرطى؛ استتبابًا للأمن، وحفظًا للنظام، وتعقبًا للجناة والمفسدين
فى الأرض، وتنفيذًا للأحكام والحدود التى يحكم بها القضاة.
وقد ازدادت أهمية جهاز (الشرطة) فى الدولة الأموية، نظرًا إلى
الظروف التى كانت تحيط بها، وكثرة الخارجين عليها والثائرين
ضدها، فتوسعت فى استخدام (الشرطة)، حتى أصبح جهازًا من أكبر
أجهزة الدولة، قادرًا على حفظ الأمن وتطهير البلاد من عناصر الفساد
والعبث بالنظام العام للمجتمع.
وحرص الأمويون على اختيار رجال شرطتهم من أهل الشرف والبأس
الشديد، والعفة والمروءة والحزم، وأعطوا (صاحب الشرطة) الحرية
التامة فى اختيار معاونيه، ليؤدوا مهمتهم على الوجه الأكمل، فيروى
عن (الحجَّاج بن يوسف الثقفى) والى (العراق) والمشرق الإسلامى أنه
قال: (دلونى على رجل للشرطة)، فقيل له:(أى الرجال تريد؟)
قال: (أريده دائم العبوس - أى جاداً فى ملامحه- طويل الجلوس، سميق
الأمانة، أعجف الخيانة -أى لا يخون-) فقيل له: (عليك بعبد الرحمن بن
عبيد التميمى)، فأرسل إليه يستعمله على (الشرطة)، فقال: (لست
أقبلها إلا أن تكفينى عيالك وولدك وحاشيتك)، فقال (الحجاج): (يا
غلام نادِ فى الناس: من طلب إليه منهم حاجة فقد برئت منه الذمة).
ويعلّق (الشعبى) راوى هذا الخبر بقوله: (فو الله ما رأيت صاحب
شرطة قط مثله، كان لا يحبس إلا فى دين - أى: من أجل مخالفة
لتعاليم الدين - وكان إذا أُتى برجل قد نقَّب على قوم وضع منقبته
فى بطنه حتى تخرج من ظهره، وإذا أُتى بنبَّاش حفر له قبرًا فدفنه
فيه، وإذا أُتى برجل قاتل بحديدة أو شهر سلاحًا قطع يده، وإذا
أتى برجل قد أحرق على قوم منزلهم أحرقه .. فكان ربما أقام
أربعين ليلة لا يؤتى بأحد - لخوف الناس منه لشدته وهيبته - فضم إليه
الحجاج شرطة البصرة مع شرطة الكوفة).
وبعد هذا الحديث الموجز عن النظم والإدارة فى العصر الأموى يمكن
القول: إن إدارة الأمويين للدولة الإسلامية كانت إدارة حسنة بصفة
عامة، تقوم على أسس ثابتة، تبغى الصالح العام، وإشاعة الأمن
والاستقرار فى الدولة المترامية الأطراف، وإن شاب ذلك بعض القصور
والأخطاء، وحسب الأمويين أنهم لم يكفُّوا عن تطوير أجهزة الدولة
ودواوينها التى كانت موجودة قبلهم، واستحدثوا غيرها حين دعت
الضرورة إلى ذلك، وأنهم بذلوا جهدًا فى التدقيق فى اختيار الولاة
والعمال والموظفين، وأحسنوا مراقبتهم ومتابعتهم، ونجحوا فى ذلك
إلى حد كبير.
طبقات المجتمع:
من يتأمل حياة المجتمع الإسلامى فى العصر الأموى يرى أنه يمكن
تقسيمه إلى خمس طبقات:
- الطبقة الأولى: الخلفاء وأبناؤهم وأفراد أسرتهم، وهؤلاء بحكم
وضعهم أصبحوا فى منزلة لا يدانيهم فيها أحد.
- الطبقة الثانية: كبار الولاة والقادة وغيرهم من كتاب الدواوين.
- الطبقة الثالثة: العلماء وإن اختلفت أجناسهم، وهذه الطبقة وإن كان
ترتيبها المرتبة الثالثة من الناحية الاجتماعية، فإن كثيرين منها كانوا
يحظون بحب الناس وتقديرهم ربما بأكثر مما يحظى به الخلفاء
والأمراء.
- الطبقة الرابعة: كبار الأثرياء والتجار ورؤساء العشائر.
- الطبقة الخامسة: عامة الناس من الزراع والحرفيين.
تطور معيشة الخلفاء الأمويين ومظهرهم:
لم يستطع خلفاء (بنى أمية) المحافظة على نمط حياة الخلفاء
الراشدين، من بساطة وزهد فى المأكل والملبس والمسكن، ولم تطقه
نفوسهم، حتى إن (معاوية بن أبى سفيان) صرَّح بعدم قدرته على
مجاراة سلوكهم، وهو مؤسس الدولة، وكاتب الوحى لرسول الله
صلى الله عليه وسلم، وقال: (لقد رمت نفسى على عمل ابن أبى
قحافة - أبى بكر الصديق - فلم أجدها تقوم بذلك ولا تقدر عليه،
وأردتها على عمل ابن الخطاب، فكانت أشد نفورًا وأعظم هربًا من
ذلك، وحاولتها على مثل عثمان فأبت علىَّ، وأين مثل هؤلاء؟ ومن
يقدر على أعمالهم؟ هيهات أن يدرك فضلهم أحد ممن بعدهم؟ رحمة
الله ورضوانه عليهم، غير أنى سلكت بها طريقًا لى فيه منفعة ولكم
فيه مثل ذلك، ولكل فيه مؤاكلة حسنة، ومشاربة جميلة ما استقامت
السيرة وحسنت الطاعة، فإن لم تجدونى خيركم، فأنا خير لكم).
وعلى هذا عاش (معاوية) فى (دمشق) التى اتخذها عاصمة لدولته
عيشة فيها توسع فى المأكل والمشرب والملبس والمسكن، والحق
أن (معاوية) كان يعيش وهو أمير على الشام حياة نعمة وسعة إذا ما
قورنت بحياة الخلفاء الراشدين، بل إن (عمر بن الخطاب) لم ينكر عليه
مثل هذه الحياة، ولم ينهه عنها، ففى إحدى زيارات (عمر) إلى الشام
لقيه أميرها (معاوية) وهو فى أبهة الملك وزيِّه، فاستنكر (عمر) ذلك
فى البداية، وقال:(أكسرويه يا معاوية؟)، يعنى أتتشبَّه بكسرى؟،
فقال (معاوية): (يا أمير المؤمنين إنا فى ثغر تجاه العدو -يقصد الدولة
البيزنطية - وبنا إلى مباهاتهم بزينة الحرب والجهاد حاجة)، فسكت
(عمر) ولم يخطِّئه لما وجد حجته قوية.
وإذا كان (معاوية) توسَّع فى معيشته وهو أمير، فليس بغريب بعد أن
أصبح خليفة أن تحف به مظاهر الملك، من اتخاذ الحراس والشرطة،
والحجاب، وإرخاء الستور، وسكنى القصور ذات الحدائق الغنَّاء فى
عاصمته (دمشق) التى تعد من أقدم مدن العالم، وكانت عامرة
بالمبانى الفاخرة والحدائق والبساتين، بل إنه اتخذ مقصورة ليصلى
فيها منعزلا عن الناس بعد تعرضه لمحاولة اغتيال سنة (40هـ).
ونظرًا لهذه الحياة المترفة الباذخة قيل عن (معاوية): إنه كان ملكًا لا
خليفة، بل رُوى عنه نفسه أنه قال:(أنا أول الملوك)، ووصفه (ابن
عباس) بأنه كان ملكًا، وقال عنه (ابن تيمية): (فلم يكن من ملوك
المسلمين ملك خيرًا من معاوية، ولا كان الناس فى زمان ملك من
الملوك خيرًا منهم فى زمان معاوية، إذا نسبت أيامه إلى أيام من
بعده، أمَّا إذا نسبت إلى أيام أبى بكر وعمر ظهر التفاضل)، كما
يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يؤيد أن حكم (معاوية)
كان بداية الملك فى الإسلام، فقال: (إن هذا الأمر بدأ رحمة ونبوة، ثم
يكون رحمة وخلافة، ثم كائن ملكًا عضوضًا). [ابن كثير].
وقال: (الخلافة بعدى ثلاثون سنة، ثم تكون ملكًا). [ابن كثير].
ولا يظنن أحد أن وصف (معاوية بن أبى سفيان) - رضى الله عنه -
بالملك فيه انتقاص من قدره؛ لأن الملك لا يُذَم لذاته، وإنما لما يحفّ به
من المظالم والطغيان، أمَّا إذا قام على الحق وبالحق فلا يُذَم، ولو
كان الملك مذمومًا فى ذاته ما تمنَّاه (سليمان بن داود) عليهما السلام
- حيث قال: {رب اغفر لى وهب لى ملكًا لا ينبغى لأحد من بعدى} .
[ص: من 35].
والإسلام لا يهمه ما يُلقَّب به الحاكم المسلم، خليفة كان أو ملكًا، وإنما
يعنيه أن يحكم بشريعة الله وسنة رسوله.
إن حياة الترف التى عاش فيها خلفاء الدولة الأموية، كانت من
مقتضيات التطور الاجتماعى الطبيعى فى حياة الأمة، بعد أن كثرت
الأموال فى أيديهم كثرة هائلة من الغنائم، وكان من الطبيعى أن
يؤدى ذلك إلى الميل إلى حياة الترف، ولم يكن فى وسع أحد أن
يوقف ذلك الميل، بل إن (ابن خلدون) رأى أن الترف فى أول نشوء
الدولة كان مطلوبًا؛ لأنه يزيدها قوة على قوتها، وعقد لذلك فصلا
فى مقدمته -المعروفة- بعنوان: (فصل فى أن الترف يزيد الدولة فى
أولها قوة إلى قوتها).
والمتأمل لتاريخ الدولة الأموية يتفق مع (ابن خلدون) فى هذا التعليل،
لأن (معاوية بن أبى سفيان) ومن تلاه من أوائل خلفاء الدولة
استخدموا الأموال فى تأليف الناس حولهم واستكثروا من الذرية
والموالى والصنائع - الأنصار والأتباع - لترسيخ قواعد الدولة حتى
بلغت أوج قوتها، وفى ذلك يقول (ابن طباطبا) بعد أن وصف
(معاوية) بالحلم وحسن السياسة والتدبير للملك: (وكان كريمًا باذلا
للمال، محبا للرياسة، شغوفًا بها، كان يفضل على أشراف رعيته
كثيرًا، فلا يزال أشراف قريش، مثل: عبدالله بن العباس، وعبدالله بن
الزبير، وعبدالله بن جعفر الطيار، وعبدالله بن عمر، وعبدالرحمن بن
أبى بكر، وأبان ابن عثمان وناس من آل أبى طالب - رضى الله عنهم
- يفدون عليه بدمشق، فيكرم مثواهم، ويحسن قراهم، ويقضى
حوائجهم، بمثل هذه السياسة صار خليفة العالم الإسلامى وخضع له
أبناء المهاجرين والأنصار، وكل من يعتقد أنه أولى منه بالخلافة).
وسار (يزيد بن معاوية) على خطى أبيه فى الإحسان إلى الناس
واستمالتهم بالأموال، وكذلك فعل (مروان بن الحكم) وابنه (عبدالملك)
وأولاده.
تحرى بنى أمية للحق والعدل:
حرص خلفاء الدولة الأموية الأوائل وأمراؤها على الالتزام بمقررات
الإسلام فى جمع الأموال، والإذعان لكلمة الحق مهما يكن قائلها،
فحين أراد (معاوية بن أبى سفيان) أن يزيد على أهل (مصر) فى
مقدار الجزية التى فرضت عليهم عند أول الفتح الإسلامى لبلادهم، إذا
بعامله على بيت المال - (وردان) - يقول له: (كيف تزيد عليهم يا أمير
المؤمنين وفى عهدهم ألا يزاد عليهم) فيذعن الخليفة لقول عامله
ويكف عن الزيادة، وعندما أراد (عبدالعزيز بن مروان) والى (مصر)
(65 - 85هـ) أن يأخذ الجزية من المسلمين الجدد عارضه القاضى (ابن
حجيرة) قائلا له: (أعيذك بالله أيها الأمير أن تكون أول من سنَّ ذلك
بمصر) فتركهم.
وظلت معارضة العلماء قوية لكل من تسول له نفسه الخروج على
مبادئ الإسلام حتى جاء (عمر بن عبدالعزيز)(99 - 101هـ) فقضى
تمامًا على كل سلوك شاذ، وصاح صيحته الخالدة فى وجوه العمال
الذين كان همهم جمع المال بأى طريقة، قائلا لهم: (قبح الله رأيكم،
فإن الله - تعالى - بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم هاديًا ولم يبعثه
جابيًا).
وإذا كان دخول الأموال إلى بيت المال خضع للعدل والتحرى، فإن
خروجه منه لم يخضع لمثل ذلك، والمصادر التاريخية التى أعطت
نماذج وأمثلة كثيرة على تحرى خلفاء (بنى أمية) العدل فى جمع
الأموال وجبايتها، هى نفسها التى تقدم أمثلة من التجاوزات التى
كانت تحدث فى إنفاق الأموال، سواء من الخلفاء وأبنائهم، أو من
عمالهم وولاتهم، وهذا دليل على نزاهة المصادر التاريخية وأمانتها
بصفة عامة، وأن مؤلفيها لم يجاملوا الحكام، وكانت لديهم الجرأة
والشجاعة لتسجيل كل مخالفة شرعية.
والحق أن بعض الخلفاء الأمويين قد تجاوزوا سنة الخلفاء الراشدين
فى نظرتهم إلى المال العام، وكان الراشدون ينزهون أنفسهم
وأولادهم تمامًا عن أموال المسلمين، ويحوطون بيت المال بالضمانات
التى تحفظ الأموال وتصونها؛ حتى لا تمتد إليها يد من لا يستحق، لكن
هذا الوضع تغيَّر كثيرًا فى العصر الأموى، ولم يعد هناك حد فاصل
بين بيت المال المركزى فى (دمشق) وبين مال الخلفاء، فأغدقوا
بالمنح والعطايا والهبات على أبنائهم وأقربائهم وأنصارهم
وشعرائهم الذين يمدحونهم ويروجون لأفكارهم وسياساتهم، وكذلك
لم يعد هناك حد فاصل بين بيوت المال فى الأقاليم والولايات وبين
مال الولاة، الذين كانت بيوت المال تحت إشرافهم المباشر يأخذون
منها ما يريدون، ويعطون من يشاءون.
وقد أدَّى ذلك إلى تضخُّم ثروات الخلفاء وأبنائهم وبعض ولاتهم،
حتى تولَّى الخلافة (عمر بن عبدالعزيز)، الذى بدأ عهده بالعكوف
على سجلات الدولة، وتحرَّى الإقطاعات والهبات التى مُنحت لأمراء
(بنى أمية) وأتباعهم، وأخذ فى رد الأموال التى ثبت أنها أُعطيت
بغير حق إلى بيت مال المسلمين، وبدأ بنفسه، وعزل الولاة الذين
أفسدوا الحياة الإدارية والمالية، وعيَّن فى مكانهم ولاة من أهل
الخبرة والتقوى والصلاح.
وقد أدَّت سياسته الإصلاحية إلى نتائج باهرة فى غضون فترات
زمنية قصيرة (99 - 101هـ)، واستقامت الأمور وتحقق العدل، وتوافر
الحد الأدنى من المعيشة الكريمة لكل إنسان فى الدولة الإسلامية،
التى امتدت حدودها شرقًا وغربًا، ولم يعد فيها من يستحق الصدقة،
حتى ليروى الإمام (الذهبى) عن (عبدالرحمن بن يزيد بن عمر بن
أسيد) أنه قال: (والله ما مات عمر بن عبدالعزيز حتى جعل الرجل
يأتينا بالمال العظيم - الكثير - فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون، فما
يبرح حتى يرجع بماله كله، قد أغنى عمر الناس).
انحراف أواخر خلفاء بنى أمية عن الجادة:
لم يكن خلفاء الدولة الأموية المتأخرون على درجة عالية من الكفاءة
السياسية والإدارية، والسهر على رعاية مصالح المسلمين، وتحرى
العدل بصفة عامة كما كان خلفاء (بنى أمية) الأوائل، وإنما كانت
تنقصهم الكفاية والمقدرة السياسية، إلى جانب إفراطهم فى حياة
الترف، وعكوفهم على الملذات والشهوات، وتبديد الأموال وإنفاقها
فى وجوه غير مشروعة، وتركهم رعاية مصالح الأمة، وإهمالهم
مقاصد الشريعة، فزالت دولتهم نتيجة لهذا السلوك المعوج، وقد فطن
إلى ذلك خصمهم الخليفة العباسى (أبو جعفر المنصور)(136 - 158هـ)
فقال عنهم: (ولم يزل بنو أمية ضابطين لما مهد لهم من السلطان،
يحوطونه ويصونون ما وهب الله لهم منه، مع تسنمهم معالى الأمور،
ورفضهم دنياتها، حتى أفضى الأمر إلى أبنائهم المترفين، فكانت
همتهم قصد الشهوات، وركوب الملذات من معاصى الله، جهلا
باستدراجه وأمنًا لمكره، مع إطراحهم صيانة الخلافة، واستخفافهم
بحق الرئاسة، وضعفهم عن السياسة، فسلبهم الله العز، وألبسهم
الذل، ونفى عنهم النعمة).
مظاهر الحياة الاجتماعية:
كان المجتمع الإسلامى فى العصر الأموى مجتمعًا شابا متوقِّدًا حياة
وفتوة فى كل شىء؛ ثراء عريض، وقوة عسكرية واقتصادية
هائلة، ونهضة علمية فى بواكيرها تنبئ بازدهار حضارة عظيمة،
وتخلل تلك الحياة الجادة بعض مظاهر اللهو والتسلية البريئة للترويح
عن النفوس.
مجالس الخلفاء وآدابها:
كان للخلفاء مجالس يعقدونها للمسامرة مع أقربائهم وأصدقائهم،
وكان لتلك المجالس آداب وطقوس خاصة، فى كيفية تعامل الناس مع
الخليفة فى حضرته، فيجب أن يكون كلامهم على قدر الحاجة، وأن
تكون ألفاظهم منتقاة، وكان الخلفاء يصونون مجالسهم عن الكذب
والنفاق، وقلما كان يستمع الخلفاء الأمويون الأوائل إلى الغناء،
وإنما كانوا يحبون سماع الشعر فى مجالسهم، على حين ترخص
المتأخرون منهم فى سماع الأغانى كثيرًا، وكانوا يظهرون للندماء
والمغنين، ومن أشهر من فعل ذلك، وتبذَّل حتى أزرى بمنصب
الخلافة فى نظر الناس (يزيد بن عبدالملك) وابنه (الوليد).
الطعام والشراب:
كانت حياة العرب بسيطة، وبخاصة فيما يتعلق بالطعام، ولم يتجاوز
أغلب طعامهم صنفًا أو صنفين، وكان أفضل طعامهم اللحم مع الثريد،
ولكن تغير الحال بعد الفتوحات الإسلامية، واتساع الدولة وكثرة
الأموال، ومخالطتهم الشعوب فى البلاد المفتوحة، وكانت أكثر منهم
مدنية، فعرفوا ألوانًا من الطعام والشراب، واستخدموا أدوات للمائدة
لم يكونوا يعرفونها من قبل، فاستخدموا (الفوط) و (الملاعق) الخشبية
والفخارية، التى كانت تأتيهم من (الصين)، وعرفوا (الموائد) الخشبية،
وجلسوا على كراسى خشبية حولها، وكانوا من قبل يجلسون على
الأرض ويأكلون بأيديهم.
وكان من عادة الخلفاء والأمراء والأغنياء إقامة الولائم لإطعام الناس،
وكان للأكل مع الخلفاء آداب خاصة، فوق الآداب العامة المعروفة
للطعام، فكما يقول (الجاحظ): (إن الأكل لم يكن للشبع وإنما للشرف،
فعلى من يؤاكلهم أن يراعى ذلك وألا يكون شرهًا فى تناول
الطعام).
الملابس:
توسع المجتمع فى العصر الأموى وتأنق فى الملابس والأزياء، فلبس
الناس الحرير والديباج والإستبرق، وبخاصة الشباب الذين كانوا
يلبسون ملابس موشاة، وكانت الملابس تختلف من فئة إلى أخرى
على قدر ثرائها ومراكزها الاجتماعية، فكانت ملابس الفقهاء تختلف
عن ملابس الكتاب، وهؤلاء تختلف ملابسهم عن ملابس الجند، وكان
شيوخ القبائل ومن فى منزلتهم من علية القوم يرتدون الأقبية التى
تصل إلى الركبتين، يعلوها جلباب فضفاض يتدلَّى إلى العقبين.
وكانت عناية النساء بالملابس والأزياء أكثر من عناية الرجال،
وتكونت ثيابهن من سروال فضفاض وقميص مشقوق عند الرقبة،
وعند خروج المرأة إلى الشارع فإنها ترتدى عباءة تغطى جسمها
وتلف رأسها بمنديل يربط حول الرقبة، مثل (الإيشارب) الذى تستعمله
النساء فى الوقت الحاضر.
وتوسَّع النساء فى استخدام الحلى والجواهر من اللآلئ واليواقيت
والذهب وسائر أدوات التجميل.
وإلى جانب التأنق فى الملابس أحب الناس أنواع الطيب وأكثروا
منها، واستخدموا الحناء، وخضَّبوا بها لحاهم وأيديهم، وفعل الخلفاء
ذلك.
مكانة المرأة فى المجتمع:
كانت للمرأة مكانة كبيرة وأثر واضح فى الحياة العامة، ومن أشهر
النساء: (سكينة بنت الحسين بن على بن أبى طالب)، وكانت من أعلم
النساء وأظرفهن، وأحسنهن أخلاقًا، وتذكر المصادر التاريخية أن
الشعراء كانوا يجتمعون عندها وكان لها ذوق رفيع فى نقد الشعر،
ومما يذكر لها فى هذا المجال أنه اجتمع عندها يومًا
(جرير)،و (الفرزدق)، و (كثير عزة)، و (جميل بثينة)، وأنشدوا بين يديها
أشعارهم، فنقدت شعر كل منهم، ثم أجازت كل واحد بألف دينار.
وتقرن بسكينة فى هذا المجال (عائشة بنت طلحة)، وكانت نابغة فى
الأدب والسخاء كأبيها (طلحة) الجواد، وقد تزوج (مصعب بن الزبير)
حاكم (العراق) فى خلافة أخيه (عبدالله بن الزبير)(67 - 72هـ) كلا من
(سكينة) و (عائشة بنت طلحة)، بعد أن أمهر كل واحدة منهما مليون
درهم.
ومن ألمع النساء فى ذلك العصر: (أم البنين) زوج الخليفة (الوليد بن
عبد الملك)، وقد اشتهرت بالفصاحة والبلاغة وقوة الحجة وبعد النظر،
وكانت لها مكانة كبيرة عند زوجها (الوليد) وكان يستشيرها فى
كثير من أمور الدولة.
وقد كثرت الجوارى من سبايا الحروب فى البيوت، مما كان له أثره
البالغ فى الحياة الاجتماعية، فقد نقلوا إلى البيت العربى عادات
شعوبهم وتقاليدها فى الطعام والشراب والملبس.
الاحتفال بالأعياد والمناسبات:
عيد الفطر وعيد الأضحى من أعظم المناسبات الدينية فى الإسلام،
يُظهِر فيهما المسلمون السرور، ويدخلون البهجة على أنفسهم
وأسرهم وجيرانهم.
كان الخلفاء يخرجون فى يوم العيد للصلاة فى موكب مهيب، يتقدمهم
الجند، ويحيط بهم الأمراء وكبار رجال الدولة، وتتجاوب أصوات
المسلمين بالتهليل والتكبير، وتقام الزينات، وتسطع المشاعل
والقناديل فى ليالى العيد، وكان لولاة الأقاليم مواكب تشبه مواكب
الخلفاء.
حفلات الزواج:
تطورت حفلات الزواج فى العصر الأموى لتجارى ما أصبح عليه
المجتمع من ترف وثراء، بعد أن كانت فى عهد الرسول - صلى الله
عليه وسلم - والخلفاء الراشدين غاية فى البساطة والبعد عن التكلف،
وبالغ الناس فى المهور، وقد سبق أن ذُكر أن (مصعب بن الزبير)
أمهر كلا من زوجتيه (سكينة بنت الحسين) و (عائشة بنت طلحة) مليون
درهم.
وكما بالغوا فى المهور بالغوا فى إقامة الولائم الحافلة بأطيب أنواع
الطعام، وفى يوم الزفاف يلعب الفتيان بالرماح، ويتسابقون بالخيل،
وتجلس النساء على النمارق ويتزين بالحلى والجواهر الثمينة، وتكون
العروس فى أبهى صورة وأجمل زينة، يحيط بها أترابها، يغنين لها
حتى تذهب إلى بيت زوجها.
وكانت تقام - أيضًا - حفلات لختان الأطفال، يحييها المغنون وأصحاب
الفكاهة، وهذا كان يحدث فى بيوت الصحابة والتابعين، فيذكر (ابن
قتيبة) فى (عيون الأخبار) أن (عبد الله بن عباس) - رضى الله عنهما -
دعا بعض اللعَّابين فى حفل ختان بعض أولاده، فلعبوا بألعابهم،
فأعطاهم أربعمائة درهم، كما أن تلميذه (عطاء بن أبى رباح)
استدعى اثنين من كبار المغنين وهما (الغريض) و (ابن سريج) فى
حفل ختان ولده، وكان الناس يقيمون الموائد الفاخرة المليئة بألوان
الطعام فى هذه المناسبات.
وسائل الترفيه والتسلية:
عرفت المجتمعات الإسلامية فى ذلك العصر ضروبًا مختلفة من اللهو
واللعب والتسلية، وعلى رأسها الغناء الذى شغف به الناس كثيرًا،
فازدهر وأصبحت له دور خاصة يقصدها الناس للسماع والمتعة.
وشاع فى المجتمع أن اتخذ بعض الأثرياء المترفين أناسًا يضحكونهم
ويدخلون السرور على أنفسهم، ويزيلون منها الملل، وهذا النوع من
اللهو لا يوجد عادة إلا بعد أن تتحضَّر الأمة، وتسير أشواطًا كثيرة
فى حياة الترف، ومن ثم ظهرت طائفة من المضحكين، كان على
رأسهم (أشعب بن جبير) مضحك (المدينة)، وكان أشرافها يعجبون به
ويجالسونه، ويقيم عندهم أيامًا فى دورهم، وقد تناقل أهل (المدينة)
فكاهات (أشعب) ونوادره كما يتناقل الناس اليوم النكات، وأصبح
لكل مدينة أشعبها الذى يضحكها، وربما أكثر من أشعب.
وعرف المجتمع الإسلامى من وسائل اللهو والتسلية ألعاب النرد
والشطرنج، وقد تسامح بعض العلماء فى ذلك، حتى يُروَى أن
(سعيد بن المسيب) وهو من أئمة التابعين سُئل عن اللعب بالنرد،
فقال: (إذا لم يكن قمارًا فلا بأس بهـ)، والنرد هى لعبة (الطاولة)
المعروفة الآن، أخذها العرب هى والشطرنج من الفرس.
وإلى جانب ذلك شغل بعض الناس أنفسهم بأنواع من الرياضة،
كالصيد وسباق الخيل، وكان بعض خلفاء (بنى أمية) يحبون الصيد
لفوائده الكثيرة. ورأى كثير من الناس فى سباق الخيل تسلية
وترويضًا لأنفسهم على ركوب الخيل، التى كانت وسيلة القتال
الرئيسية، وأقام الأمويون حلبات لسباق الخيل، ويُروَى أن أول من
أقام تلك المسابقات من خلفاء بنى أمية هو الخليفة (هشام بن
عبدالملك) (105 - 125هـ)، وكانت تشترك فيها أعداد كبيرة من
الخيول، بلغت فى إحدى المسابقات أربعة آلاف فرس.
ويجدر بالذكر أن كل ما سبق من عادات وتقاليد وضروب الحياة
الاجتماعية كان سائدًا فى كل العالم الإسلامى، على الرغم من تنوع
الأجناس التى ضمتها الدولة الأموية.
الأحوال الاقتصادية:
كثرت المصادر التى تحدثت عن الشئون الاقتصادية والمالية، مثل
كتاب (الخراج) لأبى يوسف المتوفى سنة (182هـ)، وكتاب (الأموال)
لأبى عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة (224هـ)، غير أن هذه
المصادر لا تقدم لنا إحصاءات عن دخل الدولة الإسلامية فى العصر
الأموى، ولا شيئًا من ميزانياتها، وإنما هى أبحاث فقهية على وجه
العموم، تبحث فى مسائل الغنائم والجزية والخراج وغير ذلك.
ويمكن أن نكوِّن فكرة عن الأحوال الاقتصادية فى ذلك العصر، من
خلال دراسة مستوى المعيشة التى كان يحياها الناس على اختلاف
مستوياتهم، واحتفالاتهم فى مناسباتهم الاجتماعية، كالأعياد
وحفلات الزواج والختان، ومن خلال الحركة العمرانية الكبيرة التى
شهدها ذلك العصر، من بناء المدن والمساجد وتعبيد الطرق وغيرها
من المنشآت، بالإضافة إلى الخدمات المجانية التى تقدمها الدولة
للناس، كالعلاج وإعالة المحتاجين. وكل هذه المشروعات لم تكن
لتقام إلا إذا كانت موارد الدولة المالية تسمح بذلك، كما أن السياسة
المالية التى اتبعها (عمر بن عبدالعزيز) قضت على الفقر فى ربوع
الدولة، إلى الحد الذى كان لا يجد فيه عمال الصدقات فقراء يعطونهم
منها، لأن الناس فى كفاية من الرزق، فأمر الخليفة أن يساعد من تلك
الأموال من يريد الزواج من الشباب، ويعين من يبغى أداء فريضة
الحج، وأن يشترى الأرقاء لتحريرهم.
موارد الدولة:
وتتمثل فى:
- خراج الأرض المفتوحة:
ويأتى على رأس موارد الدولة فى العصر الأموى، وكانت تلك
الأراضى مملوكة للدولة الإسلامية منذ الفتوحات الأولى فى عهد (عمر
بن الخطاب) - رضى الله عنه - الذى اجتهد وقرر بعد استشارة كبار
الصحابة عدم تقسيم الأرض المفتوحة على المجاهدين، وجعلها ملكًا
للدولة، وأبقاها فى أيدى أهلها يزرعونها، مقابل إيجار يدفعونه
للدولة، وهذا الإيجار أو الخراج تنفق منه الدولة على الجيش
والموظفين، وتقيم المرافق التى يحتاج إليها.
وكان هذا اجتهادًا عظيمًا من (عمر)، لأنه أبقى الأرض فى أيدى
أصحابها، وهم من أهل الخبرة فى فلاحتها، وضمن فى الوقت نفسه
موردًا ماليا ضخمًا وثابتًا، ثم أقدم (عمر) على خطوة عظيمة الأهمية
وذات دلالة كبيرة على فطنته الاقتصادية، فقد أمر بإعادة مساحة
الأرض المفتوحة، وقسمها على حسب إنتاجيتها إلى ثلاثة أنواع،
وفرض على كل نوع الخراج الذى يناسبه؛ لئلا يُظلَم الفلاحون،
وليبذلوا طاقتهم فى تحسين الإنتاج.
غنائم الحرب:
وهى الأموال المنقولة من نقود وغيرها، وكانت بكميات كبيرة فى
ذلك الوقت، وكان خمسها يدخل بيت مال الدولة، على حين تُوزَّع
الأربعة الأخماس على المجاهدين.
- الجزية المفروضة على أهل الكتاب: وهم اليهود والنصارى، ومن
فى حكمهم كالمجوس؛ حيث عاملهم المسلمون فيما يتعلق بالجزية
معاملة أهل الكتاب، وقد قنن الفقهاء قيمة الجزية، بعد استقراء
تطبيقات الخلفاء، فقدروها بثمانية وأربعين درهمًا للأغنياء، وأربعة
وعشرين للمتوسطين، واثنى عشر للفقراء القادرين على الكسب،
وأعفوا منها النساء والأطفال وكبار السن، ورجال الدين، والعاجزين
عن الكسب، بل إن الفقراء العاجزين عن الكسب من أهل الكتاب فُرض
لهم عطاء من بيت مال المسلمين.
- الزكاة: وتؤخذ من المسلمين، ومقاديرها معروفة فى كتب الفقه،
وتؤدى للدولة التى عدتها موردًا من مواردها المالية، تنفق منه فى
الأوجه التى حددتها الآية الكريمة: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين
والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب والغارمين وفى سبيل
الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم}. [التوبة: 60].
- ضرائب التجارة الداخلة إلى البلاد الإسلامية أو الخارجة منها أو
العابرة:
وكانت تمثل موردًا كبيرًا من موارد الدولة؛ إذ كانت أهم الطرق
التجارية وأعظمها تمر فى ذلك الوقت ببلاد إسلامية، من حدود
(الصين) فى الشرق إلى (الأندلس) فى الغرب.
وقد نظم المسلمون منذ وقت مبكر تحصيل هذه الضرائب، وهى
المعروفة الآن برسوم الجمارك، ففرضوا على التجار المسلمين ربع
عشر قيمة تجارتهم، وعلى التجار من أهل الذمة الذين هم من رعايا
الدولة الإسلامية نصف العشر، وعلى التجار الكفار الذين هم من أهل
الحرب العشر.
ولا يظنن أحد أن فى هذا تفريقًا بين التجار المسلمين ونظرائهم من
أهل الذمة من رعايا الدولة؛ لأن التجار المسلمين يدفعون زكاة أموال
تجارتهم كلها بعد دفع ضريبة ربع العشر، فى حين لا يدفع التجار من
أهل الذمة شيئًا سوى نصف العشر المفروض على التجارة، فهم لا
يدفعون زكاة لأنها لا تُفرَض إلا على المسلمين.
الركاز: وهو ما يستخرج من باطن الأرض كالذهب والفضة والنحاس،
فإذا كان المستخرَج من أرض مملوكة ملكية خاصة، فإن أصحابها
يدفعون للدولة الخمس، لأن الفقهاء جعلوا ذلك النوع من الأموال مثل
الغنائم، التى يخصص خمسها للدولة، أمَّا إذا استخرجت هذه المعادن
من أراضى الدولة، فإن ريعها يدخل بطبيعة الحال إلى بيت المال.
النشاط الاقتصادى:
الزراعة:
عنى العرب الفاتحون بالزراعة عناية عظيمة، واستفادوا فى ذلك من
خبرات أبناء البلاد المفتوحة، فعندما تم فتح (مصر) أمر (عمر بن
الخطاب) واليه (عمرو بن العاص) أن يسأل أهلها عن أفضل الطرق
للنهوض بها وباقتصادها، فأخبر أن أفضل طريقة للنهوض بها هى
الزراعة؛ لأنها المورد الرئيسى لاقتصاد البلاد، وهذا يتطلب العناية
بالنيل والترع المتفرعة عنه، وكذلك فعل (عمر بن الخطاب) فى
(العراق) و (الشام).
وقد سار الأمويون على هذه السياسة، فاهتموا بنظام الرى وإقامة
الجسور وشق الترع وتطهيرها موسميا، وبخاصة أن الدولة كان
يجرى على أراضيها أعظم الأنهار وأكثرها طولا، من (نهر النيل) فى
(مصر) إلى (دجلة) و (الفرات) وفروعهما فى (العراق)، إلى أنهار الشام
الرئيسية: (بردى) و (العاصى) و (اليرموك)، إلى نهرى (جيحون)
و (سيحون) فى بلاد (ما وراء النهر)، إلى الأنهار العديدة فى
(الأندلس)، بالإضافة إلى رقعة واسعة من أخصب الأراضى.
وقد عمل (الحجاج بن يوسف الثقفى) على إصلاح شئون الزراعة
أثناء ولايته على (العراق) والمشرق، فأصلح كثيرًا من الأراضى التى
لم تكن مزروعة، وأمر بعودة الفلاحين إلى قراهم، بعد أن رأى ما
أصاب الزراعة من ضرر ونقص فى المحاصيل؛ نتيجة هجرتهم إلى
المدن للعمل فى الأعمال الحرفية المتعلقة بالصناعة والتجارة.
وهذه الخطوة التى أقدم عليها (الحجاج) لإصلاح الزراعة أساء الناس
فهمها، وعدُّوها من أخطائه؛ لأنه تدخل فى حرية الناس، لكنها عند
النظر الصحيح خطوة إيجابية من حاكم يفهم واجبات وظيفته، فأقدم
على حل مشكلة خطيرة لا تزال كثير من الحكومات المعاصرة عاجزة
عن حلها.
وقد اقتدى (خالد بن عبد الله القسرى) والى (العراق) فى عهد (هشام
بن عبد الملك) (105 - 125هـ) بما فعله (الحجَّاج) فى النهوض بالزراعة؛
فأصلح مساحات شاسعة فى منطقة المستنقعات، وزرعها وأضافها
إلى الرقعة الزراعية.
ويجدر بالذكر أن الإسلام حث على تعمير الأرض واستصلاح البور منها
للزراعة؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أحيا أرضًا ميتة
فهى لهـ). [صحيح البخارى].
والمقصود بالأرض الميتة: الأرض البور أو الصحراوية التى لم تكن
مزروعة، فمن يصلحها تكن له، وقد حذا الصحابة حذو الرسول - صلى
الله عليه وسلم -، والأمويون من بعدهم فى تشجيع الناس على الزراعة
وعاونوهم على ذلك.
الصناعة:
ازدهرت فى العصر الأموى الصناعات الحربية التى تحتاج إليها
الجيوش من سيوف ودروع ورماح وحراب، وأُنشئَت الترسانات البحرية
اللازمة لصناعة السفن فى مدن الساحل، كالإسكندرية و (دمياط)
و (رشيد) فى (مصر)، و (عكا) و (صور) و (صيدا) و (بيروت) فى (الشام)،
وازدهرت كذلك الصناعات الخشبية اللازمة لأعمال بناء البيوت
والمساجد والمستشفيات، وأثاث المنازل، وصناعات الخزف والأدوات
المنزلية.
وعرف العصر الأموى صناعات النسيج، وكانت أكثر الصناعات
ازدهارًا فى (مصر) و (الشام) و (العراق) و (فارس) وبلاد (ما وراء النهر)،
وكانت تصنع من الصوف والقطن والكتان والحرير، بالإضافة إلى
صناعات المواد الغذائية القائمة على الإنتاج الزراعى والحيوانى،
وصناعات الجلود.
وأقام الأمويون دورًا لسك النقود؛ الدنانير الذهبية والدراهم الفضية
فى عهد (عبدالملك بن مروان) وما تلاه، وهذه الصناعة صعبة لأنها
تحتاج إلى استخراج الذهب والفضة من باطن الأرض، بعد
استخلاصهما مما هو ممزوج بهما من رمال ومعادن أخرى، ثم صهره
وتشكيله حسب الحاجة.
وإذا كانت الصناعات فى عصر الأمويين بسيطة، ولا تقارن بما وصلت
إليه فى الوقت الحاضر، فإنها كانت كافية ووافية بمتطلبات الحياة
والأحياء فى زمانها.
التجارة:
كان العرب قبل ظهور الإسلام وسيطًا تجاريا مهما بين الشرق
والغرب؛ حيث كانت التجارة القادمة من الشرق وبخاصة من (الهند)
و (الصين) تمر ببلاد العرب عبر طريقين رئيسين:
الطريق الأول: يمر بعدن فى جنوب غرب (اليمن) على مدخل (البحر
الأحمر) الجنوبى؛ حيث تأتى السفن، بعضها يواصل سيره فى البحر
الأحمر إلى (ميناء القلزم) - السويس - فى (مصر)، ثم تفرغ حمولتها،
وتنقل البضائع بالقوافل إلى الموانئ المصرية على (البحر المتوسط)،
وبخاصة (ميناء الإسكندرية)، ثم تشحن فى السفن بحرًا مرة أخرى
إلى (أوربا)، وبعضها الآخر يفرغ حمولته فى (عدن)، ثم تحملها
القوافل برا عبر الساحل الغربى لشبه الجزيرة العربية، المطل على
(البحر الأحمر)، وتمر بمكة المكرمة، التى كانت مركزًا تجاريا مهما،
وبعضها يواصل سيره إلى (ميناء غزة) فى (فلسطين).
- والطريق الآخر: يمر عبر (الخليج العربى)، حيث تواصل السفن سيرها
وتفرغ حمولتها فى أقصى شماله، حيث (ميناء الأيلة) غربى (البصرة)
الحالية فى (العراق)، ثم تنقل البضائع على القوافل برا عابرة
(العراق) إلى (الشام)؛ حيث تفرغ حمولتها فى موانيه مثل (عكا)
و (صور) و (صيدا) و (بيروت) و (اللاذقية) و (أنطاكية)، ثم تشحن بحرًا إلى
(أوربا).
وقامت التجارة فى أغلبها على جلب الحرير من (الصين)، والتوابل
والبخور من (الهند)، وكانت هذه المواد مطلوبة على نطاق واسع فى
(أوربا)، وكان العرب يقومون بدور فعال ونشط فى عملية التجارة
هذه، واستفادوا منها فائدة كبيرة، بل إن بعضهم مثل عرب (الحجاز)
وبصفة خاصة (قريش) كانت حياتهم الاقتصادية تقوم على التجارة،
وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك فى سورة قريش، فقال: {لإيلاف
قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذى
أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}.
وفى العصر الأموى لم يعد العرب وسيطًا تجاريا لنقل البضائع بين
الشرق والغرب، وإنما أصبحوا سادة الموقف كله، بعد امتلاكهم
الطرق التجارية البحرية والبرية، من (الصين) إلى (الأندلس)، فبالإضافة
إلى ما سبق الحديث عنه بسط المسلمون سيادتهم على الطريق الذى
يبدأ من شمالى الصين، ثم يجتاز هضاب وسط آسيا وسهولها - بلاد
(ما وراء النهر) - ثم يتفرع إلى عدة طرق، تنتهى كلها إلى موانئ
(البحر الأسود) و (البحر المتوسط)، ويمر معظمها فى الأراضى
الإسلامية، ثم تنقل التجارة إلى (أوربا الشرقية) والجنوبية، أمَّا
(أوربا الغربية) و (شمالى إفريقيا) و (الأندلس)، فكانت معظم تجارتها
تأتى من الطريق الأول عبر الموانئ المصرية.
وقد سيطر المسلمون على النشاط التجارى كله فى تلك الرقعة
الواسعة من الأرض وأصبحت بلادهم تصدِّر البضائع والمنتجات إلى
بلاد الشرق والغرب. فتصدر إلى (الصين) المنسوجات الصوفية
والقطنية والكتانية، والبُسُط، والمصنوعات المعدنية، وخام الحديد،
وسبائك الذهب والفضة، كما كانت تستورد منها الحرير.
ولم تقتصر الأرباح المالية التى كانت تجنيها الدولة الأموية على مجرد
التبادل التجارى، بل كانت تحصل على أموال طائلة من التجارة
العابرة على هيئة رسوم جمركية، كما خلقت هذه العملية التجارية
الواسعة فرص عمل لعشرات الآلاف من الناس، وبخاصة فى مدن
الموانئ على سواحل جزيرة العرب الجنوبية والشرقية، مثل (عدن)
و (حضرموت)، و (صحار) و (هرمز)، و (البحرين)، و (القطيف)، و (سيراف)،
و (البصرة)؛ فازدهرت هذه المدن ازدهارًا كبيرًا، كما ازدهرت الموانئ
الأخرى المطلة على (البحر الأحمر)، كميناء (جدة) و (السويس)، أو
المطلة على (البحر المتوسط) من (أنطاكية) شمالا حتى (غزة) جنوبًا،
وكذلك موانيه الجنوبية فى (مصر) و (شمالى إفريقيا)، مثل (دمياط)
و (الإسكندرية) و (طرابلس الغرب) و (تونس).
وقد ساعد على ازدهار تلك الحركة التجارية العالمية اهتمام الدولة
الأموية بإنشاء الطرق، وتعبيدها وتأمينها، فكانت القوافل تسير
فى طرق آمنة، تنتشر على جوانبها الفنادق والاستراحات والأسواق.
الحركة العمرانية فى العصر الأموى:
شهد العصر الأموى نهضة عمرانية كبرى، استفاد فيها المسلمون من
التراث، ومن الطرز المعمارية التى وجدوها فى البلاد المفتوحة سواء
أكانت فارسية أم بيزنطية أم مصرية، وطبعوها بطابع عربى
إسلامى، ووضعوا بذور فن معمارى متميز عن غيره من الفنون
المعمارية الأخرى، وساعدهم على ذلك الثراء الواسع الذى كانت
تتمتع به الدولة.
إنشاء المدن الجديدة:
أنشأ الأمويون عددًا من المدن فى المشرق والمغرب، ولا يزال معظمها
قائمًا معروفًا حتى الآن، فأنشأ (عقبة بن نافع) فى عهد (معاوية بن
أبى سفيان) (41 - 60هـ) مدينة (القيروان) فى (تونس)، وقد أصبحت
عاصمة الشمال الإفريقى كله فى العصر الأموى، ومركزًا من أعظم
المراكز الحضارية الإسلامية.
وفى عهد (عبدالملك بن مروان)(65 - 86هـ) أنشأ أخوه (عبدالعزيز بن
مروان) والى (مصر) مدينة (حلوان) جنوبى (الفسطاط)، وأنشأ (حسان
بن النعمان الغسانى) مدينة (تونس)، وأنشأ (الحجاج بن يوسف
الثقفى) مدينة (واسط) فى (العراق) بين (البصرة) و (الكوفة)، ومدينة
(قم) فى منطقة الجبال فى بلاد فارس، بين (ساوة) و (أصفهان).
وأنشأ (سليمان بن عبدالملك) فى عهد أخيه (الوليد)(86 - 96هـ)
مدينة (الرملة)، كما أنشأ الخليفة (هشام بن عبدالملك)(105 - 125هـ)
مدينة (الرصافة) بالقرب من (الرقة) فى (العراق)، وأنشأ (الحكم بن
عوانة الكلبى) مدينة (المحفوظة) فى (السند)، و (عمر بن محمد بن
القاسم الثقفى) مدينة (المنصورة) فى (السند) أيضًا.
القصور الأموية:
كشفت الحفريات الأثرية منذ نهاية القرن الماضى ومطلع القرن الحالى
عن العديد من القصور التى بناها الخلفاء الأمويون؛ وبخاصة فى
صحراء الشام؛ لأنهم كانوا يحبون البادية ويحنون إليها، استمتاعًا
بالهواء الطلق، وطلبًا للراحة والهدوء من عناء العمل السياسى
والإدارى.
ومن القصور التى اكتُشفت أخيرًا (قصر عمرة) الذى اكتشفه (موزيل)
سنة (1898م) ويقع على نحو خمسين ميلا شرقى (عمَّان) عاصمة
(الأردن) حاليا، ويرجح الباحثون أن هذا القصر بنى للخليفة (الوليد بن
عبدالملك)، وهو يتكون من قسمين رئيسيين، هما: قاعة الاستقبال،
والحمام الساخن.
أما قاعة الاستقبال فهى بناء مستطيل تغطيه ثلاثة أقبية نصف
أسطوانية، يفصلها عن بعضها عقدان عرضيان، وهذا الطراز
المعمارى طراز فارسى أخذه المسلمون من (إيران)، وتوجد فى نهاية
القبو الأوسط لقاعة الاستقبال حنية العرش، وهى مغطاة بقبو نصف
أسطوانى، أقل ارتفاعًا من سقف أقبية قاعة الاستقبال، وتحلَّى
حنية العرش بصورة الخليفة وهو جالس على عرشه، ويكتنف الحنية
من جهتيها غرفتان لتغيير الملابس.
ويقع القسم الثانى وهو الحمام الساخن إلى يسار قاعة الاستقبال،
ويتكون من ثلاث غرف رئيسية؛ الغرفة الباردة ويدخل إليها من قاعة
الاستقبال، ويغطيها قبو نصف أسطوانى محوره عمودى على محور
قاعة الاستقبال، ويليها الغرفة الدافئة، وهى مغطاة بقبو متقاطع،
يليها الغرفة الساخنة، وهى مغطاة بقبة نصف كروية محمولة على
أربعة مثلثات كروية.
وهذا القصر مبنى من الحجر الجيرى الأحمر، وتغطى الأقبية طبقة
سميكة من الملاط، كما تغطى الأرضية ببلاطات من الرخام، تجرى
بأسفلها مواسير البخار الساخن، وهى تشبه حمامات (روما).
ومن اللافت للنظر الصور التى وُجدَت على جدران ذلك القصر، ومن
أهمها: صورة الخليفة وهو جالس على عرشه، ويحف به شخصان،
وفوقه مظلة محمولة على عمودين حلزونيين، وتوجد على عقد المظلة
كتابة كوفية تطرق إليها التلف، وصورة أخرى لستة أشخاص،
اشتهرت بأنها تمثل صور أعداء الإسلام.
والصور الست فى صفين، كل ثلاث فى صف، ويلبسون ملابس
فاخرة، وفوق رءوس أربعة منهم وجدت كتابة بالعربية واليونانية، لا
تزال باقية، وهم من اليسار إلى اليمين (قيصر الروم) فى الصف
الأول، ويليه (روذريق) ملك (القوط) الأندلسى فى الصف الخلفى،
والثالث فى الصف الأول هو (كسرى فارس)، والرابع فى الصف
الخلفى فوقه كلمة (النجاشى).
وقد استنتج الباحثون من هذه الصورة، ومن ترتيب وضع الملوك فيها
أن الذين فى الصف الأول هما (كسرى) و (قيصر) من ملوك
الإمبراطوريات الكبيرة، أمَّا اللذان فى الصف الخلفى فهما من ملوك
الدول الصغيرة، كما استنتجوا أن الصورة الخامسة لملك (الصين)،
والسادسة لأحد ملوك الترك، وهؤلاء هم الذين فتح المسلمون بلادهم
فى العصر الأموى، أو فرضوا عليها سيادتهم.
ومن القصور التى اكتُشفَت أيضًا القصر المسمَّى بقصر خربة، الذى
يُنسَب إلى الخليفة (هشام بن عبدالملك)، ويقع على بعد ثلاثة أميال
شمالى مدينة (أريحا) فى (فلسطين) وكان قصرًا شتويا، زُيِّنت جدرانه
بصور ورسوم آدمية وحيوانية، كما وُجد اسم الخليفة (هشام بن
عبدالملك) مسجلا على أحد الجدران، وصورة فتاة تحمل باقة من
الورد، ولوحة تمثل فتيات يرقصن وقد صبغن شفاههن وأظافر
أيديهن وأرجلهن بصبغة ذات لون قرمزى، بالإضافة إلى رسوم نباتية
تحمل شجرة يحيط بها من اليمين صورة أسد ينقض على غزال، ومن
اليسار غزالان بين أزهار، وكلها ملونة بألوان زاهية.
ومن القصور التى اكتُشفَت سنة (1840م)(قصر المشتى)، ويُنسَب إلى
الخليفة (الوليد بن يزيد بن عبدالملك)(125 - 126هـ)، وهو قصر
صحراوى غير تام البناء، وقد تهدِّم معظمه، ونقلت أهم زخارفه التى
كانت محفورة فى الحجر الجيرى فى الواجهة الجنوبية، إلى (برلين)،
مهداة من السلطان العثمانى (عبدالحميد) إلى الإمبراطور الألمانى
(غليوم الثانى)، وقد وُضعَت فى (متحف برلين) منذ سنة (1903م).
والقصر عبارة عن بناء مستطيل مساحته نحو (144) مترًا مربعًا،
وحائطه الخارجى تكتنفه أبراج نصف دائرية، ويقع المدخل فى وسط
واجهته الجنوبية، والقصر مقسم من الداخل إلى ثلاثة أقسام رئيسية،
تتجه من الشمال إلى الجنوب، والمبانى الداخلية مبنية من الطوب،
والمدخل يكتنفه برجان على شكل نصف منحنيين، ويتكون شكل
الواجهة الجنوبية من عدة مثلثات معتدلة ومقلوبة؛ بحيث تظهر فى
مجموعها على شكل خط منكسِر، وفى وسط كل مثلث وردة،
وبأسفلها فى المثلثات المعتدلة موضوعات زخرفية متنوعة، بعضها
يمثل حيوانين متقابلين يفصلهما إناء، وبالأرضية زخارف نباتية جميلة
محفورة على الحجر، ويلى المدخل ردهة توصل إلى فناء مربع
التخطيط، مساحته (14) مترًا مربعًا، ويكتنف ردهة المدخل من جهتيها
حجرات مكونة من طابقين، كما توجد غرفة مستطيلة إلى يمين
المدخل، فى حائطها الجنوبى محراب، استنتج الباحثون أنها كانت
مسجد القصر أو مصلاه.
ويلى الفناء الأول فناء كبير مساحته (57) مترًا مربعًا، يليه الجناح
الملكى، ويتكون من قاعة تؤدى بدورها إلى قاعة العرش، وهى
مكونة من ثلاث حنيات نصف دائرية، ويكتنفها من جهتيها بيوت
مكونة من زوجين من الغرف، وتوجد حول قاعة العرش أربع
مجموعات من هذه البيوت.
وهذه القصور المكتشفة تدل على تقدم فن العمارة فى عهد الدولة
الأموية، وتأثره بالطرز المعمارية الفارسية والبيزنطية، وعلى الثراء
الذى كانت عليه الدولة، مما مكَّن خلفاءها من بناء تلك القصور
الباذخة، ومعظمها لم يكن للسكنى الدائمة، وإنما كانت مشاتى
ومصايف للإقامة الموسمية المؤقتة.
المساجد:
ازدهرت حركة بناء المساجد فى عهد الأمويين ازدهارًا كبيرًا،
فوسعوا المساجد التى كانت موجودة من قبل، كالمسجد الحرام فى
(مكة المكرمة)، و (المسجد النبوى) فى (المدينة المنورة)، و (جامع
عمرو بن العاص) فى (الفسطاط)، و (المسجد الكبير) فى (صنعاء)
باليمن، كما أقاموا العديد من المساجد الجديدة، ومن أشهرها:
(مسجد قبة الصخرة) الذى أنشأه (عبد الملك بن مروان) فى (القدس)،
و (المسجد الأقصى) الذى أنشأه ابنه (الوليد)، و (المسجد الأموى)
الكبير فى (دمشق) الذى أنشأه (الوليد) أيضًا.
- المسجد الحرام:
كانت (الكعبة المشرفة) فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم وخلفائه
الراشدين على البناء نفسه الذى أقامته (قريش) بعد السيل؛ الذى دمر
(الكعبة) قبل بعثة النبى صلى الله عليه وسلم، واستمرت على ذلك
إلى أن هُدمت أثناء خلافة (عبد الله بن الزبير)(64 - 73هـ)، فقام
ببنائها من جديد على قواعد (إبراهيم)، عليه السلام، وأدخل فيها
حجر (إسماعيل)، واستشهد على ذلك بحديث النبى - صلى الله عليه
وسلم - الذى خاطب فيه (عائشة) بقوله: (لولا أن قومك حديثو عهد
بشرك أو بجاهلية لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض، وجعلت لها بابين
بابًا شرقيا وبابًا غربيا وزدت فيها من الحجر ستة أذرع .. ). [مسند
الإمام أحمد].
وبعد مقتل (ابن الزبير) وانتهاء دولته سنة (73هـ) هدم الأمويون
(الكعبة) وأعادوا بناءها إلى ما كانت عليه قبل زيادة (ابن الزبير).
وكانت مساحة (المسجد الحرام) نفسه فضاء ولم يكن له جدران فى
عهد النبى صلى الله عليه وسلم و (أبى بكر الصديق)، فلما كثر
الناس فى عهد (عمر بن الخطاب) اشترى الدور المجاورة للبيت الحرام،
وهدمها وأضافها إلى مساحته، وأقام له جدرانًا دون قامة الرجل،
وكذلك فعل (عثمان بن عفان) و (عبد الله بن الزبير).
واستمر هذا الوضع حتى كان عهد (الوليد بن عبد الملك)(86 - 96هـ)،
فزاد فى مساحته، وبنى سوره على عمد من الرخام، ووضع صفائح
من الذهب على باب (الكعبة).
- المسجد النبوى فى المدينة المنورة:
ظل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على حالته التى بُنى
عليها حتى عهد (عمر بن الخطاب)، الذى زاد فى مساحته، وأطال
جدرانه، ثم أضاف (عثمان بن عفان) إليه مساحات جديدة لكثرة
المصلين، وضيقه بهم، وبناه من الحجارة، وجعل له عمدًا من
الحجارة، وسقفًا من الساج.
وظل المسجد كذلك إلى عهد (الوليد بن عبد الملك)، فأمر ابن عمه (عمر
بن عبد العزيز) واليه على (المدينة)(87 - 93هـ) بهدمه وإعادة بنائه
وتوسعته، فأدخل فيه حجرات النبى صلى الله عليه وسلم.
وعنى (الوليد) بإعادة بناء المسجد عناية عظيمة، فأرسل إلى (عمر
بن عبد العزيز) أموالا كثيرة لهذا الغرض، وثمانين عاملا من عمال
البناء من الشام وقبط (مصر)، وكميات كبيرة من الرخام والفسيفساء،
وقد عهد (عمر) بالإشراف على البناء إلى واحد من كبار التابعين هو
(صالح بن كيسان).
وقد بنى أساس المسجد من الحجارة، وجعلت عمده من الحجارة
المحشوة بالحديد والرصاص، وأقيمت له المآذن، وفتحت له عدة
أبواب، منها (باب جبريل)، عليه السلام، و (باب النساء).
واستمر العمل فى البناء نحو ثلاث سنوات، وفى سنة (90هـ) زار
الخليفة (الوليد)(المدينة) ليطمئن على سير العمل فى المسجد بنفسه،
وقد أعجب بالبناء، وبما عليه من روعة تليق بمسجد رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -، وقسَّم أموالا كثيرة على أهل المدينة احتفاءً بهذه
المناسبة، وخطب فيهم الجمعة من فوق منبر النبى - صلى الله عليه
وسلم -.
- مسجد قبة الصخرة:
أمر (عبدالملك بن مروان) سنة (72هـ) ببناء مسجد فوق الصخرة التى
عرج الرسول صلى الله عليه وسلم من فوقها ليلة الإسراء والمعراج.
- المسجد الأقصى:
وقد بناه (الوليد بن عبدالملك) بالقرب من ساحة (مسجد قبة الصخرة)،
وزينه بالفسيفساء والرخام، واحتفل ببنائه كاحتفاله بالمسجد الحرام
بمكة المكرمة ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فى (المدينة
المنورة).
- المسجد الأموى فى دمشق:
يعد (المسجد الأموى) من أعظم المساجد التى أنشئت فى العصر
الأموى، بناه (الوليد بن عبدالملك)، وبذل فيه جهدًا كبيرًا، ولم يبخل
عليه بالأموال، فجاء شامخًا عظيمًا.
وأصل مكان المسجد كان معبدًا وثنيا فى عهد الرومان، ثم تحول
إلى كنيسة فى العهد المسيحى، ثم فُتحت (دمشق) فى عهد (عمر بن
الخطاب) صلحًا، واقتسم المسلمون بناءً على ذلك الصلح كل شىء
فى المدينة مع أهلها، فقسمت الكنيسة، وجعل المسلمون نصفها
مسجدًا، وبقى النصف الآخر كنيسة تقام فيها شعائر أهلها، وكان
هذا آية من آيات السماحة؛ حيث لم يجد المسلمون غضاضة أن يتجاور
المسجد والكنيسة، فضلا عن كونهما فى بناء واحد.
وظل الأمر كذلك حتى عهد (الوليد)، الذى تفاوض مع المسيحيين،
وعوَّضهم عن نصيبهم مساحة كبيرة من الأرض يقيمون عليها كنيسة
كبيرة مستقلة، وهدم البناء القديم كله وأقام عليه المسجد، الذى جاء
مستطيل الشكل، له ثلاثة مداخل، وأربع مآذن، وجعل فى وسطه
صحنًا مكشوفًا، تحيط به أربعة أروقة، أكبرها رواق القبلة، وغطيت
أرضيته بالرخام، وكذلك جدرانه إلى ارتفاع قامة الإنسان، وفوق
الرخام زخارف من الفسيفساء المذهبة، وجعل سقفه من الرصاص، وبه
ستمائة سلسلة من الذهب تتدلى منها قناديل للإنارة.
وقد عنى الخليفة ببناء المسجد عناية واضحة، فأشرف على بنائه
بنفسه، وأنفق عليه أموالا طائلة، بلغت خمسة ملايين دينار، تعرَّض
بسببها للانتقاد، فأجاب بأنه يريد أن يكون المسجد الذى هو أعظم
رمز للإسلام لائقًا بدولته الكبيرة، واستمر العمل فى المسجد تسع
سنوات (87 - 96هـ)، عمل فيه نحو عشرة آلاف عامل، حتى جاء
المسجد آية من آيات فن العمارة الإسلامى، حتى ليذكر (ياقوت
الحموى) أن الناس كانوا يعدونه من عجائب الدنيا.
وعندما آلت الخلافة إلى (عمر بن عبدالعزيز) رأى أن الخليفة (الوليد)
بالغ فى الإنفاق على بناء المسجد، وهمَّ بنزع سلاسل الذهب وبيعها،
ووضع ثمنها فى بيت المال، ولما علم أهل (دمشق) بعزمه اشتد عليهم
الأمر وكرهوه، وهم الذين كانوا قد انتقدوا (الوليد) من قبل، ولكن
قبل أن ينفذ (عمر) ما عزم عليه جاء إلى (دمشق) وفد رسمى من قبل
إمبراطور الروم، لبحث العلاقة بين الدولتين، فزار ذلك الوفد (المسجد
الأموى)، وكان معهم قسيس، فلما دخلوا المسجد أغمى عليه،
فحملوه إلى دار الضيافة، فسأله رفاقه بعد أن أفاق عما حدث له،
فقال: كنا نتحدث أن بقاء العرب ودولتهم لن يطول، فلما رأيت ذلك
البناء الشامخ حصل لى هم وغم، وأدركت أن بقاءهم سيطول،
فحدث لى ما رأيتم، وكان يسمع ذلك الحوار أحد المسلمين العارفين
باليونانية التى كانوا يتحاورون بها، فنقل ذلك إلى (عمر بن
عبدالعزيز)، فقال: إذا كان المسجد قد أغاظهم إلى هذا الحد، فلن
أنزع منه شيئًا، بل زاده جمالا وروعة وبهاءً، فأمر بترصيع محرابه
بالجواهر الثمينة، وعلق له قناديل من ذهب وفضة.
- العناية بالطرق:
اهتمت الدولة الأموية اهتمامًا كبيرًا بإنشاء الطرق، لربط أجزائها
التى امتدت من (الصين) إلى (الأندلس)، وهى مسافة تبلغ (12) ألف
كيلو متر من الشرق إلى الغرب، ولتيسير الاتصال ببعضها، ولتحقيق
كثير من الأغراض، منها ما هو عسكرى لتيسير حركة الجيوش، ومنها
ما هو اقتصادى لتيسير حركة التجارة، ومنها ما هو إدارى لتسهيل
وصول الأخبار عن طريق رجال البريد، ومنها ما هو دينى لتسهيل
وصول حجَّاج بيت الله الحرام من كل أنحاء الدولة إلى (مكة المكرمة)،
لأداء فريضة الحج، وإلى (المدينة المنورة)؛ لزيارة مسجد النبى - صلى
الله عليه وسلم -.
وقد قسم الأمويون الطرق التى تربط العاصمة (دمشق) بعواصم
الولايات - كالفسطاط و (القيروان) و (قرطبة) و (الكوفة) و (البصرة)
و (خراسان)، و (ما وراء النهر) - إلى مسافات صغيرة محددة، وجعلوا
لها علامات تحمل أرقامًا؛ ليعرف المسافرون المسافات بين المدن
والأقاليم، وهى مثل العلامات الإرشادية المستخدمة الآن فى الطرق
الإقليمية والدولية.
وعمرت الطرق بالخانات والاستراحات، ليستريح الناس من وعثاء
السفر، فوق ما كانت تتمتع به من أمن وأمان.
وكان الناس يسافرون عبر هذه الطرق، ويتنقلون بين مدن الشرق
والغرب دون تصريح مرور أو جواز سفر، فالدولة كلها على امتداد
حدودها وطنهم، فى أى مكان منه يستطيع الإنسان أن يسكن
ويتزوج ويتاجر، دون مضايقة أو طلب إقامة.
الحركة العلمية:
كانت الحركة العلمية بمختلف اتجاهاتها فى العصر الأموى امتدادًا
للحركة العلمية التى بدأت منذ عهد النبى صلى الله عليه وسلم،
ونمت فى عهد الخلفاء الراشدين، وأخذت العلوم تتمايز عن بعضها،
ويصبح لكل منها مدارسه ورجاله، بعد أن كانت العلوم ممتزجة
بعضها فى بعض، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم
المسلمين أمور دينهم ودنياهم، ويفسّر لهم ما أبهم عليهم من القرآن
الكريم، وبعد وفاته أصبح أصحابه المعلمين للتابعين.
ولم يكن الصحابة - رضوان الله عليهم - على درجة واحدة من العلم
والفقه، بل كانوا متفاوتين فى ذلك، ولعل أفضل ما صوَّر تباين
الصحابة فى درجات العلم قول (مسروق) - وهو أحد التابعين -:
(جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فوجدتهم كالإخاذ -
غدير الماء - فالإخاذ يروى الرجل، والإخاذ يروى الرجلين، والإخاذ
يروى العشرة، والإخاذ يروى المائة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض
صدرهم) أى: رواهم جميعًا.
وقد اشتهر عدد من كبار الصحابة بالعلم دون غيرهم كالخلفاء
الراشدين، وأم المؤمنين (عائشة)، و (ابن عباس)، و (ابن مسعود)،
و (زيد بن ثابت الأنصارى)، و (أبى الدرداء)، و (أبى هريرة)، و (معاذ بن
جبل) رضوان الله عليهم جميعًا، غير أن هؤلاء الصحابة بقى بعضهم
فى (المدينة المنورة) و (مكة المكرمة)، وتفرق بعضهم الآخر فى
الأمصار المفتوحة، ولم يكن الواحد منهم يعلِّم علمًا واحدًا، وإنما يتكلَّم
فى علوم كثيرة، وربما تحدث فى جلسة واحدة فى الفقه والحديث
والتفسير والمغازى، والأدب شعره ونثره.
وكانت المراكز الرئيسية للحركة العلمية عندئذٍ هى المساجد، ثم
نشأت المكاتب لتحفيظ الصبيان القرآن الكريم، وتعليمهم مبادئ
العلوم الإسلامية، ثم بدأت العلوم يمتاز بعضها عن بعض، وعرف رجال
بالتفسير وآخرون بالحديث، واختص غيرهم بالفقه، ولا يعنى هذا أن
المفسر أو الفقيه لا يعرف غير ما تخصص فيه من العلم واشتهر به،
وإنما يوضع الرجل بين رجال العلم الذى برَّز فيه وأصبح حجة وإمامًا،
فالإمام (مالك بن أنس) اشتهر بالفقه وصار صاحب مذهب فقهى
معروف، لكنه من رجال الحديث الكبار، ويعرف التفسير؛ فلو لم يكن
كذلك ما استطاع أن يضع القواعد الفقهية ويستنبط الأحكام من
أدلتها التفصيلية، لأن الفقه يقوم على الاستنباط من القرآن والسنة.
ثم خطت الحركة العلمية خطوة كبيرة فى ذلك الوقت، ببدء حركة
تدوين العلوم، ولم يكن المسلمون يفعلون ذلك من قبل، وإنما اعتمد
الصحابة على الذاكرة فى الحفظ. والذين أُثِر عنهم أنهم دونوا بعض
أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم من الصحابة، عدد قليل،
كأبى هريرة و (عبدالله بن عمرو بن العاص)، الذى سمح له النبى
صلى الله عليه وسلم بتدوين أحاديثه؛ فدوَّنها فى صحيفة كان
يقول عنها: الصادقة، ويفخر أن ليس بين الرسول وبينه فيها أحد.
ومنذ منتصف القرن الأول للهجرة تقريبًا بدأت حركة التدوين بداية
متواضعة، فيُروَى أن (معاوية بن أبى سفيان) أمر بتدوين ما يرويه
له فى مجلسه (عبيد بن شرية) من تواريخ ملوك (اليمن) القدامى
وغيرهم، وكان (معاوية) مولعًا بمعرفة تواريخ الأمم السابقة، وأن
(عبد العزيز بن مروان) والى (مصر)(65 - 85هـ) أرسل إلى (كثير بن
مرة الحضرمى) أن يكتب له ما سمع من أصحاب رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - إلا أحاديث (أبى هريرة) فإنها موجودة عنده.
ثم جاءت الخطوة الحاسمة فى التدوين، حين أمر (عمر بن عبد العزيز)
أثناء خلافته (99 - 101هـ)(أبا بكر بن حزم) والى (المدينة) أن يدوِّن
أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفًا من ضياع العلم
وذهاب العلماء، ثم تتابعت حركة التدوين، فدوَّن (ابن شهاب الزهرى)
و (يزيد بن أبى حبيب المصرى) وغيرهما، وانتقل التدوين إلى العلوم
الأخرى، فدون الفقه والتفسير وغيرهما.
وشجع الخلفاء الأمويون الحركة العلمية بصفة عامة، وحركة التدوين
بصفة خاصة، وبدأ فى عصرهم ظهور طبقة المعلمين، لأن الخلفاء
أنفسهم كانوا مهتمين بتعليم أولادهم، وبخاصة العلوم الإسلامية،
فاختاروا لهذه المهمة أصلح المعلمين الذين كانوا يسمون أيضًا
بالمؤدبين، ولم تكن مهمتهم تعليمية فحسب، بل كانت تربوية أيضًا.
ومن أشهر هؤلاء المعلمين: (دغفل بن حنظلة الشيبانى)، واختاره
(معاوية بن أبى سفيان) لتعليم ابنه (يزيد) وتهذيبه، و (الضحاك بن
مزاحم) و (عامر بن شراحبيل الشعبى) و (ابن أبى المهاجر)، وهؤلاء
الثلاثة من كبار التابعين، واختارهم (عبد الملك بن مروان) لتعليم
أولاده وتأديبهم.
وقد حذا أشراف الناس والأغنياء حذو الخلفاء فى تعليم أولادهم على
أيدى مربين ومؤدبين، مما أعطى دفعة للحركة العلمية فى ذلك
العصر.
وعلى الرغم من ضياع المدونات والمؤلفات التى كتبت فى العصر
الأموى، فإن معظم محتوياتها وصلت إلينا فى المؤلفات الكثيرة التى
ألفت فى العصر العباسى، فمرويات (الطبرى) عن غزوات الرسول
صلى الله عليه وسلم، وسيرته أخذها ممن رواها عن كتَّاب المغازى
والسيرة الأوائل الذين ضاعت مؤلفاتهم، كأبان بن عثمان بن عفان،
و (عروة بن الزبير) وغيرهما.
علم التفسير:
هو العلم الذى يبحث فى بيان معانى آيات القرآن وأسلوبه وبيانه،
إلى غير ذلك مما حفلت به كتب التفسير من مصطلحات هذا العلم؛
كالمجمل والمفصّل، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ،
وأسباب النزول.
ومع كون الصحابة - رضوان الله عليهم - أقدر الناس على فهم القرآن
الكريم، فإنهم اختلفوا فى فهمه على حسب اختلاف قدراتهم العقلية،
واشتهر منهم بالتفسير وفهم القرآن الكريم: الخلفاء الراشدون، و (ابن
مسعود)، و (ابن عباس)، و (أبىُّ بن كعب)، و (زيد بن ثابت).
وعن هؤلاء وغيرهم تلقى التابعون، وعلى رأسهم:(مجاهد بن جبر)،
و (عطاء بن أبى رباح)، و (عكرمة مولى ابن عباس)، و (سعيد بن
جبير)، و (سعيد بن المسيب)، و (الحسن البصرى)، و (محمد بن سيرين)،
وبعض هؤلاء ألفوا كتبًا فى التفسير، لكنها ضاعت ولم تصل إلينا،
كما ضاعت كتب التفسير التى ألِّفت بعد عصر التابعين، ومنها ما
نُسب إلى (سفيان بن عيينة) و (وكيع بن الجراح)، و (عبد الرزاق) وكثير
غيرهم.
والخلاصة أنه لم يصل إلينا كتاب فى التفسير يرجع إلى العصر
الأموى، وأول كتاب فى التفسير وصل إلى أيدى الناس هو كتاب
(معانى القرآن) للفرَّاء المتوفى سنة (207هـ)، ثم توالت بعده مطولات
كتب التفسير، ولعل من أشهرها تفسير الإمام (الطبرى) المتوفى سنة
(310هـ)، المعروف باسم (جامع البيان عن تأويل آى القرآن).
علم الحديث:
الحديث فى اللغة: مطلق الكلام، وفى الاصطلاح: هو كلام النبى - صلى
الله عليه وسلم -، الذى هو المصدر الثانى للتشريع بعد القرآن الكريم.
وقد حرص الصحابة على حفظ كل ما يسمعونه من النبى - صلى الله
عليه وسلم -، وكانوا يسألونه ليبين لهم ما غمض عليهم فهمه من
القرآن، وهذا من وظائفه لقوله تعالى {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس
ما نُزِّل إليهم ولعلهم يتفكرون}. [النحل: من 44].
وقد أمرهم الله تعالى باتِّباع النبى فى كل ما يقول أو يفعل، لقوله
تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} . [الحشر:
من 7].
وحذَّرهم من مخالفته صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: {فليحذر
الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}.
[النور: من 63].
وسار المسلمون على نهج الرسول صلى الله عليه وسلم، وتلقفوا
كل ما يتلفظ به، يحفظونه عن ظهر قلب ويعملون به، وكان الحديث
هو أول العلوم التى اشتغلوا بها، لكنهم لم يدونوه فى حياة النبى
صلى الله عليه وسلم، ويروى أنه هو نفسه نهاهم عن ذلك، لئلا
يختلط بالقرآن، فقال: (لا تكتبوا عنّى، فمن كتب عنى غير القرآن
فليمحهـ) [صحيح مسلم]، بالإضافة إلى أن الصحابة أنفسهم كانوا
يتحرجون من الإكثار من رواية الحديث، تهيبًا وخوفًا من الخطأ
والنسيان.
- تدوين الحديث:
ظلت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يتناقلها العلماء
مشافهة جيلا بعد جيل، حتى نهاية القرن الأول الهجرى، وإن دوَّن
بعض الناس أحاديث رسول الله كعبدالله بن عمرو الذى أذن له النبى
بكتابة الحديث فى حياته، وما رواه البخارى من أن (أبا شاه
اليمنى)، التمس من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب شيئًا
من خطبته عام الفتح، فقال:(اكتبوا لأبى شاهـ)، ثم أمر الخليفة (عمر
بن عبدالعزيز) بتدوين الحديث خوفًا من ضياعه بموت العلماء الذين
يحفظونه، فكتب إلى (أبى بكر بن حزم) والى (المدينة) وغيره من
ولاة الأقاليم، وطلب منهم جمع أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم
وتدوينها، ومن ثم بدأ المسلمون يقبلون على ذلك، وبمضى الزمن
تضاعفت جهود العلماء فى هذا الميدان، ومن أشهر الرجال الذين
اشتغلوا بجمع الحديث وروايته وتدوينه فى العصر الأموى: (محمد بن
مسلم بن شهاب الزهرى) المتوفى سنة (124هـ)، و (ابن جريج المكى)
المتوفى سنة (150هـ)، و (ابن إسحاق) المتوفى سنة (151هـ)،
و (معمر بن راشد اليمنى) المتوفى سنة (153هـ)، و (سفيان الثورى)
المتوفى سنة (161هـ)، و (مالك بن أنس) المتوفى سنة (179هـ)، غير
أن هؤلاء كلهم عدا (ابن شهاب الزهرى) عاشوا صدر حياتهم فى
العصر الأموى وآخرها فى العصر العباسى.
لكن الخطوات الحاسمة فى تدوين الحديث، ووضع المنهج العلمى
الدقيق لتوثيقه، وقبول روايته، وتصنيفه إلى صحيح وحسن
وضعيف، ووضع علومه، وقواعد الجرح والتعديل - أى نقد رجال
السند - كل ذلك جاء فى القرن (3 هـ = 9 م)، بظهور أئمة الحديث
كالبخارى و (مسلم)، و (الترمذى)، و (النسائى)، و (أبى داود) وغيرهم،
وذلك فى العصر العباسى.
علم الفقه:
وهو من أجل العلوم الإسلامية، فهو يعرِّف المسلم كيف يعبد ربه، بما
افترضه عليه من صيام وصلاة وزكاة وحج، وينظم معاملات المسلمين
ويقننها فى البيع والشراء والتجارة والزراعة وسائر شئون حياتهم.
ويعد الفقهاء من أكثر علماء الإسلام أثرًا فى حياة المسلمين، لقوله
صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيرًا يفقهه فى الدين). [مسند
الإمام أحمد].
وكان النبى صلى الله عليه وسلم يعلم الصحابة ويفقههم فى أمور
دينهم، ثم تولَّى بعده الصحابة تلك المهمة، وبخاصة بعد أن اتسعت
الدولة الإسلامية فى عهد الخلفاء الراشدين والدولة الأموية، ثم اتسع
نطاق علم الفقه نتيجة لزيادة المشكلات والقضايا التى تحتاج إلى
فتاوى وحلول، وأصبح له علماء متخصصون، لهم قدرة على استنباط
الأحكام الفقهية من الكتاب والسنة، وعلى الاجتهاد لإيجاد أحكام
للقضايا التى لم يرد لها نص فى كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله
عليه وسلم -، لأن النصوص متناهية، فى حين أن المشكلات والقضايا
غير متناهية ومتجددة، ولابد لها من حلول، فالشريعة الإسلامية
صالحة لكل زمان ومكان، ومعنى الصلاحية أن يكون لها حل
للمشكلات وإجابة عن كل الأسئلة، ومن ثم اجتهد الفقهاء فى هذا
الميدان، واختلفت اجتهاداتهم طبقًا لفهمهم الكتاب والسنة؛ ونتيجة
لذلك ظهرت المذاهب الفقهية المعروفة، وتراكم تراث فقهى هائل،
أخذ يتزايد بمرور الزمان.
وفى العصر الأموى ظهر إمامان جليلان من أئمة الفقه الكبار، هما
(أبو حنيفة النعمان) و (مالك بن أنس).
أمَّا أولهما فقد وُلد فى (الكوفة) سنة (80هـ) فى خلافة (عبدالملك بن
مروان)، وتوفى سنة (150هـ) فى خلافة (أبى جعفر المنصور
العباسى)، أى أنه عاش أغلب حياته فى العصر الأموى.
وهو من أصل فارسى، تلقى الفقه على كثير من كبار العلماء، منهم
(أبو جعفر الصادق)، و (إبراهيم النخعى)، و (عامر بن شراحبيل
الشعبى)، و (الأعمش)، و (قتادة)، وغيرهم، واشتهر باجتهاده، وقوة
حجته، وحسن منطقه، ودقته فى استنباط الأحكام، وهو صاحب
المذهب الحنفى المعروف، الذى ألَّف فيه ونشره بين الناس تلاميذه
العظام، ومن أبرزهم (أبو يوسف) المتوفى سنة (182هـ) قاضى
القضاة فى عهد الخليفة (هارون الرشيد)، و (محمد بن الحسن
الشيبانى) المتوفى سنة (189هـ). و (زفر بن هذيل) المتوفى سنة
(158هـ)، وقد انتشر المذهب الحنفى فى (مصر) و (العراق) وأواسط
آسيا وغيرها.
وأماَّ الآخر فقد وُلد فى (المدينة المنورة) سنة (93هـ) فى عهد (الوليد
بن عبدالملك)، وتوفى سنة (179هـ) فى عهد (هارون الرشيد)، أى
أنه عاش نحو نصف عمره فى العصر الأموى، وأكثر من نصفه الآخر
فى العصر العباسى.
نشأ (مالك بن أنس) وتفقَّه وروى الحديث فى (المدينة) وترك كتابًا
عظيمًا هو (الموطأ)، الذى يجمع بين الفقه والحديث، والإمام (مالك)
صاحب المذهب المالكى المعروف الذى انتشر فى (مصر) و (المغرب
العربى).
وقد عاصر هذين الإمامين الجليلين عدد آخر لا يقل عنهما علمًا وفقهًا،
مثل: (الأوزاعى) إمام أهل الشام المتوفى سنة (157هـ)، و (الليث بن
سعد) إمام أهل (مصر)، المتوفى سنة (175هـ)، غير أن مذهب هذين
الإمامين الجليلين اندثر بعدهما؛ لأنهما لم يجدا تلاميذ يواصلون نشر
مذهبيهما.
علوم اللغة العربية:
ظهرت بعض علوم اللغة كالنحو والصرف والعروض فى العصر الأموى،
وكان الناس قبل ظهور الإسلام وبعده بفترة حتى عهد (على بن أبى
طالب) يتحدثون بلغة عربية، سليمة الأداء، فصيحة النطق، بالفطرة
والسليقة اللغوية، دون أن يعرفوا نحوًا أو صرفًا، غير أن الأمر اختلف
بعد دخول كثير من أبناء البلاد المفتوحة فى الإسلام؛ حيث بدأ ظهور
الخطأ واللحن فى اللغة، ومن ثم ظهرت الحاجة إلى علم لضبط النطق
السليم للكلمات العربية.
نشأة علم النحو:
يُعد أمير المؤمنين (على بن أبى طالب) أول من أشار بوضع قواعد
علم النحو، حيث كلَّف أحد ولاته وكتَّابه وهو (أبو الأسود الدؤلى)
المتوفى سنة (69هـ) بوضع قواعد علم النحو، ويروى (أبو الأسود)
نفسه أنه دخل على أمير المؤمنين (على بن أبى طالب) فوجد فى
يده رقعة، فسأله عنها، فقال: إنى تأملت كلام العرب فوجدته قد
فسد، فأردت أن أضع شيئًا يرجعون إليه، وألقى الرقعة إلى (أبى
الأسود)، فوجد مكتوبًا فيها: الكلام كله اسم، وفعل، وحرف، فالاسم
ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبئ به -حيث يدل على الحدث
وزمانه - والحرف ما أفاد معنى، ثم قال (على) لأبى الأسود: انحُ هذا
النحو وأضف إليه ما وقع لك، فقال (أبو الأسود): فوضعت باب العطف
والنعت، ثم بابى التعجب والاستفهام، إلى أن وصلت إلى باب: إن
وأخواتها ماخلا لكنَّ، فلما عرضتها على (علىِّ) أمرنى بضم لكنَّ
إليها، وكنت كلما وضعت بابًا من أبواب النحو عرضته عليه، إلى أن
حصلت ما فيه الكفاية، فقال (على): ما أحسن هذا النحو الذى نحوت،
ومن هنا ظهر علم النحو.
ولما كان (أبو الأسود) من أهل البصرة، فقد ورثوا عنه حبه للنحو،
والاهتمام به، وكانوا أول من اشتغل به، فطوروه، وجددوه وأضافوا
إليه ما زاده بيانًا ووضوحًا، ودوَّنوا فيه المؤلفات المبكرة، ومن
هؤلاء: (يحيى بن يعمر)، و (عنبسة بن معدان)، و (عيسى بن عمر
الثقفى) المتوفى سنة (149هـ)، أحد علماء مدرسة (البصرة) فى
النحو.
وعلى يد (عيسى بن عمر) تتلمذ أشهر علماء النحو واللغة فى ذلك
العصر وهو (الخليل بن أحمد) المولود سنة (96هـ)، والمتوفى سنة
(170هـ)، وهو صاحب معجم (العين) الذى هو أول معجم فى العربية،
وواضع علم العروض، الخاص بأوزان الشعر العربى ومعرفة بحوره.
ثم تتلمذ على يد (الخليل بن أحمد الفراهيدى) عدد من النحاة، يأتى
فى مقدمتهم (سيبويه)(عمرو بن عثمان) إمام النحاة، وصاحب
(الكتاب) أشهر مؤلِّف فى النحو العربى. وتُوفِّى (سيبويه) وهو فى
الثانية والثلاثين من عمره سنة (180هـ).
علم السير والمغازى والتاريخ:
وهو يعد من أوائل العلوم التى اهتم بها المسلمون الأوائل، وبخاصة
أبناء الصحابة؛ حيث حرص آباؤهم على تعليمهم مغازى الرسول
صلى الله عليه وسلم كما كانوا يعلمونهم القرآن الكريم، بالإضافة
إلى شغفهم بمعرفة ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم والذين
معه من أجل الدعوة، ومن ثم اتجهوا إلى دراسة السير والمغازى،
وأخذها من مصادرها الوثيقة، من آبائهم وأهليهم الذين شهدوا
الأحداث، وشاركوا فى الغزوات، وكانوا يسألونهم مثلا: كيف كانت
غزوة (بدر)؟ ومن هم الذين شهدوها؟ ومتى كانت الهجرة إلى
(الحبشة)؟ وكان الصحابة يجيبون عن أسئلتهم إجابة شاهد العيان،
الذى رأى وسمع.
وكان من الطبيعى أن ينشأ هذا العلم فى مدينة رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -، فهى البيئة التى شهدت معظم تلك الأحداث، ومنها بدأت
أولى خطوات التدوين والتأليف فى السيرة والمغازى، ومن أوائل
علماء السيرة والمغازى:
أبان بن عثمان:
أبوه الخليفة (عثمان بن عفان)، وُلد سنة (20 هـ) بالمدينة، وكان من
فقهاء (المدينة) المعدودين، ومن كبار رواة الحديث، تتلمذ لأبيه وغيره
من كبار الصحابة، وتعلم على يديه كثير من علماء الحديث والسيرة،
فى مقدمتهم: (محمد بن مسلم بن شهاب الزهرى).
وعلى الرغم من اشتغاله بالحديث والفقه، فإن شهرته فى العلم
بالمغازى والسير جعلته من علمائها البارزين، وتوفى فى نهاية
القرن الأول الهجرى.
عروة بن الزبير بن العوام:
وُلد فى (المدينة) سنة (26هـ)، وتتلمذ على يد خالته أم المؤمنين
السيدة (عائشة)، وروى عنها حديث النبى صلى الله عليه وسلم
ومغازيه، واشتهر (عروة) بأنه من فقهاء (المدينة)، مثل (أبان بن
عثمان)، غير أن شهرته بالمغازى والسير كانت أكبر، وكانت له
مؤلفات كثيرة، ذكر (ابن سعد) فى كتابه (الطبقات) أنه أحرقها فى
يوم (الحرة)، وهى الواقعة الحربية المشهورة سنة (63هـ) فى
(المدينة)، وقد حزن كثيرًا على فقدها، وتوفى (عروة) سنة (94هـ).
شرحبيل بن سعد:
وهو ثالث ثلاثة من كتاب الطبقة الأولى من أهل (المدينة) فى علم
السيرة، نشأ فى (المدينة)، وأخذ العلم عن الصحابة، حتى صار علمًا
من أعلام السير والمغازى، ويروى أنه كان أعلم الناس بالمغازى
وبخاصة أهل (بدر)، وقد تُوفُّى سنة (123هـ).
وهب بن منبه:
وُلد فى قرية (زمار) بجوار (صنعاء) باليمن، وهو واحد من رجال
الطبقة الأولى من علماء السيرة والمغازى، ومن العلماء الموسوعيين
الذين كتبوا فى علوم شتىَّ، فكان مصدرًا من مصادر علوم أهل
الكتاب، ومن الثقاة فى تاريخ الأنبياء.
وقد ألَّف (وهب) مؤلفات كثيرة، لم يصل إلينا منها شىء، وإن وجدت
مؤخرًا فى مدينة (هيدلبرج) بألمانيا أوراق بردى، يقال إنها قطعة
من كتاب المغازى لوهب بن منبه، تحوى معلومات عن (بيعة العقبة)،
وحديث (قريش) فى دار الندوة، وتدبيرها لقتل الرسول - صلى الله
عليه وسلم -، والاستعداد للهجرة إلى (المدينة).
ثم تلا هذه الطبقة طبقة أخرى، واصلت عملها فى مجال التأليف
والكتابة فى السيرة والمغازى، من أبرزهم (محمد بن مسلم بن شهاب
الزهرى)، الذى امتاز على معاصريه بكثرة الكتابة والتدوين، غير أن
مؤلفاته ضاعت ولم يصل إلينا منها شىء، وعلى الرغم من ذلك فإن
علمه حفظه لنا تلاميذه الكثيرون، وكان من أعظمهم فى مجال
السيرة والمغازى:
محمد بن إسحاق:
وُلد فى (المدينة) سنة (85هـ) فى خلافة (عبدالملك بن مروان)، وتتلمذ
لأبيه الذى كان محدثًا فقيهًا، ولغيره من كبار التابعين فى (المدينة)،
مثل: (القاسم بن محمد بن أبى بكر الصديق)، و (سالم بن عبدالله بن
عمر)، و (أبان بن عثمان بن عفان)، و (نافع مولى عبدالله بن عمر)،
و (أبى سلمة بن عبدالرحمن بن عوف)، و (محمد بن مسلم بن شهاب
الزهرى)، ثم رحل (ابن إسحاق) إلى (مصر) سنة (115هـ)، والتقى
بعلمائها الكبار، وفى مقدمتهم:(يزيد بن أبى حبيب)، وزار
الإسكندرية، ثم عاد إلى (المدينة) ليواصل دراسته، ثم رحل إلى
(العراق) بعد قيام الدولة العباسية، وقضى فيها بقية حياته، حتى
تُوفِّى سنة (151هـ).
وهناك إجماع بين العلماء على إمامة (ابن إسحاق) لعلم السيرة
والمغازى، فقد حفظ فى كتابه معظم روايات السابقين وآثارهم
العلمية، وكل من أتى بعده عالة عليه فى هذا العلم كما قال الإمام
(الشافعى).
ولابن إسحاق كتابان:
أحدهما عنوانه (كتاب الخلفاء)، وهو مفقود حتى الآن.
والآخر: كتاب (السيرة والمبتدأ والمغازى) وهو أقدم كتاب وصل إلينا
عن سيرة الرسول ومغازيه، وأوفاها علمًا، وإذا كان لم يظهر إلى
الوجود كاملا حتى الآن، فإنه جاء إلينا فى صورة تكاد تكون كاملة
عن طريق (عبدالملك بن هشام)، المتوفَّى سنة (218هـ)، الذى أخذ
سيرة (ابن إسحاق) ورواها عن شيخه (زياد بن عبدالله البكائى)،
الذى رواها مباشرة عن شيخه (ابن إسحاق).
وقد قام (ابن هشام) بتهذيب سيرة (ابن إسحاق)، وحذف كثيرًا من
الشعر والروايات التى لم يرَ ضرورة لذكرها، وقد عرف عمله هذا
بسيرة (ابن هشام)، ولاشك أنه أسدى إلى العلم بصفة عامة وإلى
علم السيرة والمغازى بصفة خاصة خدمة جليلة، بحفظه هذا السفر
الضخم الذى كان مصدرًا لكل كتاب السيرة والمغازى بعد ذلك، مثل
(الواقدى) المتوفَّى سنة (207هـ)، وتلميذه (محمد بن سعد) المتوفى
سنة (230هـ)، و (البلاذرى) المتوفى سنة (279هـ)، و (ابن قتيبة)
المتوفى سنة (276هـ)، و (الطبرى) عمدة المؤرخين المسلمين على
الإطلاق، المتوفى سنة (310 هـ = 922 م).
حركة الترجمة من اللغات الأجنبية:
حافظ الأمويون على التراث الثقافى للبلاد التى كانت تحت حكمهم،
فى (الإسكندرية) بمصر، و (بيروت)، و (دمشق) و (أنطاكية) فى
(الشام)، و (نصيبين) و (حران) فى (العراق)، و (جنديسابور) فى فارس،
وكانت تلك المدن هى أعظم مراكز العلم القديمة.
وقد تأخر المسلمون فى البداية فى نظرهم إلى العلوم الأجنبية، نظرًا
لانشغالهم بالجهاد وتوطيد الدولة الإسلامية، وتأسيس العلوم العربية
والإسلامية التى سبق الحديث عنها، ولعدم معرفتهم على نطاق واسع
باللغات الأجنبية.
ولا يعنى ما سبق أن الأمويين أهملوا العناية بتلك العلوم الأجنبية،
وترجمة بعضها إلى اللغة العربية، فقد شغف (خالد بن يزيد بن
معاوية)، وهو من أمراء (بنى أمية) بالكيمياء، التى كانت تسمَّى فى
ذلك الوقت (علم الصنعة)، وأحضر بعض العلماء من (مصر) إلى
(دمشق)، ليترجموا له بعض الكتب من اليونانية إلى العربية، ويذكر
(ابن النديم) فى كتابه (الفهرست) أنه رأى بنفسه مؤلفات لخالد بن
يزيد، منها: كتاب فى الحراريات، وكتاب وصيته إلى ابنه فى
الصنعة.
ويذكر (القفطى) من مترجمى العصر الأموى الطبيب (ماسرجويهـ) الذى
ترجم كتابًا فى الطب للخليفة (عمر بن عبدالعزيز)، كما يذكر (ابن
النديم) - أيضًا - أن (سالمًا) كاتب الخليفة (هشام بن عبدالملك) ترجم
رسائل (أرسطو) إلى تلميذه (الإسكندر الأكبر)، وهى رسائل فى
السياسة.
وعلى أية حال فإن ذلك كان بداية متواضعة لحركة الترجمة، فرضتها
ظروف الدولة وصراعاتها فى الداخل والخارج، وحسْب الأمويين أنهم
حافظوا على تلك الثروة الهائلة، وصانوها من الضياع، ولولا ذلك ما
وجد العلماء فى العصر العباسى شيئًا يترجمونه.