المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الوليد بن عبدالملك - موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي - جـ ٢

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌ الوليد بن عبدالملك

5 -

‌ الوليد بن عبدالملك

(86 - 96هـ):

هو «الوليد بن عبدالملك بن مروان» ، وُلد سنة (50هـ)، وهو أكبر

أبناء «عبدالملك» ، الذى حرص على تربيتهم تربية إسلامية، فعهد

بهم إلى كبار العلماء والصلحاء لتعليمهم وتربيتهم، وخص ابنه

«الوليد» بعناية خاصة، لأنه ولى عهده، وخليفته فى حكم الدولة

الإسلامية، فشب «الوليد» على الصلاح والتقوى، حافظًا للقرآن، دائم

التلاوة له.

تولَّى «الوليد» الخلافة بعد وفاة أبيه، الذى ترك له دولة واسعة

الثراء، غنية بالموارد، قوية الساعد، مرهوبة الجانب، موحَّدة

الأجزاء، متماسكة البناء، موطَّدة الأركان، فاستثمر ذلك على أحسن

وجه فى الفتوحات الإسلامية، فاستكمل المسلمون فى عهده فتح

الشمال الإفريقى كله، وفتحوا بلاد «الأندلس» ، وأتمُّوا فى المشرق

فتح بلاد «ما وراء النهر» - آسيا الوسطى - وفتح إقليم «السند» فى

«شبه القارة الهندية» .

وبرز فى عهده عدد من القادة الكبار، منهم من أشرف على فتح تلك

البلاد، مثل:«الحجاج بن يوسف الثقفى» ، ومنهم من قاد تلك

الفتوحات بنفسه، مثل:«قتيبة بن مسلم الباهلى» فاتح بلاد «ما وراء

النهر»، و «محمد بن القاسم الثقفى» فاتح «السند» ، و «موسى بن

نصير» و «طارق بن زياد» فاتحى «الأندلس» . كما نهض «مسلمة بن

عبدالملك» أخو «الوليد» بمنازلة الدولة البيزنطية، ومواصلة الضغط

عليها، والاستعداد لمحاصرة عاصمتها «القسطنطينية» .

الفتوحات في عهد الوليد بن عبد الملك:

- موسى بن نصير واستكمال فتح الشمال الإفريقي:

حلّ «موسى بن نصير» سنة (85هـ) محل «حسان بن النعمان» فى

ولاية شمالى إفريقيا وقيادة جيوش الفتح بها، فأكمل ما بدأه

سابقوه من القادة العظام، وقدِّر له أن يجنى ثمار غرسهم، ففى

ولايته تم فتح «المغرب» كله، وأقبل أبناؤه على اعتناق الإسلام فى

حرية تامة، بعدما أدركوا وفهموا ما يحمله من عزة وكرامة وحرية

وعدل ومساواة.

فتح الأندلس:

ص: 105

«الأندلس» أو «شبه جزيرة أيبريا» هى الجزء الجنوبى الغربى من

قارة «أوربا» ، وتشمل فى الوقت الحاضر دولتى «إسبانيا»

و «البرتغال» .

عندما استقر الأمر للمسلمين فى «المغرب» فى ولاية «موسى بن

نصير»، وأقاموا فيها نظامًا عادلا ورحيمًا، كانت «الأندلس» تمرُّ

بأسوأ أحوالها السياسية والاجتماعية والاقتصادية تحت حكم

«القوط» الذين استبدوا بالبلاد ونعموا بخيراتها، تاركين سواد الشعب

يعانى الفاقة والحرمان، فتطلع أهلها إلى المسلمين ليخلصوهم مما

هم فيه من ظلم واستعباد.

وكان الذى دعا المسلمين إلى فتح تلك البلاد هو «يوليان» حاكم

ولاية «سبتة» المغربية الواقعة على ساحل البحر، والخاضعة لحكم

«القوط» آنذاك، ولم يكن المسلمون قد فتحوها، فاتصل حاكمها

بطارق بن زياد حاكم «طنجة» ، وعرض عليه الفكرة، فنقلها إلى

«موسى بن نصير» الذى اتصل بالخليفة «الوليد بن عبدالملك» ، فأذن

له الخليفة، على أن يتأكد من صدق نيات «يوليان» ، وأن يرتاد البلاد

بحملة استطلاعية، ليعرف أخبارها قبل أن يدخلها فاتحًا.

- حملة طريف بن مالك الاستطلاعية:

كلَّف «موسى بن نصير» أحد رجاله وهو «طريف بن مالك» على رأس

خمسمائة جندى، بدخول «الأندلس» وجمع ما يمكن جمعه من أخبار،

كما طلب من «يوليان» أن يوافيه بتقرير عن أوضاع البلاد، فاتفقت

معلومات «طريف» التى جمعها مع تقرير «يوليان» ، وكلها تفيد أن

البلاد فى حالة فوضى، وتعانى من الضعف العسكرى، وأن الناس

ينتظرون المسلمين ليرفعوا عنهم الظلم، وعاد جيش «طريف» سنة

(91هـ) محملا بالغنائم.

- طارق بن زياد فاتح الأندلس:

اختار «موسى بن نصير» للقيام بمهمة فتح «الأندلس» طارق بن زياد»

وهو من أصل بربرى لما يتمتع به من شجاعة ومهارة فى القيادة،

فخرج فى سبعة آلاف جندى، معظمهم من «البربر» ، وعبر المضيق

الذى يفصل بين الساحل المغربى والساحل الأندلسى، والذى لايزال

يحمل اسمه، ونزل على الجبل - الذى حمل اسمه أيضًا - فى شهر

ص: 106

رجب سنة (92هـ)، واستولى عليه بعد عدة معارك مع القوات القوطية

التى كانت تقوم بحراسته، وتوغَّل فى جنوبى البلاد.

وما إن علم الملك «روذريق» بنزول المسلمين فى بلاده - وكان فى

شمالى غربى البلاد مشغولا بقمع ثورة اندلعت ضده - حتى عاد

مسرعًا للقاء المسلمين على رأس جيش قوامه نحو مائة ألف جندى،

ولما علم «طارق» بعودة الملك طلب مددًا من «موسى بن نصير» ،

فأمدََّه بخمسة آلاف، وأصبح عدد جيشه اثنى عشر ألفًا، والتقى

الفريقان فى أواخر شهر رمضان سنة (92هـ)، وحقق المسلمون نصرًا

حاسمًا، ويؤكد المؤرخون أن هذه المعركة المعروفة باسم معركة

«شذونة» قد قررت مصير «الأندلس» لصالح المسلمين، لأن الجيش

القوطى دُحر تمامًا، وهبطت روحه المعنوية إلى الحضيض، ولم يعد

قادرًا على المقاومة، فانفتح الطريق أمام البطل الفاتح «طارق بن

زياد»، ليستولى على مدن مهمة، مثل:«قرطبة» ، و «غرناطة» ،

ووصل إلى «طليطلة» فى وسط البلاد، وكانت عاصمة البلاد فى ذلك

الوقت.

أرسل «طارق» إلى «موسى بن نصير» يبشره بهذه الانتصارات،

ويطلب منه مددًا جديدًا، فعبر إليه بنفسه على رأس قوة كبيرة قوامها

ثمانية عشر ألفًا، ونجح فى فتح عدد من المدن فى غربى البلاد مثل

«إشبيلية» وهو فى طريقه إلى لقاء «طارق» فى «طليطلة» .

اتفق القائدان العظيمان على استكمال فتح «الأندلس» ، فاتجه كل

منهما إلى ناحية فأخذ «طارق بن زياد» طريقه إلى الشمال الشرقى،

فى حين اتجه «موسى» إلى الشمال الغربى، ونجح الاثنان فى

غضون عامين (93 - 95هـ) فى فتح معظم «شبه الجزيرة الأيبرية» ،

عدا منطقة جبلية فى أقصى الشمال الغربى، استعصت عليهم، أو لم

يحفلوا بها، ولم يدروا أنها ستكون فيما بعد البؤرة التى ستنمو فيها

المقاومة النصرانية.

وقد استمر الإسلام فى «الأندلس» زهاء ثمانية قرون، شاد المسلمون

خلالها حضارة عظيمة، جعلت منها البقعة الوحيدة المضيئة فى القارة

ص: 107

الأوربية كلها، التى كانت تعيش عصورًا مظلمة وتحيا حياة متخلِّفة.

فتح بلاد ما وراء النهر:

أطلق المسلمون اسم بلاد «ما وراء النهر» على البلاد المعروفة الآن

باسم «آسيا الوسطى» الإسلامية، وتضم خمس جمهوريات إسلامية،

كانت خاضعة للاتحاد السوفييتى، ثم منَّ الله عليهم، فاستقلُّوا بعد

انهياره.

وتقع بلاد «ما وراء النهر» بين نهر «جيحون» (أموداريا) فى الجنوب،

ونهر «سيحون» (سرداريا) فى الشمال، وأهلها من أصول تركية،

حلُّوا بها منذ القرن السادس الميلادى.

وكانت هذه البلاد تتكون - عند الفتح الإسلامى - من عدة ممالك

مستقلة، وهى:

1 -

مملكة «طخارستان» ، وتقع على ضفتى نهر «جيحون» ،

وعاصمتها «بلخ» .

2 -

مملكة «الخُتّل» ، وهى أول مملكة شمالى نهر «جيحون» ،

وعاصمتها مدينة «هلبك» .

3 -

مملكة «صغانيان» ، وعاصمتها تسمى «صغانيان» أيضًا.

4 -

مملكة «الصغد» ، وعاصمتها مدينة «سمرقند» ، ومن أهم مدنها

«بخارى» .

5 -

مملكة «خوارزم» وعاصمتها مدينة «الجرجانية» .

وكانت تُسمَّى هذه بالممالك الجيحونية، بالإضافة إلى عدة ممالك

أخرى تقع على ضفتى نهر «سيحون» ، سُميت بالممالك السيحونية،

وهى «الشاش» ، و «أشروسنة» ، و «فرغانة» .

وهذه الممالك كلها تم فتحها خلال عشر سنوات (86 - 96هـ) فى

خلافة «الوليد بن عبدالملك» ، على يد «قتيبة بن مسلم الباهلى» ،

وبقوة دفع هائلة من «الحجاج بن يوسف الثقفى» والى «العراق»

والمشرق.

قتيبة بن مسلم فاتح بلاد ما وراء النهر:

طرق المسلمون هذه البلاد عدة مرات منذ خلافة «عثمان بن عفان»

رضى الله عنه، وغزاها عدد كبير من القادة المسلمين كان آخرهم

«المهلب بن أبى صفرة» ، ولم تكن حملاتهم عليها للاستقرار الدائم

والفتح المنظم، وإنما كانت لتعرفها ومعرفة أحوالها.

وبدأت المرحلة الحاسمة فى الفتح والاستقرار مع تسلم «قتيبة بن

مسلم» قيادة جيوش الفتح وولاية إقليم «خراسان» سنة (85هـ)،

ص: 108

وكانت الظروف مواتية له تمامًا، فالدولة الأموية كانت عندئذٍ فى

أحسن حالاتها استقرارًا وهدوءًا وثراءً، فاجتمع لقتيبة مهارة

القائد، وعزم الوالى - «الحجاج» - وتشجيعه، وقوة الدولة وهيبتها،

فكانت فتوحاته العظيمة فى بلاد «ماوراء النهر» .

ولم يكن «قتيبة» قائدًا عسكريا فذا فحسب، بل كان إلى جانب ذلك

رجل دولة، وصانع سياسة، وواضع نظم وإدارة، فعمل بعد تسلمه

أمور الولاية على القضاء على الخلافات العصبية التى كانت تعصف

بالقبائل العربية فى «خراسان» ، من جراء التنافس فى الولايات،

وجمع زعمائهم.

ولم يكتفِ «قتيبة» بتوحيد صفوف القبائل العربية تحت راية الجهاد،

بل عمل على كسب ثقة أهل «خراسان» الأصليين، فأحسن إليهم،

وقرَّبهم وتودَّد معهم، وعهد إليهم بالوظائف، فاطمأن الجميع إليه،

ووثقوا به وبقيادته.

مراحل الفتح:

مرت خطوات «قتيبة» فى فتح تلك البلاد التى استمرت نحو عشر

سنوات (86 - 96هـ) عبر مراحل أربع هى:

- المرحلة الأولى (86 - 87هـ):

وفيها أخضع «قتيبة بن مسلم» إقليم «طخارستان» ، الواقع على

ضفتى نهر «جيحون» ، ويبدو أن أوضاعه لم تكن قد استقرت

للمسلمين تمامًا، منذ أن فتحه «الأحنف بن قيس» فى خلافة «عثمان

بن عفان»، وكانت تلك بداية ناجحة، فبدون توطيد أقدامه فى

«طخارستان» لم يكن ممكنًا أن يمضى لفتح «ما وراء النهر» ، وأصبح

يتمتع بهيبة كبيرة فى تلك البلاد؛ فما إن يسمع الملوك بمسيره

إليهم، حتى يسرعوا إلى لقائه وطلب الصلح.

- المرحلة الثانية (87 - 90هـ):

وفيها فتح «قتيبة» إقليم «بخارى» ، بعد حروب طاحنة، وانتظام

حملاته عليها، وكان الغزو يحدث فى الصيف، لأن شتاء تلك البلاد

كان قاسيًا شديد البرودة على العرب، لكنهم صبروا وجاهدوا حتى

تمَّ لهم الفتح.

والحقيقة أن جهل أهل البلاد بالإسلام، وتصورهم أن المسلمين جاءوا

للاستيلاء على خيرات بلادهم، هو الذى جعلهم يقاومونهم، لكنهم لما

ص: 109

عرفوا أن المسلمين ليسوا غزاة، وإنما هداة يحملون إليهم الإسلام،

أقبلوا على اعتناقه والإيمان بمبادئه.

يقول المستشرق المجرى «أرمينوس فامبرى» : «إن بخارى التى

قاومت العرب فى البداية مقاومة عنيفة، قد فتحت لهم أبوابها،

لتستقبلهم ومعهم تعاليم نبيهم صلى الله عليه وسلم، تلك التعاليم

التى قوبلت أول الأمر بمعارضة شديدة، ثم أقبل القوم عليها بعد ذلك

فى غيرة شديدة، حتى لنرى الإسلام الذى أخذ شأنه يضعف اليوم

فى جهات آسيا الأخرى، وقد غدا فى بخارى اليوم - (1873م) - على

الصورة التى كان عليها أيام الخلفاء الراشدين».

- المرحلة الثالثة (90 - 93هـ):

وفيها أكمل فتح حوض نهر «جيحون» كله، وتوَّج عمله بالاستيلاء

على «سمرقند» ، أعظم مدائن «ما وراء النهر» كلها.

- المرحلة الرابعة (93 - 96هـ):

وفيها عبر «قتيبة» نهر «سيحون» ، وفتح الممالك السيحونية الثلاث:

«الشاش» ، و «أشروسنة» ، و «فرغانة» ، ووصل إلى إقليم «كاشغر»

الذى يلامس حدود «الصين» ، التى تهيأ لفتحها، لولا أن وفاة

«الحجاج» سنة (95هـ)، وبعده الخليفة «الوليد بن عبد الملك» سنة

(96هـ)، جعلته يتوقف عند هذا الحد، لكنه أجبر ملك «الصين» على

دفع الجزية له مع رسوله إليه «هُبيرة بن المشمرج الكلابى» .

وقد أصبحت تلك البلاد جزءًا مهما وعزيزًا من العالم الإسلامى، نشأت

فيه مراكز علمية وحضارية، مثل «سمرقند» ، و «بخارى» ،

و «جرجان» ، وغيرها، وخرجت عددًا هائلا من علماء المسلمين الذين

ملأت أسماؤهم سمع الدنيا وبصرها.

فتح السند:

بدأ «الحجاج بن يوسف الثقفى» يعد العدة لفتح إقليم «السند» فى

«شبه القارة الهندية» ، بعد أن استقام الأمر له فى جنوبى بلاد فارس

وتوطدت أقدام المسلمين هناك، وقضى على تمرد «رتبيل» ملك

«سجستان» ، وأخضع بلاده.

ويُعد فتح بلاد «السند» شبيهًا بفتح بلاد «ما وراء النهر» من عدة

وجوه، منها:

- وحدة الزمان، فقد فتح المسلمون «السند» سنة (89هـ).

ص: 110

-ووحدة القيادة العامة التى توجه الفتوحات، والتى تمثلت فى شخص

«الحجاج الثقفى» الذى وقف وراء ابن عمه «محمد بن القاسم

الثقفى» كما وقف وراء «قتيبة بن مسلم» ، يعضِّد الفتح ويؤازره،

ويمده بالرجال والعتاد.

وقد سبق الفتحَ المنظم لبلاد «السند» سلسلةٌ من الحملات والغزوات

التى قام بها المسلمون لمعرفة طبيعة البلاد وجمع المعلومات عنها،

كما حدث لبلاد «ما وراء النهر» ، فقد بدأ المسلمون يطرقون أبواب

هذا الإقليم منذ عهد «عمر بن الخطاب» ، ويمدنا «البلاذرى» بمعلومات

ضافية عن حملات المسلمين الأولى قبل حملة «محمد بن القاسم

الثقفى» فاتح «السند» (89 - 96هـ).

عزم «الحجاج» على فتح إقليم «السند» ، بعد أن استقرت أحوال

الدولة الأموية، فأسند هذه المهمة إلى «محمد بن القاسم» وكان دون

العشرين من عمره، وجهَّزه بما يكفل له النجاح من عدة وعتاد،

وأمدَّه بستة آلاف جندى من أهل الشام، بالإضافة إلى ما كان معه

من الجنود، فأصبح تحت قيادته نحو عشرين ألفًا فى تقدير بعض

المؤرخين.

اتخذ «محمد بن القاسم» من مقاطعة «مهران» فى جنوبى «فارس»

قاعدة للفتح ونقطة انطلاق، فقسَّم جيشه نصفين، أحدهما برِّى

والآخر بحرى، ثم تحرك قاصدًا مدينة «الديبُل» - وهى تقع قريبًا من

«كراتشى» الحالية فى «باكستان» - وفتح فى طريقه إليها

«فنزبول» ، و «أرمائيل» ، ثم وافته السفن التى كانت تحمل الرجال

والعتاد، فحاصر «الديبل» واستولى عليها بعد قتال دام ثلاثة أيام،

وترك فيها حامية من أربعة آلاف رجل، وبنى لهم مسجدًا.

وكان لفتح المسلمين مدينة «الديبل» أثر كبير فى أهل «السند» ،

فسارعوا يطلبون الصلح فصالحهم «محمد بن القاسم» ورفق بهم، ثم

سار إلى «البيرون» - «حيدر آباد السند» حاليا - فتلقاه أهلها

وصالحوه كذلك، وكان لا يمر بمدينة إلا فتحها صلحًا أو عَنوة، وتوَّج

ذلك كله بالانتصار على «داهر» ملك «السند» ، ومضى يستكمل

ص: 111

فتحه، فاستولى على حصن «راوَدْ» ، ثم «برهماناباذ» ، و «الرور»

و «بهرور» ، ثم اجتاز نهر «بياس» وعبر إلى إقليم «الملتان» ،

فاستولى عليه بعد قتال شديد، وغنم كميات كبيرة من الذهب.

وبينما يواصل «محمد بن القاسم» فتوحاته؛ إذ جاءته الأخبار بوفاة

«الحجاج» سنده وعونه فى الفتح، فاغتم لذلك غما شديدًا؛ لكنه

واصل فتوحاته حتى أتم فتح بلاد «السند» ، وجاءته قبائل «الميد»

و «الجات» و «الزط» تقرع الأجراس فرحة هاتفة، مرحبة به، لأنهم عدُّوه

محررهم من ظلم الهندوس واستعبادهم.

وفى هذه الأثناء مات الخليفة «الوليد بن عبدالملك» سنة (96هـ)،

وتولَّى أخوه «سليمان بن عبدالملك» منصب الخلافة، فعيَّن على

«العراق» «صالح بن عبدالرحمن» ، وكان واحدًا من ألد خصوم

«الحجاج» ، فقرر الانتقام منه على الرغم من وفاته سنة (95هـ)، فى

شخص ابن عمه «محمد بن القاسم» ، فعزله عن قيادة الجيش، ولم

يكتفِ بذلك، بل أمر بالقبض عليه ووضعه فى السجن، وظل يعذبه

حتى مات.

ومن العجيب أن هذا البطل الذى قتله أهله وعشيرته حزن عليه أهل

«السند» الذين فتح بلادهم، لما رأوا فى عهده من عدل وسماحة

وحرية، وصنعوا له التماثيل كما يروى «البلاذرى» .

النهضة العمرانية في عهد الوليد:

شهد عصر الوليد بن عبد الملك نهضة عمرانية كبرى، فأعاد بناء

«المسجد النبوى» وأدخل عليه توسعات كبيرة، وعهد إلى ابن عمه

والى «المدينة» «عمر بن عبدالعزيز» بمتابعة ذلك، كما بنى «المسجد

الأقصى» فى مدينة «القدس» ، وبنى «مسجد دمشق» ، وأنفق عليه

كثيرًا ليكون آية من آيات العمارة، وعُنى عناية فائقة بتعبيد الطرق

التى تربط بين أجزاء الدولة، التى امتدت أطرافها من «الصين» شرقًا

إلى «الأندلس» غربًا، ومن «بحر قزوين» شمالا إلى «المحيط الهندى»

جنوبًا، وبخاصة الطرق التى تؤدى إلى «مكة المكرمة» ، لتسهِّل سفر

حجاج بيت الله الحرام.

وفى عهده سبقت الدولة الإسلامية كل دول العالم فى تقديم الخدمات

ص: 112

للناس مجانًا، وبخاصة الخدمات الطبية لأصحاب الأمراض المزمنة، يقول

«الطبرى» :

«كان الوليد عند أهل الشام أفضل خلائفهم، بنى المساجد، مسجد

دمشق، ومسجد المدينة، ووضع المنابر، وأعطى الناس، وأعطى

المجذومين، وقال لا تسألوا الناس، وأعطى كل مُقعَد خادمًا، وكل

ضرير قائدًا، وفُتح فى عهده فتوح عظام».

وتُوفِّى الوليد بن عبدالملك فى جمادى الآخرة سنة (96هـ).

ص: 113