المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ يزيد بن معاوية - موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي - جـ ٢

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌ يزيد بن معاوية

2 -

‌ يزيد بن معاوية

(60 - 64 هـ):

هو «يزيد بن معاوية بن أبى سفيان» وأمه «ميسون بنت مخول

الكلبية». ولد فى «دمشق» سنة (26هـ) فى خلافة «عثمان بن

عفان»، حين كان أبوه واليًا على الشام، فنشأ فى بيت إمارة

وجاه، وقد عُنى أبوه بتربيته تربية عربية إسلامية، فأرسله وهو

طفل إلى البادية عند أخواله من «بنى كلب» ، فشب شجاعًا كريمًا،

أبى النفس، عالى الهمة، شاعرًا فصيحًا، وأديبًا لبيبًا، حاضر

البديهة، حسن التصرف فى المواقف.

ويعده العلماء من الطبقة الأولى من التابعين، ولبعضهم رأى حسن

فيه مع أخذهم عليه ميله إلى حياة اللهو فى صدر شبابه، فلقبه

«الليث بن سعد» فقيه «مصر» الكبير بلقب «أمير المؤمنين» ، وقال

عنه «ابن كثير» : «وقد كان فى يزيد خصال محمودة من الكرم

والفصاحة والشعر والشجاعة، وحسن الرأى فى الملك، وكان ذا

جمال، حسن المعاشرة».

ومنذ أن عزم أبوه على توليته الخلافة بعده أخذ يحمله على الجد

والحزم، وترك حياة اللهو والترف، استعدادًا لتولى هذا المنصب

الجليل، وعهد إليه بالقيام بالمهام الصعبة، فأرسله على رأس الحملة

العسكرية التى وجهها فى سنتى (49 - 50 هـ) لحصار القسطنطينية

عاصمة الدولة البيزنطية، وكان تحت قيادته بعض كبار الصحابة.

توليته الخلافة:

كان «يزيد» غائبًا عن «دمشق» عند وفاة أبيه فى رجب سنة

(60هـ)، فأخذ البيعة له «الضحاك بن قيس» ، ولما حضر جاءته الوفود

وأمراء الأجناد، لتعزيته فى أبيه وتهنئته بالخلافة وتجديد البيعة له.

وقد ترسَّم «يزيد» خطى أبيه، واستوعب وصيته له التى توضِّح له

معالم طريقه السياسى، وتبيِّن له كيفية التعامل مع المشكلات

وأحوال الرعية، وهذه الوصية تُعدُّ من أهم الوثائق السياسية فى فن

الحكم وإدارة الدول.

حافظ «يزيد» على سلامة الدولة وهيبتها، وحمى حدودها، واستمرت

حركة الفتوحات فى عهده، فوصل «عقبة بن نافع» إلى شواطئ

«المحيط الأطلسى» ، مخترقًا الشمال الإفريقى كله، وعبرت طلائع

ص: 88

الفتح نهر «جيحون» لفتح بلاد «ما وراء النهر» (آسيا الوسطى).

الفتوحات الإسلامية في عهد يزيد:

- ولاية عقبة بن نافع الثانية:

أعاد الخليفة «يزيدُ بن معاوية» «عقبةَ بن نافع» مرة أخرى إلى

«شمالى إفريقيا» ، فواصل جهود «أبى المهاجر» ، وقام بحملته التى

اخترق بها الساحل كله فى شجاعة وجرأة حتى بلغ شاطئ «المحيط

الأطلسى»، وأوطأ أقدام فرسه فى مياهه، وقال قولته المشهورة:

«اللهم اشهد أنى قد بلغت المجهود، ولولا هذا البحر لمضيت فى

البلاد، أقاتل من كفر بك حتى لا يعبد أحدًا دونك».

وفى أثناء عودة «عقبة» من غزوته المظفرة تعرض لكمين نصبه له

البيزنطيون بمساعدة «كسيلة» زعيم «البربر» ، الذى كان «عقبة» قد

أهانه، فبينما هو يسير فى عدد قليل من جنوده يبلغ زهاء ثلاثمائة

جندى انقضت القوات البيزنطية عليه وعلى من معه عند بلدة تهودة

فاستشهدوا جميعًا سنة (63هـ).

ومما أسهم فى وقوع الكارثة أن «عقبة» قد وقع فى خطأ عسكرى

كبير، إذ سرَّح معظم جيشه، وأمرهم بالسير أمامه، فابتعدوا عنه

لمسافة طويلة، مما جعل الجيش البيزنطى ينفرد به ويهزمه هزيمة

ثقيلة أضاعت كل الجهود التى بذلها المسلمون فى فتح تلك البلاد،

واضطر المسلمون إلى الارتداد إلى الخلف، ولم يستطيعوا الاحتفاظ

بالقيروان، وعادوا إلى «برقة» .

ثم تسلَّم «زهير بن قيس البلوى» قيادة الجيش خلفًا لعقبة بن نافع

سنة (63هـ)، وعزم على الثأر من البيزنطيين و «البربر» ، لكنه لم

يستطع أن يحقق هدفه إلا فى سنة (69هـ)، نظرًا لانشغال الدولة

الأموية بالأحداث والفتن الخطيرة التى حدثت فى الداخل بعد وفاة

«يزيد بن معاوية» سنة (64هـ).

الثورات في عهد يزيد بن معاوية:

- ثورة الحسين بن على:

لم يقم الشيعة بأى ثورة ضد «معاوية بن أبى سفيان» ، طوال مدة

خلافته (41 - 60هـ)، وإنما اندلعت أولى ثوراتهم بقيادة «الحسين بن

على» فى خلافة «يزيد بن معاوية» ، بعد أن رفض «الحسين» بيعة

ص: 89

«يزيد» ، وكان قد رفض من قبل تعيينه وليا للعهد فى زمن أبيه.

اعتصم «الحسين» بمكة المكرمة، وهناك توالت عليه رسائل أهل

«الكوفة» يطلبون منه الحضور إليهم؛ ليبايعوه بالخلافة، فاستجاب

لهم على الرغم من تحذير «ابن عباس» - وهو من أقرب الناس إليه - من

الذهاب إلى «العراق» ، لأنها دعوة من لا أمان أو عهد لهم، وقد خذل

أهل العراق أباه من قبل، لكنه أصر على الذهاب، وأرسل - قبل أن

يتحرك- ابن عمه «مسلم بن عقيل بن أبى طالب» إلى «الكوفة» ،

ليستطلع الأمر، ويكتب له بحقيقة الموقف هناك.

وصل «مسلم بن عقيل» إلى «الكوفة» ، فاستقبله الناس بحماس شديد

وبحفاوة بالغة، وبايعه منهم نحو ثمانية عشر ألفًا، فانخدع بهم بعد

أن تغافل «النعمان بن بشير» والى «الكوفة» عنه، فكتب إلى

«الحسين» يطمئنه، ويطلب منه الحضور إلى «الكوفة» .

ولما علم «يزيد» بما فعله «مسلم» فى «الكوفة» ، اضطر إلى عزل

«النعمان بن بشير» عن ولايتها لتغاضيه عما يقوم به «مسلم» ، وولَّى

مكانه «عبيدالله بن زياد» ، فحضر على الفور، وقبض على «مسلم»

وقتله بعد أن انفضت عنه الآلاف التى تجمعت حوله من أهل

«الكوفة» ، وتركوه يلقى مصرعه وحده.

وفى أثناء هذه الأحداث المتلاحقة كان «الحسين» فى طريقه إلى

«الكوفة» ، فلما وصلته أخبار «مسلم» ، وتخاذُل الكوفيين عنه، قرر

العودة إلى «مكة» ، لكن إخوة «مسلم» أصروا على مواصلة السير،

طلبًا لثأر أخيهم، فلم يجد «الحسين» بُدا من مطاوعتهم، وكان هذا من

الأخطاء الكبيرة، فالذى قتل «مسلم» دولة لا فرد، وليس فى

استطاعتهم - وهم قلة فى عددهم - التصدِّى للدولة، فقد كانوا نحو

سبعين رجلا.

واصل «الحسين» سيره حتى بلغ «كربلاء» بالقرب من «الكوفة» ،

فوجد جيشًا كبيرًا فى انتظاره بقيادة «عمر بن سعد بن أبى وقَّاص»

يزيد عددُه عمَّا معه من أفراد بنحو خمسين مرة، وعسكرت القوتان

دون تكافؤ بينهما فى القوة، فعرضَ «الحسين» على «عمر بن سعد»

ص: 90

ثلاثة حلول للخروج من هذا المأزق، إمَّا أن يتركه يعود إلى «مكة» ،

وإما أن يتركه يذهب إلى ثغر من ثغور الإسلام فيجاهد فى سبيل

الله، وإما أن يدعه يذهب إلى «دمشق» لمقابلة الخليفة «يزيد بن

معاوية» ويضع يده فى يده.

وكانت هذه الخطوة من «الحسين» - رضى الله عنه - طيبة؛ لأن ذلك

معناه أنه أنهى ثورته وجنح إلى السلام، كما سُرَّ بهذه الخطوة

«عمر بن سعد» ، لأنه لم يكن راغبًا فى مواجهة «الحسين» ، ولكن

عليه أن يستشير «عبيد الله بن زياد» ، فهو الوالى وصاحب القرار،

فرحب بالفكرة لأول وهلة، لأن فيها حقن الدماء، وبخاصة دم

«الحسين» حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير أن شيطانًا

من شياطين الإنس يُدعى «شمر بن ذى الجوش» أشار على «ابن

زياد» ألا يقبل من «الحسين» إلا أن يسلِّم نفسه باعتباره أسير حرب،

وأن يرسله بهذه الصفة إلى الخليفة «يزيد بن معاوية» فى «دمشق» .

وكان من الطبيعى أن يرفض «الحسين بن على» هذا الطلب، فالموت

عنده أهون عليه من هذا كما قال هو نفسه، ولو أن مشركًا أو ذميا

كان فى مكان «الحسين» ، وعرض عليهم هذه الحلول السلمية لكان

عليهم قبولها، لكن «ابن زياد» خضع لهذه الفكرة الشيطانية، ورفض

«الحسين» تسليم نفسه أسير حرب، فدارت معركة غير متكافئة بين

الفريقين فى «كربلاء» فى العاشر من المحرم سنة (61هـ)، استُشْهِد

فيها «الحسين» ، رضى الله عنه، وقتل من كان معه من أهل بيته،

ولم ينجُ من القتل إلا ابنه «على» الملقب بزين العابدين.

وكانت نتيجة المعركة مأساة مروعة، أدمت قلوب المسلمين جميعًا

حزنًا على «الحسين» ، ريحانة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما

كانت سببًا من أسباب زوال الدولة الأموية، وامتد أثرها فى تفريق

كلمة المسلمين إلى يومنا هذا.

ولاشك أن مسئولية دم «الحسين» تقع فى المقام الأول على أهل

«الكوفة» الذين أخرجوه ثم خذلوه، ولذلك يروى أن آخر جملة قالها

ص: 91

قبل وفاته: «اللهم احكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا فقتلونا» ، ثم

على «عبيدالله بن زياد» الآمر المباشر بقتاله، أما «يزيد بن أبى

سفيان» فإنه - وإن لم يأمر بقتل «الحسين» ، ولم يسعد بذلك - كان

يجب أن تكون أوامره صريحة بعدم قتال «الحسين» ، لاسيما أن أباه

«معاوية» قد أوصاه بذلك.

ثورة الخوارج:

استأنف الخوارج نشاطهم على نحو أعنف بعد وفاة «معاوية» سنة

(60هـ)، فأرسل إليهم «يزيد بن معاوية» حملة بقيادة «عبيدالله بن

زياد»، فتصدى لهم بقوة، ثم ازدادت ثوراتهم بعد وفاة «يزيد» سنة

(64هـ)، مستغلِّين فى ذلك حالة الفوضى التى سادت «العراق» .

وكان يمكن لعهد «يزيد» أن يكون امتدادًا لعهد أبيه، استقرارًا

واستتبابًا، لولا عدة حوادث خطيرة، عكَّرت صفو الأمة الإسلامية،

وألقت بظلال سوداء على عهد «يزيد» ، وطمست إنجازاته، منها:

حادثة استشهاد «الحسين بن على» - رضى الله عنهما - فى

«كربلاء» سنة (61هـ) وغزو «المدينة المنورة» سنة (63هـ) لقمع

الثورة التى قام بها أهلها ضده دون سبب قوى، ثم غزو «مكة

المكرمة» للقضاء على دولة «عبدالله بن الزبير» سنة (64هـ).

ولم تطل أيام «يزيد» ، فقد توفى فى شهر ربيع الأول سنة (64هـ)،

وهو فى الثامنة والثلاثين من عمره وتولى بعده الخلافة ابنه معاوية

بن يزيد وهو «معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبى سفيان» ، وأمه «أم

هاشم بنت أبى هاشم بن عتبة بن ربيعة»، ومع أنه لم ينهض بعمله

باعتباره خليفة، فإنه أخذ مكانه فى سلسلة خلفاء الدولة الأموية،

ويسميه بعض المؤرخين «معاوية الثانى» ؛ لأن أباه قد عهد إليه

بالخلافة بعده، طبقًا لنظام الوراثة الذى أسسه جده «معاوية» ، وقد

بايعه الناس بعد وفاة أبيه، لكنه أعلن فى صراحة أنه عاجز عن

النهوض بمسئولية الخلافة، وعليهم أن يبحثوا عن شخص كفء من

أهل الصلاح والتقوى لتحمل عبء مسئولية منصب الخلافة.

ولم تطل حياة ذلك الشاب الورع، حيث تُوفِّى بعد أبيه «يزيد» بنحو

ص: 92

أربعة أشهر، أو بعد أربعين يومًا فى قول آخر.

ص: 93