المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ معاوية بن أبى سفيان: - موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي - جـ ٢

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌ معاوية بن أبى سفيان:

الفصل الثاني

خلفاء بني أمية

1 -

‌ معاوية بن أبى سفيان:

هو «معاوية بن أبى سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن

عبدمناف»، وأمه «هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد

مناف»، ويلتقى نسبه من جهة أبيه وأمه مع نسب رسول الله - صلى

الله عليه وسلم - فى «عبد مناف» ، ولُقِّب بخال المؤمنين؛ لأن أخته «أم

حبيبة» أم المؤمنين كانت زوجًا للنبى صلى الله عليه وسلم.

وُلد قبل الهجرة بنحو خمسة عشر عامًا، وأسلم عام الفتح، سنة

(8هـ)، مع أبيه وأخيه «يزيد بن أبى سفيان» وسائر «قريش» ،

وأصبح منذ أن أسلم كاتبًا من كتَّاب الوحى لرسول الله - صلى الله

عليه وسلم -، وشارك فى عهد «أبى بكر الصديق» فى حروب الردة،

وفى فتوح الشام تحت قيادة أخيه الأكبر «يزيد» ، وأبلى فى ذلك

بلاءً حسنًا.

وعيَّنه «عمر بن الخطاب» واليًا على الشام كله، بعد وفاة أخيه

«يزيد» سنة (18هـ)؛ لكفاءته الحربية ومهارته فى السياسة والإدارة،

وظل فى ولايته مدة خلافة «عمر» ، ثم أقره «عثمان بن عفان» (24 -

36هـ) على ولايته، فاستمر فى سياسته الحكيمة، ضابطًا لعمله،

حارسًا لحدود إمارته، متصديا بكل حزم لأعداء الإسلام، محبوبًا من

رعيته.

خلافته:

استقبل المسلمون خلافة «معاوية» استقبالا حسنًا، واجتمعت عليه

كلمتهم، وكان هو عند حسن الظن، جديرًا بالمنصب الجليل، خبيرًا

بشئون الحكم وأمور السياسة، تدعمه فى ذلك خبرة واسعة، وتجربة

طويلة فى الإدارة وسياسة الناس، امتدت إلى أكثر من عشرين عامًا،

هى فترة ولايته على الشام، بالإضافة إلى تمتعه بكثير من الصفات

الرفيعة، التى تؤهله ليكون رجل دولة من الطراز الأول.

وقد أجمع المؤرخون على أنه كان لمعاوية نصيب كبير من الذكاء

والدهاء والسماحة والحلم والكرم، وسعة الأفق، وقدرة فائقة على

التعامل مع الناس على قدر أحوالهم، أعداءً كانوا أم أصدقاء.

وقد أفرغ «معاوية» جهده كله، ومواهبه وطاقاته فى رعاية مصالح

المسلمين وتوطيد دعائم الدولة، ونشر الأمن والاستقرار فى ربوعها،

ص: 81

واتبع فى تحقيق ذلك سياسة حكيمة تقوم على دعائم ثابتة، تتلخص

فيما يلى:

- العمل على تضميد جراح الأمة، وتسكين نفوسها، وتأليف قلوبها

بعد فترة مضطربة من حياتها، والإحسان والتودد إلى كبار

الشخصيات من شيوخ الصحابة وأبنائهم، وبخاصة آل بيت النبى

صلى الله عليه وسلم، وقد أدت هذه السياسة إلى تجميع القلوب

حوله، وتحويل الخصوم إلى أعوان وأصدقاء.

- وحسن اختياره للولاة والحكام، لأنه أدرك أنه مهما أوتى من ذكاء

وفطنة، ومقدرة وحكمة، فلن يستطيع أن يحكم الدولة وحده، ومن ثم

لابد له من أعوان، يساعدونه فى إدارة البلاد على خير وجه،

فاختارهم بعناية فائقة من بين أقوى الناس عقلا، وأحسنهم سياسة،

وأحزمهم إدارة، أمثال «عمرو بن العاص» ، و «المغيرة بن شعبة» ،

و «زياد» و «عتبة» أخويه، وغيرهم.

- ومباشرته أعماله بنفسه، وتكريسه وقته وجهده للدولة وسياستها،

وعدم ركونه إلى حياة الراحة والدعة، على الرغم من استعانته فى

إدارة الدولة بأعظم الرجال فى عصره.

بهذه السياسة استقرت الدولة وسادها النظام، وعمَّها الأمن

والسكينة، ولم يشذ عن ذلك سوى الخوارج، فأخذهم «معاوية»

بالشدة؛ حفاظًا على سلامة الأمة، واتسمت سياسته الخارجية

وبخاصة تجاه الدولة البيزنطية بمواصلة الضغط عليها، ومحاصرة

«القسطنطينية» - عاصمتها - أكثر من مرة، وجعلها تقف موقف

الدفاع عن نفسها.

الفتوحات فى عهد معاوية:

فتح شمالى إفريقيا:

وصل المسلمون فى أواخر خلافة «عثمان» إلى «تونس» الحالية،

لكنهم لم يواصلوا فتوحاتهم بسبب الفتن التى استمرت حتى نهاية

خلافة «على بن أبى طالب» (36 - 40هـ)، فلما استتب الأمر لمعاوية

سنة (41هـ)، كانت جبهة «شمالى إفريقيا» أولى الجبهات التى اهتم

بها، لأنها كانت تخضع لنفوذ الدولة البيزنطية التى عزم على تضييق

الخناق عليها، فأرسل سنة (41هـ) حملة إلى «شمالى إفريقيا»

بقيادة «معاوية بن حديج» ، ثم أرسله على رأس حملة أخرى سنة

ص: 82

(45هـ)، فاستطاع أن يفتح العديد من البلاد، مثل «جلولاء»

و «سوسة» .

- فتوحات عقبة بن نافع:

أسند «معاوية بن أبى سفيان» قيادة الجيش الفاتح إلى «عُقبة بن

نافع»، وهو واحد من كبار القادة الذين لمعت أسماؤهم فى

الفتوحات الإسلامية فى العصر الأموى، ولم يكن «عُقبة» جديدًا على

الميدان، فقد شارك فى فتح تلك البلاد منذ أيام «عمرو» ، واكتسب

خبرة كبيرة، فواصل فتوحاته فى هذه الجبهة.

ولما رأى «عقبة» اتساع الميدان، وبعد خطوط مواصلاته عن قواعده

فى «مصر» ، شرع فى بناء مدينة تكون قاعدة للجيش، ومركزًا

لانطلاقاته وإمداداته، فبنى مدينة «القيروان» (50 - 55هـ) بإذن من

«معاوية» ، وكان لهذه المدينة شأن عظيم فى الفتوحات وفى الحركة

العلمية، وأثناء تأسيسها كان «عقبة» يرسل السرايا للفتح، ويدعو

الناس إلى الإسلام، فدخل كثير من «البربر» -سكان البلاد- فى

الإسلام.

- فتوحات أبى المهاجر:

ظل «عقبة بن نافع» يواصل فتوحاته ونشر الإسلام حتى عزله

«معاوية» وولَّى مكانه قائدًا آخر، لا يقل عنه شجاعة وإقدامًا، وحبا

للجهاد فى سبيل الله، هو «أبو المهاجر دينار» ، وكان يتمتع إلى

جانب مهارته العسكرية بقدر من الكياسة وحسن التصرف والفطنة،

فقد أدرك أن «البربر» سكان الشمال الإفريقى قوم أشداء، يعتدُّون

بكرامتهم ويحرصون على حريتهم كالعرب تمامًا، وأن سياسة اللين

والتسامح قد تجدى معهم أكثر من سياسة الشدة.

وقد نجحت سياسة «أبى المهاجر» فى اجتذاب البربر إلى الإسلام،

وبخاصة عندما أظهر تسامحًا كبيرًا مع زعيمهم «كسيلة بن لمزم» ،

وعامله فى إجلال وإكرام، فأسلم الرجل متأثرًا بتلك المعاملة، وأسلم

بإسلامه طائفة كبيرة من قومه.

وفى مقابل تلك السياسة المتسامحة مع «البربر» كان «عقبة» حازمًا

فى تعامله مع الدولة البيزنطية التى حاولت أن تحتفظ بالشمال

الإفريقى بعد أن فقدت «مصر» والشام، لكنها لم تنجح، فقد حقق

ص: 83

«أبو المهاجر» نصرًا عسكريا عليها، مكَّنه من السير إلى الغرب،

فاتحًا معظم «المغرب الأوسط» - الجزائر الحالية - ووصل إلى

«تلمسان» .

معاوية ونشأة الأسطول الإسلامى:

وجد المسلمون أنفسهم بعد عشر سنوات من بداية الفتوحات الإسلامية

قد سيطروا على الشواطئ الشرقية والجنوبية للبحر المتوسط؛

بالإضافة إلى سيطرتهم شبه الكاملة على «البحر الأحمر» ، دون أن

تكون لديهم قوة بحرية، فهم ليسوا أهل بحر، بل هم أهل صحراء،

وإذا كانت لدى بعضهم خبرة بحرية كأهل «اليمن» و «الخليج» ، فهى

خبرة تجارية وليست قتالية، ولذا كان من الضرورى أن يمتلكوا قوة

بحرية تمكنهم من الدفاع عن الشواطئ التى امتلكوها.

وكان «معاوية بن أبى سفيان» والى الشام أول من فطن إلى ذلك،

ورفع الأمر إلى الخليفة «عمر بن الخطاب» ، شارحًا له أهمية ذلك، لأنه

عانى فى فتح مدن الشام الساحلية عناءً شديدًا بسبب وجود

الأسطول البيزنطى، غير أن «عمر بن الخطاب» رفض الفكرة تمامًا،

خوفًا على المسلمين من أهوال البحار؛ إذ لم تكن للمسلمين خبرة

بالحروب البحرية، كما كان يرى أن الوقت لايزال مبكرًا للدخول فى

ذلك الميدان الخطر، ولكن أمر «معاوية» أن يحصن الشواطئ

بالحصون، ويملأها بالمقاتلين، فامتثل «معاوية» .

وفى خلافة «عثمان بن عفان» (24 - 35هـ) رفع إليه «معاوية» طلبه

القديم بإنشاء أسطول بحرى، فرفض «عثمان» فى بادئ الأمر، لكنه

عاد فوافق بعد ما اقتنع بأهمية المشروع، لكنه اشترط أن يكون

الجهاد البحرى تطوعًا، ولا يكره عليه أحد.

بدأ «معاوية» على الفور فى تحقيق مشروعه، فشرع فى بناء

الأسطول مستغلا كل الإمكانات الموجودة فى «مصر» والشام لصناعة

السفن، ولم تمضِ أربع سنوات حتى ظهر إلى الوجود أسطول

إسلامى كبير، نجح فى فتح «جزيرة قبرص» سنة (28هـ)، وهزم

الأسطول البيزنطى فى موقعة «ذات الصوارى» .

معاوية وحصار القسطنطينية:

وضع «معاوية بن أبى سفيان» منذ أن ولى الخلافة أهدافًا سياسية،

ص: 84

كان فى مقدمتها فتح مدينة «القسطنطينية» ، عاصمة الدولة

البيزنطية، العدو اللدود للدولة الإسلامية، ولعله كان يستهدف

بسقوطها سقوط الدولة نفسها، كما هو الحال بالنسبة إلى دولة

الفرس التى لم تستطع الصمود بعد سقوط «المدائن» عاصمتها.

وكانت «القسطنطينية» تُعدُّ من أمنع المدن فى العالم، لموقعها

الفريد على القرن الذهبى الممتد فى مياه «خليج البسفور» ؛ حيث

تحيط بها المياه من الشرق والشمال والجنوب، أما فى الناحية

الغربية المتصلة بالبّر، فقد أقام الأباطرة البيزنطيون سلسلة من

الأسوار والأبراج لحمايتها من أية هجمات.

ولم يثنِ ذلك كلُّه عزيمة «معاوية» عن فتح عاصمة البيزنطيين،

فاستولى على الجزر البيزنطية الواقعة شرقى «البحر المتوسط» .

مثل: «رودس» ، و «كريت» ، و «أرواد» ؛ ليتخذها محطات للأسطول

الإسلامى، تمهيدًا لغزو «القسطنطينية» .

ولما أكمل استعداداته جهز أول حملة بحرية إليها، بقيادة «سفيان

بن عوف» وجعل ابنه «يزيد» أميرًا شرفيا عليها، سنة (49هـ)،

وشارك فى هذه الحملة عدد من الصحابة، مثل «عبدالله بن عمر» ،

و «عبدالله بن عباس» ، و «أبى أيوب الأنصارى» .

ولم تنجح هذه الحملة فى تحقيق أهدافها؛ بسبب مناعة المدينة،

وبرودة الجو الشديدة على العرب، فعادوا بعد أن استشهد عدد من

الأبطال، منهم «أبو أيوب الأنصارى» الصحابى الجليل.

وقد تنبأ الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الغزوة، ووعد أهلها

المغفرة، فقال:«أول جيش يغزون مدينة قيصر مغفور لهم» [صحيح

البخارى].

الحصار الثانى:

على الرغم من عدم التوفيق الذى لحق الحملة الأولى، فإن «معاوية»

لم ييأس، وأعد حملة أخرى، وفرض الحصار على المدينة سبع سنوات

(54 - 60هـ)، واقتصرت العمليات الحربية على فصلى الربيع والصيف؛

لصعوبة القتال فى الشتاء.

وقد أبلى المسلمون فى ذلك الحصار بلاءً حسنًا، وتحمَّلوا الصعاب

والمشقات، لكنهم لم يستطيعوا الاستيلاء عليها، فقد فاجأ

ص: 85

البيزنطيون المسلمين بسلاح لم يكن لهم به عهد، عُرف باسم «النار

الإغريقية» وهو مركب كيميائى يتكوَّن من النفط والكبريت والقار،

كانوا يشعلونه بالنار، ويقذفون به السفن الإسلامية، فتشتعل بها

النيران، ولم يجد «معاوية» بدّاً من رفع الحصار وعودة الجيش إلى

«دمشق» .

- ثورات الخوارج في عهد معاوية:

لجأ الخوارج إلى القوة واستخدام السيف فى فرض أفكارهم وآرائهم

على الناس، وأبدوا فى صراعهم الدموى مع الدولة الأموية كثيرًا من

ضروب الشجاعة والتضحية والإقدام وكانت الأعداد القليلة منهم تهزم

جيوشًا جرارة للدولة، ولو أن شجاعتهم وبطولاتهم اتجهت اتجاهًا

صحيحًا، ووحدوا جهودهم مع الدولة الأموية فى مجال الفتوحات

الإسلامية ومحاربة أعداء الإسلام، لكان ذلك أجدى وأنفع، والعجيب

أن أغلبهم لم يكونوا من طلاب الدنيا، والتطلع إلى المال والمناصب،

وإنما كانوا طلاب آخرة، ولكنهم أخطئوا الطريق إليها، كما قال لهم

«عمر بن عبدالعزيز» .

أعلن الخوارج وبخاصة «الأزارقة» حربًا شعواء على الدولة الأموية

منذ قيامها، ولم تفلح معهم سياسة «معاوية بن أبى سفيان» - رضى

الله عنه - القائمة على التسامح وسعة الأفق، فثاروا فى وجهه سنة

(41هـ) - أى عام الجماعة - قبل أن يغادر «الكوفة» ، وكان أول من

ثار عليه «عبدالله بن أبى الحوساء» فى مكان قريب من «الكوفة» ،

ثم ثار عليه «المستورد بن عُلَّنة الطائى» .

وكان عجيبًا أن تشب هذه الثورات فى «الكوفة» أيام واليها

«المغيرة بن شعبة» الذى انتهج سياسة متسامحة مع الناس كلهم،

ولم يشأ أن يزيد فى آلام الناس فى «العراق» ، أو ينكأ جروحهم بعد

الحروب الكثيرة التى عانوها فى «الجمل» و «صفين» .

وكان حريا بالخوارج أن يركنوا إلى الهدوء ويبتعدوا عن سياسة

العنف إزاء سياسة التسامح التى انتهجها «المغيرة» ، لكنهم تمرَّدوا

وثاروا، فاضطر «المغيرة» إلى التصدى لهم والقضاء على ثوراتهم.

ص: 86

ثم ازداد ضغط الدولة عليهم منذ أن ولى «زياد بن أبى سفيان» ولاية

«البصرة» سنة (45هـ) فأخذ يتعقبهم فى «البصرة» ، فى الوقت الذى

يتعقبهم فيه «المغيرة بن شعبة» فى «الكوفة» ، حتى ضيَّقا عليهم

الخناق، وضربا عليهم بيد من حديد، حتى ضعفت شوكتهم.

وتُوفِّى «معاوية» فى شهر رجب سنة (60هـ).

ص: 87