المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: كلام الشوكاني عن المناسبات - موقف الشوكاني في تفسيره من المناسبات

[أحمد بن محمد الشرقاوى]

الفصل: ‌المبحث الأول: كلام الشوكاني عن المناسبات

وله رحمه الله مؤلفات عديدة معظمها مطبوع من أهمها تفسيره فتح القدير وكتابه نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، والفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، والبدر الطالع في محاسن من بعد القرن السابع، والسيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار، وإرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، وتحفة الذاكرين في شرح عدة الحصن الحصين، وغير ذلك. (1)

ثانيا: تعريف علم المناسبات:

المناسبات جمع مناسبة والمناسبة في اللغة المشابهة والمشاكلة والمقاربة (2)، ومنه النسيب: القريب المتصل كالأخوين وابن العم ونحوه، ممن بينهم مناسبة أي رابطة تربط بينهم وهي القرابة، وعند الأصوليين: المناسبة فى العلة فى باب القياس وهي الوصف المقارب للحكم لأنه إذا حصلت مقاربته له ظن عند وجود ذلك الوصف وجود الحكم (3)، وعند البلغاء: التناسب الترتيب للمعاني المتآخية التي تتلاءم ولا تتنافر (4)

وفي اصطلاح المفسرين: عرفها ابن العربي في كتابه سراج المريدين: بأنها: "ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحد ة متسقة المعاني منتظمة المباني "(5)

وعرفها الزركشي في البرهان بأنها: أمر معقول إذا عرض على العقول تلقته بالقبول. (6)

فعلم المناسبة علم يعنى بإبراز أوجه الصلة وتناسب الآيات والسور.

‌المبحث الأول: كلام الشوكاني عن المناسبات

(1) - تراجع ترجمته في معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة 11/53 والمجددون في الإسلام لعبد المتعال الصعيدي ص 472

(2)

- يراجع معجم مقاييس اللغة لابن فارس 5/324 والصحاح 1/422

(3)

- يراجع أصول الفقه لأبي زهرة ص 241 ط دار الفكر العربي

(4)

- يراجع معجم المفصل في علوم البلاغة جمع وترتيب د. إنعام عكاوي ضمن سلسلة الخزانة اللغوية 6 /430 ط دار الكتب العلمية

(5)

- سراج المريدين للقاضي أبي بكر ابن العربي نقلا عن الإتقان 2 / 108

(6)

- البرهان في علوم القرآن 1 /36

ص: 3

عرض وردود إجمالية

يدعي الشوكاني أن البحث في هذا العلم ضرب من التكلف، وأنه لا فائدة منه، وأنه من التكلم بمحض الرأي المنهي عنه وينعى على البقاعي وغيره عنايتهم بهذا العلم: وفيما يلي عرض لكلامه مع ردود إجمالية عليها:

يقول الشوكاني في مقدمة تفسيره معارضا لعلم المناسبة منكرا له ومنتقدا للمهتمين به: " اعلم أن كثيرا من المفسرين جاءوا بعلم متكلف وخاضوا في بحر لم يكلفوا سباحته واستغرقوا أوقاتهم في فن لا يعود عليهم بفائدة بل أوقعوا أنفسهم في التكلم بمحض الرأي المنهي عنه في الأمور المتعلقة بكتاب الله سبحانه؛ وذلك أنهم أرادوا أن يذكروا المناسبة بين الآيات القرآنية المسرودة على هذا الترتيب الموجود في المصاحف فجاءوا بتكلفات وتعسفات يتبرأ منها الإنصاف ويتنزه عنها كلام البلغاء فضلا عن كلام الرب سبحانه حتى أفردوا ذلك بالتصنيف وجعلوه المقصد الأهم من التأليف كما فعله البقاعي في تفسيره ومن تقدمه حسبما ذكر في خطبته "(1)

ونحن نوافق الشوكاني في أن التكلف منهي عنه في التفسير أو في غيره، وأنه لا يجوز التكلم بمحض الرأي المنهي عنه، فعلم المناسبات يحتاج إلى تدبر وتفكر لا إلى تكلف وتعسف، وهو علم لا بد منه ولا غنى عنه لأي مفسر، لأنه يعين على فهم المعنى والترجيح بين الآراء ومعرفة المقاصد العامة للآيات والسور وغير ذلك من فوائد، والمناسبة قد تكون واضحة جلية، وقد تحتاج إلى تأمل دقيق وتدبر عميق، فإذا خفيت المناسبة فلا ينبغي إنكارها ونفيها.

وقد قيل:

وإذا لم تر الهلال فسلم لأناس رأوه بالأبصار

ويتساءل الشوكاني: كيف نطلب للآيات مناسبات وقد نزلت منجمة حسب الأحداث

فلا تناسب بينها إذاًَََََ؟

(1) - فتح القدير 1 / 72، 73

ص: 4

وفي هذا يقول الشوكاني: " وإن هذا لمن أعجب ما يسمعه من يعرف أن هذا القرآن ما زال ينزل مفرقا على حسب الحوادث المقتضية لنزوله منذ نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن قبضه الله عز وجل إليه وكل عاقل فضلا عن عالم لا يشك أن هذه الحوادث المقتضية نزول القرآن متخالفة باعتبار نفسها بل قد تكون متناقضة كتحريم أمر كان حلالا وتحليل أمر كان حراما وإثبات أمر لشخص أو أشخاص يناقض ما كان قد ثبت لهم قبله، وتارة يكون الكلام مع المسلمين وتارة مع الكافرين وتارة مع من مضي وتارة مع من حضر وحينا في عبادة وحينا في معاملة ووقتا في ترغيب ووقتا في ترهيب وآونة في بشارة وآونة في نذارة وطورا في أمر دنيا وطورا في أمر آخرة ومرة في تكاليف آتية ومرة في أقاصيص ماضية وإذا كانت أسباب النزول مختلفة هذا الاختلاف ومتباينة هذا التباين الذي لا يتيسر معه الائتلاف فالقرآن النازل فيها هو باعتباره نفسه مختلف كاختلافها فكيف يطلب العاقل المناسبة بين الضب والنون والماء والنار والملاح والحادي "

ص: 5

ونحو هذا ما قال الإمام العز بن عبد السلام كما نقل عنه الزركشي في البرهان: قال الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله " المناسبة علم حسن ولكن يشترط فى حسن ارتباط الكلام أن يقع فى أمر متحد مرتبط أوله بآخره فإن وقع على أسباب مختلفة لم يشترط فيه ارتباط أحدهما بالآخر قال ومن ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا برباط ركيك يصان عنه حسن الحديث فضلا عن أحسنه فإن القرآن نزل فى نيف وعشرين سنة فى أحكام مختلفة ولأسباب مختلفة وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض إذ لا يحسن أن يرتبط تصرف الإله فى خلقه وأحكامه بعضها ببعض مع اختلاف العلل والأسباب كتصرف الملوك والحكام والمفتين وتصرف الإنسان نفسه بأمور متوافقة ومتخالفة ومتضادة وليس لأحد أن يطلب ربط بعض تلك التصرفات مع بعض مع اختلافها فى نفسها واختلاف أوقاتها انتهى ". (1)

إلا أن العز رحمه الله لا ينكر وجود المناسبة على الإطلاق ولكنه يستحسنها إذا وقعت بين كلام متحد مرتبط أوله بأخرى.

وأقول لقد نزل القرآن الكريم مفرقا حسب الحوادث والنوازل ومراعاة للتدرج في التشريع ولكنه جمع في الصدور والسطور وفقا لما هو عليه في اللوح المحفوظ حيث كان جبريل عليه السلام يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بموضع كل آية في سورتها، إضافة إلى ترتيب السور كما سيأتي بيانه، فإذا كان في نزوله منجما حكم وفوائد لا تخفى فإن في جمعه على هذا الترتيب التوقيفي حكم وفوائد، وإذا كان في نزوله منجما سمة من سماته التي تفرد بها عن الكتب السابقة فإن هذا الترتيب سمة من سماته، وهل يعقل أن يكون ترتيبه في المصحف على غير ترتيب نزوله ثم لا يكون لذلك حكمة؟ ولماذا نجتهد في التماس حكم ومقاصد التشريعات الإلهية ثم نطالب بتجاهل الحكم من الترتيب الإلهي للمصحف الشريف!

(1) - البرهان 1/37

ص: 6

قال الإمام الزركشي في البرهان: " قال بعض مشايخنا المحققين قد وهم من قال لا يطلب للآى الكريمة مناسبة لأنها حسب الوقائع المتفرقة وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلا وعلى حسب الحكمة ترتيبا فالمصحف كالصحف الكريمة على وفق ما فى الكتاب المكنون مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف، وحافظ القرآن العظيم لو استفتى فى أحكام متعددة أو ناظر فيها أو أملاها لذ كر آية كل حكم على ما سئل وإذا رجع إلى التلاوة لم يتل كما أفتى ولا كما نزل مفرقا بل كما أنزل جملة إلى بيت العزة ومن المعجز البين أسلوبه ونظمه الباهر فإنه (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) (1) قال: والذى ينبغى فى كل آية أن يبحث أول كل شىء عن كونها مكملة لما قبلها أو مستقلة ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها ففى ذلك علم جم وهكذا فى السور يطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له "(2)

وأقول أيضا ليست كل السور القرآنية نزلت منجمة بل إن من السور الطوال ما نزل جملة كسورة الأنعام مثلا، وسورة الفاتحة وغيرها فهل لا نطلب لها مناسبة أيضا؟ (3)

كما أن بعض السور نزلت منها مقاطع كبيرة جملة واحدة فهل نترك الحديث عن ترابطها وتناسبها؟

(1) - سورة هود 1

(2)

- البرهان في علوم القرآن 1 / 38

(3)

? - فعن أسماء بنت يزيد قالت نزلت سورة الأنعام على النبي صلى الله عليه وسلم جملة واحدة إن كادت من ثقلها لتكسر عظم الناقة رواه الطبراني وفيه شهر بن حوشب وهو ضعيف وقد وثق مجمع الزوائد 7/20

ورواه الحاكم في المستدرك بسنده عن جابر رضي الله عنه قال ثم لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق هذا حديث صحيح على شرط مسلم فإن إسماعيل هذا هو السدي ولم يخرجه البخاري 0 المستدرك على الصحيحين 2/ 344 - 3226

ص: 7

كما أقول: أليس من العجيب أن ينتقد الشوكاني البقاعي بسبب اهتمامه بهذا العلم في تفسيره نظم الدرر؟ ثم نراه يثني على هذا التفسير وعلى مسلك صاحبه فيه فيقول في كتابه البدر الطالع خلال ترجمته له: " ومن أمعن النظر في كتابه المترجم له في التفسير الذي جعله في المناسبات بين الآي والسور علم أنه من أوعية العلم المفرطين في الذكاء الجامعين بين علم المعقول والمنقول، وكثير ما يشكل على شيء في الكتاب فأرجع إلى مطولات التفسير ومختصراتها فلا أجد ما يشفي وأرجع إلى هذا الكتاب - نظم الدرر - فأجد فيه ما يفيد في الغالب ". (1)

ويزعم الشوكاني أن البحث في هذا العلم ما هو إلا " فتح لأبواب الشك وتوسيع دائرة الريب على من في قلبه مرض أو كان مرضه مجرد الجهل والقصور فإنه إذا وجد أهل العلم يتكلمون في التناسب بين جميع آي القرآن ويفردون ذلك بالتصنيف تقرر عنده أن هذا أمر لا بد منه وأنه لا يكون القرآن بليغا معجزا إلا إذا ظهر الوجه المقتضى للمناسبة وتبين الأمر الموجب للارتباط فإن وجد الاختلاف بين الآيات فرجع إلى ما قاله المتكلمون في ذلك فوجده تكلفا محضا وتعسفا بينا انقدح في قلبه ما كان عنه في عافية وسلامة "(2)

أقول إن تناسب الآيات والسور جانب من جوانب البلاغة القرآنية حيث جودة السبك وروعة النظم وجمال التراكيب وبراعة الأساليب وهذا التناسب وجه من وجوه الإعجاز ولم يقل أحد أن الإعجاز قائم عليه وحده، أو أن البلاغة القرآنية لا تتمثل إلا فيه فجوانب الإعجاز متعددة، وبلاغة القرآن متشعبة وأساليبها وألوانها عديدة 0

(1) - البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع للشوكاني 2/1

(2)

- فتح القدير 1/ المقدمة

ص: 8

وهل قال أحد بأن البحث في الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم قد يوهم بأنه لا إعجاز إلا من هذا الجانب؟ فلا ينبغي البحث في بلاغة القرآن حتى لا يتوهم أحد أن القرآن لن يكون معجزا إلا إذا بحثنا في بلاغته؟

بل إن البحث في هذا العلم يزداد به المؤمن إيمانا ويقينا ويفند مزاعم أهل الكفر والضلال الذين يزعمون أن القرآن لا ترتيب له.

ويقول الشوكاني ظانا بأن هذا العلم لا فائدة منه "وما أقل نفع مثل هذا وأنذر ثمرته وأحقر فائدته بل هو عن من يفهم ما يقول وما يقال له من تضييع الأوقات وإنفاق الساعات في أمر لا يعود بنفع على فاعله ولا على من يقف عليه من الناس "(1)

وأقول إن لهذا العلم فوائد جمة إذ من خلاله يتجلى لنا وجه من وجوه الإعجاز القرآني وسمة من سماته والحكمة من ترتيبه، كما نستعين به في تدبر كلام الله عزوجل ودراسته، وفهم معانيه ومقاصده وغير ذلك من الفوائد التي نتحدث عتها في موضعها إن شاء الله، وهو من تدبر كلام الله عز وجل وبه نستخلص العبر والعظات ونتعرف على مقاصد السور والآيات وقد أمرنا الله عز وجل بالتدبر في كتابه الكريم قال تعالى {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا {82} } وقال سبحانه {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الألْبَابِ {29} }

(1) - نفس المرجع - المقدمة

ص: 9

ويقول الشوكاني أيضا منكرا لإمكانية الربط بين الآيات والسور والتماس الوحدة الموضوعية للقرآن " وأنت تعلم أنه لو تصدى رجل من أهل العلم للمناسبة بين ما قاله رجل من البلغاء من خطبه ورسائله وإنشاءاته أو إلى ما قاله شاعر من الشعراء من القصائد التي تكون تارة مدحا وأخرى هجاء وحينا نسيبا وحينا رثاء وغير ذلك من الأنواع المتخالفة فعمد هذا المتصدي إلى ذلك المجموع فناسب بين فقره ومقاطعه ثم تكلف تكلفا آخر فناسب بين الخطبة التي خطبها في الجهاد والخطبة التي خطبها في الحج والخطبة التي خطبها في النكاح ونحو ذلك وناسب بين الإنشاء الكائن في العزاء والإنشاء الكائن في الهناء وما يشابه ذلك لعد هذا المتصدي لمثل هذا مصابا في عقله متلاعبا بأوقاته عابثا بعمره الذي هو رأس ماله وإذا كان مثل هذا بهذه المنزلة وهو ركوب الأحموقة في كلام البشر فكيف تراه يكون في كلام الله سبحانه الذي أعجزت بلاغته بلغاء العرب وأبكمت فصاحته فصحاء عدنان وقد علم كل مقصر وكامل أن الله سبحانه وصف هذا القرآن بأنه عربي وأنزله بلغة العرب وسلك فيه مسالكهم في الكلام وجرى به في الخطاب وقد علمنا أن خطيبهم كان يقوم المقام الواحد فيأتي بفنون متخالفة وطرائق متباينة فضلا عن المقامين فضلا عن المقامات فضلا عن جميع ما قاله ما دام حيا وكذلك شاعرهم ولنكتف بهذا التنبيه على هذه المفسدة التي تعثر في ساحاتها كثير من المحققين وإنما ذكرنا هذا البحث في هذا الموطن لأن الكلام هنا قد انتقل مع بني إسرائيل بعد أن كان قبله مع أبي البشر آدم عليه السلام فإذا قال متكلف كيف ناسب هذا ما قبله قلنا لا كيف

فدع عنك نهبا صيح في حجراته وهات حديثا ما حديث الرواحل ". (1)

أقول: وهل من المعقول أن يقاس كلام البشر على كلام خالق البشر؟ هل هذا الأمر مقبول؟ وهل يستوي وحي من الله منزل وقافية في العالمين شرود

(1) - نفس المرجع

ص: 10