الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من مظاهر حفظ الله لكتابه أن حفظه مرتبا كما هو في اللوح المحفوظ الذي نزل القرآن منه جملة إلى السماء الدنيا قبل أن ينزل مفرقا حسب النوازل والحوادث والمناسبات.
المطلب الثالث: زعمه أن لا مناسبة بين الحديث عن بني إسرائيل في سورة البقرة وبين ما سبقه
.
*****
ذهب الإمام الشوكاني في تفسيره لقوله تعالى من سورة البقرة {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ {40} } الخ الآيات إلى عدم وجود مناسبة بين الحديث عن بني إسرائيل وما سبقه من قصة آدم وأن البحث في ذلك ضرب من التكلف فالحديث عن بني إسرائيل كلام مستأنف منقطع عما قبله 0
ولو أمعنا النظر وأطلنا التدبر لوجدنا روابط عديدة ومناسبات كثيرة، لا تحتاج في إبرازها إلى تعسف أو تكلف، لنا معها وقفات في هذا المبحث إن شاء الله فنقول وبالله التوفيق:
المناسبة بين الحديث عن بني إسرائيل ومحور السورة ومقاصدها
من الركائز الجوهرية والمحاور الأساسية لهذه السورة الكريمة: الحديث عن بني إسرائيل ماضيهم وحاضرهم والكشف عن خباياهم والتحذير من مكائدهم ومفاسدهم، وتذكيرهم بنعم الله عليهم وتحذيرهم من أن يصيبهم مثل ما أصاب أسلافهم، ودعوتهم إلى الإيمان بما أنزل الله على نبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم وفتح باب التوبة والقبول أمامهم، وتحذير المسلمين من أن يتبعوا سننهم، لذا استغرق الحديث عنهم آيات عديدة في مواضع متعددة من السورة الكريمة
…
وسورة البقرة سورة مدنية، بدأ نزولها بعد الهجرة لدعم وبناء المجتمع المسلم الناشئ في ذلك الجو الجديد الذي جمع بين المؤمنين وطوائف أخرى كان من أخطرها طائفتا اليهود والمنافقين فكان من الضروري الحديث عنهما بتفصيل وبيان ناسب وروده في أطول سور القرآن، تلك السورة التي استغرق نزولها تسع سنوات، وكان الحديث عن اليهود خاصة من المحاور الأساسية التي دارت حولها السورة الكريمة ـ فهم أخطر القوى المعادية لهذا الدين ولهم أساليب متنوعة ووسائل عديدة في المكر والخداع والكيد نبهنا القرآن عليها حتى نكون منها على حذر.
وفي هذا الشأن يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: " حكمة الحديث المطول عن اليهود هذه الحملة - سواء ما ورد منها في هذا الدرس وما يلي منها في سياق السورة - كانت ضرورية أولا وقبل كل شيء لتحطيم دعاوى يهود، وكشف كيدها، وبيان حقيقتها وحقيقة دوافعها في الدس للإسلام والمسلمين. كما كانت ضرورية لتفتيح عيون المسلمين وقلوبهم لهذه الدسائس والمكايد التي توجه إلى مجتمعهم الجديد، وإلى الأصول التي يقوم عليها؛ كما توجه إلى وحدة الصف المسلم لخلخلته وإشاعة الفتنة فيه
…
ومن جانب آخر كانت ضرورية لتحذير المسلمين من مزالق الطريق التي عثرت فيها أقدام الأمة المستخلفة قبلهم، فحرمت مقام الخلافة، وسلبت شرف القيام على أمانة الله في الأرض، ومنهجه لقيادة البشر. وقد تخللت هذه الحملة توجيهات ظاهرة وخفية للمسلمين لتحذيرهم من تلك المزالق كما سيجيء في الشطر الثاني منها، وما كان أحوج الجماعة المسلمة في المدينة إلى هذه وتلك. وما أحوج الأمة المسلمة في كل وقت إلى تملي هذه التوجيهات، وإلى دراسة هذا القرآن بالعين المفتوحة والحس البصير، لتتلقى منه تعليمات القيادة الإلهية العلوية في معاركها التي تخوضها مع أعدائها التقليديين؛ ولتعرف منها كيف ترد على الكيد العميق الخبيث الذي يوجهونه إليها دائبين، بأخفى الوسائل، وأمكر الطرق. . . " (1)
(1) - في ظلال القرآن 1 / 28 - 1/65، 66
ويبين الأستاذ قطب رحمه الله أن الحديث عن بني إسرائيل من الموضوعات الأساسية والركائز الجوهرية لهذه السورة الكريمة فيقول رحمه الله " هذه السورة تضم عدة موضوعات. ولكن المحور الذي يجمعها كلها محور واحد مزدوج يترابط الخطان الرئيسيان فيه ترابطا شديدا. . فهي من ناحية تدور حول موقف بني إسرائيل من الدعوة الإسلامية في المدينة، واستقبالهم لها، ومواجهتهم لرسولها صلى الله عليه وسلم وللجماعة المسلمة الناشئة على أساسها. . . وسائر ما يتعلق بهذا الموقف بما فيه تلك العلاقة القوية بين اليهود والمنافقين من جهة، وبين اليهود والمشركين من جهة أخرى. . وهي من الناحية الأخرى تدور حول موقف الجماعة المسلمة في أول نشأتها؛ وإعدادها لحمل أمانة الدعوة والخلافة في الأرض، بعد أن تعلن السورة نكول بني إسرائيل عن حملها، ونقضهم لعهد الله بخصوصها، وتجريدهم من شرف الانتساب الحقيقي لإبراهيم - عليه السلام- صاحب الحنيفية الأولى، وتبصير الجماعة المسلمة وتحذيرها من العثرات التي سببت تجريد بني إسرائيل من هذا الشرف العظيم. . وكل موضوعات السورة تدور حول هذا المحور المزدوج بخطيه الرئيسيين، كما سيجيء في استعراضها التفصيلي "، " ولكي يتضح مدى الارتباط بين محور السورة وموضوعاتها من جهة، وبين خط سير الدعوة أول العهد بالمدينة، وحياة الجماعة المسلمة وملابساتها من الجهة الأخرى. . يحسن أن نلقي ضوءا على مجمل هذه الملابسات التي نزلت آيات السورة لمواجهتها ابتداء. مع التنبيه الدائم إلى أن هذه الملابسات في عمومها هي الملابسات التي ظلت الدعوة الإسلامية وأصحابها يواجهونها - مع اختلاف يسير - على مر العصور وكر الدهور؛ من أعدائها وأوليائها على السواء. مما يجعل هذه التوجيهات القرآنية هي دستور هذه الدعوة الخالد؛ ويبث في هذه النصوص حياة تتجدد لمواجهة كل عصر وكل طور؛ ويرفعها معالم للطريق أمام الأمة..
المسلمة تهتدي بها في طريقها الطويل الشاق، بين العداوات المتعددة المظاهر المتوحدة الطبيعة. . وهذا هو الإعجاز يتبدى جانب من جوانبه في هذه السمة الثابتة المميزة في كل نص قرآني. يعيش معها القلب كما لو كان يعيش مع روح حي مميز الملامح والسمات والأنفاس! ولها موضوع رئيسي أو عدة موضوعات رئيسية مشدودة إلى محور خاص. ولها جو خاص يظلل موضوعاتها كلها؛ ويجعل سياقها يتناول هذه الموضوعات من جوانب معينة، تحقق التناسق بينها وفق هذا الجو. ولها إيقاع موسيقي خاص - إذا تغير في ثنايا السياق فإنما يتغير لمناسبة موضوعية خاصة. . وهذا طابع عام في سور القرآن جميعا. ولا يشذ عن هذه القاعدة طوال السور كهذه السورة ". (1)
وذكر الأستاذ الدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله في كتابه القيم "النبأ العظيم "
أن الحديث عن بني إسرائيل في سورة البقرة مقصد أساسي من مقاصدها الأربع وهي كما يلي:
المقصد الأول: دعوة الناس كافة إلى اعتناق الإسلام.
المقصد الثاني: دعوة أهل الكتاب خاصة إلى ترك باطلهم والدخول في الدين الحق.
المقصد الثالث: عرض شرائع هذا الدين مفصلا.
المقصد الرابع: ذكر الوازع والنازع الديني الذي يبعث على ملازمة تلك الشرائع ويعصم من مخالفتها. (2)
(1) - نفس المرجع
(2)
- النبأ العظيم الدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله ص 163..
كلمة في السياق: بدأت السورة بالحديث عن الهداية القرآنية وموقف الناس منها، ثم جاء النداء الأول في السورة موجها للناس جميعا داعيا إلى عبادة الله وحده فهو سبحانه الخالق المقدر المدبر الرزاق، ولما كان الحديث في أول السورة عن القرآن الكريم باعتباره كتاب هداية: جاء الحديث عنه مرة أخرى باعتبار آخر وهو كونه معجزة حية خالدة متجددة مع ترهيب المعرضين عنه المرتابين فيه مع ظهور الحجة ووضوح المحجة، كما حملت الآيات بشارة المؤمنين الصالحين بالخلود في جنات النعيم، وانتقل السياق إلى الحديث عن أسلوب بليغ كثيرا ما يسلكه القرآن لتقريب المعاني وتقريرها في الأذهان في قوالب محسوسة، إنه أسلوب ضرب المثل ذلك الأسلوب الرفيع الذي لم يسلم من غمز الكافرين
ثم كان التذكير بنعمة الإيجاد الأول والثاني ومع ذلك فإن هناك من سلك طريق الكفر وأصر عليه قال تعالى {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {25} إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَاّ الْفَاسِقِينَ {26} الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ {27} كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {28} هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {29} } }
وكما ذكّرنا عز وجل بنعمة الإيجاد فقد ذكرنا بنعمة اصطفاء أبينا آدم واستخلافه وذريته في الأرض فضلا عن تكريمه عليه السلام بسجود الملائكة وإسكانه الجنة مع زوجه حواء وأكله من الشجرة بعد وسوسة الشيطان اللعين، وما ترتب على ذلك من الخروج من الجنة والهبوط إلى الأرض بعد أن قبل الله توبة آدم وحواء قال تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ {30} وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {31} قَالُواْ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَاّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ {32} قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ {33} وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلَاّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ {34} وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ {35} فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ {36} فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {37} قُلْنَا اهْبِطُواْ
مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ {38} وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {39} } }
ثم جاء النداء الإلهي موجها إلى طائفة معينة طائفة بني إسرائيل حيث ذكرهم الله عز وجل بنعمه عليهم وأمرهم بالوفاء بالعهد والذي يقتضي منهم الإيمان بالنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم -000قال تعالى {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ {40} وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ {41} وَلَا تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ {42} وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ {43} أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ {44} وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ {45} الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ {46} يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ {47} وَاتَّقُواْ يَوْماً لَاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ {48} } الخ الآيات
…
قال أبو السعود في تفسيره: " يا بني إسرائيل تلوين للخطاب وتوجيه له إلى طائفة خاصة من الكفرة المعاصرين للنبي لتذكيرهم بفنون النعم الفائضة عليهم بعد توجيهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره بتذكيرهم كلهم بالنعمة العامة لبني آدم قاطبة بقوله تعالى (وإذ قال ربك) الخ وإذ قلنا للملائكة الخ لأن المعنى كما أشير إليه: بلّغهم كلامي واذكر لهم إذ جعلنا أباهم خليفة في الأرض ومسجودا للملائكة عليهم السلام وشرفناه بتعليم الأسماء وقبلنا توبته "(1) .
(1) - تفسير أبي السعود 1 / 94..
وقال البقاعي رحمه الله: "
…
لما كان الكفار قسمين، قسم محض كفره وقسم شابه بنفاق وخداع، وكان الماحض قسمين قسم لا علم لخ من جهة كتاب سابق وهم مشركو العرب وقسم له كتاب يعلم الحق منه: ذكر تعالى القسم الماحض بما يعم قسميه العالم والجاهل فقال سبحانه {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ {6} خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ {7} } ثم أتبعه بقسم المنافقين ليكونوا من خداعهم على حذر فقال سبحانه {وَمِنَ النَّاس مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ {8} } الخ الآيات، ولما فرغ من ذلك ومم استتبعه من الأمر بالوحدانية وإقامة دلائلها وإفاضة فضائلها ومن التعجيب ممن كفر مع قيام الدلائل، والتخويف من تلك الغوائل والاستعطاف بذكر النعم: شرع في ذكر قسم من الماحض هو كالمنافق في أنه يعرف الحق فيخفيه فالمنافق ألف الكفر ثم أقلع عنه وأظهر التلبس بالإسلام مع استمراره على الكفر باطنا وهذا القسم –يعني بني إسرائيل – كان على الإيمان بهذا النبي قبل دعوته فلما دعاهم محوا الإيمان الذي كانوا متلبسين به وأظهروا الكفر واستمرت حاتهم على إظهار الكفر وإخفاء المعرفة التي هي مبدأ الإيمان، فحالهم كما ترى أشبه شيء بحال المنافقين؛ ولهذا تراهم مقرونين بهم في كثير من القرآن وإننما أخرهم لطول قصتهم وما فيها من دلائل النبوة وأعلام الرسالة بما أبدى مما أخفوه من دقائق أحوالهم
…
" (1) "
(1) - نظم الدرر 1/ 309، 310
وعن تناسق الحديث عن بني إسرائيل مع السياق يقول صاحب الظلال رحمه الله: " ثم نلحظ من جانب التناسق الفني والنفسي في الأداء القرآني، أن بدء هذه الجولة يلتحم بختام قصة آدم، وبالإيحاءات التي أشرنا إليها هناك، وهذا جانب من التكامل في السياق القرآني بين القصص والسياق الذي تعرض فيه:
لقد مضى السياق قبل ذلك بتقرير أن الله خلق ما في الأرض جميعا للإنسان. ثم بقصة استخلاف آدم في الأرض بعهد الله الصريح الدقيق؛ وتكريمه على الملائكة؛ والوصية والنسيان، والندم والتوبة، والهداية والمغفرة، وتزويده بالتجربة الأولى في الصراع الطويل في الأرض، بين قوى الشر والفساد والهدم ممثلة في إبليس، وقوى الخير والصلاح والبناء ممثلة في الإنسان المعتصم بالإيمان.
مضى السياق بهذا كله في السورة. ثم أعقبه بهذه الجولة مع بني إسرائيل، فذكر عهد الله معهم ونكثهم له؛ ونعمته عليهم وجحودهم بها؛ ورتب على هذا حرمانهم من الخلافة، وكتب عليهم الذلة، وحذر المؤمنين كيدهم كما حذرهم مزالقهم. فكانت هناك صلة ظاهرة بين قصة استخلاف آدم وقصة استخلاف بني إسرائيل، واتساق في السياق واضح وفي الأداء.
وهذا كله مع الإدعاء العريض بأنها هي وحدها المهتدية؛ وأن الله لا يرضى إلا عنها، وأن جميع الأديان باطلة وجميع الأمم ضالة عداها! مما يبطله القرآن في هذه الجولة، ويقرر أن كل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا من جميع الملل، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. . " (1)
(1) - نفس المرجع 1 / 65..
ويقول أيضا " ومن مراجعة المواضع التي وردت فيها قصة بني إسرائيل هنا وهناك يتبين أنها متفقة مع السياق الذي عرضت فيه، متممة لأهدافه وتوجيهاته. . وهي هنا متسقة مع السياق قبلها. سياق تكريم الإنسان، والعهد إليه والنسيان. متضمنة إشارات إلى وحدة الإنسانية، ووحدة دين الله المنزل إليها، ووحدة رسالاته، مع لفتات ولمسات للنفس البشرية ومقوماتها، وإلى عواقب الانحراف عن هذه المقومات التي نيطت بها خلافة الإنسان في الأرض؛ فمن كفر بها كفر بإنسانيته وفقد أسباب خلافته، وارتكس في عالم الحيوان.
وقصة بني إسرائيل هي أكثر القصص ورودا في القرآن الكريم؛ والعناية بعرض مواقفها وعبرتها عناية ظاهرة، توحي بحكمة الله في علاج أمر هذه الأمة المسلمة، وتربيتها وإعدادها للخلافة الكبرى. . " (1)
(1) - المرجع نفسه
هذا وللإمام أبي حيان الأندلسي في بيان اتساق الحديث عن بني إسرائيل مع ما سبقه كلام طيب حيث يقول رحمه الله " قوله تعالى (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي) الخ الآيات: " هذا افتتاح الكلام مع اليهود والنصارى ومناسبة الكلام معهم هنا ظاهرة وذلك أن هذه السورة افتتحت بذكر الكفار المختوم عليهم بالشقاوة وذكر المنافقين وذكر جمل من أحوالهم ثم أمر الناس قاطبة بعبادة الله تعالى ثم ذكر إعجاز القرآن إلى غير ذلك مما ذكره، ثم نبههم بذكر أصلهم آدم وما جرى له من أكله من الشجرة بعد النهي عنها وأن الحامل له على ذلك إبليس وكانت هاتان الطائفتان أعني اليهود والنصارى أهل كتاب مظهرين اتباع الرسل والاقتداء بما جاء من عند الله تعالى، وقد اندرج ذكرهم عموما في قوله تعالى (يا أيها الناس اعبدوا) الخ الآية فجرد ذكرهم هنا خصوصا إذ قد سبق الكلام مع المشركين والمنافقين وبقي الكلام مع اليهود والنصارى فتكلم معهم هنا وذكر ما يقتضي لهم الإيمان بهذا الكتاب كما آمنوا بكتبهم السابقة. وناسب الكلام معهم قصة آدم عليه السلام لأنهم بعدما أوتوا من البيان الواضح والدليل اللائح المذكور ذلك في التوراة والإنجيل من الإيفاء بالعهد والإيمان بالقرآن ظهر منهم ضد بكفرهم بالقرآن ومن جاء به " (1)
المناسبة بين الحديث عن بني إسرائيل وبين سورة الفاتحة:
لما أخبر سبحانه في سورة الفاتحة عن استحقاقه وحده للحمد لما اتصف به تعالى من صفات الجلال ونعوت الكمال فهو المحمود ولا يزال على ما أبدى من النعم وأسدى من الكرم بين تعالى في سورة البقرة جانبا من نعمه تعالى والتي من جملتها إنعامه على بني إسرائيل، ورحمته بهم، وذكرهم بيوم الدين، ودعاهم إلى عبادته والاستعانة به وحده 0
(1) - البحر الحيط 1/ 173..
ولما كان من دعاء المؤمنين الهداية إلى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم وهم اليهود ولا الضالين وهم النصارى تناولت سورة البقرة بشيء من التفصيل اليهود، كما تحدثت سورة آل عمران عن النصارى، وورد الحديث عن الطائفتين في سورتي النساء والمائدة. وهذا من باب التفصيل بعد الإجمال.
وبهذا يتضح لنا الصلة بين سورة الفاتحة التي تقع في ترتيب المصحف قبل سورة البقرة.
مناسبة الحديث عن بني إسرائيل مع عنوان السورة: مناسبة واضحة فقصة البقرة من أعظم الشواهد وأوضح الأمثلة الدالة على طبيعة بني إسرائيل حيث الجدل العقيم والتعنت والتشكيك في الأوامر الإلهية والسخرية بالأنبياء والتشديد على أنفسهم فضلا عن كتمانهم الحق وقسوة القلب مع تواتر الحقائق وتوارد الرقائق.
كما أن السورة الكريمة كشفت لنا عن خبايا وخفايا اليهود، بقرت لنا هذه الحقائق التي طواها الزمان وسعى اليهود إلى إخفائها بأساليبهم الدعائية القائمة على إلباس الحق بالباطل وكتمان الحق.
من هنا تبدو لنا الصلة بين عنوان السورة وبين الحديث عن سوء نية وخبث طوية وفساد طبائع اليهود كما ورد في هذه السورة الكريمة (1)
المناسبة بين مقدمة السورة وبين الحديث عن بني إسرائيل:
*لما استهلت السورة الكريمة بالحديث عن القرآن بوصفه كتاب هداية {الم {1} ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ {2} } جاء الحديث عن وجه من وجوه تلك الهداية وهو إخباره عن الأمم السابقة لأخذ العبر والعظات من أحوالهم، ودعوتهم إلى سلوك طريق الهداية، وتحذير المتقين من مكائدهم، وتبصيرهم بطبائعهم، وتحذيرهم من اتباع سننهم0
(1) - بقر الشيء: أي بطنه وأخرج ما فيه ومنه قول الأعرابي حينما عقر الذئب شاته
بقرت شويهتي وفجعت قلبي وأنت لشاتنا طفل ربيب..
* كذلك لما ذكر تعالى في أول السورة موقف المتقين من الهداية القرآنية، وصفاتهم الإيمانية دعا الله عز وجل بني إسرائيل إلى اللحاق بهذه الطائفة والسير على دربها فدعاهم سبحانه إلى تذكر نعمه والوفاء بعهده ورهبته والإيمان بما أنزل على خاتم رسله صلى الله عليه وسلم، وتقواه تعالى حق التقاة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة قال تعالى {الم {1} ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ {2} الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ {3} والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِل إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ {4} أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {5} } وقال سبحانه {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ {40} وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ {41} وَلَا تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ {42} وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ {43} } 0
لما ذكر من أوصاف المتقين الإيمان بما أنزل على خاتم النبيين وما أنزل من قبله على إخوانه من الأنبياء والمرسلين ناسب ذلك الحديث عن بعض الأنبياء والأمم فتحدثت السورة عن آدم عليه السلام كما تحدثت عن بني إسرائيل، ودعتهم إلى الإيمان بما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أنزل على من سبقه من الأنبياء
…
ذكر تعالى في مستهل السورة موقف الكفار والمنافقين من القرآن الكريم وفي هذا توطئة للحديث عن بني إسرائيل وتحذيرهم من أن يسلكوا طريق الكفر والنفاق.
المناسبة بين النداء الأول في السورة وبين النداء الموجه إلى بني إسرائيل: لما جاء النداء الأول في هذه السورة الكريمة بصيغة العموم موجها إلى الناس جميعا داعيا إلى عبادة الله وحده ومذكرا بنعمه تعالى عليهم قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {21} الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ {22} وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {23} فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ {24} :
جاء النداء الأول بدعوة عامة موجهة للناس جميعا أن يعبدوا الله تعالى فهو وحده المستحق للعبادة، والعبادة سبيل التقوى، والقرآن هو الآية الكبرى التي تحدى الله بها الناس جميعا فلا سبيل إلى الإتيان بسورة من مثله، فلا ريب في كونه منزلا من عند الله ولا ريب فيما اشتمل عليه من حكم وأحكام وقصص وأمثال.
وجاء النداء الثاني موجها إلى طائفة معينة وهم بنو إسرائيل مذكرا بنعمه تعالى عليهم وداعيا لهم إلى الإيمان بالنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم فجاء النداء الأول موجها إلى الناس جميعا وجاء النداء الثاني موجها لطائفة معينة وهذا من ذكر الخاص بعد العام
…
قال ابن جزي الكلبي في تفسيره: " لما قدم دعوة الناس عموما وذكر مبدأهم: دعا بني إسرائيل خصوصا وهم اليهود وجرى الكلام معهم من هنا إلى حزب سيقول السفهاء فتارة يدعوهم بالملاطفة وذكر الإنعام عليهم وعلى آبائهم وتارة بالتخويف (1)
كذلك لما تحدثت السورة الكريمة عن القرآن الكريم باعتبار إعجازه ناسب ذلك الحديث عن بعض من وجوه الإعجاز ومنها القصص القرآني فذكرت قصة آدم وبعدها قصة بني إسرائيل.
قال الإمام البيضاوي " واعلم أنه سبحانه وتعالى لما ذكر دلائل التوحيد والنبوة والمعاد وعقبها تعداد النعم العامة تقريرا لها وتأكيدا فإنها من حيث إنها حوادث محكمة تدل على محدث حكيم له الخلق والأمر وحده لا شريك له ومن حيث إن الإخبار بها على ما هو مثبت في الكتب السابقة ممن لم يتعلمها ولم يمارس شيئا منها إخبار بالغيب معجز يدل على نبوة المخبر عنها ومن حيث اشتمالها على خلق الإنسان وأصوله وما هو أعظم من ذلك تدل على أنه قادر على الإعادة كما كان قادرا على الإبداء خاطب أهل العلم والكتاب منهم وأمرهم أن يذكروا نعم الله تعالى عليهم ويوفوا بعهده في اتباع الحق واقتفاء الحجج ليكونوا أول من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه فقال {يا بني إسرائيل} . "(2)
المناسبة بين قصة آدم وقصة بني إسرائيل:
(1) - تفسير ابن جزي 1/ 25
(2)
- تفسير البيضاوي ص: 307..
كان من المناسب أن يسبق دعوة بني إسرائيل وهم أهل كتاب ومعرفة -قبل أن توجه إليهم الدعوة إلى الإيمان بالنبي الخاتم أن يسبق ذلك- تقديم جملة من الأدلة والبراهين الساطعة تمهيدا لدعوتهم وهم أهل كتاب إلى الإيمان بهذا النبي الخاتم، ولقد تقرر في الآيات السابقة بيان كون القرآن الكريم كتابا معجزا يتحدى الله به الناس جميعا، وأنه كتاب هداية إلى طريق الفلاح والسعادة في الدارين وأنه تضمن الدعوة إلى عبادة الله وحده وعمارة الكون والعمل لليوم الآخر، وأنه اشتمل على القول الفصل والحكمة البالغة والحق المبين في قصص السابقين من ذلك حديث الآيات عن قصة آدم عليه السلام والتي تعد برهانا ساطعا على أن القرآن من عند الله؛ إذ كيف لمحمد لو كان القرآن من عنده أن يعرف هذه القصة التي لا تعرف إلى عن طريق الوحي الإلهي؟ من هنا سبقت دعوة بني إسرائيل إلى الإيمان بالنبي الخاتم هذه الحجج والبراهين والحقائق التي لم ترد إلا في القرآن الكريم والتي كان من بينها الحديث عن آدم عليه السلام
لما ذكر تعالى نعمه على أبينا آدم عليه السلام حيث اصطفاه تعالى وكرمه وأسكنه الجنة مع زوجه حواء فلم يسلم من وسوسة الشيطان وعصى الله تعالى بأكله من الشجرة المحظورة، ثم تاب فتاب الله عليه وأخرج من الجنة بذنب واحد:ذكر تعالى نعمه على بني إسرائيل؛ حيث اصطفاهم وهداهم ونجاهم من فرعون وجنوده، فبدلوا نعمة الله كفرا واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير وعتوا عن أمر ربهم وتمادوا في التمرد والعصيان
…
قال الإمام النيسابوري في تفسيره: " إنه تعالى لما أقام دلائل التوحيد والنبوة والمعاد ثم ذكر الإنعامات العامة للبشر ومن جملتها خلق آدم إلى تمام قصته أردفها الإنعامات الخاصة على أسلاف اليهود إلانة لشكيمتهم واستمالة لقلوبهم وتنبيها على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛من حيث كونه إخبارا بالغيب مدرجا في مطاوي ذلك ما يرشدهم إلى أصول الأديان ومكارم الأخلاق "(1) .
وإذا كان آدم عليه السلام -قد أخرج من الجنة بذنب واحد فما بالهم أسلموا زمامهم للشيطان واتبعوا الهوى ومع ذلك يطمعون في الجنان؟
وصدق من قال
ياناظرا يرنو بعيني راقد ومشاهدا للأمر غير مشاهد
تصل الذنوب إلى الذنوب وتر تجي درج الجنان بها وفوز العابد
أنسيت أن الله أخرج آدمَ منها إلى الدنيا بذنب واحد
وقال الإمام الألوسي: " يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم خطاب لطائفة خاصة من الكفرة المعاصرين للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعد الخطاب العام وجعله سبحانه بعد قصة آدم لأن هؤلاء بعد ما أتوا من البيان الواضح والدليل اللائح وأمروا ونهوا وحرضوا على اتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عنده مظهر منهم ضد ذلك فخرجوا عن جنة الإيمان الرفيعة وهبطوا إلى أرض الطبيعة وتعرضت لهم الكلمات إلا أنهم لم يتلقوها بالقبول ففات منهم ما فات وأقبل عليهم بالنداء ليحركهم لسماع ما يرد من الأوامر والنواهي ". (2)
مما سبق يتبين لنا: أن الحديث عن بني إسرائيل من المحاور الرئيسية والمقاصد الأساسية لهذه السورة الكريمة التي نزلت بعد الهجرة مواكبة لبناء الدولة الإسلامية وتدعيمها وتحصينها من مكائد الأعداء، ووضع أسس التعامل مع غير المسلمين وبيان المنهج الأمثل في التحاور معهم إلى جانب دعوتهم.
(1) 2 - غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري 1 /293
(2)
3 - روح المعاني 1 / 241..
والحديث عن بني إسرائيل مناسب لمقدمة السورة؛ ومقاصدها الأساسية وهي بناء المجتمع المسلم وتحصينه، وبيان أسس العلاقة مع المجتمع الجديد في المدينة الذي يضم طوائف شتى من بينها اليهود، وما سبق الحديث عن بني إسرائيل إنما يعد تمهيدا له وتوطئة، حيث سبقت الحجج والبراهين دعوة بني إسرائيل إلى الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم،كما أن المناسبة واضحة بين النداء العام الوارد في السورة وبين النداء الخاص الموجه إلى بني إسرائيل من باب ذكر الخاص بعد العام للاعتناء ولفت الأنظار إلى ذلك الخاص، والمناسبة بين قصة آدم عليه السلام وقصة بني إسرائيل مناسبة متعددة الجوانب كما سبق ذكره فالقصتان حافلتان بالعظات والعبر، غنيتان بالحقائق التي تدل على أن هذا القرآن من عند علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما يكون، يعلم ما بين أيدينا وما خلفنا، وبنو إسرائيل هم أحوج الناس إلى الاعتبار من قصة أبينا آدم عليه السلام الذي خرج من الجنة بذنب واحد، وذاق مرارة المعصية وعاين أثرها وكابد عواقبها، مع ما سبق من اصطفاء الله له وتكريمه فهل يعتبر اليهود؟ أم يقعوا في مصائد الشيطان وحبائله؟ وفي أي طائفة يكونون ومع أي فريق يقفون؟
{قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ {38} وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {39} }
وهنا ينبغي أن أنبه على أن السورة من أولها خطاب عام يشمل جميع الناس بما فيهم بنو إسرائيل لكن الخطاب الموجه لهم والخاص بهم بدأ من الآية الأربعين من السورة.