الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: عن العناية بالقرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
المبحث الأول: العناية بالقرآن الكريم حفظاً:
-
…
المبحث الأول: العناية بالقرآن الكريم حفظاً:-
فقد تلقى النبي صلى الله عليه وسلم القرآن من أمين الوحي جبريل عليه السلام، وكانت أول آية نزلت عليه قوله:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (اقرأ:1) ثم تتابع نزول القرآن، وكانت همة النبي عليه الصلاة والسلام هو حفظ القرآن الكريم واستظهاره، وقد بلغ من حرص النبي صلى الله عليه وسلم على استظهار القرآن وحفظه أنه كان يحرك لسانه في أشد حالات حرجه وشدته ويقصد بذلك استعجال حفظه خشية أن تفلت منه كلمة أو يعزب عنه حرف حتى طمأنه ربه فقال له {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: 16-19) ، وفي هذا تعليم من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم في كيفية تلقيه الوحي من الملَك فإنه كان يبادر إلى أخذه ويسابق الملَك في قراءته فأمره الله عز وجل إذا جاءه الملَك بالوحي أن يستمع له وتكفل الله أن يجمعه في صدره وأن ييسره لأدائه على الوجه الأكمل الذي ألقاه إليه وأن يبينه له ويفسره ويوضحه، فالحالة الأولى جمعه في صدره والثانية تلاوته والثالثة تفسيره وإيضاح معناه1.
"وكان المصطفى عليه الصلاة والسلام يعرض القرآن في كل عام مرة واحدة مع جبريل عليه السلام وعارضه مرتين في العام الذي توفي فيه صلى الله عليه
1 تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/449.
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لِأَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ" 1.
وكان القرآن الكريم شغل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته وتهجده وفي سره وعلانيته، وفي حضره وسفره، وفي وحدته وبين صحابته، وفي عُسره ويسره ومنشطه ومكرهه ولا يغيب عن قلبه، ولا يألوا جهداً في تعهده وتكراره والإئتمار بأوامره، والانتهاء عن نواهيه، والاعتبار بمواعظه وقصصه، والتأثر بأمثاله وحكمه، والتأدب بآدابه، وأخلاقه، وتبليغه إلى الناس كافة، كما كان المصطفى عليه الصلاة والسلام أعلم الناس بأسباب نزوله ومكان تنزلاته، وكان المرجع الأول للمسلمين في حفظ القرآن وفهمه، والوقوف على معانيه وأسراره والتثبت من نصوصه وحروفه وقراءته 2.
وكان الصحابة رضوان الله عليهم يلازمون النبي صلى الله عليه وسلم فيحفظون القرآن عن ظهر قلب وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرغبهم في ذلك بالمنازل الكبيرة والمناصب الرفيعة فيقول لهم (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) 3، "ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميراً على قوم يقدم أكثرهم قراءة للقرآن فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
1 انظر البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب كان جبريل بعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم ص1088 4997
2 المدخل إلى القرآن الكريم 396.
3 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة 290.
وَسَلَّمَ بَعْثًا وَهُمْ ذُو عَدَدٍ فَاسْتَقْرَأَهُمْ فَاسْتَقْرَأَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَا مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ فَأَتَى عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا فَقَالَ: " مَا مَعَكَ يَا فُلَانُ قَالَ مَعِي كَذَا وَكَذَا وَسُورَةُ الْبَقَرَةِ قَالَ: أَمَعَكَ سُورَةُ الْبَقَرَةِ? فَقَالَ: نَعَمْ قَالَ: " فَاذْهَبْ فَأَنْتَ أَمِيرُهُمْ" فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مَنَعَنِي أَنْ أَتَعَلَّمَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ إلا خَشْيَةَ ألا أَقُومَ بِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَاقْرَءُوهُ فَإِنَّ مَثَلَ الْقُرْآنِ لِمَنْ تَعَلَّمَهُ فَقَرَأَهُ وَقَامَ بِهِ كَمَثَلِ جِرَابٍ مَحْشُوٍّ مِسْكًا يَفُوحُ رِيحُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَمَثَلُ مَنْ تَعَلَّمَهُ فَيَرْقُدُ وَهُوَ فِي جَوْفِهِ كَمَثَلِ جِرَابٍ وُكِئَ عَلَى مِسْكٍ" 1، وإذا بعث عليه الصلاة والسلام بعثاً جعل إمامهم في صلاتهم أكثرهم أخذاً للقرآن، بل إذا جمع بين اثنين أو أكثر في قبر لضرورة قدم أكثرهم قرآناً، كما حدث في شهداء أحد فعن جَابِرَ بْنَ عَبْد ِاللَّهِ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ:" أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدٍ قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُغَسَّلُوا" 2.
وكان الذي يمر ببيوت الصحابة في غسق الدُّجى يسمع دوياً كدوي النحل بالقرآن، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال (كان الرجل إذا هاجر دفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل منا يعلمه القرآن، وكان يسمع
1 أخرجه الترمذي في كتاب فضائل القرآن، باب ماجاء في فضل سورة البقرة وآية الكرسي، وقال عقبه هذا حديث حسن، 5/156، وأخرجه ابن ماجة في سننه، في المقدمة، باب فضل من تعلم القرآن وعلمه 1/78 217، والحديث ضعيف.
2 انظر البخاري، كتاب المغازي، باب من قتل من المسلمين يوم أحد ص840 4079.
مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ضجة بتلاوة القرآن حتى أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا)
ومن هنا نجد أن العناية الكبرى كانت من الرسول صلى الله عليه وسلم فقد حفظه واستظهره عليه الصلاة والسلام، ورغب أصحابه في استظهاره وحفظه فحفظه عدد كبير منهم واستظهره منهم الخلفاء الراشدون، وطلحة، وسعد، وابن مسعود، وحذيفة، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبو هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وعمرو بن العاص، وابنه عبد الله، ومعاوية، وابن الزبير، وعبد الله بن السائب، وعائشة وحفصة، وأم سلمة وغيرهم كثير وهؤلاء كلهم من المهاجرين، ومن الأنصار أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء وزيد بن ثابت وأبا زيد ومجمع بن حارثة وأنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين.
وهذا يدل على أن حفاظ القرآن كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كثرة كبيرة، ومما يؤيد هذا ما ثبت أن كثيراً من الصحابة اشتهروا في عهده صلى الله عليه وسلم بحفظ القرآن حتى كانوا يعرفون باسم القراء، فعن عَاصِمٌ قَالَ سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنِ الْقُنُوتِ فَقَالَ قَدْ كَانَ الْقُنُوتُ قُلْتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ قَالَ قَبْلَهُ قَالَ فَإِنَّ فُلَانًا أَخْبَرَنِي عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَقَالَ كَذَبَ "إِنَّمَا قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرًا أُرَاهُ كَانَ بَعَثَ قَوْمًا يُقَالُ لَهُمُ الْقُرَّاءُ زُهَاءَ سَبْعِينَ رَجُلًا إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ دُونَ أُولَئِكَ وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَهْدٌ فَقَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَهْرًا يَدْعُو عَلَيْهِمْ"2.
1 لم أجده، ولكن الزرقاني ذكره بهذا اللفظ في كتابه مناهل العرفان 1/241.
2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوتر، باب القنوت قبل الركوع وبعده 197 1002، وفي كتاب الجهاد والسير باب من ينكب أو يطعن في سبيل الله ص569 2801، وفي مواضع أخرى.
وهذا يدل على كثرة الصحابة الذين حفظوا القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهي في الحقيقة ميزة مباركة اختص الله تعالى بها الأمة المحمدية كما قال العلامة المحقق ابن الجزري (ثم إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور لا على حفظ المصاحف والكتب، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن ربي قال لي قم في قريش فأنذرهم فقلت له رب إذاً يَثْلَغوا1 رأسي حتى يدعوه خُبْزَةً فقال: مبتليك ومبتلٍ بك ومنزل عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرأه نائماً ويقظان فابعث جنداً أبعث مثلهم وقاتل بمن أطاعك من عصاك وأنفق ينفق عليك) 2، فأخبر تعالى أن القرآن لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء بل يقرؤه في كل حال كما جاء في صفة أمته (أناجيلهم في صدورهم) ، وذلك بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه لا في الكتب ولا يقرأونه كله إلا نظراً لا عن ظهر قلب، ولما خص الله تعالى بحفظه من شاء من أهله أقام له أئمة ثقات تجردوا لتصحيحه وبذلوا أنفسهم في إتقانه وتلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم حرفاً حرفاً لم يهملوا منه حركةً ولا سكوناً ولا إثباتاً ولا حذفاً ولا دخل عليهم في شيء منه شك ولا وهم وكان منهم من حفظه كله، ومنهم من حفظ أكثره، ومنهم من حفظ بعضه 3.
1 أي يشدخوه ويشجوه كما يشدخ الخبز أي يكسر، شرح النووي على مسلم 17/ 198، والنهاية في غريب الحديث 1/220.
2 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة والنار 4/1741، 2865.
3 النشر في القراءات العشر ص6.
ولكن يشكل على ما ذكرناه ما ورد في بعض الروايات وفيه تعارض لما ذكرناه وهو قول أنس رضي الله عنه (مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة، أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد) 1، ولا إشكال في ذلك لأن الحصر المذكور في الحديث حصر إضافي وليس حصراً حقيقياً بدليل أن قتادة سأل أنساً عمن جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال (أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت وأبو زيد) 2، فقد ذكر أنس رضي الله عنه في إحدى الروايتين أبي بن كعب دون أبي الدرداء، وذُكر في الرواية الثانية أبو الدرداء دون أبي بن كعب إضافة إلى ذلك فإن حصر الحفظة في أربعة لا يقول به أحد لوجود البواعث الكثيرة التي تحمل على حفظه وترغب فيه كل الترغيب، ومع توافر الصحابة وكثرتهم إلى حد أنهم بلغوا في آخر عهده عشرات الألوف، وقد جمع الحافظ ابن حجر رحمه الله بين الحديثين فقال يحتمل أن مراد أنس (لم يجمعه غيرهم) أي من الأوس بقرينة المفاخرة المذكورة ولم يرد نفي ذلك عن المهاجرين، ثم ذكر الحافظ أجوبة كثيرة نقلاً عن القاضي أبي بكر الباقلاني منها:-
1) أنه لا مفهوم له فلا يلزم ألا يكون غيرهم جمعه.
2) المراد لم يجمعه على جميع الوجوه والقراءات التي نزل بها إلا أولئك.
1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ص 1089 5004.
2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب القراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ص1089 5003.
3) لم يجمع ما نُسِخ منه بعد تلاوته وما لم يُنْسخ إلا أولئك.
4) أن المراد بجمعه تلقيه من في رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بواسطة بخلاف غيرهم فيحتمل أن يكون تلقي بعضه بالواسطة.
وقال عقب ذلك: وفي غالب هذه الاحتمالات تكلف، وقال أيضاً: الذي يظهر من كثير من الأحاديث أن أبا بكر رضي الله عنه كان يحفظ القرآن في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد بنى مسجداً بفناء داره وكان يقرأ فيه القرآن، وهو محمول على ما كان نزل منه إذ ذاك، وهذا مما لا يرتاب فيه مع شدة حرص أبي بكر على تلقي القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم وفراغ باله له وهما بمكة وكثرة ملازمة كل منهما للآخر وقد أخرج النسائي بسند صحيح عن عبد الله بن عمر قال: جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأه في شهر1.
وقال القرطبي: قد قُتِل يوم اليمامة سبعون من القراء، وقتل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ببئر معونة مثل هذا العدد، وإنما خص أنس الأربعة بالذكر لشدة تعلقه بهم دون غيرهم، أو لكونهم كانوا في ذهنه دون غيرهم 2.
وخلاصة القول في هذا: أن الصحابة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم عنوا عناية كبيرة وفائقة بحفظ القرآن الكريم، فمنهم من حفظه واستظهره، ومنهم من حفظ بعضه، وما روي عن أنس في هذا مؤول بما ذكرناه.
1 انظر الحديث في النسائي في السنن الكبرى، كتاب فضائل القرآن، باب في كم يقرأ القرآن 5/24، وانظر فتح الباري شرح صحيح البخاري 9/51، 52، البرهان للزركشي 1/ 241 242، الإتقان للسيوطي 1/200
2 لم أجده بهذا اللفظ في الجامع ولا في التذكار، إنما ذكره التأخرون ومنهم الزرقاني، مناهل العرفان 1/245.
وأما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فقد حفظه عدد كبير وخلق كثير، واشتُهِروا بإقرائه بجميع قراءاته ومروياته، فمن الصحابة عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين وتتلمذ علي يديه الكثيرون منهم المغيرة بن أبي شهاب المخزومي، وعلي بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين وتتلمذ عليه كثيرون منهم أبو عبد الرحمن السلمي، وكذلك أُبي بن كعب من كتاب الوحي تتلمذ عليه كثيرون منهم عبد الله بن عباس وأبو هريرة، وكذلك زيد بن ثابت الأنصاري وهو الذي جمع القرآن في عهد الخليفتين فقد تتلمذ عليه كثيرون منهم عبد الله بن عمر وأنس بن مالك، وعبد الله بن مسعود الذي قال عنه المصطفى عليه الصلاة والسلام (من أحب أن يقرأ القرآن غضاً 1كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد) 2 فقد تتلمذ عليه كثيرون منهم علقمة بن قيس 3، والأسود بن يزيد النخعي4، وأبو موسى الأشعري الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم (لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود) 5 فقد تتلمذ على يديه الكثيرون منهم سعيد بن المسيب وأبو رجاء العطاردي6
1 الغَضّ هو الطَّري الذي لم يتغير، أراد طريقه في القراءة وهيأته فيها، النهاية في غريب الحديث 4/371
2 أخرجه الامام أحمد في المسند 1/445، وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير 2:3/ 308.
3 علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي فقيه الكوفة وعالمها ومقرئها، جود القرآن على ابن مسعود، السير 4/53.
4 الأسود بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي ابن أخي علقمة، من رؤوس العلم قرأ على عبد الله بن مسعود، السير 4/50.
5 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب حسن الصوت بالقراءة للقرآن 5048 وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحسان تحسين الصوت بالقرآن 1/457 236.
6 أبو رجاء العطاردي، عمران بن مِلْحَان التميمي البصري، من كبار المخضرمين، أدرك الجاهلية وأسلم بعد فتح مكة، السير 4/254، تقريب التقريب /431.
وكل هذا يدل على الاهتمام الكبير والعناية الفائقة من الصحابة رضوان الله عليهم لكتاب الله تعالى قولاً وعملاً 1.
وهناك بعض العوامل التي أدت بالصحابة إلى العناية بالقرآن الكريم حفظاً في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ومن أهم تلك العوامل 2:-
1) أن الصحابة كانوا أميين لا يعرفون القراءة والكتابة إلا نذر يسير منهم، ولذلك كانوا يعتمدون على حافظتهم لأن الحفظ هو السبيل الوحيد إلى إحاطتهم بالقرآن الكريم.
2) المحبة الصادقة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وما يتصل به وما نزل عليه، ومن المعلوم أن الحب إذا صدق وتمكن حمل المحب حملاً على ترسم آثار محبوبه والتلذذ بحديثه والتنادر بأخباره، ولذلك كان حب الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم من أقوى العوامل على حفظهم كتاب الله تعالى حيث كانوا يتسابقون إلى كتاب الله يأخذون عنه ويحفظون منه.
3) أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا أمة يضرب بهم المثل في الذكاء وقوة الحافظة وصفاء الطبع وسيلان الذهن وحدة الخاطر.
الترغيب في حفظ القرآن الكريم وتطبيق أحكامه مما جعل الصحابة يعتنون به اعتناءً خاصاً، فقد وردت الآيات والأحاديث الكثيرة في فضل حفظ القرآن الكريم وقراءته، فمن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ
1 الإتقان للسيوطي 204، مناهل العرفان 1/414، فضائل القرآن العظيم لابن كثير 85 –93، القراءات للدكتور شعبان إسماعيل 62، 63، 64.
2 انظر البيان في مباحث من علوم القرآن لعبد الوهاب غزلان 146-156.
تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} (فاطر:-3029) .
ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) 1، "وقوله عليه الصلاة والسلام (إن لله أهلين من الناس، قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته) 2، وقوله عليه الصلاة والسلام لأسيد بن حضير (تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ) فعَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ قَالَ بَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَفَرَسُهُ مَرْبُوطَةٌ عِنْدَهُ إِذْ جَالَتِ الْفَرَسُ فَسَكَتَ فَسَكَتَتْ فَقَرَأَ فَجَالَتِ الْفَرَسُ فَسَكَتَ وَسَكَتَتِ الْفَرَسُ ثُمَّ قَرَأَ فَجَالَتِ الْفَرَسُ فَانْصَرَفَ وَكَانَ ابْنُهُ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا فَأَشْفَقَ أَنْ تُصِيبَهُ فَلَمَّا اجْتَرَّهُ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى مَا يَرَاهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ حَدَّثَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:(اقْرَأْ يَابْنَ حُضَيْرٍ اقْرَأْ يَابْنَ حُضَيْرٍ) قَالَ فَأَشْفَقْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى وَكَانَ مِنْهَا قَرِيبًا فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَانْصَرَفْتُ إِلَيْهِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ فَخَرَجَتْ حَتَّى لَا أَرَاهَا قَالَ: (وَتَدْرِي مَا ذَاكَ قَالَ لَا قَالَ تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ وَلَوْ قَرَأْتَ لَأَصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا لَا تَتَوَارَى مِنْهُمْ)3.
1 انظر البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه ص1093 5027.
2 أخرجه ابن ماجة في سننه في المقدمة، باب فضل من تعلم القرآن وعلمه 1/78، وقال ابن الجزري: رواه ابن ماجة وأحمد والدارمي وغيرهم من حديث أنس بإسناد رجاله ثقات، النشر 1/5، والحديث صحيح
3 أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، بَاب نُزُولِ السَّكِينَةِ وَالْمَلَائِكَةِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، ص1091 5018.
"وقوله عليه الصلاة والسلام (مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ وَالَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ وَلَا رِيحَ لَهَا)1.
"وقوله صلى الله عليه وسلم (الذي يقرا القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرا القرآن وهو يَتَتَعْتَعُ فيه وهو عليه شاق له أجران)2.
وقوله صلى الله عليه وسلم (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)3.
إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في فضل قراءة القرآن وحفظه وفضل آيات معينة وفضل سور مخصوصة.
وكل هذا جعل الصحابة رضوان الله عليهم يعتنون بحفظ القرآن، ويتسابقون في قراءته ولا يتوانون لحظة واحدة عن قراءة القرآن واستظهاره وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، ومن ذا الذي يسمع كل هذا الترغيب والتشويق ولا يسارع في قراءة القرآن وحفظه.
1 أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب فضل القرآن على سائر الكلام صـ1092 5020.
2 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الماهر بالقرآن والذي يتتعتع فيه 1/460 244.
3 أخرجه الترمذي في سننه، كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفاً من القرآن ماله من الأجر 5/175، وقال عقبه هذا حديث حسن صحيح غريب، والحديث صحيح.
بل بلغ من العناية بالقرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم " أن امرأة من الصحابيات جمعت القرآن ففي سنن أبي داود عَنْ أُمِّ وَرَقَةَ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَوْفَلٍ الْأَنْصَارِيَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا غَزَا بَدْرًا قَالَتْ قُلْتُ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي الْغَزْوِ مَعَكَ أُمَرِّضُ مَرْضَاكُمْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي شَهَادَةً قَالَ: (قَرِّي فِي بَيْتِكِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرْزُقُكِ الشَّهَادَةَ) قَالَ فَكَانَتْ تُسَمَّى الشَّهِيدَةُ قَالَ وَكَانَتْ قَدْ قَرَأَتِ (1) الْقُرْآنَ فَاسْتَأْذَنَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَتَّخِذَ فِي دَارِهَا مُؤَذِّنًا فَأَذِنَ لَهَا قَالَ وَكَانَتْ قَدْ دَبَّرَتْ غُلَامًا لَهَا وَجَارِيَةً فَقَامَا إِلَيْهَا بِاللَّيْلِ فَغَمَّاهَا بِقَطِيفَةٍ لَهَا حَتَّى مَاتَتْ وَذَهَبَا فَأَصْبَحَ عُمَرُ فَقَامَ فِي النَّاسِ فَقَالَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ هَذَيْنِ عِلْمٌ أَوْ مَنْ رَآهُمَا فَلْيَجِئْ بِهِمَا فَأَمَرَ بِهِمَا فَصُلِبَا فَكَانَا أَوَّلَ مَصْلُوبٍ بِالْمَدِينَةِ"2.
1 أي جمعته كما في الطبقات لابن سعد 8/457، وانظر الإتقان 1/203.
2 أخرجه أبو داو د في سننه، كتاب الصلاة، باب إمامة النساء 1/161 591، والحديث ضعيف.