الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني عن حِكَم نزول القرآن مفرقاً:
-
لنزول القرآن مفرقاً على النبي صلى الله عليه وسلم حِكَمٌ كثيرة تُعرف من الآيتين السابقتين وتُدرك بالعقل والاجتهاد أذكرها فيما يلي:-
أولا: تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وتطييب قلبه وخاطره، وإمداده بأسباب القوة والمجابهة أمام حملات المشركين ودسائس المنافقين، فتجديد الوحي يوماً بعد يوم وحالاً بعد حال يمثل لوناً من ألوان الرعاية الإلهية التي تمده بأسباب الثبات والْمُضِيِّ فيما اختاره الله تعالى له 1، وقد تولى الله الإجابة عن المشركين الذين قالوا:{لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} (الفرقان:32){كذلك} ، أي أنزلناه كذلك مفرقاً – {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} ، وكان للنزول المفرق أبلغ الأثر في مواساته وإزاحة معاني الغربة والضعف عن نفسه، وقد ثبت الله فؤاد المصطفى عليه الصلاة والسلام في أشد المواقف وأحرجها، فانظر إلى قول أبي بكر فيما حكاه عنه الله تعالى:{لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التوبة: 40) ، وما ذلك إلا من قوة يقينه ووثوقه بنصر الله تعالى مع ما يحيط به من الأعداء.
وهذه الحكمة من أجل الْحِكَم وأعظمها. ويندرج تحت تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم أشياء كثيرة منها:-
1 انظر علوم القرآن، مدخل إلى تفسير القرآن وبيان إعجازه ص74، 75.
* تسليته صلى الله عليه وسلم بكثرة نزول الوحي عليه حتى لا يجد اليأس إلى نفسه سبيلاً، ومما لا شك فيه أن كثرة نزول الوحي أقوى بالقلب وأشد عناية بالمرسل إليه، فيحصل للنبي صلى الله عليه وسلم الأُنْس والارتباط بالله تعالى يقول الإمام أبو شامة1 (فإن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة كان أقوى بالقلب، وأشد عناية بالمرسل إليه، ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه وتجدد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز، فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة، ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان لكثرة لقائه جبريل)2.
ومنها تسليته صلى الله عليه وسلم ببيان ما يثبت قلبه على الحق ويشحذ عزمه للمضي قدماً في طريق دعوته لا يبالي بظلمات الجهالة التي يواجهها من قومه، فما حصل للنبي محمد صلى الله عليه وسلم قد حصل للأنبياء السابقين {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} (الكهف:6) ، {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} (الأنعام: 33-34) ، وكلما اشتد أذى المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم نزلت الآيات لطمأنة الرسول صلى الله عليه وسلم وتسليته، وتهديد المشركين والمكذبين بأن الله يعلم أحوالهم وسيجازيهم على ذلك أشد الجزاء {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا
1 أبو شامة هو العلامة عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي أبو القاسم شهاب الدين، فقيه شافعي له كتاب المرشد الوجيز فيما يتعلق بالقرآن العزيز، وكتب أخرى، توفي سنة 665هـ، انظر الأعلام /299.
2 انظر البرهان 1/231، الإتقان 1/121.
نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} (يس:76){وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} (يونس:65){وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} (المزمل:10){فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف: 35){وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} (النحل: 127){وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (هود:115) ، فكان لاتصال الوحي بالرسول صلى الله عليه وسلم وتتابع نزول الآيات عليه تسليةً له بعد تسلية تشد من أزره وتحمله على الصبر والمصابرة، وكان لذلك أبلغ الأثر في مواساته والتخفيف عنه، ولو أن القرآن نزل جملةً واحدة لكان لانقطاع الوحي بعد ذلك أثر كبير في استشعار الوحشة والغربة.
* ومنها تسليته صلى الله عليه وسلم بذكر قصص الأنبياء السابقين {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} (هود:120)، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (يوسف: 111) ، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف:35) .
ثانياً: تثبيت قلوب المؤمنين وتسليحهم بعزيمة الصبر واليقين بسبب ما كان يقصه القرآن عليهم من قصص الأنبياء السابقين ومعاناتهم من أقوامهم وكيف أن الغلبة والنصر والأجر والتأييد والتمكين كانت لهم ولعباد الله الصالحين في نهاية الأمر، وكانت الهزيمة لأعداء الله المخالفين، والآيات في هذا المعنى كثيرة، واستمع إلى قوله تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}
(البقرة:214) .
وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (آل عمران:142) .
وقوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} (العنكبوت:2) .
ثالثاً: تيسير حفظه وفهمه على الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يتعجل الأخذ من الوحي، ولقد بلغ من حرص النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا ينتظر حتى يفرغ جبريل من قراءته بل كان يتعجل بالقراءة فأنزل الله تعالى:{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: 16-19) ، فتكفل الله لنبيه الحفظ والفهم.
رابعاً:تيسير حفظه وفهمه وتدبر معانيه، ومعرفة أحكامه وحِكَمه على الأمة، وكما هو معلوم أن القرآن الكريم نزل على أمة أمية لا تعرف القراءة والكتابة {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (الجمعة: 2) {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} (الأعراف: 157) ، وكانت ظروف المسلمين في مكة المكرمة صعبة حيث كانوا مضطهدين من كفار قريش مستضعفين لقلة عددهم ليس لديهم من قوة السلطان ما يحميهم
من عدوهم ولا من فراغ الوقت وهدوء البال ما يمكنهم من الانقطاع لحفظ ذلك الكتاب وعندما اضطروا للهجرة قام اليهود والمنافقون في المدينة بمناوأتهم، ولو نزل جملةً واحدة لوجدت هذه الأمة الأمية-مع ما ينتابها من ظروف صعبة- صعوبةً في حفظ القرآن الكريم فكان من رحمة الله عز وجل أن نزل القرآن مفرقاً لكي يسهل حفظه وفهمه، فكانت الآيات تنزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم وكان النبي يعلمها أصحابه فكلما نزلت الآية أو الآيات حفظها الصحابة، وتدبروا معانيها، ووقفوا عند أحكامها 1، بل صار الصحابة والتابعون يعلمون من بعدهم بنفس الطريقة فصارت سنة متبعة فعن أبي العالية الرِّياحي2أنه قال (تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأخذه خمساً خمساً)3.
وقال عبد الله بن مسعود (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن)4.
وفي بعض الروايات أن أبا عبد الرحمن السلمي5قال حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا
1 المدخل لدراسة القرآن الكريم 71، مباحث في علوم القرآن 95.
2 اسمه رُفَيْع بن مهران، من رواة الحديث، ثقة كثير الإرسال، التقريب / 210.
3 أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب فضائل القرآن، في تعليم القرآن كم آية 10/461، وأخرجه أبو نعيم في الحلية 2/219، أخرجه البيهقي في شعب الإيمان 1959.
4 المصنف 3/380.
5 هو عبد الله بن حبيب بن رُبَيِّعَة الكوفي المقرئ، مشهور بكنيته، ولأبيه صحبة، التقريب / 299.
إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها، فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً 1.
ثم إن أدوات الكتابة لم تكن ميسورة للكُتَّاب على ندرتهم، فلو أنزل القرآن جملة واحدة لعجزوا عن حفظه وكتابته، فاقتضت حكمة الله العليا أن ينزله إليهم مفرقاً ليسهل عليهم حفظه ويتهيأ لهم استظهاره 2.
خامساً: ترتيل القرآن الكريم كما ينبغي بالصورة الصحيحة التي نزل عليها {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ ترتيلاً} (المزمل:4) فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يتلقى القرآن من الوحي عن رب العزة والجلال، فنحن بقراءتنا وترتيلنا إن أحكمناه إنما نتبع ما علم الله نبيه من ترتيل محكم جاء به التنزيل وأُمِر به النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان تعليم هذا الترتيل الْمُنَزَّل من عند الله تعالى ليتوافر إذا لم ينزل القرآن منجماً، فلو نزل جملة واحدة ما تمكن النبي عليه الصلاة والسلام من تعلم الترتيل، ولو علمه الله تعالى بغير تنجيمه ما كان في الإمكان أن يعلمه قومه وهم حملته إلى الأجيال من بعده 3.
سادساً: من حِكَم هذا التنجيم بصورة عامة رسم صورة المجتمع الآخَر أو الفئات الثانية من المشركين والمنافقين، وفضح أساليبهم ونواياهم ومفاجأتهم بحقيقة ما يقولون ويُبَيِّتُون ويمكرون {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ
1 انظر المصنف للصنعاني 3/380، والمصنف لابن أبي شيبة، كتاب فضائل القرآن، في تعليم القرآن كم آية 10/460، وقال الهيثمي في المجمع، باب السؤال عن الفقه، رواه أحمد وفيه عطاء بن السائب اختلط في آخر عمره. مجمع الزوائد 1/165 وأخرجه الصنعاني في المصنف بنحوه، كتاب فضائل القرآن، باب تعليم القرآن وفضله 3/380.
2 مناهل العرفان 1/56.
3 انظر القرآن المعجزة الكبرى، محمد أبو زهرة ص23.
تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} (التوبة:64) 1، وقد كان المنافقون يتظاهرون بالإسلام ويختلطون بالمسلمين ويقفون على أسرارهم وأحوالهم فكانوا كلما عزموا أمراً نقضه الله تعالى، أو بيتوا كيداً أظهره الله، فأظهر فضائحهم وجعل مكنون أسرارهم معلوماً لرسوله ولمن آمن معه واقرأ إن شئت {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (البقرة:8-9) ، وقوله:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (المنافقون: 1) ، وغير ذلك من الآيات التي كانت تنزل على النبي صلى الله عليه وسلم مفرقةً تنبيهاً له وتحذيراً له وللمؤمنين.
سابعاً: التحدي والإعجاز وهو ظاهر وواضح في كل مرحلة من مراحل نزوله مفرقاً فقد تحداهم الله تعالى أن يأتوا بالقرآن فلم يستطيعوا، وتحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله فلم يستطيعوا، وتحداهم أن يأتوا بحديث مثله فلم يستطيعوا، وأتاح لجميع المشركين والمعارضين الدخول في معركة التحدي فلم يفلحوا.
{أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} (الطور:33، 34)، {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (هود:13) ، {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة:23) .
1 وانظر علوم القرآن 76.
بل إن المشركين تمادَوا في غيهم وأسئلتهم للرسول صلى الله عليه وسلم فكانوا يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم أسئلة تعجيز وتحد ومبالغة مثل متى الساعة {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} فينزل الجواب من الله تعالى {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} (الأعراف:187) ومثل ما المراد بالروح {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} ، فيقول القرآن:{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (الإسراء:85) رد الله عليهم بقوله: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} (الفرقان:33) ، وحيث عجبوا من نزول القرآن منجماً بين الله لهم الحق في ذلك، فإن تحديهم به مفرقاً مع عجزهم عن الإتيان بمثله أدخل في الإعجاز، وأبلغ في الحجة من أن ينزل جملة ويقال لهم: جيئوا بمثله، ولهذا جاءت الآية عقب اعتراضهم {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} (الفرقان:32) أي لا يأتونك بصفة عجيبة يطلبونها كنزول القرآن جملة إلا أعطيناك من الأحوال ما يحق لك في حكمتنا وبما هو أبين معنى في إعجازهم وذلك بنزوله مفرقاً1.
ثامناً: التدرج في التشريع ويدخل تحت هذا أمور منها:
التدرج في انتزاع العادات الضارة، وذلك بالتخلى عنها شيئاً فشيئاً والتدرج في نقل الناس من حياة الفوضى والتفلت إلى حياة النظام والتقييد بالمعايير
1 انظر مباحث في علوم القرآن 94.
الإسلامية الصحيحة، فقد بُعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم وهم يعبدون الأصنام، ويشركون بالله ومع الله، ويسفكون الدماء ويشربون الخمر ويزنون، ويقتلون الأولاد خشية الفقر، ويتعاملون بالربا الفاحش، ويلعبون الميسر، ويستقسمون بالأزلام، وينكحون نساء الآباء ويجمعون بين الأختين ويكرهون الفتيات على البغاء، وذكر العلماء في كتب التاريخ أن الحروب كانت تقع بين القبائل العربية لأوهى الأسباب ومجرد حب الانتقام، حتى أدى هذا إلى قطع حبال المودة بينهم وجعلهم شيعاً متباغضة يتربص كل فريق منهم بغيره الدوائر، واعتادوا على كثير من هذه الأخلاق المنحطة وتغلغلت فيهم حتى صارت جزءاً لا يتجزأ منهم ومن المعلوم أنه يصعب على المرء والمجتمع ترك هذه الأمور مرة واحدة لأن للعقائد حتى ولو كانت باطلة وللعادات ولو كانت مستهجنة سلطاناً على النفوس، والناس أَسْرى ما أَلفوا ونشأوا عليه، فلو أن القرآن نزل جملة واحدة وطالبهم بالتخلى عما هم منغمسون فيه من كفر وجهل وشرك مرة واحدة لما استجاب إليه أحد ولكن القرآن نجح معهم في هدم العادات الباطلة وانتزاعها بالتدريج بسبب نزول القرآن عليهم شيئاً فشيئاً 1.
وأبلغ دليل على ذلك هو انتزاع الخمر من ذلك المجتمع الذي كان يشربه كالماء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: حرمت الخمر ثلاث مرات، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يشربون الخمر ويلعبون الميسر، فسألوا رسول الله عنهما فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم
1 انظر مناهل العرفان 1/56، المدخل لدراسة القرآن الكريم 72.
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (البقرة:219)، فقال الناس: ما حرم علينا إنما قال فيهما إثم كبير، وكانوا يشربون الخمر حتى إذا كان يوم من الأيام صلى رجل من المهاجرين أمَّ أصحابه في المغرب خَلَط في قراءته فأنزل الله فيها آية أغلظ منها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (النساء:43) ، وكان الناس يشربون حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مفيق، ثم أنزلت آية أغلظ من ذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة:90) فقالوا: انتهينا يا رب، فقال الناس: يا رسول الله ناس قتلوا في سبيل الله أو ماتوا على فرشهم كانوا يشربون الخمر ويلعبون الميسر وقد جعله الله رجساً ومن عمل الشيطان فأنزل الله {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (المائدة:93) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو حرمت عليهم لتركوها كما تركتم 1.
ومن هذا الحديث نستنبط أن الخمر حرمت على مراحل فتاب الناس والصحابة منها حتى جرت في سكك المدينة، ولو حرمت دفعة واحدة
1 أخرجه الإمام احمد في المسند، انظر الفتح الرباني، كتاب التفسير، باب قول الله عز وجل يسألونك عن الخمر والميسر 18/85، 86 وإسناده ضعيف، وله شواهد تقويه منها حديث عمر بن الخطاب اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت الآيات الثلاثة بالتدريج، حديث صحيح أخرجه الإمام أحمد في المسند 18/86، وأخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأشربة، باب في تحريم الخمر 3/325، وأخرجه الترمذي في سننه كتاب التفسير، باب ومن سورة المائدة 5/253، 254، 255 وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه 2/278.
لاستمروا عليها، ولذلك تقول عائشة رضي الله عنها (إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل1 فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء (لا تشربوا الخمر) لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا قالوا: لا ندع الزنى أبداً) 2.
والتدرج في تربية هذه الأمة الناشئة علماً وعملاً، فبدأت الآيات تنزل على النبي صلى الله عليه وسلم سالكة التدرج في تربية الأمة، فأول ما نزلت الآيات المتعلقة بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره والتوحيد وما يتعلق بذلك من أمور العقيدة، بدأت الآيات أولاً بفطامهم عن الشرك والإباحية وإحياء قلوبهم بعقائد التوحيد والجزاء، فإذا اطمأنت قلوبهم بالإيمان وأشربوا حبه انتقل بهم بعد ذلك إلى العبادات فبدأهم بالصلاة ثم الزكاة ثم الصوم ثم الحج ثم الأمور الأخرى، ولذلك كان مدار الآيات في القسم المكي على إثبات العقائد والفضائل التي لا تختلف باختلاف الشرائع، بخلاف القسم المدني فكان مدار التشريعات فيه على الأحكام العملية وتفصيل ما أجمل قبل ذلك 3.
1 سور القرآن على أربع أقسام وأنواع فمنها السبع الطوال أولها البقرة، ومنها المئون، والمثاني، والمفصل: ما وَلِيَ المثاني من قصار السور، وسمي بذلك لكثرة الفصول التي بين السور بالبسملة، انظر الإتقان 1/179، 180
2 أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن ص1087 4993
3 المدخل لدراسة القرآن 74.
لذا أنزل القرآن مفرقاً فحصلت النتيجة المطلوبة وهي التغير في العادات من حسن إلى أحسن ومن شر إلى خير ومن تفرق في الكلمة إلى اتحاد واعتصام بحبل الله المتين فكانت خير الأمم.
تاسعاً: بيان بلاغة القرآن الكريم فقد نزل مفرقاً في ثلاثة وعشرين عاماً، وكلما نزلت آية أو آيات قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم:(ضعوا هذه الآيات في موضع كذا من سورة كذا) 1 ومع ذلك فهو مترابط في الألفاظ والمعاني، حسن التنسيق، محكم النسج، دقيق السبك، متناسق الآيات والسور، متين الأسلوب، قوي الاتصال، لا يكاد يوجد بين أجزائه تفكك كأنه عِقْدٌ فريد نظمت حباته بما لم يعهد له مثيل في كلام البشر {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (هود:1) .
وكل ذلك فيه دلالة على أن القرآن مُنَزَّلٌ من الله تعالى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، وأنه كلام الله تعالى ولا يمكن أن يكون كلام محمد صلى الله عليه وسلم ولا كلام مخلوق سواه، وصدق الله إذ يقول:{قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الفرقان:6) .
عاشراً: مسايرة الحوادث والطوارئ في تجددها وتفرقها فكانت تحدث حوادث لم يكن لها حكم معروف في الشريعة الإسلامية فيحتاج المسلمون إلى معرفة ذلك فتنزل الآية من الله تبارك وتعالى لحكم تلك الحوادث، ومن ذلك حادثة خولة بنت ثعلبة2 حين ما جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
1 سيأتي تخريجه ص47 في المبحث الثاني العناية بالقرآن كتابة.
2 خولة بنت ثعلبة الأنصارية الخزرجية، صحابية، وهي التي ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت، فنزلت فيها سورة قد سمع، الإصابة 4/289، أسد الغابة 5/442.
تشتكي زوجها، وتصف لنا ذلك عائشة رضي الله عنها ذلك فتقول تَبَارَكَ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ كُلَّ شَيْءٍ إِنِّي لَأَسْمَعُ كَلَامَ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ وَيَخْفَى عَلَيَّ بَعْضُهُ وَهِيَ تَشْتَكِي زَوْجَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ تَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلَ شَبَابِي وَنَثَرْتُ لَهُ بَطْنِي حَتَّى إِذَا كَبِرَتْ سِنِّي وَانْقَطَعَ وَلَدِي ظَاهَرَ مِنِّي اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ فَمَا بَرِحَتْ حَتَّى نَزَلَ جِبْرَائِيلُ بِهَؤُلَاءِ الْآيَاتِ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} (المجادلة:1) 1، وكذلك حادثة الإفك فعندما حصل ما حصل من المنافقين والمشركين واتهموا السيدة عائشة رضي الله عنها أنزل الله تعالى براءتها من فوق سبع سماوات وأدان الذين رموها بدون شهود ولا بينة فقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ، لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين} إلى قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 2.
والقرآن مليء بتلك القصص والمواقف المشابهة، ومما هو طبيعي ومعروف أن هذه الحوادث لم تكن لتقع في وقت واحد فنزل القرآن في هذه الحوادث مفرقاً لذلك.
1 انظر ابن ماجة، كتاب الطلاق، باب الظهار 1/166 2063، والنسائي في كتاب الطلاق، باب الظهار 6/186 3460، والحديث صحيح.
2 الآيات من سورة النور 11-20، وانظر الحديث في البخاري، كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضاً ص530 2661، وانظر مسلم في كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف 2770.
الحادي عشر: تنبيه المسلمين من وقت لآخر لأخطائهم التي وقعوا فيها وكيفية تصحيحها، وتحذيرهم من عواقب المخالفة وبيان الامتنان عليهم بالنصر مع القلة، ولنقرأ ما قصه الله تعالى في سورة آل عمران بشأن غزوة بدر وأحد من الامتنان والتنبيه والتحذير، ففي غزوة أحد خالف الرُّماة نصيحة رسول الله صلى الله عليه وسلم متأولين فكانت النتيجة أن أوتي المسلمون من جهتهم وأن شاعت الهزيمة بينهم وشُجَّ وجه النبي صلى الله عليه وسلم وكسرت رُباعيته فأنزل الله تعالى الآيات محذراً المخالفين {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 152) 1.
وكذلك في غزوة حنين والأحزاب وغير ذلك كثير، ففي يوم حنين أعجب المسلمون بكثرتهم فكانت الهزيمة فقال تعالى لهم:{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} (التوبة:25-26) وتعلم المسلمون من ذلك أن النصر ليس بالعدد والعُدَّة فحسب، وإنما هو من عند الله {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (آل عمران:126) 2.
1 وانظر القصة في البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة أحد ص832 4043
2 وانظر منهج الفرقان 26، 27.
الثاني عشر: توثيق وقائع السيرة النبوية المباركة والتاريخ وذلك عن طريق معرفة الحادثة ووقتها وأين كانت ومتى، فنستطيع أن نرتب السيرة النبوية من خلال الحوادث وضمها إلى قصص الأنبياء وسير المرسلين وحياة الأمم السابقين 1.
الثالث عشر: أن في القرآن الكريم ناسخاً ومنسوخاً ولا يمكن أن يكون ذلك إذا نزل القرآن جملةً على المصطفى عليه الصلاة والسلام إذ لا يُتصور النسخ إلا مع التفريق ولا يمكن أن يحدث ذلك إلا على تباعد الزمن فإن حكمة التربية الانتقالية قد تقتضي تشريعاً تجيء به آية إلى أجل مسمى ثم تجيء آية أخرى بتشريع آخر، ولا يكون هذا إلا مع تنجيم النزول 2.
1 الواضح في أصول القرآن 52.
2 القرآن الكريم إبراهيم أبو الخشب 44.