الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: نزول القرآن الكريم
المبحث الأول: نزول القرآن الكريم
أولاً: نزوله جملةً من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا والحكمة منه:
…
المبحث الأول: نزول القرآن الكريم
ويشتمل على:-
أولاً: نزوله جملةً من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا والحكمة منه:
فقد أنزل الله تبارك وتعالى القرآن جملةً واحدة في شهر رمضان المبارك فقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (البقرة:185)، وقال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر: 1)، وقال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} (الدخان: 3) ، ولا تعارض بين هذه الآيات الثلاث لأن الليلة المباركة هي ليلة القدر، وليلة القدر في شهر رمضان المبارك، إنما يتعارض ظاهرها مع الآيات الأخرى التي تفيد بأن القرآن نزل مفرقاً مثل قوله تعالى:{وقرآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تنزيلاً} (الإسراء: 106)، ويتعارض كذلك مع الواقع العملي لنزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم 1. فمنها:-
1) ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنزل الله القرآن إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، فكان الله إذا أراد أن يوحي منه شيئاً أوحاه أو أن يحدث منه في الأرض شيئاً أحدثه 2.
1 انظر مباحث في علوم القرآن لمناع القطان صـ86.
2 أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب التفسير 2/222، وقال عقبه هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وانظر الروايات في الدر المنثور 1/456، 457.
2) وما رواه ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى إنا أنزلناه في ليلة القدر، قال: أنزل القرآن جملةً واحدة في ليلة القدر إلى السماء الدنيا وكان بمواقع النجوم وكان الله ينزله على رسوله صلى الله عليه وسلم بعضه في إثر بعض، قال: وقالوا: {لولا نًزِّل ُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} 1.
3) وما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال أنزل القرآن جملةً واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم أنزل بعد ذلك بعشرين سنة، ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً، {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} 2.
4) وأخرجه ابن أبي حاتم3 من هذا الوجه وفي آخره: فكان المشركون إذا أحدثوا شيئاً أحدث الله لهم جواباً 4.
5) وما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: فُصِل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة في السماء الدنيا فجعل جبريل عليه السلام ينزله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويرتله ترتيلاً 5.
1 أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب التفسير 2/222، وقال عقبه هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والآية رقم 32 من سورة الفرقان.
2 أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب التفسير 2/222، وقال عقبه هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وانظر الإتقان 1/117، والآية 106 من سورة الإسراء.
3 ترجمت في هذه الرسالة للأعلام غير المشهورين والمعروفين ترجمة مختصرة، وابن أبي حاتم هو عبد الرحمن بن محمد بن أبي حاتم الرازي، أبو محمد حافظ للحديث، من كبار المحدثين، له كتب كثيرة منها كتاب في الجرح والتعديل، وكتاب في التفسير يقع في عدة مجلدات وزع على طلاب جامعة أم القرى لتحقيقها في مرحلتي الماجستير والدكتوراة، الأعلام للزركلي 3/324.
4 انظر الإتقان 1/117.
5 أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب التفسير 2/222، وقال عقبه هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وانظر الإتقان 1/117، وقال السيوطي في الإتقان: أسانيدها كلها صحيحة.
6) وما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة ثم فرق في السنين ثم تلا هذه الآية: {فلا أقسم بمواقع النجوم} ، قال: نزل متفرقاً 1.
7) وما رواه ابن عباس أنه قال: أنزل القرآن في ليلة القدر في شهر رمضان إلى السماء جملةً واحدة ثم أنزل نجوماً 2.
8) وما رواه ابن عباس في قوله: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} (القدر: 1) أنه قال: أنزل القرآن جملةً واحدة حتى وضع في بيت العزة في السماء الدنيا، ونزله جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم بجواب كلام العباد وأعمالهم 3.
9) وما روي عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود فقال: أوقع في قلبي الشك قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (البقرة: 185)، وقوله:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر: 1) . وهذا أنزل في شوال، وفي ذي القعدة، وفي ذي الحجة، وفي محرم، وفي صفر، وشهر ربيع فقال ابن عباس: إنه أنزل في رمضان في ليلة القدر جملةً واحدة ثم أنزل على مواقع النجوم رسلاً4 في الشهور والأيام 5.
1 أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الواقعة 4/477 وقال عقبه هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
2 قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الأوسط والكبير وفيه عمران القطان وثقه ابن حبان وغيره وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات 7/140.، وقال السيوطي: إسناده لا بأس به الإتقان 1/117.
3 قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني والبزار باختصار، ورجال البزار رجال الصحيح وفي إسناد الطبراني عمرو بن عبد الغفار وهو ضعيف.
4 رَسَلاً: أي فرقاً وعلى مواقع النجوم أي على مثل مساقطها، يريد أنه أنزل مفرقاً يتلو بعضُه بعضاً على تُؤَدة ورفق، انظر الإتقان 1/117، 118، النهاية في غريب الحديث 2/222.
5 انظر الإتقان 1/117.
وبنظرة عامة للآثار السابقة يتضح لنا أن للقرآن الكريم نزولين، وهذا يدل على أن القرآن نزل في رمضان وفي غيره، وعلى أن القرآن الكريم نزل جملةً واحدة ونزل مفرقاً، وأن المراد بنزوله في ليلة واحدة في شهر رمضان هو نزوله جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا كما جاءت بذلك الآثار السابقة التي ذكرناها، وأن المراد بنزوله مفرقاً هو نزوله من بيت العزة من السماء الدنيا على المصطفى صلى الله عليه وسلم حسب الوقائع والحوادث وغير ذلك، وإليكم مذاهب العلماء في كيفية إنزاله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة ثم نزوله من بيت العِزة
على المصطفى عليه الصلاة والسلام1:-
المذهب الأول:-
مذهب جمهور العلماء وهو قول ابن عباس أن القرآن الكريم نزل جملةً واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك منجماً على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة، أو ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين، على حسب الخلاف في مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة بعد البعثة، وهذا هو المذهب الذي دلت عليه الأخبار الصحيحة وعليه جمهور العلماء، ورجحه ابن حجر حيث قال في شرح البخاري: وهو الصحيح المعتمد 2، وهو القول الذي ينبغي أن نصير إليه جمعاً بين الأدلة الموجودة في
1 انظر التذكار في أفضل الأذكار 24، 25.
2 الإتقان 1/117، 118، البرهان في علوم القرآن 1/228، وانظر كلام ابن حجر في فتح الباري، كتاب فضائل القرآن باب كيف نزل الوحي وأول ما نزل 9/4.
هذا الباب، وقد ورد عن ابن عباس بطرق متعددة، وحكمه حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا مجال للرأي فيه.
المذهب الثاني:
أنه نزل إلى السماء الدنيا في عشرين ليلة قدر من عشرين سنة، وقيل في ثلاث وعشرين ليلة قدر من ثلاث وعشرين سنة، وقيل في خمس وعشرين ليلة قدر من خمس وعشرين سنة، في كل ليلة منها ما يقدر الله سبحانه إنزاله في كل السنة، ثم ينزل بعد ذلك منجماً في جميع السنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المذهب الثالث:
أنه ابتدئ إنزاله في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك منجماً في أوقات مختلفة من سائر الأوقات وبه قال الشعبي 1.
الحكمة من نزول القرآن جملة:
أولاً: تفخيم شأن القرآن وشأن من سينزل إليه، وذلك بإعلام سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم قد قربناه إليها لننزله عليها، وهي الأمة الإسلامية، وفي هذا تنويه بشأن المنزل والمنزل عليه، والمنزل إليهم وهم بنو آدم ففيه تعظيم شأنهم عند الملائكة
1 الإتقان 1/117، 118، البرهان في علوم القرآن 1/228، والشعبي هو عامر بن شراحيل الشعبي الحميري، أبو عمرو، راوية من التابعين، يضرب المثل بحفظه، من رجال الحديث الثقات، الأعلام 3/251.
وتعريفهم عناية الله بهم ورحمته لهم 1، ثم إن وضعه في مكان يسمى بيت العزة يدل على إعزازه وتكريمه.
ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت وصوله إليهم منجماً بحسب الوقائع لهبط به إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزلة قبله، ولكن الله باين بينه وبينها فجعل له الأمرين.
ثانياً: تفضيل القرآن الكريم على غيره من الكتب السماوية السابقة وذلك بإنزاله مرتين، مرة جملة ومرة مفرقاً بخلاف الكتب السماوية السابقة فقد كانت تنزل جملةً مرة واحدة، وبذلك شارك القرآن الكتب السماوية في الأولى وانفرد في الفضل عليها بالثانية، وهذا يعود بالتفضيل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء السابقين 2.
ثانياً: نزوله مفرقاً على النبي صلى الله عليه وسلم:دل القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة أن القرآن الكريم كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم مفرقاً إلى أجزاء كل جزء منها يسمى نجماً، فقد صح أن الآيات العشر المتضمنة لقصة الإفك نزلت جملة، وأن عشر آيات من أول سورة المؤمنين نزلت جملة، وورد أيضاً أنه نزل قوله تعالى:{وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} (الضحى:1-2) إلى قوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (الضحى:5) ثم نزل
1 انظر البرهان 1/230،231، الإتقان 1/119 نقلاً عن أبي شامة في المرشد العزيز، البيان في مباحث من علوم القرآن ص52، 53، مناهل العرفان 1/46، 47، المدخل لدراسة القرآن الكريم 52، 53.
2 انظر المراجع السابقة.
باقي السورة بعد ذلك، وبالجملة فكون القرآن لم ينزل جملة وإنما نزل مفرقاً حسب الوقائع والحوادث مما لم ينازع فيه أحد.
وقد اختص القرآن الكريم من بين الكتب السماوية بأنه نزل مفرقاً كما دل على ذلك القرآن والسنة: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} (الإسراء: 106)، وقوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} (الفرقان: 32)، وكما ذكر العلماء في نزول القرآن الكريم أن أول ما نزل {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (اقرأ: 1) ، أما الكتب السماوية السابقة فإنها نزلت جملةً واحدة كما هو المشهور بين العلماء وعلى ألسنتهم حتى كاد يكون إجماعاً لما ذكرناه ولما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير1 عن ابن عباس قال: قالت اليهود: يا أبا القاسم لولا أنزل هذا القرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى فنزلت وأخرجه من وجه آخر بلفظ (قال المشركون)، قال السيوطي2: فإن قلت: ليس في القرآن التصريح بذلك، وإنما هو على تقدير ثبوت قول الكفار، قلت: سكوته تعالى عن الرد عليهم في ذلك وعدوله إلى بيان حكمته دليل على صحته، ولو كانت الكتب كلها نزلت مفرقة لكان يكفي في الرد عليهم أن يقول: إن ذلك سنة الله في الكتب التي أنزلها على الرسل السابقين.
1 سعيد بن جبير الأسدي بالولاء الكوفي أبو عبد الله، تابعي، كان أعلم زمانه على الإطلاق، قتله الحجاج بواسط، الأعلام 3/93.
2 عبد الرحمن بن أبي بكر الخضيري السيوطي، جلال الدين، إمام حافظ مؤرخ أديب، له نحو ستمائة مصنف، الأعلام 3/301.
ثم ذكر بعض الآثار والأحاديث التي تفيد بأن التوراة نزلت جملة ومنها ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ثابت بن الحجاج1 قال جاءتهم التوراة جملة واحدة، فكبر عليهم، فأبوا أن يأخذوها حتى ظلل الله عليهم الجبل فأخذوها عند ذلك 2
إضافة إلى ما سبق فإنه لو لاحظنا وتأملنا في الآيات القرآنية لوجدنا أن التعبير كان بلفظ التنزيل والإنزال، وعلماء اللغة يفرقون بين الإنزال والتنزيل فالتنزيل لما نزل مفرقاً والإنزال أعم، ولذلك قال الراغب3 في قوله:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر:1) ، وإنما خُص لفظ الإنزال دون التنزيل لما روي أن القرآن نزل دفعةً واحدة إلى سماء الدنيا ثم نزل نجماً فنجماً 4.
1 ثابت بن الحجاج الكلابي الجزري الرقي، من أتباع التابعين، روى عن الصحابة، تهذيب التهذيب 2/4.
2 انظر الإتقان للسيوطي 1/122، 123.
3 الراغب الأصفهاني، الحسين بن محمد بن المفضل أبو القاسم، أديب من العلماء الحكماء، له كتب كثيرة منها المفردات في غريب القرآن، الأعلام 2/255.
4 المفردات في غريب القرآن للراغب الأصبهاني 488، 489.