الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأول في
الحكايات
حكاية: قيل إن عبد الملك بن مروان خطب يوماً بالكوفة فقام إليه رجل من آل سمعان فقال مهلاً يا أمير المؤمنين اقض لصاحبي هذا بحقه ثم اخطب فقال وما ذاك فقال إن الناس قالوا له ما يخلص ظلامتك من عبد الملك إلا فلان فجئت به إليك لأنظر عدلك الذي كنت تعدنا به قبل أن تتولى هذه المظالم فطال بينه وبينه الكلام فقال له الرجل يا أمير المؤمنين إنكم تأمرون ولا تأتمرون وتنهون ولا
تنتهون وتعظون ولا تتعظون أفنقتدي بسيرتكم في أنفسكم أم نطيع أمركم بألسنتكم فإن قلتم أطيعوا أمرنا واقبلوا نصحنا فكيف ينصح غيره من غش نفسه، وإن قلتم خذوا الحكمة حيث وجدتموها واقبلوا العظة ممن سمعتموها فعلى ما قلدناكم أزمة أمورنا وحكّمناكم في دمائنا وأموالنا أو ما تعلمون أن منا من هو أعرف منكم بصنوف اللغات أوبلغ في العظات فإن كانت الإمامة قد عجزتم عن إقامة العدل فيها فخلوا سبيلها وأطلقوا عقالها يبتدرها أهلها الذين قاتلتموهم في البلاد وشتتّم شملهم بكل واد أما والله لئن بقيت في أيديكم إلى بلوغ الغاية واستيفاء المدة لتضمحل حقوق الله وحقوق العباد فقال له كيف ذلك فقال لأن من كلمكم في حقه زجر ومن سكت عن حقه قهر فلا قوله مسموع ولا ظلمه مرفوع ولا من جار عليه مردوع وبينك وبين رعيتك مقام تذوب فيه الجبال حيث ملكك هناك خامل وعزل زائل وناصرك خاذل والحاكم عليك عادل فأكب عبد الملك على وجهه يبكي ثم قال له فما حاجتك فقال عاملك بالسماوة ظلمني وليله لهو ونهاره لغو ونظره زهو فكتب إليه بإعطائه ظلامته ثم عزله.
حكاية: عن بعض الأدباء قال حضر رسول ملك الروم عند المتوكل فاجتمعت به فقال لما أحضر الشراب ما لكم معاشر المسلمين قد حرم عليكم في كتابكم الخمر ولحم الخنزير فعملتم بأحدهما دون الآخر فقلت له أما أنا فلا أشرب الخمر فسل من يشربها فقال إن شئت أخبرتك قلت له قل فقال لما حرم عليكم لحم الخنزير وجدتم بدله ما هو خير منه لحوم الطيور أما الخمر فلم تجدوا ما يقاربه فلم تنتهوا عنه قال فخجلت منه ولم أدر ما أقول.
حكاية: عن محمد بن ابراهيم الموصلي قال أجزنا في بعض أسفارنا لحى من العرب فإذا رجل منهم قبيح الوجه في الغابة أحول ذو لحية طويلة بيضاء يضرب زوجة له وهي
جارية حسناء كاعب كأنها البدر فقمنا إليه نمنعه عن ضربها فقالت دعوه إنه أسدى إلى الله حسنة أذنبت أنا ذنباً فجعلني الله ثوابه وجعله عقابي.
حكاية: قيل إن كريم الملك كان من أهل الظرف والأدب فعبر يوماً تحت جوسق بستان فرأى جارية ذات وجه زاهر وكمال باهر لا يستطيع احد وصفها فلما نظر إليها ذهل عقله وطار لبه فعالد إلى منزله أورسل إليها هدية نفيسة مع عجوز كانت تخدمه وكانت الجارية قارئة فكتب إليها رقعة يعرض عليها الزيارة في جوسقها فلما رات الرقعة قبلت
الهدية ثم أرسلت إليه مع العجوز عنبراً على زر ذهب وربطت ذلك في المنديل وقالت هذا جواب رقعته فلما رأى كريم الملك ذلك لم يفهم معناه وتحير في أمره وكانت له ابنة صغيرة السن فراته متحيراً في ذلك فقالت يا أبت أنا فهمت معناه قال وما هو لله درك فأنشدت تقول:
أهدت لك العنبر في جوفه
…
زرّ من التبر خفيّ اللحام
فالزر والعنبر معناهما
…
زر هكذا مختفياً في الظلام
قال الراوي فعجب من فصاحتها وفطانتها.
حكاية: قيل إن الرشيد حصل له في بعض الليالي قلق فوقع في نفسه أن يفتح حجر الجواري ويتنزه فيهن ففتح مقصورة فوقع نظره على جارية ووجدها نائمة مغطاة بشعرها فأيقظها فلما علمت به فتحت عينها فرأت الخليفة فقالت يا أمين الله ما هذا الخبر فأجابها.
هو ضيف طارق في أرضكم
…
هل تضيفوه إلى وقت السحر
فأجابت
بسرور سيدي أخدمه
…
إن رضي بي وبسمعي والبصر
فأجابت
فلما أصبح قال من بالباب من الشعراء قيل أبو نواس فقال علي به فدخل فقال أجز: يا أمين الله ما هذا الخبر، فأطرق ساعة ورفع رأسه وأنشد يقول
طال ليلي حين وافا لي السهر
…
فتفكرت فأحسنت الفكر
قمت أمشي في مجالي ساعة
…
ثم أخرى في مقاصير الحجر
وإذا وجه جميل حسن
…
زانه الرحمن من بين البشر
فلمست الرجل منها موقظاً
…
فرنت نحوي ومدت للبصر
وأشارت وهي قائلة
…
يا أمين الله ما هذا الخبر
قلت ضيف طارق في أرضكم
…
هل تضيفوه إلى وقت السحر
فأجابت بسرور سيدي
…
أخدم الضيف بسمعي والبصر
قال فنظر إليه الخليفة وقال والله كنت معنا قال لا وحياتك يا أمير المؤمنين وإنما الشعر الذي ألجأني إلى ذلك فتعجب منه وأحسن صلته.
حكاية: عن بعض الأدباء أنه قال كان خالد الكاتب مغرماً بالملاح وكان قد توسوس في آخر عمره فرأيته يخاطب غلاماً مليحاً ويقول له وهو راكب على قصبة ما آن أن يرحمني قلبك فقال له الغلام لا فقال خالد حتى متى يلعب بي حبك فقال الغلام أبداً فقال خالد وكم أقاسي فيك جهد
البلاء فقال الغلام حتى الموت فقال خالد لا أعدم الله فؤادي الهوى فقال الغلام آمين فقال خالد ولا أبلى به قلبك فقال الغلام فعل الله ذلك فقال خالد إن كان ربي قد قضى بالهوى فقال الغلام ما عليّ إباء فقال خالد وشدة الحب فما ذنبك فقال الغلام سل نفسك قال فقلت للغلام أما تستحي من هذا الرجل مع جلالة قدره فقال الغلام كل من يلقاه مثلي يقول له هكذا.
حكاية: قيل إن بعض البخلاء استأذن عليه ضيف وبين يديه خبز وقدح فيه عسل فرفع الخبز وأراد أن يرفع العسل وظن البخيل أن ضيفه لا يأكل العسل بلا خبز فقال ترى أن تأكل عسلاً بلا خبز قال نعم وجعل يلعق لعقة بعد لعقة فقال له البخيل والله يا أخي إنه يحرق القلب فقال صدقت ولكن قلبك.
حكاية: أخبر أبو بكر ابن الخاضبة أنه كان ليلة من الليالي قاعداً ينسخ شيئاً من الحديث بعد أن مضى وهن من الليل قال وكنت ضيق اليد فخرجت فارة كبيرة وجعلت تعدو في البيت وإذا بعد ساعة خرجت أخرى وجعلا يلعبان بين يدي ويتقافزان إلى أن دنتا من ضوء السراج وتقدمت إحديهما وكانت بين يدي طاسة فأكببتها عليها فجاءت صاحبتها فشمت الطاسة وجعلت تدور حوالي الطاسة وتضرب بنفسها عليها وأنا ساكت أنظر مشتغل النسخ فدخلت سربها وإذا بعد ساعة خرجت وفي فيها دينار صحيح وتركته بين يدي فنظرت إليها وسكت واشتغلت بالنسخ وقعدت ساعة بين يدي تنظر إلي فرجعت وجاءت بدينار آخر وقعدت ساعة أخرى وأنا ساكت أنظر وأنسخ وكانت تمضي وتجيء إلى أن
جاءت بأربعة دنانير أو خمسة الشك مني وقعدت زماناً طويلاً أطول من كل نوبة ورجعت ودخلت سربها وخرجت وإذا في فيها جليدة كانت فيها الدنانير وتركتها فوق الدنانير فعرفت أنه ما بقي معها شيء فرفعت الطاسة فقفزتا ودخلتا البيت وأخذت الدنانير وأنفقتها في مهم وكان لي في كل دينار دينار وربع.
حكاية: عن أبي الحسن البغدادي الأديب أنه قال كان المتنبي جالساً بواسط وعنده ولده المحسد قائماً وجماعة يقرؤن فورد إليه بعض أناس فقال أريد أن تجيز لنا هذا البيت:
زارنا في الظلام يطلب ستراً
…
فافتضحنا بنوره في الظلام
فرفع رأسه وقال يا محسد قد جاءك بالشمال فأته باليمين فقال:
فالتجأنا إلى حنادس شعر
…
سترتنا عن أعين اللوام
قال الرئيس أبو الجوائز معنى قوله لولده جاءك بالشمال فأته باليمين أن اليسرى لا يتم بها عمل وباليمنى تتم الأعمال فأراد أن المعنى يحتمل زيادة فأوردها وقد أجاد المتنبي في الإشارة وأحسن ولده في الأخذ.
حكاية: أخبر السقطي قال دخلت المقابر فرأيت بهلول المجنون قد أدلى رجليه في قبر محفور وهو يلعب بالتراب فقلت ما تصنع ههنا قال أنا عند قوم لا يؤذون جيرانهم وإن غبت عنهم لا يغتابوني قلت أجائع أنت قال لا والله قلت له إن الخبز قد غلا فقال لا أبالي علينا أن نعبده كما أمرنا وعليه أن يرزقنا كما وعدنا.
حكاية: قيل إن أنوشروان وضع الموائد للناس في يوم نيروز وجلس ودخل وجوه مملكته الإيوان فلما فرغوا من الطعام جاؤا بالشراب وأحضرت الفواكه والمشموم في أوان من الذهب والفضة فلما رفعت آلة المجلس أخذ بعض من حضر جام ذهب وزنه ألف مثقال فخباه تحت ثيابه وأنوشيروان يراه فلما فقده الساقي قال بصوت عال لا يخرجن أحد حتى يفتش فقال كسرى ولم فأخبره بالقصة فقال فقد أخذه من لا يرده ورآه من لا ينم عليه فلا يفتش أحد فأخذه الرجل ومضى فكسره وصاغ منه منطقة وحلية لسيفه وجدد له كسوة فاخرة فلما كان في مثل جلوس الملك دخل ذلك الرجل بتلك الحلية فدعاه كسرى وقال له هذا من ذاك فقبل الأرض وقال نعم أصلحك الله تعالى.
حكاية: قيل لما هرب موسى بن عمران عليه السلام من فرعون وبلغ أرض مدين أخذته
الحمى وقد أصابه الجوع بعد ذلك فشكى إلى ربه جل شأنه فقال يا رب أنا الغريب وأنا المريض وأنا الفقير فأوحى الله تعالى إليه أما تعرف من الغريب ومن المريض ومن الفقير قال لا قال الغريب الذي ليس له مثلي حبيب والمريض الذي ليس له مثلي طبيب والفقير من ليس له مثلي وكيل.
حكاية: أخبر ابن داب عن رياح بن حبيب العامري أنه سأله عن ليلى والمجنون فقال كانت ليلى من بني الجريش وهي بنت مهدي بن سعد بن مهدي بن ربيعة بين الجريش وكانت من أجمل النساء وأحسنهن جسماً وعقلاً وأفضلهن أدباً وأملحهن شكلاً وكان المجنون كلفاً بمحادثة النساء صباً بهن فبلغه خبر ليلى ونعتت له فصبا إليها وعزم على زيارتها فتأهب لذلك فارتحل إليها وأتاها وسلم عليها فردت عليه السلام وتخفت في المسئلة وجلس إليها فحادثته وحادثها وكل واحد منهما مقبل على صاحبه معجب به فلم يزالا كذلك حتى أمسيا فانصرف إلى أهله فبات بأطول ليلة
شوقاً إليها حتى إذا أصبح عاد إليها فلم يزل عندها حتى أمسى ثم انصرف إلى أهله فبات بأطول من الليلة الأولى واجتهد أن يهجع فلم يقدر على ذلك فأنشأ يقول شعر:
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا
…
لي الليل هزتني إليك المضاجع
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى
…
ويجمعني والهم بالليل جامع
لقد نبتت في القلب منك مودة
…
كما نبتت في الراحتين الأصابع
حكاية: نقل أن الرشيد كانت عنده جارية يحبها محبة شديدة وكانت سوداء واسمها خالصة جالسة عنده وعليها من الجواهر والدرر ما شاء الله تعالى وكان لا يفارقها ليلاً ونهاراً فدخل عليه أبو نواس ومدحه بأبيات بليغة فلم يلتفت إليه وبقي مشغولاً بالجارية فحصل لأبي نواس غبن في نفسه فخرج وكتب على باب الرشيد:
لقد ضاع شعري على بابكم
…
كما ضاع عقد على خالصة
فقرأه بعض حاشية الملك ثم دخل وأخبره بذلك فقال علي بأبي نواس فلما دخل عليه من الباب محا تجويف العين من الموضعين من لفظ ضاع وأبقى أولهما على صورة الهمزة ثم أقبل على الملك فقال له ما كتبت على الباب قال كتبت:
لقد ضاء شعري على بابكم
…
كما ضاء عقد على خالصة
فأعجب الرشيد ذلك وأجازه بألف درهم وقال بعض من حضر هذا شعر قلعت عيناه فأبصر.
حكاية: قيل إن الرشيد حلف أن يدخل على جارية له أياماً وكان يحبها فمضت الأيام ولم تسترضه فقال شعر:
صد عني أذراني مفتتن
…
وأطال الصبر لما أن عطن
كان مملوكي فأضحى مالكي
…
إن هذا من أعاجيب الزمن
ثم أحضر أبا العتاهية وقال له أجزها فقال:
عزة الحب أرته ذلتي
…
في هواه وله وجه حسن
فلهذا صرت مملوكاً له
…
ولهذا شاع ما بي وعلن
حكاية: قيل إن امرؤ القيس أودع السموأل بن عاديا قبل موته دروعاً وسلاجاً فأرسل ملك كندة يطلب الدروع والسلاح المودعة عنده فقال السموأل لا أدفعه إلا لمستحقه وأبى أن يدفع إليه شيئاً منها فعاوده فأبى وقال لا أعذر بذمتي ولا أخون أمانتي ولا أترك الوفاء الواجب علي فقصده ذلك الملك بعسكره فدخل السموأل في
حصنه وامتنع به فحاصره ذلك الملك وكان ولد السموأل خارج الحصن فظفر به ذلك الملك فأخذه أسيراً ثم طاف به حول الحصن وصاح بالسموأل فلما أشرف عليه من أعلا الحصن قال له إن ولدك قد أسرته وهاهو معي فإن سلمت إلي الدروع والسلاح التي لامرأ القيس عندك رحلت عنك وسلمت إليك ولدك وإن امتنعت من ذلك ذبحت ولدك وأنت تنظر فاختر أيهما شئت فقال له السموأل ما كنت لأخفر ذمامي وأبطل وفائي فاصنع ماشئت فذبح ولده وهو ينظر ثم لما أن عجز عن الحصن رحل خائباً واحتسب السموأل ذبح ولده وصبر محافظة على وفائه فلما جاء الموسم وحضرت ورثة امرؤ القيس سلم إليهم الدروع والسلاح ورأى حفظ ذمامه ورعاية وفائه أحب إليه من حياة ولده وبقائه فصارت الأمثال بالوفاء تضرب بالسموأل وإذا مدحوا أهل الوفاء في الأنام ذكروا السموأل في الأول.
حكاية: عن الأصمعي قال دخلت البادية وإذا أنا بعجوز بين يديها شاة مقتولة وإلى جانبها جرو ذئب فقالت أتدري ما هذا فقلت لا قالت هذا جرو ذئب أخذناه صغيراً وأدخلناه بيتنا وربيناه فلما كبر فعل بشاتي ما ترى وأنشدت تقول شعر:
قتلت شويهتي وفجعت قومي
…
وأنت لشاتنا ابن ربيب
غذيت بدرها وغدرت فيها
…
فمن أنباك أن أباك ذيب
إذا كان الطباع طباع سوء
…
فلا أدب يفيد ولا أديب
وقريب من هذا قول القائل:
من يصنع المعروف في غير أهله يلاقي كما لاقى مجير أم عامر وعنه أيضاً قال كنت عند الرشيد إذ دخل علينا رجل ومعه جارية للبيع فتأملها الرشيد ثم قال خذ بيد جاريتك فلولا كلف في وجهها لاشتريناها منك فلما بلغ الستر قالت يا أمير المؤمنين ذرني أنشدك بيتين قد حضراني فردها فأنشأت تقول شعر:
ما سلم الظبي على حسنه
…
كلا ولا البدر الذي يوصف
فالظبي فيه خنس بيّن
…
والبدر فيه كلف يعرف
فأعجبته بلاغتها فاشتراها وقرب منزلتها وكانت أعز وصائفة عنده.
حكاية: قيل إن الهيثم بن الربيع كان فصيحاً جباناً كذاباً وكان له سيف يسمى لعاب المنية ليس بينه وبين الخشب فرق قال ظهر لي ظبي فرميته فراغ عن سهمي فعارضه السهم
فعارضه السهم فما زال والله يروغ ويعارضه حتى صرعه وحدث جار له قال دخل إلى بيته كلب في بعض الليالي فظنه لصاً فانتضى سيفه ووقف في وسط الدار وقال أيها المغتر بنا والمجترئ علينا بئس والله ما اخترت لنفسك خير قليل وسيف صقيل أخرج بالعفو عنك قبل أن أدخل بالعقوبة عليك أن ادع الله لك قيساً لا تقم لها وقيس تملأ والله لك الفضا خيلا ورجالاً فخرج الكلب فقال الحمد لله الذي مسخك كلباً وكفانا حرباً.
حكاية: عن مخارق المغنى قال تطفلت تطفيلة قامت على أمير المؤمنين المعتصم بمائة ألف درهم فقيل له كيف ذاك قال شربت مع المعتصم ليلة إلى الصبح فلما أصبحنا قلت له يا سيدي إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي فأخرج فانتسم في الرصافة إلى وقت انتباه أمير المؤمنين قال نعم فأمر البوابين فتركوني قال فجعلت أمشي في الرصافة فبينما أنا أمشي إذ نظرت إلي جارية كأن الشمس تطلع من وجهها فتبعتها ومعها زنبيل فوقفت على صاحب فاكهة فاشترت منه سفرجلة بدرهم ورمانة بدرهم وكمثراة بدرهم فتبعتها فالتفتت فرأتني خلفها أتبعها فقالت لي ارجع يا ابن الفاعلة لا يراك أحد فتقتل قال ثم التفتت
فنظرت إلي وشتمتني ضعف ما شتمتني في المرة الأولى ثم جاءت إلى باب كبير فدخلت فيه وجلست بجنب الباب وذهب عقلي ونزلت الشمس وكان يوماً حاراً فلم ألبث أن جاء فتيان على حمارين فأذن لهما صاحب المنزل فدخلا ودخلت معهما فظن رب المنزل أني جئت مع صديقيه وظن الرجلان أن صاحب المنزل قد دعاني وجيء بالطعام فأكلوا وغسلوا أيديهم ثم قال لهم رب المنزل هل لكم في فلانة قالوا إن تفضلت فخرجت تلك الجارية بعينها وقدامها وصيفة تحمل عوداً لها فوضعته في حجرها فغنت فطربوا وشربوا وهي تلاحظني وتشك فيّ فقالوا لمن هذا يا ستنا فقالت لسيدي مخارق قال فلم أصبر (فقلت) لها يا جارية هات العود فناولتنيه فغنيت الصوت الذي غنته أولاً فقاموا وقبلوا رأسي قال بعض الأدباء وكان أحسن الناس صوتاً ثم غنيت الثاني والثالث فكادت عقولهم تذهب فقالوا من أنت يا سيدنا قلت أنا مخارق قالوا فما سبب مجيئك فقلت طفيلي أصلحكم الله تعالى وأخبرتهم خبري فقال صاحب البيت لصديقيه قد
تعلمان أني أُعطيت بها ثلاثين ألف درهم فأبيت أن أبيعها وأردت الزيادة وقد نقصت من ثمنها عشرة آلاف درهم فقال الرجلان علينا عشرون ألفاً وملّكوني الجارية وقعد المعتصم فطلبني في الرصافة فلم أصب وتغيظ عليّ وقعدت عندهم إلى العصر وخرجت بها فكلما مررت بموضع شتمتني فيه قلت لها يا مولاتي أعيدي شتمك عليّ فتأبى وأخذت بيدها حتى جئت إلى باب أمير المؤمنين ويدي في يديها فلما رآني المعتصم سبني فقلت يا أمير المؤمنين لا تعجل علي فحدثته فضحك وقال لي أفأكافهم عنك يا مخارق قلت نعم فأمر لكل رجل منهم بثلاثين ألف درهم وأمر لي بعشرة آلاف درهم.
حكاية: كان بعض العباد مقيماً في بعض الجبال وكان يأتيه رزقه كل يوم من حيث لا يحتسب رغيف يسد به جوعه ويشد به صلبه فلم يأته في يوم من الأيام ذلك الرغيف فطوى ليلته ذلك فلما أصبح زاد جوعه وكان في أسفل الجبل قرية سكانها نصارى فنزل العابد من الجبل يلتمس قوتاً من القرية فوقف على باب وطلب طعاماً من أهله يسد به جوعه فدفع إليه رب المنزل ثلاثة أرغفة فأخذها وتوجه قاصد الجبل وكان لصاحب البيت كلب فاتبع العابد وجعل ينبح عليه فألقى إليه رغيفاً فأكل الكلب ذلك الرغيف ثم أتبع العابد وأخذ في النباح حتى كاد أن يعقره فألقى إليه رغيفاً آخر فتشاغل به وذهب العابد إلى أن
توسط الجبل فأكل الكلب الرغيف الآخر واقتفى أثر العابد فألقى إليه الرغيف الثالث فأكله ثم أتبع العابد وأخذ في النباح فالتفت العابد إليه وقال يا عديم الحياء أخذت من بيت صاحبك ثلاثة أرغفة وقد أطعمتك إياها فما تريد مني فأنطق الله الكلب فقال ما عديم الحياء إلا أنت اعلم أنني مقيم بباب هذا النصراني منذ سنين وربما أطوي اليومين والثلاثة بلا شيء ولم تحدثني نفسي بالذهاب عن بابه إلى باب غيره وأنت قد انقطع قوتك يوماً واحداً فلم تصبر وتوجهت من بابه إلى باب نصراني تطلب منه قوتاً فقل لي أينا أقل حياء فخجل العابد وندم على فعله ولم يعد إلى ذلك.
حكاية: أخبرني بعض المحبين أن رجلاً سنياً أرسل إلى رجلٍ شيعي شيئاً من الحنطة وكانت عتيقة فردها عليه ثم أرسل إليه عوضها جديدة ولكن فيها تراب فكتب إليه قبولها هذا.
بعثت لنا بدال البربرا
…
رجاءً للجزيل من الثواب
رفضناه عتيقاً وارتضينا
…
به إذ جاء وهو أبو تراب
حكاية: قال الأصمعي حججت مرة فبينا أنا أسير في جماعة من العرب إذ سمعت من هودج قريب مني قائلة تقول شعر:
وحياة حاجته إليّ وفقره
…
فلابد لن نعيمه بعذابه
ولأمنعنّ جفونه طيب الكرى
…
ولأمزجنّ دموعه بشرابه
قال فدنوت من الهودج وقت بم استحق هذا العقاب فبرز إليّ وجه كأنه القمر وقالت شعر:
كم باح باسمي بعد ما كتم الهوى
…
زمناً وكان صيانتي أولى به
وحياته لو أنه كتم الهوى
…
بلغ المنى ويداه تحت ثيابه
حكاية: عن ابن مريم قال كنت حاجاً في بعض السنين فأتيت مسجد رسول الله صلى عليه وسلم فإذا أنا بأعرابي يركض على بعيره حتى أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعقل بعيره ثم دخل يؤم القبر فلما نظر إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بأبي أنت وأمي لقد بعثك الله بشيراً ونذيراً وأنزل عليك كتاباً مستقيماً علمك فيه علم الأولين والآخرين فقال ولو أنَّهم إذْ ظلموا أنفسهمْ جاؤك فاستغفروا اللهَ واستغفرَ لهمُ الرسول لوجدوا اللهَ توّاباً رحيماً وإني لأعلم أن ربك منجز لك ما وعدك وها أنا قد أتيتك مقراً بالذنوب
مستشفعاً بك عند ربك عز وجل ثم أمضى وأنشأ يقول شعراً:
يا خير من دُفنت بالقاع أعظمه
…
فطاب من طيبهن القاع والإكمُ
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه
…
فيه العفاف وفيه الجود والكرمُ
حكاية: عن الأصمعي قال بينما أنا أتطوف حول الكعبة إذذا برجل على قفاه كارة وهو يطوف فقلت له أتطوف وعليك كارة فقال هذه والدتي التي حملتني في بطنها تسعة أشهر أريد أن أؤدي حقها فقلت له ألا أدلك على ما تؤدي به حقها قال لي وما هو قلت تزوجها فقال يا عدو الله تستقبلني في أمي بمثل هذا قال فرفعت يدها فصفعت قفا ابنها وقالت لم إذا قيل لك الحق تغضب.
حكاية: عن القاضي يحيى بن أكثم قال بت ليلة عند المأمون فعطشت في جوف الليل فقمت لأشرب ماء فرآني المأمون فقال مالك يا يحيى قلت يا أمير المؤمنين أنا والله عطشان قال ارجع إلى موضعك فقام والله إلى محل الماء فجاءني بكوز ماء وقام على رأسي فقال اشرب يا يحيى
فقلت يا أمير المؤمنين هلا وصيف أو وصيفة قال إنهم نيام قلت كنت أقوم لشربي فقال لي لذم بالرجل الذي يستخدم ضيفه ثم قال يا يحيىفقلت لبيك يا أمير المؤمنين قال ألا أحدثك قلت بلى يا أمير المؤمنين قال حدثني الرشيد قال حدثني المهدي قال حدثني المنصور عن أبيه عكرمة ابن عباس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد القوم خادمهم.
حكاية: قيل إن الرشيد هجر جارية له ثم لقيها في بعض الليالي في القصر سكرى وعليها رداء خزوهي تسحب أذيالها من التيه فراودها فقالت يا أمير المؤمنين هجرتني في هذه المدة وليس لي علم بموافاتك فانظرني حتى أتهيأ للقائك وآتيك بالغداة فلما أصبح قال للحاجب لا تدع أحداً يدخل عليّ وانتظرها فلم تجيء فقام ودخل عليها وسألها إنجاز الوعد فقالت يا أمير المؤمنين كلام الليل يمحوه النهار فخرج واستدعى من الباب من الشعراء فدخل عليه الرقاشي ومصعب وأبو نواس فقال أجيزوا كلام الليل يمحوه النهار.
فقال الرقاشي
أتسئلوها وقلبك مستطار
…
وقد منع القرار فلا قرار
وقد تركت صبّاً مستهاما
…
فتاة لا تزور ولا تزار
إذا ما زرتها وعدت وقالت
…
كلام الليل يمحوه النهار
وقال مصعب شعرا:
أما والله لو تجدين وجدي
لما وسعتك في بغداد دار
أما يكفيك أن العين عبرى
وفي الأحشاء من ذكرك نار
وأين الوعد سيدتي
فقالت كلام الليل يمحوه النهار
فقال أبو نواس وأجاد:
وخود أقبلت في القصر سكرى
…
ولكن زين السكر الوقار
وقد سقط الرداء عن منكبها
…
من التجميش وانحل الإزار
وهز الريح اردا فاثقاً لا
…
وغصناً فيه رمان صغار
فقلت لها عديني منك وعداً
…
فقالت في غد منك المزار
ولما جئت مقتضياً أجابت
…
كلام الليل يمحوه النهار
فقال الرشيد قاتلك الله تعالى يا أبا نواس كأنك ثالثنا وأمر لكل واحد بخمسة آلاف درهم ولأبي نواس بعشرة آلاف درهم وخلعة سنية.
حكاية: عن أبي الحسن بن أدين البصير النحوي رحمه الله تعالى قال حضرت مع والدي مجلس كافور الإخشيدي وهو غاص بالناس فدخل إليه رجل وقال في دعائه أدام الله أيام سيدنا فكسر الميم من الأيام وفطن بذلك جماعة من الحاضرين أحدهم صاحب المجلس حتى شاع ذلك فقام من أوساط الناس رجل فأنشأ يقول شعرا:
لا غرو أن لحن الداعي لسيدنا
…
أو غصّ من دهش بالريق أو بهر
فمثل هيبته حالت جلالتها
…
بين الأديب وبين القول بالحصر
إن يكن حفظ الأيام عن غلط
…
في موضع النصب لا عن قلة البصر
قد تفاءلت من هذا لسيدنا
…
لفأل ماثورة عن سيد البشر
أن أيامه خفض بلا نصبٍ
…
إن أوقاته صفو بلا كدر
حكاية: عن عبد السلام بن الحسين البصري رحمه الله تعالى قال قصد الحسن بن سهل يوما قتنافس الناس إليه في الهدايا وكان رجلاً من أهل الأدب من الكتاب قعد به الزمان فقال لأهله قد تنافس الناس إلى هذا الرجل في الهدايا ولو جمعت جميع ما تحوي عليه يدي ما بلغ ألف دينار ولكن سأتلطف له في الهدية فعمد إلى أشنان وملح مطيب فجعلهما في جوفة وختمها وكتب إليه والله يا سيدي لو كانت الجدة على قدر الهمة لكنت أحد المتنافسين في برك المسارعين إلى ودك لكن الجدة قعدت بالهمة فقصرت عن مساواة أهل النعمة وخشيت أن تطوى صحيفة البر وليس لي فيها ذكر فوجهت إليك أعزك الله تعالى شيئاً حقيراً وصبرت على ألم العجز والتقصير وكان المعبر عني قول الله عز وجل: (ليسَ على الضعفاءِ ولا على المرضى ولا على الذينَ لا يجدونَ ما ينفقونَ حرجٌ إذا نصحُوا للهِ ورسولِه ما على المحسنينَ من سبيلٍ واللهُ غفورٌ رحيمٌ) وكتب في أسفلها شعر:
نافس في الهدية كل قوم
…
إليك غداة فصد الباسليق
لم أر كالدعاء أعم نفعاً
…
بلغ في مكافأة الصديق
وجهت الدعاء وقلت ربي
…
قيك شرور آفات العروق
فكتب إليه الحسن بن سهل والله يا سيدي ما وردت إلي هدية أحسن من هديتك ولا تحفة أجمل من تحفتك وقد بعثت إليك بألف دينار لتصرفها في مهماتك وأخذ الرقعة ودخل بها على المتوكل فلما قرأها عليه قال له لا أم لك كم حملت إلى هذا الرجل
قال ألف دينار قال فاحمل إليه من خزانتي مائة ألف درهم.
حكاية: عن الأصمعي رحمه الله تعالى قال خرجت هارباً من البصرة من وال بها فصرت إلى البادية فأقمت بها ما شاء الله ثم قدم أعرابي من البصرة فسألته عن أخبارها فقال مات واليها فقلت بشرك الله بخير فإني كنت هارباً منه فقال لي كفيت الهم ثم أنشد شعراً:
صبّر النفس عند كل مهم
…
إن في الصبر حيلة المحتال
لا تضيقن في الأمور فقد تف
…
رج غماؤها بغير احتيال
بما تجزع النفوس من الأمر
…
هـ فرجة كحل العقال
حكاية: عن الجاحظ قال مر أبو علقمة ببعض طرق البصرة وهاجت به مرة فسقط فظن من رآه أن مجنون فأقبل رجل يعصر أصل أذنه ويؤذن فيها فأفاق فنظر إلى الجماعة حوله
فقال ما لكم تكأكأتم عليّ كتكأكئكم على ذي جنة افرنقعوا عني قال فقال بعضهم لبعض دعوه فإن شيطانه يتكلم بالهندية.
حكاية: قيل إن رجلاً ساقه الله تعالى إلى جزيرة النساء فأردن قتله فرحمته امرأة منهن وحملته على خشبة وسيبته في البحر فلعبت به الأمواج فرمته في بعض بلاد الصين فأخبر ملك تلك البلاد بما رأى من النساء وكثرة الذهب فوجه الملك مركباً ورجلاً معه فأقاموا زماناً طويلاً في البحر يطوفون على تلك الجزيرة فلم فلم يقفوا بها على أثر والله أعلم.
حكاية: عن ابن الخريف قال حدثني والدي قال أعطيت أحمد بن السب الدلال ثوباً وقلت بعه لي وبين هذا العيب الذي فيه لمن يشتريه وأريته خرقاً في الثوب فمضى وجاء في آخر النهار فدفع إليّ ثمنه وقال بعته على رجل أعجمي غريب بهذه الدنانير فقلت له وأريته العيب واعلمته به فقال لا والله نسيت ذلك فقلت لا جزاك الله خيراً امض معي إليه وذهبت معه وقصدنا مكانه فلم نجده فسألنا عنه فقيل إنه رحل إلى مكة مع قافلة الحاج فأخذت صفة الرجل من الدلال واكتريت دابة ولحقت بالقافلة وسألت عن الرجل فدللت عليه فقلت له الثوب الفلاني الذي اشتريته بالأمس من فلان بكذا وكذا فيه عيب فهاته فخذ ذهبك فقام وأخرج الثوب وأطاف على العيب حتى وجده فلما رآه قال يا شيخ أخرج ذهبي حتى أراه وكنت عند ما قبضته لم أميزه ولم أنتقده فلما رآه قال هذا ذهبي انتقده يا شيخ قال فنظرت فإذا هو مغشوش لا يساوي شيئاً فأخذه ورمى به وقال لي
قد اشتريت منك هذا الثوب على عيبه بهذا الذهب ودفع إلي بمقدار ذلك الذهب المغشوش ذهباً جيداً وعدت به.
حكاية: عن منصور كاتب الرشيد قال حججت مع يحيى بن خالد البرمكي وانا بالمدينة إذ رفع إلينا رجلاً يسمى معبداً نخاساً عنده قيان فقلت ليحيى هل لك أن تمضي إليه قال أفعل فسرنا غليه فعرض إلينا نيفاً وستين جارية ليس فيهن واحدة تصلح فمر في آخرهن غلام لم أظن أن مثله في الأرض حسناً وجمالاً فقلت هذا للبيع فقال نعم هو كاتب حسن مغن مطرب فقلت اعرضه فنظرت إلى خلق سوي ووجه نقي وقد شهى فقلت وما ثمنه قال ثلاثمائة دينار عليّ وهو يساوي ألفاً فأمرت الغلام فغنى:
ظفرتم بكتمان اللسان فمن لكم
…
بكتمان عين دمعها الدهر يذرف
حملت جبال الحب فوقي وإنني
…
لأعجز عن حمل القميص وأضعف
فقلت لغلامي ادفع إليه أربعمائة دينار وكسوة بمائة دينار وطيباً وادفع إلى الغلام هبة يصلح بها شأنه واجعل مركبه قريباً من مركبي بحيث أسمع صوته وأرى شخصه ففعل فلما كان يوم رحيلنا لم أسمع منه كلمة حتى أشرفنا على المنزل الذي ننزل فيه فتنفس نفساً كاد ينزع به كبده ثم ترنم شعراً:
وما كنت أخشى معبداً أن يبيعني
…
بمال ولو أضحت أنامله صفرا
أخوهم ومولاهم وصاحب سرهم
…
ومن قد نشا فيهم وعاشرهم دهرا
حنين ولم يمض لي غير ساعة
…
فكيف إذا سار المطي بنا شهرا
قال فلم أملك نفسي أن دعوته فقلت أتحب أن أردك إلى مولاك فقال إنك لفاعل قلت نعم قال أي والله يا مولاي قلت اذهب فأنت حر يا غلام رده وأعطه مائة دينار ووكل به من يوصله فقال لي يحيى أمثل هذا يعتق فقلت ويحك أو مثل هذا يملك فقال يحيى شعراً:
لا يوجد الجود إلا في معادنه
…
والبخل حيث أردت الدهر موجود
حكاية: عن علي بن الموفق قال سمعت حاتماً وهو الأصم يقول لقينا الترك وكان بيننا جولة فرماني تركي فقلبني عن فرسي ونزل عن دابته فقعد على صدري وأخذ بلحيتي هذه الوافرة وأخرج من خفه سكيناً ليذبحني فوحق سيدي ما كان قلبي عنده ولا عند سكينه إنما كان قلبي عند سيدي أنظر ماذا ينزل بي القضاء منه فقلت
سيدي إن قضيت عليّ أن يذبحني هذا فعلى الرأس والعين إنما أنا لك وملكك فبينا أنا أخاطب سيدي وهو قاعد على صدري أخذ بلحيتي ليذبحني إذ رماه بعض المسلمين بسهم فما أخطأ حلقه فسقط عني فقمت أنا إليه فأخذت السكين من يده فذبحته فانظروا إلى من كان قلبه عند سيده كيف ينجو من المهالك بلطفه وكرمه.
حكاية: عن بعض الأدباء قال رأيت رجلاً من بني عقيل في ظهره شرط كشرط الحجام فسألته عن سبب ذلك فقال إني كنت هويت ابنة عم لي وخطبتها فقالوا لا نزوجك إلا أن تجعل الصداق الشبكة وهي فرس سابقة لبعض بني بكر بن كلاب فتزوجتها على ذلك وخرجت أحتال في أن أسل الفرس من صاحبها لأتمكن من الدخول بابنة عمي فأتيت الحي الذي فيه الفرس بصورة جزار وما زلت أداخلهم إلى أن عرفت مبيت الفرس من الخباء الذي فيه الرجل ورأيت لها مهرة فاحتلت حتى دخلت البيت واختفيت تحت عهن كانوا قد
نفشوه ليغزل فلما جاء الليل وأتى صاحب المنزل وقد أصلحت له المرأة عشاء فجاء فجعلا يأكلان وقد استحكمت الظلمة ولا مصباح لهم وكنت ساغباً فأخرجت يدي وأهويت إلى القصعة فأكلت معهم فأحس الرجل بيدي فأنكرها وقبض عليها فقبضت على يد المرأة بيدي الأخرى فقالت له المرأة مالك ويدي فظن أنه قابض على يد امرأته فخلى يدي فخليت يد المرأة فأكلنا ثم أنكرت المرأة يدي فقبضت عليها فقبضت على يد الرجل فقال لها مالك فخلت يدي فخليت يده وانقضى الطعام واستلقى الرجل ونام فلما استلقى وأنا مراصدهم والفرس مقيدة في جانب البيت وابنتها في البيت غير مقيدة ومفتاح قيد الفرس تحت رأس المرأة فوافى عبد له أسود فنبذ حصاة فانتبهت المرأة وقامت إليه وتركت المفتاح في مكانها وخرجت من الخباء إلى ظهره ورميتها بعيني فإذا هو قد علاها فلما حصلا في شأنهما دببت فأخذت المفتاح وفتحت القفل وكان معي لجام شعر فأوجرته الفرس وركبتها وخرجت عليها من الخباء فقامت المرأة من تحت الأسود ودخلت الخباء ثم صاحت وذعرت الحي وأحسوا بي فركبوا في طلبي وأنا أكد الفرس وخلفي خلق منهم فأصبحت ولست أرى إلا فارساً واحداً برمح فلحقني وقد طلعت الشمس فأخذ يطعني فلا يصل إلى أكثر مما تراه في ظهري ولا فرسه تلحق بي فيتمكن مني ولا فرسي تبعدني حتى لا يمسني الرمح إلى أن
وافينا إلى نهر فصحت بالفرس فوثبتها وصاح الفارس بفرسه فلم تثب فلما رأيت عجزها عن العبور نزلت عن فرسي أستريح وأريحها فصاح بي الرجل فقلت مالك فقال يا هذا أنا صاحب الفرس التي تحتك وهذه بنتها فإذا قد أخذتها فاحفظها فإني والله ما طلبت عليها شيئاً قد إلا أدركته وكانت كالشبكة في التعلق بها فقلت له أما إذا نصحتني فوالله لأنصحنّك ولست بكذاب إنه كان من أمري البارحة كيت وكيت حتى قصصت عليه قصة المرأة والعبد وحيلتي في الفرس فأطرق ساعة ثم رفع رأسه إلي فقال لا جزاك الله من طارق خيراً فأخذت فرسي وقتلت عبدي وطلقت زوجتي.
حكاية: قيل إن قيصر ملك الشام والروم أرسل رسولاً إلى ملك فارس كسرى أنوشروان صاحب الإيوان فلما وصل ورأى عظمة الإيوان وعظمة مجلس كسرى على كرسيه والمولك في خدمته ميز الإيوان فرأى في بعض جوانبه اعوجاجاً فسأل الترجمان عن ذلك فقيل له ذلك بيت لعجوز كرهت بيعه عند عمارة الإيوان فلم ير الملك اكراهها على البيع
فأبقى بيتها في جانب الإيوان فذلك ما رأيت وسألت قال الرومي وحق دينه إن هذا الاعوجاج أحسن من الاستقامة وحق دينه إن هذا الذي فعله ملك الزمان لم يؤرخ فيما مضى لملك فأعجب كسرى كلامه فأنعم عليه ورده مسروراً محبوراً.
حكاية: عن يعقوب بن اسحق السراج قال قال لي رجل من أهل رومية ركبت بحر الزنج فألقتني الريح في جزيرة العور فوصلت إلى مدينة أهلها قامتهم كلها ذراع وأكثرهم عور فاجتمع علي منهم جمع وساقوني إلى ملكهم فأمر بحبسي في قفص فكسرته فأمنوني وتركوا الاحتجار علي فلما كان في بعض الأيام رأيتهم قد استعدوا للقتال فسألتهم عن ذلك فقالوا لنا عدوّ يأتينا في كل سنة ويحاربنا وهذا أوانه فلم ألبث إلا قليلاً حتى طلع علينا عصابة من الطيور الغرانيق وكان ما بهم من العور من نقر الغرانيق فحملت الطيور عليهم وصاحت بهم فلما رأيت ذلك شددت وسطي وأخذت عصا وشددت بها عليها وحملت فيها وصحت صيحة منكرة ورميت منهم جماعة فصاحوا وطاروا هاربين مني فلما رأى أهل الجزيرة ذلك أكرموني وأعظموني وأفادوني مالاً وسألوني الإقامة عندهم فلم أفعل فحملوني في مركب وجهزوني وذكر رسطاطاليس أن الغرانيق ينتقل من بلاد خراسان إلى بلاد مصر حيث مسيل النيل فتقاتل أولئك العور في طريقهم
وهم قوم في طول ذراع والله أعلم.
حكاية: عن بعض أدباء الشام قال لقيت رجلاً في وجهه خموش كثيرة فسألته عنها فقال كنت في بحر الزنج مع جماعة فألقتنا الريح إلى جزيرة سكسار فلم نستطع أن نخرج منها لشدة الريح فأتانا قوم وجوههم وجوه الكلاب وأبدانهم أبدان الناس فسبق إلينا واحد منهم بعصا كانت معه ووقف جماعة من ورائنا فساقونا إلى منزلهم فرأينا فيها جماجم وقحوفاً وسوقاً وأذرعاً وأضلاعاً كثيرة فأدخلونا بيتاً فيه انسان ضعيف وجعلوا يأتون بأكل كثير وطعام غزير وفواكه طيبة فقال لنا ذلك الرجل إنما يطعمونكم لتسمنوا وكل من سمن أكلوه قال فجعلت أقلل أكلي دون أصحابي وصاروا كلما سمن واحد ذهبوا به واكلوه حتى بقيت وحدي وذلك الرجل الضعيف فقال لي الرجل يوماً إن هؤلاء قد حضرهم عيد يخرجون إليه ويغيبون فيه ثلاثة أيام فإن استطت أن تنجو بنفسك فانج وأما أنا فكما تراني لا أستطيع الحركة ولا أقدر على الهرب فانظر لنفسك فقلت جزاك الله الجنة وخرجت فجعلت أسير ليلاً وأختفي نهاراً فلما رجعوا من عيدهم فقدوني فتبعوني حتى يئسوا فرجعوا فلما يئست
منهم سرت في تلك الجزيرة ليلاً ونهاراً فانتهيت إلى الأشجار بها ثمر وفواكه وتحتها رجال حسان الصور إلا أن سيقانهم ليس لها عظام فقعدت لا أفهم كلامهم ولا يفقهون كلامي فلم أشعر إلا وواحد منهم قد ركب على رقبتي وطوق رجليه علي وأنهضني فنهضت به وجعلت أعالجه لأتخلص منه وأطرحه عني فلم أقدر وجعل يخمش وجهي بأظفاره المحددة فجعلت أدور به على الأشجار وهو يأكل من فواكهها وثمارها ويطعم أصحابه وهم يضحكون عليّ فبينما أنا أطوف به بين الأشجار إذ دخلت في عينه شوكة من شجرة فانحلت رجلاه عني فرميته عن رقبتي وسرت فنجاني الله بكرمه وهذه الخموش منه فلا رحم الله عظامه.
حكاية: قيل إن شاباً من عباد بني اسرائيل كان يتعبد في صومعته وكان من أجمل الناس وجهاً وكان يعمل القفاف ويبيعها في سوق بيت المقدس وكان اسمه يوحنا وكان لباسه المسوح وكان لونه كلون الياقوت في الصفاء من كثرة العبادة ويسطع من بين عينيه النور فمر ذات يوم بباب امرأة من المخدرات فنظرت إليه جارية من جواريها فقالت يا سيدتي قد مر ببابنا شاب من أجمل الناس وجهاً كأنه جوهر منظوم فقالت لها ويحك
أدخليه الدار حتى ننظر إليه ونشتري منه فجعل كلما دخل باباً أغلقوا الباب من ورائه حتى بلغ المجلس فإذا فيه شابة من أجمل الخلق جالسة على سرير مرصع بالجوهر وعليها قميص كأنه ماء مسكوب فبقيت شاخصة تنظر إليه لا تقدر على منع نفسها من رؤيته فقال لها يا أمة الله إما أن تشتري وإما أن أذهب فصارت تباسطه وهو يقول لها إما أن تشتري وإما أن أذهب فقالت له إنما أدخلتك بيتي لأحكمك في نفسي قال ويحك إني قرأت كتاب الله الإنجيل ولا ينبغي لمن قرأ كتاب الله الإنجيل أن يعصيه قالت له امش معي إلى داخل هذه الخزانة فإذا هي مملوءة ذهباً وجواهر فقالت هذا كله لك إن وافقتني على ما أريد فقال ائتني بماءٍ حتى أغتسل فلما اغتسل قدمت له منديلاً مضمخاً بالطيب والمسك والعنبر رجاء أن يتنشف فيه فلما رأى منها الجد قال لها إما أن تأذني لي بالذهاب وإما أن القي بنفسي من فوق هذا السطح وكان علوه ثمانين ذراعاً في الهواء فقالت لابد وإلا ألق نفسك فألقى نفسه فأمر الله تعالى الهواء أن يحبسه فأمسكه الهواء وبقي قائماً بقدرة الله تعالى ثم قال الله جل شأنه يا جبريل أدرك عبدي يوحنا يهلك نفسه خوفاً مني فأدركه جبريل ووضعه على الأرض سليماً
فانظر يا أخي إلى شدة مراقبة هذا الفتى لربه عز وجل ولولا فضل الله عليه لوقع في الفواضح والذلل.
حكاية: أخبر القزويني أن رجلاً من أصفهان ركبته ديون كثيرة ففارق اصفهان وركب بحر عجمان مع تجار فتلاطمت بهم الأمواج حتى وصلوا إلى الدر دور المعروف ببحر فارس فقال التجار للرئيس هل تعرف لنا سبيلاً إلى الخلاص نسعى فيه فقال إن سمح أحدكم بنفسه تخلصنا فقال الرجل الأصفهاني المديون في نفسه كلنا في موقف الهلاك وأنا قد كرهت الحياة وكان في السفينة جمع من أهل موطنه فقال لهم هل تحلفون بوفاء ديوني وخلاص ذمتي وأنا أفديكم بنفسي وتحسنون إلى عيالي ما استطعتم فحلفوا له على ذلك وفوق ما شرط فقال الأصفهاني للرئيس ما تأمرني أن أفعل قد أسلمت نفسي لله طلباً لخلاصكم إن شاء الله تعالى فقال له الرئيس آمرك أن تقف ثلاثة أيام على ساحل هذا البحر وتضرب على هذا الطبل ليلاً ونهاراً لا تفتر عن الضرب قلت أفعل إن شاء الله تعالى فأعطوني من الماء والزاد ما أمكن قال الأصفهاني فأخذت الطبل والماء والزاد وتوجهوا بي نحو الجزيرة وأنزلوني بساحلها وشرعت في ضرب
الطبل فتحركت المياه وجرى المركب وأنا أنظر إليهم حتى غاب المركب عن بصري فجعلت أطوف تلك الجزيرة وإذ أنا بشجرة عظيمة وعليها شبه سطح فلما كان الليل وإذا بهدة عظيمة فنظرت فإذا طائر ضخم في الخلقة قد سقط على ذلك السطح الذي في الشجرة فاختفيت خوفاً منه فلما كان الفجر انتفض الطائر بجناحيه وطار فلما كان الليل جاء أيضاً وحط على مكانه البارحة فدنوت منه فلم يتعرض لي بسوء ولا التفت إلي أصلاً وطار عند الصباح فلما كان ثالث ليلة وجاء الطائر على عادته وقعد مكانه فجئت حتى قعدت عنده من غير خوف ولا دهشة إلى أن نفض جناحيه فتعلقت بإحدى رجليه بكلتا يدي فطار بي إلى أن ارتفع النهار فنظرت إلى تحت فلم أر إلا لجة ماء البحر فكدت أن أترك رجله وأرمي بنفسي من شدة ما لقيت من التعب فصبرت زماناً ثم نظرت وإذا بالقرى والعمائر تحتي ففرحت وذهب ما كان بي من الشدة فلما دنا الطائر من الأرض رميت بنفسي على صبرة تبن في بيدر وطار الطائر فاجتمع الناس حولي وتعجبوا مني وحملوني إلى رئيسهم وحضر إلي من يفهم كلامي فأخبرتهم بقصتي فتبركوا بي وأكرموني وأمر لي بمال وأقمت عندهم أياماً فخرجت يوماً لأتفرج وإذا
أنا بالمركب الذي كنت فيه قد أرسى فلما رأوني أسرعوا إلي وسألوني عن أمري فأخبرتهم فحملوني إلى أهلي ونلت منهم فوق الشرط فعدت بخير وغنى وسلامة.
حكاية: قيل إن ملك الصين بلغه عن نقاش ماهر في النقش والتصوير في بلاد الروم فأرسل إليه وأشخصه وأمره بعمل شيء مما يقدر عليه من النقش والتصوير ليعلقه بباب القصر على العادة فنقش له في رقعة صورة سنبلة حنطة خضراء قائمة وعليها عصفور وأتقن نقشه وهيئته حتى إذا نظره أحد لا يشك في أنه عصفور على سنبلة خضراء ولا ينكر شيئاً من ذلك غير النطق والحركة، فأعجب الملك ذلك وأمره بتعليقه وبادر بإدرار الرزق عليه إلى انقضاء مدة التعليق فمضت سنة إلا بعض أيام ولم يقدر أحد على إظهار عيب أو خلل فيه، فحضر شيخ مسنّ ونظر إلى التمثال وقال هذا فيه عيب فأحضر إلى الملك وأحضر النقاش والتمثال، وقال ما الذي فيه من العيب؟ فأخرج عما وقعت فيه بوجه ظاهر ودليل وإلاّ حل بك الندم والتنكيل، فقال الشيخ أسعد الله الملك وألهمه السداد مثال أيّ شيء هذا الموضوع؟ فقال الملك مثال سنبلة من حنطة قائمة على ساقها وفوقها عصفور، فقال الشيخ
أصلح الله الملك أما العصفور فليس به خلل وإنما الخلل في وضع السنبلة. قال الملك: وما الخلل؟ وقد امتزج غضباً على الشيخ، فقال الخلل في استقامة السنبلة لأن في العرف أن العصفور إذا حط على سنبلة أمالها لثقل العصفور وضعف ساق السنبلة ولو كانت السنبلة معوجا مائلة لكان ذلك نهاية في الوضع والحكمة فوافق الملك على ذلك وسلم.
حكى: عن الشريف المرتضى رضي الله عنه: أنه كان جالساً في علية له تشرف على الطريق فمرّ به ابن المطرز الشاعر يجرّ نعلاً له بالية وهي تثير الغبار فأمر بإحضاره، وقال له أنشد أبياتك التي تقول فيها:
إذا لم تبلغني إليكم ركائبي
…
فلا وردت ماء ولا رعت العشبا
فأنشده إياها فلما انتهى إلى هذا البيت أشار الشريف إلى نعله البالية وقال:
أهذه كانت من ركائبك؟ فأطرق ابن المطرز ساعة، ثم قالك لما عادت هبات سيدنا الشريف إلى مثل قوله:
وخذ النوم من جفوني
…
قد خلعت الكرى على العشاق
عادت ركائبي إلى مثل ما ترى لأنك خلعت ما لا تملكه على من لا يقبل فخجل الشريف
منه وأمر له بجائزة فأعطوه.
حكاية: قيل إن الحجاج خرج يوماً متنزهاً، فلما فرغ من نزهته صرف عنه أصحابه وانفرد بنفسه فإذا هو بشيخ من عجل، فقال له من أين أيها الشيخ؟ قال من هذه القرية، قال كيف ترون عمالكم؟ قال شرّ عمال يظلمون الناس ويستحلون أموالهم. قال فكيف قولك في الحجاج؟ قال ذلك ما ولي العراق أشر من قبحه الله تعالى وقبح من استعمله. قال أتعرف من أنا؟ قال لا، قال أنا الحجاج فقال أتعرف من أنا؟ قال: لا. قال أنا مجنون بني عجل أصرع كل يوم مرتين. قال فضحك الحجاج وأمر له بصلة جليلة.
حكاية: قال بعض الأدباء كنت بمجلس لبعض أمراء بغداد وبين يديه طبق لوزينج إذ دخل عليه مجنون كان حلو الكلام فقال: أيها الأمير ما هذا؟ فرمى إليه بواحدة، فقال ثاني اثنين إذ هما في الغار فرمى إليه بأخرى، فقال فعززناهما بثالث فأعطاه ثالثة، فقال فخذ أربعة من الطير فألقى إليه رابعة، فقال خمسة سادسهم كلبهم فدفع إليه خامسة، فقال في ستة أيام فجعلها ستة، فقال سبع سماوات طباقا فصيرها سبعة، فقال ثمانية أزواج فرمى إليه بالثامنة، فقال وكان في المدينة تسعة رهط فرمى بها إليه، فقال إنّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر
شهراً فأكمل له اثني عشر، فقال إن يكن منكم عشرون فدفع إليه عشرين، فقال يغلبوا مائتين فأمر برفع الطبق إليه وقال كل يا ابن الفاعلة لا أشبع الله بطنك، فقال والله لو لم تفعل ذلك لقرأت لك وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون.
حكاية: قيل إن الهادي العباسي كان مغرماً بجارية تسمى غادر وكانت من أحسن الناس وجهاً وأكثرهن أدباً وألطفهن طبعاً وأطيبهن غناء، فبينما هي تنادمه ذات ليلة وتغنيه إذ تغير لونه وظهر أثر الحزن عليه، فقالت ما بال أمير المؤمنين لا أراه الله ما يكره؟ فقال وقع في فكري الساعة أني أموت وإن أخي هارون يلي الخلافة بعدي وإنك تكونين معه كما أنت معي الآن، فقالت لا أبقاني الله بعدك أبداً وأخذت تلاطفه وتزيل هذا الخيال من خاطره، فقال لابد أن تحلفي لي أيماناً مغلظة أن لا تقربي إليه بعدي فحلفت على ذلك وأخذ عليها العهود والمواثيق الغليظة، ثم خرج وأرسل إلى أخيه هارون وحلفه أن لا يخلو بغادر بعده وأخذ عليه من المواثيق والعهود ما أخذ عليها، فلم يمض إلا شهر حتى مات الهادي وانتقلت الخلافة إلى هارون فطلب الجارية فحضرت فأمرها بالأخذ في المنادمة، فقالت
وكيف يصنع أمير المؤمنين بتلك الأيمان والعهود، فقال قد كفرت عنك وعن نفسي، ثم خلا بها ووقعت من قلبه موقعاً عظيماً بحيث لم يكن يصبر ساعة عنها. فبينما هي ذات ليلة نائمة في حجره إذ استيقظت مذعورة، فقال ما بالك فدتك نفسي؟ قالت رأيت أخاك ينشد هذه الأبيات:
أخلفت عهدي بعدما
…
جاورت سكان المقابر
ونسيتني وحنثت في
…
أيمانك الزور الفواجر
ونحكت غادرة أخي
…
صدق الذي سماك غادر
لا يهنك الألف الحد
…
يد ولا تدر عنك الدوائر
ولحقتني قبل الصبا
…
ح وصرت حيث غدوت صائر
وأظن أني لاحقة به في هذه الليلة فقال فدتك نفسي إنما هذه أضغاث أحلام فقالت كلا، ثم ارتعدت واضطربت بين يديه حتى ماتت، أقول لقد صدق القائل كل له من اسمه نصيب، وأما نقض العهود وعدم المروءة والوفاء فمن شأن أكثر النساء ولله در القائل:
إن النساء شياطين خلقن لنا
…
نعوذ بالله من شرّ الشيطان
وقد أخطأ من قال:
إن النساء رياحين خلقن لكم
…
وكلكم يشتهي شم الرياحين
حكاية: قيل لما استوزر المنصور الربيع بن يونس وكان ذا عقل وأدب جعل الربيع لا يسأله حاجة أبداً، فاستظرف المنصور ذلك فأحضره يوماً وقال يا ربيع تنقبض عن مثلي بحوائجك، فقال يا أمير المؤمنين ما تركت ذلك أني وجدت لها موضعاً غيرك ولكنني ملت إلى التخفيف فقال له اعرض عليّ ما تحب، فقال له يا أمير المؤمنين حاجتي أن تحب ابني الفضل، فقال له ويحك إن المحبة لا تقع ابتداء ولكن تقع بأسباب، فقال أوجدك الله السبيل إليها. قال وما ذاك؟ قال تنعم عليه فإذا أنعمت عليه أحبك فإذا أحبك أحببته. قال فتبسم المنصور وقال له ويحك لقد حببته إليه قبل أن يقع من هذا شيء بل أخبرني كيف اخترت المحبة دون غيرها؟ فقال يا أمير المؤمنين لأنك إذا أحببته كبر عندك صغير إحسانه وصغر عندك كبير إساءته وكانت حاجته لديك مقضية وذنوبه لديك مغفورة.
حكاية: رأيت في بعض التواريخ أن بعض الأعراب في البادية أصابته حمى في أيام القيظ
فأتى الأبطح وقت الظهيرة فتعرى في شديد الحرّ وطلى بدنه بزيت وجعل يتقلب في الشمس على الحصى، وقال سوف تعلمين يا حمى ما نزل بك وبمن ابتليت عدلت عن الأمراء وأهل الثراء ونزلت بي وما زال يتمرغ حتى عرق وذهبت حماه وقام وسمع في اليوم الثاني قائلاً قد حمّ الأمير بالمس، فقال الأعرابي أنا والله بعثتها إليه، ثم ولى هارباً.
حكاية: قيل إن بعض العلماء تخاصم مع زوجته فعوم على طلاقها، فقالت له اذكر طول الصحبة، فقال والله مالك عندي ذنب سوى ذلك.
حكاية: قيل إن امرأة كانت في المدينة شديدة الإصابة بالعين لا تنظر إلى شيء إلا دمرته فدخلت على أشعب تعوده وهو محتضر يكلم ابنته بصوت ضعيف ويقول يا ابنتي إذا مت فلا تنوحي عليّ وتندبيني والناس يسمعونك تقولين واأبتاه أندبك للصلاة والصيام والفقه والقرآن فيكذبونك ويلعنوني والتفت أشعب فرأى المرأة فغطى وجهه بكمه، فقال لها يا فلانة سألتك بالله إن كنت قد استحسنت شيئاً مما أنا فيه فصلي على النبي وآله، فقالت سخنت عينك وفي أيّ شيء أنت حتى أستحسنه إنما أنت في آخر رمق، فقال أشعب قد علمت ذلك ولكن قلت لئلا تكوني قد استحسنت خفة الموت عليّ وسهولة النزع فيشتد ما أنا فيه
فخرجت من عنده وهي تشتمه فضحك من كان حوله حتى أولاده ونساؤه، ثم مات رحمه الله تعالى.
حكاية: قيل إن ضبة بن أدّ كان له ابنان سعد وسعيد فخرجا إلى سفر فهلك سعد ورجع سعيد، ثم خرج والدهما ضبة بعد ذلك في الأشهر الحرم يسير ويتفحص عن ابنه وكان معه الحرث بن كعب، فبينما هما ذات يوم يتحدثان سائرين إذ مرابمكان، فقال الحرث لقيت بهذا المكان شاباً صفته كذا وكذا فقتلته وهذا سيفه، فقال له ضبة أرني السيف فأعطاه إياه وإذا هو سيف ابنه سعد، فقال له ضبة (الحديث ذو شجون) ثم إن ضبة قتل الحرث فلامه الناس على استحلال الشهر الحرام، فقال (سبق السيف العذل) فصار مثلاً.
حكاية: أتى مكفوف نخاساً، فقال له اطلب لي حماراً ليس بالصغير المحتثر ولا بالكبير المشتهر، إن خلا الطريق تدفق وإن كثر الزحام ترفق لا يصادم في السواري ولا يدخلني تحت البواري، إن أقللت علفه صبر وإن كثرته شكر وإن ركبته هام وإن تركته نام، فقال له اصبر إن مسخ الله القاضي حماراً قضيت حاجيتك.
حكاية: أخبر الكلبي عن رجل من بني أمية قال حضرت معاوية وقد أذن للناس إذناً عاماً فدخلت امرأة فرفعت لثامها عن وجه كالقمر ومعها جاريتان لها فخطبت للقوم خطبة بهت لها كل من كان هناك، ثم قالت وكان من قدر الله تعالى أنك قربت زياداً واتخذته أخاً وجعلت له في آل أبي سفيان نسباً، ثم وليته على رقاب العباد يسفك الدماء بغير حلها ولا حقها وينتهك المحارم بغير مراقبة فيها ويرتكب من المعاصي أعظمها لا يرجو لله وقاراً ولا يظن أنه له معادا وغداً يعرض عمله في صحيفتك وتقف على ما اجترأ به بين يدي ربك، فماذا تقول لربك يا ابن أبي سفيان غداً وقد مضى من عمرك أكثره وأسرّه وبقي لك شره، فقال لها من أنت فقالت امرأة من بني ذكوان وثب زياد المدعي أنه من بني أبي سفيان على وراثتي من أبي وأمي فقبضها ظلماً واستولى على ضيعتي وممسكة رمقي، فإن أنصفت وعدلت فهو المراد وإلا وكلتك وزياداً إلى الله تعالى وإن أبقيت ظلامتي عنده وعندك فالمنصف لي منكما الحكم العدل فبهت معاوية منها وصار يتعجب من فصاحتها، ثم قال ما لزياد لعنه الله تعالى مع من ينشر مساوينا، ثم قال لكاتبه اكتب إلى زياد أن يرد لها ضيعتها ويؤدي لها حقها.
حكاية: قيل إن جارية مليحة الوجه حسنة الأدب كانت لفتى من قريش وكان يحبها حباً شديداً فأصابته ضيقة وفاقة
فاحتاج إلى ثمنها فحملها إلى العراق وكان ذلك في زمن الحجاج فابتاعها منه فوقعت عنده بمنزلة فقدم عليه فتى من أقاربه فأنزله قريباً منه وأحسن إليه فدخل على الحجاج يوماً والجارية تكبسه وكان للفتى جمال فجعلت الجارية تسارقه النظر ففطن الحجاج بها فوهبها له فدعا له وانصرف بها فباتت معه ليلتها وهربت بغلس فأصبح لا يدري أين هي وبلغ الحجاج ذلك فأمر منادياً ينادي برئت ذمة من رأى وصيفة صفتها كذا وكذا فلم يلبث أن أُتي له بها، فقال لها الحجاج يا عدوة الله كنت عندي من أحب الناس إليّ فاخترت لك ابن عمي وهو شاب حسن الوجه ورأيتك تسارقيه النظر فعلمت أنك شغفت به وبحبه فوهبتك له فهربت في ليلتك، فقالت يا سيدي اسمع قصتي ثم اصنع ما أحببت، قال هات، قالت كنت للفتى القرشي فاحتاج إلى ثمني فحملني إلى الكوفة، فلما دنونا منها دنا مني فوقع عليّ فسمع زئير الأسد فوثب وسلّ سيفه وحمل عليه وضربه فقتله وأتى برأسه، ثم أقبل عليّ وما برد ما عنده ثم قضى حاجته وإن ابن عملك هذا الذي
اخترته لي لما أظلم الليل قام إليّ وإنه لعلى بطني إذ وقعت فأرة من السقف فضرط ثم غشي عليه فمكث زماناً طويلاً وأنا أرش عليه الماء وهو لا يفيق فخفت أن يموت فتتهمني فيه فهربت فزعاً منك فما ملك الحجاج نفسه من شدة الضحك وقال: ويحك لا تعلمي بهذا أحداً، قالت شرط أن لا تردني إليه، قال لك ذلك.
حكاية: قيل إن بعض الحكماء لزم باب كسرى في حاجة دهراً فلم يلتفت إليه فكتب أربعة أسطر في رقعة ودفعها للحاجب فكان السطر الأول الضرورة والأمل أقدماني عليك، والسطر الثاني العديم لا يكون معه صبر عن المطالبة، والسطر الثالث الانصراف من غير فائدة شماتة الأعداء، والسطر الرابع إما نعم مثمرة وإما لا مريحة فلما قرأها كسرى دفع له بكل سطر ألف دينار.
حكاية: قيل إن رجلاً من العرب دخل على المعتصم فقربه وأدناه وجعله نديمه وصار يدخل على حريمه من غير استئذان، وكان له وزير كثير الحسد فغار من البدوي وحسده، وقال في نفسه لابد من مكيدة على هذا البدوي فإنه قد أخذ بقلب أمير المؤمنين وأبعدني منه فصار يتلطف بالبدوي حتى أتى به إلى منزله وصنع له طعاماً وأكثر فيه من الثوم، فلما أكل البدوي قال له احذر أن تقرب من الأمير فيشم منك رائحة الثوم فيتأذى لذلك فإنه يكره رائحته، ثم ذهب الوزير إلى أمير المؤمنين فخلا به، وقال إن البدوي
يقول عنك للناس إن أمير المؤمنين أبخر، فلما أتى البدوي طلبه المعتصم، فلما قرب منه جعل كمه على فمه مخافة أن يشم الأمير منه رائحة الثوم فلما رآه أمير المؤمنين وهو يستر فمه بكمه قال إن الذي قاله الوزير عن البدوي صحيح فكتب المعتصم كتاباً إلى بعض عماله يقول إذا وصل إليك كتابي هذا فاضرب رقبة حامله، ثم دعا البدوي ودفع إليه الكتاب وقال له امض به إلى فلان وجيء سريعاً بالجواب فامتثل البدوي ما رسم به المعتصم وأخذ الكتاب وخرج به من عنده بينما هو بالباب إذ لقيه الوزير، فقال له أين تريد؟ قال أتوجه بكتاب أمير المؤمنين إلى عامله فلان، فقال الوزير في نفسه إن هذا البدوي ينال من التقليد مالاً جزيلاً، فقال له ما تقول فيمن يريحك من هذا التعب الذي يلحقك في سفرك ويعطيك ألفي دينار؟ فقال له أنت الكبير وأنت الحاكم ومهما رأيته من الرأي افعل، فقال هات الكتاب فدفعه إليه وأعطاه الوزير ألفي دينار فركب الوزير وصار بالكتاب إلى المكان الذي هو قاصده، فلما قرأ
العامل الكتاب أمر بضرب عنقه وبعد أيام تذكر الخليفة في أمر البدوي وسأل عن الوزير فأخبر بأن له أياماً ما ظهر وأن البدوي بالمدينة مقيم، فتعجب المعتصم من ذلك وأمر بإحضار البدوي وسأله عن حاله فأخبره بالقصة التي اتفقت له مع الوزير من أولها إلى آخرها، فقال أنت قلت عني أني أبخر؟ فقال معاذ الله يا أمير المؤمنين كيف أتحدث بما ليسلي به علم؟ وإنما كان ذلك مكراً منه وخديعة وأعلمه كيف دخل به إلى بيته وأطعمه الثوم وما جرى له معه، فقال المعتصم قاتل الله الحسد بدأ بصاحبه فقتله، ثم خلع على البدوي واتخذه مكانه وزيراً وراح الوزير بحسده.
حكاية: قيل كان بالمدينة قينة من أحسن الناس وجهاً وأكملهم عقلاً وأكثرهم أدباً قد قرأت القرآن وروت الأشعار وتعلمت العربية فوقعت عند يزيد بن عبد الملك بمنزلة فأخذت بمجامع قلبه، فقال لها ذات يوم أمالك قرابة أو أحد تحبين أن أضيفه أو أسدي إليه معروفاً؟ فقالت يا أمير المؤمنين أما قرابة فلا ولكن بالمدينة ثلاثة نفر كانوا أصدقاء لمولاي وأحب أن ينالهم من خير ما صرت إليه فكتب إلى عامله بالمدينة في إحضارهم إليه، وأن يدفع إلى كل واحد منهم عشرة آلاف درهم. فلما وصولا إلى باب يزيد بن عبد الملك استؤذن لهم فدخلوا عليه فأكرمهم غاية الإكرام وسألهم عن حوائجهم، فأما اثنان فذكرا حوائجهم فقضاها
وأما الثالث فسأله عن حاجته؟ فقال يا أمير المؤمنين مالي حاجة فقال ويحك ولم؟ ألست أقدر على ما تطلب؟ قال بلى يا أمير المؤمنين ولكن حاجتي ما أظنك تقضيها فقال ويحك سلني فإنك لا تطلب حاجة إلا قضيتها. قال ولي الأمان يا أمير المؤمنين قال نعم ولك الأمان فقال إن رأيت يا أمير المؤمنين أن تامر جاريتك فلانة التي أكرمتنا من اجلها أن تغني لي ثلاث مرات أشرب عليها ثلاثة أرطال فافعل قال فتغير وجه يزيد وقام من مجلسه ودخل على الجارية وأعلمها فقالت وما عليك يا أمير المؤمنين فأمر بإحضار الفتى على كرسي ثالث ثم دعا بصنوف الرياحين والطيب فوضعت ثم أمر بثلاثة أرطال فملئت ثم قال للفتى سل حاجتك فقال تامرها يا أمير المؤمنين أن تغني فغنت:
لا أستطيع سلوّاً عن مودتها
…
ولو يصنع الحب بي فوق الذي صنعا
أدعو إلى هجرها قلبي فيسعدني
…
حتى إذا قلت هذا صادق فزعا
ثم شرب يزيد وشرب الفتى وشربت الجارية وقال للفتى سل حاجتك فقال يا أمير المؤمنين
تأمرها أن تغني فغنت:
مني الوصال ومنكم الهجر
…
حتى يفرق بيننا الدهر
والله لا أسلوكم أبداً
…
ما لاح بدر أو أضا فجر
ثم شرب يزيد وشرب الفتى وشربت الجارية وقال للفتى سل حاجتك فقال يا أمير المؤمنين تأمرها أن تغني فغنت:
أشارت بطرف العين خيفة أهلها
…
إشارة محزون ولم تتكلم
فأيقنت أن الطرف قد قال مرحبا
…
وأهلاً وسهلاً بالحبيب المتمم
قال فلم تتم الجارية الأبيات حتى خرّ الفتى مغشياً عليه، فقال يزيد للجارية قومي انظري إليه فقامت وحركته فإذا هو ميت، فقال لها يزيد ابكيه. فقالت يا أمير المؤمنين لا أبكيه وأنت حي، فقال ابكيه فوالله لو عاش لما انصرف إلا بك فبكت الجارية وبكى أمير المؤمنين بكاء شديداً، ثم أمر بالفتى فجهز ودفن وأما الجارية فلم تمكث بعده إلا أياماً قلائل وماتت.
حكاية: قيل دخل حسن بن الفضل على بعض الخلفاء وعنده كثير من أهل العلم فأحب الحسن أن يتكلم فزجره الخليف،
وقال أصبي يتكلم في هذا المقام؟ فقال يا أمير المؤمنين إن كنت صبياً فلست بأصغر من هدهد سليمان ولا أنت أكبر من سليمان عليه السلام إذ قال أحطت بما لم تحط به، ثم قال ألا ترى أن الله تعالى فهم الحكم لسليمان ولو كان الأمر بالأكبر لكان داود أولى.
حكاية: قيل إن الهدهد قال لسليمان عليه السلام إني أريد أن تكون في ضيافتي، فقال له سليمان أنا وحدي؟ فقال لا بل أنت والعسكر في جزيرة كذا يوم كذا، فمضى سليمان وجنوده إلى هناك وصعد الهدهد إلى الجو وصاد جرادة وكسرها ورمى بها في البحر، وقال يا نبي الله كلوا فمن فاته اللحم لم تفته المرقة فضحك سليمان وجنوده وأخذ بعض الشعراء فقال:
وكن قنوعاً فقد جرى مثل
…
إن فاتك اللحم فاشرب المرقة
حكاية: عن الجاحظ قال دخلت المدينة يوماً فوجدت فيها معلماً في هيئة حسنة فسلّمت عليه فرد عليّ السلام أحسن رد ورحب بي فجلست عنده وباحثته في القرآن والقراءة فإذا هو
في ذلك ماهر، ثم باحثته في الفقه والنحو والصرف وعلم المعقول وأشعار العرب فإذا هو فيها كامل محقق، فقلت هذا والله مما يقوّي عزمي، قال فكنت أختلف إليه وأزوره فجئت يوماً لزيارته وإذ بالكتاب مغلق ولم أجده فسألت عنه فقالوا مات له ميت فحزن عليه فجئت إلى بيته فطرقت الباب فخرجت إليّ جارية وقالت لي ما تريد، فقلت أريد فلاناً فدخلت وخرجيت، فقالت ادخل بسم الله ودخلت إليه فإذا به جالس وحده فقلت عظم الله أجرك لقد كان لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة كل نفس ذائقة الموت فعليك بالصبر، ثم قلت هذا الذي توفي ولدك، قال لا قلت فأخوك، قال لا قلت فما هو منك قال حبيبتي قلت في نفسي هذه أول القبائح فقلت يا سبحان الله النساء كثيرة وتجد غيرها، فقال أتظن أني رأيتها فقلت هذه شنيعة ثانية قلت له كيف عشقت من لم تره، فقال اعلم أني كنت جالس في هذا المكان وأنا أنظر إلى الطاق إذ رأيت رجلاً عليه برد وهو يقول:
يا أم عمرو جزاك الله مكرمة
…
ردي عليّ فؤادي أينما كانا
فقلت في نفسي لولا أن أم عمرو هذه بديعة الجمال فائقة على أمثالها ما قيل فيها الشعر فعشقتها فلما كان بعد يومين مر ذلك الرجل بعينه وهو يقول:
لقد ذهب الحمار بأم عمرو
…
فلا رجعت ولا رجع الحمار
فقلت أنها ماتت فحزنت عليها وجلست في العزاء، قال الجاحظ فتعجبت عجباً شديداً وعلمت أنه مغفل فودعته وسرت.
حكاية: قال الجاحظ ما أخجلني أحد قط إلا امرأة عارضتني في الطريق وقالت لي فيك حاجة فسرت في أثرها وذهبت بي إلى صائغ وقالت مثل هذا ومضت فبقيت مبهوتاً وسألت الصائغ. فقال هذه امرأة أرادت أني أعمل لها صورة شيطان فقلت ما أدري كيف صورته فجاءت بك وفي الجاحظ يقول الشاعر:
لو يمسخ الخنزير مسخاً ثانياً
…
ما كان إلا دون قبح الجاحظ
حكاية: قيل نزل رجل من الأكالين بصومعة راهب، فقدم له أربعة أرغفة وذهب ليحضر له عدساً فحمله وجاء به فوجده أكل الخبز، فذهب وأتى إليه بالخبز وحده فوجده أكل العدس ففعل ذلك معه عشر مرات فسأله الراهب أين مقصدك؟ فقال إلى الري، فقال له لماذا قصدت؟ قال بلغني أن بها طبيباً حاذقاً أسأله عما يصلح معدتي فإني قليل الاشتهاء للطعام،
فقال له الراهب إن لي إليك حاجة. قال وما هي؟ قال إذا ذهبت وصلحت معدتك فلا تجعل رجوعك إليّ ثانياً.
حكاية: قيل اجتمع أبو نواس ودعبل وأبو العتاهية في مجلس من مجالس الشراب فأقاموا فيه ثلاث أيام، فلما كان اليوم الرابع انصرفوا يريدون منازلهم، فقال أبو العتاهية عند من نحن اليوم بعد خروجنا من هذا المجلس؟ فقال أبو نواس في كل منكم فضيلة تعالوا نمتحن قرائحنا في شيء من الشعر فمن كان أشعر كنا عنده فبينما هم يتحدثون إذ أقبلت فتاة كأنها الدرة اليتيمة والجوهرة الثمينة مكللة بالزبرجد موشحة بالعسجد محلاة بالحلي والحلل مبرأة من النقائص والعلل وعليها ثلاثة أثواب من الحرير الأعلى أبيض والأوسط أسود والأسفل أحمر، فقال ابو نواس الحمد لله الذي فتح لنا بهذا فليقل كل منا في ثوب، فقال أبو العتاهية في الثوب الأبيض:
تبدى في ديبقي بياض
…
بأجفان وألحاظ مراض
فقلت له عبرت ولم تسلم
…
وإني منك بالتسليم راضي
تبارك من كسا خديك ورداً
…
وقدك مثل أغصان الرياض
فقال نعم كساني الله حسناً
…
ويخلق ما يشاء بلا اعتراض
فثوبي مثل ثغري مثل نحري
…
بياض في بياض في بياض
فقال دعبل في الثوب الأسود:
تبدى في السواد فقلت بدراً
…
تجلى في الظلام على العباد
فقلت له عبرت ولم تسلم
…
وأشمّت الحسود مع الأعادي
تبارك من كسا خديك ورداً
…
مدى اليام دام بلا نفاد
فقال نعم كساني الله حسناً
…
ويخلق ما يشاء بلا عناد
فثوبي مثل شعري مثل بختي
…
سواد في سوادٍ في سوادِ
فقال أبو نواس في الثوب الأحمر:
تبدى في قميص اللاذ يسعى
…
عذولي يلقب بالحبيب
فقلت من التعجب كيف هذا
…
لقد أقبلت في زيّ عجيب
أحمرة وجنتيك كستك هذا
…
أم أنت صبغته بدم القلوب
فقال الشمس أهدت لي قميصاً
…
قريبُ اللونِ من شفقِ الغروب
فثوبي والمدام ولون خدي
…
قريبٌ من قريبٍ من قريبِ
فما فرغوا من الأبيات إلا والجارية عندهم، فقالت السلام عليكم، فقالوا وعليك السلام. قالت لا بد من إطلاعي عليكم وعلى ما أنتم عليه وكيف انتهى بكم الحال فأخبروها بالقصة، فقالت والله لقد أجاد أبو نواس، ثم فارقتهم ومضت لشأنها.
حكاية: قال الشعبي وجهني عبد الملك إلى ملك الروم، فلما قدمت إليه ورأى مني جواباً مفحماً. قال لي من أهل بيت الخلافة أنت؟ قلت لا ولكني رجل من العرب فكتب إلى عبد الملك رقعة ودفعها إليّ، فلما قرأها عبد الملك قال أتدري ما فيها قلت لا، قال: فيها العجب لقوم فيهم مثل هذا كيف جعلوا أمورهم إلى عيره ثم قال أتدري ما أراد بهذا؟ قلت لا قال حسدني عليك فأراد أن أقتلك، فقلت إنما كبرت عنده يا أمير المؤمنين لأنه لم يرك فبلغ بعد ذلك ملك الروم ما قاله عبد الملك للشعبي، فقال لله دره ما عدا ما في نفسي.
حكاية: قيل دخلت بثينة على عبد الملك بن مروان، فقال يا بثينة ما أرى فيك شيئاً مما كان يقوله فيك جميل؟ قالت يا أمير المؤمنين إنه كان يرنو لي بعينين ليستا في رأسك. قال فكيف كان في عشقه؟ قالت كان كما قال:
لا والذي تسجد الجباه له
…
مالي بما تحت ذيلها خبر
ولا هممت ولا غمزت لها
…
ما كان إلا الحديث والنظر
حكاية: قال الأصمعي بينما أنا أسير في البادية إذ مررت بحجر كتوبة عليه هذا البيت:
أيا معشر العشاق بالله خبروا
…
إذا حل عشق بالفتى كيف يصنع
فكتبت تحته:
يداري هواه ثم يكتم سره
…
ويخشع في كل الأمور ويخضع
ثم عدت في اليوم الثاني فوجدت مكتوباً تحته هذا البيت:
وكيف يداري والهوى قاتل الفتى
…
وفي كل يوم قلبه يتقطع
فكتبت تحته:
إذا لم يجد صبراً لكتمان سره
…
فليس له شيءٌ سوى الموت ينفعُ
فعدت في اليوم الثالث، فوجدت شاباً ملقى تحت ذلك الحجر ميتاً وكتوب تحت هذه الأبيات:
سمعنا أطعنا ثم متنا فبلغوا
…
سلامي إلى من كان للوصل يمنع
هنيئاً لأرباب النعيم نعيمهم
…
وللعاشق المسكين ما يتجرع
حكاية: قيل اجتمعت بنو هاشم يوماً عند معاوية فأقبل عليهم وقال يا بني هاشم إن خيري لكم ممنوع وإن بابي لكم مفتوح فلا يقطع خيري عنكم ولا يرد بابي دونكم ولما نظرت في أمري وأمركم رأيت أمراً مختلفاً ترون أنكم أحق بما في يدي مني وإن أعطيتكم عطية فيها قضاء حقوقكم قلتم أعطانا دون حقوقنا وقصر بنا عن قدرنا فصرت كالمسلوب والمسلوب لا حمد له هذا مع إنصاف قائلكم وإسعاف سائلكم، قال فأقبل عليه ابن عباس رضي الله عنه وقال والله ما منحتنا حتى سألناك ولا فتحت لنا بابك حتى قرعناه ولئن قطعت عنا خيرك فخير الله أوسع من خيرك ولئن أغلقت دوننا بابك لنكفنّ عنك نفوسنا، وأما هذا المال فليس لك منه إلا ما لرجل من المسلمين ولولا حق لنا في هذا المال لم يأتك منا زائر أكفاك أم أزيدك؟ قال كفاني يا ابن عباس.
حكاية: قيل دخل عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه على معاوية بعدما كف بصره فأجلسه معاوية على سريره، ثم قال له: أنتم يا معاشر بني هاشم تصابون في أبصاركم، فقال له وأنتم يا بني أمية تصابون في بصائركم، فخجل معاوية ولم يردّ جواباً.
حكاية: أخبر الحسن بن سهل قال كنت يوماً عند يحيى بن خالد البرمكي، وقد خلا في مجلسه لإحكام أمر من أمور الرشيد، فبينما نحن جلوس إذ دخل علينا جماعة من أصحاب الحوائج، فقضاها لهم ثم توجهوا لشأنهم فكان آخرهم قياماً أحمد بن أبي خالد الأحول فنظر يحيى إليه والتفت إلى الفضل ابنه، فقال يا بني إن لأبيك مع أب هذا
الفتى حديث فإذا فرغت من شغلي هذا فذكرني أحدثك به، فلما فرغ من شغله قال له ابنه الفضل أعزك الله يا أبت أمرتني أن أذكرك حديث أبي خالد الأحول، فقال نعم يا بني لما قدم أبوك إلى العراق أيام المهدي كان فقيراً لا يملك شيئاً فاشتد بي الأمر إلى أن قال لي من في منزلي إنا قد كتمنا حالنا وزاد ضرنا، ولنا اليوم ثلاثة أيام ما عندنا شيء نقتات به قال فبكيت لذلك يا بني بكاء شديداً وبقيت حيران مطرقاً مفكراً، ثم تذكرت منديلاً كان عندي فقلت لهم ما حال المنديل قالوا موجود، فقلت افعوه إليّ فأخذته ودفعته إلى بعض أصحابي وقلت له بعه بما تيسر فباعه بسبعة عشر درهماً فدفعتها إلى أهلي وقلت لهم أنفقوها إلى أن يرزق الله
غيرها، ثم بكرت من غد إلى باب أبي خالد وزير المهدي، فإذا الناس وقوف على دوابهم ينتظرون خروجه، فخرج عليهم راكباً، فلما نظر إلي سلم عليّ وقال كيف حالك؟ فقلت يا أبا خالد ما حال رجل بيع بالأمس من منزله منديل بسبعة عشر درهماً، فنظر إليّ نظراً شديداً وما أجابني جواباً، فرجعت إلى أهلي كسير القلب وأخبرتهم بما اتفق لي مع أبي خالد، فقالوا بئس والله ما فعلت، مررت برجل كان يرتضيك لأمر جليل كشفت له سرك وأطلعته على مكنون أمرك، فأزريت عنده بنفسك وصغرت عنده منزلتك بعد أن كنت عنده جليلاً فما يراك بعد اليوم إلا بهذه العين، فقلت قد مضى الأمر الآن بما لا يمكن استدراكه، فلما كان من الغد بكرت إلى باب الخليفة فلما بلغت باب الخليفة استقبلني رجل فقال لي وقد ذكرت الساعة بمجلس أمير المؤمنين فلم ألتفت إلى قوله فاستقبلني آخر وقال لي كما قال الأول ثم استقبلني حاجب أبي خالد، فقال لي أين كنت قد أمرني أبو خالد أن أجلسك عندي إلى أن يخرج من عند أمير المؤمنين فجلست حتى خرج فلما رآني دعاني وأمر لي بمركوب فسرت إلى منزله، فلما نزل قال عليّ بفلان وفلان فأحضرا فقال ألم تشتريا مني غلات السواد بثمانية عشر ألف درهم؟ قالا نعم قال ألم أشترط عليكما شركة رجل معكما؟ قالا بلى قال هذا الرجل الذي اشترط شركته لكما، ثم قال لي قم معهما، فلما خرجنا من عنده قالا لي ادخل معنا بعض المساجد حتى نكلمك في أمر يكون لك فيه الربح الهنئ، وقالا إنك تحتاج في هذا الأمر إلى وكلاء وأمناء وكيالين وأعوان فهل لك أن تبيعنا شركتك بمال نجعله لك فتنتفع به ويسقط عنك التعب والنصب، فقلت لهما كم تبذلان لي، فقالا مائة ألف درهم
فقلت لا أفعل، فما زالا يزيداني وأنا لا أرضى إلى أن قالا ثلاثمائة ألف درهم ولا زيادة عندنا على هذا فقلت حتى أشاور أبا خالد قالا ذلك لك فرجعت إليه وأخبرته فدعا بهما، وقال هل وافقتماه على ما ذكر؟ قالا نعم، قال اذهبا فسلما إليه المال الساعة ثم قال لي أصلح أمرك وتهيأ فقد قلدتك العمل فأصلحت شأني وقلدني ما وعدني فما زلت في زيادة حتى صار من أمري ما صار، ثم قال لولده الفضل يا بنيّ فما تقولوا في ابن من فعل مع أبيك هذا الفعل فما جزاؤه؟ قال لعمري ما أجد له جزاء غير أن أعزل نفسي وأوليه ففعل ذلك.
حكاية: قيل خرج هارون الرشيد متنكراً إلى بعض الفرج فوجد صبياناً يلعبون وفيهم غلام
دميم ضعيف البدن قاعد يحفظ ثيابهم، وهو يقلب ثوباً ثوباً وينشد شعراً ويقول:
قولي لطيفك ينثني
…
عن مقلتي عند الهجوع
كيما أنام فتنطفي
…
نار توقد في ضلوعي
أما أنا فكما عهدت
…
فهل لوصلك من رجوع
دنف تقبله الأكف
…
على فراش من دموع
قال فتعجب الرشيد من قوله مع صغر سنه وشرع يؤانسه ويحادثه ويقول لمن هذا الشعر والغلام يصد عنه ثم اعترف أنه شعره فعظم ذلك عند الرشيد فقال له إن كان شعرك حقاً كما زعمت فابق المعنى وغير القافية فأنشد في الحال وقال:
قولي لطيفك ينثني
…
عن مقلتي عند المنام
كيما أنام فتنطفي
…
نار توقد في عظامي
أما أنا فكما عهدت
…
فهل لوصلك من دوام
دنف تقبله الأكف
…
على فراش من سقام
فتعجب الرشيد وقال له أحسنت إلا أن هذا محفوظ معك قال فامتحن قال فغير القافية واترك المعنى فأنشد في الحال وقال:
قولي لطيفك ينثني
…
عن مقلتي عند الرقاد
كيما أنام فتنطفي
…
نار توقد في فؤادي
أما أنا فكما عهدت
…
فهل لوصلك من نفاد
دنف تقبله الأكف
…
على فراش من قتاد
فقال الرشيد: أخبرني من أنت؟ فأخذ ثياب الصبيان على رأسه وصاح قاق قاق فعلم الرشيد أنه ديك الجن.
حكاية: قيل إن بهرام الملك خرج يوماً للصيد فانفرد ورأى صيداً فتبعه طامعاً في لحاقه حتى بعد عن أصحابه فنظر إلى راع تحت شجرة فنزل عن
فرسه ليبول، وقال للراعي احفظ عني فرسي حتى أبول فعمد الراعي إلى العنان وكان ملبساً ذهباً كثيراً فاستغفل بهرام وأخذ سكيناً وقطع طرف اللجام فرفع بهرام طرفه إليه فاستحى وأطرق ببصره إلى الأرض وأطال الجلوس حتى أخذ الرجل حاجته فقام بهرام وجعل يده على عينيه، وقال للراعي:
قدم إليّ فرسي فإنه دخل في عيني تراب من سافي الريح فما أقدر على فتحها فقدمه إليه فركب وسار إلى أن وصل إلى عسكره فقال لصاحب مركبه طرف اللجام وهبته فلا تتهم به أحداً.
حكاية: قيل إن كسرى أنوشروان كان أشد الناس تطلعاً إلى خفايا الأمور وأعظم خلق الله في زمانه بحثاً على الأسرار، وكان يبعث الجواسيس على الرعايا في البلاد ليقف على حقائق الأحوال ويطلع على غوامض القضايا فيعلم المفسد فيقابله بالتأديب ويجازي المصلح بالإحسان ويقول متى غفل الملك عن تعرّف ذلك فليس له من الملك إلا اسمه وسقطت من القلوب هيبته. وكان ممن تيقظ لأمر الرعية في سياسة الحكم وأمور البلاد الملك عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وكان معاوية بن أبي سفيان قد سلك طريق في ذلك.
حكاية: عن بعض مشايخ أهل المدينة قال كانت عند عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه جارية مغنية يقال لها عمارة، فلما وفد عبد الله على معاوية خرج بها معه فزاره يزيد ذات يوم وأقام عنده فأخرجها إليه، فلما نظر إليها وسمع غناءها وقعت في نفسه فأخذه عليها ما لم يملك نفسه معه ولم يزل يكتم أمره إلى أن مات معاوية وأفضى إليه الأمر وتقلد الخلافة يزيد فاستشار بعض من يثق به في أمرها فقال له أن أمر عبد الله لا يرام ولا يبيعها بشيء أبداً وليس يغني في هذا الأمر إلا الحيلة، قال فاطلب لي رجلاً من أهل العراق عاقلاً ظريفاً أديباً له معرفة ودراية فطلبوه فجاؤوا به، فلما دخل عليه استنطقه فرأى بياناً وحلاوة في كلامه فقال له إني دعوتك لأمر إن ظفرت به فلك عندي الجائزة العظمى ثم أخبره بأمره فقال يا أمير المؤمنين إن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه أمره لا يرام إلا بالخديعة ولن يقدر على ما سألت إلا رجل فأرجو أن أكون هو بحول الله وقوته فأعني بالمال يا أمير المؤمنين قال خذ ما أحببت فأخذ واشترى من طرف الشام ومتاعها للتجارة ومن كل شيء حسن حاجته وشخص إلى المدينة فأناخ بعرصة عبد الله بن جعفر رضي الله عنه وأكثر تنزلاً إلى جانبه، ثم توسل إليه
وقال أنا رجل من أهل العراق قدمت بتجارة وأحببت أن أكون بجوارك وكنفك إلى أن أبيع ما جئت به، فبعث عبد الله إلى قهارمته، وقال أكرموا جارنا وأوسعوا له في المنزل، فلما اطمأن العراقي وعرفه نفسه هيأ له بغلة فارهة وثياباً من ثياب العراق وبعث بها إليه وكتب رقعة يقول فيها يا سيدي إني رجل
تاجر ذو نعمة من الله سابغة وقد بعثت إليك بشيء من اللطائف وهو كذا ومن الثياب والعطر وهو كذا وبعثت إليك ببغلة فارهة وطيئة الظهر، وأنا أسألك بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقبل هديتي ولا توحشني بردها فإني محب لك ولأهل بيتك وإن أفضل ما في سفري هذا أن أستفيد الأنس بك وأتشرف بمواصلتك، فأمر عبد الله بقبض هديته وخرج إلى الصلاة، فلما رجع مر بالعراقي في منزله فقام إليه وقبل يديه وسلم عليه فلما نظر إلى فصاحته وبلاغته أحبه وسر بنزوله عليه، فجعل العراقي يبعث كل يوم بلطائف وطرف إلى عبد الله، فقال عبد الله: جزى الله ضيفنا هذا خيراً فقد ملأنا شكراً وأعيانا عن مجازاته، وإنهما لكذلك إذ دعاه عبد الله ودعا بعمارة، فلما تعشيا وطاب لهما المقام وسمع العراقي غناء عمارة تعجب وجعل يزيد في إعجابه إذ رأى ذلك يسر عبد الله إلى أن قال له أرأيت مثل عمارة؟ قال لا والله يا سيدي ما رأيت مثلها ولا تصلح إلا لك وما ظننت أنه يكون في الدنيا مثل هذه في حسنها ولطافتها. قال كم تساوي عندك؟ قال ما لها ثمن إلا الخلافة قال تقول هذا لما ترى من رائى فيها ولتجلب سروري قال والله يا سيدي إني لأحب سرورك وما قلت لك إلا الجد. وبعد فإني رجل تاجر أجمع الدرهم إلى الدرهم طلباً للربح ولو أعطيتها لي بعشرة آلاف دينار لأخذتها، قال عبد الله بعشرة آلاف دينار؟ قال نعم ولم تكن في ذلك الزمان جارية بعشرة آلاف دينار فقال عبد الله كالمازح إني أبيعكها بعشرة آلاف دينار؟ قال قد أخذتها، قال هي لك، قال قد وجب البيع وانصرف العراقي، فلما أصبح عبد الله لم يشعر إلا والمال قد وافاه، فقال عبد الله بعث العراقي بالمال؟ قالوا نعم بعشرة آلاف دينار. قال هذا ثمن عمارة فردها إليه، وقال إنما كنت مازحاً وأعلمك أن مثلي لا يبيع مثلها، قال جعلت فداك إن الجد والهزل في البيع سواء. قال له عبد الله ويحك لا أعلم موضع جارية تساوي ما بذلت ولو كنت بائعها من أحد لآثرتك عليه ولكني كنت أمازحك وما أبيعها بملك الدنيا لحرمتها وموقعها مني، فقال
العراقي أن كنت مازحاً فإني مجد وما أطلعت على ما في نفسك وقد ملكت الجارية وبعثت إليك بالثمن وليست تحل لك وما من أخذها بد، فلما رأى عبد الله الجد منه قال بئس الضيف هذا - إنا لله وإنا إليه راجعون - ثم أمر قهرمانه بقبض المال وتجهيز الجارية بمالها من الثياب والطيب فجهزت بنحو من ثلاثة آلاف دينار، ثم سلمها إلى قهرمانه وقال أوصل الجارية
مع ما معها وقل له هذا لك ولك عندنا عوض ما أكرمتنا به فقبض العراقي الجارية وخرج بها، فلما برز من المدينة قال لها يا عمارة إني والله ما ملكتك قط ولا أنت لي ولا مثلي يشتري جارية بعشرة آلاف دينار وما كنت لأقدم على عبد الله بن جعفر فأسلبه أحب الناس إليه لنفسي ولكني دسيس من قبل أمير المؤمنين وأنت له وبعثني في طلبك فاستتري مني فإن تاقت نفسي إليك فامتنعي، ثم مضى بها حتى ورد دمشق فتلقاه الناس يحملون جنازة يزيد وقد استخلف بعده ابنه معاوية فأقام الرجل أياماً ثم تلطف بالدخول عليه فشرح له القصة فقال له هي لك، فارتحل العراقي وقال للجارية إني قلت لك ما قلت حين أخرجتك من المدينة لأني لم أملكك وقد صرت الآن لي وأنا أشهد الله أني قد وهبتك لعبد الله بن جعفر، فخرج بها حتى قدم المدينة ونزل قريباً من عبد الله بن جعفر فدخل عليه بعض خدمه، وقال هذا العراقي ضيفك الصانع بنا ما صنع لا حياه الله قد نزل. قال مه أنزلوا الرجل وأكرموا مثواه فأرسل إلى عبد الله أن أذنت لي جُعلت فداك في الدخول عليك دخلت دخلة خفيفة أشافهك فيها بحاجتي وأخرج، فأذن له فلما دخل عليه أخبره بالقصة وحلف بالله العظين أنه ما راى لها وجهاً إلا عنده وها هي حاضرة، فأدخلها الدار فلما رآها أهل الدار تصايحوا ونادوا عمارة عمارة، فلما رأت عبد الله خرّت مغشية عليها وجعل عبد الله يمسح وجهها بكمه ويقول يا حبيبتي أحلم هذا؟ فقال له العراقي بل ردها الله إليك بوفائك وكرمك، فقال عبد الله قد علم الله كيف كان الأمر والحمد لله على كل حال ثم أنعم على العراقي وأعطاه عشرين ألف دينار فأخذها العراقي وانصرف وهو شاكر له.
حكاية: قال الأصمعي دخلت ذات يوم على الرشيد فقال لي اكتب يا أصمعي ولو على تكتك أو طرف ثوبك هذا البيت:
عش موسراً إن شئت أو معسراً
…
لابد في الدنيا من الهمِّ
قال فكتبت البيت. وعنه أيضاً قال: بينا أنا ذات يوم قد خرجت في الهاجرة والجو
يتلهب ويتوقد حرّاً إذ أبصرت جارية سوداء قد خرجت من دار المأمون ومعها جرة فضة مملوءة ماء وهي تردد هذا البيت بحلاوة لفظ وذرابة لسان وتقول:
حر وجد وحر هجر وحر
…
أي عيش يكون ذا أمر
قال فقلت يا جارية ما شأنك؟ فقالت إني جارية لأمير المؤمنين المأمون وأنا أحب عبداً له
أسود وقد هجرني ولا أقدر أن أظهر حبي لأحد. قال فمضيت واستأذنت على المأمون وإذا هو نائم فأذن لي وقد كان أمر أن لا أحجب عنه على أي حال كان فدخلت عليه وهو في مرقده، فقال ما جاء بك يا أصمعي في هذا الوقت؟ قلت يا أمير المؤمنين أتهب لي جاريتك فلانة السوداء وعبدك الأسود فلاناً، فقال قد فعلت ذلك وهما لك افعل بهما ما شئت فخرجت من عنده وأحضرتهما وجمعت بينهما بعد أن جمعت من أهل الدار من حضر وأعتقتهما وزوجت الجارية من العبد، ثم عدت إلى المأمون وقلت له يا أمير المؤمنين إني فعلت كيت وكيت وإني اريد الآن ما أجهزهما به فأمر لكل واحد منهما بعشرة آلاف درهم وأمر لي بمثل ذلك وخرجت من عنده وعاد هو إلى نومه.
حكاية: أخبر عمر بن الحبيب القاضي أن رجلاً كان بالبصرة وكانت له امرأة وله منها ابنان فمات وترك لهم شاة، فرأت المرأة في النوم كأن أحد ابنيها يقول يا أماه أما ترين هذا الجدي قد أفنى علينا لبن هذه الشاة وليس بد من أن أقوم أذبحه فقالت لا تفعل يا بني قال لابد من أن أذبحه فقام وذبحه وسمطه وشواه وأخرجه من التنور وقعد هو وأخوه يأكلان فكلمه أخوه بشيء فأخذ السكين وشق بطنه فانتبهت فزعة وإذا بانها يقول يا أماه أما ترين هذا الجدي قد أفنى علينا لبن هذه الشاة فأريد أقوم فأذبحه، فقالت لا تفعل يا بنيّ وجعلت تتعجب من تصديق الرؤيا فأخذت بيد أخيه فأدخلته بيتاً وأغلقت عليه الباب من داخل، فبينما هي مفكرة ومغتمة إذ غفت فرأت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال لها ما شأنك؟ فخبرته الخبر فنادى يا رؤيا فإذا الحائط قد انشق وخرجت منه امرأة جميلة بديعة الجمال، فقال لها ما أردت بهذه المسكينة، فقالت لا والذي بعثك بالحق نبياً ما أتيتها في منامها فنادى يا أضغاث أحلام فخرجت امرأة دونها، فقال لها ما أردت بهذه المسكينة، قالت رأيتهم بخير فحسدتهم وأردت أن أغمهم، فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليس عليك بأس
فانتبهت وأكلت مع ابنيها ولم يزالوا بخير.
حكاية: أخبر بعض الأدباء قال حدثنا رجل من جيراننا أن الفضل مرّ في يوم صائف منصرفاً من المدينة يريد منزله فقلت له والله ما في منزلي قليل ولا كثير فعطس الفضل فقلت يرحمك الله وقد كان سمع يميني فأمر بعض غلمانه أن يحملني معه على دابته، فلما صار بي إلى قصره أخرج إليّ خمسة آلاف درهم وعشرة أثواب فانصرفت بها على
منزلي فقالت لي امرأتي والله لقد خرجت من عندنا وما تملك قليلاً ولا كثيراً فمن أين صرفت هذا؟ قال فأعلمتها الخبر فلم تصدق قولي واستراب الجيران في حالي وتناهى الخبر إلى السلطان فطمع فيّ وحبسني فقلت له إنه كان من أمري كيت وكيت فرفع خبري إلى الفضل فأمر بإحضاري، فلما أحضرت ورآني عرفني وأمر بإطلاقي وأعطاني خمسة آلاف درهم وعشرة أثواب وقال تعهدنا ننفعك فلم يزل ينفعني حتى حدث من أمرهم ما حدث.
حكاية: أخبر بعض الفضلاء أن رجلاً كان ينزل بنهر المهدي وكانت عليه نعمة فزالت ولم يقدر على شيء فمطر الناس ثلاثة أيام متتابعة فبقي في منزله لا يقدر على الخروج فأضرّ به ذلك وأبلغ إليه الجوع وإلى عياله، فلما كان في آخر الليل جاء إلى بقال بقصعة ليرهنها عنده في خبز، فانتهره البقال وقال ما اصنع بها وأبى أن يعطيه عليها شيئاً. قال فعاد إلى منزله مغموماً لا حيلة له فرفع يده إلى السماء وقال: اللهم سق إليّ في هذه الليلة عبداً من عبادك تحبه يفرج عني ما أنا فيه فما شعر إلا والباب يدق فخرج فإذا رجل على حمار قد حفّ به خدم، فقال له كم عيالك؟ قال كذا وكذا فأعطاه كيساً فيه نحو خمسة آلاف درهم، فقال الحمد لله الذي استجاب دعائي وفرج عني كربي، فقال له وما كان دعاؤك فأخبره الخبر بفعل البقال وما دعا الله عز وجل به فاستحلفه أنه دعا بهذا الدعاء فحلف به فأمر له بمائة ألف درهم، قال فسألت بعض أولئك الخدم عنه لأعلم هل يقدر الرجل على ما أمر لي به أم لا، فقال هو الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي فسكتّ لذلك وانصرفت إلى منزلي، فلما أصبحت مضيت إلى قهرمانه فقبضت منه المال قلت إن الفضل حرّي بقول أبي تمام رحمه الله تعالى:
هو البحر من أيّ النواحي أتيته
…
فلجته المعروف والجود ساحله
جواد إذا ما جئت للجود طالباً
…
حباك بما تحوي عليه أنامله
ولو لم يكن في كفه غير روحه
…
لجاد بها فليتق الله سائله
حكاية: قيل إن رجلاً من أهل الشام عزم على لقاء المأمون فاستشار بعض أصحابه على أيّ وجه أصلح أن ألقى أمير المؤمنين قال على الفصاحة قال ليس عندي منها شيء وغني لألحن في كلامي كثيراً. قال فعليك بالرفع فإنه أكثر ما يستعمل فدخل على المأمون وقال
السلام علك ورحمة الله وبركاته، فقال يا غلام اصفعه فصفعه، فقال بسم الله، فقال ويلك من دلك على الرفع؟ قال وكيف يا أمير المؤمنين لا أرفع من رفعه الله؟ فضحك وقضى حاجته.
حكاية: قيل اختصم رجلان إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى وجعلا يلحنان، فقال الحاجب قوما فقد آذيتما أمير المؤمنين، فقال عمر أنت والله أشد أذىً لي منهما.
حكاية: قيل لما تشاغل عبد الملك بن مروان بقتال مصعب بن الزبير اجتمع وجوه الروم إلى ملكهم وقالوا قد أمكنتك الفرصة من العرب فقد تشاغل بعضهم ببعض ووقع بأسهم بينهم والرأي أن تغزوهم في بلادهم فإنك تذلهم وتنال حاجتك منهم فنهاهم عن ذلك فأبوا عليه إلا أن يفعل، فلما رأى ذلك دعل بكلبين فأحرش بينهما فاقتتلا قتالاً شديداً شديداً، ثم دعا بذئب فخلاه بينهما، فلما رأى الكلبان الذئب تركا ما كان بينهما وأقبلا على الذئب حتى قتلاه، فقال ملك الروم هكذا العرب يقتتلون بينهم، فإذا رأونا وهم مجتمعون تركوا ذلك وأقبلوا علينا فعرفوا صدق قوله ورجعوا عما كانوا عليه.
حكاية: قيل دخل قوم على المنصور من حاشيته وخدمه فرأى منهم رجلاً عليه سواد خلق، فقال له يا فلان ما لي أرى سوادك متقطعاً أما تقبض رزقك؟ قال بلى يا أمير المؤمنين ولكن أبي توفي وترك عليه ديناً كثيراً فبعت تركته في قضاء دينه فصرفت أكثر رزقي إلى حرمته وولده من بعده، فقال أعد عليّ ما قلت فأعاده فقال ما أحسن ما فعلت اغد عليّ في غد فغدا عليه فوجد الربيع جالساً على الكرسي، فقال قد سأل عنك أمير المؤمنين فادخل فدخل فوجده يصلي فقضى حاجته من الصلاة، وقال ألم آمرك أن تغدو، فقال يا أمير المؤمنين ما قصرت في الغدوّ عند نفسي. قال خذ ما تحت تلك المضربة وإذا السراج يزهر وسرير صغير في ناحية المجلس ينام عليه فرفعت المضربة فإذا دنانير تحتها فجعلت أحثوها في كمي، ثم دعوت له وخرجت ووزنت الدنانير فإذا هي ألف دينار وتسعة وتسعون ديناراً.
حكاية: قيل إن شمر بن أفر يقيس بن أبرهة خرج في خمسمائة ألف مقاتل إلى أرض الصين، فلما
قارب بلادهم بلغ ذلك ملك الصين فجمع وزراءه واستشارهم، فقال رئيسهم أثر فيّ أثراً وخلني فأمر به فجدع أنفه فقام هارباً مستقبلاً لشمر فوافاه على أربعة منازل
بعد خروجه من مغاور الصين فدخل عليه، وقال إني أتيتك مستجيراً. قال شمر ممن؟ قال من ملك الصين لأني كنت رجلاً من خاصة وزرائه وإنه جمعنا لما بلغه مسيرك إليه واستشارنا فأشار القوم جميعاً عليه بمحاربتك وخالفتهم في رأيهم وأشرت عليه أن يعطيك الطاعة ويحمل إليك الخراج، فاتهمني وقال قد ملت إلى ملك العرب وكان منه لي ما ترى ولم آمنه مع ذلك أن يقتلني فخرجت هارباً إليك ففرح به شمر وأنزله معه في مكانه ووعده من نفسه خيراً، فلما أصبح وأراد أن يرحل قال لذلك الرجل كيف علمك بالطريق قال أنا من أعلم الناس به قال فكم بيننا وبين الماء قال مسيرة ثلاثة أيام وأنا موردك اليوم الرابع على الماء فأمر جنوده بالرحيل ونادى فيهم أن لا يحملوا من الماء إلا لثلاثة أيام، ثم سار في جنوده والرجل بين يديه، فلما كان اليوم الرابع انقطع بهم الماء واشتد الحر، فقال لا ماء إنما كان ذلك مكراً مني لأدفعك بنفسي عن ملكي فأمر به فضرب عنقه وعطش القوم، وقد كان المنجمون قالوا لشمر عند مولده إنه يموت بين جبلي حديد فوضع درعه تحت قدمه من شدة الرمضاء ووضع ترساً من حر الرمضاء فذكر ما كان قيل له في ولادته وقال للقوم تفرقوا حيث أحببتم فقد أوردتكم إلى هذه المهالك فهلك جميع من معه.
حكاية: قيل إن شبيب بن يزيد الخارجي مر بغلام مستنقع في ماء الفرات، فقال له يا غلام اخرج إليّ أسألك فعرفه الغلام، فقال إني خائف أفآمن إن خرجت حتى ألبس ثيابي، قال: نعم، فخرج وقال والله لا ألبسها اليوم، فضحك شبيب وقال خدعني ورب الكعبة، ووكل به رجلاً من أصحابه يحفظه أن لا يصيبه أحد من أصحابه بمكروه.
حكاية: ذكر البيهقي في المحاسن والمساوي أن رجلاً من أهل الشام سأل ابن عباس رضي الله عنهما من الناكثون؟ قال الذين بايعوا علياً بالمدينة، ثم نكثوا فقاتلهم بالبصرة أصحاب الجمل، والقاسطون معاوية، وأصحابه والمارقون أهل النهروان ومن معهم فقال الشامي يا ابن عباس ملأت صدري نوراً وحكمة وفرجت عني فرج الله عنك أشهد أن علياً مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.
حكاية: حدث ابن المكي عن أبيه، قال قال لي محمد الأمين في آخر أيامه يا مكي إني والله أحبّ أن أقعد
يوماً قبل أن يحال بيني وبين ملكي فقلت يا أمير المؤمنين افعل ذلك فقال اغد عليّ في غد، قال فانصرف وغدا عليّ رسوله في السحر فجئت إليه وهو في صحن داره
وعليه جبة وأشياء مذهبة تتألق وعمامة مثلها ما رأيت لأحد قط مثل ذلك وتحته كرسي من ذهب مرصع بالجواهر فدعا لي بكرسي فجلست عليه عن يساره، ثم قال لخادم على رأسه ادع لي فلانة وفلانة حتى عد أربعة جوار ما منهن جارية إلا وأنا أعرف حذقها وجودة غنائها فخرجن وجلسن عن يمينه، ثم قال يا غلام عليّ برطل فأتى برطل وجام بلور مكلل بالجواهر فالتفت إلى التي عن تليه، وقال لها غني فضربت ضرباً حسناً وغنت بشعر الوليد بن عقبة بن أبي معيط:
هم قتلوه كي يكونوا مكانه
…
كما قتلت كسرى بليل مراز به
بني هاشم ردوا سلاح أخيكم
…
ولا تنهبوه لا تحل مناهبه
قال فرمى بالجام في وسط الدار، ثم قال لعنك الله ما هذا؟ قالت والله يا سيدي ما جاء على لساني غير هذا، ثم التفت إلى الغلام وقال له اسقني فأتاه بجام مثل الأول فقال للثانية غني فغنت ما قيل في كليب بن وائل:
كليب لعمري كان أكثرا ناصراً
…
وأيسر ذنباً منك ضرج بالدم
فرمى بالجام من يده في صحن الدار فكسره، ثما قال يا غلام عليّ برطل، وقال للثالثة غني فغنت:
أتقتل عمراً لا أبا لك شاردا
…
وتزعم بعد القتل أنك هارب
فلو كنت بالأقطار ما فتّ ضربتي
…
وكيف تفوت الحين والدم طالب
قال فرمى بالجام وقال يا غلام عليّ برطل، وقال للرابعة غني فغنت:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
…
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا
…
صروف الليالي والخطوب الزواجر
قال فالتفت إليّ وقال قد سمعت، هذا أمر يريده الله عز وجل قال فما مضت أيام حتى رأيت رأسه معلقاً على القصر.
حكاية: عن الأوزاعي، قال بعث إليّ المنصور وقال لم أبطأت عنا قلت وما تريد من قال لأستفيد منكم فقلت له مهلاً فإن عروة بن رويم أخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من جاءته موعظة من ربه فقبلها شكر الله له ذلك ومن جاءته ولم يقبلها كانت عليه حجة يوم القيامة) مهلاً فإن
مثلك لا ينبغي له أن ينام إنما جعلت الأنبياء رعاة لعلمهم
بالرعية يجبرون الكسير ويسمنون الهزيل ويردون الضالة فكيف بمن يسفك دماء المسلمين ويأخذ أموالهم أعيذك بالله أن تقول إن قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم تدعوك إلى الجنة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت في يده جريدة يستاك بها فضرب بها قرن أعرابي فنزل جبريل عليه السلام، وقال يا محمد إن الله تبارك وتعالى لم يبعثك جباراً مؤيساً مقنطاً تكسر قرون أمتك ألق الجريدة من يدك فدعا الأعرابي إلى القصاص من نفسه فكيف بمن يسفك دماء المسلمين إن الله عز وجل أوحى إلى من هو خير منك داود عليه السلام يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق - واعلم أن ثوباً من ثياب أهل النار لو علق بين السماء والأرض لمات أهل الأرض من نتن ريحه فكيف بمن يتقمصه ولو أن أن حلقة من سلاسل جهنم وضعت على جبال الدنيا لذابت كما يذوب الرصاص حتى تنتهي إلى الأرض السابعة بمن تقلدها.
حكاية: قال بعض الأدباء دخلت على أبي العشائر يوماً أعدوه من على فقلت ما يجد الأمير فأشار إلى غلام قائم بين يديه كأنه رضوان غفل عنه فأبق من الجنة ثم أنشد:
أسقم هذا الغلام جسمي
…
بما بعينيه من سقام
فتور عينيه من دلال
…
أهدى فتوراً إلى عظامي
وامتزجت روحه بروحي
…
تمازج الماء بالمدام
حكاية: قال بعض الأدباء دعا يحيى بن خالد البرمكي ابنه ابراهيم يوماً، وكان يسمى دينار بني برمك لجماله وحسنه ودعا بمؤدبه وبمن كان ضم إليه من كتابه وأصحابه فقال ما حال ابني هذا فقالوا قد بلغ من الأدب كذا وكذا، قال ليس عن هذا سألت وإنما سألت عن بعد همته قالوا اتخذنا له من الضياع كذا وكذا قال ليس عن هذا سألت وإنما سألت عن بعد همته هل اتخذتم له في أعناق الرجال مننا أو حببتموه إلى الناس قالوا لا قال فبئس الأصحاب أنتم هو والله إلى هذا أحوج منه إلى ما قلتم، ثم أمر بحمل خمسمائة ألف درهم إليه فتفرقت على قوم لا يدري من هم ولله در من قال:
أبت المكارم أن تفارق أهلها
…
وأبى الكريم بأن يكون بخيلا
حكاية: قيل إن المأمون تكلم يوماً فأحسن، فقال يحيى بن أكثم يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك إن خضنا في الطب فأنت جالينوس في معرفته أو في النجوم فأنت
هرمس في حسابه
أو في الفقه فأنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه في علمه وإن ذكر السخاء كنت حاتماً في جوده أو الصدق فأنت أبو ذر في صدق لهجته أو الكرم فأنت كعب في إيثاره على نفسه أو الوفاء فأنت السموأل بن عادياء في وفائه فاستحسن قوله وتهلل وجهه، وكان المأمون ماهراً في جميع الفنون كاشفاً عن كل سر مكنون.
حكاية: قال أبو عبد الله أحمد بن أبي داود كان المأمون يبطل الرؤيا ويقول ليست بشيء ولو كانت على الحقيقة كنا نراها ولا يسقط منها شيء فلما رأينا أن ما يصح منها الحرف أو الحرفان من الكثير علمنا أنها باطلة وإن أكثرها لا يصح، وكان بعث العباس ابنه إلى بلاد الروم وأبطأ عليه خبره فصلى ذات يوم الصبح ونام قليلاً وانتبه ودعا بدابته وركب، وقال أحدذكم بأعجوبة رأيت الساعة كأن شيخاً أبيض الرأس واللحية عليه فروة وكساء في عنقه ومعه عصا وفي يده كتاب فدنا مني وقد ركبت فقلت من أنت قال رسول العاباس بالسلامة ناولني كتابه قال المعتصم أرجو الله أن يحقق رؤيا أمير المؤمنين ويبشره بالسلامة ثم نهض فوالله ما هو إلا أن خرج فسار قليلاً وإذا بشيخ قد أقبل نحوه في تلك الحال فقال المأمون هذا والله الذي رأيته في منامي وهذه صفته قال فدنا منه الرجل فنحاه خدمه وصاحوا به فقال دعوه فجاء الشيخ فقال من أنت؟ قال رسول العباس وهذا كتابه قال فبهتنا وطال منا تعجبنا فقلت يا أمير المؤمنين أتبطل الرؤيا بعد هذا قال لا.
حكاية: قال يوسف بن سلام الزعفراني حدثني أبي قال: قال خالد بن برمك يوماً وهو بالري وأراد الخروج إلى مجلس له وأخرج دوابه إلى الحضرة ونحن قيام بين يديه فقال من يخرج مع هذه الدواب. قال أبي أنا وليس أحد يجترئ أن يتكلم فقال اخرج معها فخرجت معها وكنت أحسن إليها، فلما رددتها حمد أثرى فيها فقلت أيها الأمير لي حاجة، قال وما حاجتك؟ قلت أمي مملكوة لقوم بالبصرة وحاجتي أن يشتريها الأمير، وقال وكم ثمنها؟ قلت ثمنها ثلاثة آلاف درهم، قال أعطوه ثلاثة آلاف درهم وقال لي اشتر أمك وأعتقها، ثم قال ما تريد؟ قلت الحج وتحج أمي معي، قال أعطوه ثلاثة آلاف درهم، قلت نحتاج إلى خادم يخدمنا، قال أعطوه ثلاثة آلاف لثمن الكسوة قال فلم أزل أقول وأعد شيئاً شيئاً حتى قلت وأحتاج إلى منزل وأحتاج إلى فرس وهو يقول أعطوه ثلاثة آلاف درهم حتى
اخذت ثلاثين ألف درهم، قال البيهقي رحمه الله تعالى، وكان للبرامكة في الكرم ما لم
يكن لأحد من الناس، وكانوا يخرجون بالليل سراً ومعهم الموال فيتصدقون بها وربما دقوا على الناس أبوابهم فيدفعون إليهم الصرة فيها ما بين الثلاثة الآلاف إلى الخمسة الآلاف.
حكاية: قال خالد بن صفوان دخلت يوماً على السفاح وهو خالي المجلس، فقلت يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تأمر بحفظ الستر لألقي إليك شيئاً أنصحك به فأمر بذاك فقلت يا أمير المؤمنين فكرت في هذا الأمر الذي ساقه الله إليك ومن به عليك فرأيتك أبعد الناس من لذاته وأتعب الخلق فيه، قال وكيف ذلك يا خالد قلت باقتصارك من الدنيا على امرأة واحدة وتركك البيض الخرائد الحسان، فقال يا خالد إن هذا أمر ما مر في سمعي فاستأذنه في الانصراف فأذن له وخرجت إليه أم سلمة وهو ينكت بالقلم على دواة بين يديه، فقالت يا أمير المؤمنين أراك مفكراً فما الحال أسمغت خبراً يحزنك؟ قال كلا ولكن كلام ألقاه إليّ خالد بن صفوان فيه نصيحتي وشرح لها ذلك. قالت فما قلت لابن الزانية؟ قال ينصحني وتشمتينه، فقامت عنه وبعثت إلى مائة من مواليها فقالت لهذا اليوم اتخذتكم وأعددتكم امضوا فإذا وجدتم خالد بن صفوان فاهووا إلى أعضائه عضواً عضواً فرضوها فطلبت ومررت بقوم أحدثهم إذ أقبل القوم فدخلت في جملتهم ولجأت إلى دار ووقعت البغلة فرضوها بالأعمدة وبقيت لا تظلني سماء ولا تقلني أرض وإني لجالس ذات يوم إذ هجم عليّ قوم، فقالوا أجب أمير المؤمنين فقمت ولا أملك من نفسي شيئاً حتى دخلت عليه وهو جالس وأنا أسمع حركة من وراء الستر فقلت أم سلمة والله؟ فقال يا خالد من أين ترى قلت كنت في علة لي، ثم قال الكلام الذي كنت ألقيته لي في بعض الأيام أعده عليّ قلت نعم يا أمير المؤمنين إن العرب اشتقت اسم الضرر من الضرتين فإن الضرائر أشد الذخائر والإماء آفة المنازل ولم يجمع رجل بين امرأتين إلا كان بين جمرتين تحرقه واحدة بنارها وتلحقه الأخرى بشرارها قال ليس هو هذا قلت بلى قال ففكر قلت نعم يا أمير المؤمنين وأخبرتك أن الثلاث يتغايرن فلا يصبرن، قال لا والله ما هذا قلت يا أمير المؤمنين وأخبرتك أن الأربع همّ ونصب وضجر وصخب إنما صاحبهن بين حاجة تطلب وبلية تترقب إن خلا بواحدة منهن خاف شر الباقيات وكنا له أعدى من الحيات، قال لا والله ما هو هذا قلت بلى وأخبرتك أن بني مخزوم ريحانة العرب
وعندك ريحانة الرياحين وسيدة نساء العالمين، وحدثتني أنك تهم بالتزويج فقلت لك هيهات تضرب في حديد بارد ليس ذلك
بكائن آخر الزمان المعاين، قال ويلك أتستعمل الكذب؟ فقلت ضرب السيوف لعب، قال فاذهب فإنك أكذب العرب قلت فأيما أصلح أأكذب أم تقتلني أم سلمة، فاستلقى ضاحكاً وقال اخرج قبحك الله تعالى وارتفع الضحك من وراء الستر وانصرفت إلى منزلي فإذا خادم لأم سلمة ومعه خمس بدر وخمس تخوت وقال هذا لك من سيدتي فخذه.
حكاية: قيل إن رجلاً بالعراق أصلح مجلساً للشرب ودعا إليه إخوانه، فلما فرغوا من الأكل وقعدوا للشرب وارتفعت أصوات العيدان والمزامير ودار الشرب فيهم وطرب القوم تأمل رجل منهم عند ذلك ما هم فيه من اللذة والفرح فرأى داراً حسنة وستوراً وفرشاً وأواني ورياحين وفواكه وشموعاً تزهر وقد امتلأ داخل الأبواب من الضياء والروائح والنغم ورأى فتياناً عليهم زي الجمال ومحاسن الكمال فبقي متحيراً متفكراً متعجباً فيما يرى ويسمع ويشم من محاسن المحسوسات وما تلتذ منه الحواس وتفرح به الأرواح وتسر به النفوس حتى نعس وغاص في نومه حتى لم يكن يحس شيئاً مما كان في المجلس من تلك المحسوسات، ثم رأى فيما يرىة النائم كأنه في بلاد الروم في كنيسة من كنائس النصارى، وهي مشعلة بالقناديل منقوشة بالتصاوير مملوءة من الصلبان، وإذا هو بين القسيسين عليهم ثياب المسوح وبأيديهم مجامر يبخرون فيها القسط والكندر وهم يقرؤون كلمات لها شبه بالتسبيح يكررونها حتى حفظها الرجل من تكرارهم إياها ومعناها بالعربية أن الأخيار الذين يسبحون الله تعالى بالليل والنهار فهم أحياء عنده وإن كانوا قد ماتوا، وإن الأشرار والظلمة فهم موتى عند الله وإن كانوا في الدنيا أحياء، ورأى قوماً من الأساقفة بأيديهم أقداح مملوءة خمراً، وفي مناديل لهم أقراص خبز يفرقونها على الناس ويحسونهم بعد ذلك خمراً فتناول ذلك الرجل من تلك الأقراص، وأخذ بحرص ورغبة وتحسى من ذلك الشراب من شدة الجوع والعطش، ثم إنه بعد ساعة لفكّر في حاله كيف حصل في تلك الكنيسة وكيف الرجوع إلى العراق مع طول المسافة ثم تذكر إخوانه ومجلسهم وما تركهم فيه من اللذة والسرور واشتد شوقه إليهم وضجره بمكانه، وما رأى من الأشياء المخالفة لسنة شريعته المغايرة لطبيعته وعادته فضاق صدره واضطرب في منامه من ضجره
فانتبه فإذا هو بالعراق في مجلسه ومكانه بين إخوانه، وتلك الأصوات والروائح التي تأملها قبل نعاسه على ما كانت عليه لم تتغير شيئاً.
حكاية: قيل إن نبياً من أنبياء الله قال في مناجاته مع ربه يا رب لم خلقت الخلق بعد أن لم تكن خلقتهم؟ قال له ربه على سبيل الرمز كنت كنزاً مخفياً من الخيرات والفضائل ولم أكن أعرف فأردت أن أعرف. قال العلامة ابن الجلدي صاحب إخوان الصفا معناه أن لو لم اخلق لحقيق بهذه الفضائل والخيرات التي أفضتها وأظهرتها من عجائب حلقي ومصنوعاتي المحكمات التي كلت الألسن عن البلوغ إلى كنه صفاتها وحارت عقولهم عن كنه معرفتها بحقائقها.
حكاية: قيل إنه كان بين يحيى بن خالد البرمكي، وبين عبد الله بن مالك الخزاعي عداوة وتحاسد، وكان كل واحد منهما ينتظر لصاحبه الدوائر، فلما ولي عبد الله بن مالك أذربيجان وأرمينية ضاق برجل من الدهاقين بالعراق الأمر وتعذرت عليه المطالب فحمل نفسه على أن افتعل كتاباً على لسان يحيى بن خالد البرمكي إلى عبد الله بن مالك بالوصاية به وأكد بمعاونته كل التأكيد ولم يعلم ما بينهما من التباعد فشخص من مدينة السلام إلى أذربيجان وصار إلى باب عبد الله بن مالك بالكتاب فأوصله الحاجب فقال له عبد الله أدخل صاحب هذا الكتاب فأدخله فقال له عبد الله إن كتابك هذا مفتعل ولكنك قد طويت هذه الشقة البعيدة ولسنا نخيبك، فقال الرجل أما كتابي فليس بمفتعل وإن كنت تريد بهذه التهمة أن تردني خائباً فالله عز وجل حسبي وعليه أتوكل فقال عبد الله أفترى أن تحبس في دار وتزاح علتك وأن أكتب وأستطلع الرأي وأعرف نبأ هذا الكتاب فإن كان مزوراً عاقبتك وإن كان صحيحاً أنعمت عليك قال نعم، فأمر عبد الله بحبسه وإزاحة علته وكتب إلى وكيله بالعراق أن رجلاً يسمى فلان بن فلان أورد إليّ كتاباً من يحيى بن خالد فابحث عن أمر هذا الكتاب واكتب إليّ بالحال فيه فصار الوكيل بكتاب عبد الله إلى يحيى وقرأ عليه فدعا بالدواة والقلم وكتب إليه بخطه فلان من أخص الناس إليّ وأوجبهم حقاً عليّ وقد أخبرني صاحبك بشكك في أمره فأزل الشك جعلت فداك وليكن صرفه إليّ معجلاً بما يليق بك، فلما خرج الوكيل قال يحيى لأصحابه ما تقولون في رجل افتعل عليّ كتاباً إلى عبد الله بن مالك ووصل به من مدينة السلام إلى أذربيجان؟ فقالوا جميعاً نرى أن تفضحه وتهتك ستره وتعلن أمره
ليرتدع به غيره ويصير نكالاً وأحدوثة في العالمين، قال لا والله وهذا رأيكم قالوا نعم، قال قبح الله هذا من رأي فما أقله وأقبحه ويحكم هذا رجل ضاق به الرزق فأمّل فيّ خيراً ووثق
بي وشخص إلى أذربيجان مع بعد مشقتها وصعوبة طريقها أتشيرون عليّ أن أحرمه ما أمله فيّ حتى يسيء ظنه بي، فما انا والله ممن يقبل منكم ذلك، ثم أخبرهم بما كتب به إلى عبد الله فتعجبوا من كرمه واحتماله الكذب وورد الكتاب بخطه إلى عبد الله فدعا بالرجل وقد سقط من عينه الاعتراض وسوء الظن بقلبه، فلما دخل عليه قال هذا كتاب أخي قد ورد إليّ بصحة أمرك وسألني تعجيل صرفك إليه فدعا له بمائتي ألف درهم وما يتبعها من الدواب والبغال والجواري والغلمان ثم أصدره، فلما ورد باب يحيى بن خالد أدخل ذلك أجمع إليه وعرضه عليه فأمر له يحيى بمثل ذلك وأثبته في خاصته:
خرجت من شيءٍ إلى غيره
…
حب الذي يقضي به الحال
لا تنكروا حالي فإني امرؤ
…
دارت به في السير أحوال
حكاية: حدث محمد بن اسحق عن أبيه، قال دخلت على الرشيد وبين يديه طبق فيه ورد فقال قل في هذا شيئاً فقلت:
كأنه خد محبوب يقبله
…
فم الحب وقد أضحى به خجلا
فقالت له جارية كانت على رأسه أخطأت هلا قلت كما أقول:
كأنه لون خدي حين تدفعني
…
يد الرشيد لأمر يوجب الغسلا
قال فضحك الرشيد، وقال الخرج يا اسحق فقد حركتني هذه الماجنة، ثم قام وأخذ بيدها وخلا بها.
حكاية: قيل انقطع عبد الملك بن مروان عن أصحابه فانتهى إلى أعرابي، فقال أتعرف عبد الملك بن مروان؟ قال نعم جائر فاجر قال ويحك أنا عبد الملك بن مروان قال لا حياك الله ولا قربك أكلت مال الله وضيعت حرمته قال ويحك أنا أضر وأنفع قال لا رزقني الله نفعك ولا دفع عني ضررك، فلما وصلت خيله إليه قال يا أمير المؤمنين اكتم ما كان بيني وبينك فالمجالس بالأمانة فضحك عبد الملك وأنعم عليه.
حكاية: قيل إن أعرابياً ولي البحرين فجمع اليهود، وقال ما صنعتم بعيسى بن مريم عليه السلام قالوا قتلنا. قال والله لا تخرجوا من السجن حتى تؤدوا ديته، فما خرجوا حتى أخذ منهم الدية كاملة.
حكاية: قيل أهدى أبو جعفر محمد بن علي البحتري
الشاعر المعروف نبيذاً مع غلام حسن
الوجه بديع الوصف فلما رآه البحتري ضمه إليه وقبله وكتب معه هذه البيات:
أبا جعفر كان تقبيلنا
…
غلامك إحدى الهبات الهنيه
بعثت غلينا بشمس المدام
…
تشرق في كف شمس البريه
فليت الهدية كان الرسول
…
وليت رسولك كان الهديه
فلما قرأ الأبيات أرسل إليه الغلام.
حكاية: قال بعض الأدباء وصف للمأمون جارية شاعرة فائقة في الجمال والكمال يقال لها فضل، فبعث في شرائها وأتى بها وقت خروجه إلى الروم، فلما همّ ليلبس درعه خطرت بباله فدعا بها فخرجت إليه؟ فلما نظر إليها أعجب بها فقالت ما هذا؟ قال أريد الخروج إلى بلاد الروم فقالت قتلتني والله يا سيدي ثم ذرفت دموعها على خدها، فقال المأمون:
دمعة كاللؤلؤ الرطب
…
على الخد الأسيل
هطلت في ساعة البين
…
من الطرف الكحيل
ثم قال لها أجيزي، فقالت:
حين هم القمر الطالع عنا بالأفول
…
إنما تفتضح العينان في وقت الرحيل
فضمها المأمون إلى صدره، ثم قال لخادمه مسرور أكرمها وأكرم ملحها وأصلح لها كلما تحتاج إليه من المقاصير والخدم والجواري إلى وقت رجوعي.
حكاية: قيل إن رجلاً كانت عنده ابنة جميلة تزوجها رجل من أهل النعم وأحبته، فلم تلبث معه إلا قليلاً حتى مات فحزنت عليه حزناً شديداً وكانت تدخل بستاناً لأبيها تخلو فيه وتبكي وتنشد هذه الأبيات:
إنما ابكي لإلف
…
خانه الدهر فمات
قلت للدهر بشجو
…
أيها الدهر أسات
لم تركت الم والأب
…
وبالإلف بدات
إنه أحسن خلق
…
كان لي في الخلوات
ففطن لها أبوها وسمعها تردد البيات فقال لها ما كنت تقولين يا بنية؟ فقالت يا أبتي وجدت الماء قد قلّ ولحق النخل العطش، فلما رأيت ذلك أحزنني فأنشدت:
إنما ابكي لنخل
…
خانه الماء فمات
قلت للماء بشجو
…
أيها الماء أسات
لم تركت الزرع والكرم
…
وبالنخل بدات
إنه أحسن شيء
…
كان لي في الثمرات
فقال لها يا بنية هل لك أن أزوجك، قالت لا والله يا أبتي مالي رغبة في زوج، فلم تلبث إلا قليلاً حتى ماتت رحمها الله تعالى.
حكاية: قيل عن أحمد بن اسرائيل كتب إلى الواثق بالله وقد عزله عن الخراج وديوان الخراج وأمر بتقييده لتصحيح حساباته يا أمير المؤمنين بم يستحق الاذلال من أنت بعد الله ورسوله مئل عزه، ولم تزل نفسه راجية لابتداء إحسانك إليه وتتابع نعمك عليه وعينه طامحة إلى تطولك والزيادة في الصنيعة لديه فهب له يا أمير المؤمنين ما يزينك واعف عنه ما يشينك فما له عنك معدل ولا على غيرك معول، فأمر بإطلاق سراحه وأحسن إليه وصار في منزلة رفيعة لديه.
حكاية: قيل إن رجلاً من آل ملهب اشترى غلاماً أسود، فربّاه وتبنّاه، فلما اشتد ساعده وترعرع هوى سيدته فراودها عن نفسها فأجابته إلى ذلك، فدخل مولاه يوماً على غفلة، فإذا هو على صدر سيدته، فعمد إليه وجب ذكره وتركه يتشحط في دمه ثم إنه أدركته عليه رقة وتخوف من فعله، فعالجه حتى أقيل من علته وخرج من مرضه فأقام بعد هذا مدة يدبر على مولاه أمراً يكون فيه شفاء قلبه، وكان لمولاه ابنان أحدهما طفل والآخر بالغ فغاب الرجل عن منزله لبعض أموره فأخذ العبد الصبيين وصعد بهما إلى ذروة سطح عال وجعل يعللهما بالطعام مرة وباللعب مرة أخرى إلى أن دخل مولاه فرفع رأسه، فإذا هو بابنيه في شاهق؟ فقال ويلك الله الله في تربيتي لك قال دع عنك هذا والله ما هي إلا نفس لأرمين بها قال ويلك ما تريد قال جب نفسك كما جببتني أو لأرمين بهما وإني لأسمح بعدهما بنفسي مثل شربة ماء قال فجعل يكرر عليه وهو يأبى وذهب ليروم الصعود إليهم فأهوى بهما ليرميهما من ذروة ذلك الشاهق، فقال أبوهما ويلك فاصبر حتى أخرج المدية وأفعل ما أردت فأخذ المدية ليريه ما يصنع بنفسه فرمى بذكره وهو يراه، فلما علم أنه قد فعل رمى بالصبيين، وقال ذلك بذاك، وهذه زيادة فتقطع الصبيان وأخذ ذلك الأسود وكتب بخبره إلى المعتصم بالله فأمر بقتله وأن يخرج من مملكته كل عبد أسود.
حكاية: قيل كان رجل له غلام فباعه، وقال للمشتري إني أبرأ إليك من كل عيب به إلا عيب وحاداً قال وما هو قال النميمة قال أنت بريء منه فإني لا أقبل قوله فما لبث إلا قليلاً حتى أتى السيد، وقال إن امرأتك تريد أن تقتلك وتتزوج غيرك قال وما يدريك؟ قال قد عرفت ذلك فتناوم
عليها فإنه سيظهر لك ما أقول ثم أتى إلى المرأة وقال إن زوجك يريد أن يخلعك ويتزوج غيرك، فهل لك أن أرقيك فيرجع إليك حبه؟ قالت نعم ولك كذا وكذا قال ائتني بثلاث شعرات من تحت حنكه، فلما دنت منه لتناول الشعر قام إليها بالسيف ولم يشك فيما قاله الغلام فقتلها وجاء إخوة المرأة فقتلوا الزوج، فذهب كلاهما بسوء صنيع عبدهما وقبولهما نميمته فنعوذ بالله من النميمة ونسأله الحماية منها ومن ذويها.
حكاية: قيل إن أبا نواس أتى إلى بلاد الرشيد يوماً، فلما علم به طلب بيضاً وقال للجماعة الذين عنده هذا أبو نواس على الباب، فكل واحد منكم يأخذ بيضة ويجعلها تحته وإذا دخل أظهرت الغضب على الجميع وقلت لكم بيضوا الآن بيضة بيضة وإلا أمرت بضرب رؤوسكم حتى نرى ما يقول ثم طلبه فدخل فبعد ساعة جال بهم الحديث إلى شيء أغضب الخليفة فأظهر لهم الغضب الشديد وقال لهم الواحد مثل الدجاجة ويدخل ويدخل فيما لا يعنيه بيضوا الآن بيضة بيضة لأنها صفتكم وإلا أمرت بضرب رؤوسكم والتفت إلى من على يمينه، وقال أنت الأوّل بض الآن بيضة فعصر نفسه وتنحنح وتغير وجهه ثم أخرج بيضة فدار على الكل مثل هذا حتى وصلت النوبة إلى أبي نواس فضرب بعضديه على جنبيه ثم صرخ، وقال في صراخه قوققوقو قال يا مولانا لا يصلح الدجاج بغير ديك؟ فهؤلاء دجاج وأنا ديكهم، فضحك الخليفة حتى استلقى على قفاه واستحسن ذلك منه.
وحكى أنه غضب عليه يوماً فأمر جماعة أن يخرؤا على فراشه الذي يرقد عليه فأتوه وهو ببيته، فقالوا له أمرنا الخليفة بأن نخرأ على فراشك، فقال أمر الخليفة مطاع فهل أمركم بشيء غير الخراء قالوا لا فأخذ خشبة بيديه. وقال لهم اخرؤا ولكن إن بال أحدكم منكم ضربت رأسه بهذه الخشبة فما أمكنهم ذلك بغير أن يبولوا فرجعوا إلى الخليفة وأعلموه بذلك فضحك وأمر له بصلة.
حكاية: دخل لص دار مالك بن دينار في الليل فطاف بها، فلم يجد فيها شيئاً فلما همّ بالخروج رفع مالك رأسه وقال يا هذا طلبت الدنيا فما وجدتها عندنا فهل لك أن تقبل على
الآخرة، فقال اللص نعم ثم تقدم إلى مالك فتاب على يديه، فلما طلع الفجر أخذه مالك ومضى به إلى المسجد، فلما رآه التلامذة قالوا للشيخ ما هذا الرجل، فقال هذا لص جاء ليصيدنا فصدناه، فصار ذلك اللص ببركة مالك من كبار الأولياء.
حكاية: قال بعض حكماء
الفرس أخذت من كل شيء أحسن ما فيه فقيل له فما أخذت من الكلب؟ قال حيه لأهله وذبه عن صاحبه قيل فما أخذت من الغراب قال شدة حذره قيل فما أخذت من الخنزير قال بكوره في حوائجه قيل فما أخذت من الهرة قال تملقها عند المسئلة.
حكاية: قيل إن رجل أتى سليمان عليه السلام، فقال له يا نبي الله علمني منطق الطير، فقال أعلمك بشرط أن لا تخبر به أحداً وإن أخبرت به أحداً مت، فقبل ذلك فعلمه فرجع الرجل إلى داره وأمسى وكان له حمار وثور وديك، فكان الحمار يسأل الثور كيف كنت اليوم؟ قال في عناء وشدة قال أتريد أن لا يحمل عليك غداً فتستريح؟ قال نعم قال لا تأكل العلف الليلة، ففعل وكان الرجل يسمع كلامهما، فلما أصبح أمر أن يحمل على الحمار بدل الثور، فلما كان الليل انصرف الحمار إلى معلفه، فسأله الثور كيف كنت اليوم كأنك لم تعمل قال بلى قد عملت وأصابتني الشدة كما أصابتك إلا أني سمعت أنهم يستعدون لذبحك وقالوا هو عليل لا يصلح إلا للذبح قبل أن يموت فإن أردت السلامة، فكل العلف فضحك الرجل لما فهم من كلامهما، فقالت له امرأته مم تضحك قال لا شيء فألحت عليه، فلم يخبرها مخافة ان يمون؟ فقالت إن لم تخبرني قلت إنك مجنون أو أن لك امرأة غيري قال إن أخبرتك مت، فلم تطاوعه ولم يكن له بدّ منها، فقال أمهليني حتى أوصي، ففعلت فلما أصبح كان يوصي وأمسك الحمار والثور عن الأكل والشرب ولم يمسك الديك عن الصراخ والنشاط، فقال له أصحابه صاحبنا يموت فما هذا النشاط قال الموت لهذا خير من الحياة قالوا ولم ذلك؟ قال إن تحت يدي عشرين وأنا أعولهن وهو لا يقدر أن يعول امرأة واحدة ولا يقدر أن يدفعها عن نفسه قالوا فما يعمل معها قال يأخذ السوط ويضربها إلى أن تموت أو تتوب، فقال الرجل صدق الديك وقام وأخذ السوط وضربها حتى سكتت ورجعت عن ذلك.
حكاية: قيل إن الرشيد خرج يوماً إلى الصيد فانفرد عن عسكره والفضل بن الربيع خلفه فإذا هو بشيخ على حمار، فنظر إليه الرشيد فإذا هو رطب العينين، فغمز الفضل عليه؟ فقال له الفضل أين تريد يا شيخ قال حائطاً لي قال هل لك أن أدلك على شيء تداوي به
عينيك فتذهب هذه الرطوبة، فقال ما أحوجني إلى ذلك؟ فقال خذ عيدان الهوى وغبار الماء وورق الكمأة وصيره في قشرة جوزة واكتحل به فإنه يذهب رطوبة عينيك فانكأ الشيخ على قربوس فرسه وضرط ضرطة طويلة
وقال خذ هذه أجرتك لوصفك وإن نفعنا الكحل زدناك يا ابن الفاعلة، فضحك الرشيد حتى كاد أن يسقط عن ظهر دابته.
حكاية: قيل إن بعض الملوك كان مغرماً بحب النساء وكان وزيره ينهاه عن ذلك فرأته بعض قيانه متغير الحال عليهن، فقالت له يا مولاي ما هذا، فقال لها إن وزيري فلاناً قد نهاني عن محبتكن، فقالت الجارية هبني له أيها الملك وسترى ما أصنع به، فوهبها له فلما خلا بها تمنعت منه حتى تمكن حبها من قلبه، فقالت لا تقربني حتى أركبك وتمشي به خطوات، فأجابها إلى ذلك فوضعت عليه سرجاً وجعلت في رأسه لجاماً وركبته، وكانت قد أرسلت إلى الملك بهذا الخبر فهجم عليه الملك وهو على تلك الحالة، فقال ما هذا أيها الوزير كنت تنهاني عن محبتهن وهذه حالتك معهن، فقال أيها الملك من هذا كنت أخاف عليك فاستحسن منه هذا الجواب.
حكاية: قال هشام الكلبي: إن ناساً من بني حنيفة خرجوا يتنزهون إلى جبل لهم فرأى فتى منهم في طريقه جارية فرمقها وقال لأصحابه لا أنصرف والله حتى أرسل إليها وأخبرها بحبي لها فمنعوه فأبى ان يكف وأقبل يراسل الجارية وتمكن من قلبه حبها فانصرف أصحابه وأقام الفتى في ذلك الجبل فمضى إليها متقلداً سيفاً وهي بين أخوين لها نائمة فأيقظها فقالت انصرف لئلا ينتبه أخواي فيقتلانك، فقال الموت والله أهون مما أنا فيه ولكن إن أعطيتني يدك حتى أضعها على قلبي انصرفت فأعطته يدها فوضعها على قلبه وصدره وانصرف، فلما كانت الليلة الثانية أتاها وهي على تلك الحال فأيقظها، فقالت من ذا وأنشدت تقول:
متى تزر قوم من تهوى زيارتها
…
لا يتحفوك بغير البيض والأسل
تريد بذلك تخويفه. قال الذي يقول:
والهجر أقتل مما أراقبه
…
أنا الغريق فما خوفي من البلل
ثم قال إن مكنتني من شفتيك أرشفهما انصرفت فأمكنته فرشفهما ساعة ثم انصرف فوقع في قلبها من حبه مثل الذي وقع بقلبه منها وفشى خبرهما في الحي فقال أهل الجارية ما
مقام هذا الفاسق في هذا الجبل اخرجوا بنا إليه حتى نخرجه هذه الليلة فبعثت إليه الجارية آخر النهار أن القوم يأتونك الليلة فاحذر، فلما أمسى قعد على مرقب ومعه قوسه وسهمه ووقع في الحيّ أول الليل
مطر فاشتغلوا عنه، فلما كان آخر الليل انقشع السحاب وطلع القمر اشتاقت الجارية فخرجت تريده ومعها صاحبة لها من الحي كانت تثق بها فنظر الفتى إليهما فظن أنهما ممن يطلبه فرمى فلم يخط قلب الجارية فوقعت ميتة فصاحت الأخرى وانحدر الفتى من الجابل فإذا الجارية ميتة والأخرى على رأسها فبكى بكاء الثكلى وقال:
اختلست ريحانتي من يدي
…
يا عين أجرى الدمع لا تجمد
كانت هي الأنس إذا
…
استوحشت نفسي من الأقرب والأبعد
وروضة كانت بها مرتعي
…
ومنهلاً كان به موردي
كانت يدي كانت بها قوتي
…
فاختلس الدهر يدي من يدي
وقالت صاحبتها الواقفة على رأسها:
نعب الغراب بما كرهت ولا إزالة للقدر
تبكي وأنت قتلتها فاصبر وإلا فانتحر
ثم ضرب الفتى نفسه بسكين كان معه فمات فجاءت أهل الحي وهما ميتان فدفنوهما في قبر واحد.
حكاية: قيل اصطحب أسد وثعلب وذئب فخرجوا يصيدون فصادوا حماراً وظبياً وأرنباً، فقال الأسد للذئب اقسم بيننا صيدنا فقال الحمار لك والأرنب للثعلب والظبي لي فخلبه الأسد فأخرج عينه، فقال الثعلب قاتله الله ما أجهله بالقسمة، فقال الأسد هات أنت يا أبا معاوية فاقسم، فقال يا أبا الحارث الأمر أوضح من ذلك، الحمار لغدائك، والظبي لعشائك، وتخلل بالأرنب فيما بين ذلك، فقال الأسد قاتلك الله ما أقضاك من أين تعلمت هذا قال من عين الذئب.
حكاية: قيل اجتمع السراج الوراق مع أبي الحسن الجزار وابن الفقيسي فمرت بهم جارية بديعة الجمال فقال السراج:
شمائلها تدل على اللطافة
…
وريقتها أرقّ من السلافة
وقال أبو الحسين الجزار:
وفي وجناتها ورد ولكن
…
عقارب صدغها منعت خطافه
قال ابن الفقيسي:
فلو أعطوا الخلافة ذو جمال
…
لحق لها بأن تعطى الخلافة
حكاية: قيل إن الوزير نظام الملك أبا الحسن علياً خرج يوماً إلى الصلاة فجلس قليلاً ثم التفت إلى الحاضرين وقال لهم هذا بيت شعر أريد له أوّلاً وهو هذا:
فكأنني وكأنه وكأنهم
…
أمل ونيل حال دونهما القضا
وكان في الجماعة أبو القاسم مسعود الخجندي الشافعي، فقال مرتجلاً:
ببابي حبيب زارني متنكراً
…
فبدا الوشاة له فولى معرضا
حكاية: قيل إن المهدي دخل يوماً وقت الظهر إلى مقصورة جاريته الخيزران على حين غفلة فوجدها تغتسل، فلما رأته تجللت بشعرها حتى لم يبن من جسدها شيء فأعجبه ذلك واستحسنه ثم عاد إلى مجلسه، وقال من بالباب من الشعراء؟ فقيل له أبو نواس وبشار بن برد قال فليحضرا جميعاً فأحضرا وجلسا قال فليقل كل منكما شعراً يوافق ما في نفسي، فأنشأ بشار بن برد يقول:
تتجنبتكم والقلب صاب إليكم
…
بنفسي ذاك المنزل المتجنب
إذا ذكروا أعرضت لا عن ملالة
…
وذكراكم شيء إلي محبب
وقالوا تجنبنا ولا تقربننا
…
فكيف وأنتم حاجتي أتجنب
على أنهم أحلى من المنّ عندنا
…
وأطيب من ماء الحياة وأعذب
فقال أحسنت ولكن والله ما أصبت، فقال أبو نواس:
نضت عنها القميص لصب ماء
…
فورّد خدها فرط الحياء
وقابلت الهواء وقد تعرت
…
بمعتدل أرق من الهواء
ومدت راحة كالماء منها
…
إلى ماء معدّ في الإناء
فلما أن قضت وطراً وهمت
…
على عجل لتأخذ بالرداء
وقامت تشرئب على حذار
…
كشبه الظبي أفرد من ظباء
رأت شخص الرقيب على التداني
…
فأسبلت الظلام على الضياء
فغاب الصبح منها تحت ليل
…
وظل الماء يجري فوق ماء
فسبحان الإله وقد براها
…
كأحسن ما تكون من النساء
قال المهدي: سيفاً ونطعاً. قال ولم يا أمير المؤمنين؟ قال كنت معنا. قال لا والله يا أمير المؤمنين قد قلت شيئاً خطر ببالي فأمر له بأربعة آلاف درهم وصرفه.
حكاية: حدث الربيع قال ما رأيت قط أثبت قلباً ولا أحضر حجة من رجل من أهل
الكوفة أشخصه المنصور لسعاية سعى بها رجل عليه، وقيل له إن عنده أموالاً لبني أمية وودائع، فلما حضر قال له المنصور أخرج ودائع بني أمية وأموالهم التي عندك. قال الرجل يا أمير المؤمنين أوارث أنت لبني أمية؟ قال: لا. قال أفوصيّ لهم؟ قال لا. قال فبأي شيء أدفع إليك ما في يدي من أموالهم وودائعهم؟ قال فأطرق المنصور رأسه مفكراً في الحجة، ثم رفع رأسه وقال إن بني أمية خانوا المسلمين في أموالهم وأنا وكيل المسلمين في حقوقهم يجب عليّ أن أطالب فيما أخذوه منهم على سبيل الخيانة وأردها إلى بيت مال المسلمين. قال الرجل يا أمير المؤمنين بقيت عليك البينة العادلة أن هذا المال الذي قبلي من تلك الخيانات دون غيرها لقد كان للقوم أموال من وجوه شتى. قال فأطرق المنصور ملياً يطلب الحجة عليه فلم يجدها فالتفت إليّ، وقال يا ربيع أطلق الرجل فوالله ما خاطبت رجلاً مثله قط، ثم قال له سل حاجتك إن كان لك حاجة، قال الرجل والله مالي حاجة إلا إرسال كتاب في البريد إلى أهلي بسلامتي فإن قلوبهم متعلقة بي وبخبري فأمر المنصور بذلك، فقال الرجل يا أمير المؤمنين ما قبلي لني أمية مال قط ولا وديعة وإني أحب أن يأمر أمير المؤمنين بالجمع بيني وبين من سعى بي إليه، فقال له المنصور لم لم تنكر؟ قال فإني لما وقفت هذا الموقف رأيت الاحتجاج أقرب إليّ من الجحود فأمر المنصور بإحضار الساعي فأحضر فإذا هو غلام الرجل قد هرب منه. قال يا أمير المؤمنين هذا والله عبدي قد أبق مني وسرق مني ثلاثة آلاف دينار وأتلفها فشدد المنصور على الغلام، فقال صدق والله يا أمير المؤمنين وإنما كذبت عليه لأشغله عن طلبي، فقال المنصور هب جرمه إليّ وإساءته، فقال أشهدك يا أمير المؤمنين أنه حرّ لوجه الله وإن له من مالي ثلاثة آلاف دينار أخرى، فقال المنصور ما أراد هذا كله منك، قال هذا قليل لمن تكلم أمير المؤمنين فيه، فأعجب المنصور كلامه وأمر له بخلعة حسنة وكان يتعجب أبداً من ثبوته على حجته واجتماع عقله وكرم فعله.
حكاية: قيل إن ملكاً من ملوك الفرس كان سميناً مثقلاً حتى أنه لا ينتفع بنفسه فجمع الأطباء على أن يعالجوه من ذلك فصار كلما عالجوه لا يزداد إلا شحماً فجيء إليه ببعض الحذاق من الأطباء، فقال له أنا أعالجك أيها الملك ولكن أمهلني ثلاثة أيام حتى أتأمل وأنظر إلى طالعك وما يوافقك من الأدوية، فلما مضت له ثلاثة
أيام. قال أيها الملك إني نظرت في طالعك فظهر لي أنه ما بقي من عمرك إلا أربعون يوماً فإن لم تصدقني فاحبسني عندك لتقتصّ مني فأمر الملك بحبسه وأخذ الملك في التأهب للموت ورفع جميع الملاهي وركبه الهمّ والغمّ واحتجب من الناس وصار كلما مضى يوم يزداد هماً ويتناقص حاله، فلما مضت الأيام المذكورة طلب الحكيم وكلمه في ذلك، فقال له أيها الملك إنما فعلت ذلك حيلة على ذهاب شحمك وما رأيت لك دواء يفيدك إلا هذا الدواء فخلع عليه الملك خلعة سنية وأمر له بمال جزيل.
حكاية: سأل بعض الملوك وزيره هل الأدب يغلب الطبع أم الطبع يغلب الأدب؟ فقال الطبع يغلب الأدب لأنه أصل والأدب فرع وكل فرع يرجع إلى أصله، ثم إن الملك استدعى الشراب وأحضر سنانير بأيديهم الشماع فوقفت حوله، فقال للوزير انظر خطأك في قولك الطبلع يغلب؟ فقال الوزير أمهلني الليلة. قال قد أمهلتك، فلما كان الليلة الثانية أخذ الوزير في كمه فأرة وربط في رجلها خيط ومضى إلى الملك، فلما أقبلت السنانير بأيديها الشماع أخرج الفأرة من كمه، فلما رأتها السنانير رمت بالشماع وتبعت الفأرة فكاد البيت أن يحترق، فقال الوزير انظر أيها الملك كيف غلب الطبع الأدب ورجع الفرع إلى أصله؟ قال صدقت لله درك.
حكاية: قيل إن ابراهيم بن المهدي اختفى مرة عن المأمون عند عجوز فقالت له سأحتال لك في شيء من الدراهم، فقال لا بأس فأتت المأمون وقالت له إن دللتك على ابراهيم بن المهدي ماذا تجعل لي؟ قال مائة ألف درهم، فقالت وجه معي رسولاً ومره أن يطيعني في جميع ما آمره به وأعطه ألف دينار وأمره بما قالت فجاءت به إلى مسجد فيه صندوق كبير وقالت له ادخل في هذا الصندوق فامتنع، فقالت له ألم يأمرك أمير المؤمنين بطاعتي فكيف تمتنع وإن لم تفعل انصرفت فدخل حسين في الصندوق وأتت بحمال فحمله فجعلت تطوف به في الأسواق والشطوط فمرّة يسمع صوت الحدادين ومرة يسمع صوت الملاحين، فلما
أظلم الليل أدخلته داراً وفتحت عنه فإذا هو بمجلس عظيم وفي صدره ابراهيم بن المهدي يشرب وبين يديه قيان يغنين فأكب على رجلي ابراهيم يقبلهما وتناولت العجوز منه الدنانير فسأله ابراهيم عن المأمون وناوله القدح فشرب ثم قدم له
طعاماً فأكل ثم سقاه شراباً فيه بنج، فلما سكر أدخل في الصندوق وقفل عليه وحمل إلى باب العامة فألقي هناك، فلما اصبح الناس رأوا الصندوق وليس معه أحد فأنهوا خبره إلى المأمون فأحضر وفتح فإذا حسين الخادم ملوث فعولج حتى أفاق، فقال له المأمون رأيت ابراهيم؟ قال أي والله يا أمير المؤمنين. قال أين هو؟ قال لا أدري وحدثه بالقصة، فقال المأمون خدعتنا والله العجوز وذهب المال.
حكاية: قيل إن الحجاج أمر بضرب عنق شخص، فقال لحاجبه أريد أن أكلم الأمير قبل أن يقتلني، فقال له الحجاج قل، فقال أيها الأمير لا أحب أن أكلمك إلا وأنا أمشي معك مكتوفاً بحالي في إيوانك من أوله إلى آخره وما على الأمير في ذلك من بأس ولا يحول بينه وبين ما يريد مني شيء فأخذ يتمشى معه في الإيوان فلما بلغ إلى آخره. قال أيها الأمير إن الكريم يراعي صحبة ساعة وقد صحبت الأمير في هذه المشية وهو أولى من رعى حق الصحبة، فقال الحجاج خلوا سبيله، فقال والله لقد صدق، ثم أمر له بعطية ومشى الرجل لشأنه.
حكاية: قيل إن رجلاً جلس يوماً يأكل هو وزوجته وبين يديهما دجاجة مشوية وإذا بسائل عند الباب فخرج إليه فانتهره فاتفق بعد ذلك أن الرجل افتقر وزالت نعمته وطلق زوجته وتزوجت برجل آخر فجلس في بعض الأيام يأكل معها وبين يديهما دجاجة وإذا بسائل يقرع الباب، فقال لزوجته ادفعي إليه هذه الدجاجة فخرجت إليه فإذا هو زوجها الول فدفعت إليه الدجاجة ثم رجعت وهي باكية فسألها عن بكائها فأخبرته أن السائل كان زوجها وأخبرته بقصة ذلك السائل الذي انتهره زوجها الأول، فقال لها والله أنا ذلك السائل.
حكاية: قيل إن معاوية لما ولى زياد بن سمية العراق، وهم يقطعون السبيل ويفسدون فيها ويسرقون فأول ما قدم عليهم قصد الجامع فرقى المنبر وخطب، ثم قال والله لئن خرج أحد بعد العشاء لآخذن رأسه فليعلم الحاضر الغائب، ثم أمر منادياً نادى في البلاد ثلاثة أيام، فلما كانت الليلة الرابعة خرج زياد، وقد مضى من الليل ثلثه وجعل يطوف بخلال البلاد
فرأى رجلاً راعياً ومعه غنم، فقال له زياد ما تصنع ههنا قال أتيت البلاد ولم أجد موضعاً أستقر فيه فنزلت مكاني إلى الصبح لأبيع غنمي غداً إن شاء الله تعالى، فقال له زياد والله إني أعلم أنك صادق، ولكنني إن تركتك خفت أن يشيع الخبر عني، فيقال إن زياداً
يقول ولا يفعل فتفسد سياستي وتنكسر هيبتي والجنة خير لك وضرب عنقه حتى أتى في الليلة على خمسة آلاف وخمسمائة نفس وجعل رؤوسهم على باب داره فهابه الناس وفزعوا لما رأوا من أفعاله، فلما كان في الليلة التي بعدها خرج أيضاً فلقي ثلثمائة رجل فأخذ رؤوسهم فلم يقدر أحد بعد ذلك أن بخرج من بيته بعد العشاء، فلما كان يوم الجمعة رقى المنبر، وقال لا يغلق أحد باب دكانه ليلاً ومهما سرق شيء فهو عليّ فلم يقدر أحد منهم أن يغلق دكانه فجاءه رجل صيرفي بعد أيام يسيرة، وقال إنه سرق من دكاني البارحة أربعمائة دينار، فقال له زياد هل تقدر أن تحلف على ما تدعيه، قال نعم فاستحلفه ووزن له عوض ذهبه، ثم استكتمه فلما كان يوم الجمعة خطب الناس وقال إن فلاناً الصيرفي قد سرق له من دكانه أربعمائة دينار والآن كلكم حاضرون فإن أرجعتم ذلك فقد عاد إلى الرجل ماله، وإن لم ترجعوا فقد آليت على نفسي لا يمكن أحدكم أن يخرج من الجامع، وأمرت بقتل الجميع في هذه الساعة ففي الحال ألزموا من من كان يتهم بسرقة وقدموه بين يديه فرد حينئذ السارق ما أخذ وأمر بصلبه فصلب في الحال ثم قال أي محلة في البصرة لم يكن فيها أمن ولا هيبة، فقيل له محلة بني الأزد فأمر بثوب من ديباج له ثمن عظيم أن يلقى على قارعة الطريق بتلك المحلة فبقي الثوب على ذلك أياماً لم يقدر أحد أن يرفعه من مكانه.
حكاية: ذكر صاحب حياة الحيوان أن الأسد لما مرض عادته السباع إلا الثعلب فنمّ عليه الذئب فقال له إذا حضر فأعلمني فأخبر بذلك الثعلب، فلما حضر أعلمه فقال له الأسد أين كنت إلى الآن، قال في طلب الدواء لك، قال فأي شيء أصبت قال خرزة في ساق الذئب ينبغي أن تخرج، فضرب الأسد بمخالبه في ساق الذئب وانسل الثعلب منهم فمرّ به الذئب بعد ذلك ودمه يسيل، فقال له الثعلب: يا صاحب الخف الأحمر إذا قعدت عند الملوك فانظر إلى ما يخرج من رأسك.
حكاية: قيل لما وفد قيس بن عاصم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله بعض
الأنصار عما يتحدث به المؤودات فأخبره أنه ما ولدت له بنت إلا وأدها قال كنت أخاف العار وما رحمت منهن إلا بنية كانت ولدتها أمها وأنا في سفر فدفعتها إلى إخوانها وقدمت أنا من سفري فسألتها عن الحمل، فأخبرت أنها ولدت ولداً ميتاً وكتمت حالها حتى مضت على ذلك سنون وكبرت الصبية وينعت فزارت أمها
ذات يوم فدخلت فرأيتها. وقد ظفرت شعرها وجعلت في قرونها جداداً ونظمت عليه ودعاً وألبستها قلادة من جزع فقلت لها من هذه الصبية وقد أعجبني جمالها فبكت أمها، وقالت هذه ابنتك فأمسكت عنها حتى غفلت أمها، ثم أخرجتها يوماً فحفرت حفرة وجعلتها فيها، وهي تقول يا أبت ما تصنع أخبرني بحقك وجعلت أقلب عليها التراب وهي تقول يا أبت أنت مغط عليّ بهذا التراب أنت تاركي وحدي ومنصرف عني وجعلت أقرف عليها حتى وارتها وانقطع صوتها فتلك حسرتها في قلبي فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال إن هذه لقسوة ومن لا يَرحم لا يُرحم.
حكاية: قيل إن علياً رضي الله عنه خطب ذات يوم، فقال في خطبته عباد الله الموت الموت وليس منه فوت إن أقمتم أخذكم وإن فررتم عنه أدرككم الموت معقود بنواصيكم فالنجاة النجاة والوحا الوحا، ألا إن وراءكم طالباً حثيثاً، وهو القبر ألا وإن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار إلا أنه يتكلم في كل يوم ثلاث مرات فيقول أنا بيت الظلمة أنا بيت الوحشة أنا بيت الدود إلا أن وراء ذلك اليوم يوم يشيب فيه الصغير ويسكر فيه الكبير - وتذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد - ألا وإن وراء ذلك اليوم نار حرها شديد وقعرها بعيد وجبلها حديد وماؤها صديد ليس لله فيه رحمة. قال فبكى المسلمون بكاء شديداً، فقال ألا وإن وراء ذلك اليوم - جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين - أجارنا الله وإياكم من العذاب الأليم.
حكاية: قيل قصد بعض الدباء باب معن بن زائدة فوعده وماطله فنفدت نفقته وضاق لذلك صدره وعزم على الانصراف عن بابه فكتب إليه أبياتاً يقول فيها:
بأي الحالتين عليك أثني
…
فإني عند منصرفي لمسئول
أبا لحسني وليس لها دليل
…
عليّ فمن يصدق ما اقول
أم الأخرى ولست لها حليفاً
…
وأنت لكل مكرمة فعول
قال فلما قرأ ذلك معن دعا به فاعتذر إليه وأمر له بعشرة آلاف درهم.
حكاية: قيل إن الحجاج خطب يوماً وأطال فقام رجل من القوم، وقال الصلاة يا حجاج فإن الوقت لا ينتظرك والرب لا يعذرك فأمر بحبسه فأتاه قومه وزعموا أنه مجنون وسألوه أن يخلي سبيله، فقال إن أقرّ بالجنون خليته فقيل له، فقال معاذ الله لا أقول إن الله ابتلاني وقد عافاني فبلغ ذلك الحجاج فعفا عنه لصدقه ولله در من قال:
عليك بالصدق ولو أنه
…
أحرقك الصدق بنار الوعيد
وأبغ رضا الله فأغبى الورى
…
من أسخط المولى وأرضى العبيد
ويقال الصدق عمود الدين وركن الأدب وأصل المودة ولا تتم هذه الثلاثة إلا به وقال النبي صلى الله عليه وسلم إيّاكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار وعليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة، وقال بعض الحكماء من قلّ صدقه قل صديقه، وقال بعضهم لو صوّر الصدق لكان أسداً ولو صوّر الكذب لكان ثعلباً.
حكاية: قال الأصمعي رأيت سعدون المجنون جالساً عند رأس شيخ سكران يذب عنه الذباب، فقلت له ما لي أراك جالساً عند رأس هذا الشيخ؟ قال إنه مجنون فقلت له أنت المجنون أم هو؟ قال بل هو. قلت من أين؟ قال لأني صليت الظهر والعصر في جماعة وهو لم يصلّ جماعة ولا فرادى، فلت وهل في ذلك قلت شيئاً؟ قال نعم:
تركت النبيذ لأهل النبيذ
…
وأصبحت أشرب ماء قراحا
رأيت النبيذ يذل العزيز
…
ويذرى الوجوه الملاح الصباحا
فإن كان ذا جائز للشباب
…
فما العذر فيه إذا الشيب لاحا
فقلت له صدقت وانصرفت.
حكاية: قيل عن زبيدة لامت الرشيد على حبه للمأمون دون ولدها الأمين، فقال لها الآن أريك عذري فدعا ولدها محمد الأمين، وكانت عنده مساويك، فقال له يا محمد ما هذه؟ فقال له مساويك ودعا المأمون وقال له ما هذه يا عبد الله؟ فقال ضدّ محاسنك يا أمير المؤمنين، فقالت زبيدة الآن بان لي
عذرك.
حكاية: يروى أنه كان لبعض الملوك شاهين، وكان مولعاً به فطار يوماً ووقع على منزل عجوز فلزمته، فلما رأت منقاره معوجاً، قالت هذا لا يقدر أن يلقط الحب فقصته بالمقص، ثم نظرت إلى مخالبه وطولها، فقالت وأظنه ى يستطيع المشي فقصتها. تحكمت فيه شفقة عليه بزعمها، وأهلكته من حيث أرادت نفعه، ثم إن الملك بذل الجعائل لمن يأتيه بخبره فوجدوه عند العجوز فجاؤوا به إلى الملك، فلما رأى حاله قال أخرجوه، ونادوا عليه هذا جزاء من أوقع نفسه عند من لا يعرف قدره.
حكاية: قيل لما ولي المأمون الخلافة عرضت عليه سيرة أبي بكر رضي الله عنه، وفي آخرها، وكان يأخذ الأموال من وجوهها ويضعها في حقوقها، فقال أمير المؤمنين لا نطيق ذلك، ثم عرضت عليه سيرة عمر رضي الله عنه وفي آخرها وكان يأخذ الأموال من وجوهها ويضعها في حقوقها، فقال أمير المؤمنين لا نطيق ذلك، ثم عرضت عليه سيرة عليّ كرم الله وجهه وفي آخرها وكان يأخذ الأموال من وجوهها ويضعها في حقوقها، فقال أمير المؤمنين لا نطيق ذلك، ثم عرضت عليه سيرة معاوية بن أبي سفيان وفي آخرها، وكان يأخذ الأموال من وجوهها ويضعها كيف شاء قال إن كان فهذا.
حكاية: قيل إن الرشيد جمع أربعة من الأطباء عراقياً ورومانياً وهندياً وسوادياً فقال ليصف كل منكم الدواء الذي لا داء فيه فقال الرومي له الدواء الذي لا داء فيه حب الرشاد الأبيض، وقال الهندي الماء الحار، وقال العراقي الاهليلج الأسود، وكان السوادي أبصرهم برقة المعدة، فقال له ما تقول؟ قال الدواء الذي لا داء فيه أن تقعد على الطعام وأنت تشتهيه وتقوم عنه وأنت تشتهيه. وقال بعض الفضلاء سألت طبيباً فارسياً، فقلت إنا قوم نتغرب فتتغير علينا المياه فصف لنا ما تعالج به، فقال دعوا كل الأدوية وعليكم بالأغذية وما يخرج من الضرع والنحل وعليكم بأكل اللحم وشرب ماء الكرم ودخول الحمام ولبس الكتان.
حكاية: دخل أبو دلامة الشاعر على المهدي يوماً فسلم عليه ثم قعد وأرخى عيونه بالبكاء، فقال له مالك قال ماتت أم دلامة، فقال إنا لله وإنا إليه راجعون ودخلت له رقة، لما رأى من جزعه، فقال له عظم الله أجرك يا أبا دلامة وأمر
له بألف درهم، وقال له استعن بها في مصيبتك فأخذها ودعا له وانصرف، فلما دخل إلى منزله قال لأم دلامة اذهبي فاستأذني
على الخيزران جارية المهدي فإذا دخلت عليها فتباكي وقولي مات أبو دلامة فمضت واستأذنت على الخيزران فأذنت لها، فلما اطمأنت أرسلت عينها بالبكاء، فقالت لها مالك قالت مات أبو دلامة، فقالت إنا لله وإنا إليه راجعون عظّم الله أجرك وتوجعت لها، ثم أمرت لها بألفي درهم فدعت لها وانصرفت فلم يلبث المهدي أن دخل على الخيزران، فقالت يا سيدي أما علمت أن أبا دلامة مات، قال لا يا حبيبتي إنما هي امرأته أم دلامة، قالت لا والله إلا أبو دلامة فقال سبحان الله خرج من عندي الساعة، فقالت وخرجت من عندي الساعة، وأخبرته بخبرها وبكائها فضحك وتعجب من حيلتهما.
حكاية: أخبر احمد بن بكر الباهلي. قال حدثني حاجب المهدي قال قال لي المهدي يوماً نصف النهار اخرج وانظر من الباب فخرجت فإذا شيخ واقف، فقلت ألك حاجة قال ما يمكن أن أخبر بها أحداً غير أمير المؤمنين فتركته ودخلت، وقلت شيخ قد سألته ألك حاجة قال ما يخبر إلا أمير المؤمنين، فقلت أيدخل؟ قال نعم ومره بالتخفيف فخرجت، وقلت له ادخل وحفف فدخل وسلم بالخلافة، ثم قال يا أمير المؤمنين إنا قد أمرنا بالتخفيف، وأنشأ يقول:
فإن شئت خففنا فكنا كريشة
…
متى تلقها الأنفاس في الجو تذهب
وإن شئت ثقلنا فكنا كصخرة
…
متى تلقها في حومة البحر ترسب
وإن شئت سلمنا فكنا كراكب
…
متى يقض حقاً من سلامك يعزب
قال فضحك المهدي وقال بل تكرم وتقضي حاجتك فقضى حاجته وأمر له بعشرة آلاف درهم.
حكاية: قال الأديب أبو يعقوب كنت جالساً عند معن بن زائدة وإذا عليه إزار يساوي أربعة دراهم، فقال يا أبا يعقوب هذا إزاري وقد قسمت العام في قومك خاصة أربعين ألف دينار، قال فبينما نحن نتحدث إذ أبصر أعرابياً يخبّ في مشيته من خوخة له مشرفة على الصحراء، فقال لحاجبه إن كان هذا يريدنا فأدخله فدخل الأعرابي وسلم وأنشأ يقول:
أصلحك الله قلّ ما بيدي
…
فلا أطيق العيال إذ كثروا
ألح دهري ورمى بكلكله
…
فأرسلوني إليك وانتظروا
قال فاضطرب وقال أرسلوك وانتظروا، يا غلام ما فعلت بغلتنا الفلانية، قال حاضضرة،
قال كم عليها قال ألف دينار قال اطرحها له، ثم قال له اذهب إليهم بما معك، ثم إذا احتجت فارجع إلينا.
حكاية: حدث العتابي، قال دخلت على عبد الله بن طاهر وهو يريد مصر فقلت السلام عليك أيها المير، فقال وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، ثم قال وما الخبر؟ فقلت بيتان من الشعر أعملت البارحة فكري فيهما فقال هاتهما فقلت عند ذلك:
حسن ظني وحسن ما عود الله
…
يقينا بك الغداة أتى بي
أي شيء يكون أحسن من حسن
…
يقين أعدي إليك ركابي
فقال أحسنت والله يا غلام احمل إليه ثلاثين ألف درهم قال والله لقد سبقني بها الغلام إلى منزلي فلما كان من الغد دخلت عليه فقلت السلام عليك أيها الأمير فقال وعليك السلام ما الخبر فقلت بيتان من الشعر أعملت البارحة فكري فيهما فقال هاتهما فقلت:
وجهي قد يكفيك في حاجتي
…
ورؤيتي تكفيك عن السؤال
وكيف أخشى الفقر
…
ما عشت لي وإنما كفك لي بيت مال
قال أحسنت والله يا غلام احمل إليه ثلاثين ألف درهم فسبقني بها الغلام أيضاً إلى منزلي، فلما كان اليوم الثالث دخلت عليه ورجله في الركاب، فقلت السلام عليك أيها الأمير، فقال وعليك السلام ما الخبر فقلت بيتان من الشعر أعملت البارحة فكري فيهما، فقلت هاتهما فقلت:
إن خير الثياب يخلقه الدهر
…
وثوب الثنا ثوب جديد
أكسني ما يبيد أصلحك الله
…
فإني أكسوك ما لا يبيد
فقال أحسنت والله يا غلام احمل إليه أربعين ألف درهم.
حكاية: قيل لما قدم معاوية المدينة صعد المنبر فخطب ونال من علي كرم الله وجهه فقام الحسن رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه، وقال إن الله عز وجل لم يبعث نبياً إلا جعل له عدوا من المجرمين فأنا ابن علي وأنت ابن صخر وأمك هند وأمي فاطمة وجدك حرب وجدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعن الله ألأمنا حسباً وأخملنا ذكراً وأعظمنا كفراً وأشدنا نفاقاً فصاح أهل المسجد آمين آمين فقطع معاوية خطبته ودخل منزله.
حكاية: قيل إن أبا دلامة الشاعر كان واقفاً بين يدي السفاح في بعض
الأيام فقال له سلني
حاجتك، فقال له أبو دلامة أريد كلب صيد، فقال أعطوه إياه فقال وأريد دابة أتصيد عليها قال أعطوه إياها قال وغلاماً يقود الكلب ويصيد به. قال وأعطوه غلاماً قال وجارية تصلح الصيد وتطعمنا منه قال أعطوه جارية. قال هؤلاء يا أمير المؤمنين لابد لهم من دار يسكنونها، فقال أعطوه داراً تجمعهم قال وإن لم تكن لهم ضيعة فمن أين يعيشون قال قد أقطعتك عشر ضياع عامرة وعشر غامرة، قال وما الغامرة يا أمير المؤمنين؟ قال ما لا نبات فيها قال أقطعتك يا أمير المؤمنين مائة ضيعة غامرة من فيا في بني أسد، فضحك منه، وقال اجعلوها كلها عامرة.
حكاية: قيل اجتاز بعض المغفلين بمنارة وكانوا ثلاثة نفر، فقال أحدهم ما كان أطول البنائين في الزمن الأول حتى وصولا إلى رأس هذه المنارة فقال الثاني يا أبله كل أحد يبنيها ولكن يعلمونها على وجه الأرض ويقيمونها فقال الثالث يا جهال كانت هذه بئراً فانقلبت منارة.
حكاية: قال بعض الفضلاء كنت في ضيق من العيش وشدة من الإفلاس فشكوت حالي إلى حبيب لي كان كثير الصلاح، فقال لي اقرأ هذه الأبيات وكررها فإن الله يفرج عنك الهموم ويحسن حالك قال فكررتها أياماً فحسنت أحوالي ورزقني الله تعالى من حيث لا أحتسب، وهي هذه:
يا من تحل بذكره
…
عقد النوائب والشدائد
يا من إليه المشتكى
…
وإليه أمر الخلق عائد
يا حي يا قيوم يا
…
من قد تنزه عن مضادد
أنت الرقيب على العبا
…
د وأنت في الملكوت واحد
أنت المعز لمن أطا
…
عك والمذل لكل جاحد
إن الهموم جيوشها
…
ذا القلب مني قد تطارد
فافرج بحولك كربتي
…
يا من له حسن العوائد
فخفّي لطفك يستعا
…
ن به على الزمن المعاند
أنت المسير والمسب
…
ب والمسهل والمساعد
سبب لنا فرجاً قريباً
…
يا إلهي لا تباعد
كن راحمي فلقد أيس
…
ت من الأقارب والأباعد
ثم الصلاة على النبي
…
وآله الغرر الأماجد
تم الباب الأول من كتاب مفحة اليمن فيما يزول بذكره الشجن بعون الله المؤمن المهيمن فالحمد له ما دامت االأزمن والصلاة والسلام على رسوله وأصحابه ما دام تجري في البحور السفن
الباب الثاني
نذكر فيه مناظرة النرجس والورد المسماة بالجوهر الفرد للشيخ الأديب أبي الحسن علي بن محمد المارديني رحمه الله خدم بها قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن كشك ومناظرة المنجم والطبيب المسماة بمنية اللبيب للشيخ الأديب العلامة.
محمد مؤمن بن الحاج محمد قاسم الجزائري رحمه الله تعالى
الجوهر الفرد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنبت في رياض الخدود وردة الخجل وزين أغصان القدود بنرجس حين المقل وأوضح لذوي الدب سبيل البلاغة فاتضح واستجلوا من وجوه المعني عيون الملح، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الفارق بين الشك واليقين بقول غير ملتبس وعلى الآل والأصحاب ما خجلت خدود الورد من تغازل عيون النرجس وبعد: فلما كان الورد والنرجس من أحسن الأزهار وصفاً وألطفها شكلاً وأطيبها عرفاً، وقد اختلف بينهما في التفضيل وأيهما إذا حضر كان لبيت البسط تكميل مثلّتهما كالخصمين في المناظرة واستنطقت لسان حالهما على سبيل المحاظرة فقال الورد: الحمد لله الذي أنزل في محكم القرآن - فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان - والصلاة والسلام على نبيه محمد المبعوث إلى الأسود والأحمر الذي نسخ بشريعته البيضاء ملة بني الأصفر، وبعد فإن الله تعالى فضلني على سائر الزهور بأرفع المراتب، فوجب عليّ شكر نعمته وشكر المنعم واجب، فيّ تتجمّل المجالس والمحافل:
وإني وإن كنت الأخير زمانه
…
لآت بما لم تستطعه الأوائل
كفاني الله عن حسودي، فالروض ملكي والزهر جنودي وما فيهم من خرج عن أعلامي السلطانية، وكيف لا يطيعوني وشوكتي فيهم قوية فازورّت أحداق النرجس، وقام على ساقه في المجلس، وقال أقسم بمن أنزل في كتابه المبين - صفراء فاقع لونها تسر الناظرين - وحق محمد المحمود الذي أوحي إليه - قتل أصحاب الأخدود - لقد مدحت نفسك بالكمال مع نقصك وما جررت النار إلا إلى قرصك أتعيرني بالاصفرار وهو لون التبر إذا أنسبك وتفتخر عليّ بالاحمرار فما أحمرك فتأدب في
مقالك واذكر سرعة زوالك واحفظ حرمتك
وإلا كسرت شوكتك، فقال الورد ويلك ما اقوى عينك وأكثر مينك أتجعل مقامك مقامي، وأنت من بعض خدامي ولو لم تكن قليل الحرمة ما كنت جالساً وأنت واقف في الخدمة ألك مثلي حسن منظر ومخبر، أما سمعت أن الحسن أحمر وإن عيرتني بقصر مدتي، فقد استنبت عني بخليفتي ولم يزل جمال المقامات ومن خلف مثله ما مات أتحسب أن محاسني مثل محاسنك متناهية، وكيف ينقطع عملي ولي صدقة جارية فشتان بيني وبينك، وإن لم تنته عن جدالي قلعت بشوكتي عينك، وأنشد لسان حاله:
لجمال وجهي تشخص الأبصار
…
ولعز مجدي تخضع الزهار
لي بهجة وردية في وجنتي
…
ولها من ورق الجديد عذار
وملابسي من سندس فتق الشذا
…
أكمامها فانفضت الزرار
فكأنني هذا الحبيب إذا بدا
…
نشوان قد دارت عليه عقار
لا غرو إن صرف المحب على حيا
…
ة فكم في وجنتي دينار
حرمي غدا لذوي الخلاعة آمنا
…
من حوله تتخطف البصار
ولي المهابة والبهاء وأنت من
…
حسد وغيظ قد علاك صفار
ما شانني قصر الزمان ولا يرى
…
لك في لياليك الطوال فخار
لكنّ أيامي سرور كلها
…
وكذاك أيام السرور قصار
فقال النرجس يا قليل المودّة، ويا قصير المدّة أين العيون من الخدود، وأين الجافي من الودود، أنا أوفى بميثاقي ومن يزرني أجلسه على أحداقي، فيقول لي من أفضت عليه السرور فيضاً، لقد أكرمت ضيفك، فعليك الراية البيضا، وأنت طالما جنى شوكك على جناك فذقت عذاب النار، ذلك بما كسبت يداك، سرقت لون الحبيب وتسترت بالورق فقطعوك والقطع حد من سرق واستقطروا دمعك وأذاقوك الحرق وقيل لتركبنّ طبقاً عن طبق، وأي فخر في احمرارك الشريق، وكم بين التبر والعقيق فلا تبهرج زيفك على خالص اللجين، وارجع عن المناظرة فما جئتك إلا بعين، هذا ولي في السبق قصبات، وكم جلوت صداع القلب بطيب النفحات، وإذا وفد جيش الزهر فلي في طلائعه عيون - والسابقون السابقون أولئك المقربون - وأنشد:
فقت الزهور جميعها بتقدمي
…
فأنا المقيم على الوفا يا متهمي
أدعو الندامى بالمسرة والهنا
…
وكما علمت شمائلي وتكرمي
وآتي الجليس بناظري وأروقه
…
حسناً وساقي في يديه ومعصمي
وأغض طرفي إن خلا بحبيبه
…
وأصون سر العاشق المتكنم
وإذا غفا المحبوب كنت لحفظه
…
خوفاً عليه من الدبيب المجرم
وأغازل الأجفان وهي نواعس
…
وإليّ تشبيه اللواحظ ينتمي
وترى حجيج اللهو حولي طائفاً
…
وجميع أيامي كيوم الموسم
أين العيون من الخدود نفاسة
…
لولا فساد قياس من لم يعلم
فافهم وكن عن رتبتي متاخراً
…
واعلم بأن الفضل للمتقدم
فاحمر خد الورد والتهب وظهرت في وجهه صورة الغضب، وقال يا قويّ العين ويا لون اللجين، خلّ عنك الحماقة، ولا تدخل في باب مالك به طاقة فلقد استحقيت المقت، ولا أبالي بك ولو برقت كيف تفاخر بصفارك حمرة الخدود ومن أين لبياض أجفانك المغازلة للعيون السود، أتناظر بعماشك عيون الملاح؟ ما أنت يا عيون النرجس إلا وقاح أتعيرني بحسن الابتلاء وهو الفضل، وقد قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم (نحن معاشر الأنبياء أشد الناس بلاء ثم الأمثل فالأمثل) طالما ابتليت فصبرت وما شكوت حالي بل شكرت أبيت بزفرة لا تخمد وأدمعي تتحدر وانفاسي تتصعد أحبس بلا ذنب وأعصر فتجري دموعي وما هي إلا مهجة تذوب فتقطر وما ضر ابراهيم إلقاؤه في نار النمروذ ولا شان يوسف سجنه مع فضله المشهود مع أني طالما لثمت الثغور والعناق وفزت بالشم والضم والعناق زكا مني الأصل والفرع ولا انزل بواد غير ذي زرع وأقسم ببديع حسني وتسبيح أوراقي وسموّي عن مراعاة النظير بتوجيه طباقي ما أنت مجانسي في المقابلة ولا موازني في المشاكلة ولا لاحقي في الطي والنشر وأنا سيد زهر الربيع ولا فخر فلا تطل الشقاق والنفاق لا بدّ لك من الوقوف في خدمتي ولو قامت الحرب على ساق أي فضل لك في التقديم وكم بين الحبيب والكليم وإن أردت كشف التلبيس فتفكر في فضل آدم على ابليس، وكم بين الشمس والنجوم - وما منا إلا له مقام معلوم - وهل أنت إلا من بعض جنودي والمبشرين بوردي وأنا منك بالفضل أولى -
وللآخرة خير لك من الوى - وأنشد:
لم يزدك التقديم في الفضل شيئاً
…
وأنا ما نقصت بالتأخير
بيننا في القياس فرق لطيف
…
مثل ما بين يوسف والبشير
فحدق النرجس وحولق، ورفع رأسه بعد أن أطرق، وقال إن افتخرت بآثارك فليست العين كالأثر، وإن كنت مباشر الثغور، فأنا إلى حسن النظر مع أنهم أرخصوا بك في التعسير، وما عصروك عن ذنب كبير، ولو لم تكن من المتمردين والنجاس، ما حبسوك في قماقم النحاس. أنت في افتخارك كما قالت الحكماء أنف في الماء واست في السماء، تتطفل على الموائد، ولا تصبر على طعام واحد، وأقسم بقدي الرشيق ولوني الشريق وبياض صحائفي واخضرار سوالفي لئن لم تصن بهجتك المسبوكة وتستر فضائحك المهتوكة لأقطعن طرقك المسلوكة وأجعلن حرفتك متروكة ولا اترك لك في عصبة الزهار شوكة وأذيقك عذاب الهون، أتعيبني وكلك عيوب وكلي عيون أنا طبعي الوفاء، وأنت طبعك الغدر، وأنا أوّل من تنشق عنه الأرض من الزهر ولا فخر، ولولا خشية التطويل عددت معايبك على التفصيل، ولكن شيمتي غض الطرف في المجلس، وما أحسن الغض من النرجس، وإن تشبهت بالشمي أنا بكسوفك شامت، وإن كنت من السيارة فأنا من النجوم الثوابت، وشتان بين طالع وىفل، وكم بين مقيم وراحل، وإن لم ترجع إلى السكينة والوقار، لأريك النجوم بالنهار، أين قضبان الزمرد دمن شوك القتاد، وكم بين مريد ومراد، وأقسم بمن زين السماء بزينة الكواكب، إن لم ترجع لأرمينك بشهاب ثاقب، وأسلط عليك رجوم نجومي، وأقول مضمناً قول ابن الرومي:
عجبت للورد إذا وفى بناظره
…
وزاد في تقوّله عجباً وفي شططه
يبدو وطياته من حول حمرته
…
كصرم بغل وباقي الروث في وسطه
فخجل خد الورد حتى كلله من الطل العرق، وكاد خوف الفضيحة يتستر بالورق، ثم إنه استشاط كمن أطلق من عقال، وسطا على النرجس بشوكه وقال، يا نفاضة المحافل ولفاظة المزابل، كم بين مهتوك ومصون، ومتروك ومخزون، فجلّ القضية أنك راجل وأنا فارس، وتقوم في الخدمة وأنا جالس، ولولا فجورك وقوّة الحدقة ما جئت تزاحمني في الطبقة وأنشد:
أما وفتور أجفاني النواعس
…
وتنزيهي المحاضر والمجالس
وإشراقي لعشاقي وما قد
…
كساني الله من أسنى الملابس
وما قد حزت من نشر شذاه
…
يفوح بطيّ أنفاسي النفائس
لقد عديت طورك في مقامي
…
وهل أحد بمثلك لي يقايس
أنا في البسط فاتح كل باب
…
وخاتم كل زهر في المجالس
وإن زفت كؤوس الراح أجلي
…
على صحبي كما تجلى العرائس
وإن نحن اجتمعنا في مقام
…
تقم في خدمتي وأظل جالس
وإن تك حارساً ما ذاك فخر
…
فكم ما بين سلطان وحارس
دع التعريض أو صحف فإني
…
أراك إن التقى الجمعان ناعس
وهل للحب من حسن إذا ما
…
يكون الورد في خديه غارس
فقال النرجس أنا عيون المجالس وشكوع المجالس وأنيس النديم، وقد خلقني الله في أحسن تقويم من أين لك لطفي ودلالي، وقد فاتك ليني واعتدالي وبي تشبه عين الحبيب فاعلم ولأجل عين ألف عين تكرم، وكثيراً ما بينك وبيني وإن عدت إلى مثلها سقطت من عيني وأنشد:
وأما فتور أجفاني النوائس
…
ولحظ دونه لحظ الكوانس
وأحداق تصيد الأسد صيداً
…
وألباب الرجال لها فرائس
وعينيّ الوقاح ولين عطفي التر
…
شيق إذا بدا في الروض مائس
لئن لم تنته يا ورد عني
…
وتترك ما لديك من الوساوس
رشقتك صائباً بسهام عيني
…
وأجعل ربعك المهدوم دارس
أنا أبهى وألطف منك معنى
…
وأزهى في المجالس للمجالس
وكم منعته نظراً وشماً
…
ولنت له ولا أوذي الملامس
وعن أهل الغرام أغض طرفي
…
وإن نام الحبيب فنعم حارس
أقوم بخدمة الندمان جهدي
…
وتقعد عن مقامي في المجالس
لفخرك لم أجد وجهاً لأني
…
أنا رأسي الزهور فلا تراوس
فقال الورد والذي خلق الانسان من علق وألبس الخد حلة الشفق ودرج الوجنات بحجرة الخجل ودبج بالتوريد مواقع القبل لقد جزت في القول حداً
ولقد جئت شيئاً إدّا تريد أن تميز نفسك بتقويمها وإنما الأعمال بخواتيمها أنا خد الحبيب نصيبي والروح يلتبس ويتمسك
بذيل طيبي أتشك في أن أحسن صفات المدام الورديه لقد تفتت قلبي من عينك القوية أتروم تعطي فضلي بغضاً منك وسخطاً، أما سمعت في الأمثال أن الشمس ما تتغطى، وأنشد:
أنا والراح للأرواح راحه
…
وكم في قبض ساقي بسط وراحه
أتعمى عن عيوبك إذ تراني
…
بعين النقص ماذا إلا وقاحه
فقال النرجس والذي زين العيون بالدعج وأرسلها في فترة الأجفان إلى المهج وفضل الإنسان بالعين والعين بالانسان وكحل بفنون السحر فتور الأجفان إن لم ترجع عني لأجردن سيفي من جفني وأطيح رأسك عن قدمك وأخضبك بدمك ومن أنت في البين وقد أصبح فضلي عليك أتحاربني وجيادي السوابق وتناظرني ونواظري بأحداق الحدائق وفي فتور أجفاني من السحر فنون أتشك في أن الملاحة في العيون، وأنشد:
أنا ما بين أصحابي بعين
…
وفضلي راجح والورد دوني
وفيّ من الملاحة كل فن
…
بديع والملاحة في العيون
فقال الورد أين السهل من الممتنع، وكم بين المفترق والمجتمع أنت تبذل نفسك فتهان وأنا أعز بصيوني عن ملامسة الندمان وأنت رقيب على العشاق في المجالس الطيبة، وإذا رميتهم بعينك يقولون ماذا إلا مصيبة، أنا ذو الوجه القمر والخد الأزهر، وإذا تأملت عيونك إذا هي بالساهرة كيف تناظرني ولي - وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة - وأنت قد ضربت عليك الذلة وما اصفرارك إلا لعلة، فقال النرجس يا قليل الوفا ويا كثير الجفا ألم تعلم أن التخليق بالصفرة من أمارات النصرة، وقال جماعة الحكماء: عن من أنجس الأشكال الحمرة، فقال الورد هذا لوني مذ كنت في أحشاء الأكمام مضغة - صلغة الله ومن أحسن من الله صبغة -، فقال النرجس وهذا فضلي من الشواهد، فقال الورد ما يصفرّ منّا إلا الحاسد، فقال النرجس لم تزل عين كل شيء أحسنه، فقال الورد - لا تستوي السيئة ولا الحسنة فقال النرجس ذهبت منك الحجة واتضحت لي المحجة فأنا على المقدور ولي الفضل أحمد بحضوري في مقام المقرّ الشهابي أحمد وأنا المؤيد بفضل
ظاهر لا يختفي بحضوري في حضرة مولانا قاضي القضاة الحنفي، فقال الورد وهذا مما يؤيد كلامي ويرفع في الفخر مقامي، فكم بلغت بحضرة المخدوم مقصودي ولم يزل إلى المنهل العذب ورودي، قال الراوي: فلما رأيت كلاً منهما قد جاء في حجته بالبرهان والدليل ولم يتضح
لي أيهما أحرى بالتفضيل وضاقت عليّ في الفرق بينهما المسالك ورأيت مالكي بالمدينة فلم يجز لي أفتي وفي المدينة مالك لأنه فريد عصره في علمه وآدابه وهو الذي يفصل بينهما بفصل خطابه كيف لا وهو شهاب له في فلك المعالي أرفع المراتب - ومن يسترق السمع يتبعه شهاب ثاقب:
شهاب رقى بالسعد في فلك العلى
…
وعاد بفضل منه والعود أحمد
فمن شافعي والوجد في قلب ثابت
…
سوى مالكي كنز الفضائل أحمد
وما أنا في إهداء هذه النبذة إليه وعرض بضاعتي المزجاة عليه إلا كمن أهدى إلى البحرة قطرة أو أتحف الروض بزهرة وهو ذو الصفات التي فاقت على الراح والحبيب رقة ونظماً وناظرت فعل المدام فكانت أفعالها أسمى، قلت لله درّه من مسجع ما افصح لسانه وأبلغ بيانه فلقد أحرز قصبات السبق في ميدان الكلام وأتى بما يعجز عنه الفاضل والنظام.
منية اللبيب
قال الشيخ العلامة محمد مؤمن رضي الله عنه: ساقني طول السياسة في طلب العلم إلى ساحة الكمال، ودلني هادي الشوق لتحصيل المعارف إلى مدارس الخيال، فرأيت بين النوم واليقظة كأني حللت في قرار مكين ودخلت روضة كأنها جنة الخلد التي اعدت للمتقين فوجدت محفلاً منيعاً مشحوناً بالخواص والعوام ومجلساً وسيعاً محفوفاً بأصناف طوائف الأنام وبينهم شيخان يتناظران وبعلمهما يتفاخران، أحدهما منجم فارسي ماهر عنده تقويم واصطرلاب، والآخر طبيب يوناني حاذق بين يديه أدوية وكتاب كل منهما يفضل نفسه على صاحبه ويطعن فيه بذكر نقائصه ومثالبه والناس حولهما مجتمعون وإلى أقوالهما مستمعون فاقتحمت بين ذلك الجمع وجلست قريباً لاستراق السمع فسمعت هذا يصف النجوم والسماء وذاك يذكر الداء والدواء هذا يبين القطب والآفاق وذاك يحقق السم والترياق هذا يوضح كرات الفلك والسماك إلى السمك والثريا
إلى الثرى والسهيل إلى السها، وذاك يشرح سوء المزاج ودستور العلاج وتشريح الأبدان وأنواع النجران هذا يبحث عن الاثار العلوية والحوادث السفلية والآفات السماوية والأحكام النجومية والتأثيرات الفلكية وأحوال الأمصار ونزول الأمطار وذاك يتكلم في الحميات والمسهلات والأسباب والعلامات والمفردات والمركبات والأطلية والضمادات والمعاجين والمفرحات وأنواع
الأدوية والأشربة والأغذية فتناظرا وتشاجرا من كل باب حتى أغلظ المنجم في الخطاب، وقال ايها الطبيب الجاهل والمكثار من غير طائل ما أقل درايتك وأجلّ غوايتك وأخس صناعتك وأخسر بضاعتك ألم تعلم أنك من دواعي القوت وخليفة ملك الموت ورسول قابض الأرواح ومفرق النفوس عن الشباح وإنك منذر إلى الممات وذئب في جلد الشاة وظالم في زيّ مسكين وذابح بغير سكين وعدوّ في صورة صديق وحشيش يتشبث به الغريق قد ضاع عمرك في ملاحظة الفضلات والقاذورات وطال فكرك في المدارات والمسهلات هل أنت بمعرفة القارورة تتبختر أم بقتل نفس بغير حق تتكبر، جهلك مركب وحقك مجرب تحسب كلام ابن سينا في القانون كالوحي المنزل، وتزعم قول ابن زكريا بمنزلة خبر النبي المرسل، وتعد جالينوس في كل ما أخبر به صادقاً وكفى بك ذماً، حديث الطبيب ضامن ولو كان حاذقاً فتعساً لجالينوس وسقراطك وتباً لاسفلينوسك وبقراطك وأفاً لتشخيصك وتدبيرك وتباً لتجويزك وتقريرك. فلما سمع الطبيب هذا السباب التهب غضباً وقال في الجواب إخسأ أيها المنجم الجاهل ولتبك على عقلك الثواكل ألم تدر أنك أكذب الناس والخناس الذي يوسوس في صدور الناس وإنك أبين كذباً من الفجر الأوّل وأغلط حساً من عين الأحول، وأخلف في الوعد من عرقوب وأشهر بالكذب من أولاد يعقوب، وأخص طبعاً من ضبع وضبه، وأنقص قدراً من قيراط وحبه، وكفى بك ذماًخبر كذب المنجمون ورب الكعبة، وما أشبهك بمسيلمة الكذاب وما أكثر غلطك في الحساب خطؤك أكثر من صوابك، وإثمك أجل من ثوابك، تتقرب بأكاذيب الأحكام النجومية رجماً بالغيب إلى الأمراء والسلاطين، وقد فسر الشياطين بالمنجمين بالرواية المعتبرة عن بعض الفضلاء الأساطين في قوله
تعالى - ولقدْ زيّنا السّماء الدُّنيا بمصابيحَ وجعلناه رجومُاً للشياطين - وهب أن علم التنجيم معجزة باهرة لنبي كريم إلا أنه لا يحصل كثيره ولا ينفع يسيره، فالموجود منه غير نافع والنافع منه غير موجود بلا مدافع وصاحبه لا ينفك عن إفلاس وإدبار لما يلزمه من تعمد الكذب في الأخبار، فتعساً لريحك ورصدك وبعداً لعددك وعدّك، وأفاً لحسبانك وتباً لتقويمك واصطرلابك. فقال المنجم ويحك ما هذا التفضيح والإنكار للحق الصريح لقد فرطت في الإزراء والإيذاء حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء ذكرت القبائح القليلة ونسيت المدائح الجليلة:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
…
ولكن عين السخط تبدي المساويا
فوحق من خلق الشمس والقمر آيتين للسنة والشهر، وجعل النجم علامة يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، إن علم النجوم بين العلوم، كالبدر اللامع بين النجوم، إذ به يعلم عدد السنين والحساب، ويستدل به على وجود رب الأرباب، كيف لا وبالتفكير العميق في حقائق الأسرار ودقائق الآثار المستفادة من رياض الرياضي والتدبير البليغ في بدائع الحكمة وصنائع الفطرة التي في خلق السماوات والأراضي والفكر الدقيق في هيئة الأفلاك وصور البروج ومواقع النجوم في الغروب والطلوع والنظر الصحيح في منظورات الكواكب واختلاف حركاتها في السرعة والبطء والاستقامة والرجوع والتأمل الصادق في كيفية حركات الآباء العلوية فوق الأمهات السفلية، والرأي الصائب في استخراج أنواع تأثيرات الأجرام الأثيرية في الأرضية يعرف أن لهذه الكرات الدائرة والأفلاك السائرة، والأنجم الزاهرة والآيات الباهرة والدراري المنثورة والبروج المشهورة والقبة الخضراء والبقعة الغبراء والسقف المرفوع والمهاد الموضوع والبحر المحيط والبر البسيط والجبال الشامخة والأوتاد الراسخة صانعاً حكيماً قديماً مدبراً كاملاً محركاً عادلاً - ربّنا ما خلقتَ هذا باطلاً - وإن جميع ذلك مستند إلى ربّ الأرض والسماء عزيز قدير يتصرف فيهما كيف يشاء حيثما تقتضيه حكمته والأرض جميعاً قبضته.
فليس بتدبير الكواكب ما ترى
…
ولكنه تدبير رب الكواكب
فتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً وأبدع الكائنات بأحسن نظام ودبرها على وفق مشيئته وقدرها بحكمته تقديراً سبحان من جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وبسط على بساط البسيط ظلاً وحرورا ورفع خضراء ذات بروج وسراج وخفض غبراء ذات مروج وفجاج ومدّ بحراً مسجورا خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن في ستة أيام ودبر الأمر يتنزل بينهنّبترتيب ونظام كما كان في الكتاب مسطورا والصلاة والسلام على من دنا فتدلى إلى ربه الأعلى فكان قاب قوسين أو أدنى محمد الذي أصبح مؤيداً بالرعب وبالصبا منصورا وعلى آله الأتقياء وعترته نجوم الاهتداء ما دام السماك رامحا والسعد ذابحا والنسر طائرا والشامية غموصا واليمانية عبورا. فلما فرغ المنجم من المقال اعترض عليه الطبيب وقال كتمت الحق بما أديت وموهت القول فيما
ادعيت أخطأت في ترجيح علم النجوم وتفضيله على سائر العلوم فإن شرف كلّ علم بشرف موضوعه، وما يتعلق به من أصوله وفروعه، فكلما كان الموضوع أشرف وأعلى كان العلم الباحث عنه أرفع وأسنى، ومعلوم أن موضوع علم الطب هو البدن الانساني المتعلق به الروح الحيواني المرتبطة به النفس الانسانية التي هي أشرف من النجوم والسماوات بل جميع المخلوقات والمكونات وقد خلق في الانسان وهو العامل الأصغر نظائر جميع ما في العالم الكبر فكل انسان عالم برأسه، ولذلك سمى بالعالم بانفراده وكما يستدل بدقائق ما في الأكبر على وجود الصانع الحكيم القدير كذلك يحتج ببدائع ما في الأصغر عليه حذو النظير بالنظير، وفي قوله عز وجل وفي الأرض آياتٌ للموقنينَ وفي أنفسكمْ أفلا تبصرون - دلالة على هذا المدعى، وفي قوله سبحانه - سنريهم آياتنا في الآفاقِ وفي أنفسهم، بينة على هذه الدعوى، وقال امير المؤمنين وإمام المتقين أسد الله الغالب عليّ كرم الله وجهه:
دواؤك فيك وما تشعر
…
وداؤك منك وما تصبر
وتزعم أنك جرم صغير
…
وفيك انطوى العالم الأكبر
وأنت الكتاب المبين الذي
…
بأحرفه يظهر المضمر
وتوضيح هذا المقال وتفصيل هذا الاجمال يطلب من طيف الخيال لمؤلف هذه الأقوال وبالجملة الانسان خليفة الحمن والنفس كالسلطان والأعضاء
كالبلدان والحواس كالأعوان والقوى والأذهان كالعمّال والخزان والجوارح والأركان كالخدام والغلمان وبقاء سلطنة هذا الملك بصلاح رعيته واستقرار ملكه بانتظام أمور مملكته وبالصحة ينتظم عالم الأجسام وبالمرض يختل هذا النسق والنظام والعلم المتكفل بحصول هذا الغرض علم الطب الباحث عن أحوال بدن الانسان من حيث الصحة والمرض لحفظه الصحة الحاصلة واسترداد الزائلة وكفى له شرفاً حديث (العلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان) وقدم الأوّل لتوقف الثاني عليه ونظام العالم الأصغر منسوب إليه فهو على صحة الأبدان ومادة حياة الانسان ومناط سلامة الأجساد ومدار أمر المعاش والمعاد، فعلم الطب على رغمك أرجح وانفع من علمك، فقال المنجم للطبيب هذا قول منك عجيب أما تعلم أيها الحكيم أن الطب لا يستقيم إلا بالتنجيم وبه فتح أبواب التعلم والتعليم، وفوق كل ذي علم عليم، فلابدّ للطبيب من
معرفة ما يتعلق بالنجوم والتقويم والسعود والنحوس والنظرات والبروج والدرجات والساعات قرب ساعة ينفع فيها الفصد والحجامة وشرب الدواء ولا يفيد في غير تلك الساعة إلا اشتداد العلة والداء فها أنا أتلو عليك وأذكر لديك أنموذجاً من الأحكام النجومية والمسائل الهيولية لتعرف فضل العلوم الرياضية ولا أبالي بالتطويل فإن هذا الخطب جليل والبسط في المطلب المرغوب مقبول ويا لها قصة في شرحها طول، فاعلم أن لكل عضو من الأجساد اللحمانية والأبدان الانسانية نسبة إلى برج من البروج الاثني عشر بتقدير خالق القوى والقدر فالرأس منسوب إلى الحمل والرقبة إلى الثور زالكتف إلى الجوزاء والصدر إلى السرطان والسرة إلى الأسد والقلب إلى السنبلة والظهر والبطن إلى الميزان والعورة إلى العقرب والفخذ إلى القوس والركبة إلى الجدي والساق إلى الدلو والقدم إلى الحوت ويعالج كل عضو في وقت يكون للبرج الذي ينسب إليه سعادة وقوّة واستيلاء وقدرة ويسمى الحمل والأسد والقوس بالمثلثة النارية وينسب إليه الحرارة واليبوسة والثور والسنبلة والجدي بالمثلثة الأرضية وينسب إليه البرودة واليبوسة، والسرطان والعقرب والحوت بالمثلثة المائية وينسب إليه البرودة والرطوبة والحمل
والسرطان والميزان والجدي منقلبات، والثور والأسد والعقرب والدلو ثابتات والجوزاء والسنبلة والقوس والحوت ذوات جسدين والشمس في اللغة مؤنث وفي التنجيم مذكر والقمر بالعكس وكل من الحمل والعقرب بيت للمريخ والثور والميزان للزهرة والجوزاء والسنبلة لعطارد والسرطان للقمر والأسد للشمس والقوس والحوت للمشتري والجدي والدلو لزحل والشمس حارة يابسة والقمر بارد رطب وزحل بارد يابس وهي طبيعة الموت والمشتري حار رطب وهو مزاج الحياة والمريخ في غاية الحرارة والزهرة في نهاية الرطوبة وعطارد مزاجه مزاج ما يجاوره ويقاربه وما سوى النيرين من السلعة السيارة يسمى بالخمسة المتحيرة والشمس والقمر والمشتري والزهرة والرأس مسعودات والزحل والمريخ والذنب منحوسات وعطارد مع السعد مسعود ومع النحس منحوس والشمس بيضاء والقمر كدر الأجزاء وزحل رصاصي والمشتري أبيض يميل إلى الصفرة وعطارد يضرب إلى الزرقة والمريخ ناري اللون والزهرة دري اللون والإلاك الكلية تسعة، ومع الأفلاك الجزئية أربعة وعشرون الفلك الأطلس غير مكوكب والثابت في فلك البروج والسيارات في سبعة أفلاك
كل في فلك يسبحون، وقال عزّ من قائل - ولقد جعلنا في السماء بروجاً وزيّناها للنّاظرين - والشمسُ والقمرُ والنّجومُ مسخّراتٍ بأمرهِ - ألا لهُ الخلقُ والأمرُ تباركَ اللهُ ربُّ العالمينَ - ذلك محدث موجده قديم ومصنوع صانعه حكيم - والشمسُ تجري لمستقرٍ لها ذلكَ تقديرُ العزيز العليمْ والقمرَ قدّرناه منازل حتى عادَ كالعرجونِ القديم لا الشمسُ ينبغي لها أن تدركَ القمرَ ولا الليلُ سابقُ النهارِ وإنَّ في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار - فيا أيها الطبيب مالك من هذا العلم نصيب، تفتخر بتركيب أدوية مسحوقة وتتباهى بتعجين حشائش مدقوقة سكنت عمراً في دار لم تعرف كيفية سقفها المكوكب المزين ونزلت دهراً في بيت لم تعلم حقيقة سطحه المنقش الملون:
وكيف ينال العلم من هو أبله
…
وكيف يرى الآفاق من هو أكمه
ثم أنشد المنجم هذه الأشعار وخاطب السامعين والنظار:
يا معشر المسلمين قوموا
…
لا تعذلوني ولا تلوموا
عندي من السابحات علم
…
سبحت فيه بكل العلوم
الفلك المستدير سقف
…
وهو بأرجائه يحوم
يدركه ناظر بصير
…
وخاطر عاطر سليم
أما ترى الاختلاف فيه
…
والدور في الحد مستقيم
فقال الطبيب أيها المهذار إلى متى هذا الإكثار اترك الكلام المهمل المرسل ودع الهذيان والمزخرف المسلسل هب أنك تعرف دقائق السماوات وتستخرج أحكام النجوم من الزيجات، وتعلم رسوم الأرصاد ورقوم التقاويم، وتضبط حوادث الأيام ودقائق الأقاليم، فهل استفدت من هذه الحقائق والأسرار شيئاً سوى المحوسة والافلاس والإدبار:
يا من يروم من النام معيشة
…
لم لا تروم من النجوم النيرة
شهدت عليك إذاً بأنك كاذب
…
أحوالك المختلة المتغيرة
أنكرت يا أعمى البصيرة قدرة
…
هي للنجوم السائرات مسيرة
يا عارف الأفلاك هل لك حاصل
…
من شمسها أو خمسها المتحيرة
ضيعت عمرك فيما لا ينفعك مثقال حبة ونسيت حديث من عرف نفسه فقد عرف ربه، بدنك بيتك سكنت فيه عمراً لم تعرف سقفه وجدرانه وجسدك دارك أقمت فيه دهراً لم تعلم
أركانه وحيطانه فهلا عرفت آفاق الأنفس ومطالع الإدراك أضممت تشريح الأبدان إلى تشريح الأفلاك وهلا فكرت في نفسك وآلاتها ونظرت إلى عينك وطبقاتها وإلى سمعك وصفاته وإلى لسانك ولغاته تدرك بوهم وتبصر بشحم وتسمع بعظم وتنطق بلحم، فإن كانت لك فكرة، ففي كل عضو منك عبرة أما تتفكر في أفراد الانسان أنهم أشباه وأمثال كيف اتحدوا في النوع واختلفوا في الصور والأشكال وكيف تغايروا بالحياة والألوان والأصوات وتباينوا في الأخلاق والآراء والصفات:
ومن صنف الانسان أني وجدتهم
…
وإن كان صنفاً بالسواء صنوفا
فرب ألوف لا تماثل واحدا
…
وربّ فريد قد يكون ألوفا
وكم من كثير لا يسدون ثلمة
…
وكم واحد فيهم يعدّ صفوفا
ألا إن الانسان صفوة الموجودات وخلاصة المكونات وعلة خلق الأرض والسماوات وسبب تكوين البسائط والمركبات نتيجة إيجاد الأفلاك المستديرة وواسطة إبداع النجوم المستنيرة وواقف أسرار اللاهوت وعالم سرائر الملكوت