الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القرآن والعلوم
وللقرآن وجة اجتماعي من حيث تأثيرُه في العقل الإنساني، وهو معجزة التاريخ العربي خاصة، ثم هو بآثاره النامية معجزة أصلية في تاريخ العلم كله على بَسيط هذه الأرض، من لدُن
ظهر الإسلامُ إلى ما شاء الله، لا يذهب بحقها اليوم أنها لم تكن قبلُ إلا سبباً، فإن في الحق ما يَسعُ الأشياء وأسبابها جميعاً.
وليس يرتاب عاقل - ممن يَتدبرون تاريخ العلم الحديث، ويستقصون في أسباب نشأته، ويَتشبثون عند الخاطر من ذلك إذا أقدموا عليه؛ وعند الرأي إذا قطعوا به - أنه لو لم يكن القرآن
الكريم لكان العالمُ اليومَ غيرَ ما هو في كل ما يستطيلُ به، وفي تقدمه وانبساط ظل العقل فيه وقيامه على أرجائه، وفي نموه واستبحارِ عُمرانه.
فإنما كان القرآن أصلَ النهضة الإسلامية وهذه
كانت على التحقيق هي الوسيلةُ في استبقاء علوم الأولين وتهذيبها وتصفيتها، وإطلاق العقل فيما شاء أن يرتعَ منها، وأخذِهِ على ذلك بالبحث والنظرِ والاستدلالِ والاستنباط، وتوفير مادة الرَّوية
عليه بما كان سبباً في طلب العلم للعمل، ومزاولة هذا لذاك، إلى صفاتٍ أخرى ليس هذا موضع بَسطها -
وإن لها لموضعاً متى انتهينا إلى بابها من الكتاب - وهذا كله كان أساس التاريخ العلمي في
أوروبا. فما من موضع في هذا (الأساس) القائم إلا وأنت واجد من دونه قطعةَ من الآداب الإسلامية أو العقول الإسلامية، أو الحضارة الإسلامية، فالقرآن من هذا الوجه إنما هو البابُ الذي
خرج منه العقلُ الإنساني المسترحلُ، بعد أن قطعَ الدهر في طفولةٍ وشباب.
وكل دين سماوي فإنما هو طور من أطوار النمو في هذا العقل الإنساني يستقبل به الزمان درجات جديدة في نشأته الأرضية؛ فما التاريخ كله إلا مِقياس عقلي درجاته وأرقامه هذه العصور
المختلفة التي يستعين العقل منها مقدار زيادته من مقدار نقصانه.
أما من وجه آخر فإن القرآن إنما هو الدرجة الأبدية التي أجاز عليها العالم في انتقاله من جهة
إلى جهة. وإنا لمستيقنون أن هذه الدرجة هي نفسها التي سيجيز عليها العالم كرة أخرى (وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) .
وأما إن هذا القرآن معجزة التاريخ العربي خاصة وأصل النهضة الإسلامية، فذلك بين من كل وجوهه؛ غير أننا سنقول في الجهة التي تتصل بنشأة العلوم، إذ هي سبيل ما نحن فيه من هذا
الفصل، وقد أومأنا إلى بدء تاريخ التدوين العلمي وبعض أسبابه في باب الرواية من الجزء الأول
من تاريخ آداب العرب، فنفتصر هنا على موجز من أسباب النشأة العلمية.
اختلف المسلمون في قراءة القرآن لعهد عثمان رضي الله عنه كما تقدم في موضعه، وبدأت، ألسنة الحضريين ومن في حكمهم من ضعاف الفطرة العربية؛ تجنح إلى اللحن وتزيغ عن الوجوه
في الإعراب؛ وجعل ذلك يفشو بين المسلمين بعد أن اضطرب كلام العرب فداخله الشيء الكثير من المولد والمصنوع؛ وذهب أهل الفتن يتأولون عن معاني القرآن ويحرفون الكلم عن مواضعه،
وخيف على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي الأصل الثاني بعد القرآن؛ ثم فشا الجهل بأمور الدين،
وضعف عامة الناس عن حمل العلم وطلبه، واقتصروا من ذلك على أن يفزعوا إلى العلماء
بالمسألة فيما يحدث لهم وما يرجون أن يتفقوا فيه، ثم تباينت آراء العلماء واختلفت أفهامهم فيما يستنبطون من الأحكام وما يتأولون لها من الكتاب والسنة، واختلط أمر الناس، وأقبلت عليهم
الفتن كقِطع الليل، وامتدت إليهم كأعناق السيل، فكان ذلك كله ما بعث العلماء أن يفترقوا على جهات القرآن؛ حياطة لهذا الدين. وقياماً بفروض الكفاية، يستقبل بعضهم بعضاً بالرفد
والمعاونة، ويأخذون على أطراف الأمر كله، وهو أمر لم يكن أكثره على عهد الصحابة رضي الله عنهم
يوم كان العلم فروعاً قليلة، إذ كانت الأعلام بينة لائحة، وطريق الإسلام لا تزال فيها آثار النبوة واضحة، ومن ثم جعلت العلوم تنبع من القرآن ثم تستجيشُ وتتسع، وأخذ بعضها يمد بعضاً.
قال أحد العلماء: " فاعتنى قوم بضبط لغاتهِ وتحريز كلماتهِ، ومعرفة مخارج حروفه، وعددها، وعددِ كلماته وآياته وسوَره وأحزابه وأنصافه وأرباعه، وعدد سَجداته، والتعليم عند كل
عشر آيات؛ إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهة، والآيات المتماثلة، من غير تعرضٍ لمعانيه، ولا تدبر لما أودع فيه فسموا القراء!
" واعتنى النحاة بالمعرب منه والمبني من الأسماء والأفعال والحروف العامة وغيرها، وأوسعوا الكلام في الأسماء وتوابعها، وضروب الأفعال.
واللازم والمتعدى، ورسوم خط الكلمات وجميع ما لعلق به، حتى إن بعضهم أعرب مشكله، وبعضهم أعربه كلمة.
" واعتنى المفسرون بألفاظه، فوجدوا منه لفظاً يدل على معنى واحد، ولفظاً يدل على معنيين، ولفظاً يدل على أكثر، فأنجرَوا الأول على حكمه، وأوضحوا معنى الخفي منه، وخاضوا
في ترجيح أحد محتملات ذي المعنيين أو المعاني، وأعمل كل منهم فكره، وقال بما اقتضاه نظره. .
" واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة العقلية والشواهد الأصلية والظرية، فاستنبطوا منه، وسموا هذا العلم بأصول الدين.
" وتأملت طائفة منهم معاني خطابه، فرأت منها ما يقتضي العموم ومنها ما يقتضي الخصوص، إلى غير ذلك، فاستنبطوا منه أحكام اللغة من الحقيقة والمجاز.
" وتكلموا في التخصيص والأخبار والنص والظاهر والمجمل والمحكم والمتشابه والأمر والنهي والنسخ، إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة واستصحاب الحال والاستقراء، وسموا هذا الفن أصول الفقه.
" وأحكمت طائفة صحيح النظر وصادق الفكر فيما فيه من الحلال والحرام وسائر الأحكام؛
فأسسوا أصوله، وفرعوا فروعَهُ، وبسطوا القول في ذلك بسطاً حسناً، وسموه بعلم الفروع، وبالفقه أيضاً.
" وتلمحت طائفة ما فيه من قِصَصِ القرون السالفة، والأمم الخالية، ونقلوا أخبارهم، ودونوا أخبارهم ووقائعهم، حتى ذكروا بدء الدنيا وأولَ الأشياء؛ وسموا ذلك بالتاريخ والقَصَصِ.
" وتنبه آخرون لما فيه من الحِكم والأمثال والمواعظ التي تُقلْقل قلوبَ الرجال، فاستنبطوا مما فيه من الوعد والوعيد والتحذير والتبشير وذكر الموت والميعاد والحشر والحساب والعقاب
والجنةِ والنار - فصولاً من المواعظ وأصولاً من الزواجر، فسموا بذلك الخطباء والوعاظ.
" وأخذ قوم مما في آية المواريث من ذكر السهام وأربابها وغير ذلك - علمَ الفرائض،
واستنبطوا منها من ذكر النصف والربع والسدس والثمن حساب الفرائض.
" ونظر قوم إلى ما فيه من الآيات الدالة على الحِكم الباهرة في الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم والبروج غير ذلك، فاستخرجوا منه علم المواقيت.
" ونظر الكتابُ والشعراءُ إلى ما فيه من جزالة اللفظ، وبديع النظم، وحسنِ السياق، والمبادئ والمقاطع والمخالص والتلوين في الخطاب، والإطناب والإيجاز، وغير ذلك،
واستنبطوا منه المعاني والبيان والبديع".
انتهى تحصيلاً.
وإنَّما أوردنا هذا القول لنكشفَ لك عن معنى عجيب في هذا الكتاب الكريم، فهو قد نزل في البادية على نبي أمِّي وقوم أميين لم يكن لهم إلا ألسنتُهم وقلوبهم، وكانت فنونُ القول التي يذهبون فيها مذاهبهم ويتواردون عليها، لا تجاوز ضروباً من الصفات، وأنواعاً من الحكم، وطائفة
من الأخبار والأنساب، وقليلاً مما يجري هذا المجرى، فلما نزل القرآن بمعانيه الرائعة التي افتن بها في غير مذاهبهم، ونزع منها إلى غير فنونهم، لم يقفوا على ما أريد به من ذلك، بل حملوه
على ظاهره وأخذوا منه حُكم زمانهم، وكان لهم في بلاغته المعجزة مَقنَع، وما درى عربي واحد من أولئك لِمَ جعل الله في كتابه هذه المعاني المختلفة، وهذه الفنونَ المتعددة، التي يهيجُ بعضُها
النظر، ويشحذ بعضها الفكر، ويمكن بعضها اليقين، ويبعث بعضها على الاستقصاء،
وهي لم تكن تلتئم على ألسنتهم من قبل؛ بيدَ أن الزمان قد كشف بعدهم عن هذا المعنى، وجاء به دليلاً
بيناً منه على أن القرآن كتاب الدهر كله؛ وكم للدهر من أدلة على هذه الحقيقة ما تبرح قائمة؛ فعلمنا من صَنيع العلماء أن القرآن نزل بتلك المعاني، ليخرج للأمة من كل معنى علماً برأسِه، ثم
يعمل الزمن عمله فتخرج الأمة من كل علم فروعاً، ومن كل فرع فنوناً إلى ما يستوفى في هذا
الباب على الوجه الذي انتهت إليه العلوم في الحضارة الإسلامية؛ وكان سبباً في هذه النشأة الحديثة من بعد أن استدار الزمان وذهبت الدنيا مُستدبرة وأنشأ الله القرونَ والأجيالَ لتبلغ هذه الحادثة أجلَها ويتناهى بها القضاء وإن من شيء إلا عند الله خزائنه، ولكنه سبحانه وتعالى يقول:
(وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) .
ولقد كانت النهضة العلمية في زمن بني أمية قائمة بأكثر العلوم الإسلامية التي مرَّت الإشارة إليها، حتى امتهد أبو جعفر المنصور؛ ثم الرشيد من بعده للنهضة العباسية الكبرى التي نثات من
جمع كلمة أهل الفقه والحديث بعد انشقاقهم زمناً وافتراق الكلمة بينهم - ومن إقبال الناس على الطلب والاستيعاب؛ فكان ذلك تهيئة لانشقاق علوم الفلسفة والكلام وما إليها وظهور أهلها
وانحياز السنة عنها جانباً، ثم اجتماعها على مناظرتها؛ فإن المنصور لما حج في سنة 163 هـ
لقيه مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه بمنى على ميعاد، بعد الذي كان مما أنزل به جعفرُ بن سليمان عامل المنصور على المدينة من الضرب بالسوط وانتهاك الحرمة وإزالة الهيبة،
قال مالك رحمه الله: (ثم فاتحني (يعني المنصور) فيمن مضى من السلفِ والعلماء، فوجدته أعلَم الناس بالناس؛ ثم فاتحني في العلم والفقه فوجدته أعلم الناس بما اجتمعوا عليه وأعرفَهم بما اختلفوا
فيه، حافظاً لما روى، واعياً لما سمع، ثم قال لي: يا أبا عبد الله، ضع هذا العلم ودون منه كتباً،
وتجنَّب شدائدَ عبد الله بن عمر، ورُخَصَ عبد الله بن عباس، وشواذ ابن مسعود، واقصد إلى أواسط الأمور وما اجتمع عليه الأئمةُ والصحابة رضي الله تعالى عنهم، لنحمل الناس إن شاء الله
على علمك وكتبك، ونبثُّها في الأمصار، ونعهدَ إليهم أن لا يخالفوها ولا يقضوا بسواها.
فقلت: أصلح الله الأمير، إن أهل العراق لا يرضون علمنا ولا يرون في علمهم رأينا.
فقال أبو جعفر: " يُحمَلون عليه وتُضرب عليه هاماتُهم بالسيف وتُقطَع ظهورهم بالسياط!! فتعجل بذلك وضَعها،
فسيأتيك محمد ابني (المهدي) العامَ القابل إن شاء الله إلى المدينة ليسمعها منك، فيجدك وقد فرغتَ من ذلك إن شاء الله! ".
ثم قدم المهدي على مالك، وقد وضع أجزاء كتابه (المُوطأ) فأمر بانتساخها وقرِئت على مالك.
إلى أن كانت سنة 174 هـ فخرج الرشيد حاجاً، ثم قدم المدينة زائراً، فبعث إلى مالك فأتاه فسمع منه كتابه ذلك، وحضرهُ يومئذ فقهاء الحجاز والعراق والشام واليمن، ولم يتخلف من
رؤسائهم أحد إلا وحضر الموسمَ مع الرشيد، وسمع وسمعوا من مالك موَطأهُ كله، ثم أنكروا عليه مسألة فناظروه فيها، حتى إذا كشَف لهم عن وجهها وأبان فيها طريق الرواية والتأويل صاروا
إلى الرضى بقوله والتصديق لروايته والتسليم لتأويل ما تأوّل.
لا جرَمَ كان هذا سبباً في اجتماع كلمة الفقهاء، إن لم يكن ديانةَ فسياسة، ولم يؤثرَ من بعدها عن جماعة أهل العراق ما كانوا يستطيلون به على أهل الأمصار الأخرى، من عرض الدعوة
وتطويل الحديث، وتخطئة من لا يليهم أو يواليهم؛ وقد كانوا قبل ذلك يربونهم ويضيقون عليهم متنفسهم من العلم، ويرون أن هذا العلم عراقي، وأنْ ليس الأمر مع غيرهم بحيث إذا هو
جد فيه رأى المادّة مؤاتية وبلغ منه مثل الذي بلغوه وكان دركه حقيقاً بأن يسمى عندهم دركاً،
ولعل ذلك جاءهم في الأصل من قبل العربية وأهلها، فقد علمت من (باب الرواية) كيف كانوا يبسطون ألسنتهم ويتنبَّلون بعلمهم ويذهبون بأنفسهم؛ إذ لم يكن في الأرض أعلم منهم بالعربية؛
ولا أوثق في روايتها، ولا أجمع لأصولها، ولا أصح في ذلك كله.
ولسنا نريد أن نخوض في الكشف عن مبدأ انتشار العلوم النظرية والعلل الباعثة عليها،
ومن كان مع أهلها من الخلفاء ومن كان عليهم فلذلك موضع في كتاب التاريخ هو أملك به وأوفى، غير أننا نوثق الكلمة في أن القرآن الكريم هو كان سبب العلوم الإسلامية ومرجعها
كلها - بأنه ما من علم إلا وقد نظر أهله في القرآن وأخذوا منه مادة علمهم أو مادة الحياة له، فقد كانت سطوة الناس في الأجيال الأولى من العامة وأشباه العامة شديدة على أهل العلوم
النظرية، إلا أن يجعلوا بينها وبين القرآن نسباً من التأويل والاستشهاد والنظر، أو يبتغوا بها مقصداً ممن مقاصده، أو يريغوا معنى من معاني التفقه في الدين والنظر في آظار الله، إلى ما يشبه ذلك مما يكون في نفسه صلة طبيعية بين أهل العقول والبحث وأهل القلوب والتسليم.
وما يزال أثر ذلك ظاهراً في فواتح الكتب العلمية لذلك العهد على اختلافها فما تستفتح من كتاب إلا أصبت في مقدمته غرضاً من تلك الأغراض التي أشرنا إليها، أو ما يصلح أن يكون
غرضاً منها؛ ثم هو أمر ليس أدل على تحقيقه من كتب التفسير، فإنه لا يعرف في تاريخ العالم كله - من لدن أرخ الناس - كتابٌ بلغت عليه الشروح والتفاسير والأقوال والمصنفات المختلفة ما
بلغ من ذلك على القرآن الكريم ولا شبيهاً به ولا قريباً منه، حتى فسرته الروافض بالجفْر، على فساد ما يزعمون وسخافة ما يقولون، وعلى سوء الدعوى فيما يدعون من علم باطنه بما وقع إليهم
من ذلك الجفر واستنبط منه غيرهم إشارات من الغيب بضروب من الحساب، كهذا الذي ينسبونه إلى الحسن بن علي رضي الله عنه من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في رؤياه ملوك بني أمية رجلاً "
رجلاً، فساءهُ ذلك، فأنزل الله عليه ما يُسرِّي عنه من قوله في القرآن
(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) .
قالوا: يعني بألف شهر مدةَ الدولة الأموية! فقد كانت أيامها خالصةَ ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر مجموعها ألف شهر سواء
وحتى زعم بعضهم أن الكلمات التي في أوائل السور إنما تحتوي مدد أعوام وأيام لتواريخ أمم سالفة، وإن فيها تاريخ ما مضى وما بقي مضروباً بعضها في بعض، إلا كثير من مثل هذا مما يُخطئه الحصر، وإنما أشرنا إلى بعضه لغرابته، ولأن أغرب ما فيه أنه عند أهله من بعض ما يفسَّرُ
به القرآن،
وقد أوردنا في باب الرواية من التاريخ أن أبا علي الأسواري القاص البليغ، فسَّر القرآن بالسِّيَر والتوارييخ ووجوه التأويلات، فابتدأ في تفسير سورة البقرة، ثم لبث يَقص ستا وثلاثين سنة،
ومات ولم يختمه، وكان ربما فسر الآية الواحدة في عدة أسابيع لا يَني ولا يتخلف، وليس في
هذا الخبر شيء من المبالغة أو التزيُّد، بل عسى أن يكون الأمر مع أهل التحقيق والاطلاع أبلغ منه، وهذه كتب التفسير التي عذها صاحب (كشف الظنون) وسرد أسماءَها في كتابه، تبلغ ثلثمائة ونيفاً، والرجل إنما عد بعضها كما يقول. وأنت فلا يذهبن عنك أن كل كتاب منها فإنما هو في
المجلدات الكثيرة إلى مائة مجلد، وإلى ما يفوق المائة أحياناً، فقد رأينا في بعض كتب التراجم أن أبا بكر الأدفوي المتوفى سنة 388 هـ صنَّف (كتاب الاستغناء) في تفسير القرآن في مائة مجلد،
وكان منفرداً في عصره بالإمامة في أنواع من القراءات والعربية وفنون كثيرة من العلم، وذكر الفيلسوف (أرنست رِنان) أنه وقف على ثَبت يدل على أنه قد كان في إحدى مكاتب الأندلس التي
أحرقت تفسير القرآن في ثلثمائة مجلد. وذكر الشعراني في كتابه (المِنن) تفسيراً قال إنه في ألف مجلد.
وهذا كله غير ما أفرِد بالتصنيف من الكتب والرسائل التي لا تحصى في مسائلَ من القرآن وفي مُشكلهِ وغريبه ومجازِه ومعانيه وضميره وشواهده وأسلوبِ نظمه والمتشابه من آياته وأمثاله
وحروفه وإعرابه وأسمائه وأعلامه وناسخهِ ومنسوخه وأسباب نزوله، إلى كثير من مثل ذلك مما حَفِيَت فيه أقلامُ العلماء، بحيث لا يعلم إلا الله وحده كم يبلَغ ما وُضِع لخدمة كتابه الكريم؛ ولا
يعلم الناس من ذلك إلا أنه معجزة من معجزات التاريخ العلمي في الأرض لم يتفق له في ذلك شبيه من أول الدنيا إلى اليوم، ولن يتفق.
وقد استخرج بعض علمائنا من القرآن ما يشير إلى مستحدثات الاختراع وما يحقق بعض غوامض العلوم الطبيعية، وبسطوا كل ذلك بسطاً ليس هو من غرضنا فنستقصي فيه على أن هذا
ومثله إنما يكون فيه إشارة ولمحة ولعل متحققاً بهذه العلوم الحديثة لو تدبر القرآن وأحكم النظرَ فيه وكان بحيث لا تُعْوِزُهُ أداةُ الفهم ولا يلتوي عليه أمر من أمره. . لاستخرج منه إشارات كثيرة
تومئ إلى حقائق العلوم وإن لم تبسط من أنبائها، وتدل عليها وإن لم تسمها بأسمائها، بلى وإن في هذه العلوم الحديثة على اختلافها لعَوناً على تفسير بعض معاني القرآن والكشفِ عن حقائقه،
وإن فيها لجِمَاماً ودُرْبة لمن يتعاطى ذلك؛ يُحكِمُ بها من الصواب ناحية، وُيحرز من الرأي جانباً؛
وهي تَفتِق لها الذهن، وتؤاتيه بالمعرفة الصحيحة على ما يأخذ فيه، وتُخرج له البرهانَ وإن كان في
طبقات الأرض، وتنزل عليه الحجة وإن كانت في طباق السماء.
ولا جَرَمَ أن هذه العلوم ستدفع بعد تمحيصها واتصال آثارها الصحيحة بالنفوس الإنسانية إلى غاية واحدة، وهي تحقيق الإسلام، وأنه الحق الذي لا مرية فيه، وأنه فِطرةُ الله التي فطر الناس
عليها، وأنه لذلك هو الدين الطبيعي للإنسانية؛ وسيكون العقلُ الإنساني آخر نبي في الأرض، لأن
الذي جاء بالقرآن كان آخر الأنبياء من الناس، إذ جاءهم بهذا الدين الكامل، ولا حاجة بالكمال الإنساني لغير العقول ينبه إليه بعضها بعضاً، ومن لا يُجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض! .
وقد أشار القرآن إلى نشأة هذه العلوم وإلى تمحيصها وغايتها على ما وصفناه آنفاً، وذلك قوله تعالى:(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) .
ولو جمعتَ أنواع العلوم الإنسانية كلها ما خرجت في معانيها من قوله
تعالى: (فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) هذه آفاق، وهذه آفاق أخرى، فإن لم يكن هذا التعبير من الإعجاز الظاهر بداهة فليس يصح في الأفهام شيء.
ذلك وأن من أدلة إعجاز هذا الكتاب الكريم أن يخطئ الناس في بعض تفسيره على اختلاف العصور، لضعف وسائلهم العلمية ولقصَر حبالهم أن تعلقَ بأطراف السموات أو تحيطَ بالأرض، ثم تصيب الطبيعة نفسها في كشف معانيه؛ فكلما تقدم النظر، وجمعت العلوم، ونازعت
إلى الكشف والاختراع، واستكملت آلات البحث، ظهرت حقائقه الطبيعية ناصعة حتى كأنه غاية لا يزال عقل الإنسان يَقطَعُ إليها، حتى كأن تلك الآلات حينما توجَّه لآيات السماء والأرض توجه
لآيات القرآن أيضاً (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) .
ذلك هو الأمرُ في العلوم الألى (ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) .