المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الجمل وكلماتها والجملة هي مظهرُ الكلام، وهي الصورة النفسية للتأليف الطبيعي، - إعجاز القرآن والبلاغة النبوية للرافعي

[مصطفى صادق الرافعي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌القُرآن

- ‌فصل

- ‌تاريخ القُرآنجمعُه وتدوينه

- ‌القراءة وطرق الأداء

- ‌القُرَّاء

- ‌وُجوه القِرَاءة

- ‌قراءة التَلحِيْن

- ‌لغة القرآن

- ‌الأحرف السَّبعة

- ‌مفردات القرآن

- ‌تأثير القرآن في اللغة

- ‌الجنسيَّة العربية في القرآن

- ‌آدابُ القرآن

- ‌القرآن والعلوم

- ‌سرائر القرآن

- ‌تفسير آية

- ‌إعجاز القرآن

- ‌فصل

- ‌الأقوال في الإعجاز

- ‌مؤلفاتهم في الإعجاز:

- ‌حقيقة الإعجاز

- ‌التحدي والمعارضة:

- ‌أسلوبُ القرآن

- ‌نظمُ القرآن

- ‌الحروف وأصواتها

- ‌الكلمات وحُروفها

- ‌الجمل وكلماتها

- ‌(فصل)غرابة أوضاعه التركيبية

- ‌(فصل)البلاغة في القرآن

- ‌(فصل)الطريقة النفسية في الطريقة اللسانية

- ‌(فصل)إحكام السياسة المنطقية على طريقة البلاغة

- ‌الخاتمة

- ‌البلاغة النبوية

- ‌(فصل)

- ‌فصاحته صلى الله عليه وسلم

- ‌صفته صلى الله عليه وسلم

- ‌إحكام منطقه صلى الله عليه وسلم

- ‌اجتماع كلامه وقلته صلى الله عليه وسلم

- ‌نفي الشعر عنه صلى الله عليه وسلم

- ‌تأثيره في اللغة صلى الله عليه وسلم

- ‌نسق البلاغة النبويَّة

- ‌(فصل)الخلوص والقصد والاستيفاء

الفصل: ‌ ‌الجمل وكلماتها والجملة هي مظهرُ الكلام، وهي الصورة النفسية للتأليف الطبيعي،

‌الجمل وكلماتها

والجملة هي مظهرُ الكلام، وهي الصورة النفسية للتأليف الطبيعي، إذ يُحيلُ بها الإنسان هذه المادة المخلوقة في الطبيعة، إلى معاني تُصورها في نفسه أو تصفها، ترى النفس هذه المادة المصورة وتحسها.

على حين قد لا يراها المتكلم الذي أهدَفَها لكلامه غرضاً ولكنه بالكلام كأنه

يراها.

ولذا كانت المعاني في كلماتها التي تؤدي إليها كأنها في الاعتبار بقية الشعاع النظري الذي اتصل بالمادة الموصوفة، أو بقية حس آخر من الحواس التي هي في الحقيقة جملة آلات الإنسان في صنع اللغة.

فإذا ركب الكلام على أصل من التركيب لا يتأدى بالمعاني إلى أبعد من مظاهر الحس، فهذا هو الكلام الطبيعي الذي لا يزيد من فضيلة المتكلم أكثر مما تزيد الحواس نفسها في هذا المتكلم

من فضيلة الإنسانية، وذلك أصل هو من رقة الشأن وخفة المنزلة بحيث يخرج الناس جميعاً بالسواء فيه ليس لأحد منهم على أحد فضل، ما دام الكلام سواء فيهم من أصل الخلقة وطبيعة الحياة.

أما إذا خرج الكلام إلى أن يكون في أوضاعه ومعانيه كأنه تصرف من الحواس في أنواع الإدراك ودرجاته كتصرف النظر في اكتناه الجمال وإدراك معانيه؛ أو السمع في استبانة الأصوات وحس نغماتها، إلى ما يشبه ذلك من صنع سائر الحواس في كمالها العصبي - فهذا هو الكلام

النفسي الذي يضيف إلى صفة المتكلم صفة البلاغة ويرتفع به عن أن يكون إنساناً من الجنس إلى أن يكون - بفضيلة البلاغة - مادة إنسانية لجنس الإنسان.

فإذا ارتفع الكلام إلى أن يصير في تقليبه ومداورته كأن طرق ما بين الحواس في أنواع إدراكها وبين النفس، فلا يخطئ التأثيرَ ولا ينافر جهة من جهاته ولا يعدو أن يبلغَ من الفؤاد مبلغه الذي قسم له - فهذا هو الكلام الذي يبين البليغ ويفرده من قومه ويجعله مهوى قلوبهم وصمت

أبصارهم إذ يكون في نفسه من هذه القوة البيانية ما يجعله خليقاً أن يعتده التاريخ أحد المجامع النفيسة في الأرض، وهم الذين لا يكثرون بعددهم، ولكن بمواهبهم؛ حتى إن أحدهم ليكون أمة في نفسه.

ويكون عمله تاريخ عصر من أمة؛ وهم أولئك الأفراد العظماء الذين تبتدئ درجاتهم مما بين الخلقِ بعضهم من بعض، إلى ما بين الخلق والخالق، من الشعراء إلى الأنبياء.

فإذا بعد الكلام وأمعن حتى يكون بدقائق تركيبه وطرفِ تصويره كأنما يفيض النفسَ على الحواس إفاضة، ويترك هذا الإنسان من الإحساس به كأنه قلب كله، ثم يبلغ من ذلك إلى أن يكون روح لغة كاملة وبيان أمة برفتها، لا يحيله الزمن عن موضعه، ولا يقلبه عن جهته، وإلى أن

ص: 163

يجعل البلغاء على تفاوتهم فيما بينهم، وعلى اختلاف عصورهم وأسبابهم المتلاحقة، وكأنهم معه طبقة واحدة وفي طوقٍ واحد من العجز؛ يعنيهم طلبه، ويعنِتهم إدراكه ويعرفون تركيبه ثم لا يجدون له مأتى من النفس ولا وجهاً من القدرة فذلك هو الكلام المعجز، بل هو معجزة الطبيعة

الكلامية التي لم تعرف في تاريخ أمة من أمم الأرض، ولا عرف أن بلغاء أمة من أمم الكلام قد أقروا وأجمعوا عليها إجماعاً يتوارثونه علماً ونظراً على انفساح التاريخ وتعاقب الأجيال، إلا ما كان

من ذلك في القرآن، وما لا يزال الإجماع منعقداً عليه ما بقي في الأرض لفظ من العرب.

وإنما اطرد ذلك للقرآن من جهة تركيبه الذي انتظم أسباب الإعجاز من الصوت في الحرف، إلى الحرف في الكلمة، إلى الكلمة في الجملة، حتى يكون الأمر مقدراً على تركيب الحواس

النفسية في الإنسان تقديراً يطابق وضعَها وقواها وتصرفها، وذلك إيجاد خلقي لا قِبَل للناس به ولم يتهيأ إلا في هذه العربية عن طريق المعجزة التي لا تكون معجزة حتى تخرق العادة، وتفوت المألوف، وتعجز الطوقَ، وإنما امتنع أن يكون في مقدور الخلق، لأنه تفصيل للحروف على

النحو الذي يأخذه فيه تركيب الحياة، من تناسب الأجزاء في الدقيق والجليل، وقيام بعضها ببعض لا يغني منها شيء عن شيء في أصل التركيب وحكمته ولا يرد غيرها مردها ولا يأتلف ائتلافها

ولا يجري فيها إلى نحو ذلك مما أجرى الله عليه نشءَ الخلق وبعث الحياة، ثم اشتمالها على سر التركيب المكنون الذي جعل البلغاء منها بمنزلة الأطباء في سعة العلم بتركيب الأجسام الحية من

الخلية فما فوقها، دون العلم بالوجه الذي يمكن به التركيب، على أنهم لا يفوتهم شيء من دقائقه ولا يعزب عنهم مثقال ذرة من مادته، وهي بعد مبذولة لهم يقبلونها وششوضحونها ويزدادون بها

على الدهر خبرة، ثم ينصرفون عنها وهم في العلم غير من كانوا وهي لا تزال عندهم على ما كانت!

ولم نرَ شيئاً كان أمره مع العلم ذلك الأمر إلا أن يكون إلهياً، فقد فرغ الناس من كل ما وضع الناس، وعارض بعضهم بعضها، وأبرّ بعضهم على بعض ولم يسلم للمتقدم من الفضل على المتأخر إلا فضيلة احترام الموت واستحياء التاريخ، وقد بدِّلت الأرض غير الأرض وليس فيها من

أثر واحد لم يتناوله ناموس النشوء بالنقض من إحدى جهاته على هرم الدهر وتقادمه، غير القرآن فإنه طبقة وحده في إعجاز تركيبه وسلامة معانيه، لم تنقض منه آية ولا كلمة ولا ما دون الكلمة،

ولا ذُكر معه شيء من كلام البلغاء.

ولا عورض به ولا أزيل عن موضعه، ولا وزنه عقل إلا كان

مرجوحاً أبداً، وما أراده أحد إلا أراده بغير طريقته، ولا بحث عن طريقته إلا عي بإدراكها وبَعل بها ولم يدر ما هي ولا كيف هي ولا من أين يأتي لها، وصار أمره نشراً لا نظام له وعاد علمه جهلاً لا بصيرة معه:

ولعمري إنه لشى في العجائب كلها شيء أعجب من إمكان أن يكون القرآن

مع هذا الإعجاز كله غير معجز. . .!

ولقد كانت هذه الطريقة المعجزة التي نزل بها القرآن هي السبب في حفظ العربية واستخراج علومها؛ وما كان أصل ذلك إلا التحدي بها، فإن من حكمة هذا التحدي أن يدعوَهم إلى النظر في

ص: 164

أساليبه ووجه نظمه وتدبُر طريقته، وأن يروزوا أنفسهم منها وَيزنوها به، حتى إذا استيقنوا العجز وأطرقوا عليه، كان ذلك سبباً لمن يخلفهم على اللغة إلى استبانة وجوه الإعجاز، فكشف لهم

عن فنون البلاغة، وتأدت بهم إلى حيث بلغوا من تتبع كلام العرب والاستقصاء فيه والكشف عن محاسنه، وأغرى بعض ذلك من بعضه، وأعان كل على كل، حتى اجتمعت المادة وتلاحقت

الأسباب ولولا ما صنعوا لخرج الناس إلى العخمَة، ولذهبت هذه الآداب ولما بقي في الأرض إلى اليوم من يقول إن القرآن معجز! .

وذلك بأن العرب لم يكن لهم من البلاغة إلا علم الفطرة، ولم يكن لمن بعدهم من هذه الفطرة إلا ما ترجعه الوراثة من أوليتهم، وهو شيء تتولاه العصور بالتحول والزيغ، وتدأب عليه بالنقض والاختلاف، حتى يخرج عن أصله إلى أن يكون أثلاً جديداً، ثم إلى أن تنشق منه أصول

أخرى وهي الطريقة التي تنشأ بها اللغات وتستمر وتذهب في الاشتقاق، فلا يبقى على ذلك من البلاغة العربِة شيء ينفذ إليه العلم أو تستطيعه القدرة، إذ تكون العربية نفسها قد درست وانتثرت

بقاياها في القبور والأنقاض.

ومن البيِّن أن أخص أسباب الارتقاء كائن في الغَلبة، والتميز والانفراد حيث وُجدت، فلو جاء القرآن مثل كلام العرب في الطريقة والمذهب، وفي الصفة والمنزلة، لما صَلُحَ أن يكون سبباً

لما أحدثه، ولذهب مع كلام العرب، ثم لتدافعته العصور والدول إن لم يذهب، ثم لبقي أمره

ص: 165

كبعض ما ترى من الأمور الإنسانية؛ لا ينفرد ولا يستعلي.

فتدبر أنت هذا الأمرَ العجيب الذي كان الأصل فيه نزولَ آيات التحدي، وتأمل كيف أثبت القرآن إعجازه على الدهر بهذه الآيات القليلة، وكيف ضمن بما وراءها نثاة العقول التي تدرك هذا

الإعجاز وتقر به، وتكون مادة لتاريخه الأبدي، لا تضعف ولا تنحسم؛ وهل بعد هذا من ريب في قول الله تعالى يخاطب الرسول عليه الصلاة والسلام:(وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)

فقد علم الله هذا الأمر كيف يكون وكيف يثبت، فقدره بعلمه وفصله بحكمته قبل أن يقع، فانظر إلى آثار رحمة الله.

أما ألفاظ هذا الكتاب الكريم، فهي كيفما أدرتها وكيفما تأملتَها وأين اعترضتها من مصادرها أو مواردها ومن أي جهة وافقتها؛ فإنك لا تصيب لها في نفسك ما دون اللذة الحاضرة، والحلاوة

البادية، والانسجام العذب؛ وتراها تتساير إلى غاية واحدة، وتسنَح في معرض واحد، ولا يمنعها اختلاف حروفها وتباين معانيها وتعدد مواقعها من أن تكون جوهراً واحداً في الطبع والصقل، وفي

الماء والرونق؛ كأنما تتلامح بروح حية ما هو إلا أن تتصل بها حتى تمتزج بروحك وتخالِطَ إحساسك فلن تكون معها إلا على حالة واحدة.

تختلف الألفاظ ولا تراها إلا متفقة، وتفترق ولا تراها إلا مجتمعة، وتذهب في طبقات البيان وتنتقل في منازل البلاغة، وأنت لا تعرف منها إلا روحاً تداخلُك بالطرب، وتُشرِب قلبكَ الروعة، وتنتزع من نفسك حس الاختلاف الذي طالما تدبرت به سائر الكلام، وتصحفت به على

البلغاء في ألوان خطابهم وأساليب كلامهم وطبقات نظامهم، مما يعلو ويسفلُ، أو يستمر وينتقض، أو يأتلف ويختلف. . إلى غيرها من آثار الطباع الإنسانية فيما يعتريها من نقص أو كلال أو غفلة، ومما هو صورة في الكلام لوجوه اختلافها بالقوة والضعف في أصل الخلقةِ وطريقةِ

النشأة وأسباب التحصيل وآلات الصناعة إذ كل ذلك ليس في كل الطباع الإنسانية على سواء.

فأنت ما دمت في القرآن حتى تفرغ منه، لا ترى غير صورة واحدة من الكمال وإن اختلفت أجزاؤها في جهات التركيب وموضع التأليف وألوان التصوير وأغراض الكلام، كأنها تفضي إليك

جملة واحدة حتى تؤخذ بها وَيغلبَ عليك شبيه في التمثيل مما يغلب على أهل الحسق بالجمال إذا عَرَضت لأحدهم صورة من صوره الكاملة، فإن لم ضرباً من النظر يعتريهم في تلك الحالة خاصة،

ولو سَميتَه حس النظر الفكري لم تُبعِد، فهو يبتدئ في الصورة الجميلة ويستتم في النفس، فلو أنها أغمضت العين دونها لبقيت الصورة ماثلة بجملتها في الفكر، ولو وقفت العين على وجهة واحدة منها لوصلها الفكر بسائر أجزائها فتمثلت به سوية التركيب تامة الخلق، في حين لا ترى

العين إلا هذه الجهة وحدها.

وذلك أمرٌ متحقق بعد في القرآن الكريم: يقرأ الإنسان طائفة من آياته فلا يلبث أن يعرف لها صفة من الحسِّ ترافد ما بعدها وتمده، فلا تزال هذه الصفة في لسانه ولو استوعب القرآن كله،

ص: 166

حتى لا يرى آية قد أدخلت الضيمَ على أختها، أو نكرت منها، أو أبرزتها على ظل هي فيه. أو

دفعتها عن ماء هي إليه، ولا يرى ذلك كله إلا سواءَ وغاية في الروح والنظم والصفة الحسية، لا يغتمص في هذا إلا كاذب على دِخلة ونية، ولا يُهجن منه إلا أحمق على جهل وغرارة، ولا يمتري فيه بعد هذين إلا عامى أو أعجمي. . (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) .

إن طريقة نظم القرآن تجري على استواء واحد في تركيب الحروف باعتبار من أصواتها ومخارجها، وفي التمكين للمعنى بحس الكلمة وصفتِها، ثم الافتنان فيه بوضعها من الكلام،

وباستقصاء أجزاء البيان وترتيب طبقاته على حسب مواقع الكلمات، لا يتفاوت ذلك ولا يختل،

فمن أين يدخل على قارئه ما يَكد لسانه، أو ينبو بسمعه؛ أو يفسد عليه إصغاءه أو يرده عما هو منه بسبيله؛ أو يتقسم إحساسه ويتوزع فكره؛ أو يورده الموارد من ذلك كله أو بعضه؛ إلا أن يكون

هذا القارئ رَيضاً لم تفلح فيه رياضة البلاغة، ولا أجدى عليه التمرين والدُّربة؛ فخرج ألف اللسان بليدَ الحس متراجع الطبع، لم يبلغ مبلغ الصبيان في إحساس الغريزة وصفاء هذه الحاسة

واطراد هذا الصفاء.

فإننا لنعرف صبيان المكاتب - وقد كنا منهم - وما يسهل عليه القرآن وإظهاره، ولا يمكنه في أنفسهم حتى يثبتوه، إلا نظمه واتساق هذا النظم، ولو هم أخذوا في غيره من فنون المعارف أو متون العلوم أو مختارِ الكلام أو نحوه مما يرادون على حفظه، أفي ذلك كان، لأعياهم وبلغ منهم

إلى حد الانقطاع والتخاذل، حتى لا يجمعوا منه قدراً في حجم القرآن إن جمعوه إلا وقد استنفدوا من العمر أضعاف ما يقطعونه في حفظ القرآن: على أنهم يبلغون من هذا بالعفو والأناة، ولا يبلغون مثله من ذلك إلا بالعنتِ والجهد.

وقد ينسى أحدهم الآية من القرآن فينقطع إلى الصمت من قراءته، أو تتدخل في لفظه بعض الآيات المتشابهة في السور، أو يسقط بعض اللفظ في تلاوته فيضل في ذلك، ثم لا ييسره للذكر، ولا يذكره بالآية المنسية أكثر ما يتذكر، إلا نسقُ الحروف في بعض كلماتها، ولا يبين له مواقع

الكلِم المتشابهاتِ، إلا نظام كل كلمة من آيتها، ولا يهديه إلى ما أسقطه من اللفظ غير إحساسه باضطراب النظم وتخلخل الكلام، ولقد كان ذلك أكبر ما كنا نستعين به أيام الحداثة على اتقاء

الغلط والمداخلة والسهو، وكنا نفزع إليه إذا جلسنا بين يدي فقيهنا رحمه الله مجلس القراءة (والتسميع) . وقد عرفنا أن تأذِّي سمعهِ مقرون بأذى عصاه. . وكم تواصفنا مع أذكياء الصبيان في

(الكُتَّاب) فما رأينا منهم إلا من ادخر لمحنتهِ من ذلك أشياء.

ص: 167

لا جرم كان القرآن في نظمه وتركيبه على الأصل الذي أومأنا إليه: نمطاً واحداً في القوة والإبداع، ولا تقع منه على لفط واحد يُخل بطريقته، ما دامت تنعطف على جوانب هذا الكلام

الإلهي وما دام في موضعه من النظم والسياق فإذا أنت حرَّفت ألفاظه من مواضعها، أو أخرجتها

ص: 168

من أماكنها، وأزلتها عن روابطها حَصَلت معك ألفاظ كغيرها بما يدور في الألسنة ويجري في الاستعمال، ورأيتها - وهي في الحالين لغة واحدة - كأنما خرجت من لغة إلى لغة، لجد ما كانت

فيه مما صارت إليه، بيد أنك إذا تعرفت ألفاظ اللغة على هذا الوجه في كلام عربي غير القرآن،

أصبت أمراً بالخلاف، ورأيت لكل لفظة روحاً في تركيبها من الكلام فإذا أفردْتها وجدتها قريبة مما كانت، لأنها هي نفسها التي كانت من روح التركيب، ولم يكن لهذا التركيب في جملته روح خاصة بالنسق والنظم، فعلى كل لفظة معنى في الجملة كما أعطتها اللغة معنى في الإفراد، حتى

إذا أبنْتها وميزتها من هذه الجملة ضعفت ونقصت، وتبينتَ فيها الوحشة والقِلة شبيه الذي يَعرض للغريب إذا نَزَح عن موطنه وبانَ من أهله، وكان كل ذلك فيها طبيعياً لأن حقيقة التركيب إنما هي

صفة الوحي في هذا الكلام.

وهذه الروح التي أومأنا إليها، (روح التركيب) ، لم تعرف قط في كلام عربي غير القرآن، وبها انفرد نظمه وخرج مما يطيقه الناس؛ ولولاها لم يكن بحيث هو كأنما وضع جملة واحدة ليس بين أجزائها تفاوت أو تباين، إذ تراه ينظر في التركيب إلى نظم الكلمة وتأليفها، ثم إلى تأليف هذا

النظم: فمن هنا تعلق بعضه على بعض، وخرج في معنى تلك الروح صفة واحدة؛ هي صفة إعجازه في جملة التركيب كما عرفت، وان كان فيما وراء ذلك متعدد الوجوه التي يتصرف فيها من

أغراض الكلام ومناحي العبارات على جملة ما حصل به من جهات الخطاب: كالقصص والمواعظ والحكم والتعليم وضرب الأمثال، إلى نحوها مما يدور عليه.

ولولا تلك الروح لخرج أجزاء متفاوتة، على مقدار ما بين هذه المعاني ومواقعها في النفوس؛ وعلى مقدار ما بين الألفاظ والأساليب التي تؤديها حقيقة ومجازاً. كما تعرفه من كلام البلغاء عند تباين الوجوه التي يتصرف فيها، على أنهم قد رفهوا عن أنفسهم وكفوها أكبر المؤنة فلا

يألون أن يتوخوا بكلامهم إلى أغراض ومعان يعذب فيها الكلام ويتسق القول وتحسن الصنعة مما يكون أكبر حسنه في مادته اللغوية، وذلك شائع مستفيض في ماثور الكلام عنهم، ثم هم مع هذا يستوفون المعنى الواحد على وجهه، فإذا تحولوا إلى غيره، وأفضوا بالكلام إلى سواه رأيت من

اقتضابهم في الأسلوب ومن التذاكر في وضع المعنى إلى المعنى ما يشبه في اثنين متقابلين من الناس منظر قفا إلى وجه.

وعلى أنا لم نعرف بليغاً من البلغاء تعاطى الكلام في باب الشرع وتقرير النظر وتبيين الأحكام ونصبِ الأدلة وإقامة الأصول والاحتجاج لها والرد على خلافها، إلا جاء بكلام نازل عن طبقة كلامه في غير هذه الأبواب؛ وأنت قد تصيب له في غيرها اللفظ الحر، والأسلوب الرائع، والصنعة المحكم والبيان العجيب، والمعرضَ الحسنَ، فإذا صرت إلى ضروب من تلك

المعاني، وقعت ثمةَ على شيء كثير من اللفظ المستكرهِ، والمعنى المستغلق والسياق المضطرب، والأسلوب المتهافت والعبارات المتبذَّلة، وعلى النشاط متخاذلاً والعرى محلولة،

والوثيقة واهنة، وتبينتَ كلاماً لا تطمئن إليه في أكثر جهاته حتى لتعجب أن صاحبه وصاحب

ص: 169

ذلك الكلام رجل واحد.

وإنما وقع للبلغاء هذا النقص من جهة التركيب، إذ ليس في كلامهم روح كروح النظم في القرآن ولا هذه الروح مما تُطوعه قُوى الخلق؛ فلما صاروا إلى الوضع الذي تضعف مادته اللغوية

من الحقيقة والمجاز وما إليها، صاروا إلى الضعف الذي لا قِبلَ لهم به ولا حيلة لهم فيه إلا مداورة الكلام وتعريض العبارة وتشقيق المعنى، فذهبوا إلى الخلق والتهافت وتصدير القول بالرقع من ههنا وههنا، فحيث أصبت كلمة رائعة أصبتَ منها رُقعة، وكان ما اتفق لهم من هذه الصنعة في

تحسين الكلام دليلاً على قبحه؛ وكان قبحاً جديداً.

وإنك لتحارُ إذا تأملت تركيب القرآن ونظمَ كلماته في الوجوه المختلفة التي يتصرف فيها؛ وتعقد بك العبارة إذا أنتَ حاولت أن تمضي في وصفه حتى لا ترى في اللغة كلها أدل على غرضك وأجمعَ لما في نفسك وأبينَ لهذه الحقيقة، غير كلمة الإعجاز.

وما عسى أن تقول في كلام ترى للفظ من الألفاظ فيه معنى؛ ثم ترى كأن لهذا المعنى في التركيب معنى آخر، هو الذي يفيض على النفس ويتصل بها فكأنه كلام مداخل وكأن اللغة فيه لغتان.

ثم ما أنت قائل في كلام جاء من الإبداع في التأليف ومن وجوه التفنن في تلوين المعاني بحيث نفى العربَ جميعاً عن لغتهم وهم في أرقى ما اتفق لهم من الصور اللغوية، واستبد بها

دونهم واستغرق كل ما جاء به من محاسن البيان حتى لم يدع لمن يقابل بينه وبين كلامهم إلا حُكماً واحداً تنتهي إليه المقالة من أي جهاتها سلك؛ وهو أن العرب أوجدوا اللغة مفردات فانية،

وأوجدها القرآن تراكيبَ خالدة.

ثم ماذا يبلغ القول من صفة هذا التركيب العجيب، وأنت ترى أن أعجب منه مجيئه على هذا الوجه الذي يستنفد كل ما في العقول البيانية من الفكر، وكل ما في القوى من أسباب البحث؛

كأنما ركب على مقادير العقول والقوى وآلاتِ العلوم وأحوال العصور المغيبة؛ فتراه يتخير من الألفاظ على درجات ليس معنى العجب فيها أن يقع التخير عليها، ولكن العجب أن تستجيب ألفاظه على هذا الوجه المعجز الذي لا يكون في اللغة إلا عن قدرة هي عين القدرة التي ألهمت

أهلها الوضعَ والتعبيرَ وتشقيق الكلام، حتى حصلت لغتهم كاملة في كل ذلك، أفي معنى أعجب من أن تتجاذَبَك معاني الوضع في ألفاظ القرآن فترى اللفظ قاراً في موضعه لأنه الأليق في النظم،

ثم لأنه مع ذلك الأوسع في المعنى، ومع ذلك الأقوى في الدلالة، ومع ذلك الأحكم في الإبانة،

ومع ذلك الأبدع في وجوه البلاغة، ومع ذلك الأكثر مناسبة لمفردات الآية مما يتقدمه أو يترادف عليه، حتى خرج بذلك كله في تركيب قصرُ معارضتهِ أن تنتهيَ إليه بعينه، ولا مثلَ له إلا ما يتردد

منه على لسان قارئه، وحتى خرج التعبير عن معانيه بألفاظ أخرى من نفس اللغة العربية مخرج الترجمة إلى غيرها من اللغات إذ لم تحمل لغة من لغات الأرض حقيقة ما تعئنه ألفاظه على تركيبها

ص: 170

المعجز بل هو في ذلك يُعجزها جميعاً ويخرج عن طوقِ أهلها لمان تساندوا فيه، وإنَّما جهدُ ما تبلغه تلك اللغات أن تجيء بشبه معانيه، قصداً في بعضها ومقاربة في بعضها مع الاستعانة بالشرح المبسوط والعبارة الملونة، وعلى أنه ليس ضرباً من ضروب الصناعات اللفظية التي لا يتفق فيها أن

تنقل من لغة إلى لغة وإن من أعجب ما يحقق الإعجاز أن معاني هذا الكتاب الكريم لو ألبست ألفاظاً أخرى من

نفس العربية، ما جاءت في نمطها وسمتها والإبلاغ عن ذات المعنى لا في حكم الترجمة، ولو تولى ذلك أبلغ بلغائها ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً؛ فقد ضاقت اللغة عنده على سعتها؛ حتى

ليس فيها لمعانيه غير ألفاظه باعيانها وتركيبها، ومتى كانت المعارضة والترجمة سواء إلا في المعجز الذي يساوي بين القوى في المعجز وهي بعد في ذات بينها مختلفات؟

ص: 171