الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(فصل)
إحكام السياسة المنطقية على طريقة البلاغة
وبقي سر من أسرار هذه البلاغة المعجزة نختم به الباب، وهو شيء لا نراه يتفق إلا في من كلام النوابغ المعدودين الذين يكون الواحد منهم تاريخ عصر من عصور أمته، أو يكون من تاريخها، وهو إحكام السياسة المنطقية على طريقة البلاغة لا على طريقة المنطق فإن
الفرق بين الطريقتين أن هذه المنطقية منها تأتي على أوضاع وأقيسة معروفة مكررة يسترسل بعضها إلى بعض، ويراد بها إلزام المخاطب ليتحقق المعنى الذي قام به الخطاب، إلزاماً بالعقل لا بالشعور، وبطبيعة السياق لا بطبيعة المعنى، ومن أجل ذلك تدخلها المكابرة، وتتسع لها
المغالطة، وتنتدِح فيها أشياء من مثل ذلك؛ فراراً من الإلزام ودفعاً لحجته، وإن كان المعنى في نفسه واضحاً مكشوفاً، والبرهان طبيعة قائمة معروفاً.
بَيدَ أن طريقة البلاغة إنما يراد بها تحقيق المعنى، واستبراء غايته، وامتلاخُ الشبهة منه، وأخذ الوجوه والمذاهب عن النفس من أجزائه التي يتألف منها، بعد أن تُستوفى على جهتها في الكلام استيفاءً يقابل ما يمكن أن تشعر به النفس من هذه الأجزاء، حتى لا تصدِفَ عنه، ولا تجد
لها مذهباً ولا وجهاً غير القصد إليه؛ فيكون من ذلك الإلزام البياني الذي توحيه طبيعة المعنى البليغ وكان حتمأ مَقضِياً.
وهذا غرض بعيد وعَنتٌ شاق لا تبلغ إليه الوسائل الصناعية مما يتخذ إلى إجادة الكلام وإحكام صنعته البيانية، وإنما يتفق لأفراد الحكماء ودهاة السياسة ما يتفق منه، وحياً وإلهاماً، وإنما يلفونه على جهة التوهم النفسي الذي تتخلق منه خواطر الشعراء؛ فنحن نعرف علماً وتجربة أن
الشاعر قد يعالج المعنى البكر، ويريغ الوجه المخترع، فيكد في تمثلِ ذلك حتى يتسلط أثر الكد على فكره، ويضرب الملل على قلبه، ويصرفه الضجر؛ ثم لا يعطيه كل هذا طائلاً ولا يردُ عليه
حقاً من المعنى ولا باطلاً، وما فرط ولا أضاع ولا قصَّر ولا استخف، ولا كان في عمله إلا من وراء الغاية، وقد تقع إليه في تلك الحال معان كثيرة تفترق وتلتقي، ولكن ليس فيها المعنى الذي
من أجله نصب وإليه تأتَّى، فيضرِب عنه بعد المحاولة، ويقصِر بعد المطاولة حتى إذا استجمَّت خواطره، واستحدثَ منها غيرَ ما كان فيه، بلا تكلف، وهو لم يُعاودهُ ولا قصد إليه، وقد كان بلغ
منه كلالُ الحد واضطراب الحمق مبلغ الزهَقِ والمعاناة، وإنما ألهمهُ في تلك الحال إلهاماً، فعاد ما لم يمكن بكل سبب، ممكناً بغير سبب!
وربما أراد الشاعر معنى من هذه الخواطر النادرة، فلا يكاد يبتدئ التفكير فيها أو يَهُمُّ
بذلك، حتى يراه قد حصل في نفسه وهو لما يتمثل أجزاءه ولا استتم تصورَها، ولا كان إلا أنه أراد ما اتفق، واتفق له ما أراد.
ودع عنك أقوال الفلاسفة من علماء النفس وغيرهم، وما يعتلون به
لمثل ذلك من أعمال الدماغ؛ فلو أن فيهم شاعراً لأفسد عليهم ما تأولوه واستخرج من رأسه الحقيقة، فإنما الشاعر مُلهَم، وكأنما تحدث نفسه في بعض أطوارها العصبية من جهة الغيب.
وإذا رجعنا إلى العقل ورأيه في استبانة هذا الشكل، وضربنا منه شبهاً مما يضرب الطبيعيون لله من أمثالهم إذا تنالوا البحث فيما هو من علم الله، قلنا: كنا من العقل. وصار إلى العقل.
وليس شيء فوق العقل إلا لأنه لم يرتفع إليه بعد.
لما صدرنا عن هذا العقل، إلا بالبيان الغامض،
وبالرأي المشتبه، وبما يكون العاقل فيه كالمتعلل أو المتمحل له، وكشف لنا العقل عن هذا السر بسر مثله، لا يقضي هو فيه ولا ينبغي صدقَ أسبابه إذ يحيلنا على ما في الطبيعة من ذلك وأشباهه،
فإن الإلهام أقدم منه في الوجود وأظهرُ منه أثراً، وأوضحُ منه سنة؛ وما بالعقل يبني الطائر عشه ويقطع بعض الطير إلى وطنه من أقاصي الأرض أو يجيء من غايته، ولا بالعقل يصنع النمل ما
يصنع ويأتي النحل ما يأتيه من دقائق الهندسة وغير الهندسة؛ إلى أمثالٍ لذلك كثيرة، ولا أخذت هذه الأحياء الطبيعية عن الإنسان ولكن الإنسان هو أخذ عنها واهتدى بهديها! واتجه بعقله فيما وجهته إليه! ولو أن في رأس النملة عقلاً تدرك به ما تأتي وما تدَعُ، وتخرج به مما تعرف إلى ما
تجهل، وتستعمله مع حذقها الطبيعي فيما يستعمل العقل له، إذن لما جلس في كرسي أكبر علماء الاقتصاد في هذه الأرض كلها إلا نملة من النمل. . .
بيد أن الإلهام طبقة فوق العقل، ولهذا كان فوق الإرادة أيضاً، وهو محدود في الإنسان والحيوان جميعاً؛ أما هذا (أي الحيوان) فلا يتصرف فيه ولكن يتصرف به، وبذا لا يكون أبداً إلا كما هو، ولا يعطي الإرادة المطلقة لأنها دون الإلهام.
وأما ذلك (أي الإنسان) فلا يُلقاه إلا في أحوال شاذة من أحوال النفس، وبذا لا يكون أبداً غيرَ من هو، ولا يُسلَب الإرادة لأن الإلهام
فوقها.
ولو استطاع الناس يوماً أن يتصرفوا بالإلهام كما يتصرفون بالعقل، على أن يكون لهم الاثنان جميعاً، فيذهب كلاهما في مذهبه، ويتيسرون للأداة التي تخطئ وتصيب، والأداة التي تصيب ولا تخطئ - لتفاوتَ الأمر تفاوتاً قبيحاً، ولما بقي في الأرض إنسان يسمى إنساناً، ولكن الله تعالىِ
يقلب أفئدتهم، وأبصارهم، فهذه للعقل، وتلك للإلهام، وكل يغني شأنه (فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) .
وعلى هذا الوجه الذي بسطناه من أمر الإلهام والتحديث يكون وحي السياسة المنطقية التي
أومأنا إليها وهي في لغة كل أمة أبلغ البلاغة، غير أنها في القرآن الكريم مما يُعجز الطوقَ، ولا تحتمله قوة النبوغ الإنساني، فقد أحكمت في آياته إحكاماً أظهرها مخلوقة خلقاً إلهياً، ولا مصنوعة صنعة إنسانية، وجعل كل آية منها كأنها في الكلام نفسٌ كلامية.
ولا نظن بتة أن عربياً يطمع في مثل ما جاء به أو يطوعه له الوهم، مهما بلغ من سقو فطرته ورقة حسه، ومن بصره بطرق الوضع التركيبي.
ونفاذه في أسرار البيان وتقليب أوضاع اللغة، فإن
الشأن ليس في هذه اللغة ومتعلقاتها بمقدار ما هو في التوفيق بين أجزاء الشعور وأجزاء العقل على أتمها في الجهتين، وهذا باب لا ينفذ فيه إلا من كان شعوره وعقله وبيانه فوق الفكرة في أكمل ما
يتهيأ لها من كمال الحقيقة الإنسانية التي تجمع
تلك الصفات الثلاث: (البيان والعقل والشعور)
والتي يقال لها من أجل ذلك: (النفس الناطقة) وليس في الناس جميعاً من يصح أن يقال فيه إنه فوق الفطرة بالمعنى الصحيح، وإن كان هو بسمو فكرته فوق الناس.
ولو ذهبتَ تعتبرُ القرآن كله لرأيت تلك الطريقة فيه أظهر الوجوه التي تبينه من كلام الناس وتجعله قبيلاً وحده، فإن لبلغاء الناس كلاماً جيداً في كل أبواب البيان، بيد أنك حين تأخذه
متفاوتاً في أجزاء تلك السياسة المنطقية، وحين تدعه متفاوتاً في طريق النظم التي خرج بها القرآن كما عرفت من قبل: فلا هو من ذلك في نسقٍ ولاطريقة.
وما نشك على حال أن فصحاء العرب وأهل البلاغة فيهم قد أدركوا بفطرتهم هذه الطريقة المعجزة التي تنصرف إلى وجهٍ ثم تجيء من وجه آخر، ولا أنهم قد عرفوا أن هذا مما لا تقوم به
البلاغة وضروبها، وأن غاية كذ العقل في مثله أن يبعد بالمعنى عن صنعة اللسان، وغاية كد اللسان أن يدخل الضيم فيه على صنعة العقل، فإن دقَّ المعنى ولطفت مذاهبه وأحكمت الحيلة في تصريفه، قصر عنه البيان الذي ألفوه مذهباً لفظياً، وعرفوه افتناناً في الصنعة والتركيب، كما بسطناه
في مواضع كثيرة، وإن صرُح المعنى واستبانَ ولانت أعطافه وجاء على نسقهم في المحاورة والمخاطبة خرج على قدر ذلك وغبت عليه الألفاظ ولم يكن بتلك المنزلة.
وهذا بعض ما أيأسهم من المعارضة تيقناً أنه لا قبل لهم بها، واستبصاراً في حقيقة هذا الكلام، وأنه مما لا يستشري الطمع فيه، وأنه وحى يوحى؛ وهو عينه أيضاً بعض ما اجتذبهم إليه وعطفهم عليه، حتى كان بلغاؤهم يستمعونه وتصغى إليه أفئدتهم، ثم يتلاومون على ذلك؛ كما مرَّ في خبر أبي جهل وصاحبيه، وحتى قالوا كما حكى الله عنهم وأسجله في كتابه ليكون ثبتاً تاريخياً للعقل الإنساني:
(لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) .
فجعلوا كل أمرهم وأمره في آذانهم كما ترى، وما هي إلا سبيل الكلام إلى النفس؛ وكأنهم أقروا أنهم المغلوبون ما سمعوه،
وليس في البيان عما نحن فيه أبين من هذا إخباراً عن حقيقة أو حقيقة من الخبر أو خبراً حقاً.
وعلى تأويل ما عرفته من هذه السياسة المنطقية، تحمل كلمة الوليد بن المغيرة المخزومي في خبره المشهور: فقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل،
فأتاه فقال: با عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوكه لئلا تأتي محمداً لتعرض لما قاله.
فقال الوليد: قد علمت قريشٌ أني من أكثرها مالاً.
قال أبو جهل: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك كارهٌ له، قال: وماذا أقول: فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني، ولا برجزه ولا بقصيده ولا
بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا؛ ووالله إن لقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته.
قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه!
قال: فدعني حتى أفكر.
فلما فكر قال: " هذا سحرٌ يؤثر " يأثرُهُ عن غيره.
ولما اجتمعت قريش عند حضور الموسم قال لهم الوليد: إن وفود العرب تَردُ فأجمعوا فيه (يعني النبى صلى الله عليه وسلم) رأياً لا يكذب بعضُكم بعضاً.
فقالوا: نقول كاهن، قال: والله ما هو بكاهن،
ولا هو بزمزمته ولا سجعه. قالوا: مجنون، قال: ما هو بمجنون ولا بخنْقه، ولا وسوسته.
قالوا: فنقول شاعر، قال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر كله، رجزه وهزجه وقريضه ومبسوطه ومقبوضه. قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر ولا نفثه ولا عَقده. قالوا: فما نقول؟
قال: ما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا وأنا أعرف أنه لا يصدق، وإن أقرب القول إنه ساحر، وإنه سحر يُفرق به بين المرء وابنه والمرء وأخيه، والمرء وزوجته، والمرء وعشيرته.
فتفرقوا وجلسوا على السُّبل يحذرون الناس. اهـ.
فتأمل كيف وصف تأثير القرآن في النفس العربية، حتى ينتزع
الرجل من أهله وعشيرته وخاصِّ أهله وعشيرته انتزاعاً كأنه مسلوب العقل، فلا يتمكث ولا يلوي على شيء، وإذن ذلك الكلام كله لو أريد إجماله لم تسعه غير هاتين الكلمتين:(السياسة المنطقية) .
ولو أنعمت على تأمل هذه الجهة لانكشف لك السبب الذي من أجله لا نرى في كل ما يؤثر عن أهل هذه اللغة قولاً معجزاً، ولو اعترضت كثيراً وكثيراً من الجئد الرائع في الكلام، وقرنتَ بعضَه إلى بعض، وبلغت من البيان ما أنت بالغ، لأن كل ذلك ليس من القرآن في نسق ولا طريقة، وإن اتفق له منهما شيء اختلفت عليه منهما أشياء.
بيدَ أنك تقرأ الآيات القليلة من هذا الكتاب الكريم؛ فتراها في هذا النسق وتلك الطريقة بكل ما في اللغة، لأنها متميزة بصفتها، وبائنة بنسقها؛
ومتى اعتبرنا الشيء بطريقته التي يغالي به من أجلها، كان الترجيح عند المعادلة للطريقة نفسها؛ فلا عجب أن ظهرت طريقة القرآن بالكلمات
القليلة منها على جملة اللغة بما وسعتْ،
ولا بدَّ أن يكون التحدي من هذه الطريقة بمثل تلك
الكلمات على قلتها، (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا) .
***