الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد اعتمد الشيخُ الألباني في إثبات رفع اليدين في السجود والرفع منه على ما ذكرنا من الروايات الشاذة عن مالك بن الحويرث، ووائل بن حجر رضي الله عنهما ولا ينبغي الاعتماد على مثلها؛ لشذوذها ومخالفتها لما هو أصح منها، وهو ما تقدم في حديث ابن عمر، وعلي رضي الله عنهم والله أعلم.
التنبيه السابع
قال المؤلِّف في حاشية صفحة 100 ما نصه: "وعمل به إمام السنة أحمد بن حنبل". اهـ.
يعني بذلك: رفع اليدين عند السجود، وأقول: إنْ أراد الشيخُ الألباني أن أحمد - رحمه الله تعالى - كان مداومًا على هذا، وأنه كان مذهبه كما هو ظاهر عبارته في حاشية صفحة 112، فهذا غيرُ صحيح عن أحمد - رحمه الله تعالى.
وإن أراد أنه قال به أو فعله في بعض الأحيان، ولَم يُداوم عليه، فهذا قد نُقل عن أحمد - رحمه الله تعالى - والصحيح عنه خلافه، وفي المسألة ثلاث روايات؛ إحداها: أن الرفع خاص بثلاثة مواضع الأول عند افتتاح الصلاة، والثاني: عند الركوع، والثالث: عند الرفع منه، وقد نقل هذا من فعل أحمد - رحمه الله تعالى - وقوله.
قال أبو داود - رحمه الله تعالى - رأيتُ أحمد يرفع يديه عند الركوع، وعند الرفع من الركوع كرفعه عند افتتاح الصلاة يحاذيان أذنيه، وربما قصر عن رفع الافتتاح، وقال حنبل: سمعتُ أبا عبدالله، وسأله رجل عن رفع اليدين في الصلاة؟
فقال: يُرْوَى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير وجه، وعن أصحابه أنهم فعلوه إذا افتتح الصلاة، وإذا أراد أن يركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، قلت له: فبين السجدتين؟ قال: لا، قلتُ: فإذا أراد أن ينحط ساجدًا؟ قال: لا، فقال له عباس العنبري: يا أبا عبدالله، أليس يُروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعله؟ قال: هذه الأحاديث أقوى وأكثر.
وهذه الرِّواية هي أشهر الرِّوايات عن الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - وعليها جماهير الحنابلة قديمًا وحديثًا، وهي المذهب عند المتأخرين منهم، وحكاها الترمذي في جامعه عن أحمد، ولم يحك عنه غيرها، والأدلة عليها من الأحاديث الصحاح والحسان كثيرة جدًّا، وليس هذا موضع ذكرها.
وقد تقدم إيراد جملة منها في التنبيه السادس.
الرواية الثانية: أنَّ الرفع في أربعة مواضع في الثلاثة التي تقدم ذكرها، والرابع إذا قام من التشهد الأول.
وهذا اختيار الإمام شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيميَّة، وجده أبي البركات، وصاحب الفائق، وابن عبدوس في تذكرته، قال ابن مفلح في "الفروع": وهو أظهر، وكذا قال حفيده في "المبدع"، وقال المرداوي في "الإنصاف": وهو الصواب، وذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى - أنه قولُ طائقة من
الحنابلة والشافعية وغيرهم انتهى، ويدلُّ لهذه الرواية عدة أحاديث من الصحاح، يأتي ذكرها قريبًا - إن شاء الله تعالى.
وهذه الرواية أرجح الروايات عندي؛ لصحة دليلها، وسلامته من المعارض، قال الخطابي - رحمه الله تعالى -: وأما ما روي في حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه من رفع اليدين عند النهوض من التشهُّد، فهو حديث صحيح، وقد شهد بذلك عشرة من الصحابة منهم أبو قتادة الأنصاري، وقد قال به جماعة من أهل الحديث، ولم يذكره الشافعي، والقول به لازم على أصله في قَبُول الزيادات.
قلت: بل قد ذكر ذلك عن الشافعي - رحمه الله تعالى - قال النووي في شرح مسلم: وللشافعي قول أنَّه يستحب رفعهما في موضع رابع، وهو إذا قام من التشهد الأول، وهذا القول هو الصواب؛ فقد صح فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يفعله، وصح أيضًا من حديث أبي حميد الساعدي، رواه أبو داود، والترمذي بأسانيد صحيحة.
قلت: أما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فهو مَرْوِيٌّ من ثلاثة أوجه كلها صحيحة؛ الوجه الأول: ما رواه البخاري في صحيحه، وأبو داود في سننه من حديث عبيدالله بن عمر العمري، عن نافع: أن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه، وإذا ركع رفع يديه، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، رفع يديه، وإذا قام من الركعتين رفع يديه، ورفع ذلك ابن عمر رضي الله عنهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثاني: قال البخاري - رحمه الله تعالى - في جزء رفع
اليدين: حدَّثَنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا معتمر، عن عبيدالله بن عمر، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبدالله، عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان يرفع يديه إذا دخل في الصلاة، وإذا أراد أن يركع، وإذا رفع رأسه، وإذا قام من الركعتين يرفع يديه في ذلك كله، وكان عبدالله يفعله، إسناده صحيح، رجاله كلهم من رجال الصحيحين، وقد رواه النسائي في سننه، عن محمد بن عبدالأعلى الصنعاني، عن معتمر به، وفي روايته: وإذا قام من الركعتين يرفع يديه كذلك حذو المنكبين، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
الوجه الثالث: قال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - في مسنده: حدَّثَنا محمد بن فضيل، عن عاصم بن كليب، عن محارب بن دثار، قال: رأيت ابن عمر رضي الله عنهما يرفع يديه كلما ركع، وكلما رفع رأسه من الركوع، قال: فقلت له ما هذا؟ قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام في الركعتين كبر ورفع يديه، إسناده صحيح على شرط مسلم.
وقد رواه البخاري في جزء رفع اليدين، فقال: حدَّثَنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، حدثنا محمد بن فضيل، عن عاصم بن كليب، عن محارب بن دثار: رأيت ابن عمر رضي الله عنهما رفع يديه في الركوع، فقلت له: مه ذلك؟ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الركعتين كبر ورفع يديه؛ إسناده صحيح على شرط مسلم.
ورواه أبو داود في سننه عن عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن عبيد المحاربي، قالا: حدثنا محمد بن فضيل، عن عاصم بن كليب، عن محارب بن دثار،
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الركعتين كبر ورفع يديه؛ إسناده جيد، وهو من جهة عثمان بن أبي شيبة صحيح على شرط مسلم.
وأما حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه فرَوَاه الإمام أحمد في مسنده، والبخاري في جزء رفع اليدين، وأهل السُّنَن الأربعة من حديث عبدالحميد بن جعفر، حدَّثَنا محمد بن عمرو بن عطاء، عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: سمعته وهو في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام في الصلاة اعتدل قائمًا ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم قال: الله أكبر، وإذا أراد أن يركع رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، فإذا قال: سمع الله لمن حمده رفع يديه فاعتدل، فإذا قام من الثنتين كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، كما صنع حين افتتح الصلاة.
هذا لفظ إحدى روايتي ابن ماجَهْ، وفي رواية للبخاري:"فقالوا كلهم: صدقت"، وفي رواية أحمد، وأبي داود، والترمذي، والرواية الأخرى لابن ماجه:"قالوا: صدقت، هكذا كان يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه البخاري كما سيأتي، وابن خزيمة، وابن حبان، وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: حديث أبي حميد حديث صحيح، متلقى بالقبول لا علة له.
قلت: وأسانيد المذكورين كلها على شرط مسلم، وفي الباب أيضًا عن علي بن أبي طالب، وأبي هريرة رضي الله عنهما فأما
حديث علي رضي الله عنه فرواه الإمام أحمد في مسنده، والبخاري في جزء رفع اليدين، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارقطني في سُننهم من حديث عبيدالله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبر ورفع يده حذو منكبيه، ويصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته وأراد أن يركع، ويصنعه إذا رفع رأسه من الركوع، ولا يرفع يديه في شيء من صلاته وهو قاعد، وإذا قام منَ السَّجْدَتَيْن رفع يديه كذلك وكبَّر.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصحَّحه أيضًا ابن خزيمة، وابن حبان، وذكر الخلال عن إسماعيل بن إسحاق الثقفي، قال: سُئل أحمد - رحمه الله تعالى - عن حديث علي رضي الله عنه فقال: صحيح، وقال البخاري في جزء رفع اليدين: ما زاد ابن عمر وعلي وأبو حميد رضي الله عنهم في عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه إذا قام من السجدتين كله صحيح، انتهى.
وقوله هنا وفي الحديث: "إذا قام من السجدتين"، معناه: إذا قام من الركعتين نبَّه على ذلك الترمذي في جامعه، وقد جاء مُصرحًا به في إحدى روايتي البخاري ولفظه: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا كبر للصلاة حذو منكبيه، وإذا أراد أن يركعَ، وإذا رفع رأسه من الركوع، وإذا قام من الركعتين فعل مثل ذلك، وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فرواه أبو داود في سننه من حديث
الزهري، عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبَّر للصلاة جعل يديه حذو منكبيه، وإذا ركع فعل مثل ذلك، وإذا رفع للسجود فعل مثل ذلك، وإذا قام منَ الركعتين فعل مثل ذلك؛ إسناده صحيح على شرط مسلم.
الرِّواية الثالثة عن الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -: أن الرفع في كل خفض ورفع، ذكرها القاضي وغيره، وهذه الرِّواية خلاف المشهور عنه، وهي أضْعف الروايات، والعمل عن أحمد وجماهير الحنابلة، أو جميعهم على خِلافها، ومن جعلها مذهبًا لأحمد فهو جاهل بمذهبه.
وقد تقدَّم نصُّه على خِلافها في رواية حنبل، وقال أبو داود: قيل له - يعني: لأحمد - بين السجدتين أرفع يدي؟ قال: لا، ويحتمل أن أحمد - رحمه الله تعالى - أراد بقوله في كل خفض ورفع الركوع والرفع منه، ويؤخذ ذلك بما ذكره صاحب "المغني" عن الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -: أنه سئل عن رفْع اليدين في الصلاة؟ فقال: في كل خفض ورفع، وقال فيه عن ابن عمر، وأبي حميد أحاديث صحاح، انتهى.
فظاهرُ احتجاجه بأحاديث ابن عمر وأبي حميد رضي الله عنهم يدل على أنه أراد بالخفْض والرَّفْع الركوع والرفع منه؛ لأنَّ الأحاديث الصحيحة عن ابن عمر وأبي حميد رضي الله عنهم إنما جاءتْ بذلك، ولم تجئ بالرَّفْع في السجود والرفع منه، والله أعلم.