المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ - تفسير الطبري جامع البيان - ط دار التربية والتراث - جـ ٧

[ابن جرير الطبري]

الفصل: القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ

القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‌

(116) }

قال أبو جعفر: وهذا وعيدٌ من الله عز وجل للأمة الأخرى الفاسقة من أهل الكتاب، الذين أخبر عنهم بأنهم فاسقون، وأنهم قد باؤوا بغضب منه، ولمن كان من نظرائهم من أهل الكفر بالله ورسوله وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله.

يقول تعالى ذكره:"إن الذين كفروا"، يعني: الذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا به وبما جاءهم به من عند الله ="لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا"، يعني: لن تدفع أمواله التي جمعها في الدنيا، وأولاده الذين ربَّاهم فيها، شيئًا من عقوبة الله يوم القيامة إن أخرها لهم إلى يوم القيامة، ولا في الدنيا إنْ عجَّلها لهم فيها.

* * *

وإنما خصّ أولاده وأمواله، لأن أولاد الرجل أقربُ أنسبائه إليه، وهو على ماله أقدر منه على مال غيره، (1) وأمرُه فيه أجوز من أمره في مال غيره. فإذا لم يغن عنه ولده لصلبه، وماله الذي هو نافذ الأمر فيه، فغير ذلك من أقربائه وسائر أنسبائه وأموالهم، أبعد من أن تغني عنه من الله شيئا.

* * *

ثم أخبر جل ثناؤه أنهم هم أهل النار الذين هم أهلها بقوله:"وأولئك أصحاب النار". وإنما جعلهم أصحابها، لأنهم أهلها الذين لا يخرجون منها ولا يفارقونها،

(1) في المطبوعة: "وهو على ماله أقرب

"، وهي في المخطوطة شبيهة بها، إلا أنها سيئة الكتابة، ولكن لا معنى لها، والصواب ما أثبت، فهو حق السياق.

ص: 133

كصاحب الرجل الذي لا يفارقه، وقرينه الذي لا يزايله. (1) ثم وكد ذلك بإخباره عنهم إنهم"فيها خالدون"، أنّ صحبتهم إياها صحبة لا انقطاع لها، (2) إذْ كان من الأشياء ما يفارق صاحبه في بعض الأحوال، ويزايله في بعض الأوقات، وليس كذلك صحبة الذين كفروا النارَ التي أصْلوها، ولكنها صحبة دائمة لا نهاية لها ولا انقطاع. نعوذ بالله منها ومما قرَّب منها من قول وعمل.

* * *

القول في تأويل قوله: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ}

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: شَبَهُ ما ينفق الذين كفروا، أي: شَبَهُ ما يتصدق به الكافر من ماله، (3) فيعطيه من يعطيه على وجه القُربة إلى ربّه وهو لوحدانية الله جاحد، ولمحمد صلى الله عليه وسلم مكذب، في أن ذلك غير نافعه مع كفره، وأنه مضمحلّ عند حاجته إليه، ذاهبٌ بعد الذي كان يرجو من عائدة نفعه عليه = كشبه ريح فيها برد شديد، أصابت هذه الريح التي فيها البرد الشديد ="حرثَ قوم"، (4) يعني: زرع قوم قد أمَّلوا إدراكه، ورجَوْا رَيْعه وعائدة نفعه ="ظلموا أنفسهم"، يعني: أصحاب الزرع، عصوا الله، وتعدَّوا حدوده ="فأهلكته"، يعني: فأهلكت الريح التي فيها الصرُّ زرعهم ذلك، بعد الذي كانوا عليه من الأمل ورجاء عائدة نفعه عليهم.

(1) انظر تفسير"أصحاب النار" فيما سلف 1: 286، 287 / 4: 317 / 5: 429 / 6: 14.

(2)

في المطبوعة أسقط"أن" من أول هذه العبارة، وهي ثابتة في المخطوطة. وفيهما جميعًا بعد:"إذا كان من الأشياء"، وصواب السياق"إذ"، كما أثبتها.

(3)

انظر تفسير"النفقة" فيما سلف 5: 555، 580 / 6:265.

(4)

انظر تفسير"الحرث" فيما سلف 4: 240، 397 / 6:257.

ص: 134

يقول تعالى ذكره: فكذلك فعل الله بنفقة الكافر وصدقته في حياته، حين يلقاه، يبطل ثوابها ويخيب رجاؤه منها. وخرج المثَل للنفقة، والمراد بـ "المثل" صنيع الله بالنفقة، فبيَّن ذلك قوله:"كمثل ريح فيها صرٌّ"، فهو كما قد بيّنا في مثله قوله:(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا)(1)[سورة البقرة: 17] وما أشبه ذلك.

* * *

قال أبو جعفر: فتأويل الكلام،: مثل إبطال الله أجرَ ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا، كمثل ريح فيها صر. وإنما جاز ترك ذكر"إبطال الله أجر ذلك"، لدلالة آخر الكلام عليه، وهو قوله:"كمثل ريح فيها صرٌّ"، ولمعرفة السامع ذلك معناه.

* * *

واختلف أهل التأويل في معنى"النفقة" التي ذكرها في هذه الآية.

فقال بعضهم: هي النفقة المعروفة في الناس.

*ذكر من قال ذلك:

7667-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا"، قال: نفقة الكافر في الدنيا.

* * *

وقال آخرون: بل ذلك قوله الذي يقوله بلسانه، مما لا يصدِّقه بقلبه.

*ذكر من قال ذلك:

7668-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"مثل ما ينفقون في هذ الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرثَ قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته"، يقول: مثل ما يقول فلا يقبل

(1) انظر ما سلف 1: 318 - 328.

ص: 135

منه، كمثل هذا الزرع إذا زرعه القوم الظالمون، فأصابه ريح فيها صر، أصابته فأهلكته. فكذلك أنفقوا فأهلكهم شِرْكهم.

* * *

وقد بينا أولى ذلك بالصواب قبل.

* * *

وقد تقدم بياننا تأويل"الحياة الدنيا" بما فيه الكفاية من إعادته في هذا الموضع. (1)

* * *

وأما"الصر" فإنه شدة البرد، وذلك بعُصُوف من الشمال في إعصار الطَّلّ والأنداء، في صبيحة مُعْتمة بعقب ليلة مصحية، (2) كما:

7669-

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن عثمان بن غياث قال، سمعت عكرمة يقول:"ريح فيها صر"، قال: بردٌ شديد.

7670-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس:"ريح فيها صر"، قال: برد شديد وزمهرير.

7671-

حدثنا علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله:"ريح فيها صر"، يقول: برد.

7672-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن ابن عباس:"الصر"، البرد.

7673-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"كمثل ريح فيها صر"، أي: برد شديد.

7674-

حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.

7675-

حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي في"الصر"، البرد الشديد.

(1) انظر ما سلف 1: 314، 316.

(2)

هذا البيان عن معنى"الصر" قلما تصيب مثله في كتب اللغة.

ص: 136

7676-

حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثنا عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"كمثل ريح فيها صر"، يقول: ريح فيها برد.

7677-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"ريح فيها صر"، قال:"صر"، باردة أهلكت حرثهم. قال: والعرب تدعوها"الضَّريب"، تأتي الريح باردة فتصبح ضريبًا قد أحرق الزرع، (1) تقول:"قد ضُرب الليلة" أصابه ضريبُ تلك الصر التي أصابته.

7678-

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا جويبر، عن الضحاك:"ريح فيها صر"، قال: ريح فيها برد.

* * *

القول في تأويل قوله: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) }

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما فعل الله بهؤلاء الكفار ما فعل بهم، من إحباطه ثواب أعمالهم وإبطاله أجورها ظلمًا منه لهم = يعني: وضعًا منه لما فعل بهم من ذلك في غير موضعه وعند غير أهله، بل وضَع فعله ذلك في موضعه، وفعل بهم ما هم أهله. لأن عملهم الذي عملوه لم يكن لله وهم له بالوحدانية دائنون، ولأمره مُتبعون، ولرسله مصدقون، بل كان ذلك منهم وهم به مشركون، ولأمره مخالفون، ولرسله مكذبون، بعد تقدُّم منه إليهم أنه لا يقبل عملا من عامل إلا مع إخلاص التوحيد له، والإقرار بنبوة أنبيائه، وتصديق ما جاءوهم به، وتوكيده الحجج بذلك عليهم. فلم يكن = بفعله ما فعل بمن كفر به وخالف أمره في ذلك = بعد

(1) الضريب: الصقيع والجليد.

ص: 137

الإعذار إليه، (1) من إحباط وَفْر عمله = له ظالمًا، بل الكافرُ هو الظالم نفسه، لإكسابها من معصية الله وخلاف أمره، ما أوردها به نار جهنم، وأصلاها به سعير سقَرَ. (2)

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ}

قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، وأقروا بما جاءهم به نبيهم من عند ربهم ="لا تتخذوا بطانة من دونكم"، يقول: لا تتخذوا أولياء وأصدقاء لأنفسكم ="من دونكم" يقول: من دون أهل دينكم وملَّتكم، يعني من غير المؤمنين.

* * *

وإنما جعل"البطانة" مثلا لخليل الرجل، فشبهه بما ولي بطنه من ثيابه، لحلوله منه -في اطِّلاعه على أسراره وما يطويه عن أباعده وكثير من أقاربه- محلَّ ما وَلِيَ جَسده من ثيابه.

* * *

فنهى الله المؤمنين به أن يتخذوا من الكفار به أخلاء وأصفياء، ثم عرّفهم ما هم عليه لهم منطوون من الغش والخيانة، وبغيهم إياهم الغوائل، فحذرهم بذلك منهم ومن

(1) في المطبوعة والمخطوطة: "الاعتذار إليه"، وهو خطأ صرف. وأعذر إعذارًا: أي بلغ الغاية في البلاغ، ومنه قولهم:"أعذر من أنذر"، أي بالغ في الإنذار حتى بان عذره، إذا أنزل بمن أنذره ما يسوءه. وقوله:"وفر عمله" أي كثير عمله ووافره. و"الوفر"(بفتح فسكون) . وكان في المطبوعة"وافر عمله"، وأثبت ما في المخطوطة.

(2)

سياق الجملة: "فلم يكن. . . له ظالما"، وما بينهما فصل للبيان متعلق بقوله:"ظالما" ولكنه مقدم عليه.

ص: 138

مخالَّتهم، (1) فقال تعالى ذكره:"لا يألونكم خبالا"، يعني لا يستطيعونكم شرًّا، من"ألوت آلُو ألوًا"، يقال:"ما ألا فلان كذا"، أي: ما استطاع، كما قال الشاعر:(2)

جَهْرَاءُ لا تَأْلُو، إذَا هِيَ أَظْهَرَتْ،

بَصَرًا، وَلا مِنْ عَيْلَةٍ تُغْنِيني (3)

يعني: لا تستطيع عند الظهر إبصارًا.

* * *

وإنما يعني جل ذكره بقوله:"لا يألونكم خبالا"، البطانةَ التي نهى المؤمنين

(1) في المطبوعة: "فحذرهم بذلك منهم عن مخاللتهم"، فك إدغام اللام وحذف الواو قبل"عن"، وفي المخطوطة"وعن مخالتهم"، والصواب في قراءتها ما أثبت، إلا أن يكون سقط من الكلام"نهاهم" فيكون"ونهاهم عن مخالتهم".

(2)

هو أبو العيال الهذلي.

(3)

ديوان الهذليين 2: 263، الحيوان 3: 535، المعاني الكبير: 690، اللسان (ألا)(جهر) . من شعر جيد في مقارضات بينه وبين بدر بن عامر الهذلي، قال بدر بن عامر أبياتًا، حين بلغه أن ابن أخ لأبي العيال، أنه ضلع مع خصمائه، فانتفى من ذلك وزعم أنه ليس ممن يأتي سوءًا إلى أخيه أبي العيال، فكذبه أبو العيال، فبادر بدر يرده. وكله شعر حسن في معناه. فشبه أبو العيال شعر بدر فيه وفي الثناء عليه بالشاة فقال له: أَقْسَمْتَ لا تَنْسَى شَبابَ قَصِيدَةٍ

أبدًا!! فَمَا هذا الَّذِي يُنْسِينِي?

فَلَسَوْفَ تَنْسَاهَا وَتَعْلَمُ أَنَّها

تَبَعٌ لآبِيَةِ العِصَابِ زَبُونِ

وَمَنَحْتَني فَرَضِيتُ زِىَّ مَنِيحَتي

فَإِذَا بِهَا، وَأَبِيكَ، طَيْفُ جُنُونِ

جَهْرَاءَ لا تَأْلُو...................

....................................

والجهراء: هي التي لا تبصر في الشمس، وهو ضعف في البصر. ويقال:"عال يعيل عيلا وعيلة" افتقر. يقول: أهديت لي شعرًا وثناء وقولا فرضيته، ثم إذا لا شيء إلا قول وكلام، إذا انكشف الأمر وظهر، عمى هذا الشعر وانطفأ، وإذا جد الجد، لم يغن قولك شيئًا، بل كنت كما قلت لك آنفًا: فَلَقَد رَمَْقُتك فِي المجَالِسِ كلِّهَا

فَإِذَا، وأنتَ تُعِينُ من يَبْغِيني"

ص: 139

عن اتخاذها من دونهم، فقال: إن هذه البطانة لا تترككم طاقتها خبالا أي لا تدع جهدها فيما أورثكم الخبال. (1)

* * *

وأصل"الخبْل" و"الخبال"، الفساد، ثم يستعمل في معان كثيرة، يدل على ذلك الخبرُ عن النبي صلى الله عليه وسلم:

7679-

"من أصيب بخبْل = أو جرَاح". (2)

* * *

وأما قوله:"ودوا ما عنِتُّم"، فإنه يعني: ودوا عنتكم، يقول: يتمنون لكم العنَت والشر في دينكم وما يسوءكم ولا يسرُّكم. (3)

* * *

وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من المسلمين كانوا يخالطوهم حلفائهم من اليهود وأهل النفاق منهم، ويصافونهم المودَّة بالأسباب التي كانت بينهم في جاهليتهم قبل الإسلام، فنهاهم الله عن ذلك وأن يستنصحوهم في شيء من أمورهم.

*ذكر من قال ذلك:

(1) لقد أبعد أبو جعفر المذهب في احتياله في تفسير"لا يألونكم"، فإن بيان أهل اللغة عن معنى هذا الحرف من العربية، أصدق وأكمل من بيانه، فقد ذكروا المعنى الذي ذكره ثم قالوا:"ما ألوت ذلك: أي ما استطعته؛ وما ألوت أن أفعله: أي ما تركت" وقالوا: "هي من الأضداد؛ ألا: فتر وضعف = وألا: اجتهد"، فراجع ذلك في كتب العربية.

(2)

الأثر: 7679- رواه أبو جعفر غير مسند؛ ورواه أحمد في مسنده 4: 31، والبيهقي في السنن 8: 53، ورواية أحمد من طريق شيخه"محمد بن سلمة الحراني، عن ابن إسحاق = ويزيد بن هرون قال أنبأنا محمد بن إسحاق = عن الحارث بن فضيل، عن فضيل، عن سفيان بن أبي العوجاء -قال يزيد: السلمي- عن أبي شريح الخزاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -وقال يزيد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول-: من أصيب بدم أو خبل =الخبل: الجراح= فهو بالخيار بين إحدى ثلاث: إما أن يقتص، أو يأخذ العقل، أو يعفو، فإن أراد رابعة فخذوا على يده، فإن فعل شيئا من ذلك ثم عدا بعد فقتل، فله النار خالدا فيها مخلدا".

يعني بالدم: قتل النفس -وبالخبل أو الجراح: قطع العضو. وقد تركت ما في الطبري على حاله: "أو جراح" وبينت بالترقيم أنها كأنها رواية أخرى في قوله: "خبل"، شك من الراوي. ولكن سياق الخبر يرجح عندي أنها:"أي: جراح"، لأنه قد جاء في الحديث نفسه تفسير"الخبل" بالجراح.

(3)

انظر تفسير"العنت" فيما سلف 4: 358 - 361.

ص: 140

7680-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال، قال محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من اليهود، لما كان بينهم من الجوار والحِلْف في الجاهلية، فأنزل الله عز وجل فيهم، ينهاهم عن مباطنتهم (1) تخوُّف الفتنة عليهم منهم:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم" إلى قوله:"وتؤمنون بالكتاب كله". (2)

7681-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا"، في المنافقين من أهل المدينة. نهى الله عز وجل المؤمنين أن يتولَّوهم.

7682-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم"، نهى الله عز وجل المؤمنين أن يستدخلوا المنافقين، (3) أو يؤاخوهم، أو يتولوهم من دون المؤمنين. (4)

7683-

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:"لا تتخذوا بطانة من دونكم"، هم المنافقون.

7684-

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن

(1) في المطبوعة: "فنهاهم" بالفاء في أوله، والصواب من المخطوطة وابن هشام.

(2)

الأثر: 7680- سيرة ابن هشام 2: 207، وهو تابع الأثرين السالفين رقم: 7644، 7645.

(3)

قوله: "يستدخلوا" أي يتخذوهم أخلاء. استدخله: اتخذه دخيلا، مثل قولهم استصحبه: اتخذه صاحبًا، والدخيل والمداخل: الذي يداخل الرجل في أموره كلها. وهذا البناء"استدخله" مما أغفلته كتب اللغة، وهو عربي معرق كما ترى.

(4)

في المطبوعة: "أي يتولوهم"، وفي المخطوطة:"أن يتولوهم"، والصواب ما أثبت.

ص: 141

الربيع، قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا"، يقول: لا تستدخلوا المنافقين، (1) تتولوهم دون المؤمنين.

7685-

حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا العوام بن حوشب، عن الأزهر بن راشد، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تستضيئوا بنار أهل الشرك، ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا قال: فلم ندر ما ذلك، حتى أتوا الحسن فسألوه، فقال: نعم، أما قوله:"لا تنقشوا في خواتيمكم عربيًّا"، فإنه يقول: لا تنقشوا في خواتيمكم"محمد"، وأما قوله:"ولا تستضيئوا بنار أهل الشرك"، فإنه يعني به المشركين، يقول: لا تستشيروهم في شيء من أموركم. قال: قال الحسن: وتصديق ذلك في كتاب الله، ثم تلا هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم". (2) .

(1) انظر ص 141، تعليق:3.

(2)

الحديث: 7685- الأزهر بن راشد البصري: ثقة. ترجمه البخاري في الكبير 1 / 1 / 455، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 313 - فلم يذكر فيه جرحا.

وهناك راو آخر، اسمه"الأزهر بن راشد الكاهلي"، وهو كوفي، وهو غير البصري، ومتأخر عنه. وترجمه البخاري وابن أبي حاتم أيضا. فإن البصري يروى عنه"العوام بن حوشب" المتوفي سنة 148، والكوفي الكاهلي يروى عنه"مروان بن معاوية الفزاري" المتوفي سنة 193. ومروان بن معاوية من شيوخ أحمد. والعوام بن حوشب من شيوخ شيوخه. فشتان هذا وهذا.

ومع هذا الفرق الواضح أخطأ الحافظ المزي، فذكر في التهذيب الكبير أن أبا حاتم قال في البصري:"مجهول". وتبعه الحافظ في تهذيب التهذيب، والذهبي في الميزان. وزاد الأمر تخليطًا، فذكر أنه ضعفه ابن معين.

وابن معين وأبو حاتم إنما قالا ذلك في الكاهلي الكوفي. فروى ابن أبي حاتم في ترجمة"الكاهلي" 1 / 1 / 313، رقم: 1180، عن ابن معين، قال:"أزهر بن راشد، الذي روى عنه مروان بن معاوية: ضعيف". ثم قال: "سألت أبي عن أزهر بن راشد؟ فقال: هو مجهول".

ولم يحقق الحافظ ابن حجر، واشتبه عليه الكلام في الترجمتين، فقال في ترجمة"الكاهلي" -بعد ترجمة"البصري"-:"أخشى أن يكونا واحدًا! لكن فرق بينهما ابن معين". والفرق بينهما كالشمس.

والحديث رواه أحمد في المسند: 11978 (ج 3 ص 99 حلبى) ، عن هشيم، بهذا الإسناد - دون كلام الحسن، وهو البصري.

ورواه البخاري كذلك في الكبير 1 / 1 / 455 - دون كلام الحسن، عن مسدد، عن هشيم، به. ثم فسر البخاري بعضه، فقال:"قال أبو عبد الله [هو البخاري نفسه] : عربيًا، يعني"محمد رسول الله". يقول: لا تكتبوا مثل خاتم النبي: "محمد رسول الله".

ورواه أبو يعلى مطولا -مثل رواية الطبري أو أطول قليلا- وفيه كلام الحسن. رواه عن إسحاق بن إسرائيل، عن هشيم، بهذا الإسناد. نقله عنه ابن كثير 2: 227، ثم قال:"هكذا رواه الحافظ أبو يعلى رحمه الله. وقد رواه النسائي، عن مجاهد بن موسى، عن هشيم، به. ورواه الإمام أحمد، عن هشيم، بإسناده مثله، من غير ذكر تفسير الحسن البصري. وهذا التفسير فيه نظر"- إلى آخر ما قال. ولم أجده في سنن النسائي، فلعله في السنن الكبرى.

وذكره السيوطي 2: 66، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب. ولم ينسبه للنسائي، ولا لتاريخ البخاري.

ص: 142

7686-

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم"، أما"البطانة"، فهم المنافقون.

7687-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم" الآية، قال: لا يستدخل المؤمن المنافق دون أخيه. (1)

7688-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم" الآية، قال: هؤلاء المنافقون. وقرأ قوله:"قد بدت البغضاء من أفواههم" الآية.

* * *

قال أبو جعفر: واختلفوا في تأويل قوله:"ودّوا ما عنِتُّم".

فقال بعضهم معناه: ودوا ما ضللتم عن دينكم. (2)

*ذكر من قال ذلك:

7689-

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ودوا ما عنتم"، يقول: ما ضللتم.

* * *

وقال آخرون بما:-

(1) انظر: 141، تعليق: 3 / ص: 142، تعليق:1.

(2)

انظر تفسير"العنت" فيما سلف ص4: 358 - 361.

ص: 143

7690-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ودوا ما عنتم"، يقول: في دينكم، يعني: أنهم يودون أن تعنتُوا في دينكم.

* * *

قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل:"ودوا ما عنتم"، فجاء بالخبر عن"البطانة"، بلفظ الماضي في محل الحال، والقطع بعد تمام الخبر، والحالات لا تكون إلا بصور الأسماء والأفعال المستقبلة دون الماضية منها؟ (1) .

قيل: ليس الأمر في ذلك على ما ظننت من أنّ قوله:"ودوا ما عنتم" حال من"البطانة"، وإنما هو خبر عنهم ثان منقطعٌ عن الأول غير متصل به. وإنما تأويل الكلام: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة صفتهم كذا، صفتهم كذا. فالخبر عن الصفة الثانية غير متصل بالصفة الأولى، وإن كانتا جميعًا من صفة شخص واحد.

* * *

وقد زعم بعض أهل العربية أن قوله:"ودوا ما عنتم"، من صلة البطانة، وقد وصلت بقوله:"لا يألونكم خبالا"، فلا وجه لصلة أخرى بعد تمام"البطانة" بصلته. (2) ولكن القول في ذلك كما بينا قبل، من أن قوله:"ودوا ما عنتم"، خبر مبتدأ عن"البطانة"، غير الخبر الأول، وغير حال من البطانة ولا قطع منها. (3) .

* * *

(1) انظر"القطع" فيما سلف 6: 270، تعليق: 3، وسائر فهارس المصطلحات.

(2)

انظر تفسير"الصلة" فيما سلف 5: 299، تعليق: 5، وهو نعت النكرة.

(3)

انظر"القطع" فيما سلف 6: 270، تعليق: 3، وسائر فهارس المصطلحات.

ص: 144

القول في تأويل قوله تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قد بدت بغضاء هؤلاء الذين نهيتكم أيها المؤمنون، أن تتخذوهم بطانة من دونكم لكم ="من أفواههم"، يعني بألسنتهم. والذي بدا لهم منهم بألسنتهم، (1) إقامتهم على كفرهم، وعداوتهم من خالف ما هم عليه مقيمونَ من الضلالة. فذلك من أوكد الأسباب في معاداتهم أهل الإيمان، لأن ذلك عداوة على الدين، والعداوة على الدين العداوة التي لا زوال لها إلا بانتقال أحد المتعاديين إلى ملة الآخر منهما، وذلك انتقال من هدى إلا ضلالة كانت عند المنتقل إليها ضلالة قبل ذلك. فكان في إبدائهم ذلك للمؤمنين، ومقامهم عليه، أبينُ الدلالة لأهل الإيمان على ما هم عليه من البغضاء والعداوة.

* * *

وقد قال بعضهم: معنى قوله:"قد بدت البغضاء من أفواههم"، قد بدت بغضاؤهم لأهل الإيمان، إلى أوليائهم من المنافقين وأهل الكفر، بإطلاع بعضهم بعضًا على ذلك. وزعم قائلو هذه المقالة أنّ الذين عنوا بهذه الآية أهل النفاق، دون من كان مصرحًا بالكفر من اليهود وأهل الشرك.

* ذكر من قال ذلك:

7691-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد عن قتادة، قوله:"قد بدت البغضاء من أفواههم"، يقول: قد بدت البغضاء من أفواهُ المنافقين إلى إخوانهم من الكفار، من غشهم للإسلام وأهله، وبغضهم إياهم.

7692-

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"قد بدت البغضاء من أفواههم"، يقول: من أفواه المنافقين.

* * *

وهذا القول الذي ذكرناه عن قتادة، قول لا معنى له. وذلك أن الله تعالى

(1) في المخطوطة والمطبوعة: "بأفواههم"، والصواب المطابق لنص هذه الآية، هو ما أثبت.

ص: 145

ذكره إنما نهى المؤمنين أن يتخذوا بطانة ممن قد عرفوه بالغش للإسلام وأهله والبغضاء، إما بأدلة ظاهرة دالة على أنّ ذلك من صفتهم، وإما بإظهار الموصوفين بذلك العداوة والشنآن والمناصبة لهم. فأما من لم يُثبِتوه معرفةً أنه الذي نهاهم الله عز وجل عن مخالَّته ومباطنته، (1) فغير جائز أن يكونوا نهوا عن مخالته ومصادقته، إلا بعد تعريفهم إياهم، إما بأعيانهم وأسمائهم، وإما بصفات قد عرفوهم بها.

وإذْ كان ذلك كذلك = وكان إبداء المنافقين بألسنتهم ما في قلوبهم من بغضاء المؤمنين إلى إخوانهم من الكفار، غير مدرِك به المؤمنون معرفةَ ما هم عليه لهم، مع إظهارهم الإيمانَ بألسنتهم لهم والتودد إليهم = كان بيِّنًا أن الذي نهى الله المؤمنون عن اتخاذهم لأنفسهم بطانة دونهم، هم الذين قد ظهرت لهم بغضاؤهم بألسنتهم، على ما وصفهم الله عز وجل به، فعرَفهم المؤمنون بالصفة التي نعتهم الله بها، وأنهم هم الذين وصفهم تعالى ذكره بأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون، ممن كان له ذمةٌ وعهدٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أهل الكتاب. لأنهم لو كانوا المنافقين، لكان الأمر فيهم على ما قد بينا. ولو كانوا الكفار ممن قد ناصب المؤمنين الحربَ، لم يكن المؤمنون متخذيهم لأنفسهم بطانة من دون المؤمنين، مع اختلاف بلادهم وافتراق أمصارهم، ولكنهم الذين كانوا بين أظهُر المؤمنين من أهل الكتاب أيامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن كان له من رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وعقدٌ من يهود بني إسرائيل.

* * *

و"البغضاء"، مصدر. وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله بن مسعود:(" قَدْ بَدَا البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ") ، على وجه التذكير. وإنما جاز ذلك بالتذكير ولفظه لفظ المؤنث، لأن المصادر تأنيثها ليس بالتأنيث اللازم، فيجوز تذكيرُ ما خرج منها

(1) في المطبوعة: "فأما من لم يتئسوه معرفة"، ولا معنى له، وفي المخطوطة:"لم سوه معرفة" غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. يقال:"أثبته معرفة" أي: عرفه حق المعرفة.

ص: 146

على لفظ المؤنث وتأنيثه، كما قال عز وجل:(وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ)[سورة هود: 67]، وكما قال:(فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ)[سورة الأنعام: 157]، وفي موضع آخر:(وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ)[سورة هود: 94](" وجَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ")[سورة الأعراف: 73، 85](1)

* * *

وقال:"من أفواههم"، وإنما بدا ما بدا من البغضاء بألسنتهم، لأن المعنيّ به الكلام الذي ظهر للمؤمنين منهم من أفواههم، فقال:"قد بدت البغضاء من أفواههم" بألسنتهم.

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: والذي تخفي صدورهم = يعني: صدور هؤلاء الذين نهاهم عن اتخاذهم بطانة، فتخفيه عنكم، أيها المؤمنون ="أكبر"، يقول: أكبر مما قد بدا لكم بألسنتهم من أفواههم من البغضاء وأعظم. كما:-

7693-

حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وما تخفي صدورهم أكبر"، يقول: وما تخفي صدورهم أكبر مما قد أبدوا بألسنتهم.

7694-

حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"وما تخفي صدورهم أكبر" يقول: ما تكن صدورهم أكبر مما قد أبدوا بألسنتهم.

* * *

(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 231.

ص: 147

القول في تأويل قوله: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) }

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"قد بينا لكم" أيها المؤمنون ="الآيات"، يعني بـ"الآيات" العبر. قد بينا لكم من أمر هؤلاء اليهود الذين نهيناكم أن تتخذوهم بطانة من دون المؤمنين، ما تعتبرون وتتعظون به من أمرهم ="إن كنتم تعقلون"، يعني: إن كنتم تعقلون عن الله مواعظه وأمره ونهيه، وتعرفون مواقع نفع ذلك منكم، ومبلغ عائدته عليكم.

* * *

القول في تأويل قوله: {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ}

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ها أنتم، أيها المؤمنون، الذين تحبونهم، يقول: تحبون هؤلاء الكفار الذين نهيتكم عن اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين، فتودونهم وتواصلونهم وهم لا يحبونكم، بل يبطنون لكم العداوة والغش (1) = "وتؤمنون بالكتاب كله".

* * *

ومعنى "الكتاب" في هذا الموضع معنى الجمع، كما يقال:"كثر الدرهم في أيدي الناس"، بمعنى الدراهم.

فكذلك قوله:"وتؤمنون بالكتاب كله"، إنما معناه: بالكتب كلها،

(1) في المطبوعة: "بل سطروه"، وفي المخطوطة:"بل ينتظرون" غير منقوطة، وصوابها ما أثبت كما استظهره طابع الأميرية.

ص: 148

كتابكم الذي أنزل الله إليكم، وكتابهم الذي أنزله إليهم، وغير ذلك من الكتب التي أنزلها الله على عباده.

يقول تعالى ذكره: فأنتم = إذ كنتم، أيها المؤمنون، تؤمنون بالكتب كلها، وتعلمون أنّ الذين نهيتكم عن أن تتخذوهم بطانة من دونكم كفار بذلك كله، بجحودهم ذلك كله من عهود الله إليهم، وتبديلهم ما فيه من أمر الله ونهيه = (1) أولى بعداوتكم إياهم وبغضائهم وغشهم، منهم بعداوتكم وبغضائكم، مع جحودهم بعضَ الكتب وتكذيبهم ببعضها. كما:-

7695-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"تؤمنون بالكتاب كله"، أي: بكتابكم وكتابهم وبما مضى من الكتب قبل ذلك، وهم يكفرون بكتابكم، فأنتم أحقّ بالبغضاء لهم، منهم لكم. (2)

* * *

قال أبو جعفر: وقال:"ها أنتم أولاء" ولم يقل:"هؤلاء أنتم"، (3) ففرق بين"ها و"أولاء" بكناية اسم المخاطبين، لأن العرب كذلك تفعل في"هذا" إذا أرادت به التقريب ومذهب النقصان الذي يحتاج إلى تمام الخبر، (4) وذلك مثل

(1) سياق هذه العبارة: فأنتم

أولى بعداوتكم إياهم.

(2)

الأثر: 7695- سيرة ابن هشام 2: 207، وهو من تمام الآثار السالفة التي آخرها:7680.

(3)

في المخطوطة: "ولم يقل: هذا أنتم"، والصواب ما في المطبوعة، فهو حق السياق.

(4)

التقريب" من اصطلاح الكوفيين، وقد فسره السيوطي في همع الهوامع 1: 113، فقال [ذهب الكوفيون إلى أن"هذا" و"هذه"، إذا أريد بها التقريب كانا من أخوات"كان"، في احتياجهما إلى اسم مرفوع وخبر منصوب، نحو: "كيف أخاف الظلم وهذا الخليفة قادمًا؟ "، "وكيف أخاف البرد، وهذه الشمس طالعة؟ "، وكذلك كل ما كان فيه الاسم الواقع بعد أسماء الإشارة لا ثاني له في الوجود، نحو: "هذا ابن صياد أسقى الناس"، فيعربون"هذا" تقريبًا، والمرفوع اسم التقريب، والمنصوب خبر التقريب. لأن المعنى إنما هو عن الخليفة بالقدوم، وعن الشمس بالطلوع، وأتى باسم الإشارة تقريبا للقدوم والطلوع. ألا ترى أنك لم تشر إليهما وهما حاضران؟ وأيضًا، فالخليفة والشمس معلومان، فلا يحتاج إلى تبيينهما بالإشارة إليهما. وتبين أن المرفوع بعد اسم الإشارة يخبر عنه بالمنصوب، لأنك لو أسقطت الإشارة لم يختل المعنى، كما لو أسقطت"كان" من: "كان زيد قائما"] .

ص: 149

أن يقال لبعضهم: أين أنت"، فيجيب المقول ذلك له."ها أنا ذا" = (1) فتفرق بين التنبيه و"ذا" بمكنيّ اسم نفسه، (2) ولا يكادون يقولون:"هذا أنا"، ثم يثني ويجمع على ذلك. وربما أعادوا حرف التنبيه مع:"ذا" فقالوا:"ها أنا هذا". ولا يفعلون ذلك إلا فيما كان تقريبًا، (3) فأما إذا كان على غير التقريب والنقصان قالوا:"هذا هو""وهذا أنت". وكذلك يفعلون مع الأسماء الظاهرة، يقولون:"هذا عمرو قائمًا"، إن كان"هذا" تقريبًا. (4) وإنما فعلوا ذلك في المكني مع التقريب، (5) تفرقة بين"هذا" إذا كان بمعنى الناقص الذي يحتاج إلى تمام، وبينه إذا كان بمعنى الاسم الصحيح. (6)

* * *

وقوله:"تحبونهم" خَبَرٌ للتقريب. (7)

* * *

قال أبو جعفر: وفي هذه الآية إبانة من الله عز وجل عن حال الفريقين - أعني المؤمنين والكافرين، ورحمة أهل الإيمان ورأفتهم بأهل الخلاف لهم، وقساوة قلوب أهل الكفر وغلظتهم على أهل الإيمان، كما:-

(1) في المطبوعة: "فيفرق"، والصواب بالتاء، لأنه يريد"العرب". وسياق الكلام: "لأن العرب كذلك تفعل

فتفرق

".

(2)

في المخطوطة: "بين التنبيه وأولاء". والذي في المطبوعة أجود وأمضى على السياق، وهو تغيير مستحسن. والظاهر أن الخطأ قديم في نسخ الطبري، بل لعله من فعل أبي جعفر نفسه، وكأنه لما نقل هذا الكلام، وهو كلام الفراء، اختصر أوله فقال:"لأن العرب كذلك تفعل في هذا"، واقتصر عليها، مع أن الفراء ذكر"هذا، وهذان، وهؤلاء". هذا مع اشتغال ذهنه بنص الآية نفسها، فدخل عليه السهو فيما كتب. هذا ما أرجحه والله ولي التوفيق.

(3)

انظر معنى"التقريب" فيما سلف ص: 149 تعليق: 4.

(4)

في المطبوعة والمخطوطة: "وإن كان

" بالواو، وإثباتها فساد في الكلام شديد لأنه يعني أنهم ينصبون: "قائما"، إن كان"هذا" بمعنى التقريب. والجملة الآتية مؤيدة لذلك.

(5)

انظر معنى"التقريب" فيما سلف ص: 149 تعليق: 4.

(6)

في المطبوعة: "وبينه وبين ما إذا كان بمعنى الاسم الصحيح"، زاد من زاد"وبين ما" ظنا منه أن ذلك أقوم في الدلالة على المعنى من عبارة أبي جعفر التي ثبتها من المخطوطة. وقد أساه غاية الإساءة!

(7)

يعني بقوله: "خبر للتقريب"، أي هو في موضع نصب خبرًا للتقريب، كما أسلفت بيان ذلك من كلام السيوطي في ص 149، تعليق:4.

ص: 150

7696-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله"، فوالله إن المؤمن ليحب المنافق ويأوى له ويرحمه. ولو أن المنافق يقدر على ما يقدر عليه المؤمن منه، لأباد خضراءه. (1)

7697-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: المؤمن خير للمنافق من المنافق للمؤمن، يرحمه. ولو يقدر المنافق من المؤمن على مثل ما يقدر المؤمن عليه منه، لأباد خضراءه.

* * *

وكان مجاهد يقول: نزلت هذه الآية في المنافقين.

7698-

حدثني بذلك محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد.

* * *

القول في تأويل قوله: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ}

قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: أن هؤلاء الذين نهى الله المؤمنين أن يتخذوهم بطانة من دونهم، ووصفهم بصفتهم، إذا لقوا المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطوهم بألسنتهم تقيةً حذرًا على أنفسهم منهم فقالوا لهم:"قد آمنا وصدقنا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم"، وإذا هم خلوا فصاروا في خلاء حيث لا يراهم المؤمنون، (2) عضوا - على ما يرون من ائتلاف

(1) أوى له وأوى إليه: رثى له وأشفق عليه ورحمه. ويقال: "أباد خضراءهم"، أي سوادهم ومعظمهم، واستأصلهم. وذلك أن الكثرة المجتمعة، ترى من بعيد سوداء، والعرب تسمى الأخضر، أسود.

(2)

انظر تفسير"خلا" فيما سلف 1: 298، 299.

ص: 151

المؤمنين واجتماع كلمتهم وصلاح ذات بينهم - أناملَهم، وهي أطراف أصابعهم، تغيُّظًا مما بهم من الموجدة عليهم، وأسىً على ظهرٍ يسنِدون إليه لمكاشفتهم العداوة ومناجزتهم المحاربة. (1)

* * *

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

7699-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ"، إذا لقوا المؤمنين قالوا:"آمنا"، ليس بهم إلا مخافة على دمائهم وأموالهم، فصانعوهم بذلك ="وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ"، يقول: مما يجدون في قلوبهم من الغيظ والكراهة لما هم عليه. لو يجدون ريحًا لكانوا على المؤمنين، (2) فهم كما نعت الله عز وجل.

7700-

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله = إلا أنه قال: من الغيظ لكراهتهم الذي هم عليه = ولم يقل:"لو يجدون ريحًا"، وما بعده.

7701-

حدثنا عباس بن محمد قال، حدثنا مسلم قال: حدثني يحيى بن عمرو بن مالك النُّكري قال، حدثنا أبي قال: كان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية:"وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ"، قال: هم الإباضية. (3)

* * *

(1) الظهر: الأعوان والأنصار، كأنهم لمن ينصرونه ظهر.

(2)

الريح: القوة والغلبة، ومنه قول تأبط شرًا أو السليك بن السلكة: أَتَنْظُرَانِ قَلِيلا رَيْثَ غَفْلَتِهمْ

أَوْ تَعْدُوَان، فَإِنَّ الرِّيحَ للعَادِي

(3)

الأثر: 7701-"عباس بن محمد بن حاتم" الدوري، روى عنه الأربعة. مترجم في التهذيب. و"مسلم" هو"مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي"، مضت ترجمته برقم:2861. و"يحيى بن عمرو بن مالك النكري". روى عن أبيه، وهو منكر الحديث. و"النكرى" بضم النون وتسكين الكاف، نسبة إلى بني نكرة بن لكيز من عبد قيس. وأبوه"عمرو بن مالك النكري"، ثقة وتكلم فيه البخاري وضعفه. روى عن أبيه وعن أبي الجوزاء. و"أبو الجوزاء" هو"أوس بن عبد الله الربعي من الأزد"، روى عن أبي هريرة وعائشة وابن عباس. كان عابدًا فاضلا. واستضعف البخاري إسناده إلى عائشة وابن مسعود وغيرهما من الصحابة. مترجم في التهذيب.

و"الإباضية"، فرقة من الحرورية، وهم أصحاب عبد الله بن إباض التميمي، الخارج في أيام مروان بن محمد. ومن قولهم: إن مخالفينا من أهل القبلة كفار غير مشركين، ومناكحتهم جائزة، وموارثتهم حلال، وغنيمة أموالهم من السلاح والكراع عند الحرب حلال، وما سواه حرام، وإن دار مخالفيهم من أهل الإسلام دار توحيد. وقالوا: إن مرتكب الكبيرة موحد، لا مؤمن.

ص: 152

و"الأنامل" جمع"أنملة" ويقال"أنملة"، (1) وربما جمعت"أنملا"، (2) قال الشاعر:(3)

أوَدُّكُما، مَا بَلَّ حَلْقِيَ رِيقَتِي

وَما حَمَلَتْ كَفَّايَ أَنْمُلِيَ العَشْرَا (4) وهي أطراف الأصابع; كما:-

7702-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"الأنامل"، أطراف الأصابع.

7702 م - حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، بمثله.

7703-

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل"، الأصابع.

7704-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي

(1) يعني بفتح الهمزة وضم الميم، وضم الهمزة والميم جميعا.

(2)

"أنمل" هذا جمع لم تورده كتب اللغة، وإنما ذكروا"أنملات"، وقالوا إنه أحد ما كسر وسلم بالتاء، قال ابن سيدهْ:"إنما قلت هذا، لأنهم قد يستغنون بالتكسير عن جمع السلامة، وبجمع السلامة بالتكسير، وربما جمع الشيء بالوجهين جميعًا".

(3)

لم أعرف قائله.

(4)

قوله: "أود كما" أي: لا أود كما، حذفت"لا" مع القسم. والريقة: الريق. وقوله: "ما بل حلقي ريقي

" إلى آخر البيت بمعنى التأييد، أي. لا أود كما أبدًا ما حييت.

ص: 153

الأحوص، عن عبد الله، قوله:"عضوا عليكم الأنامل من الغيظ"، قال: عضوا على أصابعهم. (1)

* * *

القول في تأويل قوله عز وجل: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) }

قال أب جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"قل"، يا محمد، لهؤلاء اليهود الذين وصفت لك صفتهم، وأخبرتك أنهم إذا لقوا أصحابك قالوا: آمنا، وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ =:"موتوا بغيظكم" الذي بكم على المؤمنين لاجتماع كلمتهم وائتلاف جماعتهم.

وخرَج هذا الكلام مخرج الأمر، وهو دعاء من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن يدعو عليهم بأن يهلكهم الله، كمَدًا مما بهم من الغيظ على المؤمنين، قبل أن يروا فيهم ما يتمنون لهم من العنت في دينهم، والضلالة بعد هداهم، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: أهلكوا بغيظكم ="إن الله عليم بذات الصدور"،

(1) عند هذا آخر قسم من التقسيم القديم، وفي المخطوطة هنا ما نصه:"يتلوه القولُ في تأويل قوله: قُلْ مُوتُوا بِغَيظكم إنَّ الله عليمٌ بذات الصُّدُور وصلى الله على محمد النبي وآله وصحبه وسلم كثيرًا"

ثم يتلوه بعد:

"بسم الله الرحمن الرحيم

أخبرنا أبو بكر محمد بن داود بن سليمان، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن جرير" ثم انظر ما سلف في بيان هذا الإسناد الجديد للنسخة، في 6: 495، 496 تعليق: 5 / ثم 7: 23، تعليق 1.

ص: 154