المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

القول في تأويل قوله: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى - تفسير الطبري جامع البيان - ط دار التربية والتراث - جـ ٧

[ابن جرير الطبري]

الفصل: القول في تأويل قوله: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى

القول في تأويل قوله: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‌

(189) }

قال أبو جعفر: وهذا تكذيب من الله جل ثناؤه الذين قالوا:"إن الله فقير ونحن أغنياء". يقول تعالى ذكره، مكذبا لهم: لله ملك جميع ما حوته السموات والأرض. فكيف يكون أيها المفترون على الله، من كان ملك ذلك له فقيرًا؟

ثم أخبر جل ثناؤه أنه القادر على تعجيل العقوبة لقائلي ذلك، ولكل مكذب به ومفتر عليه، وعلى غير ذلك مما أراد وأحب، ولكنه تفضل بحلمه على خلقه= فقال:"والله على كل شيء قدير"، يعني: من إهلاك قائلي ذلك، وتعجيل عقوبته لهم، وغير ذلك من الأمور.

* * *

القول في تأويل قوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ (190) }

قال أبو جعفر: وهذا احتجاج من الله تعالى ذكره على قائل ذلك، وعلى سائر خلقه، بأنه المدبر المصرّف الأشياء والمسخِّر ما أحب، وأن الإغناء والإفقار إليه وبيده، فقال جل ثناؤه: تدبروا أيها الناس واعتبروا، ففيما أنشأته فخلقته من السموات والأرض لمعاشكم وأقواتكم وأرزاقكم، وفيما عقَّبت بينه من الليل والنهار فجعلتهما يختلفان ويعتقبان عليكم، (1) تتصرفون في هذا لمعاشكم، وتسكنون في

(1) عاقب بين الشيئين: راوح بينهما، لهذا مرة ولذاك مرة. واستعمل الطبري"عقب" مشددة القاف، بنفس المعنى، كما يقال:"ضاعف وضعف"، و"عاقد وعقد". و"اعتقب الليل والنهار" جاء هذا بعد هذا، دواليك.

ص: 473

هذا راحة لأجسادكم= معتبر ومدَّكر، وآيات وعظات. فمن كان منكم ذا لُبٍّ وعقل، يعلم أن من نسبني إلى أنّي فقير وهو غني كاذب مفتر، (1) فإنّ ذلك كله بيدي أقلّبه وأصرّفه، ولو أبطلت ذلك لهلكتم، فكيف ينسب إلى فقر من كان كل ما به عيش ما في السموات والأرض بيده وإليه؟ (2) أم كيف يكون غنيًّا من كان رزقه بيد غيره، إذا شاء رزقه، وإذا شاء حَرَمه؟ فاعتبروا يا أولي الألباب.

* * *

القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ}

قال أبو جعفر: وقوله:"الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا" من نعت"أولي الألباب"، و"الذين" في موضع خفض ردًّا على قوله:"لأولي الألباب".

* * *

ومعنى الآية: إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذاكرين الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم= يعني بذلك: قيامًا في صلاتهم، وقعودًا في تشهدهم وفي غير صلاتهم، وعلى جنوبهم نيامًا. كما:-

8354 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن

(1) في المخطوطة: "يعلم أنه أن من نسبي إلى أني فقير وهو غني، دادب معى"، وهو كلام مصحف مضطرب، والذي في المطبوعة أشبه بالصواب إن شاء الله.

(2)

في المطبوعة: "فكيف ينسب فقر إلى من كان

"، أخر"إلى"، والصواب الجيد تقديمها كما في المخطوطة.

ص: 474

ابن جريج، قوله:"الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا" الآية، قال: هو ذكر الله في الصلاة وفي غير الصلاة، وقراءة القرآن.

8355 -

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم"، وهذه حالاتك كلها يا ابن آدم، فاذكره وأنت على جنبك، يُسرًا من الله وتخفيفًا.

* * *

قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وكيف قيل:"وعلى جنوبهم": فعطف بـ"على"، وهي صفة، (1) على"القيام والقعود" وهما اسمان؟

قيل: لأن قوله:"وعلى جنوبهم" في معنى الاسم، ومعناه: ونيامًا، أو:"مضطجعين على جنوبهم"، فحسن عطف ذلك على"القيام" و"القعود" لذلك المعنى، كما قيل:(وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا)[سورة يونس: 12] فعطف بقوله:"أو قاعدا أو قائما" على قوله:"لجنبه"، لأن معنى قوله:"لجنبه"، مضطجعا، (2) فعطف بـ"القاعد" و"القائم" على معناه، فكذلك ذلك في قوله:"وعلى جنوبهم". (3)

* * *

وأما قوله:"ويتفكرون في خلق السموات والأرض"، فإنه يعني بذلك أنهم يعتبرون بصنعة صانع ذلك، فيعلمون أنه لا يصنع ذلك إلا مَن ليس كمثله شيء، ومن هو مالك كل شيء ورازقه، وخالق كل شيء ومدبره، ومن هو على كل شيء قدير، وبيده الإغناء والإفقار، والإعزاز والإذلال، والإحياء والإماتة، والشقاء والسعادة.

* * *

(1)"الصفة": حرف الجر، كما سلف في مواضع كثيرة، وانظر 1: 299، تعليق: 1، وفهرس المصطلحات في الأجزاء السالفة.

(2)

انظر ما سلف 3: 475.

(3)

انظر معاني القرآن للفراء 1: 250.

ص: 475

القول في تأويل قوله: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) }

قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره:"ويتفكرون في خلق السموات والأرض" قائلين:"ربنا ما خلقت هذا باطلا"، فترك ذكر"قائلين"، إذ كان فيما ظهر من الكلام دلالة عليه.

* * *

وقوله:"ما خلقت هذا باطلا" يقول: لم تخلق هذا الخلق عبثًا ولا لعبًا، ولم تخلقه إلا لأمر عظيم من ثواب وعقاب ومحاسبة ومجازاة، وإنما قال:"ما خلقت هذا باطلا" ولم يقل:"ما خلقت هذه، ولا هؤلاء"، لأنه أراد بـ"هذا"، الخلقَ الذي في السموات والأرض. يدل على ذلك قوله:"سبحانك فقنا عذاب النار"، ورغبتهم إلى ربهم في أن يقيهم عذاب الجحيم. ولو كان المعنيّ بقوله:"ما خلقت هذا باطلا"، السموات والأرض، لما كان لقوله عقيب ذلك:"فقنا عذاب النار"، معنى مفهوم. لأن"السموات والأرض" أدلة على بارئها، لا على الثواب والعقاب، وإنما الدليل على الثواب والعقاب، الأمر والنهي.

وإنما وصف جل ثناؤه:"أولي الألباب" الذين ذكرهم في هذه الآية: أنهم إذا رأوا المأمورين المنهيّين قالوا:"يا ربنا لم تخلُق هؤلاء باطلا عبثًا سبحانك"، يعني: تنزيهًا لك من أن تفعل شيئًا عبثًا، ولكنك خلقتهم لعظيم من الأمر، لجنة أو نار.

ثم فَزِعوا إلى ربهم بالمسألة أن يجيرهم من عذاب النار، وأن لا يجعلهم ممن عصاه وخالف أمره، فيكونوا من أهل جهنم.

* * *

ص: 476