الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول في تأويل قوله: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ
(63) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: هلا ينهى هؤلاء الذين يسارعون في الإثم والعدوان وأكل الرشى في الحكم، من اليهود من بني إسرائيل، (1) ربانيوهم= وهم أئمتهم المؤمنون، وساستهم العلماء بسياستهم (2) = وأحبارهم، وهم علماؤهم وقوادهم (3) ="عن قولهم الإثم" يعني: عن قول الكذب والزور، وذلك أنهم كانوا يحكمون فيهم بغير حكم الله، ويكتبون كتبًا بأيديهم ثم يقولون:"هذا من حكم الله، وهذا من كتبه". يقول الله: (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ)[سورة البقرة: 79] .
* * *
وأما قوله:"وأكلهم السحت"، فإنه يعني به الرشوة التي كانوا يأخذونها على حكمهم بغير كتاب الله لمن حكموا له به.
* * *
وقد بينا معنى"الربانيين" و"الأحبار" ومعنى"السحت"، بشواهد ذلك فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (4)
* * *
="لبئس ما كانوا يصنعون"، وهذا قسم من الله أقسم به، يقول تعالى ذكره: أقسم: لبئس الصنيع كان يصنع هؤلاء الربانيون والأحبار، في تركهم نهيَ الذين يسارعون منهم في الإثم والعدوان وأكل السحت، عما كانوا يفعلون من ذلك.
* * *
(1) انظر تفسير"لولا" بمعنى: "هلا"، فيما سلف 2: 552، 553.
(2)
انظر تفسير"الربانيون" فيما سلف 5: 540- 544/10: 341- 343
(3)
انظر تفسير"الأحبار" فيما سلف 6: 543، 544/10: 341- 343
(4)
انظر التعليقات السالفة قريبًا.
وكان العلماء يقولون: ما في القرآن آية أشدَّ توبيخًا للعلماء من هذه الآية، ولا أخوفَ عليهم منها.
12238 -
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الله بن داود قال، حدثنا سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم في قوله:"لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم" قال: ما في القرآن آية، أخوف عندي منها: أَنَّا لا ننهى. (1)
12239 -
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا قيس، عن العلاء بن المسيب، عن خالد بن دينار، عن ابن عباس قال: ما في القرآن آية أشدَّ توبيخًا من هذه الآية: (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون) قال: كذا قرأ. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
12240 -
حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك:"لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت"[قال:"الربانيون والأحبار"، فقهاؤهم وقراؤهم وعلماؤهم. قال: ثم يقول الضحاك: وما أخوفني من هذه الآية!] . (3)
(1) الأثر: 12238-"عبد الله بن داود بن عامر بن الربيع الهمداني"، أبو عبد الرحمن الخريبي. كان ثقة عابدًا، وكان عسرًا في الرواية. مترجم في التهذيب.
(2)
الأثر: 12239-"ابن عطية" هو: "الحسن بن عطية بن نجيح القرشي"، أبو علي البزار مضى برقم: 1939، 4962، 7535، 8961، 8962. وهو الذي يروي عنه أبو كريب ويقول:"ابن عطية"، وكان في المطبوعة والمخطوطة:"أبو عطية". وهو خطأ.
و"قيس"، هو"قيس بن الربيع الأسدي"، مضى برقم: 159، 4842، 5413، 6892، 7535.
و"العلاء بن المسيب بن رافع الأسدي"، مضى برقم:3789.
و"خالد بن دينار التميمي السعدي" مضى برقم: 44، ولم يدرك ابن عباس.
(3)
الأثر: 12240- كان في المطبوعة"
…
وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون"، أتم الآية، وليس للخبر تتمة. أما المخطوطة، فليس فيها تتمة الآية ولا تتمة الخبر، والذي أثبته من الدر المنثور 1: 296 قال: "وأخرج عبد بن حميد من طريق سلمة بن نبيط
…
"، وساق الأثر كما أثبته.
12241 -
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون"، يعني: الربانيين، أنهم: لبئس ما كانوا يصنعون.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن جرأة اليهود على ربهم، ووصفهم إياه بما ليس من صفته، توبيخًا لهم بذلك، وتعريفًا منه نبيَّه صلى الله عليه وسلم قديمَ جهلهم واغترارهم به، وإنكارهم جميع جميل أياديه عندهم، وكثرة صفحه عنهم وعفوه عن عظيم إجرامهم= واحتجاجًا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأنه له نبيٌّ مبعوث ورسول مرسل: أنْ كانت هذه الأنباء التي أنبأهم بها كانت من خفيِّ علومهم ومكنونها التي لا يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم دون غيرهم من اليهود، فضلا عن الأمة الأمية من العرب الذين لم يقرأوا كتابًا، ولاوَعَوْا من علوم أهل الكتاب علمًا، فأطلع الله على ذلك نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، ليقرر عندهم صدقه، ويقطع بذلك حجتهم.
* * *
يقول تعالى ذكره:"وقالت اليهود"، من بني إسرائيل="يد الله مغلولة"، يعنون: أن خير الله مُمْسَك وعطاؤه محبوس عن الاتساع عليهم، كما قال تعالى
ذكره في تأديب نبيه صلى الله عليه وسلم: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ)[سورة الإسراء: 29] .
* * *
وإنما وصف تعالى ذكره"اليد" بذلك، والمعنى العَطاء، لأن عطاء الناس وبذلَ معروفهم الغالبَ بأيديهم. فجرى استعمال الناس في وصف بعضهم بعضًا، إذا وصفوه بجود وكرم، أو ببخل وشحّ وضيق، بإضافة ما كان من ذلك من صفة الموصوف إلى يديه، كما قال الأعشى في مدح رجل:
يَدَاكَ يَدَا مَجْدٍ، فَكَفٌ مُفِيدَةٌ
…
وَكَفٌّ إذَا مَا ضُنَّ بِالزَّادِ تُنْفِقُ (1)
فأضاف ما كان صفة صاحب اليد من إنفاق وإفادة إلى"اليد". ومثل ذلك من كلام العرب في أشعارها وأمثالها أكثر من أن يُحْصى. فخاطبهم الله بما يتعارفونه ويتحاورونه بينهم في كلامهم فقال:"وقالت اليهود يد الله مغلولة"، يعني بذلك: أنهم قالوا: إن الله يبخل علينا، ويمنعنا فضله فلا يُفْضِل، كالمغلولة يده الذي لا يقدر أن يبسطَها بعطاء ولا بذلِ معروف، تعالى الله عما قالوا، أعداءَ الله! (2)
(1) ديوانه: 150، وغيره. من قصيدته الغالية التي رفعت المحلق وطارت بذكره في الآفاق، يقول له: لَعَمْرِي لَقَدْ لاحَتْ عُيُونٌ كَثِيرَةٌ
…
إلَى ضَوْءِ نارٍ في يَفَاٍع تُحَرَّقُ
تُشَبُّ لمقْرُورَيْنِ يَصْطَلِيَانِهِا
…
وَبَاتَ عَلَى النَّارِ النَّدَى والمحَلَّقُ
رَضِيعَيْ لِبَانٍ ثَدْيَ أُمٍّ تَحَالفَا
…
بِأَسْحَمَ عَوْضَ الدَّهْرِ لا نَتَفَرَّقُ
تَرَى الجُودَ يَجْرِيِ ظَاهِرًا فَوْقَ وَجْهِهِ
…
كَمَا زَانَ مَتْنَ الهُنْدُوَانِيِّ رَوْنَقُ
يَدَاهُ يَدَا صِدْقٍ، فَكفٌّ مُفِيدَةٌ
…
وَكَفٌّ إذَا مَا ضُنَّ بِالْمَالِ تُنْفِقُ
هذه رواية مخطوطة ديوانه التي صورتها حديثًا، ورواية هذه المخطوطة تخالف الرواية المطبوعة في أشياء كثيرة، ولا سيما في ترتيب أبيات الشعر.
(2)
في المطبوعة: "عما قال أعداء الله"، وأثبت ما في المخطوطة، وقوله:"أعداء الله" منصوب على الذم.
فقال الله مكذِّبَهم ومخبرَهم بسخَطه عليهم:"غلت أيديهم"، يقول: أمسكت أيديهم عن الخيرات، وقُبِضت عن الانبساط بالعطيات="ولعنوا بما قالوا"، وأبعدوا من رحمة الله وفضله بالذي قالوا من الكفر، وافتروا على الله ووصفوه به من الكذب والإفك (1)
="بل يداه مبسوطتان"، يقول: بل يداه مبسوطتان بالبذل والإعطاء وأرزاق عباده وأقوات خلقه، غيُر مغلولتين ولا مقبوضتين (2) ="ينفق كيف يشاء"، يقول: يعطي هذا، ويمنع هذا فيقتِّر عليه. (3)
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
12242 -
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا"، قال: ليس يعنون بذلك أن يد الله موثقةٌ، ولكنهم يقولون: إنه بخيل أمسك ما عنده، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيًرا.
12243 -
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"يد الله مغلولة"، قالوا: لقد تَجَهَّدنا الله = يا بني إسرائيل، (4) حتى
(1) انظر تفسير"اللعنة" فيما سلف 10: 437، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(2)
انظر تفسير"البسط" فيما سلف 5: 288، 290، 313.
(3)
انظر تفسير"الإنفاق" فيما سلف 7: 134، تعليق: 3، والمراجع هناك، ثم سائر فهارس اللغة.
(4)
في المطبوعة، حذف ما وضعته بين الخطين، وكان في المخطوطة:"لقد تجهدنا الله، أي تجهدنا الله يا بني إسرائيل"، ورجحت أن صوابها كما أثبتها. ولم يذكر في كتب اللغة"تجهد" (مشددة الهاء) بمعنى: ألح عليه في السؤال حتى أفنى ما عنده، وكأنه من أجل ذلك فسره بقوله (كما قرأته) :"أي جهدنا الله" من قولهم"جهد الرجل"(ثلاثيا) : إذا ألح عليه في السؤال. هذا ما رأيته، وفوق كل ذي علم عليم. وانظر الأثر التالي.
جعل الله يده إلى نحره! وكذبوا!
12244 -
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يد الله مغلولة"، قال: اليهود تقوله: (1) لقد تجهَّدنا الله يا بني إسرائيل ويا أهل الكتاب، (2) حتى إن يده إلى نحره="بل يداه مبسوطتان، ينفق كيف يشاء".
12245 -
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا" إلى"والله لا يحب المفسدين"، أما قوله:"يد الله مغلولة"، قالوا: الله بخيل غير جواد! قال الله:"بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء".
12246 -
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء"، قالوا: إن الله وضع يده على صدره، فلا يبسطها حتى يردّ علينا ملكنا.
* * *
= وأما قوله:"ينفق كيف يشاء"، يقول: يرزق كيف يشاء.
12247 -
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عكرمة:"وقالت اليهود يد الله مغلولة" الآية، نزلت في فنْحاص اليهوديّ.
12248 -
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك بن مزاحم قوله:"يد الله مغلولة"، يقولون: إنه
(1) في المطبوعة: "اليهود تقول"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2)
انظر التعليق السالف ص: 452، رقم:4.
بخيل ليس بجواد! قال الله:"غلت أيديهم"، أمسكت أيديهم عن النفقة والخير. ثم قال يعني نفسه:"بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء". وقال: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ)[سورة الإسراء: 29]، يقول: لا تمسك يدك عن النفقة.
* * *
قال أبو جعفر: واختلف أهل الجدل في تأويل قوله:"بل يداه مبسوطتان". (1) فقال بعضهم: عنى بذلك: نِعمتاه. وقال: ذلك بمعنى:"يد الله على خلقه"، وذلك نعمه عليهم. وقال: إن العرب تقول:"لك عندي يد"، يعنون بذلك: نعمةٌ.
* * *
وقال آخرون منهم: عنى بذلك القوة. وقالوا: ذلك نظير قول الله تعالى ذكره: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي)[سورة ص: 45] .
* * *
وقال آخرون منهم: بل"يده"، ملكه. وقال: معنى قوله:"وقالت اليهود يد الله مغلولة"، ملكه وخزائنه.
قالوا: وذلك كقول العرب للمملوك:"هو ملك يمينه"، و"فلان بيده عُقدة نكاح فلانة"، أي يملك ذلك، وكقول الله تعالى ذكره:(فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً)، [سورة المجادلة: 12] .
* * *
وقال آخرون منهم: بل"يد الله" صفة من صفاته، هي يد، غير أنها ليست بجارحة كجوارح بني آدم.
قالوا: وذلك أنّ الله تعالى ذكره أخبرَ عن خصوصه آدم بما خصّه به من خلقه إياه بيده. (2)
(1) هذه أول مرة يذكر فيها أبو جعفر أصحاب الكلام ويسميهم"أهل الجدل".
(2)
في المطبوعة: "عن خصوصية آدم"، وأعاد"خصوصية" بالنسب في جميع ما سيأتي، وهو عبث من المصحح، وأثبت ما في المخطوطة.
قالوا: ولو كان [معنى"اليد"، النعمة، أو القوة، أو الملك، ما كان لخصوصِه] آدم بذلك وجه مفهوم، (1) إذ كان جميع خلقه مخلوقين بقدرته، ومشيئتُه في خلقه تعمةٌ، وهو لجميعهم مالك.
قالوا: وإذ كان تعالى ذكره قد خص آدم بذكره خلقَه إياه بيده دون غيره من عباده، كان معلومًا أنه إنما خصه بذلك لمعنى به فارق غيره من سائر الخلق.
قالوا: وإذا كان ذلك كذلك، بطل قول من قال: معنى"اليد" من الله، القوة والنعمة أو الملك، في هذا الموضع.
قالوا: وأحرى أن ذلك لو كان كما قال الزاعمون أن:"يد الله" في قوله:"وقالت اليهود يد الله مغلولة"، هي نعمته، لقيل:"بل يده مبسوطة"، ولم يقل:"بل يداه"، لأن نعمة الله لا تحصى كثرة. (2) وبذلك جاء التنزيل، يقول الله تعالى:(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا)[سورة إبراهيم: 34\ وسورة النحل: 18]
قالوا: ولو كانت نعمتين، كانتا محصاتين.
قالوا: فإن ظن ظانٌّ أن النعمتين بمعنى النعم الكثيرة، فذلك منه خطأ، وذلك أنّ العرب قد تخرج الجميع بلفظ الواحد لأداء الواحد عن جميع جنسه، وذلك كقول الله تعالى ذكره:(وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ)[سورة العصر: 1، 2] وكقوله (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ)، [سورة الحجر: 26] وقوله: (وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا)[سورة الفرقان: 55]، قال: فلم يُرَدْ بـ"الإنسان" و"الكافر" في هذه الأماكن إنسان بعينه، ولا كافر مشار إليه حاضر، بل عني به جميع الإنس وجميع الكفار، ولكن الواحد أدَّى عن جنسه، كما تقول العرب:
(1) هذه الزيادة بين القوسين زيادة يقتضيها الكلام، استظهرتها من سياق هذه الحجج ما استطعت، وإسقاطها مفسد للكلام.
(2)
في المطبوعة: "لا تحصى بكثرة"، وأثبت ما في المخطوطة.
"ما أكثر الدرهم في أيدي الناس"، وكذلك قوله:(وَكَانَ الْكَافِرُ) معناه: وكان الذين كفروا.
قالوا: فأما إذا ثنَّى الاسم، فلا يؤدي عن الجنس، ولا يؤدّي إلا عن اثنين بأعيانهما دون الجميع ودون غيرهما. (1)
قالوا: وخطأ في كلام العرب أن يقال:"ما أكثر الدرهمين في أيدي الناس"، بمعنى: ما أكثر الدراهم في أيديهم.
قالوا: وذلك أن الدرهم إذا ثنِّي لا يؤدي في كلامها إلا عن اثنين بأعيانهما.
قالوا: وغيرُ محال:"ما أكثر الدرهم في أيدي الناس"، و"ما أكثر الدراهم في أيديهم"، لأن الواحد يؤدي عن الجميع.
قالوا: ففي قول الله تعالى:"بل يداه مبسوطتان"، مع إعلامه عبادَه أن نعمه لا تحصى، مع ما وصفنا من أنه غير معقول في كلام العرب أن اثنين يؤدّيان عن الجميع= ما ينبئ عن خطأ قول من قال: معنى"اليد"، في هذا الموضع، النعمة= وصحةِ قول من قال: إن"يد الله"، هي له صفة.
قالوا: وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال به العلماء وأهل التأويل.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن هذا الذي أطلعناك عليه من خفيِّ أمور هؤلاء اليهود، مما لا يعلمه إلا علماؤهم وأحبارهم،
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "فلا يؤدي إلا عن اثنين"، وهو لا يستقيم بالفاء، إنما يستقيم بالواو كما أثبته.
احتجاجًا عليهم لصحة نبوتك، وقطعًا لعذر قائلٍ منهم أن يقول:"ما جاءنا من بشير ولا نذير"=:"ليزيدن كثيرًا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا". يعني بـ"الطغيان": الغلو في إنكار ما قد علموا صحته من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والتمادي في ذلك="وكفرًا"، يقول: ويزيدهم مع غلوِّهم في إنكار ذلك، جحودَهم عظمة الله ووصفهم إياه بغير صفته، بأن ينسبوه إلى البخل، ويقولوا:"يد الله مغلولة". وإنما أعلم تعالى ذكره نبيَّه صلى الله عليه وسلم أنهم أهل عتوّ وتمرُّدٍ على ربهم، وأنهم لا يذعنون لحقّ وإن علموا صحته، ولكنهم يعاندونه، يسلِّي بذلك نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم عن الموجِدة بهم في ذهابهم عن الله، وتكذيبهم إياه.
* * *
وقد بينت معنى"الطغيان" فيما مضى بشواهده، بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
12249 -
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وليزيدن كثيرًا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا"، حملهم حسدُ محمد صلى الله عليه وسلم والعرب على أن كفروا به، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم.
* * *
(1) انظر تفسير"الطغيان" فيما سلف 1: 308، 309/5:419.
القول في تأويل قوله: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة"، بين اليهود والنصارى، كما:-
12250 -
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة"، اليهود والنصارى.
* * *
فإن قال قائل: وكيف قيل:"وألقينا بينهم العداوة والبغضاء"، جعلت"الهاء والميم" في قوله:"بينهم"، كناية عن اليهود والنصارى، ولم يجر لليهود والنصارى ذكر؟
قيل: قد جرى لهم ذكر، وذلك قوله:(لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، [سورة المائدة: 51] ، جرى الخبر في بعض الآي عن الفريقين، وفي بعضٍ عن أحدهما، إلى أن انتهى إلى قوله:"وألقينا بينهم العداوة والبغضاء"، ثم قصد بقوله:"ألقينا بينهم"، الخبرَ عن الفريقين.
* * *
القول في تأويل قوله: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كلما جمع أمرهم على شيء فاستقام واستوى، فأرادوا مناهضة من ناوأهم، شتته الله عليهم وأفسده، لسوء فعالهم وخُبْثِ نياتهم، (1) كالذي:-
(1) انظر تفسير"أوقد" فيما سلف 1: 320، 380/6:222.
12251 -
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:(لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ)[سورة الإسراء: 4- 6]، قال: كان الفساد الأول، فبعث الله عليهم عدوًّا فاستباحوا الديار، واستنكحوا النساء، واستعبدوا الولدان، وخرَّبوا المسجد. فغَبَرُوا زمانًا، (1) ثم بعث الله فيهم نبيًّا وعاد أمرهم إلى أحسن ما كان. ثم كان الفساد الثاني بقتلهم الأنبياء، حتى قتلوا يحيى بن زكريا، فبعث الله عليهم بُخْت نصَّر، فقتل من قتل منهم، وسبى من سبى، وخرب المسجد. فكان بخت نصر الفسادَ الثاني= قال: و"الفساد"، المعصية= ثم قال، (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) إلى قوله:(وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا)[سورة الإسراء: 7، 8] فبعث الله لهم عُزَيْرًا، وقد كان علم التوراة وحفظها في صدره وكتبها لهم. فقام بها ذلك القرن، ولبثوا فنسوا. (2) ومات عزير، وكانت أحداثٌ، ونسوا العهد وبَخَّلوا ربهم، وقالوا:"يد الله مغلولة غُلَّت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء"، وقالوا في عزير:"إن الله اتخذه ولدًا"، وكانوا يعيبون ذلك على النصارى في قولهم في المسيح، فخالفوا ما نَهَوْا عنه، وعملوا بما كانوا يكفِّرون عليه، فسبق من الله كلمة عند ذلك أنهم لن يظهروا على عدوٍّ آخرَ الدهر، (3) فقال:"كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادًا والله لا يحب المفسدين"، فبعث الله عليهم المجوس الثالثةَ أربابًا، (4) فلم يزالوا كذلك والمجوس
(1) في المطبوعة: "فغيروا" بالياء، وهو خطأ."غبروا زمانا": لبثوا زمانًا.
(2)
في المطبوعة: "ونسوا"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3)
في المطبوعة والمخطوطة: "لم يظهروا"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(4)
في المطبوعة: "المجوس الثلاثة أربابًا"، والصواب ما في المخطوطة، ويعني وعد الآخرة، وهي المرة الثالثة.
على رقابهم، وهم يقولون:"يا ليتنا أدركنا هذا النبي الذي نجده مكتوبًا عندنا، عسى الله أن يفكَّنا به من المجوس والعذاب الهون"! فبعث محمدًا صلى الله عليه وسلم= واسمه"محمد"، واسمه في الإنجيل"أحمد"= فلما جاءهم وعرفوا، (1) كفروا به، قال:(فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ)[سورة البقرة: 89]، وقال:(فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ)، بسورة البقرة: 90] . (2)
12252 -
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله"، هم اليهود.
12253 -
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادًا"، أولئك أعداء الله اليهود، كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله، فلن تلقَى اليهود ببلد إلا وجدتهم من أذلّ أهله. لقد جاء الإسلام حين جاء، وهم تحت أيدي المجوس أبغضِ خلقه إليه.
12254 -
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله"، قال: كلما أجمعوا أمرهم على شيء فرَّقه الله، وأطفأ حَدَّهم ونارهم، (3) وقذف في قلوبهم الرعب.
* * *
(1) في المطبوعة: "فلما جاءهم ما عرفوا
…
" كنص آية البقرة: 89، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب أيضًا، لا يريد الآية، بل أراد معناها.
(2)
الأثر: 12251- هذا الأثر، لم يذكره أبو جعفر في تفسير آيات"سورة الإسراء: 4- 8" في تفسيره 15: 17- 35 (بولاق) . وهذا أحد الأدلة على اختصار التفسير.
(3)
"الحد": البأس والنفاذ. و"حد الظهيرة": شدة توقدها.