المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ - تفسير الطبري جامع البيان - ط دار التربية والتراث - جـ ١٠

[ابن جرير الطبري]

الفصل: القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ

القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‌

(67) }

قال أبو جعفر: وهذا أمر من الله تعالى ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم، (1) بإبلاغ هؤلاء اليهود والنصارى من أهل الكتابين الذين قصَّ تعالى ذكره قَصَصهم في هذه السورة، وذكر فيها معايبهم وخُبْثَ أديانهم، واجتراءَهم على ربهم، وتوثُّبهم على أنبيائهم، وتبديلَهم كتابه، وتحريفَهم إياه، ورداءةَ مطاعِمهم ومآكلهم= وسائرِ المشركين غيرِهم، (2) ما أنزل عليه فيهم من معايبهم، والإزراء عليهم، والتقصير بهم، والتهجين لهم، وما أمرهم به ونهاهم عنه، وأن لا يُشْعر نفسَه حذرًا منهم أن يُصيبوه في نفسه بمكروهٍ ما قام فيهم بأمر الله، (3) ولا جَزعًا من كثرة عددهم وقلّة عدد من معه، وأن لا يتّقى أحدًا في ذات الله، فإن الله تعالى ذكره كافيه كلَّ أحد من خلقه، ودافعٌ عنه مكروهَ كل من يبغي مكروهه. (4) وأعلمه تعالى ذكره أنه إن قصَّر عن إبلاغ شيء مما أنزل إليه إليهم، فهو في تركه تبليغ ذلك= وإن قلّ ما لم يبلّغ منه= فهو في عظيم ما ركب بذلك من الذَّنب بمنزلته لو لم يبلِّغ من تنزيله شيئًا.

* * *

وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

(1) في المطبوعة: "لنبيه محمد"، غير ما في المخطوطة على غير طائل.

(2)

قوله: "وسائر المشركين" مجرور معطوف على قوله: "بإبلاغ هؤلاء اليهود والنصارى

" ومفعول قوله: "بإبلاغ هؤلاء

" هو: "ما أنزل عليه فيهم".

(3)

في المطبوعة: "أن يصيبه في نفسه مكروه"، غير ما في المخطوطة على غير طائل.

(4)

في المطبوعة والمخطوطة: "كل من يتقي مكروهه"، وهو فاسد جدًا، صوابه ما أثبت.

ص: 467

12270 -

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته"، يعني: إن كتمت آية مما أنزل عليك من ربك، لم تبلِّغ رسالاتي. (1)

12271 -

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك"، الآية، أخبر الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم أنه سيكفيه الناس، ويعصمه منهم، وأمره بالبلاغ. ذكر لنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قيل له: لو احتجبت! فقال: والله لأبديَنَّ عَقِبي للناس ما صاحبتهم. (2)

12272 -

حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان الثوري، عن رجل، عن مجاهد قال: لما نزلت:"بلغ ما أنزل إليك من ربك"، قال: إنما أنا واحد، كيف أصنع؟ تجَمَّع عليّ الناس! (3) فنزلت:"وإن لم تفعل فما بلغت رسالته"، الآية.

12273 -

حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن ثعلبة، عن جعفر، عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت:"يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تحرسوني، إنّ ربّي قد عَصَمني. (4)

(1) في المطبوعة: "رسالتي"، غير ما في المخطوطة.

(2)

قوله: "احتجبت"، أي: احتجبت عن الناس حتى لا يدرك منه من يبغيه الغوائل. و"العقب" هنا"عقب القدم"، وهي مؤخرها، وهي مؤنثة. يعني بذلك: لأظهرن لهم سائرًا بينهم لا أحتجب. وكل من خرج إلى الناس، فقد بدا لهم عقبه، وهو يسير بينهم. وهذه كناية حسنة. وقوله:"ما صاحبتهم"، للتأييد، كأنه قال:"ما عشت".

(3)

في المطبوعة: "تجتمع على الناس"، وأثبت ما في المخطوطة. ومعنى قوله:"تجمع على الناس"، أي: تألبوا عليه وعادوه من جراء دعوته إلى دين الله. وهذا تعجب.

(4)

الأثر: 12273-"جرير"، هو"جرير بن عبد الحميد الضبي"، مضى مرارًا كثيره.

و"ثعلبة" هو"ثعلبة بن سهيل التميمي الطهوي"، كان متطببًا، ثقة، لا بأس به، مترجم في التهذيب.

و"جعفر" هو"جعفر بن أبي المغيرة الخزاعي"، مضى برقم: 87، 617، 4347، 7269.

وهذا خبر مرسل. انظر تفسير ابن كثير 3: 196.

ص: 468

12274 -

حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية، عن الجُريريّ، عن عبد الله بن شقيق: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتقِبه ناسٌ من أصحابه، فلما نزلت:"والله يعصمك من الناس"، خرج فقال: يا أيها الناس، الحقوا بملاحِقِكم، فإنّ الله قد عصمني من الناس. (1)

12275 -

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن عاصم بن محمد، عن محمد بن كعب القرظي قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحارسه أصحابه، فأنزل الله تعالى ذكره:"يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته"، إلى آخرها.

12276 -

حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا الحارث بن عبيدة أبو قدامة الإيادي قال، حدثنا سعيد الجريري، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحْرَس، حتى نزلت هذه الآية:"والله يعصمك من الناس"، قالت: فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من القُبَّة فقال:"أيها الناس، انصرفوا، فقد عصمني الله. (2)

(1) الأثر: 12274-"الجريري"، هو"سعيد بن إياس الجريري"، مضى برقم:196.

و"عبد الله بن شقيق العقيلي"، تابعي ثقة، مضى برقم: 196، وهذا الخبر مرسل أيضًا، وسيأتي موصولا برقم: 12276

وقوله: "يعتقبه ناس من أصحابه": أي يتناوبون حراسته ويتداولونها، من"العقبة" وهي النوبة، يقال:"جاءت عقبة فلان"، أي نوبته.

وقوله: "ألحقوا بملاحقكم"، يأمرهم أن يوافوا أماكنهم التي يرجعون إليها إذا آبوا. ولم أجد هذا التعبير في غير هذا الخبر، ولا قيده أصحاب غريب الحديث. و"الملاحق" جمع"ملحق" (بفتح الميم وسكون اللام وفتح الحاء) : أي الموضع الذي ينزلونه عند مرجعهم.

(2)

الأثر: 12276-"الحارث بن عبيد الإيادي"، "أبو قدامة"، قال أحمد:"مضطرب الحديث"، وقال ابن معين:"ضعيف"، وقال أبو حاتم:"ليس بالقوي، يكتب حديثه ولا يحتج به". وقال ابن حبان: "كان ممن كثر وهمه، حتى خرج عن جملة من يحتج به إذا انفرد". مترجم في التهذيب. والكبير 1/ 2/ 273.

وهذا الخبر رواه الترمذي في كتاب التفسير وقال: "هذا حديث غريب، وروى بعضهم هذا الحديث عن الجريري، عن عبد الله بن شقيق، ولم يذكر فيه عائشة".

ورواه الحاكم في المستدرك 2: 313، من هذه الطريق نفسها ثم قال:"هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.

وكان في المطبوعة: "فإن الله قد عصمني"، خالف نص المخطوطة لغير شيء. وما في المخطوطة هو المطابق لروايته في الترمذي والمستدرك.

ص: 469

12277 -

حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن القرظيّ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال يُحْرَس، حتى أنزل الله:"والله يعصمك من الناس".

* * *

واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية.

فقال بعضهم: نزلت بسب أعرابيّ كان همَّ بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكفاه الله إياه.

ذكر من قال ذلك:

12278 -

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي وغيره قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلا اختار له أصحابه شجرة ظليلة، فيَقِيل تحتها. فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال (1) من يمنعك مني؟ قال: الله! فرُعِدت يد الأعرابيّ وسقط السيف منه، (2) قال: وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دُماغه، فأنزل الله:"والله يعصمك من الناس". (3)

* * *

(1)"اخترط السيف": سله من غمده.

(2)

هكذا جاءت الرواية"فرعدت يد الأعرابي" بالبناء للمجهول، ولم أجد من"الرعدة" ثلاثيًا"رعد" بالبناء للمجهول، بل الذي رووه وأطبقوا عليه"أرعد"(بالبناء للمجهول) . فإن صح هذا الخبر، فالثلاثي المبني للمجهول مما يزاد على مادة اللغة.

(3)

الأثر: 12278- انظر خبر هذا الأعرابي فيما سلف رقم: 11565، والتعليق عليه هناك، وليس فيه أنه ضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه.

ص: 470

وقال آخرون: بل نزلت لأنه كان يخاف قريشًا، فأومن من ذلك.

ذكر من قال ذلك:

12279 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يهاب قريشًا، فلما نزلت:"والله يعصمك من الناس"، استلقى ثم قال:"من شاء فليخذلني= مرتين أو ثلاثًا.

12280 -

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن ابن أبي خالد، عن عامر، عن مسروق قال، قالت عائشة: من حدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا من الوحي فقد كذب! ثم قرأت:"يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك"، الآية. (1)

12281 -

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن المغيرة، عن الشعبي قال، قالت عائشة: من قال إن محمدًا صلى الله عليه وسلم كتم، فقد كذبَ وأعظم الفرية على الله! قال الله تعالى ذكره:"يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك" الآية.

12282 -

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال: أخبرنا داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن مسروق قال، قالت عائشة: من زعم أنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا من كتاب الله، فقد أعظم على الله الفرية! والله يقول:"يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك"، الآية. (2)

12283 -

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني خالد، عن سعيد بن أبي هلال، عن محمد بن الجهم،

(1) الأثر: 12280-"ابن أبي خالد"، هو:"إسمعيل بن أبي خالد الأحمسي". وكان في المخطوطة والمطبوعة: "عن أبي خالد"، وهو خطأ لا شك فيه، فإن البخاري رواه من طريق وكيع، عن إسمعيل بن أبي خالد، عن عامر، عن مسروق، مطولا (الفتح 8: 466) ، وليس فيمن روى عنه وكيع هذا الخبر من يسمى"أبا خالد".

وهذا الخبر رواه أبو جعفر من أربع طرق، سيأتي تخريجها بعد.

(2)

الأثر: 12282- رواه مسلم مطولا في صحيحه، من طريق إسماعيل بن علية، عن داود.

وهذه الأخبار الثلاثة السالفة، خبر واحد بأسانيد ثلاثة. رواه البخاري (الفتح 8: 206) من طريق سفيان، عن إسمعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن مسروق. ثم رواه من هذه الطريق، ومن طريق أبي عامر العقدي، عن شعبة، عن إسمعيل بن أبي خالد، عن الشعبي (الفتح 13: 422) ، مختصرا.

ص: 471

عن مسروق بن الأجدع قال: دخلت على عائشة يومًا فسمعتها تقول: لقد أعظمَ الفرية من قال إنّ محمدًا كتم شيئًا من الوحي! والله يقول:"يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك". (1)

* * *

ويعني بقوله:"والله يعصمك من الناس"، يمنعك من أن ينالوك بسوء. وأصله من"عِصَام القربة"، وهو ما تُوكىَ به من سير وخيط، (2)

ومنه قول الشاعر: (3)

وَقُلْتُ: عَلَيْكُمْ مَالِكًا، إنَّ مَالِكًا

سَيَعْصِمُكُمُ، إنْ كَانَ فِي النَّاسِ عَاصِمُ (4)

يعني: يمنعكم.

* * *

وأما قوله:"إن الله لا يهدي القوم الكافرين"، فإنه يعني: إن الله لا يوفِّق للرُّشْد من حاد عن سبيل الحق، وجار عن قصد السبيل، وجحد ما جئته به من عند الله، ولم ينته إلى أمر الله وطاعته فيما فرض عليه وأوجبه. (5)

* * *

(1) الأثر: 12283-"الليث" هو"الليث بن سعد" الإمام.

و"خالد"، هو:"خالد بن يزيد الجمحي المصري"، الفقيه المفتي، ثقة، مضى برقم: 3965، 5465، 9185، 9507.

و"سعيد بن أبي هلال الليثي المصري"، ثقة. مضى برقم: 1495، 3965، 5465.

(2)

انظر تفسير"عصم" و"عصام" فيما سلف 7: 62، 63، 70/9:341.

(3)

لم أعرف قائله.

(4)

مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 171. و"عليك" اسم فعل للإغراء، يقال: "عليك زيدًا" و"عليك بزيد".

(5)

انظر تفسير"هدى" فيما سلف من فهارس اللغة.

ص: 472

القول في تأويل قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}

قال أبو جعفر: وهذا أمرٌ من الله تعالى ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بإبلاغ اليهود والنصارى الذين كانوا بين ظهرانَيْ مُهاجَره. يقول تعالى ذكره له:"قل"، يا محمد، لهؤلاء اليهود والنصارى="يا أهل الكتاب"، التوراة والإنجيل="لستم على شيء"، مما تدَّعون أنكم عليه مما جاءكم به موسى صلى الله عليه وسلم، معشرَ اليهود، ولا مما جاءكم به عيسى، معشرَ النصارى="حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم"، مما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم من الفرقان، فتعملوا بذلك كله، وتؤمنوا بما فيه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه، وتقرُّوا بأن كل ذلك من عند الله، فلا تكذِّبوا بشيء منه، ولا تفرِّقوا بين رسل الله فتؤمنوا ببعض وتكفروا ببعض، فإن الكفر بواحد من ذلك كفر بجميعه، لأنّ كتب الله يصدِّق بعضها بعضًا، فمن كذَّب ببعضها فقد كذَّب بجميعها.

* * *

وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الأثر.

12284 -

حدثنا هناد بن السري وأبو كريب قالا حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رافعُ بن حارثة وسَلام بن مِشْكم، (1) ومالك بن الصيف، ورافع بن حريملة، (2) فقالوا: يا محمد، ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه،

(1) في المطبوعة والمخطوطة: "سلام بن مسكين"، ولم أجد هذا الاسم فيمن كان من يهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعروف هو ما أثبته وهو الموجود في هذا الخبر في سيرة ابن هشام.

(2)

في المطبوعة: "

بن حرملة"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في سيرة ابن هشام.

ص: 473

وتؤمن بما عندنا من التوراة، وتشهد أنها من الله حق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بلى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخِذَ عليكم من الميثاق، وكتمتم منها ما أمرتم أن تبيِّنوه للناس، وأنا بريء من أحداثكم! قالوا: فإنا نأخذ بما في أيدينا، فإنا على الحق والهدى، ولا نؤمن بك، ولا نتبعك! فأنزل الله تعالى ذكره:"قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم" إلى:"فلا تأس على القوم الكافرين". (1)

12285 -

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم"، قال: فقد صرنا من أهل الكتاب="التوراة"، لليهود، و"الإنجيل"، للنصارى،"وما أنزل إليكم من ربكم"، وما أنزل إلينا من ربنا= أي:"لستم على شيء حتى تقيموا"، حتى تعملوا بما فيه.

* * *

القول في تأويل قوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) }

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وليزيدن كثيًرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا"، وأقسم: ليزيدن كثيرًا من هؤلاء اليهود والنصارى الذين قص قصصهم في هذه الآيات، الكتابُ الذي أنزلته إليك، يا محمد (2) ="طغيانًا"، يقول: تجاوزًا وغلوًّا في التكذيب لك، على ما كانوا عليه لك من ذلك قبل نزول

(1) الأثر: 12284- سيرة ابن هشام 2: 217، وهو تابع الآثار التي مضت رقم: 2101، 2102، 12219.

(2)

"الكتاب" فاعل قوله: "ليزيدن كثيرًا من هؤلاء اليهود

".

ص: 474

الفرقان="وكفرًا" يقول: وجحودًا لنبوتك. (1)

وقد أتينا على البيان عن معنى"الطغيان"، فيما مضى قبل. (2)

* * *

وأما قوله:"فلا تأس على القوم الكافرين"، يعني بقوله:(3)"فلا تأس"، فلا تحزن.

* * *

يقال:"أسِيَ فلان على كذا"، إذا حزن"يأسَى أسىً"،، ومنه قول الراجز:(4)

وَانْحَلَبَتْ عَيْنَاهُ مِنْ فَرْطِ الأَسَى (5)

* * *

يقول تعالى ذكره لنبيه: لا تحزن، يا محمد، على تكذيب هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى من بني إسرائيل لك، فإن مثلَ ذلك منهم عادة وخلق في أنبيائهم، فكيف فيك؟

* * *

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(1) انظر تفسير"الكفر" فيما سلف من فهارس اللغة.

(2)

انظر تفسير"الطغيان" فيما سلف ص: 457، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(3)

في المطبوعة: "يعبي يقول"، والصواب من المخطوطة.

(4)

هو العجاج.

(5)

ديوانه: 31، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 171، والكامل 1: 352، واللسان (حلب)(كرس) ، وهو من رجزه المشهور، مضى أوله في هذا التفسير 1: 509، يقول: يَا صَاحِ، هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسَا?

قَالَ: نَعَمْ! أَعْرِفُهُ! وَأَبْلَسَا

وَانْحَلَبَتْ عَيْنَاهُ مِنْ فَرْطِ الأَسَى

ومضى شرح البيتين الأولين. و"انحلبت عيناه" و"تحلبتا": سال دمعهما وتتابع. وكان في المطبوعة: "وأنحلت"، خالف ما في المخطوطة، لأنها غير منقوطة، فأتى بما لا يعرف. فجاء بعض من كتب على هذا البيت وصححه فكتب"وأبخلت" وقال:"معنى: أبخلت: وجدتا بخيلتين بالدمع لغلبة الحزن عليه، أي أنه من شدة حزنه لم يبك، وإنما جمدت عيناه"، فأساء من وجوه: ترك مراجعة الشعر ومعرفته، واجتهد في غير طائل، وأتى بكلام سخيف جدًا! والله المستعان.

ص: 475