الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد
قضية التوريث في العمل الإسلامي والدعوة إلى الله تعالى تعني أن يقدِّم السابق للَاّحق خلاصة تجاربه، وعصارة حياته الدعوية، ليبدأ اللاحق من نقطة انتهاء السابق، فهذه القضية إذاً من أهم القضايا الدعوية على الإطلاق لأنها توفر الجهود، وتسدد المسيرة، ويؤمن معها وبها الزلل والخلل إن شاء الله تعالى.
والملاحظ أن الهيئات الإسلامية والتجمعات الدعوية الرسمية منها والشعبية لا تكاد تلتفت إلى هذه القضية المهمة، فتجد المسؤولين يغادرون مواقعهم التي مكثوا فيها سنوات فيأتي مَن لا خبرة له أو صاحب الخبرة الضحلة ليتولى مسؤولية عمل لم يتقنه أو لم يحط به علماً كما ينبغي، وهو إما أن يكون قد شارك في فريق ذلك المسؤول عن العمل أو أنه جديد تماماً، وفي كلتا الحالتين فإنه قد ورث تركة ثقيلة، مدار إدارتها على تعاليمَ شفوية في أكثر
الأحيان ليبدأ طريقاً طويلاً يكاد يكون فيه لا صلة له بمن سبقه.
والضعف في قضية التوريث هذه ملحوظ في جوانب كثيرة منها:
- المؤسسات الدعوية والخيرية:
وذلك كهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمراكز الدعوية، والمندوبيات التعاونية الدعوية، وجمعيات تحفيظ القرآن، ومكاتب وجمعيات البر وهيئات الإغاثة، إلخ .... وهي كلها لا تكاد تملك من وسائل التوريث الصحيحة إلا مقداراً يسيراً، لا يصح أن يُكتفى به.
- تدريس العلوم الشرعية:
يلاحظ أنه ليس بين من يُدَرِّسون العلوم الشرعية تنسيق ولا توريث إلا في النادر، فتجد مسجداً من المساجد يدرس الشيخ فيه كتاباً في الفقه مثلاً، ويطول عجبك إذا علمت أن مساجد كثيرة تدرِّس الكتاب نفسه في وقت واحد وفي أمكنة متقاربة؛ إذ يدرِّس من شاء ما شاء بلا تنسيق ولا توريث، ثم إنه قد يفرغ الشيخ من كتابه الذي يدرسه ليبدأ بتدريس الكتاب نفسه مرة أخرى، فلا يعتني بهؤلاء الذين درسوا كتابه لينقلهم إلى مستوى أعلى أو إلى مسجد
آخر، ولا يكاد الشيخ يكلف نفسه النظر في الطلاب ليختار منهم النابهين ليورثهم علمه وخبرته، وهذا مما سأوضحه في ثنايا الكتاب إن شاء الله تعالى (1).
- النتاج الفكري والثقافي:
وقلة التوريث في هذا الجانب ملحوظ إلى حد كبير؛ إذ أن عشرات من المؤلفين يكتبون في موضوع واحد مكرر مطروق، والذي يفترض هو أن يُنظر فيما هو معروض في الأسواق ويُقوّم فإن أغنى فهذا هو المطلوب، وإن لم يُغن فيؤلف بالقدر الذي يحتاج إليه الناس، وبهذا يكمل المؤلفون في تآليفهم بعضهم بعضاً، ويورث السابق للَاّحق المادة المهمة التي يبني عليها اللاحق تأليفه، لكنا لا نجد هذا أبداً إلا في القليل النادر.
وكم ألّف السابقون تآليف مهمة أُسدل عليها ستار النسيان وجاء من بعدهم ليكتب في الموضوع نفسه - سواء أعلم أم لم يعلم بالتأليف السابق - وقد يكون تأليف السابق أحسن وأعظم من تأليف اللاحق، لكن المشكلة تكمن في غياب التوريث تماماً، وكم أُلِّفت رسائل علمية في موضوعات مهمة. وقد مضى على هذه التآليف سنون عديدة، ثم يفاجأ الناس بمن يعيد التصنيف في الموضوع
(1) انظر المبحث الثاني: النوع الأول.
نفسه. والسبب هو أن المؤلف المتأخر لم يعرف بالتأليف المتقدم، أو أن المصنفات المتقدمة لم تنشر وإنما بقيت مطوية في خزائن النسيان.
ومثال على هذا أيضاً أننا نجد من يكتب في قيام الليل فيتبع سبيل من سبقه في التأليف بلا نظر إلى متطلبات العصر الحديث الذي يعيشه، ولا كيف يوفق بين تعقيداته ليخرج بطريقة علمية لتحقيق المطلوب من قيام الليل، وذلك لأن المؤلف اللاحق لم يكلِّف نفسه عناء وراثة السابق وراثة حقيقية نافعة.
ولهذا كله كثر الغثاء في السوق الثقافية الفكرية، وكثر الطرح النظري، وقَلّ الطرح العملي المناسب لحال أهل العصر.
- قلة الاستفادة من الدعاة والصالحين والعلماء:
إذ أن جمهرة كبيرة من الدعاة والصالحين والعلماء يغادرون هذه الحياة بدون أن تستفيد منهم الأجيال في وراثة مفيدة قائمة على أصول علمية واضحة، ولذلك يفقد العالم الإسلامي بهذا كنزاً ثميناً لا يعوّض غالباً إلا أن يشاء الله تعالى، فلو كانت هناك مؤسسات مهمتها استقاء ماعند أولئك الدعاة والعلماء والصالحين وتتبُّع أوضاعهم وتَسقُّط أخبارهم، وتسجيل المهم من خبرتهم وأحوالهم لكان ذلك
أمراً حسناً يدل على عناية الأمة بالخيرة من أبنائها والعظماء منهم (1).
والعجيب أن الأمم من حولنا - شرقاً وغرباً- تنبهت إلى هذه القضية المهمة في وقت مبكر، وعقدت مجامع، وأسست مراكز، وعملت كل ما في وسعها للاستفادة التامة من علمائها وأعلامها، فلا يغادرون هذه الحياة إلا وقد حصلت الاستفادة التامة من حياتهم غالباً، فحبذا لو التفتنا إلى هذا الأمر المهم، إذ أنَ الجهود المبذولة اليوم لا تكاد تقتصر على مظاهر وشكليات في هذه القضية، نعم هي مهمة لكن لا ترتقي إلى أن تبلغ المستوى المطلوب من الاستفادة والتوريث الحسن، فما الذي سيستفيده المجتمع من حفلات التكريم وجوائزها - على قلتها وندرتها وذهابها لغير أهلها عادة - إذا اكتُفي بذلك ولم يُستفد من أولئك الأعلام الاستفادة الحقيقية.
وأشرع الآن في تفصيل ما أردت الحديث فيه، والله المستعان.
(1) سأبيِّن إن شاء الله تعالى في ثنايا هذه الرسالة طرقاً للاستفادة من تلك الفئة المهمة من المجتمع، انظر المبحث الثاني: النوع الأول.