المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الرابععمل الصدر الأول من المسلمين ومن بعدهم - التوريث الدعوي

[محمد بن موسى الشريف]

الفصل: ‌المطلب الرابععمل الصدر الأول من المسلمين ومن بعدهم

‌المطلب الرابع

عمل الصدر الأول من المسلمين ومَن بعدهم

كان الصدر الأول من المسلمين يشيع فيهم التوريث في كثير من أمورهم، فهذا كتاب الله تعالى وقد ورثوا عمله خلفاً عن سلف وكابراً عن كابر، وورثوا طريقة قراءته كذلك، وهذه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ورثوها بأسانيد متصلة، وقُل الشيء نفسه في الشعر الذي كان ديوانهم، ويتوارثونه جيلاً بعد جيل، وكل ذلك قبل عصر التدوين وانتشار الكتابة والكتب، وهناك بعض الأمثلة المهمة في التوريث كانت منتشرة بينهم، فمن ذلك:

1.

المدارس الفقهية:

كان الصحابة رضي الله عنهم قد تفرقوا في الأمصار، وكان عند بعضهم علمٌ سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعاه قلبه مع من وعاه، وبعضهم تفرَّد بعلم لم يكن عند الآخرين،

ص: 31

فبثُّوا كل ذلك في الأمصار التي سكنوها، حيث التفّ حول كل واحد من أولئك الأطهار مجموعة من التلاميذ ورثوا علمهم فاستفادوا منه أيَّما استفادة، ومثال على ذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (1) الذي استقر في الكوفة، وورث علمه جماعة كثيرة منهم علقمة (2) - وهو من أجلِّ تلاميذه- والأسود بن يزيد (3) وغيرهما، وورث علم أولئك وغيرهم جماعة منهم إبراهيم النَّخَعي (4) وورث علم إبراهيم جماعة أجلّهم حماد بن أبي سليمان (5).

(1) أبو عبد الرحمن الهذليّ، من كبار علماء الصحابة رضي الله عنه، ومن السابقين الأولين. مناقبة جمة توفي سنة 32 بالمدينة رضي الله عنه. انظر ((التقريب)):323.

(2)

علقمة بن قيس بن عبد الله النَّخعي الكوفيّ. ثقة ثبت، فقيه، عابد. مات بعد الستين رحمه الله تعالى: المصدر السابق:397 - انظر التقريب 397.

(3)

الأسود بن يزيد بن قيس النَّخَعي، أبو عمرو. مخضرم. ثقة، مكثر، فقيه. مات سنة 74 أو 75 رحمه الله تعالى: المصدر السابق:111.

(4)

إبراهيم بن يزيد بن قيس النَّخَعي، أبو عمران، الكوفي الفقيه. ثقة. مات سنة 96 وهو ابن خمسين أو نحوها. المصدر السابق:95.

(5)

العلامة الإمام، فقيه العراق، أبو إسماعيل بن مسلم الكوفي مولى الأشعريين، وأصله من أصبهان. كان أحد العلماء الأذكياء والكرام الأسخياء. له ثروة وحشمة وتجمل. توفي سنة 120 كهلاً رحمة الله تعالى. انظر ترجمتة في ((سير أعلام النبلاء)): 5/ 231 - 239.

ص: 32

ثم جاء الإمام أبو حنيفة (1) الذي ورث علم كل أولئك حيث كان تلميذاً لحماد وعليه تفقَّه. وأسس مدرسة للفقه في الكوفة، وما زال تلاميذه يتوارثون علمه إلى يوم الناس هذا.

وقل الشيء نفسه في المدارس المختلفة التي نشأت في زمان السلف كالمدرسة المالكية والشافعية والحنبلية.

2.

الوصايا:

الوصية نوع من أنواع التوريث، حيث يوصي الرجل بما رآه نافعاً وصالحاً، وهي خلاصة تجارب، ومجموعة حكم إن صدرت من حكيم مجرب، والوصية من مثل هذا كنز يحافظ عليه، ويعتنى به.

وللوصايا أصل وسلف في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في كتاب الله تعالى قوله جلَّ وعز:(ذالكم وصاكم به لعلكم تذكرون)(2).

وقال تعالى قاصّاً وصية بعض الأنبياء العظام:

(ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون)(3)(4).

(1) النعمان بن ثابت الكوفي، أبو حنيفة الإمام. فقيه مشهور. مات رحمه الله تعالى سنة خمسين ومائة وله سبعون سنة. انظر ((التقريب)):563

(2)

سورة الأنعام: آية 125.

(3)

سورة البقرة آية 132.

(4)

جاء ذكر الوصايا في كتاب الله تعالى في قرابة ثلاثين موضعاً.

ص: 33

ورسولنا صلى الله عليه وسلم وصى صحابته بأمور مهمة فقال صلى الله عليه وسلم: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة)) (1).

ووصى صلى الله عليه وسلم على فراش الموت: بـ ((الصلاةَ وما ملكت أيمانكم)) (2).

وقد كثر اعتناء المسلمين من بعده صلى الله عليه وسلم بالوصايا، وقد جرى عدد من أئمة المسلمين وساداتهم على الوصية التي تحمل خلاصة التجارب والحِكَم، فمن ذلك وصية أبي بكر الصديق لعمر الفاروق رضي الله تعالى عنهما حيث قال له:((إني قد استخلفتك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوصاه بتقوى الله، ثم قال: يا عمر: إن لله حقاً بالليل لا يقبله في النهار، وحقاً في النهار لا يقبله بالليل، وإنه لا يقبل نافلة حتى تؤدي الفريضة، ألم تر يا عمر: إنما ثقلت موازين مَن ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق وثِقَله عليهم (3)، وحُقَّ لميزان لا يوضع فيه غداً إلا حق أن يكون ثقيلاً.

ألم تر يا عمر: إنما خفّت موازين مَن خفّت موازينه

(1) حديث مشهور أخرجه الإمام أحمد وغيره رحمهم الله تعالى عن العرباص بن ساريه رضي الله عنه، والحديث صحيح أنظر ((الفتح الرباني)) 1/ 188 - 190.

(2)

أخرجه الإمام أحمد عن انس رضي الله عنه وأخرجه غيره والحديث صحيح، انظر ((الفتح الرباني)): 21/ 236.

(3)

أي شعورهم بقوته وعظمته ومِن ثم قيامهم به.

ص: 34

يوم القيامة بإتباعهم الباطل وخِفّته عليهم (1)، وحُقّ لميزان لا يوضع فيه إلا باطل أن يكون خفيفاً.

ألم تر يا عمر: إنما نزلت آية الرخاء مع آية الشدة، وآية الشدة مع آية الرخاء ليكون المؤمن راغباً راهباً؛ لا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ماليس له، ولا يرهب رهبة يلقي فيها بيديه (2).

ألم تر يا عمر: إنما ذكر الله أهل النار بأسوأ أعمالهم فإذا دكرتهم قلت: إني لأرجو ألا أكون منهم، وأنه إنما ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم - لأنه تجاوز لهم عما كان من سيِّء - فإذا ذكرتهم قلت: أين عملي من أعمالهم (3).

فإن حفظت وصيتي فلا يكونن غائب أحب إليك من حاضر من الموت ولست بمعجزه)) (4)(5).

3.

الاعتناء بعلوم الأمم الأخرى وتوريثها توريثاً صحيحاً:

وهذا أعظم ما أسدته الأمة الإسلامية إلى الأمم

(1) أي: سهولة إقدامهم عليه.

(2)

كأن المراد: ييأس، والله أعلم.

(3)

أنظر إلى تواضع خير الأمة رضي الله عنه بعد نبينا صلى الله عليه وسلم.

(4)

((الكامل)): 2/ 292 - 293.

(5)

وهناك كتاب للإمام أبي حامد الغزالي بعنوان ((أيها الولد)) فيه بعض الوصايا النافعة، فأنظره للاستزادة إن شئت.

ص: 35

الأخرى بعد إرشادها إلى الإسلام وإهدائه إياهم، وذلك أن الفاتحين الأوائل رضي الله عنهم وقفوا على علوم أمم متحضرة مادياً إلى درجة كبيرة، فمن ذلك الحضارة المادية المصرية والآشورية والكلدانية، والفينيقية والرومانية وغير ذلك من الحضارات، فقاموا بنقل كل ذلك تقريباً إلى اللغة العربية فأحسنوا (1)، ولم يكتفوا بنقله وتوريثه إلى الحضارة الأوروبية إبان عصر النهضة في الغرب كما يدعي بعض المستشرقين والمستغربين أن المسلمين كانوا جسراً فقط لنقل حضارة الأولين إلى الغرب، بل أضافوا إليه وهذبوه ووضعوا القواعد العلمية للاستفادة مما نقلوه، فبزغت لهم شمس حضارة سطع على الدنيا شعاعها زماناً طويلاً، وكانت على الحقيقة السبب الرئيس لنهضة الغرب التي قامت على أنقاض الحضارة الإسلامية الرائعة التي فرط فيها أهلها تفريطاً بيِّناً، فالمسلمون لم يورِّثوا الأمم الأخرى عقيدتهم الصافية فقط بل ورَّثوهم معها أسباب الحضارة ومفاتيح العلوم، لكن كثيراً من الأمم - لضلالها وبعدها عن أسباب الهداية - اكتفت بأخذ العلوم وقطف ثمارها، وضلّت عن أسباب الهداية والرشاد عصبية وحمية جاهلية، والعياذ بالله.

(1) إلا فيما نقلوه من الخرافات العقدية والمعضلات الكلامية الذي أضرََّ بهم ضرراً بالغاً، وفتح عليهم باب شر لم يغلق تماماً إلى الآن.

ص: 36