الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني
التوريث في كتاب الله تعالى
قد ذكر الله تعالى في كتابه الوارثة والتوريث مراراً (1)، وذلك علامة على أهمية هذه القضية، وقد كان الأنبياء العظام مهتمين بها أيضاً، فمن ذلك قوله تعالى قاصّاً قول زكريا عليه السلام:(وإني خِفْتُ المَوَلىَ مِن وراءى وكَانَتِ امرَأتي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيِّاً * يَرثُنيِ وَيَرِثُ مِنْءَالِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلهُ رَبِّ رَضِيّاُ*)(2) فزكريا عليه السلام يخاف انقطاع النبوة من نسله، ويريد من يرثه: يرث العلم ويرث النبوة، قال الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى:((صوّر حاله، وقدم رجاءه، ذكر ما يخشاه وعرض ما يطلبه: إنه يخشى مَن بعده، يخشاهم ألا يقوموا على تراثه (3) بما يرضاه، وتراثه هو دعوته التي يقوم عليها - وهو أحد أنبياء بني إسرائيل البارزين- وأهله الذين يرعاهم، ومنهم
(1) قرابة ثلاث وثلاثين مرة.
(2)
(سورة مريم: 605).
(3)
أي: ميراثه.
مريم التي كان قيِّماً عليها وهي تخدم المحراب الذي يتولاه
…
وهو يخشى الموالي (1) من ورائه على هذا التراث كله، ويخشى ألا يسيروا فيه سيرته
…
ذلك ما يخشاه، فأما ما يطلبه فهو الولي الصالح الذي يحسن الوراثة، ويحسن القيام على تراثه، وتراثه النبوة من آبائه وأجداده
…
)) (2).
وقال الشيخ الإمام ابن كثير (3) رحمه الله تعالى:
((وجه خوفه أن خشي أن يتصرفوا بعده في الناس تصرفاً سيئاً، فسأل الله ولداً يكون نبياً من بعده ليسوسهم بنوبته وما يوحى إليه فأجيب في ذلك، لا أنه خشي من وراثتهم له ماله؛ فإن النبي أعظم منزلة وأجلُّ قدراً من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حَدُّه أن يأنف من وراثة عصباته له، ويسأل أن يكون له ولد فيجوز ميراثه دونهم، هذا وجه.
الثاني: أنه لم يُذكر انه كان ذا مال بل كان نجاراً يأكل من كسب يديه، ومثل هذا لا يجمع مالاً، ولا سيما الأنبياء عليهم السلام فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا.
الثالث: أنه قد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن
(1) العصبة من قومه.
(2)
" الظلال" 4/ 2302.
(3)
الشيخ الإمام إسماعيل بن عمر بن كثير البصروي القرشي الدمشقي. توقي سنة 774 رحمه الله تعالى: انظر ترجمنه في "الدرر الكامنة": 1/ 399 - 400.
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا نورث، ما تركناه فهو صدقة))، وفي رواية عند الترمذي بسند صحيح:((نحن معشر الأنبياء لا نورث)) وعلى هذا فتعين حمل قوله: ((فهب لي من لدنك ولياً)) يرثني على ميراث النبوة (1).
ونعى الله تعالى على أقوام يرثون الكتاب بدون فهم ولا تطبيق ولا تدبر، فقال عن بني إسرائيل:(فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الأخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون)(2).
قال الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى:
((صفة هذا الخلف الذي جاء بعد ذلك السلف من قوم موسى أنهم ورثوا الكتاب ودرسوه، ولكنهم لم يتكيَّفوا به ولم تتأثر به قلوبهم ولا سلوكهم، شأن العقيدة حين تتحول إلى ثقافة تُدرس وعلم يحفظ، وكلما رأوا عرضاً من أعراض الحياة الدنيا تهافتوا عليه ثم تأولوا وقالوا: سيغفر لنا
…
)) (3).
وقال تعالى:
(وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شكٍ منه مريب)(4).
(1)" تفسير القرآن العظيم ": 5/ 207.
(2)
سورة الأعراف آية: 169.
(3)
" الظلال ": 3/ 1387.
(4)
سورة الشورى آية: 14.
والله تعالى يبين في كتابه العظيم أن الوراثة والتوريث بأمره ليس من ذلك شيء لأحد من الخلق، فهم ينتظرون مشيئته بتسليم واطمئنان، يقول تعالى قاصّاً قول نبيه موسى عليه السلام لبني إسرائيل:(إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)(1) قال الأستاذ سيد رحمه الله تعالى: ((إن الأرض لله، وما فرعون وقومه إلا نزلاء فيها، والله يورثها من يشاء من عباده - وفق سنته وحكمته - فلا ينظر الداعون إلى رب العالمين إلى شيء من ظواهر الأمور التي تخيل للناظرين أن الطاغوت مكين في الأرض غير مزحزح عنها، فصاحب الأرض ومالكها هو الذي يقرر متى يطردهم منها)) (2).
وقال تعالى:
(ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)(3) الذكر هو التوراة، والزبور كتاب نبي الله داود عليه الصلاة والسلام (4).
وهنا يتحدث الأستاذ سيد قطب -رحمه الله تعالى- حديثاً طويلاً عن هذه الوراثة ومَن يستحقها، وأختار من كلامه قوله: "ما هي هذه الوراثة؟ ومن هم عباد الله الصالحون؟ لقد
(1) سورة الأعراف آية: 128.
(2)
" الظلال " 3/ 1355.
(3)
سورة الأنبياء آية: 105.
(4)
هناك أقوال غير هذه أنظرها في " تفسير القرآن العظيم ": 5/ 379 - 380.
استخلف الله آدم في الأرض لعمارتها وإصلاحها، وتنميتها وتحويرها، واستخدام الكنوز والطاقات المرصودة فيها، واستغلال الثروات الظاهرة والمخبوءة والبلوغ بها إلى الكمال المقدّر لها في علم الله، ولقد وضع الله للبشر منهجاً متكاملاً للعمل على وفقه في هذه الأرض
…
في هذا المنهج ليست عمارة الأرض واستغلال ثرواتها والانتفاع بطاقاتها هو وحده المقصود، ولكن المقصود هو هذا مع العناية بضمير الإنسان ليبلغ الإنسان كماله المقدَّر له في هذه الحياة
…
وقد يغلب على الأرض جبارون وظلمة وطغاة، وقد يغلب عليها همج ومتبربرون وغزاة، وقد يغلب عليها كفار فجَّار يحسنون استغلال قوى الأرض وطاقاتها استغلالاً مادياً، ولكن هذه ليست سوى تجارب الطريق، والوراثة الأخيرة هي للعباد الصالحين الذين يجمعون بين الإيمان والعمل الصالح
…
وما على أصحاب الإيمان إلا أن يحققوا مدلول إيمانهم وهو العمل الصالح، والنهوض بتبعات الخلافة ليتحقق وعد الله وتجري سنته:((أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)) فالمؤمنون العاملون هم العباد الصالحون (1).
(1)" الظلال ": 4/ 2400، وقد ذكر الإمام ابن كثير قولاً عن السلف أن المراد بالأرض الجنة: أنظر "تفسير القرآن العظيم": 5/ 380، وكلا القولين محتمل وله وجه، والله أعلم.
الصالحون والميراث:
ولما سبق أقول: إن الصالح يحرص على أن يُوَرَّث ميراثاً حسناً كما قال تعالى: (ثم أوثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)(1) فيرث الصلاح والخير والقرآن والدعوة إلى الله تعالى، وهو كذلك يحرص على أن يُوَرِّث العمل الصالح؛ فيدع أولاداً صالحين، وأعمالاً صالحة، وذلك كان مطلباً لنبي الله إبراهيم عليه أفضل الصلاة والتسليم حيث قال:"واجعل لي لسان صدقٍ في الآخرين"(2) أي اجعل الآخرين الذين يأتون من بعدي يثنون عليّ ثناءً حسناً ويذكرونني ذكراً عاطراً، فأوتي ذلك عليه أفضل الصلاة والتسلييم كما قال تعالى (وتركنا عليه في الآخرين) (3) ثم طلب الوراثة العظمى:(واجعلني من ورثة جنة النعيم)(4) فأوتي ذلك عليه الصلاة والسلام، وليس أعظم من أن يترك العبد عملاً صالحاً يوّرثه لمن بعده من الأجيال، فيظل عطر ذكراه باقياً ما بقيت هذه الأرض، ويتردد صدى عمله في جنباتها يرشد العاملين ويهدي السائرين، والله الموفق.
(1) سورة فاطر: آية 32.
(2)
سورة الشعراء: 84.
(3)
سورة الصافات.
(4)
سورة الشعراء.