المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌اللِّعَانُ: يَمِينُ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ بِزِنىً أَوْ نَفْيٍ نَسَبٍ، ويَمِينُ - التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب - جـ ٤

[خليل بن إسحاق الجندي]

الفصل: ‌ ‌اللِّعَانُ: يَمِينُ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ بِزِنىً أَوْ نَفْيٍ نَسَبٍ، ويَمِينُ

‌اللِّعَانُ:

يَمِينُ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ بِزِنىً أَوْ نَفْيٍ نَسَبٍ، ويَمِينُ الزَّوْجَةِ عَلَى تَكْذِيبِهِ

هي مشتقة من اللعنة التي في خامسة الزوج، ولم يسمى بالغضب، وإن كان يصدر من المرأة في الخامسة، لأن القاعدة تغليب المذكر، ولأنه لما كان لعان الرجل سابقاً وسبباً في لعانها، غلب ما يصدر منه، واللعن: البعد والطرد، ومعنى لعنه الله، أي أبعده الله من رحمته، وكانت العرب إذا تمرد الشرير منهم طردوه وأبعدوه عنهم لئلا يؤاخذوا بجرائره، وسموه لعيناً، وقول المصنف:(يَمِينُ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ) أي على رمي زوجته (بِزِنىً) مخرجاً لرميها بمقدمات الجماع ونحو ذلك، فإنه لا لعان في ذلك، ومخرج أيضاً حلف الزوج على زوجته في الحقوق المالية، أو غيرها، وقال:(أَوْ نَفْيٍ نَسَبٍ) ليدخل فيه إذا نفى الولد، بل هذه الصورة هي المقصود الأهم من اللعان.

وقوله: (ويَمِينُ الزَّوْجَةِ عَلَى تَكْذِيبِهِ) كالمتمم لجميع صفات ماهية جميع اللعان، وأورد هذا على التعريف أنه غير جامع؛ لأن قوله:(يَمِينُ الزَّوْجِ) يخرج به لعان المطلق مع مطلقته، فإنه ليس بزوج في الحال، ولا يقال هو زوج باعتبار الماضي، لأن الإطلاق باعتبار الماضي، والاستقبال مجاز، كما قرر في أصول الفقه، وأجيب بأن هذا إنما هو إذا كان المشتق محكوماً به، كقولك: زيد مشرك، أو زان، أو قائم، أما إذا كان متعلق الحكم، كقولك: السارق يقطع، حقيقة مطلقاً، صرح بذلك جماعة من أهل الأصول. القرافي: ولو كان مجازاً، لكان قوله تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} ، و {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} ، و {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} ، وشبهها مجازات، باعتبار من اتصف بهذه الصفات في زماننا لأنه مستقبل باعتبار زمان الخطاب، ويلزم حينئذٍ أن يسقط الاستدلال بها، لأن الأصل عدم التجوز، ثم أحسن التعريفات ما كان فيه إشارة إلى سبب الحكم، فذكر الزوجة مشير إلى قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6]، فكان ذكره حسناً، ولم يوجب خللاً.

ص: 567

فَيَصِحُّ مَعَ الرِّقِّ والْفِسْقِ

أتى بالفاء المشعرة بالسببية، أي فلدخول الرق والفسق تحت الزوج صح لعانهما، سواء كان الرق أو الفسق فيهما، أو في أحدهما، ونبه المصنف بهذا على خلاف أبي حنيفة، في قوله رحمه الله: أنه لا يصح اللعان إلا ممن تصح شهادته، لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَاّ أَنفُسُهُمْ} ، والجواب أنه استثناء منقطع، وهو وإن كان على خلاف الأصل، لكن يعينه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث هلال بن أمية:"لولا الأيمان لكان لي ولها شأن"، ولأجل أن اللعان يمين وليس بشهادة، دخلت المرأة فيه، وليس لها مدخلاً في الشهادة على الزنا، ولأن العبد والفاسق تدعوهما الضرورة إليه، فوجب أن يباح لهما قياساً على الحر العدل.

وَشَرْطُ الْمُلاعِنِ: أَنْ يَكُونَ زَوْجاً مُسْلِماً مُكَلِّفاً- فَيُلاعِنُ الْحُرُّ الْحُرَّةَ والأَمَةَ والْكِتَابِيَّةَ، وكَذَلِكَ الْعَبْدُ فِيهِنَّ ....

احترز بالزوج من السيد، فإنه لا لعان عليه، ونقل المتيطي أنه وقع للشيخ أبي عمران في أسئلة الباجي، أن اللعان يكون مع شبهة النكاح، وإن لم تثبت الزوجية، وهذا مما يشكل به قول المصنف (زَوْجاً).

[391/أ] وقوله: (مُسْلِماً): يخرج الكافر، فلا يصح لعانه، قال في المدونة: ولا لعان بين الكافر، فإن ترافع هو وزوجته، وتراضيا أن يحكم بينهم بحكم الإسلام، فقال أبو عمران: يتلاعنان، قال: فإن نكلت المرأة، فعلى قول عيسى: ترجم، وعلى قول البغداديين، لا ترجم، لأن أنكحتهم فاسدة، وإنما يجب على من نكل منهم الحد، كالمتلاعنين قبل البناء.

ص: 568

وقوله: (مُكَلِّفاً) يخرج المجنون والصبي، وقوله:(فَيُلاعِنُ الْحُرُّ الْحُرَّةَ والأَمَةَ والْكِتَابِيَّةَ) تصوره ظاهر، ويلحق بالكتابية المجوسية يسلم زوجها، ولم تسلم هي، وقوله:(وكَذَلِكَ الْعَبْدُ فِيهِنَّ) ظاهر.

والنكاح الفاسد كالصحيح

أي: في اللعان، لأنه لما كان يلحق فيه الولد، احتيج إلى اللعان لنفيه، قال في الموازية: كل نكاح يلحق فيه الولد ففيه اللعان، وإن فسخ بعد ذلك.

وَيَتَلاعَنَانِ إِنْ رَفَعَتْهُ بِقَذْفِهَا بِالزِّنَى طَوْعاً فِي نِكَاحِهِ فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ- كَانَ وَلَدٌ أَوْ حَمْلٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، نَفَاهُ، أَوِ اسْتَلْحَقَهُ ....

لما ذكر الملاعن وشروطه، أخذ يذكر أسباب اللعان، فبدأ بالكلام على القذف بالزنا، وشرط فيه أن ترفعه إلى الحاكم، فإن لم ترفعه فلا لعان، لأن ذلك من حقها، ثم إن لم يبلغ رميه لها الحاكم فلا كلام، وإن بلغه حد، إلا أن يلاعن، وقوله (بِالزِّنَى) يخرج ما إذا قذفها بغيره، ولا خلاف في اللعان إذا رماها بصريح الزنا، وأما إن عرَّض بذلك، فعن ابن القاسم قولان، أحدهما: أنه يلاعن، والثاني: لا، ووافقه عليه أشهب: أنه يحد ولا يلاعن، والقولان قائمان من المدونة، ففيها في اللعان: ومن قال لامرأته: وجدتها قد تجردت لرجل، وهي مضاجعة له في لحاف؛ أنه لا يلتعن بذلك إلا أن يدعي رؤية الفرج في الفرج، وإن لم تكن له بينة على ما ذكر فعليه الأدب، ولا يحد، وفي القذف منها، ومن عرَّض بالزنا لامرأته، ولم يصرح بالقذف ضرب الحد، إن لم يلتعن، وأشار عياض إلى أن الذي في كتب اللعان لا دليل فيه على انتفاء الحد، لأنه إنما أسقط الحد عن ذلك التعريض الخاص، ولا يلزم منه إسقاطه عن التعريض مطلقاً، فقال لما ذكر ما قاله في اللعان: وفي الموازية نحوه، لا لعان بينهما إلا في صريح القذف، أو تعريض يشبه القذف.

ص: 569

ابن عبد السلام: وفي كلامه نظر، أما أولا فلأن الخلاف في التعريض حكاه غير واحد من الشيوخ، ولم ينسبه للمدونة، وأما ثانياً فنفيه الحد، واستثناؤه رؤية الفرج في الفرج دليل على أن ما عدا هذه الصورة لا يلزمه فيها عنده حد، على أن في أواخر كتاب القذف: ومن قال جامعت فلانة بين فخذيها، أو في أعكانها، فعليه الحد، ثم قال: قال مالك: ولا يجب الحد إلا في قذف أو نفي أو تعريض، يرى أنه يريد به القذف، ولا تعريض أشد من هذا.

وقوله: (طَوْعاً)، احترازاً مما لو نسبها إلى استكراه، فإنها لا تلاعن إذا ثبت الغصب، أو تصادق الزوجان عليه، نعم يلاعن هو لنفي الولد، فصار الطوع شرط في تلاعنهما معاً، لا في لعانه، ولما كان المصنف يتكلم على لعانهما معاً، قيد ذلك الزنى بالطوع.

فرع:

وإذا قذف الزوج زوجته وترافعا إلى الحاكم سجنه، وحكى الباجي في سجلاته في سجنه قولين، وقوله:(فِي نِكَاحِهِ)، احتراز من الصورة التي يذكرها بإثر كلامه هذا، وهو قوله:(ولو قذفها بزنى قبل نكاحه)، وقوله:(فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ)، إنما لاعنها إذا رماها بالوطء في الدبر، لأنه لو كان أجنبياً لحُدُّ في رميها بذلك، وما يُحد الأجنبي فيه يلاعن الزوج فيه.

وقوله: (كَانَ وَلَدٌ أَوْ حَمْلٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، نَفَاهُ، أَوِ اسْتَلْحَقَهُ)، ظاهر التصور، ووقع في بعض النسخ بإثر هذا الكلام:(وقيل إن استلحقه حد) وسيأتي.

فَلَوْ قَذَفَهَا بزِنىً قَبْلَ نِكَاحِهِ حُدَّ

قد تقدم أنه احترز عن هذه الصورة بقوله أولاً: (فِي نِكَاحِهِ).

الباجي: ولا خلاف في وجوب الحد هنا في المذهب.

ص: 570

وَيُعْتَمَدُ عَلَى يَقِينِهِ- بالرُّؤْيَةِ- وَقِيلَ: كالشهود

أي: يعتمد الملاعن في قذفه بالزنى على يقينه برؤية ذلك، وقيل كالشهود، يعني أن المشهور اعتماده على الرؤية، وإن لم يصف كالشهود، وقيل: لا يجوز له ذلك حتى يصف كالشهود، وهذا القول لمالك أيضاً في العتبية، وقد حكى ابن الجلاب وعبد الوهاب الروايتين، وحكاهما الباجي وصاحب البيان وابن يونس، وقول ابن عبد السلام: الأحسن حذف الواو بين الرؤية وبين قيل، ليس بظاهر، لا يؤخذ القولان من كلام المصنف إلا بإتيانها.

وقيل عَلَى يَقِينِهِ كَالأَعْمَى عَلَى الْمَشْهُورِ

يعني: وقيل: إذا تحقق وقوع الزنا منها جاز اللعان، وإن لم يراها تزني، كالمشهور من القولين في الأعمى، قال في المدونة: ويلتعن الأعمى في الحمل يدعي الاستبراء في القذف، لأنه من الأزواج، فيحمل ما تحمل، ومقابل المشهور في الأعمى رواه ابن القصار، وعن مالك أنه لا يجوز اللعان إلا أن يقول: مسست الفرجين.

وَبِنَفْيِ الْوَلَدِ أَوِ الْحَمْلِ

هذا معطوف على قوله: (بقذفها بالزنا) وتقدير كلامه: ويتلاعنان إن رفعته بنفي الولد أو الحمل، ولا خلاف في ذلك.

ويُعْتَمَدُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهَا بَعْدَ وَضْعٍ أَوْ فِي مُدَّةٍ لا يَلْحَقُ فِيهَا الْوَلَدُ لكَثْرةٍ أَوْ قِلَّة، ويُعْتَمَدُ عَلَى اجْتِمَاع الاسْتِبْرَاءِ والرُّؤْيَةِ وفي اعتماده على أحدهما روايتان

يعني: أنه يعتمد في نفي الولد أو الحمل على ثلاثة أشياء، واختلف في رابع، ومعنى اعتماده أنه يجوز له في الشرع أن ينفي الولد بذلك:

ص: 571

الأول: إذا لم يطأها بعد وضع، يعني وقد طال ما بين الوضعين، بحيث لا يكون الولد الثاني من بقية الحمل الأول.

الثاني: أن يكون وطأها بعد الوضع، ولكن بين هذا الحمل والإصابة مدة لا يتأتى فيها ولد، إما لقلة الزمان لخمسة أشهر ونحوها، وإما لكثرته كخمس سنين فأكثر، وإليه أشار بقوله:(أَوْ فِي مُدَّةٍ لا يَلْحَقُ فِيهَا الْوَلَدُ لِقِلَّةٍ أَوْ كَثْرَة).

الثالث: إذا استبرأها من وطئه ثم رآها بعد ذلك تزني، ووقع في بعض النسخ بإثر هذا الكلام: على المشهور، وهي زيادة صحيحة، فقد حكى ابن شاس وغيره عن السيوري أنه ليس له نفيه بهما، قال: وحكى الداودي عن المغيرة مثله.

وأما الرابع المختلف فيه، وإليه أشار بقوله:(وفي اعتماده .... إلخ)، والضمير في (أحدهما) عائد على الاستبراء والرؤية.

عياض: والمشهور أنه يعتمد على الاستبراء، والأظهر أنه لا يعتمد على أحدهما، بل ولا عليهما، لأنه إذا كانت الحامل تحيض، فكيف يصح له النفي، والقول باعتماده على مجرد الرؤية أضعف، لأن الحيض علامة ظنية على براءة الرحم، بخلاف رؤيته، فإنه لا يدل على الحمل البتة.

وقِيلَ: يُلاعِنُ لِلْقَذْفِ

يعني: أنه اختلف في قاذف زوجته القذف المطلق غير المقيد برؤية، ولا بنفي حمل، فقال ابن نافع وابن القاسم في أحد قوليه: يلاعن، وقال أكثر الرواة وابن القاسم أيضاً: يحدُّ ولا يلاعن، والقولان في المدونة، واختار بعض كبار المتأخرين الأول، لصدق آية اللعان عليه.

خليل: وقول المصنف: (وقيل) يقتضي معطوف عليه، ويقتضي أن ذلك المعطوف عليه هو المذهب، والأقرب أن يكون راجعاً إلى قوله: (ويعتمد على يقينه بالرؤية

إلخ)، فإن

ص: 572

كلامه هنا يقتضي أنه لا يلاعن للقذف، ثم ذكر قولاً آخر، أنه يلاعن بمجرد القذف، من غير رؤية، ولعل المصنف شهر الأول، لما قال في المدونة أنه قول أكثر الرواة، وبه قال المخزومي وابن دينار، وهو أحد قولي ابن القاسم، لكن في الإرشاد، المشهور أنه يلاعن بمجرد القذف.

فَإِنْ أَتَتْ بولد لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِداً بَعْدَ الرُّؤْيَةِ للعان وإِلا لَحِقَ بِهِ

يعني: فإنه لاعن لسبب الرؤية، ثم أتت بولد بعد اللعان، فإن أتت به لستة أشهر فأكثر من يوم الرؤية، لم يلحق به، وتعد كأنها بريئة الرحم يوم اللعان، وإن أتت به لأقل من ستة أشهر لحق به لأن لعانه إنما كان لرؤية الزنا، خاصة لا لنفي الولد.

خليل: وفي هذه المسألة إشكال، لأنهم نفوا الولد، الذي الأصل فيه أن يكون للفراش، بأمر نادر، وهو وضع المرأة في ستة أشهر.

واخْتَلَف قَوْلُ مَالِكٍ فِي نَفْيِ الْحَمْلِ إِذَا لَمْ يَدَّعِ اسِتْبَراءً فَأَلْزَمَهُ مَرَّةً ولَمْ يُلْزِمْهُ مَرَّةً، وقَالَ بِنَفْيِهِ مَرَّةً. ابْنُ الْقَاسِمِ: وأَحَبُّ إِلَيَّ أَنَّهُ لو كَانَ ظَاهِراً يَوْمَ الرُّؤْيَةِ لَزِمَهُ، وعَنْهُ: إِنْ أَتَتْ بِهِ لأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الرُّؤْيَةِ لَزِمَهُ، ولا يُحَدُّ إِنْ نَفَاهُ، وقَالَ الْمَخْزُومِيُّ: إِنْ أَقَرَّ بِالْحَمْلِ لِسِتَّةٍ فَصَاعِداً مِنَ يوم الرُّؤْيَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ، ولَوِ اسْتَلْحَقَهُ لَحِقَ وحُدَّ، ولأقَلَّ يَلْزَمُه

صورة هذه المسألة أن يقول: رأيتها تزني ووطئتها قبل الرؤية في اليوم أو قبله، ولم استبرأ لاعنها للرؤية، ثم أتت بولد، فهل هذا اللعان موضوع لنفي الحد ونفي الولد معاً فلا يلحق به، ولا يحتاج إلى لعان ثان، أو هو موضوع لنفي الحد فقط، وعدوله عن دعوى الاستبراء رضاً منه باستلحاق الولد، وليس فيه تعرض للولد فيبقى الأمر موقوفاً، فقول المصنف: ألزمه مرة، أي لم ينفه باللعان الأول، ويلحق به، وإن ولدته لستة أشهر من يوم الرؤية، إلا أن ينفيه بلعان ثان، ومقابل هذا القول القولُ الثالث، وهو قوله: (وقَالَ بِنَفْيِهِ

ص: 573

مَرَّةً)، فإن ادعاه بعد ذلك لحق به، وهذه الأقوال التي قالها الإمام مطلقة، سواء كانت حاملاً يوم الرؤية أم لا، وهذا قال في المدونة في القول الثالث، وقال بنفيه مرة، وإن كانت حاملاً، وفصل ابن القاسم، وتفصيله ظاهر، لأنه لا يلزم من لعانه لنفي الحد عنه نفي حمل ظاهر، والظاهر أنه لا يشترط الظهور، بل إنما يشترط أن تأتي بالولد لأقل من ستة أشهر من يوم الرؤية، ولو قيل أنه للأول ولو أتت به لستة أشهر- لأن الوضع في ستة أشهر نادر، والأصل إلحاق الولد بالفراش- لكان حسناً، فإن قيل: في قول المصنف (أحب) نظر، إذ هو موضع الجزم لعظم أمر الأنساب، وإنما يقال أحب في باب العبادات، قيل: إنما حمله على ذلك اضطراب مدارك الإمام، فلم يستطع الجزم بمخالفته، والله أعلم.

وقوله: (وقَالَ الْمَخْزُومِيُّ)، نصه في المدونة: وقال المخزومي إن أقر بالحمل وادعى رؤيةً لاعن، فإن وضعت [392/أ] لأقل من ستة أشهر من يوم الرؤية، فالولد منه، وإن كان لستة أشهر فأكثر فهو اللعان، وإن ادعاه بعد لك لحق به ويحد.

تنبيهات:

الأول: في كلام المصنف مناقشة، فإن مقتضاه أن لابن القاسم في المسألة قولين، كل منهما مخالف لقول مالك، وليس كذلك، بل قوله:(إِنْ أَتَتْ بِهِ لأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الرُّؤْيَةِ لَزِمَهُ)، مفسراً لقول مالك الأول الذي قال فيه: لم يلزمه مرة، كذلك هو في المدونة وغيرها، ولفظها: قال مالك: ولا يلزمه ما أتت به من ولد.

ابن القاسم: إلا أن تأتي به لأقل من ستة أشهر، من يوم الرؤية فيلزمه، وفي المقدمات: اختلف في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: الأول: أن الولد ينفيه باللعان على كل حال، وإن ولده لأقل من ستة أشهر، وهو أحد قولي مالك في المدونة. والثاني: أنه لا ينفيه بحال، وإن ولد لأكثر من ستة أشهر، ويلحق به، وهو قول أشهب وعبد الملك. والثالث: التفرقة بين أن يولد لأقل من ستة أشهر أو لأكثر منها، وهذا القول الثاني لمالك في المدونة، انتهى.

ص: 574

ولا يكون هذا القول في المدونة إلا إذا كان قول ابن القاسم تفسيراً له، وكذلك قال غيره.

الثاني: اختلف في فهم المدونة في قوله: (أَلْزَمَهُ مَرَّةً ولَمْ يُلْزِمْهُ مَرَّةً، وقَالَ بِنَفْيِهِ مَرَّةً)، فمنهم من فهم ذلك على أنها ثلاثة أقوال كما قررنا به كلام المصنف، وفهمها ابن لبابة، وصاحب المقدمات على أنه ليس فيها إلا قولان، الأول: أن الولد منفي وإن أتت به لأقل من ستة أشهر، والثاني: الفرق بين أن يولد لأقل من ستة أشهر أو لأكثر، وجعلا قوله: لم يلزمه مرة وقال بنفيه مرة، قولاً واحداً.

التنبيه الثالث:

عياض: اختلف في قوله ف يالمدونة في القول الذي قال فيه بنفيه وإن كانت حاملاً، هل ذلك سواء عرف الحمل أو أقر به أو بشرط ألا يعلم أنها حامل، إلا بعد الوضع لأقل من ستة أشهر، فقيل: ذلك سواء علم به أو لم يعلم أقر بالولد أو لم يقر، وهو نص الموازية، وظاهر قول المخزومي في الكتاب: وأقر بالحمل، ذلك لأ، هـ لما اطلع على خيانتها صح له نفي ما كان أقر به قبل بسلامة نيته وصحة اعتقاده، وقال ابن محرز بل معنى ذلك فيمن لم يقر بالحمل ولا اعترف به حتى ظهر بعد اللعان، وأن معنى قول المغيرة: أقر بالحمل أي بالوطء، بدليل قوله بعد هذا: فإن اعترف به بعد هذا ضربته الحد، وقال شيخنا أبو الوليد: وهو بعيد.

عياض: وظاهر كلام المغيرة ما قاله ابن محرز، لقوله: فإن ولدت ما في بطنها لأقل من ستة أشهر فالولد منه، وإن ولدته لستة أشهر فلا لعان، ولو كان ظاهراً، وهو مقر به حين اللعان لم يحتج إلى هذا التفصيل لِعِلْمنا على كل حال أنه كان قبل اللعان، وتأول ابن يونس قول المغيرة بأن معنى قوله: أقر بالحمل، أي الآن على معنى أنه أقر أنها حملت بهذا الولد ثم يعتبر إيلاده بعد الرؤية، فإن كان لأقل من ستة أشهر لزمه، وإن كان لستة أشهر فأكثر جاز أن يكون للرؤية وقد التعن لها وادعى أن هذا الولد لها، وهو قريب في المعنى من تأويل ابن محرز، فيأتي على قول المغيرة ثلاثة تأويلات، أولها: أن المراد الاعتراف بالوطء

ص: 575

لا بالحمل. الثاني: الإقرار بالحمل على ظاهره. الثالث: الاعتراف بالحمل حين الوضع لا حين اللعان، وقد حكى ابن الجلاب وعبد الوهاب فيما إذا أقر بحملها، وادعى أنه رآها تزني، ثلاث روايات: إحداهن: أنه يحد ويلحق به الولد ولا يلاعن، والأخرى أنه يلاعن وينتفي عنه الولد الذي أقر به، والثالثة: أنه يلحق به الولد ويلاعن لنفي الحد عنه، ابن الجلاب: وهي الصحيح.

وَلَوْ قَالَ بَعْدَ الْوَضْعِ لأَقَلَّ: كُنْتُ اسْتَبْرَاتُ؛ ونَفَاهُ انْتَفَى بِاللَّعَانِ الأَوَّلِ، فَلَوِ اسْتَلْحَقَهُ لَحِقَ به وَحُدَّ ....

أي: في المسألنة التي قبلها، وهي ما إذا لاعنها للرؤية، ولم يكن ذكر الاستبراء على القول بذلك، وأتت بولد لأقل من ستة أشهر من يوم الرؤية، وقلنا أن الولد يلحق به، فإنما يلحق به بشرط أن يسكت عن الاستبراء، فإن قال الآن: كنت استبرأت قبل الرؤية وهذا الولد ليس مني؛ اكتفى باللعان الأول، وهذا قول أشهب، وقال عبد الملك وأصبغ: إنما ينفيه بلعان ثان، قال في المقدمات: وفي المدونة ما يدل على القولين، وقوله: فإن استلحقه، يعني فإن استلحق هذا الولد بعد أن نفاه وانتفى عنه، فهو تكذيب لنفسه، فيحد ويلحق به، وقول المصنف، لأقل، ينبغي أن يكون الحكم كذلك إذا كان لستة أشهر على القول بإلحاقه به.

وشَهَادَتُهُ بِالزِّنَى عَلَيْهَا كَقَذْفِه

يعني: سواء شهد وحده أم مع ثلاث. ابن الماجشون وابن أبي زمنين: وإذا شهد عليها مع ثلاثة، فيقال للزوج أولاً: التعن؛ فإن أبي حُدَّ هو والثلاثة، وإن التعن، قيل لها: التعني، فإن التعنت وتم اللعان بينهما حُدَّ الثلاثة فقط، وإن نكلت عن اللعان وجب عليها الحد، وسقط الحد عن الثلاثة، لأنه قد حق عليها ما شهدوا به بنكولها عن اللعان، وإن لم يعثر على أنه زوجها حتى رجمها الإمام، فيدرأ عن الثلاثة الحد، ويحد الزوج إلا أن

ص: 576

يلاعن، قاله مالك في الموازية، قال: ويرثها إلا أن [392/ب] يعلم أنه تعمد الزور عليها ليقتلها، أو يقر بذلك، فلا يرثها ولا دية على الإمام، لأنه مختلف فيه، وليس بخطأ صريح كشهادة العبد والنصراني.

ابن يونس: وقاله أصبغ: إلا في الميراث، فقال: لا يرثها لأنه التعن وليس بشاهد، فلا يخرج من تهمة العامد لقتل وارثه.

والاسْتِبْرَاءُ حَيْضَةً، وقِيلَ: ثَلاثٌ، وفِي اعْتِمَادِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا- عَلَى الاسْتِبْرَاءِ أَوِ الرُّؤْيَةِ- رِوَايَتَانِ .....

اختلف المذهب بماذا يكون الاستبراء الذي ينتفي به الحمل، وصرح الباجي وجماعة بمشهورية الأول، كما هو مقتضى كلام المصنف، والقول بالثلاث للمغيرة، وروي أيضاً عن مالك وجه الأول، أن الاستبراء هنا ليس بعدة بل لبراءة الرحم، فأشبه استبراء الأمة. ابن عبد السلام: بعد ذكر القولين، وقال ابن الماجشون إن كانت أمة فحيضة، وإن كانت حرة فثلاث، وعن المغيرة أنه لا ينفيه إلا بعد خمس سنين، وله قولان آخران كقولي مالك.

فائدة:

ليس عندنا حرة تستبرأ بحيضة إلا هنا، وليس عندنا أمة تستبرأ بثلاث إلا على قول المغيرة هنا، وفيمن ادعى سيدها وطئها فأتت بولد فنفاه، وادعى أنه كان استبرأها.

فَإِنْ لَمْ يَدَّعِ الاعْتِمَادَ فِي الْجميعِ فَفِي حَدَّهِ قَوْلانِ

هذا هو القذف المجرد، وقد تقدم هذا الفرع من كلام المصنف، لكن ذكره هنا لإفادة شيء لم يستفده من الأولى، لأن الأولى إنما هي باعتبار الرؤية، وقوله هنا:(فِي الْجميعِ)، أي في الرؤية ونفي الولد، ولأنه تكلم هنا على الحد، ولم يتكلم عليه فيما سبق، وقوله:(فَفِي حَدَّهِ قَوْلانِ) أي قول بأنه يحد ولا يلاعن، وقول بأنه يلاعن ولا يحد، وقد تقدم

ص: 577

القولان إذا رماها بالزنا، وكذلك اللخمي وابن يونس وصاحبالبيان القولين فيما إذا نفى الحمل نفياً مطلقاً، وحمل ابن عبد السلام كلام المصنف على أن مراده بالقولين إذا قلنا: لا يلاعن، هل يحد أم لا؟ ثم اعترضه، وقال: الذي أعرفه أن القولين أحدهما يلاعن ولا يحد، والثاني أنه يحد ولا يلاعن، وأما أنه لا يلاعن ولا يحد مع أنه قاذف فبعيد ليس بظاهر، وليس في كلام المصنف دلالة على ما قاله.

وَاللِّعَانُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ مَعَ دَعْوَى الرُّؤْيَةِ والاسْتِبْرَاءِ، وبِالزِّنَا مَعَ الرُّؤْيَةِ كَالشُّهُودِ مُتَفِّقٌ عَلَيْهِ ........

لما ذكر أسباب اللعان وما فيها من الاضطراب أراد أن يبين ما اتفق عليه منه، فذكر أنه اتفق على صورتين، إحداهما: أن ينفي الولد مع دعوى الرؤية والاستبراء. والثانية: أن يرميها بالزنى ويدعي رؤية ذلك، ويصف كالشهود، زاد بعضهم: وتكون المرأة حين الرؤية غير ظاهرة الحمل، وكذلك ذكر في المدونة أن هذين الوجهين مجمع عليهما، وكذلك حكى الاتفاق فيهما اللخمي وصاحب البيان وغيرهما، ولا إشكال في الصورة الثانية، وأما الأولى فقد تقدم أن ابن شاس حكى فيها عن المغيرة والسيوري، أنه ليس له أن ينفي الولد باجتماع الرؤية والاستبراء، وقد تقدم أن هذا القول وقع التنبيه عليه في بعض نسخ ابن الحاجب، لكن حكاية الاتفاق هنا يبعد ثبوته، لأنه حينئذٍ يتناقض كلامه، وزاد جماعة في المتفق عليه ما إذا أنكر الوطء جملة، أو قال لم أطأها منذ كذا وكذا، لمدة لا يلحق فيها النسب، وزاد اللخمي أن يقول: لم تلد الولد.

فَلَوْ تَصَادَقَا عَلَى نَفْيِ الْوَلَدِ- فَرِوَايَتَانِ، والأَكْثَرُ لا يَنْتَفِي إِلا بِلِعَانِهِ

هكذا ذكر القولين في المدونة وذكر أن المرأة تحد، لإقرارها بالزنا على كلتا الروايتين.

ص: 578

ابن يونس: وعلى رواية الأكثر إنما يلعتن الزوج فقط، لأن المرأة إنما تلتعن لدفع حد الزنا، لا لنفي الولد، إذ لا يصح نفي ما ولدته بخلاف الزوج. قيل: والمسألة على وجهين، أحدهما: أن تقول المرأة ليس الولد منك، والثاني: أن تصدقه في الزنا، وتقول: الولد منك، وفيها ثلاثة أقوال، قيل: ينتفي بغير لعان فيهما، وقيل: لا ينتفي إلا بلعان فيهما، وقيل: بالفرق، فإن صدقته في نفي الولد انتفى بغير لعان، وإلا ففيه اللعان، والأقرب ما ذهب إليه الأكثر، لأن تصديقها للزوج في أن الولد ليس منه إقرار على الغير.

ابن رشد: فإن رجعت المرأة فأكذبت نفسها، فإن كان قبل الحكم لم يسقط نسب الولد، وعاد اللعان بينهما، فإن نكل الزوج لحق به الولد ولا يحد، لأنها مقرة، وإن رجعت بعده لم يقبل رجوعها، وقال ابن الكاتب: لا يقبل رجوعها بعد إقرارها لما تعلق الزوج بذلك من الحق.

ابن عبد السلام: وكان ينبغي أن يسقط الحد ويبقى الولد منفياً كمن أقر بسرقة ورجع عنها، فإنه يغرم المال ولا يقطع. خليل: وقد يفرق بينهما بتشوف الشرع هنا إلى لحوق النسب.

فرع:

قال ابن القاسم في المطلق قبل البناء، وتقاررا على عدم المسيس، ثم مات الزوج وظهر بها حمل فقالت: هو منه، فالولد يلحق به، ولا ترثه هي ولا يتم لها صداقها.

محمد: لأ، ها لم تثبت على قولها، وتصديقها فيه سقوط الولد على قول من يسقطه بتصديقها، ولا حد عليها لأنها لم تقر بزنا.

محمد: والصواب أن يتم لها الصداق لأن الولد إذا لحق فقد [393/أ]، ولو تم لها المسيس، ولو مات قبل انقضاء العدة ورثته إذا كان الطلاق واحدة رجعية.

ص: 579

وَلَهُ نَفْيُهُ حَيّاً أو مَيِّتاً

أي للزوج نفي الولد حياً أو ميتاً.

ابن عبد السلام: لا خلاف أعلمه في ذلك، قال في المدونة: وإن ولدت ولداً ميتاً أو مات بعد الولادة، ولم يعلم به الزوج لغيبة أو غيرها، ثم نفاه إذا علم به، فإنه يلاعن، لأنه قاذف، وعلى هذا ففائدة اللعان بعد موته سقوط الحد عن الزوج.

ولو اسْتَلْحَقَهُ مَيِّتاً لحق وحُدَّ، وقِيلَ: إِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ

ظاهر قوله: (وقِيلَ: إِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ)، أن الخلاف في الحد، ولا خلاف في حده، وإنما الخلاف في الإرث، ومذهب المدونة أنه يرث إن كان للولد الميت ولد، لا إن لم يكن، ففيها: ومن نفى ولداً بلعان ثم ادعاه بعد أن مات الولد عن مال، فإن كان لولده ولد طرب الحد ولحق به، وإن لم يترك ولداً لم يقبل قوله، لأنه يتهم في ميراثه، ويحد ولا يرثه، ودليل المدونة أنه يرث مع الولد السدس، وقد قال ذلك فيمن شهد في وصية له فيها نصيب يسير أن شهادته جائزة، وقال أشهب: لا شيء له، حكاه عنه البرقي وغيره، واختاره ابن القصار، وعلى هذا فلا خلاف في ثبوت الحد وسقوط الميراث، إذا لم يكن للميت ولد، واختلف في الإرث إذا كان له ولد، لكن قيد فضل عدم إرثه إذا لم يكن للميت ولد، بما إذا كان المال كثيراً، وأما إذا كان يسيراً فإنه يرثه، فقيل لابن القاسم: فإن لم يكن له مال ولا ولد، قال أصبغ: فرأيته لا يرى أن يلحق به، ورآه شيئاً واحداً إذا لم يترك ولداً.

أصبغ: إذا لم يترك ولداً لم يلحق، وإن استلحقه، كان له مال أو لم يكن، وإنما يلحق به إذا كان له ولد، فيقع الإقرار على النسب.

أشهب: ولو كان الولد عبداً أو نصرانياً صدق ولحق به.

ص: 580

أبو إسحاق: لم يتهمه إن كان له ولد، وإن كان يرث معه السدس، فكذلك العبد والنصراني وإن كانا لا يرثاه. خليل: والذي ينبغي أن تتبع التهمة، فقد يكون السدس كثيراً، فينبغي ألا يرثه، ولو كان للميت ولد، وقد يكون المال كله يسيراً، فينبغي أن يرثه، وإن لم يكن له ولد.

ويَكْفِي فِي الأَوْلادِ الْمُتَعَدِّدَةِ لِعَانٌ وَاحِدٌ

يعني: إذا ولدت أولاداً عدة، واحداً بعد واحد، وكان الزوج غائباً، ثم قدم ونفى الجميع، فإنه يكفيه لعان واحد، كمن قذف امرأته بالزنا في مرات متعددة، فإنه يكفيه لعان واحد.

فرعان:

الأول: إذا قدم من سفره فوجد ولداً فنفاه، فذلك على ضربين، أحدهما: أن يقول: لم تلديه، والثاني: أن يقول: ولدتيه ولكن ليس مني، فأما الأول، فهو أن ينكر أن تكون ولدته جملة، فقال الباجي: قال ابن القاسم في الموازية: هو منه إلا أن ينفيه بلعان، وقال أشهب: المرأة مصدقة ولا لعان فيه، إلا أن يقصد بذلك نفي الولد منه، فيلاعن.

ابن القاسم: فإن نكل بعد أن نفاه على هذا الوجه، ولم يلاعن لم يحد، وأما الوجه الثاني فإنه لا ينفيه إلا بلعان.

الثاني: قال في المقدمات: واختلف فيمن قذف أربع نسوة في كلمة واحدة، فقال الأبهري: لست أعرفها منصوصة، والذي يجيء على مذهبنا أن يلاعن لكل واحدة، لأن اللعان بمنزلة الشهادة، ولو أتى بالشهود لزم أن تعتبر الشهادة على كل واحدة بانفرادها، ويحتمل أن يجزيه لعان واحد، كما لو قذف جماعةب كلمة واحدة، وكما لو ظاهر منهن، فإنه تكفيه كفارة واحدة، وحكي عن إسماعيل القاضي ما يؤخذ منه الاكتفاء بلعان واحد، وقال اللخمي: وقال محمد فيمن قذف امرأتيه، فقامت عليه إحداهما، فقال كذبت عليك، جلد الحد، ثم قامت الأخرى فلا حد عليه، لأن ذلك الضرب لكل من قذف قبل ذلك، فإن قال لها بعد أن ضرب: قد صدقت عليك، أو على صاحبتك، كان عليه

ص: 581

الحد، إلا أن يلاعن، وسواء قال ذلك لمن قامت عليه أم لا، هذا قول ابن القاسم، وقال عبد الملك: يحد للأولى، ولا لعان له فيها، لأنه قذف ثان قد أكذب نفسه فيه.

محمد: ولو قال للثانية: أما أنت فقد صدقت عليك، وكذبت على صاحبتك، لا عن الثانية، وقول ابن القاسم هنا، أنه يلاعن الأولى إذا رجع بعد أن كذب نفسه، خلاف المعروف من المذهب، وخلاف الأصول، انتهى.

وكَذَلِكَ فِي الزِّنَا والْوَلَدِ جَمِيعاً

يعني: إذا قال: هذا الولد ما هو مني، وزنيت قبل الحمل أو بعده، فإنه يكفي فيهما أيضاً لعان واحد، لأن حاصل قوله راجع إلى قذف المرأة بالزنا مرات، وكما اكتفي لذلك الحد الواحد، كذلك اكتفى بلعان واحد.

ومَنَعَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي الْحَمْلِ لِجَوَازِ انْفِشَاشِهِ، ورُدَّ بأَنَّ الْعَجْلانِيَّ وغَيْرَهُ لاعَنَ فِي الْحَمْلِ لِظُهُورِهِ كإيجاب النَّفَقَةِ والرَّدِّ بِالْعَيْبِ ....

يعني: اختلف فيمن نفى حملاً ظاهراً، فالمشهور أنه يعجل كما يقضي للمطلقة بنفقة الحمل، إذا ظهر حملها، وكما يجب الرد للمشتري إذا اشترى جارية وظهر حملها، ولا يؤخر فيهما إلى الوضع، ومنع عبد الملك اللعان قبل الوضع خشية أن ينفش، ورواه عن مالك، والفرق على قوله بين اللعان، وما ذكر أن اللعان تترتب عليه أمور عظام عظام من فسخ النكاح والحرمة على التأبيد ووجوب الحد، واستدل [393/ب] محمد للمشهور بأ، قال: السنة أن يلاعنها حاملاً، وقد لاعن النبي صلى الله عليه وسلم في عويمر وامرأته حامل، وإلى هذا أشار بقوله:(ورُدَّ بأَنَّ الْعَجْلانِيَّ وغَيْرَهُ لاعَنَ فِي الْحَمْلِ).

اللخمي وغيره: وليس هذا الرد بالبين، لأن عويمر أو هلال بن أمية لم يكن سبب لعانهما إنكار الحمل، وإنما كان السبب في لعانهما الرؤية، نعم كانت امرأة العجلاني حاملاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن جاءت به على وجه كذا

وإلا فقد كذب عليها".

اللخمي: والخلاف إنما هو إذا لم تكن رؤية، أو كانت ولم تقع بقذفها.

ص: 582

وَلو انْفَشَّ الْحَمْلُ لَمْ تَحِلَّ أَبَداً إِذْ لَعَلَّها أَسْقَطَتْهُ وكَتَمَتْهُ

هذه المسألة وقعت هنا في أكثر النسخ، وسقطت من بعضها، وتصورها ظاهر، وقوله:(إِذْ لَعَلَّها أَسْقَطَتْهُ وكَتَمَتْهُ)، نحوه في المدونة، وتقديره أن التحريم على التأبيد ثابت لحصول سببه، وهو اللعان، ورافعه هو انفشاش الحمل مشكوك فيه، لاحتمال أن تكون أسقطته وكتمته، فلا يؤثر هذا الشك في ذلك المحقق، وظاهره وهو الذي صرح به ابن عبد الحكم، أنه لو تحقق أنه انفش بحيث لا يشك في ذلك، مثل أن تلازمها بينة ولا تفارقها إلى انقضاء أمد الحمل، أن ترد إليه لزوال الشك، قيل: وقول ابن عبد الحكم تفسير للمدونة، وقال الباجي: إذا قلنا برواية ابن القاسم أنه يلاعن بظهور الحمل، فتلاعنا، ثم انفش الحمل، لم يحد الزوج، ولم تحل له أبداً، قاله ابن المواز، ووجه ذلك أن حكم اللعان قد ثبت بينهما، فلا يزول بما يتبين من الكذب، كما لو أقر الزوج بالحمل، وفهمه ابن عبد السلام على أنه خلاف للأول، وقال: الأول عندي أولى لأنه أوفق لقول مالك؛ إن أراد الباجي بقوله تفسير قول مالك، وفيه نظر، ويمكن ألا يكون ما قاله الباجي مخالفاً لما قاله ابن عبد الحكم.

ولا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى عَزْلٍ

لمَّا قدم ما يعتمد عليه في نفي الحمل، أخذ يتكلم هنا فيما يتوهم أنه مانعاً وليس بمانع، أي لا يجوز له أن يعتمد في نفي الحمل على عزل، لأنه قد يبسقه الماء ولا يشعر به.

ابن عبد السلام: وأشار بعض الشيوخ إلى اعتباره في الإماء.

ولا مُشَابَهَةٍ لِغَيْرِهِ ولو بالسَّوَادِ

لما في الصحيح عن أبي هريرة أن أعرابياً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن امرأتي قد ولدت غلاماً أسود، وإني قد أنكرته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هل لك من إبل؟

ص: 583

فقال: نعم، فقال: ما لونها؟ فقال: أحمر، فقال: هل فيها من أورق؟ فقال: نعم؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فأنى هو يكن؟ فقال: لعله يكون نزعه عرق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهذا لعله يكون قد نزعه عرق" زاد البخاري: ولم يرخص له في الانتفاء منه.

ابن عبد السلام: ففهم الأئمة من هذا الحديث أن الأشباه لا يعتمد عليها، وأراد اللخمي أن يسلك بذلك مسلك التعليل، وزاد: فألزم عكس العلة، فقال: ولو كان الأبوان أسودان قدما من الحبشة، فولدت أبيض، فانظر هل ينفيه بذلك، لأنه لا يظن أنه كان في آبائه أبيض، أي لأنه لا يمكن أن يقال هنا، لعله عرق نزعه.

ولا عَلَى الْوَطْءِ بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ إِنْ أنزَلَ

لاحتمال أن يكون وصل من مائه شيء إلى الفرج، قالوا: وكذلك الوطء في الدبر، واستشكل الباجي هذا، فقال: يبعد عندي أن يلحق الولد من الوطء في غير الفرج، ولو صح هذا لما جاز أن تحد امرأة يظهر بها حمل ولا زوج لها، لاحتمال أن يكون من وطءٍ في غير الفرج.

ولا وَطءٍ بِغَيْرِ إِنْزَالٍ إِنْ كَانَ أَنْزَلَ قَبْلَهُ ولَمْ يَبُلْ

أي لاحتمال أن يكون بقي من الماء شيء، في قناة الذكر، ولهذا إذا بال جاز له الاعتماد، لأنه لا يبقى شيء بعد البول.

ويُلاعِنُ الأَخْرَسُ بِالإِشَارَةِ والْكِتَابَةِ إِنْ فُهِمَ

كما يصح بيعه وشراؤه ونكاحه وطلاقه، والزوجة الخرساء كذلك، في العتبية، في المرأة الصماء البكماء، يقذفها زوجها، أنها تلاعن بما يفهم منها بالإشارة.

ص: 584

ويلاعِنُ الأَعْمَى فِي نَفْيِ الْوَلَدِ وفِي الْقَذْفِ

لا إشكال في ملاعنته في نفي الولد، وأما القذف فملاعنته فيه متفق عليها من حيث الجملة، لكن هل يعتمد على يقينه أو لا يعتمد إلا على مسيس الفرجين؟ قولان قد تقدما.

أَمَّا إِذَا تَبَيَّنَ انْتِفَاؤُهُ عَنْهُ- بِأَنْ نَكَحَ مَشْرِقِيٌّ مَغْرِبِيَّةً فَأَتَتْ بِوَلَدٍ مِنْ غَيْرِ إِمْكَانِ وَطْءٍ، أَوْ لأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنَ الْعَقْدِ، أَوْ هُوَ صَبِيٍّ صَغِيرٌ حِينَ الْحَمْلِ، أَوْ كَانَ مَجْبُوب- فَلا لِعَانَ .....

صورة ذلك أن يعقد المشرقي وهو في المشرق النكاح على امرأة مغربية وهي بالمغرب، ويتولى عقد النكاح بينهما إما أبوها وهي بكر أو وكيلها وهي ثيب، وخالفنا في ذلك أبو حنيفة، فألحق الولد، وتمسك بعمووم قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} وبقوله عليه الصلاة والسلام: "الولد للفراش" وخصص أهل المذهب الآية والحديث، بما إذا كان الوطء ممكناً في العادة، وقوله (أقرب)، وقوله:(أَوْ كان لأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنَ الْعَقْدِ) تقديره: أو كان الولد الذي أتت به غير السقط، لأقل من ستة أشهر من حين العقد، ينتفي بغير لعان، لأنه لا يمكن أن تضع لأقل من ستة أشهر، وقوله: أو هو صغير أو مجبوب [394/أ]، أي فينتفي الولد أيضاً عنهما بغير لعان لعدم إمكان الحمل فيهما في العادة.

فَإِنْ نَسَبَهَا إِلَى اسْتِكْرَاهٍ أَوْ وَطْءٍ شُبْهَةٍ لاعَنَ لِنَفْيِ الْوَلَدِ ولَمْ تُلاعِنْ هِيَ إِذَا ظَهَرَ الْغَصْبُ ......

نحوه في الجواهر، ولفظه: فلو نسبها إلى زنى هي مستكرهة فيه، التعن هو لنفي الولد، ولم تلتعن هي إذا ظهر الغصب، إذ يمكن أن يكون منه، قال ابن عبد السلام: ظاهر هذا الكلام أنه لا يلاعن إلا إذا كان عن الغصب حمل، أو كان يخشى ذلك، فإن فقدا فلا لعان، وظاهر الروايات خلافه، ففي المدونة: إذا قذفها وقد كانت وطئت غصباً

ص: 585

التعن، قال غيره: وإن قذفها برؤية غير الغصب تلاعنا جميعاً، فأما إن غصبت واستمرت حاملاً، ونفى الولد لم ينتف الولد إلا بلعان، ولا تلاعن هي، إذ تقول: إن لم يكن منك فمن الغاصب. ابن عبد السلام: فلم يتعرض ابن القاسم إلى الولد بوجه، مع أنه أثبت اللعان، واختلف الشيوخ في كلام غيره، هل هو تفسير أو خلاف؟ والأقرب أنه تفسير، وأن ابن القاسم تكلم على ما إذا لم يظهر حمل عن ذلك الغصب، وتكلم غيره على ما إذا ظهر، واعلم أن المسألة على صورتين:

إحداهما: أن يظهر الغصب أو يثبت، وهذه هي التي تكلم عليها المصنف.

اللخمي: وإذا ثبت الاغتصاب ببينة، كان كثبوت الزناء، فيختلف إن قال: ليس مني، وقد كنت استبرأتها؛ هل ينفيه بلعان أو بغيره؟ واختلف قول ابن القاسم إذا كذبته وقالت: هو منه، وإذا كان الحكم لا ينتفي إلا بلعان، فإن اللعان على الزوج وحده، فإن نكل لم يحد، وإن لاعن لم يكن عليها لعان، لأنها تقول: يمكن أن يكون من الغاصب، وأرى ألا ينتفي إلا بلعان، لاتفاقهم إذا كانت الزوجة أمة أو نصرانية، أنه لا ينتفي إلا بلعان، وإن كان لا حد عليه في قذفها.

الصورة الثانية: ألا يثبت الغصب ولا يظهر، وهي أيضاً تنقسم إلى صورتين، الأولى أن تصدقه، والثانية أن تنكر الوطء جلمة، فإن صدقته لم ينفه إلا بلعان، وتلاعن أيضاً هي. ابن المواز وابن عبد الحكم: وتقول: ما زنيت، ولقد غلبت على نفسي، وكذلك قال ابن القاسم، وتقول: بالله إني لمن الصادقين ما أطعت، وتقول في الخامسة: غضب الله عليها إن كانت من الكاذبين. محمد: ويفرق بينهما، فإن نكلت رجمت.

اللخمي: ولا نعلم لرجمها وجهاً، لأن الزوج لم يثبت عليها في لعانه زنى، وإنما أثبت غصباً، فلا لعان عليها، كما لو أثبتت البينة الغصب، ولو لاعنته لم يفرق بينهما، لأنها إنما أثبتت بالتعانها الغصب، وقد صدقها الزوج، ولها أن تقول في الأربع: أشهد بالله إنه لمن

ص: 586

الصادقين، ولقد صدق، وهذا خارج عما ورد في القرآن مما يوجب الحد بنكولها، أو يوجب الفراق إن نكلت، فإن قيل: لم قال ابن القاسم فيما إذا تصادق الزوجان على الغصب أن الولد لا ينتفي إلا بلعان، بخلاف ما إذا تصادقا على الزنا؟ فالجواب أن الزانية لما كانت تحد لإقرارها بالزنى انتفت عنها التهمة، بخلاف التي أقرت بالغصب، فإنه لا حد عليها، فلم تصدق في رفع النسب، قاله صاحب النكت، وأما الصورة الثانية، وهي إذا ادعى الغصب وأنكرته هي، فقال اللخمي: على قول محمد يلتعنان جميعاً، قال: والصواب إذا التعن ألَاّ لعان عليها، لأن الزوج إنما أثبت في التعانه أنه اغتصاباً.

فرعان:

الأول: إذا نكل الزوج عن اللعان مع ثبوت الغصب بالبينة، وتصادقا عليه، لم يحد، وكذلك إن ادعاه وأنكرته، لأن محمل قول الزوج محمل الشهادة، لا محمل التعريض، قاله محمد وغيره.

الثاني: إذا قالت: كنت مغتصبة، وقال: بل كنت طائعة؛ وهي مقرة بالوطء، مدعية للغصب. اللخمي: فعلى قول ابن القاسم، تحد، ولا لعان على الزوج، وعلى قول أشهب، لا تؤخذ بغير ما أقرت به، ويلتعن الزوج، فإن نكل لم يحد، للاختلاف.

فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً يُوطَأُ مِثْلُهَا لاعَنَ هُوَ دُونَهَا

أي: كانت الصغيرة المطيقة للوطء، لا يخشى منها الحمل، فقال ابن القاسم: يلاعن وإن نكل حُدَّ، ولا لعان عليها، لأنها لو أقرت بالزنى لم تحد، وهو جار على المشهور أن من قذف صبية غير بالغة يمكن وطؤها يحد، وقال ابن الماجشون: لا حد على من قذف من لم تبلغ من الإناث، فعلى هذا لا يلاعن ولا يحد، وخرج اللخمي ثالثاً، أنه يحد ولا يلاعن من أحد قولي مالك أن اللعان إنما يكون لنفي الحمل خاصة.

ص: 587

وأما إن كانت في سن من يحمل فله أن يلاعن بالاتفاق إن ادعى رؤية، وهل يجب؟ فعلى المشهور يجب، وعلى قول ابن الماجشون لا يجب، وإذا التعن وقف أمرها، فإن ظهر حمل لم يلحق به، ووجب عليها اللعان، لأن الحمل لا يصح إلا من بالغ، وظهوره يبين أنها كانت بالغاً يوم وطئت، فإن نكلت حدت حد البكر، لإمكان أن يكون بلوغها بعد إصابة الزوج وقبل الإصابة التي رماها به، ولو لم تقم هي بقذفها حتى ظهر الحمل، وجب عليها اللعان [394/ب] باتفاق، فإن نكل حد لأنه قاذف لبالغ، ولحق به الولد، وإن وجب عليها اللعان، ونكلت حدت حد البكر، وإن كانت ممن قعدت عن الحيض وادعى رؤية، تلاعنا على قول ابن القاسم، وأحد قولي مالك، وعلى أن اللعان لنفي الحمل خاصة يحد الزوج.

وشَرْطُهُ فِي الْوَلَدِ أَنْ لا يَطَأَ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ أَوِ الْعِلْمِ بِالْوَضْعِ أَوِ الْحَمْلِ وأَنْ لا يُؤَخِّرَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْوَضْعِ أَوِ الْحَمْلِ .....

أي: وشرط اللعان في نفي الولد ألا يطأها بعد الرؤية والعلم بالوضع أو الحمل، لأن وطئها رضىً منه بالبقاء، والنفوس لا تطيق الكتمان في مثل هذا، فإذا سكت دل ذلك على أن الولد منه.

وقوله: (وأَنْ لا يُؤَخِّرَ) وشرطه إذا علم بالوضع أو الحمل ألا يؤخر رفعها، فإن أخر ذلك، قال في المدونة: يوماً أو يومين لم ينفعه نفيه، ويلحق به، وتبقى له زوجة مسلمة كانت أو كتابية، ويحد للحرة المسلمة، ولا يحد للأمة ولا الكتابية، قال فيها: وأما إن قدم من سفر فله أن ينفي الحمل، وإن كان ظاهراً، وقيد عبد الوهاب ذلك بما إذا لم يكن له عذر، وأما إن كان له عذر في ترك الإنكار اليوم واليومين، يريد أو أكثر فلا يدل ذلك على الرضا، وهو ظاهر، وخالف في ذلك ابن القصار، فقال: إذا أخر ذلك حتى وضعت، وقال: رجوت أن يكون ذلك ريحاً فأستريح منه، فله ذلك، إلا أن يجاوز ثلاثة أيام بعد الوضع، أو يظهر منه ما يدل على الرضى، مثل أن يقبل التهنئة قبل الثلاث، وقيد المصنف

ص: 588

الشرط بالولد، لأن بعضهم حكى في الرؤية إذا لم يكن عنها حمل، أن السكوت الطويل لا يمنع من اللعان، وإنما يمنع منه الوطء، وروى محمد وابن حبيب عن ابن الماجشون، أنه إذا ادعى رؤية قديمة، ثم قام بها الآن، ألا يقبل قوله، ويحد لأن سكوته حين رؤيته دليل على كذبه، وذكر ابن شعبان أنه إذا لم يقم حين رآها يحد، وإطلاق المصنف الشرط على هذا، هو اصطلاح الفقهاء، لأنهم يرون كل ما يوقف عليه الشرط يسمى شرطاً، وغلا فأهل الأصول يرون مثل هذا مانعاً، ويقولون كل ما يشترط عدمه، فوجوده مانع.

وَصِفَتُهُ أَنْ يَقُولَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَشْهَدُ بِاللهِ- وقَالَ مُحَمَّدٌ: يَزِيدُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ- لَرَأَيْتُهَا تَزْنِي، وقِيلَ: ويَصِفُ كَالشُّهُودِ، وقِيلَ: يَكْفِي لَزَنَتْ عَلَى الْخِلافِ الْمُتَقَدِّمِ .....

أي: وصفة اللعان أن يشهد الرجل أربع مرات، فيقول: أشهد بالله، وقيل: يجوز أن يقول: أقسم بالله، وأشهد بعلم الله، وقال بعضهم: ويجزئ بعزة الله، وإذا أجازه بالصفة، فأحرى بأسمائه تعالى. المازري: والمنصوص أنه لا يجزئ في أسمائه إلا بالله، وزاد محمد بعد قوله: أشهد بالله: الذي لا إله إلا هو، وزاد ابن كنانة في ال مجموعة على زيادة محمد: عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، قال في المجموعة: يقول ذلك في اللعان وفي القاسمة وفي ربع دينار فصاعداً، وعن أشهب إن لم يزد: الذي لا إله إلا هو لا يجزئه ذلك.

وقوله: (لَرَأَيْتُهَا تَزْنِي

إلخ)، على القول بأنه يعتمد على مطلق الرؤية، ويقول في يمينه: أشهد بالله لرأيتها تزني، وعلى القول بأنه لا يعتمد إلا على الوصف، كالشهود، يقول: رأيتها تزني، يلج فرج الرجل في فرجها، كالمرود في المكحلة، وعلى القول بأنه يعتمد على يقينه كالأعمى، يقول في يمينه: أشهد بالله لزنت، وهذا معنى قوله: على الخلاف المتقدم، وظاهر كلام المصنف أنه اختلف ابتداء، هل يزيد: الذي لا إله إلا هو، وظاهر ما حكاه غيره، أنه يقوله، وإنما الخلاف إذا تركه.

ص: 589

خليل: وفيه نظر، وقد ذكر المتيطي وابن شاس القولين كالمصنف.

ابن عبد السلام: وسكت المؤلف هل يقول مع كل مرة إني لمن الصادقين، وذكر أصبغ عن ابن القاسم أنه يقول في كل مرة، أشهد بالله إني لمن الصادقين لرأيتها تزني، وهذا أسعد بظاهر الآية.

وفِي نَفْيِ الْحَمْلِ: لَزَنَتْ أَوْ: مَا هَذَا الْحَمْلُ مِنِّي، وقِيلَ: لا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ سَبَبِ الاعْتِمَادِ كَالأَوَّلِ، ويَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ

أي: ويقول الرجل في نفي الحمل: لزنت، وهذا مذهب المدونة، وقوله:(أَوْ: مَا هَذَا الْحَمْلُ مِنِّي)، هو قول محمد، واستحب في الموازية والعتبية، أن يزيد بعد قوله: ما هذا الحمل مني، لزنت كالمرود في المكحلة، وقوله:(وقِيلَ: لا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ سَبَبِ الاعْتِمَادِ) هذا القول نقله ابن شعبان، فقال: وقال بعض أصحابنا: ويقول: لقد استبرأت.

اللخمي: وأرى أن يكون اللعان مبنياً على الوجه الذي ينفي به ذلك الولد، فيثبت ذلك في لعانه، وقد اختلف في الوجه الذي به يكون النفي، هل الاستبراء بانفراده أو الرؤية بانفراده، أو بمجموع ذلك؟ فمن أجاز نفيه بالاستبراء فقط أثبت في لعانه الاستبراء، وعلى الرؤية يثبتها فقط، وعلى القول بأنه لا بد من الجميع يثبت الجميع في لعانه، قوله:(الأولى) سقط هذا من بعض النسخ، وثبت في نسخة ابن عبد السلام، فقال: ومراده كالصورة الأولى التي فوق هذه، ووقع في أكثر النسخ كالأول، أي كالفرع الأول، كما كان في الزنا، لابد أن يذكر الاستبراء، كما كان في الزنا، لابد أن يذكر معتمده في الرؤية، فكذلك هنا لابد أن يذكر الاستبراء، وانظر مذهب المدونة بأنه لا يلزم من قوله: زنت، أن يكون الحمل من غيره [395/أ].

قوله: (ويَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) هو نص الآية، وأتى المصنف بـ (أَنَّ) تبعاً للآية الكريمة، والمدونة، وفي الجلاب والكافي: لعنة الله عليه من غير (أن)، وعلى هذا فلا يكون ذكر أن واجباً، ولكن ينبغي أن يكون أولى.

ص: 590

وتَقُولُ الْمَرْأَةُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَشْهَدُ باللهِ مَا رَأَىنِي أَزْنِي، أَوْ مَا زَنَيْتُ أَوْ لَقَدْ كَذَبَ لِلْجَمِيعِ، فِي نَفْيِ الْحَمْلِ: مَا زَنَيْتُ- لِلأَوَّلِ- وإِنَّهُ مِنْهُ- وَقِيلَ وتَعْكِسُ- ولَقَدْ كَذَبَ لِلْجَمِيعِ؛ وفِي الْخَامِسَةِ: أَن غَضبَ الله عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ

أي: وتقول المرأة في القذف أربع مرات: أشهد بالله ما رآني أزني.

(لِلأَوَّلِ)، أي القول الأول، وهو مذهب المدونة الذي تقدم، أعني قوله:(لرأيتها تزني)، وقوله:(مَا زَنَيْتُ)، هذا على القول بأنه يكتفي بقوله:(لزنت).

وقوله: (وفِي نَفْيِ الْحَمْلِ) أي وتقول في نفي الحمل: (مَا زَنَيْتُ)، على مذهب المدونة (وإِنَّهُ مِنْهُ) على قول ابن المواز.

قوله: (وقيل للجميع وتعكس)، أي وقيل: يفتقر الرجل للجميع وتعكس المرأة، وذلك أنه قدم أنه يكتفى على المشهور بقوله: لزنيت، وأنه يكتفى على قول محمد، بـ (ما هذا الحمل مني)، وهذا القول يرى أنه لا بد منهما، وهو لأصبغ، ونصه على نقل اللخمي: وقال أصبغ: يقول أشهد بالله لزنت، وما هذا الحمل مني، وتقول هي: مازنيت وإنه لمنه، ويمكن أن يكون قوله:(وقيل للجميع وتعكس)، أن ذلك خاص بالمرأة، ويكون التقدير، وقيل تفتقر المرأة للجميع وتعكس، وذلك أنه قدم أنها تقول على مذهب المدونة: ما زنيت، وعلى قول محمد:(وإنه منه) أي وقيل على كلا القولين لابد أن تثبت مجموع اللفظين، لأنه إذا قال: زنت، لزم منه نفي الحمل، وإذا قال، على قول محمد، ما هذا الحمل مني، لزم منه الزنا، فترد ما ادعاه عليها تصريحاً والتزاماً، غير أنها تقدم في لفظها ما ذكره تصريحاً، فإذا قال على مذهب المدونة: لزنت؛ تقول هي: ما زنيت وإنه منه، وإن قال على مذهب محمد: ما هو مني؛ تقول هي: إنه منه، وما زنيت، فيكون، وتعكس على هذا التقدير، ما كان مؤخراً على القول الآخر، ولم أر نقلاً يساعد هذا الوجه، فليعتمد على

ص: 591

الأول، وقوله:(ولقد كذب للجميع) أي لجميع الأقوال، أي سواء قال: لزنت وما هذا الحمل مني، أو ذكرهما.

قوله: (وفِي الْخَامِسَةِ)، تصوره ظاهر ويقول الرجل: أن لعنة الله، متصلة بيمينه الخامسة، وكذلك المرأة، ولا يفرد اللعنة بيمين لئلا يحلف ستة، قاله ابن القاسم.

ويَتَعَيَّنُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ واللَّعْنِ والْغَضَبِ بَعْدَهَا

يعني: يتعين أن يقول كل واحد منهما: أشهد، ولا يجزئ أحلف ولا أقسم على المشهور كما تقدم، ويتعين اللعن في حق الرجل والغضب في حق المرأة، هكذا قال عبد الوهاب في شرح الرسالة، أن النظر يقتضي ألا يجزئ إذا بدل اللعنة بالغضب، وبالعكس.

أصبغ: وإن قال في الخامسة مكان (إن كنت من الكاذبين)، (إن كنت كذبتهأ)، أجزأه، وإن قالت المرأة في الخامسة، مكان إن كان من الصادقين: إنه لمن الكاذبين أجزأها، وأحب إلينا لفظ القرآن. الباجي: فأشار إلى أن لفظ اللعان غير متعين إلا أن لفظ القرآن أفضل، وظاهر قول ابن وهب في الموازية أنه يتعين بلفظ القرآن.

ابن عبد السلام: وأشار بعض أهل المعاني إلى أن الغضب أشد، فعلى هذا إن أبدلت المرأة الغضب باللعنة لم يجزها، وأعادت الخامسة على سنتها، وإن أبدل الرجل أجزأه، فإن قلت: لم اختص الرجل باللعنة واختصت المرأة بالغضب، قيل لأن قاعدة الشرع المجازاة على الفعل من جنسه، يشهد لذلك قوله تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ....} إلى آخرها، وما ورد في الحديث:"من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة""ومن حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله""ومن قال لصاحبه: تعالى أقامرك، فليتصدق" لأن الحلف بغير الله يتضمن تعظيمه، فكانت كفارته التوحيد، وقد قصد إخراج مال في غير وجه، فكانت كفارته أن يخرج مالاً في وجهه، ولما كان الزوج مبعداً لزوجته ونسبه، ناسب أن

ص: 592

يذكر اللعنة، ولما كانت المرأة مغضبة لزوجها ووليها وأهلها، ناسب أن تذكر الغضب، والله أعلم.

فَلَوْ بَدَأَتِ الْمَرْأَةُ بِاللِّعَانِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لا يُعَادُ، وقَالَ أَشْهَبُ: يُعَادُ

لا خلاف أن الرجل يبدأ باللعان، وهو الذي دلت عليه الآية، ووقع في حديث عويمر، وذكر عبد الوهاب أن المذهب فيها إذا أخطأ، وقدم المرأة إعادتها، ونقل ابن الكاتب واللخمي وصاحب البيان عن ابن القاسم وأشهب مثل ما نقله المؤلف، وجعل في البيان منشأ الخلاف، هل تقديم الرجل واجب أم لا، وقاس أشهب عدم الإجزاء على ما إذا حلف الطالب قبل نكول المطلوب، فإنه لا يجزئ، واختار ابن الكاتب واللخمي قول أشهب، قال في البيان: والخلاف إنما هو إذا حلفت المرأة أولاً كما يحلف الرجل، لا على تكذيب أيمانه، فقالت: أشهد بالله إني لمن الصادقين ما زنيت، وأن حملي هذا منه، وقالت في الخامسة، غضب الله عليها إن كانت من الكاذبين، فها هنا قال ابن القاسم: يلتعن الرجل فيقول: أشهد بالله إنها لمن الكاذبين، ولقد زنت وما هذا الحمل مني، ويقول في الخامسة: لعنة الله عليه [395/ب] إن كانت من الصادقين، وأما إن حلفت المرأة أولاً، فقالت: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين، وقالت في الخامسة: غضب الله عليها إن كان من الصادقين، فلا خلاف بين ابن القاسم وأشهب في إعادة المرأة، لأنها حلفت على تكذيب أيمان الزوج، وهو لم يتقدم له يمين، انتهى.

فإن قلت: لم خولفت القاعة في اليمين هنا وفي القسامة، لأن الزوج وأولياء المقتول مدَّعون، والقاعدة إنما يحلف أولاً المدَّعى عليه؟ قيل: أما الملتعن فإنه مدع ومدعى عليه، ولذلك يحلف هو والمرأة، وبدئ باليمين لأنه لما قذفها طالبته بحقها، احتاج لذلك أن يحلف، إذا صار مدعى عليه الحد، وأما أولياء المقتول فإنهم مدعى عليهم حكماً، وإن

ص: 593

كانوا مدعين في الصورة، فإن المدعى عليه من ترجح قوله بمعهود أو أصل، وهم كذلك ترجح قولهم باللوث، والله أعلم.

ويَجِبُ فِي أَشْرَفِ أَمْكِنَةِ الْبَلَدِ

نحوه في الجواهر، وكذلك قال الباجي وابن راشد: إن التغليظ بالمكان شرط، لأنها يمين فيما له بال تحتاج إلى التغليظ، فكان من شرطها أن تغلظ بالمكان كاليمين في الحقوق، وعليه جماعة العلماء، هذا نص كلامهما، وهو مقتضى كلام عياض وغيره، وقال ابن عبد السلام: ليس هذا واجب، بل أولى، وعبارة المتقدمين كما في المدونة: ويلتعن في المسجد، ولم يشترط عبد الملك المسجد، بل قال: يكون عند الإمام أو في المسجد عن أمر الإمام. خليل: وفيه نظر لما ذكرناه عن الباجي وغيره.

وبِحُضُورِ جَمَاعَةٍ أَقَلُّهَا أَرْبَعَةٌ

لقول سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن إنما يتم الاستدلال بهذا الحديث أن لو ثبت أنه عليه الصلاة والسلام أحضرهم، أما إن كان حضورهم اتفاقياً فلا، وأما أن أقل العدد أربعة، فلاحتمال نكول الزوجة الموجب للحد، أو إقرارها فلا يتم الحكم إلا بأربعة شهداء، على أحد القولين عندنا.

وفِي إِثْرِ صَلاةٍ قَوْلانِ، عَنْ مَالِكٍ: بَعْدَ الْعَصْرِ أَحَبُّ إِلَيَّ

اختلف قوله في المدونة في ذكر الوقت في هذه المسألة، فنفاه في باب الأقضية، وقال في اللعان: عند الإمام دبر الصلاة، واختلف هل هو اختلاف قول أو أراد بالنفي الصلاة المعينة، وبالإثبات الصلاة غير المعينة، ووقع لمالك في الموازية: هو جائز في كل وقت.

الباجي: والتغليظ بالوقت، أي في كونه بإثر صلاة مستحب، وقال ابن الماجشون: لا يكون إلا بإثر صلاة، وكأنه جعل ذلك شرطاً كالمكان، وإذا قلنا بإثر صلاة فمقتضى

ص: 594

كلامه في المدونة في اللعان عدم التعيين، وكذلك قال في غير المدونة عن مالك، بإثر مكتوبة أحب إليَّ، قال: وكذلك عندنا بإثر العصر، وليس بسنة، وقال ابن شعبان: بإثر العصر والصبح، وقيل بعد الظهر أو العصر، وقال سحنون: بعد العصر سنة، واستحسنه جماعة لما في الصحيح من حديث أبي هريرة عنه عليه الصلاة والسلام:"ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولا يكلمهم ولهم عذاب أليم، رجل كان له فضل ماء بالطريق فمنعه ابن السبيل، ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه منها رضي وإن لم يعطه منها سخطه، ورجل أقام سلعته بعد العصر، فقال: والله الذي لا إله إلا هو لقد أعطيت فيها كذا وكذا فصدقه".

عياض: وسنة اللعان أن يكون مشهوراً بحضرة الناس، وحضرة الإمام، أو من يستنيبه لذلك من الحكام، قال: وهذا إجماع أنه لا يكون إلا بسلطان، وقال اللخمي: لا يبعد أن يكون عند الفقيه الجليل. ابن عبد السلام: يريد عن أمر الإمام والقاضي.

ويُسْتَحَبُّ تَخْوِيفُهُمَا- وخُصُوصاً عِنْدَ الْخَامِسَةِ- ويُقَالُ: إِنَّهَا مُوجِبَةٌ الْعَذَابِ، وعَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذّابِ الآخِرَةِ ....

قوله: (ويُقَالُ: إِنَّهَا)، أي يقال لهما: هذه الخامسةم هي موجبة العذاب، لما في الصحيح، أنه عليه الصلاة والسلام تلا آية اللعان على الملاعن، ووعظه وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، قال: لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها، ثم دعاها فوعظها وذكرها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، قالت: لا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب، وفي النسائي أنه عليه الصلاة والسلام أمر رجلاً حين أمر المتلاعنين أن يتلاعنا أن يضع يده على فيه عند الخامسة.

ص: 595

ويُؤَخِّرُ لِعَانُهُمَا مَعاً وفِي الْمُخْتَصَرِ لِعَانُهَا لِلْحَيْضِ والنِّفَاسِ كَمَا يُؤَخَّرُ طَلاقُهَا لِلإِعْسَارِ والْعُنَّةِ بِخِلافِ الإِيلاءِ، ورَوَى أَشْهَبُ: والإِيلاءُ ....

أخر اللعان للحيض، وإن لم يكن طلاقها للمشهور، قياساً على منع الطلاق فيه، بجامع تطويل العدة، ومراعاةً لقول من قال أن الفرقة فيه طلاق (بِخِلافِ الإِيلاءِ) أي فلا يؤخر التطليق له للحيض، لئلا ياد فيما أجله إليه من الأربعة أشهر، ولعله يريد بالمختصر، مختصر ابن أبي زيد، لا مختصر ابن عبد الحكم، فإن هذه المسألة مشهورة عنه، وينبغي إذا التعن هو على ما في المختصر أن تسجن هي لأنها مطلوبة بحد الزنا، إن نكلت كما كان مطلوباً [396/أ] بحدِّ القذف، وحد الزنا آكد، على أن الباجي لم يسق ما في المختصر على أنه خلاف، بل نقله عن الأصحاب، وكذلك ساقه ابن يونس على جهة التفسير.

فرع:

قال الباجي: فإن كان مريضاً أو كانت مريضة أرسل الإمام إلى المريض منهما، رواه في العتبية أصبغ عن ابن القاسم، ووجه ذلك أنه حكم من سنته التعجيل، والمرض لا يدرى له غاية، فيسقط التغليظ بالمكان للضرورة.

ولَوْ قَذَفَهَا بِأَجْنَبِيٍّ حُدَّ لَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ

يعني: إذا سماه، فقال: رأيتها تزني مع فلان، فإنه يحد لذلك الأجنبي على المشهور.

الباجي: ولا يخلصه من ذلك اللعان مع الزوجة، خلافاً للشافعية، ودليلنا أنه شخص لا يجب عليه الحد بالتعان الزوج، فلم يسقط حده بالتعانه، كالمرأة الأجنبية، أما لو حد للرجل المسمى، فقال سحنون: يسقط عنه اللعان.

الباجي: ووجهه أن من حد لقذف دخل فيه كل قذف ثبت عليه قبل ذلك الحد ممن قام به ومن لم يقم به، ومقابل المشهور لم أره معزواً، ووجهه أنه قذف شخصين قذفاً واحداً، وقد

ص: 596

جعل الشرع اللعان يقوم مقام الحد، ولو حد لأحدهما سقط عنه الحد للآخر، وأيضاً فإن هلال بن أمية رمى زوجته بشريك بن سحماء، فلاعن ولم يحد له، وأجيب عن هذا بأنه لم يطلبه، وهو صحيح على الأصح، لأنه حق لآدمي.

فرع:

وأما إن لم يسم الرجل، فالمذهب أنه لا حد عليه، خلافاً للشافعي في أحد قوليه لنا أن حد القذف لا يجب استئنافه إلا بمطالبة مستحقه، والمجهول لا يستحق المطالبة، فكان كمن قال رأيت رجلاً يزني.

وعَلَى حَدِّهِ- مَعَ وُجُوبِ إِعْلامِهِ- قَوْلانِ

أي: وإذا فرعنا على المشهور من أنه يحد، ففي الجواهر: ليس على الإمام أن يعلمه، وروي أن ذلك عليه ومنشأهما: هل الحد حق لله فلا يجب إعلامه، أو حق للآدمي فلابد من إعلامه؟ وهو الأقرب، أما أولاً فلأنه قد يعترف فيسقط الحد، وأما ثانياً، فلأن الأصح أنه من حقوق الآدميين، بدليل أنه يورث ويسقط بالعفو، قبل بلوغ الإمام، فإن قيل هذا معترض لأنه هنا قد بلغ الإمام، فالجواب أنه ولو بلغ الإمام، فإن له العفو إذا أراد ستراً على نفسه على ظاهر المذهب، فإن بعض من رأى وجوب إعلامه، وهذه المسألة إحدى المسائل التي استثنيت من النميمة.

ولَوْ لاعَنَهَا ثُمَّ قَذَفَهَا لَمْ يُحَدَّ عَلَى الأَصَحِّ

تصور المسألة من كلامه واضح، والأصح مذهب محمد، قال: لأنه إنما لاعن لقذفه إياها، والقول بوجوب الحد نقله عياض عن ابن نافع، ونسبه في المدونة لربيعة، وفي الموازية لابن شهاب، لأنه قذفها وليست بزوجة، واختاره التونسي، فإن قلت: ما قاله المصنف هنا مخالف لما قاله في القذف، ولو حد ثم قذفه ثانياً حد ثانياً على الأصح، قيل:

ص: 597

وقد فرق ابن الكاتب بين المسألتين، بأن المتلاعنين أحدهما كاذب، إلا أنه لا يدري من هو منهما، فإذا قال الزوج، ما كنت إلا صادقاً لم يحد، إذ لعله كان صادقاً، والقاذف إنما حد تكذيباً له، فإذا قال: كنت صادقاً، فهو قذف مبتدأ، فوجب أن يُحدَّ تارة أخرى، والله أعلم.

ومَتَى اسْتَلْحَقَ الْمَنْفِيَّ لَحِقَ وحُدَّ، إِلا أَنْ تَكُونَ زَنَتْ بَعْدَ اللِّعَانِ فَلا يُحَدُّ، وقِيلَ: إِنْ كَانَ المنفْيُ عَنْ قَذْفِهَا بالزِّنَى ....

لأن استلحاق الولد بعد نفيه إقرارٌ منه بالكذب فيما رماها به، فيحدّ، إلا أن تكون زنت بعد اللعان فحينئذ لا يحد ويصير كمن قذف عفيفاً، فلم يحد له حتى زنا المقذوف فإنه يسقط الحد عن القاذف، وهذا مذهب المدونة، قوله:(وقِيلَ) هذا القول لابن المواز، يعني يحد على القول الأول مطلقاً، سواء كان لاعن لنفي الحمل أو الرؤية، وقال محمد: إنما يحد إذا لاعن لنفي الولد، لأنه كذب نفسه باستلحاقه، وأقر بأن لعانه كان باطلاً، قال محمد: وأما إن ادعى الرؤية بانتفاء الحمل والتعن لهما معاً فلا يلزم من تكذيب نفسه في الحمل تكذيبه في الرؤية، فقد بقي للعانه محمل وهو الرؤية، هذا نص قوله: وعلى هذا فيكون قوله: وقيل: إن كان المنفي عن قذفها بالزنا، أي فلا يحد، وقوله: بالزنا، أي سواء كان الزنا بمفرده أو مع نفي الحمل، وأما إذا كان اللعان لنفي الولد فقط، فإنه يحد، وهذا خلاف ظاهر كلام المصنف، على أنه يمكن أن يقال أن قوله:(وقِيلَ)، راجع إلى قوله:(فَلا يُحَدُّ)، أي قيل لا يحد إن كان المنفي عن قذفها بالزنا.

وشَرْطُ الْمُلاعِنَةِ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً مُكَلَّفَةً- فَتُلاعِنُ الذِّمِّيّةُ فِي كَنِيسَتِهَا- لا فِي الْمَسْجِدِ- لِرفْعِ اللعان، فإنْ أَبَتْ أُدِّبَتْ .....

احترز بالزوجة من الأمة، وبالمكلفة من الصغيرة، فإنهما لا يتلاعنان، نعم يلاعن هو إذا كانت ممن يوطأ مثلها، كما تقدم، وقوله:(فَتُلاعِنُ)، جعله كالنتيجة عما قبله، وفي

ص: 598

إدخاله الذمية تحت المكلفة تسامح، لأنه إن أدخلها لأجل أنها مكلفة بالأيمان بالاتفاق، وهو تكليف مقيد فيستلزم التكليف المطلق فغير بين، لأنه إن أريد ذلك المقيد بخصوصيته، منع ذلك من تكليفها بغيره، وإن أدخلها على القول بتكليفهم بالفروع على [396/ب] معنى أنهم يؤخذون بها في الدنيا، فهذا مال إليه بعض المتأخرين، لكن الذي قاله غير واحد أن أثر التكليف إنما يظهر في الآخرة بتضعيف العذاب، والبيعة لليهودية، كالكنيسة للنصرانية، وإنما لاعنت في الكنيسة لأنها هي التي تعظم، والقصد التغليظ على الحالف، ولأن الكافر ممنوع من دخول المسجد، ومعنى قوله:(فَتُلاعِنُ الذِّمِّيّةُ) أي إذا أجابت.

مطرف: معنى قول مالك في المسلم تحته النصرانية، فينفي حملها، إنما يتلاعنان، يعني إن طاوعته، ولا تجبر، لأنها لو أقرت بالزنا لم تحد، وقوله: لرفع العار، يعني أن ثمرة لعانها مخالف لثمرة لعان المسلمة، لأن المسلمة يلزمها الحد بالنكول، بخلاف الذمية، فإنها لا تحد، ولو شهد عليها أربعة بالزنا، وإنما أدبت لإذايتها زوجها المسلم، قال في الجواهر: وإذا التعنت انقطع النكاح، وإن أبت فهما على الزوجية، وترد إلى أهل دينها بعد العقوبة لأجل خيانتها زوجها في فراشه، وإدخالها الالتباس في نسبه، وهكذا روى مطرف عن مالك، أنها إذا نكلت ترد إلى أهل دينها، ولهذا قال صاحب النكت إنما فرق بين الصغيرة، وقال أنها لا تلاعن، وبين الكتابية، وقال أنها تلاعن، مع أن كلتيهما لو نكلت أو أقرت لم تحد، لأن النصرانية قد يتعلق عليها بإقرارها ونكولها حد عند أهل ملتها، لأنها مردودة إليهم.

وَالطَّلاقُ الرَّجْعِيُّ لا يَمْنَعُ فِي الْعِدَّةِ، وفِي الْبَائِنِ قَوْلانِ

كلام المصنف هنا باعتبار الرؤية، لا باعتبار نفي الولد، فإنه سيذكر اللعان باعتبار نفي الولد، يعني أن من طلق زوجته طلاقاً رجعياً، ثم ادعى أنه رآها تزني، فإنه يلاعن، ولا يمنع من اللعان طلاقه، لأن المطلقة طلاقاً رجعياً في حكم الزوجة، وأما إن كانت في عدة طلاق بائن، فحكى المصنف قولين، وحكى الباجي وصاحب البيان ثلاثة أقوال،

ص: 599

قال ابن القاسم: وروى ابن وهب عن مالك: يلاعن، يريد لأن العدة من توابع الزوجحية، وقال ابن المواز: يحد ولا يلاعن، لأنها أجنبية، وقال المغيرة: لا يحد ولا يلاعن، وإليه مال سحنون، قال في الموطأ وغيره: ولو ادعى بعد أن طلقها البتة، أنه رآها تزني قبل أن يطلقها، فإنه يحد ولا يلاعن، وقال في كتاب أبي الفرج أنه يحد إلا أن يظهر بها حمل فينفيه فيلاعن، وقال ابن المواز أحب إليَّ أن ينظر، فإن تبين ألا حمل بها حد، وإن ظهر لاعن.

الباجي: هذا مبني على قول ابن المواز أن المطلق بائناً لا يلاعن إلا لنفي الحمل، وتقدم لابن القاسم وغيره أنه يلاعن، والخلاف بين أبي الفرج وابن المواز في تأخير الحد بعد القذف، فأبو الفرج يعجل بالحد، لأن من قذف وادعى المخرج لا يمهل، وابن المواز يؤخر، بخلاف الأجنبي، لحاجة الزوج له دون غيره.

وتُلاعِنُ ولَوْ تَزَوَّجَتْ إِن كَانَ الْقَذْفُ سَابِقاً ورَفَعَتْهُ

يصح أن يقرأ (يلاعن) بالياء من أسفل، وبالتاء من فوق، فإن المطلق والمطلقة، يتلاعنان إذا كان قذفها بالزنا، وهي في عصمته، ثم طلقها ورفعته بعد ذلك، فقوله (سَابِقاً) أي سابقاً للطلاق.

فرع: قال في الجواهر: إذا قذف أجنبية ثم نكحها وقذفها فلاعن، اندفع الحد.

وأَمَّا نَفْيُ الْوَلَدِ فَيَجْرِي فِي كُلِّ مَنْ يَلْحَقُهُ وَلَدُهَا حَيَّة أَوْ مَيِّتَةً إِلا مِلْكَ يَمِينِهِ

هذا مما يبين لك أن كلامه أولاً إنما هو باعتبار الرؤية، ويدخل في قوله:(مَنْ يَلْحَقُهُ وَلَدُهَا) من في عصمته أو طلقها طلاقاً رجعياً أو بائناً، سواء خرجت من العدة أم لا، ما لم تجاوز أقصى أمد الحمل، وقوله:(إلا في ملك يمينه) أي فلا لعان في ذلك.

فَلَوْ قَذَفَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ ولا حَمْلَ حُدَّ

أي: قذفها برؤية الزنا، قيل: ولا خلاف في ذلك.

ص: 600

وإن اشْتَرَى زَوْجَتَهُ ثُمَّ ظَهَرَ حَمْلٌ فَإِنْ وَلَدَتْه لأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَحُكْمُهَا فِيهِ حُكْمُ الزَّوْجَةِ، وإِنْ وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ فأكثر فَحُكْمُهَا حُكْمُ الأَمَةِ .....

لما قدم أن اللعان في الزوجة دون الأمة، ذكر هذه لأنها مركبة من القسمين، وهي إذا اشترى زوجته ثم ظهر بها حمل، قال في النوادر: ولو اشترى زوجته ثم ظهر بها حمل فإن علم أنها كانت يوم الشراء حاملاً، لم ينفه إلا بلعان، إلا أن يكون وطأها بعد رؤية الحمل، فلا ينفه، وإن لم يعلم أكانت حاملاً يوم الشراء أم لا، حتى ظهر الحمل، وأتت به لأقل من ستة أشهر، فالولد للنكاح، ما لم يطأ بعد الشراء.

الشيخ أبو محمد: قوله: (ما لم يطأها بعد الشراء)، يريد إذا أتت به لأكثر من ستة أشهر، وقد روى ابن سحنون عن أبيه، أنه إذا لم يطأها بعد الشراء فحيضتين، قال: ولو وطئها بعد الشراء، فلا ينفيه بلعان ولا بغيره، استبرأها بعد الوطء أو لم يستبرها، إلا أن يدعي أنه استبرأها بعد أن وطأها، فهذا ينظر، فإن ولدت لأقل من ستة أشهر فهو للنكاح، لا ينفيه إلا بلعان، وإن ولدت لستة أشهر فأكثر، فله نفيه بغير لعان إن ادعى استبراء بعد الوطء الذي هو بعد الشراء، وإن لم يدع استبراء فهو منه، انتهى.

وذكره في الجواهر بنصه، وعلى هذا فكلام المصنف مقيد بما إذا لم يعلم أنه كانت حاملاً يوم الشراء، أو بما إذا لم يطأها [397/أ]، وقولهم: إنها إذا ولدته لستة أشهر فأكثر، أن له نفيه بغير لعان، يريدون بغير يمين.

وحُكْمُهُ رَفْعُ الْعُقُوبَةِ عَنْهُ أَوِ الأَدَبُ كَالأَمَةِ والذِّمِّيَّةِ

اعلم أنه يترتب على اللعان ستة أحكام، ثلاثة على لعانه وثلاثة على لعانها، فالثلاثة الأول: سقوط الحد عنه وهو مراد المصنف بقوله: (الْعُقُوبَةِ)، ولذلك عطف عليه (الأَدَبُ)، الثاني: وجوب حد الزنا عليه، الثالث: قطع النسب.

ص: 601

والثلاثة الأخر: سقوط الحد عنها، والفراق وتأبيد التحريم، وقيل في الأخيرين أنهما يترتبان على لعانه، وقوله: كالأمة والذمية راجع للأدب، فإن قاذفها لا حد عليه، وإنما عليه الأدب.

وإِيجَابُهَا عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي تُحَدُّ في الإِقْرَارِ مَا لَمْ تُلاعِنْ

أي: وإيجاب العقوبة، وهذا هو الثاني من الأحكام المترتبة على لعانه، وأخرج بقوله:(التي تحد بالإقرار) الصبية والذمية، وتصور كلامه ظاهر.

وتَحْرِيمُهَا أَبَداً بِتَمَامِ لِعَانِهَا، فلو أَكْذَبَ أَحَدُهُمَا نَفْسَهُ قَبْلَ تَمَامِ لِعَانِهَما حُدَّ وبَقِيَتْ زَوْجَتُهُ، ويَتَوَارَثَانِ وإِنْ رُجِمَتْ ....

ما ذكره من تحريمها أبداً هو المعروف، وذكر ابن شعبان عن عبد العزيز بن أبي سلمة أنه قال: تحل بنكاح جديد، وقاله ابنه عبد الملك في الثمانية.

اللخمي وأشهب ينحوا إليه، وقوله:(بِتَمَامِ لِعَانِهَا): يدل على أن الفراق يقع لمجرد التعانها، وهو المذهب، خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله، في قوله: لا تقع الفرقة بلعانها، حتى يوقعها الحاكم بينهما.

فرع:

والفرقة في اللعان فسخ بغير طلاق، قال في المقدمات: هذا مذهب مالك وجميع أصحابه، وقال جماعة من أصحابنا أنه طلقة بائنة، وفي الجلاب، أن الملاعنة قبل البناء لا صداق لها، خلاف قول مالك في المدونة والموطأ، أن لها نصف الصداق، وبناه اللخمي على أن فرقة المتلاعنين هل هي فسخ فلا شيء لها، أو طلاق فلها، وفيه نظر، فإن المعروف أن لها النصف، وأن فرقة المتلاعنين فسخ، ولكن لما كنا لا نعلم صدق الزوج، ولعله أراد تحريمها وإسقاط حقها من نصف الصداق، اتهم في ذلك، وألزم نصف الصداق، ويحتمل أن يكون إنما التزمه النصف مراعاة لقول من قال هو طلاق.

ص: 602

عبد الحق واللخمي وابن يونس وابن بشير وغيرهم: وفي الجلاب أيضاً في الذي يشتري زوجته قبل البناء أنها يجب لها نصف الصداق، وهو خلاف المعروف في المذهب. خليل: ولم أر ما ذكروه عن الجلاب فيه بل فيه النص على خلاف ما نقوله عنه، وقول المصنف:(فلو كذب أحدهما نفسه قبل تمام لعانهما حد وبقيت زوجة) ظاهر، لأن من أكذب نفسه منهما قد أقر على نفسه بما قال الآخر، فالرجل يحد حد القذف، والمرأة تحد حد الزنا، جلداً إن كان أو رجماً.

قوله: (ويَتَوَارَثَانِ وإِنْ رُجِمَتْ)، لأنه إذا كذب أحدهما نفسه قبل تمام لعانهما، فهما على الزوجية، فلذلك يتوارثان ولو رجمت، لأنها رجمت وهي زوجة، واختلف إذا شهد الزوج عليها مع ثلاثة، فرجمها القاضي، ثم عثر على ذلك، فهل يرثها هذا الزوج، فقال ابن القاسم: يرثها إلا أن يعلم أنه تعمد الزور، أو يقر بذلك، وقال أصبغ: لا يرثها، والفرق بينها وبين مسألة المصنف ظاهر، لأن البينة موجبة للرجم، ومجرد الدعوى في مسألة اللعان لا توجبه، لأنها قادرة على رده بأيمانها.

ولَوِ اشْتَرَاهَا وأَقَرَّ بِالْكَذِبِ أو انْفَشَّ الْحَمْلُ لَمْ تَحِلَّ له

يعني: إذا لاعن زوجته الأمة، فرق بينهما، ثم اشتراها لم تحل له بالملك، لأن تحريم اللعان مؤبد، وإن أقر بالكذب لم ينفعه، كما لا ينفعه ذلك في الحرة، وقد تقدم ذلك في الحرة، وقد تقدم الكلام على انفشاش الحمل.

وَقِيلَ: وبِلِعَانِهِ

هذا راجع لصدر المسألة، تقديره: وتحريمها أبداً بتمام لعانها، وقيل: وبلعانه، ويقع في بعض النسخ هذا القول متصلاً بالقول الأول، وهذا القول حكاه ابن شاس، وهو مقتضى ما وقع لسحنون في نوازله، أنه إذا لاعنها ونكلت عن اللعان، أن ذلك قطع

ص: 603

للعصمة، وقال في البيان: لا خلاف إذا صدقته أنها تحد، وتكون زوجة، إن شاء طلق، وإن شاء أمسك، وإنما اختلفا وهل ينتفي الولد منه دون لعان، أو لا ينتفي إلا بلعان، وقد أنكر أبو بكر بن عبد الرحمن قول سحنون لمخالفته الأصول، وكذلك قال الباجي: لا خلاف عند أصحابنا أنها لو لم تلاعن أو أكذب نفسه قبل تمام لعانها لم تثبت بينهما فرقة، وكأنهما لم يعتبرا قول سحنون.

وقَطْعِ النَّسَبِ إِنْ نَفَى الْوَلَدُ

هذا راجع أيضاً لصدر المسألة، وهو ظاهر.

فَلَوْ نَكَلَ عَنِ اللَّعَانِ حُدَّ

قد تقدم هذا الفرع، وأعاده المصنف ليرتب عليه ما بعده، وهو قوله:

فَإِنْ عَادَ إِلَيْهِ قُبِلَ، وفِي قَبُولِهِ مِنَ الْمَرْأَة: قَوْلانِ

يعني: إذا أعاد الرجل إلى اللعان بعد نكوله، قبل ذلك منه، وظاهر كلامه أنه متفق عليه، لأنه لم يحك الخلاف، إلا في المرأة، وهي إحدى الطريقتين، قال في المقدمات: وهي الصحيحة، [397/ب] قال: وقيل إن الخلاف الذي في المرأة يدخل في الرجل، وحكى المتيطي في القبول من الرجل قولين، قال: والصحيح أنه لا يقبل لأن نكوله كإقراره بالقذف، وليس له الرجوع عنه. والقول بقبول اللعان من المرأة إذا عادت إليه لأبي بكر ابن عبد الرحمن وأبي علي بن خلدون.

الباجي: وعندي أن لابن القاسم في الموازية مثله، والقول بأنها ليس لها الرجوع إلى اللعان لسحنون وأبي عمران وابن الكاتب، ومنشأهما هل نكولها كإقرار بالزنا، فيقبل رجوعها، أو يقال حق الزوج قد تعلق بنكولها، فلا يكون لها الرجوع، قال في المقدمات: وقبول رجوعها هو الصحيح، فإن قيل: فهل يظهر فرق على الطريقة التي ذكرها

ص: 604

المصنف، قيل: نعم، وذلك لأن الزوج مدع، والزوجة مدعى عليها، فإن نكل الزوج فكأنه صفح عنها، وأيضاً فإنه ما انحصر أمره، بل له أن يقيم البينة، وأما هي فإنها مدعى عليها، فإن نكلت فقد صدقته، وأيضاً فقد انحصر أمرها فيه.

وَحُكْمُ التَّوْءَمَيْنِ حُكْمُ الْوَاحِدِ ولِذَلِكَ يَنْتَفِي الثَّانِي بِاللَّعَانِ الأَوَّلِ، ولِذَلِكَ ثبتت لَهُمَا أُخُوَّةُ الأَبِ أَيْضاً ....

أي: حكم الولد الواحد، فلا يمكن لحوق أحدهما ونفي الآخر، ولذلك إذا لاعن لأولهما خروجاً، انتفى الثاني بذلك اللعان، وإلى هذا أشار بقوله:(فلِذَلِكَ يَنْتَفِي الثَّانِي بِاللَّعَانِ الأَوَّلِ)، وأفاد بقوله:(أُخُوَّةُ الأَبِ أَيْضاً)، أنهما إخوة أشقاء، وهذا هو المشهور، وقال المغيرة أنهما يتوارثان لأم كالمشهور في توأمي الزانية والمغتصبة، خلافاً لابن نافع في قوله أن توأمي الزانية شقيقان، وأما توأمي المسبية والمستأمنة، فإنهما يتوارثان لأب وأم، قاله في البيان.

ومَتَى اسْتُلْحِقَ أَحَدُهُمَا لَحِقَ الآخَرُ وإِنْ نَفَى أَحَدَهُمَا وأَقَرَّ بالآخَرِ حُدَّ، ولَمْ يَنْتَفِ شَيْءٌ .....

هذا لما ذكره أنهما كالولد الواحد.

فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا سِتَّةٌ فَصَاعِداً فَهُمَا بَطْنَانِ إِلا أنَّهُ قَالَ: إِنْ أَقَرَّ بِالثَّانِي وقَالَ: لَمْ أَطَأها بَعْدَ الأَوَّلِ سُئِلَ النِّسَاءُ فَإِنْ قُلْنَ إِنَّهُ يَتَأخَّرُ هَكَذَا لَمْ يُحَدّ، بِخِلافِ مَنْ أَقَرَّ بِوَلَدِ زَوْجَتِهِ وقَالَ لَمْ اَطَاهَا حُدَّ ....

معناه أن الحكم الذي قدمه إنما هو إذا لم يكن بين وضعهما ستة أشهر، وأما إن كان بينهما ستة أشهر فأكثر، فليسا بتوأمين، إلا أنه قال، أي في المدونة: ففيها، وإن وضعت الاثني لستة أشهر فأكثر فهما بطنان، فإن أقر بالأول ونفى الثاني، وقال: لم أطأها بعد ولادة

ص: 605

الأول، لاعن ونفى الثاني، إذ هما بطنان، فسكت المصنف عن هذا الفرع لجريانه على أصل كونهما بطنين، ثم قال فيها: وإن قال: لم أجامعها بعدما ولدت الأول، وهذا الثاني مني فإنه يلزمه، لأن الولد للفراش، ويسأل النساء، فإن قلن أن الحمل يتأخر هكذا، لم ي حد، وإن قلن لا يتأخر، حد ولحق به، وهذا هو الفرع الذي ذكره المصنف، إلا أن فيه إشكالاً، لأن النساء إذا قلن أنه يتأخر هكذا، كان حكم الجميع حكم الحمل الواحد، فكان ينبغي أن يحد لتكذيبه نفسه في نفيه الأول، وكأنه إنما أسقط الحد لأن قول النساء لا يحصل به القطع، فكان ذلك شبهة تسقط الحد، ويرد على هذا أنه لو كان كذلك للزم أيضاً سقوط الحد إذا قلنا أنه لا يتأخر، لأن قولهن لا يحصل به القطع، وقد نص في المدونة على وجوب الحد في ذلك، وقوله: بخلاف إلخ، هكذا قال في المدونة، فقال بإثر الفرع المتقدم: بخلاف الذي يتزوج امرأة ولم يبن بها حتى أتت به لستة أشهر من يوم تزوجت، فأقر به الزوج، وقال لم أطأ منذ تزوجتها، هذا يحد ويلحق به الولد.

ابن المواز: وكأنه قال: حملت من غيري، ثم أكذب نفسه باستلحاقه، ابن يونس: يريد ولا يسأل في هذا النساء، كما يسألن في المسألة التي قبلها.

* * *

انتهى المجلد الرابع

من كتاب التوضيح

للشيخ خليل بن إسحاق الجندي

ويليه المجلد الخامس وأوله

كتاب العدد

ص: 606