الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة الطبعة الأولى
الحمد لله الذي خلق كلَّ شيءٍ فقدَّره تقديرًا، والصلاة والسلام على من أرسله الله للعالمين بشيرًا ونذيرًا، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بكرةً وأصيلًا.
أما بعد؛ فلا يخفى على من سَبَر سِيَر العلماء وتأمَّلها وفحصها، ثم أراد أن يستخرج من جَمَع منهم بين العلم حتى صار من المجتهدين المحققين، وبين العمل حتى صار قدوة للعامِلِين العابدين، فإنه لا يخرج إلا بِبَرَضٍ من عِدٍّ، وقُلٍّ من كُثْرٍ؛ ولا غَرْوَ؛ فإن أولئك الذين جمعوا أطراف الفضائل وخصال الكمال يندر وجودهم، فيكون منهم في الزمان البعيد واحد تِلْوَ آخر.
ولا يشك كلُّ مُطَّلع أن شيخَ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيميَّة النُّميري الحراني ثم الدمشقي أحد أولئك العلماء المتحقِّقين
(1)
المصلحين، والرواد المجدّدين، الذين أفنوا أعمارهم في العلم
(1)
(تنبيه): أنفع طرق العلم الموصِلة إلى التحقُّق فيه: أخذه عن العلماء المتحققين به على الكمال والتمام، ويكون العالم مُتحققًا إذا تحلَّى بأمارات وعلامات، وهي ثلات:
1 -
العملِ بما عَلِم، حتى يكون قوله مطابقًا لفعله، فإن كان مخالفًا له؛ فليس بأهلٍ لأن يؤخَذ عنه.
2 -
أن يكون ممن ربَّاه الشيوخ في ذلك العلم، فهو الجدير إذن أن يتَّصِف بما اتصفوا به، وهذه طريقة السلف.
3 -
الاقتداء بمن أخذ عنه، والتأدُّب بأدبه، كما اقتدى الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم والتابعون بالصحابة، وهكذا. انظر:«الموافقات» : (1/ 139 - 145)، (5/ 262) للإمام الشاطبي.
والتعليم، والجهاد والإصلاح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلم يُعرف في زمنه، بل ولا قبله بقرون ــ كما صرح به غير واحد ــ أكثر منه علمًا وعملًا وجهادًا، وشجاعةً وكرمًا، وسيرًا على قانون السلف، وقمعًا لأهل البدع، وكثرةَ تآليف.
حازَ الشَّريفَيْنِ مِن عِلْمٍ ومن عملٍ
…
وقلَّما يتأتَّى العلمُ والعَمَلُ
نقول: فخليقٌ بمن هذه حاله؛ في كثرة محاسنه، وحسن مكارمه، وعظيم مفاخِره، واتصال محامده، وعلوِّ مبانيه = أن يُفْحَصَ عن خَبره، ويُبْحَث عن أثره، ويُنَقَّر عن أمره وحاله وسيرته، لتكون نبراسًا للاهتداء، وعلمًا للاقتداء.
«فإن المتأخِّر متى وقف على خبر من تقدَّمه من الفضلاء، أو سمع كيف تشميرهم وإقبالهم على العلم وطلبه؛ تاقت نفسُه إلى الاقتداء بهم، والانسلاك في سلكهم، والتحقيق لفضلهم وتجميلهم
…
فقد يحث
…
الجبانَ إلى المعركةِ فرسانُ الطِّعان، ويُهيِّج الحادي أشواقَ القوافل، وإن كان عن معنى ما يأتي به غافل»
(1)
اهـ.
فلما أردنا سلوك هذا السبيل، والولوج في هذا المَهْيَع، لاحت لنا طرائق شتَّى في جمع مادة الترجمة والإحاطة بمتفرِّقاتها، ولَمِّ شَعَثِها، إلا أن طريقة عصريَّة قد بدت لنا لتنهض بهذه المهمة، وهي: جمع تراجِمه المتفرقة في كتب التواريخ والسير والطبقات ونحوها، واستقصاء ذلك ما أمكن، ثم سياقتها على الترتيب الزمني لمؤلِّفيها، بداية من عصره، وانتهاءً بنهاية القرن الثالث عشر الهجري (1300).
(1)
قاله الجَنَدِيُّ السَّكْسَكي (732) في «السلوك» : (1/ 65 - 66).
وهذه الطريقة لم نكن أوَّل من اخترعها، ولا أول من سلكها، بل سبق إليها عددٌ من المعاصرين في دراساتهم عن بعض الشخصيات منها:
- ابن الراوندي (298)، كتب عنه عبد الأمير الأعسم:«تاريخ ابن الراوندي الملحد» (ط. بيروت 1975 م).
- دراسة عن الحَلَّاج (309)، كتبها المستشرق ماسينيون (باريس 1914 م).
- المتنبي (354)، كتب عنه عبد الله الجبوري:«المتنبي في آثار الدَّارسين» (ط. بغداد 1978 م).
- أبو العلاء المعرِّي (449)، كتب عنه مجموعة من الباحثين:«تعريف القدماء بأبي العلاء» (ط. القاهرة 1944 م).
- ابن حزم الأندلسي (456)، كتب عنه أبو عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري:«ابن حزم خلال ألف عام» أربعة أجزاء (ط. دار الغرب الإسلامي، 1401).
- الغزالي (505)، كتب عنه عبد الكريم العثمان:«سيرة الغزالي وأقوال المتقدمين فيه» (ط. دمشق 1961 م).
- ابن رُشْد (595)، جمع أهم تراجمه جورج قنواتي في «مؤلفات ابن رشد» (ط. القاهرة 1978 م).
- ابن خلدون (808)، جمع أهم تراجمه عبد الرحمن بدوي في «مؤلفات ابن خلدون» (ط. القاهرة 1961 م).
كما اهتم بعض الدارسين ببعض الأعلام فصنعوا ببلوغرافيا، تشير إلى البحوث والدراسات التي كُتِبت عنها في العصر الحديث؛ كما هو الحال في:(الفارابي، وابن سينا، وأبي بكر ابن العربي، والقاضي عياض)، كما أُفردت كتبٌ بإحصاء مؤلفات علم ما ــ ويكون من المكثرين غالبًا ــ وبيان ما طُبع منها وما لم يزل مخطوطًا، مثل:(الغزالي، وابن الجوزي، وابن خلدون، والسخاوي، والسيوطي ــ مرَّات ــ).
ولا يخفى ما لهذه الأعمال المتقدمة من أثر محمود في الدراسات التي ظهرت بعد ذلك عن هذه الشخصيات.
وشيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله أوْلَى من خُدِم بمثل هذه الدراسات والترجمات والإحصائيات؛ فهو العالم حَقًّا، والإمام صِدْقًا.
من النَّاسِ مَن يُدعَى الإمام حقيقةً
…
ويُدعَى كثيرٌ بالإمامِ مجازَا
ولكنْ مَتَى يخفى الصباح إذا بَدَا
…
وحلَّ عن الليلِ البهيمِ طِرَازَا
ومع كثرة ما كُتِبَ عنه من البحوث والدراسات والتحقيقات = إلا أننا نفقد ــ مع الأسف ــ تلك الدراسة الموعبة الشاملة التي ألمحنا إليها، فلم يتقدَّم أحدٌ ــ حتى الآن ــ بجمع ما تفرَّق في المصادر القديمة في ترجمة شيخ الإسلام، فكان لنا شرف القيام بهذه المهمة؛ فالحمد لله على توفيقه.
ولا يفوتنا هنا أن نُلْمِح إلى ما قام به الدكتور صلاح الدِّين المنجِّد؛ فقد نشر كتابًا بعنوان: «شيخ الإسلام ابن تيمية: سيرته وأخباره عند المؤَرِّخين» (ط. بيروت 1976 م) جمع فيه سبع عشرة ترجمة ورتبها ترتيبًا زمنيًّا
(1)
.
(1)
ثلاثٌ منها لا تُعدُّ من التراجم، وهي: النصيحة الذهبية (وفي ثبوتها نظر كبير)، وزغل العلم، والإعلان بالتوبيخ؛ لذا لم ندخلها في هذا «الجامع» .
ومع اقتصاره على هذا العدد من التراجم، فقد وقع في عدد غير قليل من الأخطاء، وهي:
1 -
أنه أقحم في نصوص هذه التراجم ما ليس منها؛ ففي «الذيل على طبقات الحنابلة» لابن رجب (795) ادَّعى وجود سقط في آخر الترجمة عند تَعْدَاد ما اسْتُغْرِب للشيخ من أقوالٍ فقهية، وذلك بالاعتماد على زيادة وردت في «شذرات الذهب» لابن العماد (1089) وهو ينقل من «ذيل ابن رجب» ! !
وعند الرجوع إلى نسخ الكتاب (نَعني: الذيل) الموثَّقة
(1)
؛ لم نجد تلك الزيادة التي أقحمها المنجِّد اعتمادًا منه على مجرَّد الظن!
2 -
أنه أسقط من بعض المصادر نصوصًا مهمة، ويتضح ذلك في كتابين:
الأول: كتاب «أعيان العصر وأعوان النصر» (مخطوط)
(2)
للصفدي (764). حيث حذف منه ما يُعادل نصف الترجمة بحجة أنه تكرَار لما في «الوافي بالوفَيَات» ، والواقع خلاف ذلك، ففي «الأعيان» زيادات كثيرة خلا عنها «الوافي» ، منها قصيدة ضادية للمؤلف في رثاء شيخ الإسلام، لا توجد في المصادر الأخرى وانفرد بها هذا الكتاب.
(1)
وهذه النسخ الموثقه عند الأستاذ الدكتور عبد الرحمن العثيمين ــ وفقه الله ــ وقد راجعها بنفسه، وأفاد بعدم وجود تلك الزيادات. وقد طبع الكتاب بتحقيقه في خمسة مجلدات مع تعليقات ضافية واستدراكات واسعة.
(2)
طبع حال نشر هذا «الجامع» في دار الفكر بدمشق.
الثاني: كتاب «البداية والنهاية» لابن كثير، فقد حذف منه نصوصًا مهمة، ولعله غفل عنها، منها قصة عسَّاف النصراني، وهي التي في إثرها ألَّفَ شيخُ الإسلام كتابَه «الصارم المسلول على شاتم الرسول» .
3 -
التصحيف والتحريف الواقع في الترجمات، وهو كثير!! ويكفي أن يُقارن القارئ بين ما أثبتناه من «أعيان العصر» للصفدي، وبين ما نشره منه. وهذا مثال واحد، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.
وبعد؛ فكتابه لا يحتوي إلا على سبع عشرة ترجمة ــ كما سلف ــ ففاته الكثير مما كتبه تلاميذ شيخ الإسلام، والمعاصرون له، ومَنْ بعدهم، مما له أهمية كبيرة في الكشف عن المزيد مما يتعلق بترجمة شيخ الإسلام وآثاره، كما ستراه مجموعًا في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى؛ فكان مجمل ما لم يذكره في كتابه وهو في مجموعتنا هذه أكثر من سبعين كتابًا.
• أهمية هذا الجامع:
يتلخص عملنا في هذا الكتاب في جمع كل ما يتعلَّق بترجمة شيخ الإسلام في المصادر القديمة؛ من القرن الثامن إلى نهاية القرن الثالث عشر، سواء أكانت ترجمةً ضمن كتابٍ، أو رسالة في مدح الشيخ والثناء عليه والوصاية به والتشوّق إلى لقائه، أو مذكرات عن حياته، أو فهرسًا لمؤلفاته.
وكان اعتمادنا في هذا الجمع على الاستقراء والتتبُّع لكتب التواريخ والتراجم، وفهارس المخطوطات، وتقليب أجلادٍ وأجلادٍ من الكتب المطبوعة والمخطوطة بُغْية الحصول على ما تقدّم مما له علاقة بترجمته، وبذلنا في هذا السبيل غاية الوسع رجاء اكتمال مادته، وحصول ما رُمْناه من فوائد وعوائد، وهي كثيرة أهمها:
* أنه يقدّم للباحث ثبتًا كاملًا بكل الترجمات المتفرقة في المصادر لهذا الإمام، مما يُغْنيه عن الرجوع إلى عشرات الكتب المطبوعة والمخطوطة، فيوفر عليه الجهد والوقت.
* نشر عددٍ من الترجمات المخطوطة، وهي تُعَدُّ من المصادر المهمة في ترجمته، وقد بلغ عددها: اثنتي عَشرة ترجمة.
* أنه بضمِّ هذا الكتاب إلى التراجم المفردة للشيخ ــ وأهمُّها كتاب ابن عبد الهادي (744)«العقود الدرية» -يُمثِّل ترجمةً شاملة متكاملة لشيخ الإسلام ابن تيمية يُسْتَغْنَى بها، ولا يحتاج في الغالب معها إلى غيرها.
* أن هذا الجمع يُظهر لنا الكتب الأصيلة التي قدمت لنا معلومات موثقة ومستوعبة، ويُظهِر التراجم الأخرى التي لا تعدو أن تكون اختصارًا أو انتقاءً أو تَكْرَارًا أو تحريفًا لما في المصادر الأصيلة.
* أن هذا الجمع يُعطي الباحث الفرصة السانحة والمجال الأرحب للمقارنة بين هذه المصادر، والكشف عن مقدار اقتباس المتأخر من المتقدم، ومن ثَمَّ يتنبَّه إلى عدم الاعتماد على المصادر المتأخرة في بحوثه وتحقيقاته ما أمكنه ذلك.
* أنه يعطي الباحث ــ أيضًا ــ فرصةَ اعتبار المعلومات في هذه التراجم فيعرف الموثَّق منها والمزيَّف، وما تفرَّدت به بعض المصادر، وما حُكي في البعض الآخر على الاحتمال وجُزِم به في مكان آخر، وما رُوي مُجملًا في مصدر، وفُصِّل في مصدرٍ آخر، وهكذا.
* أنه يعطي الباحث فرصة لتكوين صورة صادقة متكاملة عن المترجَم
له، وكيف كان أولئك المؤرخون والعلماء ينظرون إليه وإلى آرائه؛ على اختلاف مذاهبهم، ومشاربهم، وعصورهم، وثقافاتهم، ولماذا كان الاهتمام به وبأفكاره وبكتبه قويًّا أو ضعيفًا في حقبة ما أو مكان ما؟
* أن هذا المجموع يمكّننا من دراسة كتبه وآثاره
(1)
، وتوثيق نسبتها إليه، وحصرها بدقة.
* أنه يُصحِّح كثيرًا من الأخطاء والتصحيفات الواقعة في كثير من الكتب لتكرر المعلومات وتشابهها.
* تصحيح نسبة كتاب «مؤلفات شيخ الإسلام» المنسوب لابن القيم.
كما أن هذا «الجامع» يُصوِّبُ خطأً قديمًا تتابع الباحثون عليه، فمنذ أن نشر الدكتور صلاح الدِّين المنجد «أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيميَّة» منسوبًا لابن قيم الجوزية (751) رحمه الله في «مجلة المَجْمع العلمي العربي» بدمشق (28/ 1953/ 371 - 395)
(2)
= لم يشكّ أحدٌ من الباحثين في صحة هذه النِّسبة إلى ابن القيم، بل اعتمدوه في دراساتهم عن شيخ الإسلام، أو عن تلميذه ابن القيم، وذلك على مدار نحو نصف قرنٍ من الزَّمان!!
وقد اعتمد المنجد في نشرته تلك على نسخةٍ خطِّيةٍ موجودة في دار الكتب الظاهرية برقم (4675 - عام)، وهي بخط الشيخ جميل العَظْم
(3)
(1)
انظر «فهرس الكتب» : (ص 920 - 948).
(2)
ثم أُفرد في رسالة.
(3)
وقد جَزَم العظمُ بنسبتها إلى ابن القيم، وعليه اعتمد المنجد!
صاحب كتاب: «عقود الجوهر في تراجم من له خمسون مصنَّفًا فمئة فأكثر» ، نسخها سنة (1315).
وهذه النسخة لا تعدو أن تكون تهذيبًا وترتيبًا للكتاب الأصل في «مؤلفات شيخ الإسلام» ، ويترجَّح لنا أن الشيخ جميلًا العظم قد هذبها لتكون مادة يقتبس منها في كتابه السالف الذكر.
وتحققنا أنها تهذيب بعد وقوفنا على نسخة أُخرى من الكتاب، في دار الكتب الظاهرية ــ أيضًا ــ برقم (11479)، وهي عبارة عن «دفتر منوعات» بخط الشيخ العلَّامة طاهر الجزائري رحمه الله كتبه سنة (1318)، أوله:«أسماء مؤلفات شيخ الإسلام» (ق/ 1 - 8)، وكتب الشيخ طاهر بعد البسملة:«الظاهر أن هذه الرسالة لتلميذه ابن القيِّم»
(1)
.
فقمنا بالمقابلة بين هذه النسخة، وبين نسخة العَظْم ــ التي اعتمدها المنجد ــ فوجدنا في نسخة الجزائري زياداتٍ كثيرة، في المقدمة، وفي ذكر بعض الكتب، وفي معلومات عن كثير من الكتب، فعلمنا أن نُسْخة العظم ما هي إلا تهذيب للكتاب الأصل
(2)
.
هذا أمرٌ.
(1)
تحرَّفت «ابن القيم» إلى «إبراهيم» في فهرس مخطوطات الظاهرية (قسم التاريخ): (2/ 524 - 526)، وهكذا نسَبَ المفهرِس هذه الرسالة إلى شخصية وهمية لا وجود لها! !
(2)
انظر نموذجًا من الفروق بين النسختين في مقدمة «قاعدة في الاستحسان» لشيخ الإسلام ابن تيمية: (ص 10 - 11)(ط. دار عالم الفوائد 1419) تحقيق: محمد عُزَير شمس.
والأمر الثاني: أنا وجدنا الإمام ابن عبد الهادي (744) في كتابه «العقود الدرية»
(1)
قد اقتبس نصوصًا من هذه الرسالة، ونسبها إلى أبي عبد الله بن رُشَيِّق، فقال: «قال الشيخ أبو عبد الله بن رُشيق ــ وكان من أخصِّ أصحاب شيخنا وأكثرهم كتابةً لكلامه وحرصًا على جمعه ــ: كتب الشيخ رحمه الله نقول السلف مجردة عن الاستدلال على جميع القرآن، وكتب في أوله قطعة كبيرة بالاستدلال. ورأيتُ له سورًا وآياتٍ يُفسِّرها، ويقول في بعضها: كتبته للتذكُّر، ونحو ذلك.
ثم لما حُبس في آخر عمره؛ كتبتُ له أن يكتب على جميع القرآن مرتبًا على السور، فكتب يقول: إن القرآن فيه ما هو بيِّن بنفسه، وفيه ما قد بيَّنه المفسرون في غير كتاب؛ ولكن بعض الآيات أشكلَ تفسيرُها على جماعةٍ من العلماء، فربما يطالع الإنسان عليها عدة كتب ولا يتبين له تفسيرها، وربما كتب المصنِّف الواحد في آيةٍ تفسيرًا، ويفسِّر نظيرها بغيره، فقصدت تفسير تلك الآيات بالدليل؛ لأنه أهم من غيره، وإذا تبين معنى آية تبيَّن معاني نظائرها.
وقال: قد فتح الله عليَّ في هذا الحصن في هذه المرة من معاني القرآن ومن أصول العلم بأشياء مات كثير من العلماء يتمنونها، وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن، أو نحو هذا. وأرسل إلينا شيئًا يسيرًا مما كتبه من هذا الجنس، وبقي شيءٌ كثير في سلة الحكم عند الحكام لمَّا أخرجوا كتبه من عنده، وتوفي وهي عندهم إلى هذا الوقت نحو أربعَ عشرة رِزْمة.
(1)
(ص 39 - 42) ط. دار عالم الفوائد.
ثم ذكر الشيخ أبو عبد الله ما رآه ووقف عليه من تفسير الشيخ» اهـ.
نقول: هذا النصُّ برمَّته في «مؤلفات ابن تيمية» المنسوب لابن القيم! فتبيَّن من هذا أنه لابن رُشيق لا لابن القيم.
وابنُ رُشَيِّق هذا هو: أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد سِبْط ابن رُشَيِّق المالكي
(1)
، المتوفى سنة (749).
وكان ابن رُشَيِّق ــ كما يقول ابن كثير
(2)
ولا تسعفنا المصادر التي ذكرت ابن رشيق
(3)
بمعلومات كافية عنه،
(1)
واسمه هذا منقول من خطه في آخر رسالة «الاجتماع والافتراق» لشيخ الإسلام. انظر «الأعلام» : (1/ 144) للزركلي، وكذا في آخر «رسالة في العقل والروح» بخطِّه كما في مجموعة الرسائل المنيرية:(2/ 49)، (وقد تحرَّف فيها «ابن رشيق» إلى «مرشق»).
(2)
«البداية والنهاية» : (14/ 241) ط. الريان، ووقع فيه:«عبد الله بن رُشَيِّق» وهو خطأ مطبعي لا ريب، والصواب: أبو عبد الله، كما جاء في السطر الذي يليه، وعلى هذا الوهم ترجم له الزركلي في «الأعلام»:(4/ 86) في من اسمه: عبد الله، وحتى يستقيم له هذا حَذَف:«أبو» التي جاءت على الصواب في السطر الثاني من كلام ابن كثير! !
(3)
. انظر لترجمته: «العقود الدرية» : (ص 27)، و «المشتبه»:(ص 317) للذهبي ونعته بـ: «صاحبنا الفقيه» ، و «البداية والنهاية»:(14/ 241)، و «ذيل مشتبه النسبة»:(ص 27) لابن رافع، و «توضيح المشتبه»:(4/ 195) لابن ناصر الدين، وحاشيته، و «تبصير المنتبه»:(2/ 605 - 606) لابن حجر، و «تاريخ ابن قاضي شُهْبة»:(2: 1/ 655 - 656)، و «رسالة ابن مُرِّي إلى تلاميذ شيخ الإسلام»:(ص 194، 195، 196، 197) في مجموعتنا هذه.
أكثر مما لخَّصه ابن كثير، إلا أن المصادر تُجمع على أن ابن رُشَيِّق هذا كان ملازمًا لشيخ الإسلام، عارفًا بخطه، بل أعرف من الشيخ نفسه، مكثرًا من كتابة كلامه، لا يختلف عليه أصحاب الشيخ أنفُسُهم في هذه الأمور، وقد تقدم كلام ابن عبد الهادي وابن كثير، ثم وجدنا كلامًا غايةً في الأهمية للشيخ شهاب الدِّين ابن مُرِّي الحنبلي في رسالته التي وجهها إلى تلاميذ الشيخ ــ بعد وفاته ــ وفيها حثهم على الاهتمام بكتب الشيخ والاعتناء بها ونسخها، والاستعانة بالشيخ أبي عبد الله
(1)
ابن رشيق فإنه أعلم الجماعة بهذا الأمر على الإطلاق، قال: «فاحتفظوا بالشيخ أبي عبد الله ــ أيَّده الله ــ وبما عنده من الذخائر والنفائس، وأقيموا لهذا المهم الجليل بأكثر ما تقدرون عليه، ولو
(1)
. ذكره ابن مري في رسالته أكثر من مرة بالكنية، ولم يصرِّح باسمه، فظن الباحثون أن المقصود به: ابن القيم، وهو خطأ، والمقصود به: ابن رشيق بدلائل كثيرة في النص، أهمها:
1 -
أنه وصفه بالمعرفة التامة بخط الشيخ، وأنه أبرز الجماعة في الاضطلاع بهذه المهمة الشاقة، وهذا أمر تفرّد به ابن رُشَيِّق باتفاق أصحاب الشيخ ــ كما سبق ــ.
2 -
أنه ذكر أن أبا عبد الله هذا قليل ذات اليد، يجب مساعدته من الجماعة ليتفرغ للقيام بهذه المهمة، وهذا موافق لما ذكره ابن كثير من كثرة عياله وأنه مات مَدِينًا.
3 -
أنه قد ذكر في رسالته هذه ابن القيم بقوله: «ورُوْجع الشيخان الصالحان، الفاضلان المحققان: شرف الدين، وشمس الدِّين بن أبي بكر؛ فإنهما أحذق الجماعة على الإطلاق في المناهج العقلية وغيرها، وأذكرهم للمباحث الأصولية» اهـ ــ وأبعد النُّجْعة المعلِّق على رسالة ابن مُرِّي في المراد بشمس الدِّين بن أبي بكر ــ! !
فهذه دلائل واضحة، وبالله التوفيق والاستعانة.
تألمتم أحيانًا من مطالبته؛ لأنه قد بقي في فنِّه فريدًا، ولا يقوم مقامه غيره من سائر الجماعة على الإطلاق».
وقال: «والشيخ أبو عبد الله ــ سلَّمه الله ــ فهو بلا تردد واسطة نظام هذا الأمر العظيم، فأعدوه وأزيلوا ضرورته
…
» إلى آخر ما قال وكله شاهد لما ذكرنا.
فثبت بما تقدّم جميعه أن «مؤلفات ابن تيمية» لأبي عبد الله بن رُشَيِّق لا لابن القيم، فيجب على الباحثين تصويب هذا الخطأ، ونسبة الكتاب في بحوثهم وتحقيقاتهم ــ عن ابن القيم أو شيخه ــ إلى مؤلفه الحقيقي.
لكن مما يؤسف له: أن النسخة الثانية من هذا الكتاب وهي التي بخط الشيخ طاهر الجزائري، لا تُمثِّل إلا النصف الأول من هذه الرسالة المهمة، وليس فيه سوى ما يتعلق بالقرآن فقط، وقد كتب الشيخ طاهر الجزائري في آخر هذه النسخة:«انتهى ما يتعلق بالكتاب العزيز، وهذا الذي أردنا نقله الآن لغرضٍ. حُرِّر في ليلة 26 رمضان سنة 1318» .
وليتَه لم يقتصر على هذا القدر، ونرجو أنه لم يضع الأصل المنسوخ منه، الذي كان ضمن مجموع ذكره الشيخ طاهر الجزائري نفسه في هذا «الدفتر» وقال عنه (ق 30 ب):«في المجاميع عند بعض إخواننا» . ثم ذكر محتويات بعض المجاميع، منها:«المجموع الثالث» ، وسرد محتوياته، وهي
كما يلي (31 أـ ب):
1 -
المناقلة بالأوقاف، لأحمد بن قدامة الحنبلي (كراس 2).
2 -
رسالة في الوقف، للتقي [ابن تيمية]، أولها:«فصل في إبدال الوقف حتى المساجد بمثلها أو خيرٍ منها» . آخرها: «وقد قرَّب ابنا آدم قربانًا» . كتبت سنة 866 بخط أبي بكر بن زيد الجراعي.
3 -
رسالة الاحتجاج في بيان الوقف للتقي [ابن تيمية] أيضًا، أولها: «مسألة: واقف وقفَ وقفًا على أولاده ثم على
…
» (كراس 2).
4 -
سئل عن قوله ــ عليه السلام: «إن [الله] ينادي يوم القيامة بصوتٍ يسمعه مَن بَعُد كما يسمعه مَن قَرُب؛ أنا الملك، أنا الديان» ونحو ذلك من الأحاديث، فإن بعض الناس قال: لا يثبت لله صفة بحديث واحد». أجاب بعد الحمد: «الأصل في هذا الباب أن لا يتكلم الإنسان إلَّا بعلم
…
» (ورقة 12).
5 -
رسالة في أسماء كتبه. وكنّا نقلناها، كراس ناقص قليلًا.
6 -
العقيدة الواسطية.
7 -
عقيدة الشيخ موفق الدِّين [ابن قدامة](ورقة 7).
8 -
الرسالة القبرصية، أرسلها في تاريخ سنة تسع عشرة وسبع مئة، وكُتبتْ سنة 788.
9 -
رسالة في زيارة بيت المقدس. (ورقة 6).
10 -
مسألة: روى البخاري عن أبي هريرة
…
«ما ترددتُ عن شيء أنا فاعلُه تردُّدِي
…
». وبعده حديث الدجال. (ورقة 6).
11 -
في إشهار الحجاج السلاحَ عند مجيئهم إلى تبوك وغير ذلك. (ورقة 4).
12 -
فصل في تقبيل الجامدات واستلامها. (ورقة 2).
13 -
كتاب فيه كلام شيخ الإسلام ابن تيمية على حديث عمران بن حصين، وهي الرسالة العرشية.
14 -
رسالة في العمل بالخطوط، لعلاء الدِّين ابن مفلح.
15 -
كتاب أحكام أطفال المشركين، لمحمد المنبجي بخطه.
16 -
كتاب صفة المفتي والمستفتي، لنجم الدِّين ابن حمدان الحراني الحنبلي.
وقد بحثنا كثيرًا عن هذه المجموعة النفيسة في فهارس المخطوطات، فلم نجد لها ذكرًا، ولعلَّ الله يوفق أحد الباحثين للعثور عليها، وأحببنا أن نذكر جميع محتوياتها هنا؛ لِيُستَعان بها في البحث والتنقيب.
وحتى يظهر هذا الأصل ــ الذي نسخ عنه كل من الشيخ طاهر الجزائري والشيخ جميل العظم ــ اعتمدنا في نشرتنا على نسخة الشيخ طاهر حتى تنتهي، ثم كان الاعتماد في الباقي على نسخة الشيخ جميل العظم. ولم نقم بإثبات الفروق بين النسختين في الجزء المشترك بينهما، فإن الشيخ جميل العظم تصرَّف في إثبات العناوين تصرُّفًا كبيرًا، حيث اختصرَ وهذَّبَ، ورتَّبَ، وحذفَ ــ كما تقدم ــ.
أما نشرة الدكتور صلاح الدِّين المنجد فقد سقطت منها عناوينُ خمسة كتب، وأسطر عديدة من مواضع مختلفة في وصف الكتب والرسائل. وفيها تحريفات كثيرة لا مجال لذكرها هنا، ومن أراد ذلك فليقابل بينها وبين
أصلها الذي بخط الشيخ جميل العظم أو نشرتنا الجديدة لهذه الرسالة ضمن هذا المجموع.
* مصادر ترجمة شيخ الإسلام:
تتنوع وتكثر مصادر ترجمة عَلَمٍ ما باعتباراتٍ كثيرة؛ علمية واجتماعية وبلدانية ومذهبية.
فيُترجم تراجم مستقلّة؛ باعتبار كثرة التلاميذ الملازمين حضرًا وسفرًا، وكثرة مواد الترجمة.
ويُترجم في التواريخ العامة باعتبار أثره في سير الأحداث، ونشاطه العلمي، وكثرة تآليفه.
ويُترجم في طبقات الفقهاء، لاتصافه بالفقه، أو التزامه بمذهب معيَّن، وتعدد ترجمته في الكتب المقصورة على علماء فنٍّ ما باعتبار اتصافه بتلك الفنون.
ولقد حظي شيخ الإسلام رحمه الله بالترجمة في كتب كثيرة على اختلاف أنواعها المتقدمة، من قبل وفاته بمدة، وحتى كتابة هذه الأسطر، على اختلاف مواد هذه التراجم من حيث الطول والقِصَر، وأصالة المعلومات، والالتفات إلى أهم الأحداث.
فكان النَّصيب الأوفى من الجودة في تلك التراجم لتلاميذ شيخ الإسلام ومعاصريه؛ كالبرزالي، وابن عبد الهادي، والذهبي، وابن فضل الله، والبزَّار، وابن الوردي، والصفدي، وابن كثير.
وبعض تراجم معاصريه ما هي إلا نقلٌ من التراجم الأصيلة السابقة؛ إذ
ليس المقصود فيها أكثر من الوفاء بشرط الكتاب، كما هو الحال في تاريخ ابن شاكر، والفيومي، وعبد الباقي اليماني، واليافعي.
إلا أن هذه الكتب تزودنا بحقائق عن هؤلاء المؤلفين، ومواقفهم من شيخ الإسلام؛ لأنهم من مذاهب وبلدانٍ شتّى، ثم هي لا تخلو من فائدة جديدة يضيفها صاحب الترجمة، فقد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر.
أما التراجم المتأخرة عن عصر شيخ الإسلام؛ فأبرزها ترجمة الحافظ ابن رجب في «ذيله» ، فقد أفاد فيها وأجاد، وكذلك ترجم له ابن حجر في «الدرر» ترجمة طويلة، وكذا المقريزي في «المقفَّى» ، والعليمي في «المنهج» .
وهكذا تتابع التراجم على وتيرة واحدة من القرن الحادي عشر حتى نهاية الثالث عشر، إلا ما كان من الشوكاني (1250)، والكشميري (1298)، والقنَّوْجي (1307) فإنَّهم لاحتفائهم بالشيخ، كان لترجمته في كتبهم حلاوة وعليها طلاوة.
وقد قمنا بتتبع مصادر ترجمة شيخ الإسلام، وسنذكر كل ما وقفنا عليه من ذلك، سواء أكان مخطوطًا أو مطبوعًا أو مفقودًا على سبيل الإحصاء، وهي على ثلاثة أقسام:
الأول: التراجم المفردة.
الثاني: التقاريظ والرسائل المفردة عن بعض أحواله ومؤلفاته.
الثالث: سِيْرته وأخباره في كتب التواريخ والسير ونحوها.
(تنبيه): ما كان داخلًا في مجموعتنا هذه وضعنا قبله علامة (*)
(1)
.
(1)
. وقد أضفنا إلى هذه القائمة كل التراجم التي زيدت بعد الطبعة الأولى.