الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ــ
2 ــ
[أخلاق الشيخ وصفاته وعبادته]
* أحوال الشيخ في الصدقة والإنفاق:
(1)
.
وقال في موضع آخر: «نَسْخ وجوب الصدقة بين يدي مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبطل حكمه بالكُليَّة، بل نُسِخ وجوبه وبقي استحبابه والندب إليه، وما عُلِم من تنبيهه وإشارته، وهو أنه إذا اسْتُحِبَّت الصدقة بين يدي مناجاة المخلوق فاستحبابها بين يدي مناجاة الله عند الصلوات والدعاء أولى. فكان بعض السلف الصالح يتصدق بين يدي الصلاة والدعاء إذا أمكنه، ويتأوَّل هذه الأولوية.
ورأيت شيخَ الإسلام ابن تيمية يفعله ويتحرَّاه ما أمكنه، وفاوضته فيه، فذكر لي هذا التنبيه والإشارة»
(2)
.
* أحوال الشيخ في الذكر والدعاء:
قال ابن القيم: «وشهدت شيخَ الإسلام ــ قدس الله روحه ــ إذا أعيته
المسائل واستصعبت عليه، فرَّ منها إلى التوبة والاستغفار والاستغاثة بالله واللَّجأ إليه، واستنزال الصواب من عنده، والاستفتاح من خزائن رحمته، فقلَّما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليها مدًّا، وتزدلف الفتوحات الإلهية إليه بأيتهنَّ يبدأ»
(1)
.
(2)
.
وكان شيخنا كثير الدعاء بذلك، وكان إذا أشكلت عليه المسائل يقول:«يا معلم إبراهيم علمني» ، ويكثر الاستغاثة بذلك، اقتداءً بمعاذ بن جبل رضي الله عنه حيث قال لمالك بن يَخامِر السَّكْسكي عند موته ــ وقد رآه يبكي ــ فقال: والله ما أبكي على دنيا كنتُ أصيبها منك، ولكن أبكي على العلم والإيمان اللذين كنتُ أتعلمهما منك. فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما، اطلب العلم عند أربعة: عند عُويمر أبي الدرداء، وعند عبد الله ابن مسعود، وأبي موسى الأشعري ــ وذكر الرابع ــ فإن عَجَز عنه هؤلاء فسائر أهل الأرض أعجز، فعليك بمعلم إبراهيم صلوات الله عليه»
(3)
.
(1)
«أعلام الموقعين» : (5/ 34).
(2)
أخرجه مسلم (770) من حديث عائشة رضي الله عنه.
(3)
«أعلام الموقعين» : (5/ 175). وذكر نحو هذا ابن رشيق في «أسماء مؤلفات ابن تيمية» (ص 351) من هذا الكتاب.
أقول: نسب شيخ الإسلام هذا الأثر لمالك بن يخامر كما في «مجموع الفتاوى» : (4/ 531). ولم أقف عليه من روايته عن معاذ بن جبل، ورواه عن معاذ جماعة، أشهرهم يزيد بن عَميرة الهَمْداني عن معاذ، أخرجه الترمذي (3804)، والنسائي في «الكبرى» (8196)، وأحمد (22104)، وابن حبان (7165)، والحاكم:(1/ 98)، والبيهقي في «المدخل» (102)، وابن سعد (2/ 304) وغيرهم بألفاظ مختلفة. قال الترمذي: حسن غريب. كما في «تحفة الأشراف» : (8/ 418)، ونسخة الكروخي (ق 258)، وفي المطبوع: حسن صحيح غريب. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.
وذكر ابن القيم قراءة آية الكرسي عقب الصلاة، ثم قال:«وبلغني عن شيخنا أبي العباس ابن تيمية ــ قدس الله روحه ــ أنه قال: ما تركتها عقيب كل صلاة»
(1)
.
قال ابن القيم: «وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذا اشتدت عليه الأمور: قرأ آيات السكينة.
وسمعته يقول في واقعة عظيمة جرت له في مرضه، تعجز العقول عن حملها ــ من محاربة أرواحٍ شيطانية، ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوة ــ قال: فلما اشتدَّ عليَّ الأمر، قلت لأقاربي ومَن حولي: اقرؤوا آيات السكينة. قال: ثم أقلع عني ذلك الحال، وجلست وما بي قَلَبَة»
(2)
.
قال ابن القيم: «وسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: من واظب على: «يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت» كل يوم ــ بين سنة الفجر وصلاة
(1)
«زاد المعاد» : (1/ 352).
(2)
«مدارج السالكين» : (2/ 502).
الفجر ــ أربعين مرة أحيا الله بها قلبَه»
(1)
.
قال ابن القيم: «وحضرت شيخَ الإسلام ابن تيمية مرَّة صلى الفجر، ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريبٍ من انتصاف النهار، ثم التفت إليَّ وقال: هذه غَدْوتي، ولو لم أتغدَّ هذا الغداء لسقطت قوتي. أو كلامًا قريبًا من هذا.
وقال لي مرةً: لا أترك الذِّكْر إلا بنيّة إجمام نفسي وإراحتها، لأستعدَّ بتلك الراحة لذِكْر آخر. أو كلامًا هذا معناه»
(2)
.
وقال: «وكان ــ أي شيخ الإسلام ابن تيمية ــ يقول في سجوده ــ وهو محبوس ــ: «اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» ما شاء الله»
(3)
.
قال ابن القيم ضمن فوائد الذكر: «إن الذِّكْر يعطي الذَّاكر قوة، حتى إنه ليفعل مع الذِّكْر ما لا يطيق فعله بدونه، وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في مشيته وكلامه وإقدامه وكتابته أمرًا عجيبًا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة وأكثر، وقد شاهد العسكرُ من قوَّته في الحرب أمرًا عظيمًا»
(4)
.
وقال: «قال يونس بن عُبيد: ليس رجلٌ يكون على دابَّة صعبة فيقول في أذنها: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا
(1)
«مدارج السالكين» : (3/ 264).
(2)
«الوابل الصيب» (ص 96 - دار عالم الفوائد).
(3)
المصدر نفسه (ص 109).
(4)
المصدر نفسه (ص 185).
وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83] إلا وقفت بإذن الله تعالى.
قال شيخنا ــ قدس الله روحه ــ: وقد فعلنا ذلك فكان كذلك»
(1)
.
* مقابلة الإساءة بالإحسان:
وذكر ابن القيم مقابلة الإساءة بالإحسان ثم قال: «ومن أراد فهم هذه الدرجة كما ينبغي، فلينظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس يجدها هذه بعينها، ولم يكن كمال هذه الدرجة لأحدٍ سواه، ثم للورثة منها بحسب سهامهم من التَّرِكة.
وما رأيت أحدًا قطُّ أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيمية ــ قدس الله روحه ــ، وكان بعضُ أصحابه الأكابر يقول: ودِدْتُ أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه، وما رأيته يدعو على أحدٍ منهم قط، وكان يدعو لهم.
وجئتُ يومًا مبشرًا له بموت أكبر أعدائه، وأشدّهم عداوةً وأذى له، فنهرني وتنكَّر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزَّاهم، وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه. ونحو هذا من الكلام، فسرُّوا به، ودعوا له، وعظَّموا هذه الحال منه، فرحمه الله ورضي عنه»
(2)
.
* تواضعه وهضمه لنفسه:
قال ابن القيم: «فلا شيء أنفع للصادق من التحقق بالمسكنة والفاقة
(1)
الوابل الصيب (ص 334).
(2)
«مدارج السالكين» : (2/ 345).
والذلّ، وأنه لا شيء، وأنه ممن لم يصح له بَعْدُ الإسلام حتى يدَّعي الشرفَ فيه.
ولقد شهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية ــ قدس الله روحَه ــ من ذلك أمرًا لم أشاهده من غيره، وكان يقول كثيرًا: ما لي شيء، ولا منِّي شيء، ولا فيَّ شيء.
وكان كثيرًا ما يتمثَّل بهذا البيت:
أنا المكدِّي وابنُ المكدِّي
…
وهكذا كان أبي وجدي
وكان إذا أُثني عليه في وجهه يقول: والله إني إلى الآن أجدد إسلامي كل وقت، وما أسلمتُ بعدُ إسلامًا جيِّدًا.
وبعث إليَّ في آخر عمره قاعدةً في التفسير بخطه، وعلى ظهرها أبيات بخطِّه من نظمه:
أنا الفقير إلى رب البريات
…
أنا المُسَيْكين في مجموع حالاتي
(1)
وساق بعدها أبياتًا ستأتي بتمامها
(2)
.
* فراسة الشيخ:
قال ابن القيم: «ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية ــ رحمه الله ــ أمورًا عجيبة، وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم، ووقائع فراسته تستدعي سِفْرًا ضخمًا:
(1)
«مدارج السالكين» : (1/ 524 - 525).
(2)
(ص 452 - 453).
- أخبر أصحابه بدخول التتار الشام سنة تسع وتسعين وستمائة، وأن جيوش المسلمين تُكْسَر، وأن دمشق لا يكون بها قتل عام، ولا سبي عام، وأن كَلَب الجيش وحدّته في الأموال، وهذا قبل أن يهمّ التتارُ بالحركة.
- ثم أخبر الناس والأمراء سنة اثنتين وسبعمائة ــ لما تحرك التتار وقصدوا الشام ــ أن الدائرة والهزيمة عليهم، وأن الظَّفَر والنصر للمسلمين، وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينًا، فيقال له: قل «إن شاء الله» فيقول: «إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا» .
وسمعته يقول ذلك، قال: فلما أكثروا عليَّ، قلت: لا تكثروا، كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ: أنهم مهزومون في هذه الكرَّة، وأن النصر لجيوش الإسلام. قال: وأطعمت بعضَ الأمراء والعسكر حلاوة النصر قبل خروجهم إلى لقاء العدو.
- وكانت فراسته الجزئية في خلال هاتين الواقعتين مثل المطر.
- ولما طُلِب إلى الدِّيار المصرية وأُرِيد قتله ــ بعد ما أُنْضِجت له القدور، وقُلِّبَت له الأمور ــ اجتمع أصحابه لوداعه، وقالوا: قد تواترت الكتب بأن القوم عاملون على قتلك. فقال: والله لا يصلون إلى ذلك أبدًا. قالوا: أفتحبس؟ قال: نعم، ويطول حبسي، ثم أخْرُج وأتكلَّم بالسنة على رؤوس الناس
(1)
. سمعته يقول ذلك.
ولما تولى عدوُّه الملقب بالجاشنـگير المُلكَ أخبروه بذلك، وقالوا: الآن بلغ مرادُه منك. فسجد لله شكرًا وأطال، فقيل له: ما سبب هذه
(1)
في نسخة «المنابر» .
السجدة؟ فقال: هذا بداية ذلّه ومفارقة عِزّه من الآن، وقُرْب زوال أمره. فقيل له: متى هذا؟ فقال: لا تُرْبَط خيول الجند على القرط حتى تُقْلَب دولته. فوقع الأمر مثل ما أخبر به. سمعت ذلك منه وعنه.
- وقال مرة: يدخل عليَّ أصحابي وغيرهم، فأرى في وجوههم وأعينهم أمورًا ولا أذكرها لهم. فقلت له ــ أو غيري ــ: لو أخبرتهم؟ فقال: أتريدون أن أكون معرِّفًا كمعرِّف الولاة؟ !
- وقلت له يومًا: لو عاملتنا بذلك لكان أدعى إلى الاستقامة والصلاح. فقال: لا تصبرون معي على ذلك جمعة. أو قال: شهرًا.
- وأخبرني غير مرَّة بأمور باطنة تختصُّ بي مما عزمت عليه، ولم ينطق به لساني.
- وأخبرني ببعض حوادث كبار تجري في المستقبل، ولم يعيِّن أوقاتها، وقد رأيتُ بعضَها، وأنا أنتظر بقيتها.
- وما شاهده كبار أصحابه من ذلك أضعافُ أضعافِ ما شاهدتُه، والله أعلم»
(1)
.
* أحوال الشيخ مع أصحابه وتلاميذه:
قال ابن القيم: «ولقد حدّثني من أثق به أن نملةً خرجت من بيتها، فصادفت شقّ جرادة، فحاولت أن تحمله فلم تُطِق، فذهبت وجاءت معها بأعوان يحملنه معها، قال: فرفعتُ ذلك من الأرض، فطافتْ في مكانه فلم تجده، فانصرفوا وتركوها، قال: فوضعتُه، فعادت تحاول حَمْله فلم تقدر،
(1)
«مدارج السالكين» : (2/ 490 - 491).
فذهبت وجاءت بهم، فرفعتُه، فطافت، فلم تجده، فانصرفوا. قال: فعلت ذلك مرارًا، فلما كان في المرة الأخيرة استدار النمل حلقة، ووضعوها في وسطها وقطعوها عضوًا عضوًا.
قال شيخنا ــ وقد حكيتُ له هذه الحكاية ــ: هذه النمل فطرها الله سبحانه على قبح الكذب وعقوبة الكذَّاب»
(1)
.
قال ابن القيم: «ولا ريب أن للمحبة سلطانًا قاهرًا للقلب أعظم من سلطان من يقهر البدن، فأين من يقهر قلبك وروحك إلى من يقهر بدنك؟ ولذلك تعجبت الملوك والجبابرة مِن قَهْرهم للخلق، وقهر المحبوب لهم وذلهم له، فإذا فاجأ المحبوب مُحبه، ورآه بغتة= أحسَّ القلبُ بهجوم سلطانه عليه، فاعتراه روعة وخوف.
وسألنا يومًا شيخ الإسلام ابن تيمية ــ قدس الله روحه ــ عن هذه المسألة، فذكرتُ أنا هذا الجواب، فتبسَّم ولم يقل شيئًا»
(2)
.
قال ابن القيم:
«يا قوم والله العظيم نصيحة
…
من مشفق وأخٍ لكم معوان
جرّبتُ هذا كلّه ووقعت في
…
تلك الشباك وكنت ذا طيران
حتى أتاح لي الإلهُ بفضله
…
من ليس تجزيه يدي ولساني
حَبْر أتى من أرض حرَّانٍ فيا
…
أهلًا بمن قد جاء من حرَّان
فالله يجزيه الذي هو أهله
…
من جنة المأوى مع الرضوان
(1)
«شفاء العليل» : (1/ 240 ــ مكتبة العبيكان).
(2)
«مدارج السالكين» : (2/ 262 - 263).
أخذت يداه يدي وسار فلم يَرِم
…
حتى أراني مطلع الإيمان»
(1)
* أحوال الشيخ في المحن الخاصة والعامة:
قال ابن القيم: «ومن جنايات التأويل ما وقع في الإسلام من الحوادث بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا
…
» ــ ثم ساق جملة من ذلك إلى أن قال ــ: «ولا جرى على شيخ الإسلام ابن تيمية ما جرى من خصومِه بالسَّجْن، وطلب قتله أكثر من عشرين مرة= إلا بالتأويل»
(2)
.
قال ابن القيم: «لما قضى في القدم بسابقة سلمان
(3)
عرج به دليل التوفيق عن طريق آبائه في التمجُّس، فأقبل يناظر أباه في دين الشرك، فلما علاه بالحجة لم يكن له جوابٌ إلا القيد، وهذا جواب يتداوله أهل الباطل من يوم حرفوه، وبه أجاب فرعونُ موسى:{لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29]، وبه أجاب الجهمية الإمام أحمد لما عرضوه على السِّياط، وبه أجاب أهلُ البدع شيخَ الإسلام حين استودعوه السجن، وها نحن على الأثر»
(4)
.
قال ابن القيم: «وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية ــ قدس الله روحه ــ يقول: إن في الدنيا جنةً من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.
(1)
«الكافية الشافية» : (2/ 526 - 527).
(2)
«الصواعق المرسلة» : (1/ 380 - 381 ــ دار العاصمة).
(3)
يعني سلمان الفارسي رضي الله عنه.
(4)
«الفوائد» (ص 53 - دار عالم الفوائد).
وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رُحْت فهي معي لا تفارقني، إنَّ حَبْسي خَلْوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
وكان يقول في محبسه بالقلعة: لو بذلت لهم ملء هذه القلعة ذهبًا ما عَدَل عندي شكر هذه النعمة. أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير. ونحو هذا.
وكان يقول في سجوده ــ وهو محبوس ــ: «اللهم أعِنّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» ما شاء الله.
وقال لي مرّة: المحبوس من حُبِس قلبُه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه.
ولما أُدْخِل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال: {بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ} [الحديد: 13].
وعَلِم الله ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرجاف، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرّهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه.
وكنا إذا اشتدَّ بنا الخوف، وساءت مِنّا الظنون وضاقت بنا الأرض= أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحًا وقوةً ويقينًا وطمأنينةً.
فسبحان من أشهد عبادَه جنتَه قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل،
فأتاهم من رَوحِها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قُواهم لطلبها والمسابقة إليها»
(1)
.
* أحوال الشيخ في مرضه وعلاجه للمرضى
(2)
:
(3)
.
قال ابن القيم: «وكان شيخ الإسلام ابن تيمية ــ رحمه الله ــ إذا اشتدَّت عليه الأمور: قرأ آيات السكينة.
وسمعته يقول في واقعة عظيمة جرت له في مرضه، تعجز العقول عن حملها ــ من محاربة أرواح شيطانية، ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوة ــ قال: فلما اشتدّ عليَّ الأمر، قلت لأقاربي ومن حولي: اقرؤوا آيات السكينة. قال: ثم أقْلع عنِّي ذلك الحال، وجلست وما بي قَلَبَة»
(4)
.
(1)
«الوابل الصيب» (ص 109 - 110).
(2)
وقد ذكر الذهبي بصر شيخ الإسلام بالطب، قال في «الطب النبوي» (ص 228):«ورأيت شيخنا إبراهيم الرقي بصيرًا بالطب، وكذلك شيخنا الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية، والشيخ عماد الدِّين الواسطي رحمه الله تعالى» .
(3)
«روضة المحبين» (صص 109 - عالم الفوائد)، وانظر «مفتاح دار السعادة»:(2/ 712).
(4)
«مدارج السالكين» : (2/ 502). وسبق النص (ص 425).
قال ابن القيم: «وشاهدت شيخنا يرسل إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه، ويقول: قال لك الشيخ: اخرجي، فإن هذا لا يحلّ لكِ، فيفيق المصروع. وربما خاطبها بنفسه، وربما كانت الروح ماردةً فيخرجها بالضرب، فيُفيق المصروع ولا يحسّ بألم، وقد شاهدنا نحن وغيرنا منه ذلك مرارًا.
وكان كثيرًا ما يقرأ في أُذُن المصروع: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115].
وحدثني أنه قرأها مرة في أذن المصروع، فقالت الروح: نعم، ومدَّ بها صوته. قال: فأخذتُ له عصا، وضربتُه بها في عروق عنقه حتى كلَّت يداي من الضرب، ولم يشكّ الحاضرون أنه يموت لذلك الضرب، ففي أثناء الضرب قالت: أنا أُحِبه. فقلتُ لها: هو لا يحبك. قالت: أنا أريد أن أحجّ به، فقلت لها: هو لا يريد أن يحجَّ معك. فقالت: أنا أدعه كرامةً لك. قال: قلت: لا ولكن طاعةً لله ولرسوله. قالت: فأنا أخرج منه. قال: فقعد المصروع يلتفت يمينًا وشمالًا. وقال: ما جاء بي إلى حضرة الشيخ؟ قالوا له: وهذا الضرب كلّه؟ فقال: وعلى أيّ شيء يضربني الشيخ ولم أذنب؟ ! ولم يشعر بأنه وقع به ضرب البتةَ.
وكان يعالج بآية الكرسي، وكان يأمر بكثرة قراءتها المصروع ومن يعالجه بها، وبقراءة المعوذتين»
(1)
.
وذَكَر الرُّعاف، ثم قال: «كان شيخ الإسلام ابن تيمية ــ رحمه الله ــ يكتب
(1)
«زاد المعاد» : (4/ 94 - 95).
على جبهته: {وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} [هود: 44]. وسمعته يقول: كتبتها لغير واحدٍ فبرأ. وقال
(1)
: ولا يجوز كتابتها بدم الراعف، كما يفعله الجُهَّال، فإن الدم نجس، فلا يجوز أن يُكْتب به كلام الله تعالى»
(2)
.
* أحوال الشيخ مع أهل عصره:
قال ابن القيم: «ولقد أنكر بعض المقلِّدين على شيخ الإسلام في تدريسه بمدرسة ابن الحنبلي
(3)
، وهي وقْفٌ على الحنابلة، والمجتهد ليس منهم، فقال: إنما أتناول ما أتناوله منها على معرفتي بمذهب أحمد، لا على تقليدي له.
ومن المحال أن يكون هؤلاء المتأخرون على مذهب الأئمة دون أصحابهم الذين لم يكونوا يقلدونهم، فأتْبَع الناس لمالك ابن وهب وطبقته ممن يحَكِّم الحجة وينقاد للدليل أين كان، وكذلك أبو يوسف ومحمد أتبع لأبي حنيفة من المقلدين له مع كثرة مخالفتهما له، وكذلك البخاري ومسلم وأبو داود والأثرم وهذه الطبقة من أصحاب أحمد أتْبَع له من المقلِّدين المحض المنتسبين إليه. وعلى هذا فالوقف على أتباع الأئمة أهل الحجة والعلم أحقّ به من المقلدين في نفس الأمر»
(4)
.
(1)
(ط): «فقال» .
(2)
«زاد المعاد» : (4/ 536).
(3)
انظر في التعريف بها: «الدارس في تاريخ المدارس» : (2/ 64 - 79).
(4)
«أعلام الموقعين» : (3/ 112). ويحتمل أن قوله: «ومن المحال أن
…
» من كلام ابن القيم شرحًا لكلام شيخ الإسلام.
وذكر ابن القيم مسألة المفلس إذا استغرقت الديونُ مالَه فهل يصح تبرعه قبل الحَجْر بما يضرّ بأرباب الديون؟ وذَكَر في المسألة قولين: مذهب مالك وابن تيمية عدم الصحة، وذهب الأئمة الثلاثة إلى الصحة، ثم قال:«وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية ــ رحمه الله ــ يحكي عن بعض علماء عصره من أصحاب أحمد أنه كان ينكر هذا المذهب ويضعِّفه ــ القول بعدم الصحة ــ، قال: إلى أن بُلِي بغريم تبرَّع قبل الحجر عليه، فقال: والله مذهب مالك هو الحق في هذه المسألة»
(1)
.
قال ابن القيم: «كان في زماننا رجل مشار إليه بالفتوى، وهو مقدَّم في مذهبه، وكان نائب السلطان يرسل إليه في الفتاوى، فيكتب: يجوز كذا ــ أو يصح كذا، أو ينعقد ــ بشرطه، فأرسل إليه يقول له: تأتينا فتاوى منك فيها: يجوز ــ أو ينعقد أو يصح ــ بشرطه، ونحن لا نعلم شرطه، فإما أن تبين شرطه، وإما أن لا تكتب ذلك.
وسمعت شيخنا يقول: كلُّ أحدٍ يحسن أن يفتي بهذا الشرط، فإن أي مسألة وردت عليه يكتب فيها: يجوز بشرطه، أو يصح بشرطه، أو يقبل بشرطه
…
ونحو ذلك، وهذا ليس بعلم، ولا يفيد فائدة أصلًا سوى حيرة السائل وتنكّده»
(2)
.
وقال ابن القيم: «سمعت شيخنا يقول: سمعت بعض الأمراء يقول عن
(1)
«أعلام الموقعين» : (4/ 418).
(2)
«أعلام الموقعين» : (5/ 43).
بعض المفتين من أهل زمانه: يكون عندهم في المسألة ثلاثة أقوال، أحدها: الجواز، والثاني: المنع، والثالث: التفصيل، فالجواز لهم، والمنع لغيرهم، وعليه العمل»
(1)
.
(2)
.
(3)
.
(1)
«أعلام الموقعين» : (5/ 95).
(2)
«أعلام الموقعين» : (5/ 133).
(3)
«الطرق الحكمية» : (1/ 303 - دار عالم الفوائد).
وذكر ابن القيم أن الناس المخالطين على أصناف، وذكر منها من مخالطته حمى الروح، وهو الثقيل البغيض العقل، الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك، ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك، ولا يعرف نفسه فيضعها في منزلتها
…
إلى أن قال: ورأيت يومًا عند شيخنا ــ قدس الله روحه ــ رجلًا من هذا الضرب، والشيخ يحمله، وقد ضَعُفَت القُوى عن حمله، فالتفت إليَّ وقال: مجالسة الثقيل حُمى الرِّبْع
(1)
. ثم قال: لكن أدمنت أرواحُنا على الحمَّى، فصارت لها عادة. أو كما قال»
(2)
.
* * *
(1)
حمى الرِّبع ــ بالكسر ــ هي التي تعرض يومًا وتقلع يومين ثم تأتي في الرابع وهكذا. انظر: «المصباح المنير» (ص 83).
(2)
«بدائع الفوائد» : (2/ 823).