الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ــ
3 ــ
[مواقفه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]
* انتصاره للإسلام والذبّ عنه، وصدّ أهل البدع والأهواء:
قال ابن القيم: «وأصل كلّ بليّة في العالم ــ كما قال محمد الشهرستاني ــ من معارضة النص بالرأي، وتقديم الهوى على الشرع، والناس إلى اليوم في شرور هذه المعارضة وشؤم عاقبتها، فإلى الله المشتكى وبه المستعان.
ثم إنه خرج مع هذا الشيخ المتأخر
(1)
المعارض بين العقل والنقل أشياءُ لم تكن تُعْرف قبله: جُسْت العَمِيدي
(2)
، وحقائق ابن عربي، وتشكيكات الرازي، وقام سوق الفلسفة والمنطق وعلوم أعداء الرسل التي فرحوا بها لمَّا جاءتهم رسلهم بالبينات، وصارت الدولة والدعوة لأرباب هذه العلوم.
ثم نظر الله إلى عباده وانتصر لكتابه ودينه، وأقام جندًا تغزو ملوكَ هؤلاء بالسيف والسنان، وجندًا تغزو علماءَهم بالحجة والبرهان.
(1)
يعني: النصير الطوسي الرافضي.
(2)
الجُست: كلمة فارسية معناها البحث والتقصّي، ثم أصبحت عَلَمًا على فن من فنون علم الجدل، وهو المبني على طريقة الفلاسفة، وهي الطريقة التي اخترعها العميدي. والعميدي هو: أبو حامد محمد بن محمد السمرقندي الحنفي (ت 615). انظر للتفصيل مقدمة تحقيق كتاب «تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل» لابن تيمية: (1/ 19 - 23) لكاتبه.
ثم نبغت نابغة منهم في رأس القرن الثامن، فأقام الله لدينه شيخَ الإسلام أبا العباس ابن تيمية ــ قدَّس الله روحه ــ فأقام على غزوهم مدَّةَ حياته، باليد والقلب واللسان، وكَشَف للناس باطلَهم، وبيّن تلبيسَهم وتدليسَهم، وقابلهم بصريح المعقول وصحيح المنقول، وشفى واشتفى، وبَيَّن مناقضتهم ومفارقتهم لحكم العقل الذي به يُدْلون، وإليه يدعون، وأنهم أتْرَك الناس لأحكامه وقضاياه، فلا وحي ولا عقل! فأرْداهم في حُفَرهم، ورَشَقهم بسهامهم، وبيّن أن صحيح معقولاتهم خَدَم لنصوص الأنبياء شاهدة لها بالصحة، وتفصيل هذه الجملة موجودة في كتبه»
(1)
.
وقال ابن القيم:
ولأيّ شيء كان أيضًا خصمُكم
…
شيخَ الوجود العالم الحرَّاني
أعني أبا العباس ناصرَ سنةِ الـ
…
مختار قامع سنة الشيطان
والله لم يك ذنبه شيئًا سوى
…
تجريده لحقيقة الإيمان
إذ جرَّد التوحيدَ عن شركٍ كذا
…
تجريدُه للوحي عن بهتانِ
(2)
* مناظرته للجبرية:
وذكر ابن القيم الجبريَّة، ثم قال: «وأخبرني شيخ الإسلام ــ قدس الله روحه ــ أنه لام بعض هذه الطائفة على محبة ما يبغضه الله ورسوله، فقال له الملوم: المحبة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب، وجميع ما في الكون مراده، فأيّ شيء أبغض منه؟
(1)
«الصواعق المرسلة» (3/ 1078 - 1080).
(2)
«الكافية الشافية» : (2/ 419).
قال الشيخ: فقلت له: إذا كان قد سخط على أقوام ولعنهم وذمهم وغضب عليهم، فواليتهم أنت وأحببتهم وأحببت أفعالهم ورضيتها تكون مواليًا له أو معاديًا؟ قال: فبُهِت الجبري، ولم ينطق بكلمة»
(1)
.
* تكسير الأصنام:
قال ابن القيم: «وقد كان بدمشق كثير من الأنصاب، فيسّر الله سبحانه كسرها على يد شيخ الإسلام وحزب الله الموحِّدين، كالعمود المُخَلَّق، والنصب الذي كان بمسجد النارنج
(2)
من المصلى يعبده الجهَّال، والنُّصْب الذي كان تحت الطاحون الذي عند مقابر النصارى ينتابه الناس للتبرك به، وكان صورة صنم في نهر القلّوط ينذرون له ويتبركون به، وقطع الله النصب الذي كان عند الرحْبَة يُسْرَج عنده ويتبرك به المشركون، وكان عمودًا طويلًا على رأسه حَجَر كالكُرَة، وعند مسجد درب الحجر نصب قد بُني عليه مسجد صغير، يعبده المشركون، يسَّر الله كسرَه»
(3)
.
* الإنكار على من يطلق «حكم الله» في مسائل الاجتهاد:
قال ابن القيم: «وسمعت شيخ الإسلام يقول: حضرت مجلسًا فيه القضاة وغيرهم، فجرت حكومةٌ حَكَم فيها أحدهم بقول زُفَر، فقلت له: ما هذه الحكومة؟ فقال: هذا حكم الله. فقلت له: صار قول زفر هو حكم الله الذي حكم به وألزم به الأمة؟ ! قل: هذا حكم زفر، ولا تقل: هذا حكم الله.
(1)
«شفاء العليل» (1/ 48).
(2)
ينظر رسالة الغياني فيما قام به ابن تيمية من تكسير الأحجار (ص 145 - من هذا الكتاب).
(3)
«إغاثة اللهفان» : (1/ 382 - 283 - عالم الفوائد).
أو نحو هذا من الكلام»
(1)
.
* إنكاره فتوى من لم يفهم كلام الفقهاء:
قال ابن القيم: «وقع لبعض من نَصَب نفسَه للفتوى من أهل عصرنا: ما تقول السادة الفقهاء في رجل وقف على أهل الذِّمة، هل يصحّ ويتقيّد الاستحقاق بكونه منهم؟ فأجاب بصحة الوقف، وتقييد الاستحقاق بذلك الوصف، وقال: هكذا قال أصحابنا: ويصحّ الوقفُ على أهل الذمة.
فأنكر ذلك شيخنا عليه غاية الإنكار، وقال: مقصود الفقهاء بذلك أن كونه من أهل الذمة ليس مانعًا من صحة الوقف عليه بالقرابة أو بالتعيين، وليس مقصودهم أن الكفر بالله ورسوله، وعبادة الصليب، وقولهم: إن المسيح ابن الله شرطٌ لاستحقاق الوقف، حتى إن من آمن بالله ورسوله، واتَّبع دينَ الإسلام لم يحلّ له أن يتناول بعد ذلك من الوقف، فيكون حل تناوله مشروطًا بتكذيب الله ورسوله، والكفر بدين الإسلام، ففرقٌ بين كون وصف الذمة مانعًا من صحة الوقف وبين كونه مقتضيًا. فغَلُظَ طبع هذا المفتي، وكَثُفَ فهمُه، وغلُظَ حجابه عن ذلك ولم يميّز»
(2)
.
* كشفه لكتاب زوَّره اليهود:
وذكر ابن القيم اليهود، وقال: «فلما أجلاهم عمر إلى الشام تغير ذلك العقد الذي تضمَّن إقرارَهم في أرض خيبر، وصار لهم حُكْم غيرهم من أهل الكتاب.
(1)
«أعلام الموقعين» : (5/ 39).
(2)
«أعلام الموقعين» : (5/ 52 - 53).
ولما كان في بعض الدول التي خفيت فيها السنة وأعلامها، وأظهر طائفة منهم كتابًا قد عتّقوه وزوَّروه، وفيه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أسقط عن يهود خيبر الجزية، وفيه: شهادة علي بن أبي طالب، وسعد بن معاذ، وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم، فَرَاج ذلك على من جَهِل سنةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغازيه وسِيَره، وتوهموا بل ظنوا صحَّته، فجروا على حكم هذا الكتاب المزوَّر، حتى أُلقيَ إلى شيخ الإسلام ابن تيمية ــ قدس الله روحه ــ وطُلِب منه أن يُعِين على تنفيذه والعمل عليه، فبصق عليه، واستدل على كذبه بعشرة أوجه:
منها: أن فيها شهادة سعد بن معاذ، وسعد توفي قبل خيبر قطعًا.
ومنها: أن في الكتاب أنه أسقط عنهم الجزية، والجزية لم تكن نزلت بعد، ولا يعرفها الصحابة حينئذ، فإن نزولها كان عام تبوك بعد خيبر بثلاثة أعوام.
ومنها: أنه أسقط عنهم الكُلَف والسُّخَر، وهذا محال، فلم يكن في زمانه كُلَف ولا سُخَر تُؤخذ منهم ولا من غيرهم، وقد أعاذه الله وأعاذ أصحابه من أخذ الكُلَف والسُّخَر، وإنما هي من وضع الملوك الظَّلَمة، واستمرَّ الأمر عليها.
ومنها: أن هذا الكتاب لم يذكره أحد من أهل العلم على اختلاف أصنافهم، فلم يذكره أحد من أهل المغازي والسير، ولا أحد من أهل الحديث والسنة، ولا أحد من أهل الفقه والإفتاء، ولا أحد من أهل التفسير، ولا أظهروه في زمان السلف؛ لعلمهم أنهم إن زوَّروا مثل ذلك عرفوا كذبَه وبُطلانَه، فلما استخفّوا بعضَ الدول في وقت فتنة وخفاء بعض السنة= زوَّروا ذلك وعتَّقوه وأظهروه، وساعدهم على ذلك طمع بعض الخائنين لله
ولرسوله، ولم يستمرّ لهم ذلك حتى كشف الله أمره، وبيَّن خلفاءُ الرسل بطلانه وكذبه»
(1)
.
وذكر ابن القيم هذه الحادثة بسياق آخر من كلام شيخ الإسلام نفسه، قال:
«فلما أجلاهم عمر رضي الله عنه إلى الشام ظنوا أنهم يستمرون على أن يعفوا منها فزوروا كتابًا يتضمَّن أن رسول الله أسقطها عنهم بالكُلية. وقد صنف الخطيب والقاضي وغيرهما في إبطال ذلك الكتاب تصانيف، ذكروا فيها وجوهًا تدلّ على أن ذلك الذي بأيديهم موضوع باطل.
قال شيخنا: ولما كان عام إحدى وسبع مئة
(2)
أحضرَ جماعةٌ من يهود دمشق عهودًا ادعوا أنها قديمة، وكلها بخط علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد غَشَّوها بما يقتضي تعظيمها
(3)
، وكانت قد نفقت على ولاة الأمور من مدة طويلة، فأُسقطت عنهم الجزية بسببها وبأيديهم تواقيع ولاة، فلما وقفتُ عليها تبيَّن في نفسها ما يدلُّ على كذبها من وجوه كثيرة جدًّا:
منها: اختلاف الخطوط اختلافًا متفاقمًا في تأليف الحروف الذي يُعْلَم معه أن ذلك لا يصدر عن كاتب واحد، وكلها نافية أنه خط علي بن أبي
(1)
«زاد المعاد» : (3/ 179)، وانظر «المنار المنيف» (ص 92 - 94 - دار عالم الفوائد).
(2)
انظر «البداية والنهاية- ضمن كتابنا هذا» : (ص 413 - 414) وفيه وقوف ابن كثير على الكتاب بنفسه.
(3)
ذكر ابن القيم في «المنار» (ص 94) أن هذا الكتاب «أحضر بين يدي شيخ الإسلام وحوله اليهود يَزُفونه ويُجِلّونه، وقد غُشِّي بالحرير والديباج» .
طالب رضي الله عنه.
ومنها: أن فيها من اللحن الذي يخالف لغة العرب ما لا يجوز نسبة مثله إلى علي رضي الله عنه ولا غيره
(1)
.
ومنها: الكلام الذي لا يجوز نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حق اليهود، مثل قوله: أنهم يعاملون بالإجلال والإكرام، وقوله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وقوله: أحسن الله بكم الجزاء، وقوله: وعليه أن يكرم محسنكم ويعفو عن مسيئكم، وغير ذلك.
ومنها: أن في الكتاب إسقاط الخراج عنهم مع كونهم في أرض الحجاز، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يضع خراجًا قطّ، وأرض الحجاز لا خراج فيها بحال، والخراج أمر يجب على المسلمين فكيف يسقط عن أهل الذمة؟ !
ومنها: أن في بعضها إسقاط الكُلَف والسُّخَر عنهم، وهذا مما فعله الملوك المتأخرون لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه.
وفي بعضها: أنه شهد عنده عبد الله بن سلام، وكعب بن مالك، وغيرهما من أحبار اليهود. وكعب بن مالك لم يكن من أحبار اليهود فاعتقدوا أنه كعب الأحبار
(2)
وذلك لم يكن من الصحابة، وإنما أسلم على عهد عمر رضي الله عنه.
ومنها: أن لفظ الكلام ونظمه ليس من جنس كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أن فيه من الإطالة والحشو ما لا يشبه عهود النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيها وجوه أخر متعددة، مثل أن هذه العهود لم يذكرها أحد من العلماء المتقدمين قبل ابن شريح، ولا ذكروا أنها رفعت إلى أحد من ولاة الأمور فعملوا بها، ومثل ذلك مما يتعين شهرته ونقله.
قلت: ومنها أن هذا لم يروه أحد من مصنفي كتب السير والتاريخ، ولا رواه أحد من أهل الحديث ولا غيرهم البتة، وإنما يُعْرَف من جهة اليهود، ومنهم بدأ وإليهم يعود»
(1)
.
* إنكاره على من يفتي وليس بأهل:
وذكر ابن القيم من يفتي الناس وهو ليس بأهل لذلك، ثم قال:«وكان شيخنا رضي الله عنه شديد الإنكار على هؤلاء، فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: أجُعِلْت محتسبًا على الفتوى؟ فقلت له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب، ولا يكون على الفتوى محتسب؟ ! »
(2)
.
* نصح الشيخ وإرشاده:
ــ آفات النفس وكيف تدفع:
ذكر ابن القيم الآفات التي تكون في النفس وكيفية التعامل معها، ثم قال: «وسألت يومًا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذه المسألة، وقطع
(1)
«أحكام أهل الذمة» : (1/ 53 - 55 - تحقيق صبحي الصالح). و (1/ 169 - 171 - دار رمادي).
(2)
«أعلام الموقعين» : (5/ 105).
الآفات، والاشتغال بتنقية الطرق وبتنظيفها؟ فقال لي جملة كلامه: النفس مثل الباطوس ــ وهو جب القذر ــ كلما نبشته ظهر وخرج، ولكن إن أمكنك أن تسقف عليه وتعبره وتجوزه فافعل، ولا تشتغل بنبشه، فإنك لن تصل إلى قراره، وكلما نبشت شيئًا ظهر غيرُه.
فقلت: سألت عن هذه المسألة بعض الشيوخ، فقال لي: مثل آفات النفس مثال الحيات والعقارب التي في طريق المسافر، فإن أقبل على تفتيش الطريق عنها والاشتغال بقتلها انقطع ولم يمكنه السفر قط، ولكن لتكن همتك المسير والإعراض عنها، وعدم الالتفات إليها، فإذا عرض لك فيها ما يعوقك عن المسير فاقتله، ثم امض على سيرك.
فاستحسن شيخ الإسلام ذلك جدًّا، وأثنى على قائله»
(1)
.
وقال: «وقال لي شيخ الإسلام رضي الله عنه وقد جعلت أورِدُ عليه إيرادًا بعد إيراد ــ: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السِّفِنْجة فيتشرَّبها، فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزّجاجة المُصْمَتة تمرُّ الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشْرَبت قلبَك كلَّ شبهة تمرّ عليها صار مقرًّا للشبهات. أو كما قال.
فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك»
(2)
.
ــ التحوّل من المذهب:
قال ابن القيم: «وقد سمعت شيخنا رحمه الله يقول: جاءني بعض
الفقهاء من الحنفية فقال: أستشيرك في أمر. قلت: وما هو؟ قال: أريد أن انتقل عن مذهبي. قلت له: ولم؟ قال: لأني أرى الأحاديث الصحيحة كثيرًا تخالفه، واستشرت في هذا بعض أئمة أصحاب الشافعي فقال لي: ولو رجعت عن مذهبك لم يرتفع ذلك من المذهب، وقد تقرَّرت المذاهب، ورجوعك غير مفيد. وأشار عليَّ بعضُ مشايخ التصوف بالافتقار إلى الله والتضرُّع إليه وسؤال الهداية لما يحبه ويرضاه، فماذا تشير به أنتَ عليَّ؟
قال: فقلت له: اجعل المذهب ثلاثة أقسام: قسمٌ الحق فيه ظاهر بيِّن موافقٌ للكتاب والسنة، فاقض به وأنت طيب النفس منشرح الصدر.
وقسم مرجوح ومخالفُه معه الدليل، فلا تُفْتِ به ولا تحكم به وادفعه عنك.
وقسم من مسائل الاجتهاد التي الأدلة فيها متجاذبة، فإن شئت أن تفتي به، وإن شئت أن تدفعه عنك، فقال: جزاك الله خيرًا. أو كما قال»
(1)
.
ــ الاستغاثة بالله:
ذكر ابن القيم الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، ثم قال:«وقال لي شيخ الإسلام ابن تيمية ــ قدس الله روحه ــ يومًا: إذا هاش عليك كلب الغنم فلا تشتغل بمحاربته ومدافعته، وعليك بالرَّاعي فاستغث به، فهو يصرف عنك الكلب»
(2)
.
ــ الاقتصاد في المباحات:
قال ابن القيم: وقال لي يومًا شيخ الإسلام ابن تيمية ــ قدس الله روحه ــ في شيء من المباح: «هذا ينافي المراتب العالية، وإن لم يكن تركه شرطًا في النجاة. أو نحو هذا من الكلام»
(1)
.
ــ الدلالة على من يفتي:
وذكر ابن القيم أنَّ على العالِم أن يتحرَّى في دلالته للمستفتي على غيره، وقال:«كان شيخنا ــ قدّس الله روحَه ــ شديد التجنُّب لذلك، ودللتُ مرَّة بحضرته على مفتٍ أو مذهب، فانتهرني، وقال: مالك وله؟ دعه عنك. ففهمت من كلامه: إنك لتبوء بما عساه يحصل له من الإثم ولمن أفتاه»
(2)
.
[من رأى الشيخ بعد وفاته]
(3)
.
قال ابن القيم: «وثمرة الرضى: الفرح والسرور بالرب تبارك وتعالى.
ورأيت شيخ الإسلام ابن تيمية ــ قدس الله روحه ــ في المنام، وكأني ذكرت له شيئًا من أعمال القلب، وأخذت في تعظيمه ومنفعته ــ لا أذكره الآن
(1)
«مدارج السالكين» : (2/ 26).
(2)
«أعلام الموقعين» : (5/ 89).
(3)
«الروح» (ص 96).
ــ، فقال: أما أنا فطريقتي: الفرح بالله والسرور به. أو نحو هذا من العبارة.
وهكذا كانت حاله في الحياة، يبدو ذلك على ظاهره، وينادي به عليه حالُه»
(1)
.
[الشعر]
ونذكر هنا الأبيات الشعرية التي نص ابن القيم على أن الشيخ قالها، أو كان يكثر من التمثُّل بها.
قال ابن القيم: «وحدثني بعض أقارب
(2)
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: كان في بداية أمره يخرج أحيانًا إلى الصحراء، يخلو عن الناس، لقوَّة ما يَرِدُ عليه، فتبعته يومًا، فلما أصْحَر تنفَّس الصُعَداء، ثم جعل يتمثَّل بقول الشاعر ــ وهو لمجنون ليلى من قصيدته الطويلة ــ:
وأخرج من بين البيوت لعلَّني
…
أحدِّث عنك القلب بالسرِّ خاليا
(3)
وقال: «وسمعت شيخ الإسلام تقي الدِّين ابن تيمية ــ قدس الله روحه ــ يقول: كيف يُطْلَب الدليلُ على من هو دليلٌ على كل شيء؟ وكان كثيرًا ما يتمثَّل بهذا البيت:
وليس يصح في الأذهان شيء
…
إذا احتاج النهار إلى دليل
(4)
(1)
«مدارج السالكين» : (2/ 172).
(2)
هو تقي الدِّين ابن شقير كما في «روضة المحبين» (ص 394).
(3)
«مدارج السالكين» : (3/ 60)، و «روضة المحبين» (ص 394، 590).
(4)
«مدارج السالكين» : (1/ 71).
قال ابن القيم: «وكان ــ أي شيخ الإسلام ــ كثيرًا ما يتمثَّل بهذا البيت:
أنا المُكدّي وابن المُكدّي
…
وهكذا كان أبي وجدِّي
(1)
قال ابن القيم: «ورضي الله عن شيخنا إذ يقول:
فإن كان نصبًا ولاء الصِّحاب
…
فإنِّي ــ كما زعموا ــ ناصبي
وإن كان رفضًا وَلَا آلِهِ
…
فلا برح الرفض من جانبي
(2)
وقال ابن القيم: «وقدس الله روح القائل ــ وهو شيخ الإسلام ابن تيمية ــ إذ يقول:
إن كان نصبًا حبّ صَحْب محمد
…
فليشهد الثقلان أني ناصبي
(3)
قال ابن القيم: «وبعث إليَّ في آخر عمره قاعدة في التفسير بخطه، وعلى ظهرها أبيات بخطه من نظمه:
أنا الفقير إلى ربّ البريّات
…
أنا المُسَيكين في مجموع حالاتي
أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي
…
والخير إن يأتنا من عنده ياتي
لا أستطيع لنفسي جلبَ منفعة
…
ولا عن النفس لي دفع المضرَّات
وليس لي دونه مولى يُدَبِّرني
…
ولا شفيع إذا حاطت خطيئاتي
إلا بإذن من الرحمن خالقنا
…
إلى الشفيع كما قد جا في الآيات
(1)
المصدر نفسه: (1/ 562).
(2)
«الصواعق المرسلة» : (3/ 941).
(3)
«الكافية الشافية» : (1/ 29)، و «مدارج السالكين»:(2/ 88). وهو في «درء التعارض» : (1/ 240).
ولست أملك شيئًا دونه أبدًا
…
ولا شريك أنا في بعض ذرات
ولا ظهير له كي يستعين به
…
كما يكون لأرباب الولايات
والفقر لي وصفُ ذاتٍ لازم أبدًا
…
كما الغنى أبدًا وصفٌ له ذاتي
وهذه الحال حال الخلق أجمعهم
…
وكلهم عنده عبدٌ له آتي
فمن بغى مطلبًا من غير خالقه
…
فهو الجهول الظلوم المشرك العاتي
والحمد لله ملء الكون أجمعه
…
ما كان منه، وما من بعده ياتي»
(1)
* * * *
(1)
«مدارج السالكين» : (1/ 225). وزاد في «العقود الدرية» (ص 453) بيتًا وهو:
ثم الصلاة على المختار من مُضرٍ
…
خير البريّة من ماضٍ ومن آتيِ
وليس للشيخ بل لبعض ناسخي القصيدة كما بيَّنه ناظمه في موضع من «الكواكب الدراري» لابن عروة (الظاهرية رقم 597 ــ ق 89).
الكافية الشافية
(1)
للعلامة شمس الدِّين محمد بن أبي بكر المعروف بابن القيم (751)
وإذا أردتَ تَرى مصارعَ من خلا
…
من أمة التعطيل والكفران
وتراهمُ أسْرَى حقيرًا شأنُهم
…
أيديهمُ غُلَّتْ إلى الأذقان
وتراهمُ تحتَ الرماحِ دَرِيْئَةً
…
ما فيهمُ من فارسٍ طَعَّان
وتراهمُ تحتَ السيوفِ تَنُوشُهم
…
مِنْ عن شمائِلهم وعن أيْمان
وتراهمُ انسلخوا من الوحيينِ والـ
…
ـعقل الصحيحِ ومقتضَى القرآن
وتراهمُ واللهِ ضُحْكَةَ ساخرٍ
…
ولطالمَا سَخِرُوا من الإيْمان
قد أوحشتْ منهم رُبُوعٌ زَادهَا الـ
…
ـجَبَّارُ إيْحاشًا مَدَى الأزمان
وخَلَتْ ديارُهمُ وشُتِّتَ شَمْلُهم
…
مَا فيهمُ رجلانِ مجتمعان
قد عَطَّلَ الرحمنُ أفئدةً لهم
…
من كلِّ معرفةٍ ومن إيمان
إذْ عَطَّلوا الرحمنَ من أوصافِه
…
والعرشَ أخْلَوه من الرحمن
بل عَطَّلوهُ عن الكلامِ وعن صِفا
…
تِ كمالِه بالجهلِ والبهتان
فَاقْرَأْ تصانيفَ الإمَامِ حقيقةً
…
شيخِ الوجودِ العالمِ الربّاني
أعني أبا العباسِ أحمدَ ذلك الْـ
…
ـبَحْرَ المحيطَ بسائرِ الخُلْجَان
وَاقرأ كتابَ «العقلِ والنقل» الذي
…
ما في الوجود له نظيرٌ ثان
وكذاك «منهاج» له في رَدِّه
…
قولَ الروافضِ شيعةِ الشيطان
وكذاك أهل الاعتزالِ فإنه
…
أرداهُمُ في حُفرةِ الجبان
وكذاك التأسيسُ أصبح «نقضُه»
…
أُعْجُوبةً للعالم الرباني
(1)
(ص 163 - 165)(ط. القاهرة 1345 هـ)، وطبعة عالم الفوائد (ص 196 - 198).
وكذاك «أجوبةٌ له مصرية»
…
في ست أسفار كُتِبنَ سِمانِ
وكذا «جوابٌ للنصارى» فيه ما
…
يَشفي الصدورَ وإنّه سِفران
وكذاك «شرح عقيدةٍ للأصبها
…
نِيْ» شارحِ المحصولِ شرحَ بيان
فيها «النبوات» التي إثباتها
…
في غايةِ التقريرِ والتِّبْيان
والله ما لأُولِي الكلام نظيرُه
…
أبدًا وكُتْبُهُمُ بكلِّ مكان
وكذا حدوثُ العالَمِ العُلْويّ والـ
…
ـسُّفْليّ فيهِ في أتمِّ بيانِ
وكذا «قواعدُ الاستقامةِ» إنها
…
سِفران فيما بيننا ضخمان
وقرأتُ أكثرَها عليه فزادني
…
وَاللهِ في عِلمٍ وفي إيمان
هذا ولو حَدَّثْتُ نَفْسِي أنه
…
قبلي يموتُ لَكان هذا الشأن
وكذاك توحيدُ الفلاسفة الأُلى
…
توحيدُهم هو غايةُ الكفران
سِفرٌ لطيفٌ فيه «نقضُ أصولهم»
…
بحقيقةِ المعقولِ والبرهان
وكذاك «تِسْعِيْنيَّةٌ» فيها له
…
ردٌّ علَى من قال بالنفساني
تسعون وجهًا بَيَّنَتْ بطلانَه
…
أعنيْ كلامَ النفسِ ذَا الوحداني
وكذا «قواعدُه الكبارُ» وإنّها
…
أوفَى من المائتينِ في الحُسْبَان
لمَ يتَّسِعْ نَظمِيْ لها فأسوقها
…
فأشَرتُ بعضَ إشارةٍ لبيان
وكذا «رسائله» إلى البلدان والأ
…
طراف والأصحاب والإخوان
هي في الورى مبثوثةٌ معلومةٌ
…
تُبتاعُ بالغالِي من الأثمان
وكذا «فتاواه» فأخبَرنِي الذي
…
أضحَى عليها دائمَ الطَّوفان
بَلغَ الذي ألْفَاهُ منها عِدَّةَ الْـ
…
أيَّامِ مِن شهرٍ بلا نقصانِ
سِفرٌ يُقابِلُ كلَّ يوم، والذي
…
قَد فَاتَنِيْ منها بلا حُسبان
هذا وليس يُقَصِّرُ «التفسيرُ» عن
…
عشْرٍ كبارٍ ليسَ ذا نُقصان
وكذا «المفَارِيد» التي في كل مَسْـ
…
ـألةٍ فسِفرٌ واضحُ التبيان
ما بين عَشْرٍ أو تَزِيدُ بضِعْفِها
…
هِيَ كالنجومِ لسالكٍ حَيْران
وله المقاماتُ الشهيرةُ في الورَى
…
قد قامَها للهِ غيرَ جَبان
نَصَرَ الإلهَ ودينَه وكِتابَه
…
ورسوله بالسيفِ والبرهان
أبدى فضائحَهم وبيَّنَ جهلَهم
…
وأرى تناقضَهم بكل زمان
وأصارَهم واللهِ تحتَ نعالِ أهْـ
…
ـلِ الحقِّ بعدَ ملابسِ التيجان
وأصارَهم تحتَ الحضيضِ وطالما
…
كانوا همُ الأعلامَ للبلدان
ومن العجائبِ أنه بسِلاحِهم
…
أرْدَاهُمُ تحتَ الحضيضِ الداني
كانتْ نواصِينا بأيديهم فما
…
مِنَّا لهمْ إلا أسيرٌ عان
فغدتْ نواصِيْهم بأيدينا فلا
…
يَلْقَوْننا إلا بحبل أمان
وغدتْ ملوكهُمُ مماليكًا لأنْـ
…
ـصَار الرسولِ بمنَّةِ الرحمن
وأتتْ جنودُهم التي صَالوا بها
…
منقادةً لعساكِر الإيمان
يَدرِيْ بهذا مَن له خبرٌ بما
…
قد قاله في ربه الفئتان
والفَدْمُ يُوحِشُنا وليس هناكم
…
فحضورُه ومغيبُه سِيَّان
* * * *
الإيصال لكتاب ابن سليم وابن نقطة والإكمال
(1)
للعلامة مُغلْطاي بن قليج المصري (ت 762 هـ)
شيخنا الإمام بغير مراء تقي الدِّين أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، الذي طبَّق ذكرهُ جميعَ الأقطار، وشاع علمُه في جميع الأمصار، فلذلك استغنينا عن التعريف بحاله.
رأيتُه بالقاهرة، وأجازني مشافهةً بها، وجئتُه لأوَدِّعَه، وسألتُه الوصيةَ والدعاءَ فقال لي: يا غلامُ، رُوِّيْنا في كتاب الترمذي بإسناد ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن عباس:«يا غلام، إنّي أعلّمك كلماتٍ، احفظِ اللهَ يَحفَظْك، احفظ الله تَجِدْه تُجاهَك، إذا سألتَ فسَلِ اللهَ، وإذا استعنتَ فاستعِنْ بالله، واعلم أن الأمّة لو اجتمعتْ على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلّا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يَضُرّوك بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك. رفعتِ الأقلامُ، وجفَّتِ الصحف» .
هكذا ذكره من غير إسناد، ولم أروِ عنه حديثًا علّق إسناده غير هذا، وهو يرويه عن أبي الحسن بن البخاري سماعًا، أبنا ابن طبرزد، أبنا الكروخي، أبنا أبو الفتح الهروي، أبنا أبو عامر الأزدي وأبو نصر الترياقي وأبو بكر الغورجي قالوا: أبنا أبو محمد الجراحي، أبنا أبو العباس المحبوبي، أبنا الترمذي، نا أحمد بن محمد بن موسى، نا ابن المبارك، أنا ليث بن سعد وابن لهيعة عن قيس بن الحجاج. ح وثنا عبد الله بن عبد الرحمن، أنا أبو
(1)
(ص 73 - 74)(نسخة الخزانة العامة بالرباط، وهي بخط المؤلِّف).
الوليد، ثنا ليث بن سعد، حدَّثني قيس بن الحجاج، المعنى واحد، عن حنش الصنعاني عن ابن عباس، فذكره، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وقد يقع لنا هذا الحديث أعلى من طريقه بثلاث درجات، فكأنّي من حيث العدد سمعتُه من الكروخي، وكانت وفاته سنة ثمان وأربعين وخمس مئة. أبنا أبو الفتح يونس العَسْقلاني قراءةً عليه وأنا أسمع، أبنا ابن الجُمَّيْزِي وغيره ......
(1)
عن السِّلفي أبنا أبو العلاء محمد بن عبد الجبار بن محمد الضبي الفرساني، نا أبو عبد الله الجمال، عن عبد الله بن جعفر بن فارس، عن يونس بن حبيب، أنا أبو الوليد الطيالسي، فذكره.
* * * *
(1)
هنا كلمة غير واضحة، ولعلها «كلهم» أو «جميعا» .
العلامة: خليل بن أيبك الصفدي (764)
- أعْيَانُ العَصْر وأعْوَان النَّصر
- الوافي بالوَفَيَات
صفحة بيضاء
أعيان العصر وأعْوَان النَّصْر
(1)
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم.
الشَّيخُ الأمامُ العالمُ العلامةُ المفسِّر المحدثُ، المجتهدُ، الحافظُ، شيخ الإسلام، نادرةُ العصر، فريد الدهر، تقيّ الدِّين أبو العبَّاس ابن الشَّيخ شهاب الدِّين ابن الإمام مجد الدِّين أبي البركات ابن تَيْمِيَّة.
سمع من ابن عبد الدايم، وابن أبي اليُسْر، والكمال ابن عَبْد، وابن أبي الخير، وابن الصيرفي، والشَّيخ شمس الدين، والقاسم الإربلي، وابن علّان، وخلق كثير. وبالغ وأكثر، وقرأ بنفسه على جماعة، وانتخب، ونسخ عدة أجزاء، وسنن أبي داود. ونظر في الرجال والعِلل، وصار من أئمّة النقد ومن علماء الأثر، ومع التديّن والتألّه.
ثمَّ أقبل على الفقه ودقائقه، وغاص على مباحثه.
تحوّل به أبوه من حرّان إلى دمشق سنة سبع وستين وست مئة، وتَيْميَّة لقبٌ لجدّه الأعلى.
تمذهب للإمام أحمد بن حنبل، فلم يكن أحدٌ في مذهبه أنْبَهَ ولا أنْبَلَ. وجَادَل وجالَدَ شُجعان أقرانه، وجدّل خصومه في وسط ميدانه، وفَرَّجَ مضايقَ البحث بأدلة قاطعة، ونصر أقواله في ظُلمات الشكوك بالبراهين الساطعة. كأنّ السُّنة على رأس لسانه، وعلوم الأثر مُساقةٌ في حواصل جنانه، وأقوال
(1)
(ص 66 - 73) نسخة المكتبة السليمانية، مجموعة عاطف أفندي باستانبول، برقم (1809).
العلماء مجلُوّة نُصْب عيانه. لم أرَ أنا ولا غيري مثل استحضاره، ولا مِثل سَبْقه إلى الشواهد وسُرعة إحضاره، ولا مِثل عَزْوه الحديث إلى أصله الَّذي فيه نقطة مداره. وأمّا علم الأصليْن فقهًا وكلامًا، وفهمًا وإعلامًا، فكان عجبًا لمن يسمعه معجزًا لمن يَعُدّ ما يأتي به أو يجمعه.
يُنزِّل الفروع منازلها من أصولها، ويردُّ القياسات إلى مآخذها من محصولها.
وأما الملل والنحل، ومقالات أرباب البِدَع الأُوَل، ومعرفة أرباب المذاهب، وما خُصّوا به من الفتوحات والمواهب؛ فكان في ذلك بحرًا يتموَّج، وسَهمًا ينفذُ على السواء لا يتعوَّج.
وأمّا المذاهب الأربعة فإليه في ذلك الإشارة، وعلى ما ينقله الإحاطة والإدارة.
وأما نقل مذاهب السلف، وما حدث بعدهم من الخلف؛ فذاك فنُّه، وهو في وقت الحرب مِجَنُّه، قلّ أنْ قَطَعه خصمُه الَّذي تصدّى له وانتصب، أو خلص منه مُناظره إلّا وهو يشكو من الأيْن والنَصَب.
وأما التفسير فَيَدُه فيه طولى، وسَرْدُه فيه يجعل العيون إليه حُوْلى.
إلَّا أنّه انفرد بمسائل غريبة، ورجَّح فيها أقوالًا ضعيفة عند الجمهور معيبة
(1)
، كَادَ منها يقع في هُوّة، ويسلمُ منها لما عنده من النّية المرجوة. والله يعلم قصْده وما يترجّحُ من الأدلة عنده.
(1)
سبق التعليق على مثل هذه العبارات.
وما دمّر عليه شيءٌ كمسألة الزيارة، ولا شُنّ عليه مثلها إغارة، دخل منها إلى القلعة مُعتقلا، وجفاه صاحُبه وقَلا، وما خرج منها إلّا على الآلة الحدْباء، ولا دَرَج
(1)
منها إلّا إلى البقعة الجدْباء، والتحق باللطيف الخبير، ووَلَّى والثناء عليه كَنشْر العبير.
وكان ذا قلم يُسابق البرق إذا لمع، والودْق إذا هَمَع. يُملي على المسألة الواحدة ما شاء من رأس القلم، ويكتب الكرّاسيْن والثلاثة في قعدةٍ، وحدُّ ذهنه ما كَلَّ ولا انثلم.
قد تحلّى «بالمحلّى» وتولّى من تقليده ما تولّى، فلو شاء أورده عن ظهر قلب، وأتى بجُملةِ ما فيه من الشناع والثلْب! !
وضيّع الزمان في ردّه على النصارى والرافضة، ومَنْ عاند الدِّين أو ناقضه، ولو تصدّى لشرح البخاريّ أو لتفسير القرآن العظيم، لقلّد أعناق أهل العلوم بِدُرِّ كلامه النظيم
(2)
.
وكان من صغره حريصًا على الطلب، مُجِدًّا على التحصيل والدأب، ولا يُؤْثر على الاشتغال لذة، ولا يرى أن تَضِيْع لحظة منه في البطالة فذّة. يذهل عن نفسه ويغيب في لذة العلم عن حِسه، لا يطلب أكلًا إلّا إذا حضر لديْه، ولايرتاحُ إلى طعام ولا شراب في أبرديْه. قيل: إنَّ أباه وأخاه وأهله،
(1)
في نسخة: «رجع» .
(2)
لم يضيِّع شيخ الإسلام الزمان بذلك؛ بل أتى فيه بالعجب العجيب، فمن لنا بمثل «منهاج السنة» ، و «درء التعارض» ، و «الجواب الصحيح» ، و «بيان تلبيس الجهمية» ؟ ! وله في التفسير والحديث ما لو وصل إلينا كاملًا لكان في أسفار كثيرة.
وآخرين ممن يلوذون بظلّه، سألوه أن يروح معهم يوم سَبت ليتفرّج، فهرب منهم وما ألْوى عليهم ولا عَرَّج. فلما عادوا آخر النهار لاموه على تخلُّفِه، وتركه لاتّباعهم وما في انفراده من تَكَلُّفِه. فقال: أنتم ما تزيّد لكم شيءٌ
(1)
ولا تجدّد، وأنا حفظتُ في غيبتكم هذا المجلّد. وكان ذلك الكتاب «جَنّة النَّاظر وجُنّة المُناظر»
(2)
وهو مجلّد صغير وأمرُه شهير. لا جَرَم أنَّه كَانَ في أرض العلوم حارثًا وهو همّام، وعلومه ــ كما يقولُ الناسُ ــ تدخلُ معه الحمّام.
هذا إلى كرمٍ يضحك البرقُ منه على غَمَائمه، وجودٍ ما يصلح حاتم أن يكون في فصّ خاتمه، وشجاعةٍ يفرّ منها قَسْوَرة، وإقدام يتأخّرُ عنه عنترة، دخل على محمود غازان وكلّمه كلامًا غليظًا بقوةٍ، وأسمعه مقالًا لا تحمله الأبّوةُ من البنوّة.
وكان في ربيع الأوَّل سنة ثمان وتسعين وست مئة قد قام عليه جماعةٌ من الشافعيّة وأنكروا عليه كلامه في الصفات، وأخذوا فتياه «الحمويّة» ، وردّوا عليه فيها، وعملوا له مجلسًا. فدافع الأفرمُ عنه ولم يُبَلِّغهم فيه أرَبَا. ونودي بدمشق بإبطال العقيدة «الحموية» . فانتصر له جاغان المشدّ. وكان قد مُنع من الكلام. ثمَّ حضر عنده قاضي القُضاة إمام الدين، وبحثوا معه، وطال الأمر بينهم. ثمَّ رجع القاضي إمام الدِّين وأخوه جلال الدِّين وقالا: من قال عن الشَّيخ تقيّ الدِّين شيئًا عزّرْناه.
ثُم إنَّه طُلب إلى مصر وهو القاضي نجم الدِّين ابن صصري، وتوجّها
(1)
في الأصل: «شيئًا» .
(2)
لغلام ابن المَنّي (ت 610).
إلى مصر في ثاني عشر شهر رمضان سنة خمس وسبع مئة، فانتصر له الأمير سيف الدِّين سلَّار، وحطّ الجاشنكير عليه، وعقدوا له مجلسًا انفصل على حبسه، فحُبس في خزانة البنود، ثمَّ نُقِلَ إلى الإسكندرية في صَفَر سنة تسع وسبع مئة، ولم يُمَكَّن أحدٌ من أصحابه من التوجّه معه. ثمّ أُفرج عنه، وأقام بالقاهرة مدّة، ثمَّ اعتُقل أيضًا، ثمَّ أُفرج عنه في ثامن شوّال سنة تسعٍ وسبع مئة، أخرَجه الناصرُ لمّا وَرَد من الكرك، وحضر إلى دمشق.
فلما كَانَ في يوم الثلاثاء تاسع عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وسبع مئة، جُمع الفقهاء والقُضاة عند الأمير سيف الدِّين تنكز، وقُرئ عليهم كتابُ السلطان، وفيه فصلٌ يتعلّق بالشيخ تقيّ الدِّين بسبب فُتياه في مسألة الطلاق، وعوتب على فتياه بعد المنْع، وانفصل المجلس على توكيد المنع.
ثمَّ إنّه في يوم الخميس ثاني عشري شهر رجب الفرد سنة عشرين وسبع مئة عُقد له مجلس بدار السعادة، وعاودوه في فُتيا الطلاق [وحاققوه]
(1)
عليها وعاتبوه لأجلها، ثمَّ إنَّه حُبس بقلعة دمشق، وأقام بها إلى يوم الاثنين يوم عاشوراء سنة إحدى وعشرين وسبع مئة، فأُخرج من القلعة بعد العصر بمرسوم السلطان، وتوجّه إلى منزله، وكانت مدّة سجنه خمسة أشهر وثمانية عشر يومًا.
ولمّا كَانَ في يوم الاثنين بعد العصر سادس شعبان سنة ست وعشرين وسبع مئة في أيّام قاضي القضاة جلال الدِّين القزويني تكلّموا معه في مسألة الزيارة، وكُتب في ذلك إلى مصر، فورد مرسوم السلطان باعتقاله في القلعة.
(1)
ما بين المعكوفتين من نسخة أخرى.
فلم يزل بها إلى أن مات رحمه الله تعالى في ليلة الاثنين عشري ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، بقلعة دمشق، في القاعة الَّتي كَانَ بها محبوسًا.
ومولده بحرّان سنة إحدى وستين وست مئة.
وأوّل ما اجتمعتُ أنا به كَانَ في سنة ثماني عشرة أو سبع عشرة وهو بمدرسته في القصّاعين بدمشق المحروسة. وسألتُه مسألة مُشْكِلة في التفسير، ومسألة مُشْكِلة في الإعراب، ومسألة مُشْكِلة في الممكن والواجب. وقد ذكرت ذلك في ترجمته في تاريخي الكبير
(1)
.
ثمَّ اجتمعتُ به بعد ذلك مرّات، وحضرتُ دروسه في الحنبليّة، فكنتُ أرى منه:
عجبًا من عجائب البر والبحـ
…
ـر ونوعًا فرْدًا وشكلًا غريبا
وكان [كثيرًا]
(2)
ما يُنشد قول ابن صرَّدُرَّ:
تموتُ النفوسُ بأوصابِها
…
ولم تَشْك عوَّادَها ما بِها
وما أنْصَفَتْ مُهْجةٌ تَشْتكي
…
أذاها إلى غيرِ أحْبابها
ويُنْشد أيضًا:
مَنْ لم يُقَدْ ويُدسَّ في خيشومه
…
رهجُ الخميس فلن يقود خميسا
رأيتُه في المنام بعد موته ــ رحمه الله تعالى ــ كأنّه في جامع بني أميّة وأنا في يدي صورة عقيدة ابن حزم الظاهري الَّتي ذكرها في أوّل كتاب «المحلى»
(1)
يقصد به «الوافي بالوفيات» .
(2)
الزيادة من نسخة أخرى.
وقد كتبتُها بخطيّ، وكتبتُ في آخرها:
وهذا نصُّ ديني واعتقادي
…
وغيري ما يرى هذا يجوزُ
وقد أوقفتُه على ذلك، فتأملها ورآها وما تكلّم بشيء.
ذكر شيء من تصانيفه
«قاعدة في الاستعاذة» . «قاعدة في البسملة» . «قاعدة في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}» . قطعة كبيرة من أول سورة البقرة، وفي قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 8] نحو ثلاثة كراريس. وفي قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] نحو كراستين. وفي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] سبع كراريس. وفي قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] كراس. «آية الكرسي» كراسان، وغير ذلك من سورة البقرة. {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران: 7] إلى آخرها نحو مجلّد. {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18] ستة كراريس. {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} [النساء: 79] عشر كراريس، وغير ذلك من سورة آل عمران. «تفسير المائدة» مجلّد كبير. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] ثلاث كراريس. {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 172] سبع كراريس قواعد. «سورة يوسف» مجلد كبير. «سورة النور» مجلد لطيف. «سورة تبت والمعوذتين» . «سورة الكافرون» . «سورة الإخلاص» مجلد. «سورة العلق وأنها أول سورة أنزلت تضمنتْ أصول الدين» مجلد. «سورة لم يكن» . وغير ذلك من آيات مُفرَّقة.
كتب الأصول
«الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية» أربع مجلدات أملاه في الجب. «بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية» وربما سماه «تخليص التلبيس من تأسيس التقديس» . «شرح أول المحصل للرازي» بلغ ثلاث مجلدات. «شرح بضع عشرة مسألة من الأربعين للإمام فخر الدِّين الرازي» . «تعارُض العقل والنقل» أربع مجلدات. «جواب ما أورده كمال الدِّين ابن الشريشي» مجلد. «الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح» ، ثلاث مجلدات. «منهاج الاستقامة». «شرح عقيدة الأصبهاني» مجلد. «نقض الاعتراض عليها لبعض المشارقة» أربع كراريس. «شرح أول كتاب الغزنوي» مجلد. «الرد على المنطق» مجلد. «رد آخر» لطيف. «الرد على الفلاسفة» مجلدات. «قاعدة في القضايا الوهمية». «قاعدة فيما يتناهى وما لا يتناهى». «جواب الرسالة الصفدية». «جواب في نقض قول الفلاسفة: إن معجزات الأنبياء قوى نفسانية». «إثبات المعاد والرد على ابن سينا» . «شرح رسالة ابن عبدوس في كلام الإمام أحمد في الأصول» . «ثبوت النبوات عقلًا ونقلًا والمعجزات والكرامات» مجلدان. «قاعدة في الكليات» مجلد لطيف. «الرسالة القُبرسية» . «رسالة إلى أهل طبرستان وجيلان في خلق الروح والنور والأئمة المقتدى بهم» . «مسألة ما بين اللوحين كلام الله» . «تحقيق كلام الله لموسى» . «هل سمع جبريل كلام الله أو نقله من اللوح المحفوظ» . «الرسالة البعلبكية» . «الرسالة الأزهرية» . «القادرية» . «البغدادية» . «أجوبة الشكل والنقط» . «إبطال الكلام النفساني» أبطله من نحو ثمانين وجهًا. «جواب من حلف بالطلاق الثلاث أن القرآن حرف وصوت» .
وله في إثبات الصفات وإثبات العلو والاستواء مجلدات. «المراكشية» . «صفات الكمال والضابط فيها» . «أجوبة في مباينة الله تعالى لخلقه» . «جواب في الاستواء وإبطال تأويله بالاستيلاء» . «جواب من قال لا يمكن الجمع بين إثبات الصفات على ظاهرها مع نفي التشبيه» . «أجوبة كون العرش والسموات كُريّة وسبب قصد القلوب جهة العلو» .
«جواب كون الشيء في جهة العلو مع أنه ليس بجوهر ولا عرضٍ معقول أو مستحيل» . «جواب هل الاستواء والنزول حقيقة وهل لازم المذهب مذهب» سماه الإربلية. «مسألة النزول واختلاف وقته باختلاف البلدان والمطالع» مجلد لطيف. «شرح حديث النزول» في أكثر من مجلد. «بيان حل إشكالات ابن حزم الواردة على الحديث» . «قاعدة في قرب الرب من عابديه وداعيه» مجلد. «الكلام على نقض المرشِدة» . «المسائل الإسكندرانية في الرد على الاتحادية والحلولية» . «ما تضمنه «فصوص
(1)
الحكم» من الكفر والإلحاد والاتحاد والحلول». «جواب في لقاء الله» . «جواب رؤية النساء ربهن في الجنة» . «الرسالة المدنية في الصفات النقلية» . «الهلاوونيّة جواب [سؤال] ورَدَ على لسان ملك التتار» مجلد. «قواعد في إثبات القدر والرد على القدرية والجبرية» مجلد. «رد على الروافض في الإمامة على ابن مطهر» . «جواب في حسن إرادة الله لخلق الخلق وإنشاء الأنام لعلة أم لغير علة» . «شرح حديث فحجَّ آدم موسى» . «تَنبيه الرجل الغافل على تمويه المجادل» مجلد. «تناهي الشدائد في اختلاف العقائد» . «كتاب الإيمان» . «شرح حديث جبريل في الإسلام والإيمان» . «في عصمة الأنبياء في ما يبلّغونه» . «مسألة في العقل والروح» . «في المقربين هل
(1)
في الأصل: «حلول» تحريف.
يسألهم منكر ونكير». «هل تُعذب الروح مع الجسد في القبر وهل تفارق البدن بالموت أو لا» . «الرد على أهل كسروان» . «في فضل أبي بكر وعمر على غيرهما» . «قاعدة في فضل معاوية وفي ابنه يزيد أنه لا يُسَبّ» . «في تفضيل صالحي الناس على سائر الأجناس» . «في كفر النصيرية» . «في جواز قتال الرافضة» . «في بقاء الجنة والنار وفنائهما» وهو آخر ما صنَّفه في القلعة، وقد ردّ عليه العلّامة قاضي القضاة تقي الدِّين السبكي.
كتب أصول الفقه
«قاعدة غالبها أقوال الفقهاء» مجلدان. «قاعدة كل حَمْد وذم من المقالات لا يكون إلّا من الكتاب والسّنة» . «شمول النصوص للأحكام» . «قاعدة في الإجماع وأنه ثلاثة أقسام» . «جواب في الإجماع وخبر التواتر» . «قاعدة في أن خبر الواحد يفيد اليقين» . «قاعدة في كيفية الاستدلال والاستدراك على الأحكام بالنص والإجماع
(1)
». «في الرد على من قال إن الأدلة اللفظية
(2)
لا تفيد اليقين». «قاعدة فيما يُظَنُّ من تعارض النصّ والإجماع» . «مؤاخذة لابن حزم في الإجماع» . «قاعدة في تقرير القياس» . «قاعدة في الاجتهاد والتقليد في الأحكام
(3)
». «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» . «قاعدة في الاستحسان» . «وصف العموم والإطلاق» . «قواعد في أن المخطئ في الاجتهاد لا يأثم» . «هل العامي يجب عليه تقليد مذهب معين» . «جواب في ترك التقليد في من يقول مذهبي مذهب النبي عليه السلام
(1)
في الأصل: «الاحكام» تحريف.
(2)
في الأصل: «القطعية» .
(3)
في الأصل: «الاجماع» .
وليس أنا محتاج
(1)
إلى تقليد الأربعة». «جواب من تفقه في مذهب ووجد حديثًا صحيحًا هل يعمل به أو لا» . «جواب تقليد الحنفي الشافعي في الجمع للمطر والوتر» . «الفتح على الإمام في الصلاة» . «تفضيل قواعد مذهب مالك وأهل المدينة» . «تفضيل الأئمة الأربعة وما امتاز به كل واحد منهم» . «قاعدة في تفضيل الإمام أحمد» . «جواب هل كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة نبيًّا» . «جواب هل كان النبي صلى الله عليه وسلم متعبدًا بشرع من قبله» . «قواعد أن النّهي يقتضي الفساد» .
كتب الفقه
«شرح المحرر في مذهب أحمد» ولم يبيَّض. «شرح العمدة للموفق» أربع مجلدات. «جواب مسائل وردت من أصبهان» . «جواب مسائل وردت من الأندلس» . «جواب مسائل وردت من الصَّلت» . «جواب مسائل من بغداد» . «مسائل وردت من زُرَع» . «أربعون مسألة لقبت الدرّة المضية» . «الماردانية» . «الطرابلسية» . «قاعدة في المياه والمائعات وأحكامها» . «المائعات وملاقاتها النجاسة» . «طهارة بول ما يؤكل لحمه» . «قاعدة في حديث القُلّتين وعدم رفعه» . «قواعد في الاستجمار وتطهير الأرض بالشمس والريح» . «جواز الاستجمار مع وجود الماء» . «نواقض الوضوء» . «قواعد في عدم نقض الوضوء بلمس النساء» . «التسمية على الوضوء» . «خطأ القول بجواز مسح الرجلين» . «جواز المسح على الخفين المنخرقين والجوربين واللفائف» . «في من لا يعطي أجرة الحمام
(2)
». «تحريم دخول الحمام بلا
(1)
كذا في الأصل.
(2)
في الأصل: «الحكام» .
مئزر». «في الحمام والاغتسال» . «ذَم الوسواس» . «جواز طواف الحائض» . «تيسير العبادات لأرباب الضرورات بالتيمم والجمع بين الصلاتين للعذر» . «كراهية التلفظ بالنية وتحريم الجهر بها» . «في البسملة هل هي من السورة» . «فيما يعرض من الوسواس في الصلاة» . «الكَلِم الطيّب في الأذكار» . «كراهية بَسْطِ سجادة المصلي قبل مجيئه» . «في الركعتين اللتين تصليان قبل الجمعة» . «في الصلاة بعد أذان الجمعة» . «القنوت في الصبح والوتر» . «قتل تارك أحد المباني وكفره» . «الجمع بين الصلاتين في السفر» . «فيما يختلف حكمه في السفر والحضر» . «أهل البدع هل يصلّى خلفهم» . «صلاة بعض أهل المذاهب خلف بعض» . «الصلوات المبتدعة» . «تحريم السماع» . «تحريم الشبّابة» . «تحريم الشطرنج» . «تحريم الحشيشة ووجوب الحد فيها ونجاستها» . «النهي عن المشاركة في أعياد اليهود والنصارى وإيقاد نصف شعبان والحبوب في عاشوراء» . «مقدار الكفارة في اليمين» . «في أن المطلقة ثلاثًا لا تَحِلُّ إلّا بنكاح زوج ثان» . «بيان الطلاق المباح والحرام» .
«في الحلف بالطلاق وتنجيزه ثلاثًا» . «جواب
(1)
من حلف لا يفعل شيئًا على المذاهب الأربعة [ثم طلَّق ثلاثًا في الحيض]». «الفرق المبين بين الطلاق واليمين» . «لمحة المختطف في الفرق بين الطلاق والحلف» . «الحلف بالطلاق من الأيمان حقيقة» . «كتاب التحقيق في الفرق بين الأيمان والتطليق» . «الطلاق البدعي لا يقع» . «مسائل الفرق بين الحلف بالطلاق وإيقاعه والطلاق البدعي والخلع ونحو ذلك» تقدير خمسة عشر مجلدًا. «مناسك الحج» عدة. «في حجة النبي عليه السلام» . «في العمرة المكية» . «في
(1)
في الأصل: «جواز» .
شهر
(1)
السلاح بتبوك وشرب السويق بالعقبة وأكل التمر بالروضة وما يلبس المُحْرِمُ وزيارة الخليل عقيب الحج». و «زيارة القدس مطلقًا» . «جبل لبنان كأمثاله من الجبال ليس فيه رجال غُيَّبٌ ولا أبدال» . «جميع أيمان المسلمين مكفرّة» .
كتب في أنواع شتى
جمع بعض الناس «فتاويه بالديار المصرية» مدة سبع سنين في علوم شتى فجاءت ثلاثين مجلدة. «الكلام على بطلان الفتوة المصطلح عليها بين العوام وليس لها أصل يتصل بعليٍّ عليه السلام» . «كشف حال المشايخ الأحمدية وأحوالهم الشيطانية» . «بطلان ما يقوله أهل بيت الشيخ عديّ» . «النجوم هل لها تأثير عند الاقتران والمقابلة، والخسوف والكسوف، هل يقبل قول المنجمين فيه ورؤية الأهلة» . «تحريم أقسام المعزمين بالعزائم المعجمة وصَرْع الصحيح وصفة الخواتم» . «إبطال الكيمياء وتحريمها ولو صحت وراجت» . «كشف حال المرازقة» . «قاعدة في العبيديين» .
ومن نظم الشيخ تقي الدِّين على لسان الفقراء المجردين وغيرهم:
واللهِ ما فَقْرُنا اختيارُ
…
وإنّما فقرُنا اضطرارُ
جماعةٌ كُلُّنا كُسالى
…
وأكلُنا ما لهُ عيارُ
تسمعُ منّا إذا اجتمعنا
…
حقيقةً كُلّها فشارُ
وله قصائد مطوّلة أجوبة عن مسائل كان يُسأل عنها نظمًا مثل مسألة اليهودي، وجوابه عن اللغز الذي نظمه الشيخ رشيد الدِّين الفارقي، وغير
(1)
في الأصل: «بشهر» .
ذلك.
ومدحه جماعة من أهل مصر منهم شهاب الدِّين أحمد بن محمد البغدادي المعروف بابن الأبرادي الحنبلي، والشيخ شمس الدِّين الصايغ، وسعد الدِّين أبو محمد سعد الله بن عبد الأحد الحراني، وأكثر من ذلك، ومنه قوله:
لئنْ نافقوه وهو في السجنِ وابتغوا
…
رضاهُ وأبْدَوا رقّةً وتَودُّدا
فلا غَرْوَ أنْ ذلَّ الخصومُ لبأسِه
…
ولا عجبٌ أن خافَ سطوتَه العدى
فمنْ شيمَةِ العَضْبِ المُهَنَّد أنّهُ
…
يُخاف ويُرجى مُغمدًا ومجَرَّدا
وممن مدحه بمصر أيضا شيخنا العلامة أبو حيان، لكنه انحرف عنه فيما بعد، ومات وهو على انحرافه. ولذلك أسباب، منها: أنه قال له يومًا: كذا قال سيبويه، فقال: يكذب سيبويه، فانحرف عنه. وقد كان أولًا جاء إليه والمجلس عنده غاصٌّ بالناسِ، فقال يمدحه ارتجالًا:
لما أتينا تقيَّ الدِّين لاحَ لنا
…
داعٍ إلى اللهِ فردٌ ما له وَزَرُ
على محيَّاه من سِيْما الألَى صحبوا
…
خير البرية نورٌ دونَه القمرُ
حَبرٌ تسربلَ منه دهرُه حِبَرًا
…
بَحرٌ تقاذفُ من أمواجه الدُّررُ
قام ابن تيميةٍ في نصرِ شرعتِنا
…
مقامَ سَيِّد تيمٍ إذ عَصَتْ مُضَرُ
فأظهرَ الحقَّ إذ آثارُه دَرَسَتْ
…
وأخمدَ الشرَّ إذ طارتْ له الشررُ
كُنَّا نُحدَّثُ عن حَبْرٍ يجيئ فَهَا
…
أنتَ الإمام الذي قد كان يُنتظَر
وكتب الشيخ كمال الدِّين محمد بن علي ابن الزملكانيّ رحمه الله تعالَى على بعض تصانيفه:
ماذا يقولُ الواصفون له
…
وصفاتُه جَلَّت عن الحَصْرِ
هو حجةٌ للهِ قاهرة
…
هو بيننا أعجوبةُ العَصْرِ
هو آيةٌ في الخلق ظاهرةٌ
…
أنوارُها أربَتْ على الفَجْر
والذي أراه أن هذه الأبيات كتبها الشيخ كمال الدِّين في حياة الشيخ صدر الدِّين ابن الوكيل، لأنه كان يخالفه ويريد أن ينتصر عليه بالشيخ تقي الدِّين ابن تيمية، والله أعلم.
ولمّا توفي ــ رحمه الله تعالى ــ رثاه جماعة منهم: الشيخ قاسم ابن عبد الرحمن المقرئ، وبرهان الدِّين إبراهيم ابن الشيخ شهاب الدِّين العجمي، ومحمود بن علي بن محمود الدقوقي البغدادي، ومجير الدِّين الخياط الدمشقي، وشهاب الدِّين أحمد [بن] الكرشت، وزين الدِّين عمر بن الحسام، ومحمد بن أحمد بن [أبي] القاسم الحلبي الدمشقي الإسكاف، وصفي الدِّين عبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي الحنبلي، وجمال الدِّين محمود بن الأثير الحلبي، وعبد الله بن خضر بن عبد الرحمن الرومي الجزري
(1)
المعروف بالمتيم، وتقي الدِّين محمد بن سليمان بن عبد الله ابن سالم الجعبري، وجمال الدِّين عبد الصمد بن إبراهيم [بن] الخليل الخليلي، وحسن بن محمد النحوي المارداني، وغيرهم. أنشدني إجازة لنفسه الشيخ علاء الدِّين علي بن غانم:
أيُّ حبرٍ مضى وأيُّ إمامِ
…
فُجِعَتْ فيه ملّةُ الإسلامِ
ابن تَيْمِيّةَ التقيُّ وحيدُ الـ
…
ـدَهْرِ مَن كان شامةً في الشامِ
(1)
كذا بالأصل، وفي بعض النسخ و «الوافي»:«الحريري» .
بحرُ علمٍ قد غاضَ منْ بعد ما فا
…
ضَ نداهُ وعمَّ بالإنعامِ
زاهدٌ عابدٌ تَنَزَّهَ في دنـ
…
ـياهُ عن كلِّ ما بها منْ [حُطامِ]
(1)
كان كنزًا لكلِّ طالبِ علمٍ
…
ولمن خاف أن يُرى في حرامِ
ولعافٍ قد جاء يشكو من الفقـ
…
ـرِ لَدَيْهِ فَنالَ كلَّ مَرامِ
حاز علمًا فما له من مساوٍ
…
فيه من عالمٍ ولا مُسامِ
لم يكنْ في الدُّنا له من نظيرٍ
…
في جميعِ العلومِ والأحكامِ
عالمٌ في زمانه فاق بالعلـ
…
ـمِ جميعَ الأئمّةِ الأعلامِ
كان في علمه وحيدًا فريدًا
…
لم ينالوا ما نال في الأحلامِ
كلُّ مَنْ في دمشقَ ناحَ عليهِ
…
ببكاءٍ من شدَّةِ الآلامِ
فُجِعَ الناسُ فيه في الشرقِ والغر
…
بِ وأضْحَوْا بالحزنِ كالأيتامِ
لو يفيدُ الفِداءُ بالروح كنّا
…
قد فديناهُ من هجومِ الحِمامِ
أوحدٌ فيه قد أُصيب البرايا
…
فَيُعَزَّى فيه جميعُ الأنامِ
وعزيزٌ عليهِمُ أن يَرَوْهُ
…
غابَ بالرغمِ في الثرى والرغامِ
ما يُرى مثلُ يومه عندما سا
…
ر على النَّعْشِ نحو دارِ السّلامِ
حملوهُ على الرقاب إلى القَبْـ
…
ـرِ وكادوا أن يهلكوا بالزحامِ
فَهُوَ الآنَ جارُ ربِّ السموا
…
تِ الرحيمِ المهيمنِ العلّامِ
قَدَّسَ اللهُ روحَهُ وسقى قَبْـ
…
ـْرًا حَواهُ بهاطلاتِ الغَمامِ
فلقد كان نادرًا في بني الدهـ
…
ـرِ وحُسْنًا في أوجهِ الأيام
وأنشدني أيضًا إجازة لنفسه الشيخ زين الدِّين عمر ابن الوردي الشافعي:
(1)
في الأصل: «حرام» والمثبت من «الوافي» .
قلوبُ الناسِ قاسيةٌ سلاطُ
…
وليس لها إلى العَليا نشاطُ
أتَنْشَطُ قطُّ بعد وفاةِ حبرٍ
…
لنا من نثرِ جَوهَرِهِ التقاطُ
تقيُّ الدِّين ذو ورعٍ وعلمٍ
…
خُروقُ المعضلاتِ به تخاطُ
تُوفّيَ وهو محبوسٌ فريدٌ
…
وليس له إلى الدنيا انبساطُ
ولو حضروه حين قضى
…
لألفَوْا ملائكَةَ النّعيمِ به أحاطوا
قضى نحبًا وليس له قرينٌ
…
وليس يلفُّ مشبهَهُ القِماطُ
فتًى في علمه أضحى فريدًا
…
وحَلُّ المشكلاتِ به يُناطُ
وكان يخافُ إبليسٌ سَطاهُ
…
بوعظٍ للقلوبِ هي السِّياط
فيا للهِ ما قد ضمَّ لَحْدٌ
…
ويا للهِ ما غطّى البلاطُ
وحبس الدرِّ في الأصداف فخرٌ
…
وعند الشيخ بالسجنِ اغتباطُ
بنو تيميّةٍ كانوا فبانوا
…
نجومُ العلمِ أدركها انهباطُ
ولكن يا ندامتنا عليهِ
…
فشكُّ الملحدين به يُماطُ
إمامٌ لا ولاية قطُّ عانى
…
ولا وقفٌ عليه ولا رباطُ
ولا جارى الورى في كسبِ مالٍ
…
ولم يَشْغَلْهُ بالناسِ اختلاطُ
ولولا أنّهم سجنوه شرعًا
…
لكان به لقَدرِهِمُ انحطاطُ
لقد خَفيَتْ عليَّ هنا أُمورٌ
…
وليس يليقُ لي فيها انخراطُ
وعند اللهِ تجتمعُ البرايا
…
جميعًا وانطوى هذا البساطُ
وقلتُ أنا أيضًا أرثيه:
إنَّ ابنَ تيميَّةَ لمَّا قَضَى
…
ضَاقَ بأهلِ العلمِ رَحْبُ الفَضَا
فأيُّ بَدْرٍ قَد مَحَاهُ الرَّدَى
…
وأيُّ بحرٍ في الثَّرَى غيّضَا
وأيُّ شَرٍّ فُتِّحَتْ عَيْنُه
…
وأيُّ خيرٍ طَرْفُه غُمِّضَا
يا وَحْشةَ السُّنَّةِ مِن بَعْدِه
…
فَرَبْعُها المعمورُ قد قوّضا
كم مَجْلسٍ كانَ هَشِيْمًا مِنَ الْـ
…
ـعِلْمِ فلمَّا جَاءهُ رَوَّضَا
وكلُّ حَفْلٍ أُفْقُهُ مُظْلِمٌ
…
تَراهُ إنْ وَافَى إليهِ أضَا
ومُشكلٍ لمّا دَجَا لَيْلُهُ
…
أعادَهُ يَوْمَ هُدًى أبْيَضَا
تصراهُ إنْ بَرْهَنَ أقوالَهُ
…
فقَلَّ أنْ تُدْحَرَ أو تُدْحَضَا
وبحثه في مَدَدٍ طافحٍ
…
وخصمُه في وقتِه انقضا
يَوَدُّ لَو أبْلَعَهُ رِيْقَه
…
وَهْوَ له بالحقِّ قَد أجْرَضَا
أغَصَّهُ حتَّى غَدا مُطْرِقًا
…
مِنْ نَدَمٍ كَفَّيْهِ قَدْ عَضَّضَا
ما كانَ إلَّا أسَدًا خَادِرًا
…
أضْحَى له غَابُ النُّهَى مَرْبِضَا
وَهْوَ بِزِيِّ العلمِ في بَرْدِهِ
…
وخَصْمُهُ قَدْ ضَمَّ جَمْرَ الْغَضَا
سبحانَ مَنْ سَخَّر قَلْبَ الوَرَى
…
لِقولِه طَوْعًا وقَد قَيَّضَا
قد أجمعَ النَّاسُ على حُبِّهِ
…
ولا اعْتبارَ بالَّذِيْ أبْغَضَا
كان سَليمَ الصَّدْرِ قد سَلَّمَ الْـ
…
أمْرَ لِبارِيْهِ وقَد فَوَّضَا
كَمْ حَثَّ للخيرِ وكَمْ ذِيْ كَرًى
…
أيْقَظَ مِنْ نَوْمٍ وكَمْ حَرَّضَا
وأمْرَضَ الإلحادَ لمَّا جَلا الْـ
…
ـحَقَّ وقَلْبَ الزَّيْغِ قَد أرْمَضَا
وغَادرَ الباطِلُ في ظُلمةٍ
…
لَمَّا رَأى بَارِقَهُ أوْمَضَا
وَهْوَ عَنِ الدُّنْيَا زَوَى نَفْسَه
…
واللهُ بالجنَّةِ قَدْ عَوَّضَا
فَمَا لهُ في مَنْصِبٍ رَغْبَةٌ
…
وعَزْمُهُ فِي ذاك مَا اسْتَنْهَضَا
كَانَ إذا الدُّنْيا لَهُ عَرَّضَتْ
…
بِزُخْرُفٍ مِن نَفْسِها أعْرضَا
ولو رَأى ذلكَ مَا فَاتَه
…
مَنَاصِبٌ مِنْ بَعْضِهِنَّ الْقَضَا
وبعدَ هذا حُكْمُهُ نَافِذٌ
…
فِي كُلِّ مَا قَدْ شَاءَهُ وَارْتَضَى
بنَفْسِهِ جَاهَدَ جَهْرًا وكَمْ
…
سَلَّ حُسَامًا في الْوَغَى وانْتَضَى
ويومَ غَازَانَ غَدَا عِنْدَمَا
…
شَدَّدَ فِي القَوْلِ وَمَا خَفَّضَا
شقَّ سَوَادَ المُغْل زَاهِي الطُّلَا
…
كالماءِ لمَّا مَزَّقَ العَرْمَضَا
جَادَلَ بَلْ جَالَدَ مُسْتَمْسِكًا
…
بالحقِّ حتَّى إنَّه أجْهَضَا
ولم يكنْ فيهِ سِوَى أنَّهُ
…
خَالَفَ أشْيَاءَ كمنْ قد مَضَى
مُتَّبِعًا فيهِ الدليلَ الّذِيْ
…
بَدَا وللهِ فيهِ الْقَضَا
وبعدَ ذَا رَاحَ إلَى رَبِّهِ
…
مَا ادَّانَ مِنْ لَهْوٍ ولا اسْتَقْرَضَا
ثَناؤُه مَا انْقَضَّ منهُ الْبِنَا
…
وذِكْرُهُ بينَ الوَرَى مَا انْقَضَى
فَجَادَتِ الرحمةُ أرضًا ثَوَى
…
فيها وسَقَّتْهَا غُيُوثُ الرِّضَا
وعلى الجملة فكان الشيخ تقيُّ الدِّين ابن تيميَّة أحد الثلاثة الذين عاصرتُهم ولم يكن في الزمان مثلُهم، بل ولا قبلَهم من مئةِ سنة، وهم: الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية، والشيخ تقي الدِّين ابن دقيق العيد، وشيخنا العلامة تقي الدِّين السبكي، وقلت في ذلك:
ثلاثةٌ ليس لهمْ رابعٌ
…
فلا تكنْ مِن ذاكَ فِي شَكِّ
وكلُّهمْ مُنتسبٌ للتُّقَى
…
يَقْصُرُ عَنْهُم وَصْفُ مَنْ يَحْكِيْ
فإنْ تَشَأْ قُلت: ابن تيميَّةٍ
…
وابن دقيقِ العيدِ والسُّبْكيْ
* * * *
الوَافي بِالوَفَيَاتِ
(1)
العلَّامة تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الحَرَّاني ابن تَيْمِيَّة، الشَّيخ الإمام العالم العلَّامة المفسر الفقيه المجتهد الحافظ المحدّث، شيخ الإسلام، نادرة العصر، ذو التَّصانيف والذكاء والحافظة المفرطة، تقيّ الدِّين أبو العبَّاس ابن العالم المفتي شهاب الدِّين ابن الإمام شيخ الإسلام مجد الدِّين أبي البركات مؤلف «الأحكام» .
وتَيْميَّة لقب جده الأعلى، ولد بحرّان عاشر ربيع الأوَّل سنة إحدى وستين وتحول به أبوه إلى دمشق سنة سبع وستين وتوفي سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مئة.
وسمع من ابن عبد الدايم وابن أبي اليسر والكمال ابن عبد وابن أبي الخير وابن الصيرفي والشَّيخ شمس الدِّين والقاسم الإربلي وابن علان وخلق كثير وبالغ أكثر، وقرأ بنفسه على جماعة، وانتخب ونسخ عدة أجزاء و «سنن أبي داود» ونظر في الرجال والعلل، وصار من أئمة النقد ومن علماء الأثر مع التديّن والتّأله والذكر والصيانة والنزاهة عن حطام هذه الدار والكرم الزائد؛ ثمَّ إنَّه أقبل على الفقه ودقائقه وغاص على مباحثه ونظر في أدلته وقواعده وحججه والإجماع والاختلاف حتَّى كَانَ يُقْضى منه العجب إذا ذكر مسألة من الخلاف واستدل ورجَّح واجتهد.
(1)
(7/ 15 - 33) نشر جمعية المستشرقين الألمانية.
حكى لي أنَّه قال يومًا للشيخ صدر الدِّين ابن الوكيل: يا صدر الدِّين أنا أنقُل في مذهب الشَّافعيّ أكثر منك، أو كما قال.
وقال الشَّيخ شمس الدِّين: ما رأيت أحدًا أسرع انتزاعًا للآيات الدالة على المسألة الَّتي يوردها منه، ولا أشد استحضارًا لمتون الأحاديث وعَزْوها إلى الصحيح أو المسند أو السنن كأنَّ ذلك نصب عينه وعلى طرف لسانه بعبارة رشقة حلوة وإفحام للمخالف، وكان آية من آيات الله تعالى في التفسير والتوسع فيه لعلّه يبقى في تفسير الآية المجلس والمجلسين.
قلت: حكى لي من سمعه يقول: إني وقفت على مائة وعشرين تفسيرًا، أستَحْضرُ من الجميع الصحيحَ الَّذي فيها، أو كما قال.
قال الشَّيخ شمس الدين: وأما أُصول الدِّين ومعرفة أقوال الخوارج والروافض والمعتزلة والمبتدعة فكان لا يُشَقّ فيها غباره، هذا مع ما كَانَ عليه من الكرم الَّذي لم أُشاهد مثله قط والشجاعة المفرطة والفراغ عن ملاذّ النفس: من اللباس الجميل والمأكل الطيب والراحة الدنيوية.
قلت: حُكي لي عنه أن والدته طبخت يومًا قرعية ولم تذقها أولًا وكانت مُرّة فلمّا ذاقتها تركتها على حالها فطلع إليها وقال: هل عندك ما آكل؟ قالت: لا إلّا أنني طبختُ قرعًا كَانَ مرًّا، فقال: أين هو؟ فأرته المكان الَّذي فيه تلك القرعية فأحضرها وقعد أكَلَها إلى أن شبع وما أنكر شيئًا منها، أو كما قيل.
وحُكي لي عنه أنَّه كَانَ قد شكا إليه إنسان أو جماعة من قُطلوبك الكبير وكان المذكور فيه جبروت على أخذ أموال الناس واغتصابها ــ وحكاياته في ذلك مشهورة ــ فقام يمشي إليه فلمّا دخل إليه وتكلم معه في ذلك قال له قطلوبك: أنا الَّذي أريد أجيء إليك لأنك رجل عالم زاهد، ، يعرّض بقولهم:
إذَا كَانَ الأمير بباب الفقير، فنعم الأمير ونعم الفقير. فقال له: قطلوبك! لا تعملْ عليَّ دركواناتك
(1)
؛ موسى كَانَ خيرًا مني وفرعون كَانَ شرًّا منك وكان موسى كلّ يوم يجيء إلى باب فرعون مراتٍ في كل يوم ويعرض عليه الإيمان، أو كما قيل.
وحكى لي عنه الشَّيخ شمس الدِّين ابن قيم الجوزية قال: كَانَ صغيرًا عند بني المنجَّى فبحث معهم فادّعوا شيئًا أنكره فأحضروا النقل فلمّا وقف عليه ألقى المجلد من يده غيظًا، فقالوا له: ما أنت إلّا جريء ترمي المجلَّد من يدك وهو كتاب علم؛ فقال سريعًا: أيّما خير أنا أو موسى؟ فقالوا: موسى؛ فقال: أيّما خير هذا الكتاب أو ألواح الجوهر الَّتي كَانَ فيها العشر كلمات. قالوا: الألواح، فقال: إنَّ موسى لمّا غضب ألقى الألواحَ من يده، أو كما قال.
وحكى لي عنه أيضًا قال: سأله فلان أُنْسِيته فقال: أنت تزعم أنَّ أفعالك كلّها من السنَّة؟ فهذا الَّذي تفعله بالناس من عَرْكِ آذانهم من أين جاء هذا في السنّة؟ فقال: حديث ابن عباس في «الصحيحين» قال: صلّيتُ خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلًا فكنتُ إذا أغفيت أخذ بأذني، أو كما قال.
قال الشَّيخ شمس الدين: وصنف في فنون العلم، ولعل تواليفه وفتاويه في الأصول والفروع والزهد واليقين والتوكل والإخلاص وغير ذلك تبلغ ثلاث مئة مجلّدة؛ وكان قوّالًا بالحق نهّاءً عن المنكر ذا سطوةٍ وإقدام وعدم مداراة. ومسائله المفردة يحتج لها بالقرآن والحديث أو بالقياس ويبرهنها ويناظر عليها وينقل فيها الخلاف ويطيل البحث أسوةَ من تقدمه من الأئمة
(1)
أي: حِيَلك. كلمة فارسية.
فإنْ كَانَ أخطأ فله اجر واحد وإن كَانَ أصاب فله أجران. وكان أبيض أسود الرأس واللحية قليل الشيب، شعره إلى شحمة أذنيه، كأن عينيه لسانان ناطقان، رَبْعةٌ من الرجال، بعيدَ ما بين المنكبين، جهوريّ الصوت فصيح اللسان سريع القراءة تعتريه حدة ثمَّ يقهرها بحلم وصفح؛ توفي محبوسًا في قلعة دمشق على مسألة الزيارة؛ وكانت جنازته عظيمة إلى الغاية، ودفن في مقابر الصوفية، صلّى عليه الشَّيخ علاء الدِّين قاضي القضاة القونوي ولم يصلِّ عليه جمال الدِّين بن جملة. انتهى كلام الشَّيخ شمس الدين.
قلت: رحمهم الله أجمعين، هم الآن قد رأوا عين اليقين، فيما كانوا فيه يختلفون، وما أظنه رأى مثله في الحافظة والاطلاع وأرى أن مادته كانت من كلام ابن حزم حتَّى شناعه على من خالفه، وكان مغرًى بسبّ ابن عربي محيي الدِّين والعفيف التلمساني وابن سبعين وغيرهم من الَّذين ينخرطون في سلكهم وربما صرح بسب الغزالي وقال: هو قلاووز
(1)
الفلاسفة، أو قال ذلك عن الإمام فخر الدين. سمعته يقول: الغزالي في بعض كتبه يقول: «الروح من أمر ربي» وفي بعضها يدسّ كلام الفلاسفة ورأيهم فيها؛ وكذلك الإمام فخر الدِّين الرازي كَانَ كثير الحط عليه؛ وكان مسلطًا على هؤلاء الفقراء الأحمدية واليونسية والقرندلية
(2)
وغيرهم من هؤلاء المبتدعة. حُكي لي أنَّه جاء إليه بعض الأحمدية وقال ما يقولونه على العادة في دخول التنور من بعد ثلاثة أيام [من] وقود النار فيه فقال له: أنا ما أُكلّفك ذلك ولكن دعني أضع هذه الطوَّافة في ذقنك، فجزع ذلك الفقير وأبلس. قلت: وقد نقل
(1)
أي: قائد. كلمة فارسية.
(2)
كذا بالأصل، والمشهور: القلندريَّة.
الشَّيخ رحمه الله تعالى هذا من قول بعض الشعراء في النار الَّتي يزعم النصارى أنها تنزل يوم سبت النور من السماء إلى القمامة
(1)
بالقدس:
لقد زَعَمَ القسّيسُ أنَّ إلهَهُ
…
ينزّلُ نورًا بُكْرَةَ اليومِ أو غَدِ
فإن كان نورًا فهو نورٌ ورحْمَةٌ
…
وإن كان نارًا أحرقتْ كلَّ معتدِ
يقرّبها القسّيسُ من شَعْرِ ذَقْنِهِ
…
فإن لم تحرّقها وإلّا اقطعوا يَدي
وسمعته يقول عن نجم الدِّين الكاتبي المعروف بدَبيران ــ بفتح الدال المهملة وكسر الباء الموحدة ــ وهو الكاتبي صاحب التواليف البديعة في المنطق فإذا ذكره لا يقول إلَّا دُبَيران ــ بضم الدال وفتح الباء ــ. وسمعته يقول ابن المنجس، يريد ابن المطهّر الحليّ. وكانت سُمعته في البلاد البعيدة أكثر وأكبر وأشهر ممّا هي بالشام خصوصًا بلده دمشق. وكتب رسالة إلى صاحب قبرس يأمره فيها بالرفق بالأسارى المسلمين وتخفيف الوطأة عنهم، وقصَّ عليه أقوالًا من كلام المسيح عليه السلام مثل قوله: مَنْ ضربك على خدك الأيمن فدر له الخدَّ الأيسر، وأشباه ذلك، فقيل إنَّه خفّف عنهم وعمَرَ لهم جامعًا على ما قيل.
وطُلِبَ إلى مصر أيام ركن الدِّين بيبرس الجاشنكير وعُقد له مجلس في مقالة قال بها فطال الأمر وحكموا بحبسه فحبس بالإسكندرية؛ ثمَّ إنَّ الملك الناصر لما جاء من الكرك أخرَجه فيما أظن. ولم يزل العوامُّ بمصر يعظمونه إلى أن أخذ في القول على السيدة نفيسة فأعرضوا عنه. ورأيته مرّات بمدرسة القصاعين وبالحنبليّة جُوَّا باب الفراديس، وكان إذا تكلّم أغمض عينيه
(1)
أعظم كنيسةٍ للنصارى، ببيت المقدس، انظر «معجم البلدان»:(4/ 396).
وازدحمت العبارة على لسانه فرأيت العجب العجيب، والحَبر الَّذي ما له مُشاكل في فنونه ولا ضريب، والعالم الَّذي أخذ من كل شيء بنصيب، سهمه للأغراض مصيب، والمناظرَ الَّذي إذا جال في حومة الجدال رُمي الخصوم من مباحثه باليوم العصيب:
وعاينتُ بدرًا لا يَرى البدرُ مثلَهُ
…
وخاطبتُ بحرًا لا يَرى العِبرَ عائمهُ
أخبرني المولى علاء الدِّين عليّ بن الآمدي، وهو من كبار كتّاب الحساب، قال:[دخلت] يومًا إليه أنا والشمس النفيس عامل بيت المال ولم يكن في وقته أكتبُ منه فأخذ الشَّيخ تقي الدِّين يسأله عن الارتفاع وعمّا بين الفذلكة واستقرار الجملة من الأبواب وعن الفذلكة الثانية وخصمها وعن أعمال الاستحقاق وعن الختم والتوالي وما يطلب من العامل وهو يجيبه عن البعض ويسكت عن البعض ويسأله عن تعليل ذلك إلى أن أوضح له ذلك وعلّله؛ قال: فلمّا خرجنا من عنده قال لي النفيس: والله تعلّمتُ اليوم منه ما لا كنت أعلمه؛ انتهى ما ذكره علاء الدين.
وسألته في سنة ثماني عشرة أو سبع عشرة وسبع مئة وهو بمدرسته بالقصاعين عن قوله تعالى: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] فقلت له: المعروف بين النحاة أن الجمع لا يوصف إلّا بما يوصف به المفرد من الجمع بالمفرد من الوصف، فقال: كذا هو؛ فقلت: ما مفرد متشابهات؟ فقال: متشابهة، فقلت: كيف تكون الآية الواحدة في نفسها متشابهة، وإنما يقع التشابه بين آيتين؟ وكذا قوله تعالى:{فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ} [القصص: 15] كيف يكون الرَّجل الواحد يقتتل مع نفسه؟ فعدل بي من الجواب إلى الشكر، وقال: هذا ذهن جيّد ولَو لازمتني سنة لانتفعتَ.
وسألته في ذلك المجلس
عن تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} إلى قوله تعالى: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: 189 - 190] فأجاب بما قاله المفسرون في ذلك وهو آدم وحواء وأنّ حواء لمّا أثقلت بالحمل أتاها إبليس في صورة رجل وقال: أخاف مِنْ هذا الَّذي في بطنك أن يخرج من دبرك أو يشق بطنك وما يدريكِ لعله يكون بهيمة أو كلبًا؛ فلم تزل في همّ حتَّى أتاها ثانيًا وقال: سألت الله تعالى أن يجعله بشرًا سويًّا وإن كَانَ كذلك سميه عبد الحارث، وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث، فذلك قوله تعالى:{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} وهذا مَرْوي عن ابن عباس، فقلت له: هذا فاسدٌ من وجوه لأنَّه تعالى قال في الآية الثانية: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} فهذا يدلُّ على أن القصة في حق جماعة؛ الثَّاني أنَّه ليس لإبليس في الكلام ذكر؛ الثالث أن الله تعالى علّم آدم الأسماء كلها فلا بد وأنَّه كَانَ يعلم أن اسم إبليس الحارث؛ الرابع أنَّه تعالى قال: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف: 191] وهذا يدل على أنَّ المراد به الأصنام لأن «مَا» لِما لا يَعْقِل ولو كَانَ إبليس لقال «مَنْ» الَّتي هي لمن يعقل.
فقال رحمه الله تعالى: فقد ذهب بعض المفسرين إلى أنَّ المراد بهذا قُصَيّ لأنهّ سمّى أولاده الأربعة عبد مناف وعبد العزى وعند قصي وعبد الدار، والضمير في «يشركون» له ولأولاده من أعقابه الَّذين يسمون أولادهم بهذه الأسماء وأمثالها، فقلت له: وهذا أيضًا فاسد لأنَّه تعالى قال: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} وليس كذلك إلّا آدم لأن الله تعالى خلق حواء من ضلعه؛ فقال رحمه الله تعالى: المراد بهذا أنَّ زوجه من جنسه عربية قرشية، فما رأيت التطويل معه.
وسألته في ذلك المجلس عن قول المتكلمين في الواجب والممكن
لأنهم قالوا: الواجب ما لا يتوقف وجوده على وجود ممكنه، والممكن ما يتوقف وجوده على وجود واجبه، فقال رحمه الله: هذا كلام مستقيم؛ فقلت: هذا القول هو عين القول بالعلة والمعلول، فقال: كذا هو، إلَّا أنَّ ذلك علة ناقصة ولا يكون علةً تامة إلَّا بانضمام إرادته فإذا انضمت الإرادة إلى وجود الواجب تعين وجود الممكن. ثمَّ اجتمعتُ به بعد ذلك مرات عديدة وكان إذا رآني قال: أيشٍ حس الإيرادات، أيشٍ حس الأجوبة، أيشٍ حس الشكوك؟ أنا أعلم أنك مثل القِدر الَّتي تغلي تقول بَق بَق بَق، أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها، لازمني لازمني تنتفع. وكنت أحضر دروسه ويقع لي في أثناء كلامه فوائد لم أسمعها من غيره ولا وقفت عليها في كتاب، رحمه الله تعالى.
وعلى الجملة؛ فما رأيت ولا أرى مثله في اطّلاعه وحافظته ولقد صَدَّقَ ما سمعنا به عن الحفّاظ الأول وكانت هممه علية إلى الغاية لأنَّه كَانَ كثيرًا ما ينشد
(1)
:
تموتُ النفوسُ بأوْصابِها
…
ولم تشكُ عوَّادَها ما بها
وما أنْصَفَتْ مهجةٌ تشتكي
…
أذاها إلى غيرِ أحبابها
ويُنْشد أيضًا
(2)
:
مَنْ لم يُقَدْ ويُدَسُّ في خَيْشومِهِ
…
رَهَجُ الخميسِ فلن يقودَ خميسا
وكان في ربيع الأوَّل سنة ثمان وتسعين قد قام عليه جماعة من الشافعية وأنكروا عليه كلامه في الصفات وأخذوا فتياه الحمويّة وردّوا عليه فيها،
(1)
البيتان لِصُرَّدُرّ، وسَبَقَا في «أعيان العصر» .
(2)
البيت لأبي تمام.
وعملوا له مجلسًا فدافع الأفرم عنه ولم يبلغهم فيه أربًا، ونودي في دمشق بإبطال العقيدة الحموية فانتصر له جاغانُ المشدّ وكان قد مُنع من الكلام. ثمَّ إنَّه جلس على عادته يوم الجمعة وتكلم ثمَّ حضر عند قاضي القضاة إمام الدِّين وبحثوا معه وطال الأمر بينهم، ثمَّ رجع القاضي إمام الدِّين وأخوه جلال الدِّين وقالوا: من قال عن الشَّيخ تقي الدِّين شيئًا عزَّرناه، ثمَّ إنّه طلب إلى مصر هو والقاضي نجم الدِّين ابن صصري فانتصر له الأمير سيف الدِّين سلّار، وحطّ الأمير ركن الدِّين الجاشنكير عليه وعقدوا له مجلسًا انفصل على حبسه فحبس في خزانة البنود ثمَّ نُقل إلى إسكندرية ثمَّ أُفرج عنه وأقام بالقاهرة مدة ثمَّ اعتُقل أيضًا ثمَّ أُفرج عنه وحضر إلى دمشق، فلمّا كَانَ في أيام القاضي جلال الدِّين تكلّموا معه في مسألة الزيارة وكُتب في ذلك إلى مصر فورد مرسوم السلطان باعتقاله في القلعة فلم يزل معتقلًا بها إلى أنْ مات سنة ثمان وعشرين وسبع مائة.
ورأيته بعد موته رحمه الله تعالى في المنام كأنه في جامع بني أُميَّة وأنا في يدي صورة عقيدة ابن حزم الظاهري الَّتي ذكرها في أول «المحلى» وقد كتبتها بخطيّ وكتبتُ في آخرها:
وهذا نصُّ ديني واعتقادي
…
وغيري ما يرى هذا يجوزُ
وقد أوقفته على ذلك فتأملها ورآها ولم يتكلم بشيء.
ذكر تصانيفه
ومن الَّذي يأتي على مجموعها! ولله القائل:
إنَّ في الموجِ للغريقِ لَعُذْرًا
…
واضحًا أن يفوته تَعدادُهْ
ولكن أذكُر منها ما تيسر، وإلّا فهي أكثر ممّا أوردته في هذه الترجمة ولعل بعض أصحابه يعرفها:
كتب التفسير
«قاعدة في الاستعاذة» . «قاعدة في البسملة وكلام على الجهر بها» . «قاعدة في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وقطعة كبيرة من أول سورة البقرة، وفي قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 8] نحو ثلاث كراريس. قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] نحو كراسين. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] سبع كراريس. {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] كراسة. «آية الكرسي» كراسان، وغير ذلك من سورة البقرة. {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران: 7] إلى آخرها نحو مجلد. {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18] ست كراريس. {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} [النساء: 79] عشر كراريس، وغير ذلك من سورة آل عمران. «تفسير المائدة» مجلّد لطيف. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] ثلاث كراريس. {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 172] سبع كراريس قواعد وغير ذلك. «سورة يوسف» مجلد كبير. «سورة النور» مجلد لطيف. «سورة العلق وأنّها أول سورة أُنزلت تضمنت أُصول الدين» مجلد. «سورة لم يكن» . «سورة الكافرون» . «سورة تبت والمعوذتين» . «سورة الإخلاص» مجلد. وغير ذلك من آيات متفرقة.
كتب الأصول
«الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية» أربع مجلدات أملاه في الجب. رَدّ على تأسيس التقديس سماه «بيان تلبيس الجهمية في تأسيس
بدعهم الكلامية» وربما سماه تخليص التلبيس من تأسيس التقديس. «شرح أول المحصل للإمام فخر الدين» بلغ ثلاثة مجلدات. «شرح بضعة عشرة مسئلة من الأربعين للإمام فخر الدِّين» . «تعارضُ العقل والنقل» أربع مجلدات. «جواب ما أورده كمال الدِّين ابن الشريشي» مجلد. «الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح» ردّ على النصارى ثلاث مجلدات. «منهاج الاستقامة» . «شرح عقيدة الأصبهاني» مجلد. «نقض الاعتراض عليها لبعض المشارقة» أربع كراريس. «شرح أول كتاب الغزنوي في أصول الدين» مجلد. «الرد على المنطق» مجلد. «رد آخر» لطيف. «الرد على الفلاسفة» مجلدات. «قاعدة في القضايا الوهمية» . «قاعدة فيما يتناهى وما لا يتناهى» . «جواب الرسالة الصفدية» . «جواب في نقض قول الفلاسفة: إنَّ معجزات الأنبياء قوى نفسانية» مجلد كبير. «إثبات المعاد والرد على ابن سينا» . «شرح رسالة ابن عبدوس في كلام الإمام أحمد في الأصول» . «ثبوت النبوات عقلًا ونقلًا والمعجزات والكرامات» مجلدان. «قاعدة في الكليات» مجلد لطيف. «الرسالة القبرسية» . «رسالة إلى أهل طبرستان وجيلان في خلق الروح والنور والأئمة المقتدى بهم» . «مسألة ما بين اللوحين وكلام الله» . «تحقيق كلام الله لموسى» . «هل سمع جبريل كلام الله أو نقله من اللوح المحفوظ» . «الرسالة البعلبكية» . «الرسالة الأزهرية» . «القادرية» . «البغدادية» . «أجوبة الشكل والنقط» . «إبطال الكلام النفساني» أبطله من نحو ثمانين وجهًا. «جواب من حلف بالطلاق الثلاث أنَّ القرآن حرف وصوت» . وله في إثبات الصفات وإثبات العلو والاستواء مجلدات. «المراكشية» . «صفات الكمال والضابط فيها» . «أجوبة في مباينة الله تعالى لخلقه» . «جواب في الاستواء وإبطال تأويله بالاستيلاء» .
«جواب من قال لا يمكن الجمع بين إثبات الصفات على
ظاهرها مع نفي التشبيه» نصف كراس. «أجوبة كون العرش والسموات كُريَّة وسبب قصد القلوب جهة العلو» . «جواب كون الشيء في جهة العلو مع أنَّه ليس بجوهر ولا عرضٍ معقول أو مستحيل» . «جواب هل الاستواء والنزول حقيقة وهل لازم المذهب مذهب» سماه الإربلية. «مسألة النزول واختلاف وقته باختلاف البلدان والمطالع» مجلد لطيف. «شرح حديث النزول» في أكثر من مجلد. «بيان حل إشكال ابن حزم الوارد على الحديث» . «قاعدتان في قرب الرب من عابديه وداعيه» مجلد لطيف. «الكلام على نقض المرشدة» . «المسائل الإسكندرية في الرد على الاتحادية والحلولية» . «ما تضمنه فصوص الحكم من الكفر والإلحاد والحلول والاتحاد» . «جواب في لقاء الله» . «جواب رؤية النساء ربهن في الجنة» . «الرسالة المدنية في إثبات الصفات النقلية» . «الهلاوونيّة جواب [سؤال] ورَدَ على لسان ملك التَّتار» مجلد. «قواعد في إثبات القدر والرد على القدرية والجبرية» مجلد. «رد على الروافض في الإمامة على ابن مطهر» . «جواب في حسن إرادة الله تعالى لخلق الخلق وإنشاء الأنام لعلّة أم لغير علّة» . «شرح حديث فحجَّ آدم موسى» . «كتاب تنبيه الرَّجل الغافل على تمويه المجادل» مجلد. «تناهي الشدائد في اختلاف العقائد» . «كتاب الإيمان» مجلد. «شرح حديث جبريل في الإيمان والإسلام» . «في عصمة الأنبياء في ما يبلّغونه» . «مسألة في العقل والروح» . «في المقربين هل يسألهم منكر ونكير» . «هل يُعذب الجسد مع الروح في القبر وهل تفارق البدن بالموت أم لا» . «الرد على أهل كسروان» مجلدان. «في فضل أبي بكر وعمر على غيرهما» . «قاعدة في فضل معاوية وفي ابنه يزيد أنَّه لا يُسَبّ» . «في تفضيل صالحي الناس على سائر الأجناس» . «مختصر في كفر النصيرية» . «في جواز قتال الرافضة» . «كراسة في بقاء الجنة والنار وفنائهما»
وردّ عليه العلّامة قاضي القضاة تقي الدِّين السبكي.
كتب أصول الفقه
«قاعدة غالبها أقوال الفقهاء» مجلدان. «قاعدة كل حَمْد وذم من المقالات والأفعال لا يكون إلّا بالكتاب والسنة» . «شمول النصوص للأحكام» مجلد لطيف. «قاعدة في الإجماع وأنَّه ثلاثة أقسام» . «جواب في الإجماع وخبر التواتر» . «قاعدة خبر الواحد يفيد اليقين» . «قاعدة في كيفية الاستدراك على الأحكام بالنص والإجماع» . «في الرد على من قال إنَّ الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين» ثلاث مصنفات. «قاعدة فيما يظن من تعارض النصوص والإجماع» . «مؤاخذة لابن حزم في الإجماع» . «قاعدة في تقرير القياس» . «قاعدة في الاجتهاد والتقليد في الأحكام» مجلد. «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» . «قاعدة في الاستحسان» . «وصف العموم والإطلاق» . «قواعد في أنَّ المخطئ في الاجتهاد لا يأثم» مجلد. «هل العامي يجب عليه تقليد مذهب معين» . «جواب في ترك التقليد في من يقول مذهبي مذهب النَّبي صلى الله عليه وسلم وليس أنا محتاج إلى تقليد الأربعة» . «جواب من تفقه في مذهب ووجد حديثًا صحيحًا هل يعمل به أو لا» . «جواب تقليد الحنفي الشَّافعيّ في الجمع للمطر والوتر» . «الفتح على الإمام في الصلاة» . «تفضيل قواعد مذهب مالك وأهل المدينة» . «تفضيل الأئمة الأربعة وما امتاز به كل واحد منهم» . «قاعدة في تفضيل الإمام أحمد» مجلد. «جواب هل كَانَ النَّبي عليه السلام قبل الرسالة نبيًّا» . «جواب هل كَانَ النَّبي عليه السلام متعبَّدًا بشرع من قبله» . «قواعد أنَّ النّهي يقتضي الفساد»
(1)
.
(1)
في الأصل: «العناد» .
كتب الفقه
«شرح المحرر في مذهب أحمد» ولم يبيَّض. «شرح العمدة لموفق الدين» أربع مجلدات. «جواب مسائل وردت من أصبهان» . «جواب مسائل وردت من الأندلس» . «جواب مسائل وردت من الصَّلت» . و «مسائل من بغداذ» . «مسائل وردت من زُرَع» . «مسائل وردت من الرحبة» . «أربعون مسألة لقبت الدّرر المضية في فتاوي ابن تَيْمِيَّة» . «الماردانية» . «الطرابلسية» . «قاعدة في المياه والمائعات وأحكامها» . «المائعات وملاقاتها النجاسات» . «طهارة بول ما يؤكل لحمه» . «قاعدة في حديث القُلتين وعدم رفعه» . «قواعد في الاستجمار وتطهير الأرض بالشمس والريح» . «جواز الاستجمار مع وجود الماء» . «نواقض الوضوء» . «قواعد في عدم نقضه بلمس النساء» . «التسمية على الوضوء» . «خطأ القول بجواز مسح الرجلين» . «جواز المسح على الخفين المنخرقين والجوربين واللفائف» . «في من لا يعطي أجرة الحمام» . «تحريم دخول الحمام بلا مئزر» . «في الحمام والاغتسال» . «ذَم الوسواس» . «جواز طواف الحائض» . «تيسير العبادات لأرباب الضرورات بالتيمم والجمع بين الصلاتين للعذر» . «كراهية التلفظ بالنية وتحريم الجهر بها» . «قاعدة في الاستعاذة» . «قاعدة في البسملة هل هي من السورة» . «فيما يعرض للمصلي من الوسواس هل يبطل أو لا» . «الكَلِم الطيّب في الأذكار» . «كراهية تقديم بَسطِ سجادة المصلي قبل مجيئه» . «في الركعتين اللتين تصليان قبل الجمعة» . «في الصلاة بعد أذان الجمعة» . «القنوت في الصبح والوتر» . «قتل تارك أحد المباني وكفره» مجلد. «الجمع بين الصلاتين في السفر» . «فيما يختلف حكمه بالسفر والحضر» . «أهل البدع هل يصلّى
خلفهم». «صلاة بعض أهل المذاهب خلف بعض» . «الصلوات المبتدعة» . «تحريم السماع» . «تحريم الشبّابة» . «تحريم اللعب بالشطرنج» . «تحريم الحشيشة القنبية ووجوب الحد فيها وتنجيسها» . «النهي عن المشاركة في أعياد النصارى واليهود وإيقاد النيران في الميلاد ونصف شعبان وما يفعل في عاشوراء من الحبوب» .
«قاعدة في مقدار الكفارة في اليمين» خمس كراريس. «في أّنَّ المطلقة ثلاثًا لا تَحِلُّ إلَّا بنكاح زوج ثان» . «بيان الطلاق المباح والحرام» . «في الحلف بالطلاق وتنجيزه ثلاثًا» . «جواب من حلف لا يفعل شيئًا على المذاهب الأربعة ثمَّ طلق ثلاثًا في الحيض» . «الفرق المبين بين الطلاق واليمين» . «لمحة المختطف في الفرق بين الطلاق والحلف» . «الحلف بالطلاق من الأيمان حقيقة» . «كتاب التَّحقيق في الفرق بين الأيمان والتطليق» . «الطلاق البدعي لا يقع» . «مسائل الفرق بين الحلف بالطلاق وإيقاعه والطلاق البدعي والخلع ونحو ذلك» تقدير خمسة عشر مجلدًا. «مناسك الحج» عدة نحو مجلد. «في حجة النَّبي عليه السلام» . «في العمرة المكية» . «في شهر السلاح بتبوك وشرب السويق بالعقبة وأكل التمر بالروضة وما يلبس المُحْرِمُ وزيارة الخليل عقيب الحج» . «زيارة القدس مطلقًا» . «جبل لبنان كأمثاله من الجبال ليس فيه رجال غُيَّبٌ ولا أبدال» . «جميع أيمان المسلمين [مكفّرة]» .
الكتب في أنواع شتى
جمع بعض الناس «فتاويه بالديار المصرية» مدة مقامه بها سبع سنين في علوم شتى فجاءت ثلاثين مجلدة. «الكلام على بطلان الفتوة المصطلح عليها بين العوام وليس لها أصل متصل بعليّ عليه السلام» . «كشف حال
المشايخ الأحمدية وأحوالهم الشيطانية». «بطلان ما يقوله أهل بيت الشَّيخ عديّ» . «النجوم هل لها تأثير عند الاقتران والمقابلة، وفي الكسوف هل يقبل قول المنجمين فيه ورؤية الأهلة» مجلد. «تحريم أقسام المعزمين بالعزائم المعجمة وصدع
(1)
الصحيح وصفة الخواتم». «إبطال الكيمياء وتحريمها ولو صحت وراجت» . «كشف حال المرازقة» . «قاعدة في العبيديين» .
ومن نظم الشَّيخ تقي الدِّين رحمه الله تعالى على لسان هؤلاء الفقراء المجردين وغيرهم:
والله ما فَقْرُنا اختيارُ
…
وإنّما فقرُنا اضطرارُ
جماعةٌ كُلُّنا كُسالى
…
وأكلُنا ما لهُ عيارُ
تسمعُ منّا إذا اجتمعنا
…
حقيقةً كُلّها فشارُ
وله أجوبةُ سؤالاتٍ كَانَ يُسألها نظمًا فيجيب عنها نظمًا أيضًا وليس هذا موضع إيراد ذلك.
ومدحه جماعة من أهل عصره منهم شهاب الدِّين أحمد بن محمد البغداذي المعروف بابن الأبرادي الحنبلي والشيخ شمس الدِّين [ابن] الصايغ وسعد الدِّين أبو محمد سعد الله بن عبد الأحد الحَرَّاني، وأكثر من ذلك، ومنه:
لئنْ نافقوه وهو في السجن وابتغوا
…
رضاهُ وأبْدَوا رقّةً وتودُّدا
فلا غرو أن ذلّ الخصومُ لبأسه
…
ولا عجبٌ أن هابَ سطوتَه العدى
فمنْ شيمَةِ العَضْبِ المُهَنَّدِ أنّهُ
…
يُخاف ويُرجى مُغمدًا ومجَرَّدا
(1)
في أعيان العَصر: «صَرْع» ، وهو أجود.
ولمّا دخل مصر امتدحه العلامة أثير الدِّين أبو حيان بأبيات. ولما توفي رحمه الله رثاه جماعة منهم: الشَّيخ علاء الدِّين عليّ بن غانم، والشيخ قاسم بن عبد الرَّحمن المقرئ، وبرهان الدِّين إبراهيم ابن الشَّيخ شهاب الدِّين أحمد بن عبد الكريم العجمي، ومحمود بن عليّ بن محمود بن مقبل الدقوقي البغداذي، ومجير الدِّين أحمد بن الحسن الخياط الدِّمشقي، وشهاب الدِّين أحمد بن الكرشت، وزين الدِّين عمر بن الحسام، وشمس الدِّين محمد بن أحمد بن أبي القاسم الحلبي الدِّمشقي الصالحي الإسكاف، وصفي الدِّين عبد المؤمن بن عبد الحق البغداذي الحنبلي، وجمال الدِّين محمود بن الأثير الحلبي، وعبد الله بن خضر بن عبد الرَّحمن الرومي الحريري المعروف بالمتيم، وتقي الدِّين أبو عبد الله محمد بن سليمان بن عبد الله بن سالم الجعبري، وجمال الدِّين عبد الصمد بن إبراهيم بن الخليل بن إبراهيم بن الخليل الخليلي، وحسن بن محمد النحوي المارداني، والقاضي زين الدِّين عمر بن الوردي الشَّافعيّ وغيرهم. وفي هؤلاء من رثاه بقصيدتين وثلاث، وقصيدة الشَّيخ علاء الدِّين ابن غانم:
أيُّ حبرٍ مضى وأيُّ إمام
…
فُجِعَتْ فيه ملّةُ الإسلامِ
ابن تَيْمِيّةَ التقيُّ وحيدُ الدهـ
…
ـرِ مَن كان شامةً في الشآمِ
بحرُ علمٍ قد غاضَ منْ بعد ما فا
…
ضَ نداهُ وعمَّ بالإنعامِ
زاهدٌ عابدٌ تَنَزَّهَ في دنـ
…
ياهُ عن كلِّ ما بها منْ [حُطامِ]
كان كنزًا لكلِّ طالبِ علمٍ
…
ولمن خاف أن يُرى في حرامِ
ولعافٍ قد جاء يشكو من الفقـ
…
ـرِ لَدَيْهِ فَنالَ كلَّ مَرامِ
حاز علمًا فما له من مساوٍ
…
فيه من عالمٍ ولا من مسامِ
لم يكنْ في الدنا له من نظيرٍ
…
في جميعِ العلومِ والأحكامِ
عالمٌ في زمانه فاق بالعلـ
…
ـمِ جميعَ الأئمّةِ الأعلامِ
كان في علمه وحيدًا فريدًا
…
لم ينالوا ما نال في الأحلامِ
كلُّ مَنْ في دمشقَ ناحَ عليهِ
…
ببكاءٍ من شدَّةِ الآلامِ
فُجِعَ الناسُ فيه في الشرقِ والغر
…
بِ وأضْحَوْا بالحزنِ كالأيتامِ
لو يفيدُ الفِداءُ بالروح كنّا
…
قد فديناهُ من هجومِ الحِمامِ
أوحدٌ فيه قد أُصيب البرايا
…
فَيُعَزَّى فيه جميعُ الأنامِ
وعزيزٌ عليهِمُ أن يَرَوْهُ
…
غابَ بالرغمِ في الثرى والرغامِ
ما يُرى مثلُ يومه عندما سا
…
ر على النَّعْشِ نحو دارِ السّلامِ
حملوهُ على الرقاب إلى القَبْـ
…
ـرِ وكادوا أن يهلكوا بالزحامِ
فَهُوَ الآنَ جارُ ربِّ السموا
…
تِ الرحيمِ المهيمنِ العلّامِ
قَدَّسَ اللهُ روحَهُ وسقى قَبْـ
…
ـرًا حَواهُ بهاطِلاتِ الغَمامِ
فلقد كان نادرًا في بني الدهـ
…
ـرِ وحُسْنًا في أوجهِ الأيَّام
وأنشدني إجازة لنفسه القاضي زين الدِّين عمر بن الوردي الشَّافعيّ ومن خطِّه نَقَلْت:
قلوبُ الناسِ قاسيةٌ سلاطُ
…
وليس لها إلى العَليا نشاطُ
أتَنْشَطُ قطُّ بعد وفاةِ حبرٍ
…
لنا من نثرِ جَوهَرِهِ التقاطُ
تقيُّ الدِّين ذو ورعٍ وعلمٍ
…
خُروقُ المعضلاتِ به تخاطُ
تُوفِّيَ وهو محبوسٌ فريدٌ
…
وليس له إلى الدنيا انبساطُ
ولو حضروه حين قضى لألفَوْا
…
ملائكَةَ النّعيمِ به أحاطوا
قضى نحبًا وليس له قرينٌ
…
وليس يلفُّ مشبهَهُ القِماطُ
فتًى في علمه أضحى فريدًا
…
وحَلُّ المشكلاتِ به يُناطُ
وكان يخافُ إبليسٌ سَطاهُ
…
لوعظٍ للقلوبِ هو السِّياط
فيا للهِ ما قد ضمَّ لَحْدٌ
…
ويا للهِ ما غطّى البلاطُ
وحَبْس الدُّرِّ في الأصداف فخرٌ
…
وعند الشيخ بالسجنِ اغتباطُ
بنو تيميّةٍ كانوا فبانوا
…
نجومُ العلمِ أدركها انهباطُ
ولكن يا ندامتنا عليهِ
…
فشكُّ الملحدين به يُماطُ
إمامٌ لا ولاية قطُّ عانى
…
ولا وقفٌ عليه ولا رباطُ
ولا جارى الورى في كسبِ مالٍ
…
ولم يَشْغَلْهُ بالناسِ اختلاطُ
ولولا أنّهم سجنوه شرعًا
…
لكان به لقَدرِهِمُ انحطاطُ
لقد خَفيَتْ عليَّ هنا أُمورٌ
…
فليس يليقُ لي فيها انخراطُ
وعند اللهِ تجتمعُ البرايا
…
جميعًا وانطوى هذا البساطُ
* * * *
العلامة محمد بن شاكر الكتبي (764)
- فَوات الوَفَيات
- عيون التواريخ
فَوَاتُ الوَفَيَاتِ
(1)
الشَّيخ تقي الدِّين ابن تَيْميَّة
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الحَرَّاني الشَّيخ الإمام العلَّامة الفقيه المفسّر الحافظ المحدّث، شيخ الإسلام نادرة العصر، ذو التَّصانيف والذكاء، تقي الدِّين أبو العبَّاس ابن العالم المفتي شهاب الدِّين ابن الإمام شيخ الإسلام مجد الدِّين أبي البركات. ولد بحرّان عاشر ربيع الأّوَّل سنة إحدى وستين، وتحول به أبوه إلى دمشق سنة سبع وستين، وتوفي سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، رحمه الله تعالى.
سمع من ابن عبد الدايم وابن أبي اليسر والكمال ابن عبد والشيخ شمس الدِّين والقاسم الإربلي وابن علّان وخلق كثير، وقرأ بنفسه، ونسخ عدة أجزاء، وصار من أئمة النقد ومن علماء الأثر مع التدين والذكر والصيانة والنزاهة عن حطام هذه الدار، ثمّ أقبل على الفقه ودقائقه، وغاص على مباحثه. وأما أصول الدِّين ومعرفة أقوال الخوارج والروافض والمعتزلة والمبتدعة فكان لا يشق فيها غباره، مع ما كَانَ عليه من الكرم الَّذي لم يشاهد مثله، والشجاعة المفرطة، والفراغ عن ملاذ النفس: من اللباس الجميل، والمأكل الطيب، والراحة الدنيوية.
قيل: إنَّ والدته طبخت له يومًا قرعية، ولم تذقها أولًا وكانت مُرَّة، فلما ذاقتها تركتها على حالها، فأتى الشَّيخ إلى الدار فرأى القرعية، فأكل منها
(1)
(1/ 74 - 80) نشر دار صادر، 1973 م، تحقيق د/ إحسان عباس.
حتَّى شبع، وما أنكر منها شيئًا.
وحُكِي أنَّه كَانَ قد شكا له إنسان من قطلوبك الكبير، وكان المذكور فيه جبروت وأخذ أموال الناس واغتصابها، وحكاياته في ذلك مشهورة، فلما دخل إليه الشَّيخ، وتكلم معه في ذلك، قال: أنا الَّذي كنت أريد أجي إليك لأنك رجل علم زاهد، يعني يستهزي به، فقال له: لا تعمل عليَّ دركوان
(1)
! ! موسى كَانَ خيرًا مني وفرعون كَانَ شرًّا منك، وكان موسى كل يوم يجيء إلى باب فرعون مرّات، ويعرض عليه الإيمان.
قال الشَّيخ شمس الدين: وصنف في فنون، ولعل تواليفه تبلغ ثلاث مئة مجلدة. وكان قوَّالًا بالحق، نهَّاءً عن المنكر، ذا سطوة وإقدام وعدم مداراة، وكان أبيض أسود الرأس واللحية، قليل الشيب، شعره إلى شحمة أذنيه، كأنّ عينيه لسانان ناطقان، رَبعةً من الرجال، جهوري الصوت، فصيح اللسان، سريع القراءة، توفي محبوسًا في قلعة دمشق على مسألة الزيارة، وكانت جنازته عظيمة إلى الغاية، ودفن في مقابر الصوفية صلى عليه قاضي القضاة الشَّيخ علاء الدِّين القونوي، انتهى كلام الشَّيخ شمس الدِّين الذَّهبيّ.
ذكر تصانيفه
كتب التفسير
«قاعدة [في] الاستعاذة» . «قاعدة في البسملة [و] الكلام على الجهر بها» . «قاعدة في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}» ، وقطعة كبيرة من
(1)
في الوافي بالوفيات: دركواناتك. وهي: «الحيل» .
سورة البقرة في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 8] ثلاث كراريس. وفي قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] كراسين. وفي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا} [البقرة: 21] سبع كراريس. {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] كراسة. «آية الكرسي» كراسان، وفي قوله:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18] ست كراريس؛ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} [النساء: 79] عشر كراريس، وغير ذلك من سورة آل عمران. «تفسير المائدة» مجلّد [لطيف]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] ثلاث كراريس. {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 172] سبع كراريس. «سورة يوسف» مجلد كبير. «سورة النور» مجلد لطيف. «سورة العلق وأنّها أوّل سورة أُنزلت» مجلد. «سورة لم يكن» . «سورة الكافرون» . «سورة تبت والمعوّذتين» مجلد. «سورة الإخلاص» مجلد.
كتب الأصول
«الاعتراضات المصرية على الفتوى الحموية» ، أربع مجلدات. «ما أملاه في الجب رَدًّا على تأسيس التقديس»
(1)
. «شرح أوّل المحصّل» مجلد. «شرح بضْعَ عشرةَ مسألة من الأربعين للإمام فخر الدين» . «تعارض العقل والنقل» ، أربع مجلدات. «جواب ما أورده كمال الدِّين ابن الشريشي» ، مجلد. «الجواب الصحيح» ردّ على النصارى، ثلاث مجلدات. «منهاج الاستقامة» . «شرح
(1)
كذا! وفي «الوافي» : «أربع مجلدات أملاه في الجبّ. «ردّ على تأسيس التقديس سماه: بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلاميّة» . ولعله الصواب، وهو الموافق لما في أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية:(ص 363) من كتاب هذا.
عقيدة الأصفهاني»، مجلد. «شرح أوّل كتاب الغزنوي في أصول الدين» ، مجلد. «الردّ على المنطق» ، مجلد. «ردّ آخر» لطيف. «الردّ على الفلاسفة» ، أربع مجلدات. «قاعدة في القضايا الوهمية» ، «قاعدة فيما يتناهى وما لا يتناهى» ، «جواب الرسالة الصفدية». «جواب في نقض قول الفلاسفة: إنَّ معجزات الأنبياء عليهم السلام قوى نفسانية»، مجلد كبير. «إثبات المعاد والردّ على ابن سينا» . «شرح رسالة ابن عبدوس في كلام الإمام أحمد في الأصول» . «ثبوت النبوات عقلًا ونقلًا والمعجزات والكرامات» ، مجلدان. «قاعدة في الكليات» ، مجلد لطيف. «الرسالة القبرصية» . «رسالة إلى أهل طبرستان وجيلان في خلق الروح والنور» . «الرسالة البعلبكية» . «الرسالة الأزهرية» . «القادرية» . «البغدادية» . «أجوبة الشكل والنقط» . «إبطال الكلام النفساني» أبطله من نحو ثمانين وجهًا. «جواب مَن حلف بالطلاق الثلاث أنَّ القرآن حرف وصوت» . «إثبات الصفات والعلو والاستواء» ، مجلدان. «المراكشية». «صفات الكمال والضابط [فيها]». «جواب في الاستواء وإبطال تأويله بالاستيلاء». «جواب مَن قال: لا يمكن الجمع بين إثبات الصفات على ظاهرها مع نفي التشبيه». «أجوبة كون العرش والسموات كريَّة وسبب قصد القلوب جهة العلو» .
«جواب كون الشيء في جهة العلو مع أنَّه ليس بجوهر أو عرضٍ معقول أو مستحيل» . «جواب هل الاستواء والنزول حقيقة؟ وهل لازم المذهب مذهب» سماه «الإربلية» . «مسألة النزول واختلاف وقته باختلاف البلدان والمطالع» ، مجلد لطيف. «شرح حديث النزول» ، مجلد كبير. «بيان حل إشكال ابن حزم الوارد على الحديث» . «قاعدة في قرب الرب من عابديه وداعيه» ، مجلد. «الكلام على نقض المرشدة» . «المسائل الإسكندرية في الرد على الاتحادية والحلولية» . «ما تضمنه فصوص الحكم» . «جواب في لقاء الله» . «جواب رؤية النساء ربهنّ في
الجنة». «الرسالة المدنية في إثبات الصفات النقلية» . «الهلاوونية» . «جواب [سؤال] ورَدَ على لسان ملك التَّتار» ، مجلد. «قواعد في إثبات [القدر] والرد على القدرية والجبرية» ، مجلد. «رد على الروافض في الإمامة على ابن مطهر» . «جواب في حسن إرادة الله تعالى لخلق الخلق وإنشاء الأنام لعلة أم لغير علة» . شرح حديث «فحجَّ آدم موسى» . «تنبيه الرَّجل الغافل على تمويه المجادل» ، مجلد. «تناهي الشدائد في اختلاف العقائد» ، مجلد. «كتاب الإيمان» ، مجلد. «شرح حديث جبريل في حديث الإيمان والإسلام» ، مجلد. «عصمة الأنبياء عليهم السلام فيما يبلغونه». «مسألة في العقل والروح». «مسألة في المقربين: هل يسألهم منكر ونكير». «مسألة هل يعذب الجسد مع الروح في القبر» . «الرد على أهل الكسروان» ، مجلدان. «في فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما على غيرهما» . «قاعدة [في] فضل معاوية وفي ابنه يزيد لا يُسَبّ» . «في تفضيل صالحي الناس على سائر الأجناس» . «مختصر في كفر النصيرية» . «في جواز قتال الرافضة» ، كراسة. «في بقاء الجنة والنار وفي فنائهما» رد على
(1)
مولانا قاضي القضاة تقي الدِّين السبكي أعزه الله تعالى.
كتب أصول الفقه
«قاعدة غالبها أقوال الفقهاء» ، مجلدان. «قاعدة كل حمد وذم من المقالات والأفعال لا يكون إلّا بالكتاب والسنة» . «شمول النصوص للأحكام» ، مجلد لطيف. «قاعدة في الإجماع وأنَّه ثلاثة أقسام» . «جواب في الإجماع وخبر التواتر» . «قاعدة في كيفية الاستدراك على الأحكام بالنص
(1)
في «الوافي» : «رد عليه فيها» ولعله الصواب.
والإجماع». «في الرد على من قال إنَّ الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين» ، ثلاث مصنفات. «قاعدة فيما يُظّن من تعارض النص والإجماع» . «مواخذ
(1)
على ابن حزم في الإجماع». «قاعدة في تقرير القياس» . «قاعدة في الاجتهاد والتقليد في الأحكام» . «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» . «قاعدة في الاستحسان» . «وصف العموم والإطلاق» . «قواعد في أنَّ المخطئ في الاجتهاد لا يأثم» . «هل العامي يجب عليه تقليد مذهب معين» . «جواب في ترك التقليد» . «فيمن يقول مذهبي مذهب النَّبي عليه السلام وليس أنا محتاج إلى تقليد الأربعة» . «جواب من تفقه في مذهب ووجد حديثًا صحيحًا هل يعمل به أو لا» . «جواب تقليد الحنفي الشَّافعيّ في [الجمع] للمطر والوتر» . «الفتح على الإمام في الصلاة» . «تفضيل قواعد مذهب مالك وأهل المدينة» . «تفضيل الأئمة الأربعة وما امتاز به كل واحد منهم» . «قاعدة في تفضيل الإمام أحمد» . «جواب هل كَانَ النَّبي صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة نبيًّا» . «جواب هل كَانَ النَّبي صلى الله عليه وسلم متعبِّدًا بشرع مَنْ قبله» . «قواعد أنَّ النّهي يقتضي الفساد» .
كتب الفقه
«شرح المحرر في مذهب أحمد» ، ولم يبيض. «شرح العمدة لموفق الدين» ، أربع مجلدات. «جواب مسائل وردت من أصفهان» . «جواب مسائل وردت من الأندلس» . «جواب مسائل وردت من الصلت» . «مسائل من بغداد» . «مسائل وردت من زُرَع» . «مسائل وردت من الرحبة» . «أربعون مسألة [لقبت] الدرر المضية في فتاوي ابن تَيْمِيَّة» . «الماردانية» .
(1)
في الوافي: «مؤاخذة» .
«الطرابلسية» . «قاعدة في المياه والمائعات وأحكامها» . «طهارة بول ما يؤكل لحمه» . «قاعدة في حديث القُلتين وعدم رفعه» . «قواعد في الاستجمار وتطهير الأرض بالشمس والريح» . «جواز الاستجمار مع وجود الماء» . «نواقض الوضوء» . «قواعد في عدم نقضه بلمس النساء» . «التسمية على الوضوء» . «خطأ القول بجواز المسح على الخفين» . «جواز المسح على الخفين المنخرقين والجوربين واللفائف» . «فيمن لا يعطي أجرة الحمام» . «تحريم دخول الحمام بلا مئزر» . «في الحمام والاغتسال» . «ذم الوسواس» . «جواز طواف الحائض» . «تيسير العبادات لأرباب الضرورات بالتيمم والجمع بين الصلاتين للعذر» . «كراهية التلفظ بالنية وتحريم الجهر بها» . «الكلم الطيب» في الأذكار. «كراهية تقديم بَسط سجادة المصلي قبل مجيئه» . «في الركعتين اللتين تصليان قبل الجمعة» ، «في الصلاة بعد أذان الجمعة». «القنوت في الصبح والوتر». «قتل تارك أحد المباني وكفره». «الجمع بين الصلاتين في السفر». «فيما يختلف حكمه بالسفر والحضر». «أهل البدع: هل يصلى خلفهم». «صلاة بعض أهل المذاهب خلف بعض» . «الصلوات المبتدعة» . «تحريم السماع» . «تحريم الشبابة» . «تحريم اللعب بالشطرنج» . «تحريم الحشيشة القنبية ووجوب الحد عليها وتنجيسها» . «النهي عن المشاركة في أعياد النصارى واليهود وإيقاد النيران في الميلاد ونصف شعبان وما يُفعل في عاشوراء من الحبوب» . «قاعدة في مقدار الكفارة في اليمين» . «في أنَّ المطلقة بثلاثة لا تحل إلّا بنكاح زوج ثان» . «بيان الحلال والحرام في الطلاق» .
«جواب مَن حلف لا يفعل شيئًا على المذاهب الأربعة ثمَّ طلق ثلاثًا في الحيض» . «الفرق المبين بين الطلاق واليمين» . «لمحة المختطف في الفرق بين الطلاق والحلف» . «كتاب التَّحقيق في الفرق بين
الأيمان والتطليق». «الطلاق البدعي لا يقع» . «مسائل الفرق بين الطلاق البدعي والخلع ونحو ذلك» . «مناسك الحج» . «في حجة النَّبي صلى الله عليه وسلم» . «في العمرة المكية» . «في شهر السلاح بتبوك وشرب السويق بالعقبة وأكل التمر بالروضة وما يلبس المحرم وزيارة الخليل عليه السلام عقيب الحج» . «زيارة القدس مطلقًا» . «جبل لبنان كأمثاله من الجبال ليس فيه رجال الغيب
(1)
ولا أبدال». «جميع أيمان المسلمين مكفَّرة» .
الكتب في أنواع شتى
جمع بعضُ الناس فتاويه بالديار المصرية مدّة مقامه بها سبع سنين في علوم شتى، فجاءت ثلاثين مجلدًا. «الكلام على بطلان الفتوة المصطلح [عليها] بين العوام وليس لها أصل متصل بعلي رضي الله عنه». «كشف حال المشايخ الأحمدية وأحوالهم الشيطانية». «[بطلان] ما يقوله أهل بيت الشَّيخ عدي». «النجوم: هل لها تأثير عند القِرَان والمقابلة، وفي الكسوف: هل يقبل قول المنجمين فيه ورؤية الأهلة»، مجلد. «تحريم أقسام المعزمين بالعزائم المعجمة وصرع الصحيح وصفة الخواتيم» . «إبطال الكيمياء وتحريمها ولو صحت وراجت» .
ومن نظم الشَّيخ تقي الدِّين رحمه الله تعالى على لسان الفقراء المجردين:
والله ما فَقْرُنا اختيارُ
…
وإنّما فقرُنا اضطرارُ
جماعةٌ كُلُّنا كُسالى
…
وأكلُنا ما لهُ عيارُ
(1)
في «الوافي» : «غُيَّب» .
تسمعُ منّا إذا اجتمعنا
…
حقيقةً كُلّها فشارُ
وله أجوبةُ سؤالاتٍ كَانَ يُسْألها نظمًا فيجيب عنها نظمًا، وليس هذا موضع إيراد ذلك، رحمه الله تعالى.
* * * *
عيون التواريخ
(1)
وفيها [728] في ليلة الثاني والعشرين من ذي القعدة توفي الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد العابد الورع الخاشع القدوة المحقق، شيخ الإسلام تقي الدِّين أحمد بن الشيخ الإمام العالم شهاب الدِّين عبد الحليم بن الشيخ الإمام شيخ الإسلام مجد الدِّين عبد السلام بن عبد الله ابن تيميَّة الحرَّاني الدمشقي بقلعة دمشق في القاعة التي كان محبوسًا بها، وغسَّلوه وكفَّنوه وأخرجوه من باب القلعة، وصلَّى عليه بباب القلعة الشيخ محمد بن تمام، ثم أتوا به إلى جامع بني أميَّة، وغلقت جميع أسواق دمشق، وامتلأ الجامع أكثر من يوم الجمعة، وحضروا
(2)
الأمراء والحجاب، وصَلَّوا عليه صلاة الظهر، وحملوه
(3)
الناسُ على رؤوسهم، وخرجوا به من باب الفرج، وبعض الناس من باب الفراديس وباب النصر وباب الجابية، وامتدَّ الناس إلى سوق الخيل إلى مقبرة الصوفية، ودُفِن إلى جانب قبر أخيه الشيخ عبد الله. وانصرف الناسُ متأسفين عليه، وختموا على قبره الختماتِ، وباتوا على قبرِه ليالي كثيرة، ورُئيَتْ له منامات صالحةٌ.
ومولدُه عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وست مئة بحرَّان، وقدِمَ مع والدِه إلى دمشق، واشتغل على والدِه، وسمع الحديث من الشيخ شمس الدِّين ابن أبي عمر وابن العلان وابن أبي اليسر وابن عبد الدائم
(1)
. (6/ 202 أـ ب)(مخطوطة قره جلبي زاده برقم 276).
(2)
. كذا على لغة «أكلوني البراغيث» .
(3)
. كذا على لغة «أكلوني البراغيث» .
وغيرهم، وقرأ بنفسه، وكتبَ الطباق، ونسخَ الأجزاء، ولازمَ السماعَ مدة سنين، واشتغل في العلوم، وحَصَّل في أسرع وقتٍ مالا يُحصِّله غيرُه في سنين كثيرة. وكان عنده ذكاء مُفرط وبديهةٌ حسنةٌ، وله في العلوم اليد الطولى، وصنَّف تصانيف كثيرةً في علومٍ شتَّى ذكرتُها في ترجمته في كتاب «فوات الوفيات» . وكان كثير الذكر والصَّوم والصلاة والعبادة، وعاش سبعًا
(1)
وستين سنةً وثمانيةَ أشهر وعشرة أيامٍ، رحمه الله تعالى.
* * * *
(1)
. في الأصل: «سبع» .
مرْآةُ الجَنَان
(1)
للعلّامة أبي محمد عبد الله اليافعي اليماني (767)
وفيها
(2)
مات بقلعة دمشق الشَّيخ الحافظ الكبير تقي الدِّين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن عبد الله بن تَيْميَّة معتقلًا، ومنع قبل وفاته بخمسة أشهر من الدواة والورق. ومولده في عاشر ربيع الأوَّل يوم الاثنين سنة إحدى وستين وست مئة بحرَّان. سمع من جماعة وبرع في حفظ الحديث والأصلين، وكان يتوقَّد ذكاءً. ومصنفاته قيل: أكثر من مئتي مجلد، وله مسائل غريبة أُنكر عليه فيها، وحُبِس بسببها، مباينة لمذهب أهل السنة
(3)
.
ومن أقبحها نهيه عن زيارة قبر النَّبي عليه الصلاة والسلام
(4)
، وطعنه في مشايخ الصوفية العارفين كحجّة الإسلام أبي حامد الغزالي، والأستاذ الإمام أبي القاسم القُشيري، والشَّيخ ابن العريف، والشَّيخ أبي الحسن الشَّاذلي، وخلائق من أولياء الله الكبار الصفوة الأخيار.
وكذلك ما قد عُرف من مذهبه كمسألة الطلاق وغيرها، وكذلك عقيدته في الجهة وما نقل عنه فيها من الأقوال الباطلة، وغير ذلك مما هو معروف في مذهبه، ولقد رأيت منامًا طويلًا في وقتٍ مبارك يتعلّق بعضه بعقيدته ويدلّ
(1)
. (4/ 277) دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، 1413.
(2)
. أي في سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مئة.
(3)
. يعني الأشاعرة لأنه منهم!!
(4)
. إنما نهى الشيخ عن شدِّ الرحل، وليس عن مطلق الزيارة.
على خطئه فيها، وقد قدّمت ذكره في سنة ثمان وخمسين وخمس مائة في ترجمة صاحب «البيان»
(1)
، فمن أراد أنْ يطلع على ذلك فليطالع هناك فهو من المنامات الَّتي تنشرح بها الصدور ويطمئن به قلب من رآه وينفتح لقبول الهدى والنور! !
* * * *
(1)
. من كتب الفقه الشافعي المطوّلة ليحيى بن ابن أبي الخير العمراني، مطبوع في أربعة عشر مجلدًا.
نثْرُ الجُمَانِ في تَرَاجِم الأعْيان
(1)
للعلّامة أحمد بن محمد بن عليّ الفَيُّومي (770)
وفيها [728] في الثلث الأخير من ليلة الاثنين المسْفِر صباحُها عن العشرين من ذي القَعْدة، كانت وفاة الشَّيخ الإمام العالم الورع الزاهد، تقي الدِّين أحمد بن الشَّيخ الإمام شهاب الدِّين [عبد الحليم]
(2)
بن الشَّيخ مجد الدِّين أبي البركات عبد السَّلام بن عبد الله بن [أبي] القاسم بن محمد بن تَيْميَّة الحَرَّاني ثمَّ الدِّمشقي، في مُعْتَقَلِه بقلعة دمشق، وكان مدّة المرض: سبعة عشر يومًا، ولما مُنِع من الكتابة والتصنيف؛ عكف على تلاوة كتاب الله العزيز، فيُقال: إنَّه قرأ ثمانين ختمة، وقرأ من الحادِية والثَّمانين إلى سورة الرَّحمن، وأكملها أصحابه الَّذين دخلوا عليه حال غسيله، وتكفينه.
وتولّى غسيله مع الغاسل الشَّيخ تاج الدِّين الفارقي، وصُلِّي عليه في عدَّة مواضع، فصُلِّي عليه أوَّلًا بقلعة دمشق، وأمَّ النَّاس في الصَّلاة عليه الشَّيخ محمد بن تمام الصّالحي الحنبلي، ثمَّ حُمِل إلى الجامع الأموي، ووضعت جنازته في أول السَّاعة الخامسة، وامتلأ الجامع بالنّاس، وغلقت أسواق المدينة، وصلّي عليه بعد صلاة الظهر، ثمَّ حُمِل وأُخرج من باب الفرج، وازدحم النَّاس حتَّى تفرقوا في الأبواب، فخرجوا من باب القصر، وباب الفراديس، وباب الجابية، وامتلأ سوق الخيل بالنّاس، وصُلِّي عليه مرَّة ثالثة، وأمَّ النَّاس في الصلاة عليه أخوه الشَّيخ زين الدِّين عبد الرحمن، وحُمل إلى
(1)
. نسخة دار الكتب برقم 1746، جزء فيه (701 - 745).
(2)
. في الأصل: عبد الحكيم! وهو خطأ.
مقبرة الصوفيَّة فدُفِن بها قريبًا من وقت العصر؛ لازدحام النَّاس عليه.
ومولده بحرَّان في يوم الاثنين عاشر ربيع الأوَّل سنة إحدى وستين وست مئة، وقدم مع والده في حال صِغر سنّه، واشتغل عليه وسمع من جماعة من المشايخ، وكان شيخًا حافظًا، ذكي الفطرة، حسن البديهة، وله تصانيف كثيرة منها ما ظهر، ومنها ما لم يظهر. وله مظهر بالعلوم، وشهرة بها يُسْتغنى بها عن بسط القول.
سمعت من لفظ الشَّيخ الإمامة العلامة ركن الدِّين محمد بن القويع قال: «مات ابن تَيْميَّة ولم يترك على ظهر الأرض مثله» . وحسبك بهذا القول من هذا الإمام، قالوا
(1)
: وكان علمه أرجح من عقله!
وقد تقدَّم من أخباره ووقائعه ما يُغني عن الإعادة والإطالة، وكانت مدّة اعتقاله من يوم الاثنين سادس شعبان سنة ستٍ وعشرين وسبع مئة، وإلى حين وفاته: سنتين وثلاثة أشهر وأربعة عشر يومًا ــ رحمه الله تعالى ــ.
ولما توفي أُفرج عن أخيه الشَّيخ زين الدِّين عبد الرَّحمن يوم الأحد سادس عشرين ذي القعدة، وكان قد اعْتُقِل معه، فلما مات صار يخرج في كلِّ يوم من اعتقاله إلى تربة أخيه، ويقيم بها إلى عشية النَّهار فيعود إلى القلعة، ويبيت فيها، وكان النَّائب غائبًا في الصَّيد فلما عاد إلى دمشق أفرج عنه ــ رحمه الله تعالى ونفع به ــ.
* * * *
(1)
. قاله شمس الدِّين الجزري في تاريخه، وتبعه من بعده، وهو قول مرذول!
البداية والنهاية
(1)
للعلّامة أبي الفِداء إسماعيل بن كثير الدِّمشقي (774)
سنة (661)
مولد الشيخ تقي الدِّين ابن تيميَّة شيخ الإسلام:
قال الشَّيخ شمس الدِّين الذَّهبيّ: وفي هذه السنة وُلد شيخنا تقي الدِّين أبو العبَّاس أحمد ابن الشَّيخ شهاب الدِّين عبد الحليم بن أبي القاسم ابن تَيْمِيَّة الحَرَّاني، بحرّان. يوم الاثنين عاشر ربيع الأوَّل من سنة إحدى وستين وست مئة. (13/ 255). (17/ 451).
سنة (666)
وفيها ولد الشَّيخ شرف الدِّين عبد الله ابن تَيْمِيَّة أخو الشَّيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة. (13/ 268). (17/ 480).
سنة (667)
وفيها خرج أهل حرّان منها وقدموا الشَّام. وكان فيهم شيخنا العلّامة أبو العبَّاس أحمد ابن تَيْمِيَّة صُحْبةَ أبيه، وعمره ست سنين، وأخواه زين الدِّين عبد الرَّحمن وشرف الدِّين عبد الله، وهما أصغر منه. (13/ 269). (17/ 483).
(1)
. (13/ 255 - 374، 14/ 3 - 146) دار الريان، مصر، 1408. ثم قابلنا نصوصه على الطبعة المحققة في 21 مجلدًا، بتحقيق د/ عبد الله التركي بالتعاون مع مركز الدراسات والبحوث بدار هجر، ط الأولى 1419.
سنة (682)
وممن توفي فيها: ابن جَعْوان العلامة شمس الدِّين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عباس ابن جَعْوان الأنصاري الدمشقي، المحدِّث الفقيه الشافعي البارع في النحو واللغة.
سمعت شيخنا تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة، وشيخنا الحافظ أبا الحجاج المِزِّي يقول كل منهما للآخر: هذا الرَّجل قرأ «مسند الإمام أحمد» ــ وهما يسمعان ــ فلم نَضْبِط عليه لحنةً مُتَّفقًا عليها، وناهيك بهذين ثناءً على هذا، وهما هما! ! (13/ 320)، (17/ 590 - 591).
[وفيها] توفي الشَّيخ الإمام العالم شهاب الدِّين عبد الحليم بن الشَّيخ الإمام العلامة مجد الدِّين عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تَيْمِيَّة الحَرَّاني، والد شيخنا العلامة تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة، مفتي الفِرق، الفارق بين الفرق. كَانت له فضيلة حسنة، ولديه فوائد كثيرة، وكان له كرسي بجامع دمشق يتكلّم عليه عن ظهر قلبه، وولي مشيخة دار الحديث السكّرية بالقَصَّاعين، وبها كَانَ مَسْكنه. ثمَّ درّس ولده الشَّيخ تقي الدِّين بها بعده، في السنة الآتية كما سيأتي. ودُفن بمقابر الصوفية رحمه الله. (13/ 320). (17/ 592).
سنة (683)
في يوم الاثنين، ثاني المحرّم منها، درَّس الشَّيخُ الامام العالم العلامة العَلَم تقي الدِّين أبو العبَّاس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تَيْمِيَّة الحَرَّاني، بدار الحديث السُّكَّرية الَّتي بالقصَّاعين. وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدِّين ابن الزكي الشَّافعيّ، والشيخ تاج الدِّين الفزاري شيخ الشافعية، والشيخ زين الدِّين ابن المُرَحِّل، وزين الدِّين بن المنجَّى الحنبلي. وكان
درسًا هائلًا حافلًا، وقد كتبه الشَّيخ تاج الدِّين الفزاري بخطه لكثرة فوائده، وكثرة ما استحسنه الحاضرون. وقد أطنب الحاضرون في شكره على حَداثة سنّه وصِغره، فإنه كَانَ عمره إذ ذاك عشرين سنة وسنتين.
ثمَّ جلس الشَّيخ تقي الدِّين المذكور أيضًا يوم الجمعة عاشر صفر بالجامع الأموي بعد صلاة الجمعة على منبر قد هُيِّئَ له لتفسير القرآن العزيز. فابتدأ من أوله في تفسيره. وكان يجتمع عنده الخلق الكثير، والجمُّ الغفير، ومن كثرة ما كَانَ يورد من العلوم المتنوّعة المحرّرة مع الديانة والزهادة والعبادة، سارت بذكره الركبان في سائر الأقاليم والبلدان. واستمرَّ على ذلك مدة سنين متطاولة. (13/ 321). (17/ 593).
سنة (692)
وكان ممن حجَّ في هذه السنة الشيخُ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة رحمه الله. وكان أميرهم الباسطي، ونالهم في مَعَان ريح شديدة جدًا مات بسببها جماعة، وحملت الريح جمالًا عن أماكنها. وطارت العمائم عن الرؤوس، واشتغل كلّ أحد بنفسه. (13/ 352). (17/ 659).
سنة (693)
(واقعة عسّاف)
كَانَ هذا الرَّجل من أهل السويداء، قد شهد عليه جماعة أنَّه سبَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقد استجار عسّافٌ هذا بابن أحمد بن حجي أمير آل عليّ، فاجتمع الشَّيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة، والشيخ زين الدِّين الفارقي شيخ دار الحديث، فدخلا على الأمير عز الدِّين أيبك الحموي، نائب السلطنة، فكلّماه في أمره فأجابهما إلى ذلك، وأرسل ليُحْضِره، فخرجا من عنده، ومعهما خلق كثير
من الناس، فرأى الناسُ عسَّافًا حينَ قدم ومعه رجلٌ من العرب فسبُّوه وشتموه، فقال ذلك الرَّجل البدويُّ: هو خير منكم ــ يعني النصراني ــ فرجمهما الناس بالحجارة؛ وأصابت عسَّافًا ووقعت خبطة قوية، فأرسل النائب، فطلب الشيخين: ابن تَيْمِيَّة والفارقي فضربهما بين يديه، ورسم عليهما في العذراوية، وقدم النصراني فأسلم، وعقد مجلس بسببه، وأثبت بَيْنه وبين الشهود عداوة، فحقن دمه، ثمَّ استدعى بالشيخين فأرضاهما وأطلقهما، ولحق النصراني بعد ذلك ببلاد الحجاز، فاتفق قتله قريبًا من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله ابن أخيه هنالك.
وصنف الشَّيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة في هذه الواقعة كتابه «الصارم المسلول على ساب الرسول صلى الله عليه وسلم» . (13/ 355). (17/ 665 - 666).
سنة (694)
توفي الشَّيخ الامام الخطيب المدرّس المفتي: شرف الدِّين أبو العبَّاس أحمد بن الشَّيخ كمال الدِّين أحمد بن نعمة بن أحمد بن جعفر بن حسين بن حماد المقْدِسِيّ الشافعي ولي القضاء نيابة، والتدريس، والخطابة بدمشق
…
وأذن في الإفتاء لجماعة من الفضلاء منهم الشَّيخ الامام العلّامة شيخ الإسلام أبو العبَّاس ابن تَيْمِيَّة، وكان يَفْتَخِر بذلك ويَفْرَح به، ويقول: أنا أذِنْتُ لابن تَيْميَّة بالإفتاء. (13/ 361). (17/ 678).
سنة (695)
وفي يوم الأربعاء سابع عشر شعبان درّس الشَّيخ الامام العلّامة شيخ الإسلام تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة الحَرَّاني بالمدرسة الحنبلية عوضًا عن الشَّيخ زين الدِّين ابن المنجَّى توفي إلى رحمة الله. ونزل ابن تَيْمِيَّة عن حَلْقة
العماد بن المنجَّى لشمس الدِّين ابن الفخر البعلبكي. (13/ 364). (17/ 684 - 685).
سنة (697)
ولما كان يوم الجمعة سابع عشر شوال، عَمِل الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية ميعادًا في الجهاد، وحرَّض فيه، بالغ في أجور المجاهدين، وكان وقتًا مشهودًا وميعادًا جليلًا.
سنة (698)
وكان وقع في أواخر دولة لاجين بعد خروج قَبْجَق من البلد محنة للشيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة، قام عليه جماعة من الفقهاء وأرادوا إحضاره إلى مجلس القاضي جلال الدِّين الحنفي. فلم يحضر. فنودي في البلد في العقيدة الَّتي كَانَ قد سأله عنها أهل حماة المسماة «بالحموية» . فانتصر له الأمير سيف الدِّين جاغان. وأرسل يطلب الَّذين قاموا عليه. فاختفى كثير منهم، وضُرِب جماعة ممن نادى على العقيدة فسكت الباقون.
فلما كَانَ يوم الجمعة عمل الشَّيخ تقي الدِّين الميعاد بالجامع على عادته، وفسّر فيه قوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، ثمَّ اجتمع بالقاضي إمام الدِّين القَزْويني صبيحة يوم السبت، واجتمع عنده جماعة من الفضلاء، وبحثوا في «الحموية» ، وناقشوه في أماكن منها. فأجاب عنها بما أسكتهم بعد كلام كثير.
ثمَّ ذهب الشَّيخ تقي الدِّين وقد تَمَهَّدَت الأمور، وسكنت الأحوال. وكان القاضي إمام الدِّين معتقدُه حسنًا ومقصدُه صالحًا. (14/ 4 - 5). (17/ 711 - 712).
سنة (699)
هذا؛ وسلطان التَّتار قد قصد دمشق بعد الوقعة. فاجتمع أعيانُ البلد والشيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة في مشهد عليّ، واتفقوا على المسير إلى قازان لتلقّيه وأخذ الأمان منه لأهل دمشق.
فتوجّهوا يوم الاثنين ثالث ربيع الآخر، فاجتمعوا به عند النَّبْك
(1)
. وكلّمه الشَّيخ تقي الدِّين ابن تيمية كلامًا قويًّا شديدًا فيه مصلحة عظيمة عاد نفعُها على المسلمين ولله الحمد.
ودخل المسلمون ليلتئذٍ من جهة قازان فنزلوا بالباذَرائية، وغُلِّقَت أبوابُ البلد سوى باب تُوما. وخطب الخطيب بالجامع يوم الجمعة، ولم يذكر سلطانًا في خطبته، وبعد الصلاة
…
حضر الفَرْمان بالأمان وطيف به في البلد. وقُرئ يوم السبت ثامن الشهر بمقصورة الخطابة، ونُثر شيء من الذهب والفضّة. (14/ 8). (17/ 719 - 720).
وفي يوم الاثنين عاشر الشهر قدم الأمير سيف الدِّين قَبْجَق المنصوري فنزل في الميدان. واقترب جيش التَّتَر، وكثُر العيْث في ظاهر البلد، وقُتل جماعة، وغلت الأسعار بالبلد جدًّا، وضاق الحال عليهم وأرسل قبجق إلى نائب القلعة ليُسَلِّمها إلى التتر. فامتنع أرْجُواش من ذلك أشدّ الامتناع. فجمع له قبجق أعيان البلد فكلَّموه أيضًا، فلم يُجبهم إلى ذلك، وصمّم على ترك تسليمها إليهم وفيها عين تطرف. فإنَّ الشَّيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة أرسل إلى نائب القلعة يقول له ذلك فاشتدَّ عزمه على ذلك وقال له: لو لم يبق فيها
(1)
. قرية بين حمص ودمشق، «معجم البلدان»:(4/ 739).
إلَّا حجر واحد فلا تسلمهم ذلك إن استطعت، وكان في ذلك مصلحة عظيمة لأهل الشَّام فإن الله حفظ لهم هذا الحصن والمَعْقِلَ الذي جعله الله حِرزًا لأهل الشام التي لا تزال دارَ أمانٍ وسنةٍ، حتى ينزل بها عيسى بن مريم عليه السلام. (14/ 9). (17/ 720).
ولما نُكب دَيْر الحنابلة في ثاني جُمادى الأولى قتلوا [أي التَّتار] خلقًا من الرجال، وسبوا من النساء كثيرًا، ونال قاضي القضاة تقي الدِّين منهم أذى كثير. ويُقال: إنهم قتلوا من أهل الصالحية قريبًا من أربعمائة وأسروا نحوًا من أربعة آلافٍ أسير. ونُهِبَت كتبٌ كثيرة من الرباط الناصري والضيائية، وخزانة ابن البزوري. وكانت تُباع وهي مكتوب عليها الوقفية
…
وخرج الشَّيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة في جماعة من أصحابه يوم الخميس العشرين من ربيع الآخر إلى ملك التتر. وعاد بعد يومين، ولم يتّفق اجتماعه به. حجبه عنه الوزيرُ سعد الدين، والرشيدُ مُشِيرُ الدولة المَسْلَماني ابن يهودي
…
(14/ 9 - 10). (17/ 722).
وفي ثاني رجب طلب قبجق القضاة والأعيان، فحلَّفهم على المناصحة للدولة المحمودية ــ يعني قازان ــ. فحلفوا له. وفي هذا اليوم خرج الشَّيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة إلى مخيَّم بُولاي فاجتمع به، في فكاك مَنْ كَانَ معه من أُسَارَى المسلمين. فاستنقذ كثيرًا منهم من أيديهم. وأقام عنده ثلاثة أيام ثمَّ عاد. (14/ 11). (17/ 726).
وفي يوم الجمعة سابع عشر رجب أعيدت الخطبة بجامع دمشق لصاحب مصر السلطان الناصر محمد بن قلاوون. ففرح الناس بذلك، وكان يُخطب لقازان بدمشق وغيرها من بلاد الشَّام مائة يوم سواء.
وفي بُكرة يوم الجمعة المذكور دار الشَّيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة رحمه الله، وأصحابُه على الخمَّارات والحانات، فكسروا آنية الخمور، وشقوا الظروف وأراقوا الخمور. وعزّروا جماعة من أهل الحانات المتخذة لهذه الفواحش. ففرح الناس بذلك. (14/ 12). (17/ 727 - 728).
وفي يوم الجمعة العشرين من شوال ركب نائب السلطنة جمال الدِّين آقوش الأفرم في جيش دمشق إلى جبال الجَرَد وكسروان. وخرج الشَّيخ تقيّ الدِّين ابن تَيْمِيَّة ومعه خلق كثير من المتطوّعة والحورانة لقتال أهل تلك الناحية، بسبب فساد دينهم وعقائدهم وكفرهم وضلالهم، وما كانوا عامَلوا به العَسَاكر لما كسرهم التترُ وهَرَبوا؛ حين اجتازوا ببلادهم وثبوا عليهم ونهبوهم، وأخذوا أسلحتهم وخيولَهم، وقتلوا كثيرًا منهم.
فلما وصلوا إلى بلادهم جاء رؤساؤهم إلى الشَّيخ تقيّ الدِّين ابن تَيْمِيَّة، فاستتابهم وبيّن للكثير منهم الصواب، وحصل بذلك خير كثير، وانتصار كبير على أُولئك المفسدين، والتزموا بردّ ما كانوا أخذوه من أموال الجيش، وقرّر عليهم أموالًا كثيرة يحملونها إلى بيت المال، وأقطِعتْ أراضيهم وضياعُهم، ولم يكونوا قبل ذلك يدخلون في طاعة الجند، ولا يلتزمون أحكام الملة، ولا يدينون دين الحق، ولا يحرّمون ما حرَّم الله ورسوله. (14/ 13). (17/ 730).
سنة (700)
في مُسْتهلِّ صفر وردت الأخبار بقصد التتر بلاد الشَّام، وأنهم عازمون على دخول مصر. فانزعج الناس لذلك، وازدادوا ضعفًا على ضعفهم، وطاشت عقولهم وألبابهم، وشرع الناس في الهرب إلى بلاد مصر والكَرَك
والشَّوْبَك والحصون المنيعة. فبلغت المحارة
(1)
إلى مصر خمسمائة، وبيع الجمل بألف، والحمار بخمسمائة. وبيعت الأمتعة والثياب والغلات بأرخص الأثمان. وجلس الشَّيخ تقيّ الدِّين ابن تَيْمِيَّة في ثاني صفر بمجلسه في الجامع وحرّض الناس على القتال. وشاق لهم الآيات والأحاديث الواردة في ذلك. ونهى عن الإسراع في الفرار، ورغّب في إنفاق الأموال في الذّب عن المسلمين وبلادهم وأموالهم، وأنّ ما يُنفق في أجرة الهَرَب، إذا أُنفِقَ في سبيل الله كَانَ خيرًا. وأوجب جهاد التتر حتمًا في هذه الكرّة. وتابع المجالس في ذلك. ونودي في البلدان: لا يُسافر أحد إلّا بمرسوم وورقة. فتوقف الناسُ عن السير، وسكن جأشهم. (14/ 15 - 16). (17/ 735 - 736).
واستهل جمادى الأولى والناس على خُطةٍ صعبةٍ من الخوف، وتأخُّر السلطانِ واقتراب العدوِّ، وشدةِ الأمرِ والحالِ، وخرج الشَّيخ تقيّ الدِّين بن تَيْمِيَّة رحمه الله تعالى في مستهلّ هذا الشهر ــ وكان يوم السبت ــ إلى نائب الشَّام وعساكره بالمرج. فثبَّتهم، وقوّى جأشهم، وطيّب قلوبهم، ووعدهم النصر والظفر على الأعداء. وتلا قوله تعالى:{ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)} [الحج: 60]، وبات عند العسكر ليلة الأحد، ثمَّ عاد إلى دمشق وقد سأله النائب والأمراء أنْ يركب على البريد إلى مصر يستحثُّ السلطان على المجيء.
فساق وراء السلطان. وكان السلطان قد وصل إلى الساحل، فلم يدركه إلا وقد رجع إلى القاهرة وتفارط الحال. ولكنه استحثهم على تجهيز
(1)
. في المطبوع: الحمارة! والمحارة: شبه الهودج. والمقصود أجرة الحمل إلى مصر.
العساكر إلى الشَّام إنْ كَانَ لهم به حاجة. وقال لهم فيما قال: «إنْ كنتم أعرضتم عن الشَّام وحمايته، أقمنا له سلطانًا يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الأمن» .
ولم يزل بهم حتَّى جُرِّدَت العساكر إلى الشَّام.
وقوَّى جأشهم، وضمن لهم النصر هذه الكرّة. فخرجوا إلى الشَّام، فلما تواصلت العساكر إلى الشَّام فرح الناس فرحًا شديدًا، بعد أن كانوا قد يئسوا من أنفسهم وأهليهم وأموالهم
…
(14/ 16). (17/ 737 - 738).
ورجع الشَّيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة من الديار المصرية في السابع والعشرين من جُمادى الأولى على البريد، وقد أقام بقلعة مصر ثمانية أيّام واجتمع بالسلطان والوزير وأعيان الدولة وحثَّهم وحرَّضهم فأجابوه. (14/ 17). (17/ 739).
سنة (701)
وفي هذا الشهر [شوال] عُقد مجلس لليهود الخيابرة، وأُلزموا بأداء الجزية أسوةَ أمثالهم من اليهود. فأحضروا كتابًا معهم يزعمون أنَّه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع الجزية عنهم. فلما وقف عليه الفقهاء تبيّنوا أنَّه مكذوب مفتعل؛ لما فيه من الألفاظ الركيكة، والتواريخ المخبَّطة، واللحن الفاحش. وحاققهم عليه شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة، وبيّن لهم خطأهم وكذبهم. وأنّه مزوّر مكذوب. فأنابوا
إلى أداء الجزية، وخافوا من أن تستعاد عليهم السنين الماضية.
قلتُ: وقد وقفت أنا ــ أي المؤلف ــ على هذا الكتاب، فرأيتُ فيه شهادة سعد بن معاذ عام خبير. وقد توفي سعد قبل ذلك بنحو من ثلاث سنين، وشهادة معاوية بن أبي سفيان، ولم يكن أسلم إذ ذاك، وإنما أسلم بعد ذلك بنحو من سنتين. وفيه: وكتب علي بن أبو طالب! !
وهذا لحن لا يصدر عن أمير المؤمنين عليّ. (14/ 20). (18/ 9).
وفي هذا الشهر [شوال] ثار جماعة من الحَسَدة على الشَّيخ تقيّ الدِّين ابن تَيْمِيَّة، وشَكَوا منه أنَّه يُقيم الحدود، ويعزِّر، ويحلق رؤوس الصبيان، وتكلّم هو أيضًا فيمن يشكو منه ذلك، وبيّن خطأهم. ثمَّ سكنت الأمور. (14/ 20). (18/ 10).
سنة (702)
وفي جُمادى الأولى وقع بيد نائب السلطنة كتاب مزوّر، فيه أنَّ الشَّيخ تقيّ الدِّين ابن تَيْمِيَّة، والقاضي شمس الدِّين ابن الحريري، وجماعة من الأمراء والخواص الَّذين بباب السلطنة يُناصحون التتر ويكاتبونهم، ويريدون تولية قَبْجَق على الشَّام، وأن الشَّيخ كمال الدِّين ابن الزَّمْلَكاني يعلمهم بأحوال الأمير جمال الدِّين آقوش الأفرم، وكذلك كمال الدِّين بن العطّار. فلما وقف عليه نائب السلطنة عرف أنَّ هذا مفتعل. ففحص عن واضعه فإذا هو فقير، كَانَ مجاورًا بالبيت الَّذي كَانَ إلى جانب محراب الصَّحابة، يُقال له اليَعْفُوري، وآخر معه يُقال له أحمد الفناري
(1)
. وكانا معروفيْن بالشرّ
(1)
. وقع في «ذيول العبر» (ص 5)، و «تاريخ البرزالي»: القباري.
والفضول. ووُجد معهما مسوَّدة هذا الكتاب. فتحقّق نائب السلطنة ذلك، فعُزّرا تعزيرًا عنيفًا. ثمَّ وُسِّطا
(1)
بعد ذلك في مستهل جمادى الآخرة، وقُطعت يد الكاتب الَّذي كتب لهما هذا الكتاب وهو التاج المناديلي. (14/ 23). (18/ 18).
وفي ثامن عشر [شعبان] قدمت طائفة كبيرة من جيش المصريين
…
ثمَّ قدمت بعدهم طائفة أُخرى
…
فقويت القلوب واطمأنّ كثير من الناس. ولكن الناس في جَفْل عظيم من بلاد حلب وحماة وحمص وتلك النواحي، وتقهقر الجيش الحلبي والحموي إلى حمص، ثمَّ خافوا أنْ يدهمهم التتر فجاؤوا فنزلوا المَرْج
…
وجلس القضاة بالجامع وحلّفوا جماعة من الفقهاء والعامة على القتال.
وتوجّه الشَّيخ تقيّ الدِّين ابن تَيْمِيَّة إلى العسكر الواصل من حماة، فاجتمع بهم في القُطَيْفة، وأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء والناس من لقاء العدوّ فأجابوا إلى ذلك وحلفوا معهم. وكان الشَّيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة يحلف للأمراء والناس: إنكم في هذه الكرّة منصورون على التتار. فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله. فيقول: إنْ شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا. وكان يتأوّل في ذلك أشياء في كتاب الله منها قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ} [الحج: 60]. (14/ 24 - 25). (18/ 22 - 23).
وقد تكلّم الناسُ في كيفيّة قتال هؤلاء التتر من أيّ قبيل هو؟ فإنهم
(1)
. يقال: وسَّطَه توسيطًا، أي: قطعَه نصفين. «تاج العروس» : (10/ 448).
يُظهرون الإسلام، وليسوا بُغاة على الإمام، فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقتٍ ثمَّ خالفوه. فقال الشَّيخ تقيّ الدين: هؤلاء من جنس الخوارج الَّذين خرجوا على عليّ ومعاوية. ورأوا أنهم أحقّ بالأمر منهما. وهؤلاء يزعمون أنهم أحقّ بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبّسون به من المعاصي والظلم، وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مُضاعفَّة. فتفطَّنَ العلماءُ والناسُ لذلك. وكان يقولُ للناس: إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسي مصحف فاقتلوني، فتشجَّع الناسُ في قتال التَّتار، وقويت قلوبهم ونيَّاتهم ولله الحمد. (14/ 25). (18/ 23 - 24).
ولما كَانَ يوم الأربعاء الثامن والعشرين من شعبان خرجت العساكر الشامية فخَيَّمتْ على الجُسُورة من ناحية الكُسْوَة، ومعهم القضاة
…
فلما كانت ليلة الخميس ساروا إلى ناحية الكسوة
…
وخرج الشَّيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة صبيحة يوم الخميس من الشهر المذكور من باب النصر بمشقة كبيرة، وصُحْبته جماعة ليشهد القتال بنفسه ومَنْ معه. فظنوا أنَّه إنَّما خرج هاربًا، فحصل له لوم من بعض الناس وقالوا: أنت مَنَعْتنا من الجفل وها أنت هارب من البلد. فلم يرد عليهم. (14/ 25). (18/ 24).
وفي يوم الاثنين رابع الشهر [رمضان] رجع الناسُ من الكسوة إلى دمشق، فبشّروا الناس بالنصر.
وفيه دخل الشَّيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة البلدَ ومعه أصحابه من الجهاد ففرح الناسُ به، ودعوا له، وهنّأوه بما يسّرَ الله على يديه من الخير. وذلك أنّه
ندبه العسكر الشامي أنْ يسير إلى السلطان يستحثُّه على السير إلى دمشق، فسار إليه، فحثّه على المجيء إلى دمشق بعد أنْ كاد يرجع إلى مصر. جاء هو وإياه جميعًا. فسأله السلطان أنْ يقف معه في معركة القتال، فقال له الشيخ: السنة أن يقف الرَّجل تحت راية قومه. ونحن من جيش الشَّام لا نقف إلّا معهم. وحرّض السلطان على القتال، وبشّره بالنصر، وجعل يحلف له بالله الَّذي لا إله إلّا هو إنكم منصورون عليهم في هذه المرّة. فيقول له الأمراء: قل إنْ شاء الله. فيقول: إنْ شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا. وأفتى الناسَ بالفِطْرِ مدةَ قتالهم، وأفطر هو أيضًا وكان يدور على الأطلاب
(1)
والأمراء فيأكل من شيء معه في يده، ليعلمهم أَنَّ إفطارهم ليتقووا على القتال أفضلُ، فيأكل الناس. وكان يتأوَّل في الشاميين قوله صلى الله عليه وسلم:«إنكم ملاقوا العدوّ غدًا، والفطر أقوى لكم»
(2)
. فعزم عليهم في الفطر عام الفتح. كما في حديث أبي سعيد الخدري. (14/ 27). (18/ 27 - 28).
في ترجمة ابن دقيق العيد قال: وقد اجتمع به الشَّيخُ تقيُّ الدِّين بن تَيْمِيَّة، فقال له تقي الدِّين ابن دقيق العيد لما رأى تلك العلوم منه: ما أظن بقي يُخلق مثلك. (14/ 29). (28/ 30) في نسخة (م).
وعين نائب السلطنة الشامية البرّانية ودار الحديث للشيخ كمال الدِّين بن الشريشي، وذلك بإشارة الشَّيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة. (14/ 30). (28/ 33).
(1)
. وهي: الكتيبة من الجيش.
(2)
. أخرجه مسلم.
سنة (704)
في رجب منها أُحضر إلى الشَّيخ تقيّ الدِّين ابن تَيْمِيَّة شيخٌ كَانَ يلبس دلقًا كبيرًا متسعًا جدًّا يسمّى المجاهد إبراهيم القطّان. فأمر الشَّيخ بتقطيع ذلك الدلق، فتناهبه الناسُ من كلّ جانب، وقطعوه حتَّى لم يدعوا منه شيئًا. وأمر بِحَلْق رأسه، وكان ذا شعر، وقَلْم أظفاره وكانوا طوالًا جدًّا. وحفَّ شاربه المُسْبل على فمه المخالف للسنّة. واستتابه من كلام الفُحْش، وأكْلِ ما لا يجوز أكله من المحرّمات ومما يغيّر العقل من الحشيشة، وغيرها.
وبعده استحضر الشَّيخ محمد الخبّاز البلاسي، فاستتابه أيضًا عن أكل المحرمّات، ومخالطة أهل الذمّة. وكتب عليه مكتوبًا أن لا يتكلّم في تعبير المنامات ولا في غيرها بما لا علم له به.
وفي هذا الشهر بعينه راح الشَّيخ تقيّ الدِّين ابن تَيْمِيَّة إلى مسجد النَّارَنْج وأمر أصحابه ومعهم حجّارون بقطع صخرة كانت هناك بنهر قَلُوط تُزار ويُنذر لها. فقطعها وأراح المسلمين منها ومن الشرك بها. فأزاح عن المسلمين شبهة كَانَ شرّها عظيمًا وبهذا وأمثاله حسدوه، وأبرزوا له العداوة، وكذلك بكلامه في ابن عربي وأتباعه، فحُسِد على ذلك وعُودي، ومع هذا لم تأخذه في الله لومة لائم، ولا بالى، ولم يصلوا إليه بمكروه، وأكثر ما نالوا منه: الحبس: مع أنه لم ينقطع في بحثٍ، لا بمصر ولا بالشام، ولم يتوجه لهم عليه ما يشين، وإنما أخذوه وحبسوه بالجاه ــ كما سيأتي ــ وإلى الله إياب الخلق وعليه حسابهم. (14/ 36). (18/ 45 - 47).
وفي مستهلّ ذي الحجة ركب الشَّيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة، ومعه جماعة من أصحابه إلى جبل الجُرْد والكَسْروانيين، ومعه نقيب الأشراف زين الدِّين
بن عدنان، فاستتابوا خلقًا منهم، وألزموهم بشرائع الإسلام، ورجع مؤيّدًا منصورًا. (14/ 37). (18/ 49).
سنة (705)
في ثانية [المحرم] خرج نائب السلطنة بمن بقي معه من الجيوش الشامية. وقد كَانَ تقدّم بين يديْه طائفة منهم مع ابن تَيْمِيَّة في ثاني المحرم. فساروا إلى بلاد الجُرْد والرَّفَض والتَّيامِنَة. فخرج نائب السلطنة الأفرم بنفسه بعد خروج الشَّيخ لغزوهم، فنصرهم الله عليهم، وأبادوا خَلْقًا كثيرًا منهم ومن فرقتهم الضالّة، ووطئوا أراضي كثيرة من مَنِيع بلادهم. وعاد نائب السلطنة إلى دمشق في صحبته الشَّيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة والجيش. وقد حصل بسبب شهود الشَّيخ هذه الغزوة خيرٌ كثير. وأبان الشَّيخ علمًا وشجاعة في هذه الغزوة، وقد امتلأت قلوب أعدائه حسدًا له وغمًّا. (14/ 38). (18/ 50).
ما جرى للشيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَة
مع الأحمدية وكيف عقدت له المجالس الثلاثة
وفي يوم السبت تاسع جمادى الأولى حضر جماعة كثيرة من الفقراء الأحمدية إلى نائب السلطنة بالقصر الأبلق وحضر الشَّيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة، فسألوا من نائب السلطنة بحضرة الأمراء أنْ يكف الشَّيخ تقي الدِّين إنكاره عليهم، وأن يُسَلِّم لهم حالهم، فقال لهم الشَّيخ: هذا ما يمكن. ولا بد لكل أحد أن يدخل تحت الكتاب والسنة، قولًا وفعلًا، ومن خرج عنهما وجب الإنكار عليه على كل أحدٍ. فأرادوا أنْ يفعلوا شيئًا من أحوالهم الشيطانية الَّتي يتعاطونها في سماعاتهم، فقال الشَّيخ: تلك أحوال شيطانية باطلة، وأكثر أحوالكم من باب الحيل والبهتان، ومن أراد منكم أن يدخل
النار فليدخل أولًا إلى الحمام وليغسل جسده غسلًا جيدًا ويدلكه بالخل والأُشنان ثمَّ يدخل بعد ذلك إلى النار إنْ كَانَ صادقًا.
ولو فرض أنَّ أحدًا من أهل البدع دخل النار بعد أنْ يغتسل فإنًّ ذلك لا يدل على صلاحه ولا على كرامته، بل حاله من أحوال الدجاجلة المخالفة للشريعة المحمدية إذا كَانَ صاحبها على السنة، فما الظن بخلاف ذلك! فابتدر شيخ المُنَيبع الشَّيخ صالح وقال: نحن أحوالنا إنَّما تنفق عند التتر ليست تنفق عند الشرع. فضبط الحاضرون عليه تلك الكلمة، وكثر الإنكار عليهم من كل أحد، ثمَّ اتفق الحال على أنهم يخلعون الأطواق الحديد من رقابهم، وأن من خرج على الكتاب والسنة ضربت عنقه. وصنف الشَّيخ جزءًا في طريقة الأحمدية، وبين فيه فساد أحوالهم ومسالكهم وتخيلاتهم، وما في طريقتهم من مقبول ومردود بالكتاب والسنة، وأظهر الله السنة على يديه وأخمد بدعتهم ولله الحمد والمنة.
أول المجالس الثلاثة لشيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة
وفي يوم الاثنين ثامن رجب حضر القضاة والعلماء وفيهم الشَّيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة عند نائب السلطنة بالقصر، وقرئت عقيدة الشَّيخ تقي الدِّين «الواسطية» ، وحصل بحث في أماكن منها، وأخرت مواضع إلى المجلس الثَّاني، فاجتمعوا يوم الجمعة بعد الصلاة ثاني عشر الشهر المذكور وحضر الشَّيخ صفي الدِّين الهندي، وتكلم مع الشَّيخ تقي الدِّين كلامًا كثيرًا، ولكن ساقيته لاطمت بحرًا! ! ثمَّ اصطلحوا على أن يكون الشَّيخ كمال الدِّين ابن الزَّمْلَكاني هو الَّذي يحاققه من غير مسامحة، فتناظرا في ذلك، وشكر الناسُ من فضائل الشَّيخ كمال الدِّين ابن الزَّمْلَكاني وجودة ذهنه وحسن
بحثه حيث قاوم ابن تَيْمِيَّة في البحث، وتكلم معه، ثمَّ انفصل الحال على قبول العقيدة، وعاد الشَّيخ إلى منزله معظَّمًا مكرَّمًا.
وبلغني أنَّ العامة حملوا له الشمع من باب النصر إلى القصّاعين على جاري عادتهم في أمثال هذه الأشياء، وكان الحاملَ على هذه الاجتماعات كتابٌ ورد من السلطان في ذلك، كَانَ الباعث على إرساله قاضي المالكية ابن مخلوف، والشَّيخ نصر المنبجي شيخ الجاشنكير وغيرهما من أعدائه وذلك أنَّ الشَّيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة كَانَ يتكلم في المنبجي وينسبه إلى اعتقاد ابن عربي، وكان للشيخ تقي الدِّين من الفقهاء جماعة يحسدونه لتقدمه عند الدولة، وانفراده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطاعة الناس له ومحبتهم له وكثرة أتباعه وقيامه في الحق، وعلمه وعمله.
ثمَّ وقع بدمشق خبط كثير وتشويش بسبب غيبة نائب السلطنة في الصيد، وطلب القاضي جماعةً من أصحاب الشَّيخ وعزّر بعضهم.
ثمَّ اتفق أنَّ الشَّيخ جمال الدِّين المزي الحافظ قرأ فصلًا في الرد على الجهمية من كتاب «أفعال العباد» للبخاري تحت قبة النسر بعد قراءة ميعاد البخاريّ بسبب الاستسقاء، فغضب بعض الفقهاء الحاضرين وشكاه إلى القاضي الشَّافعيّ ابن صصري، وكان عدو الشَّيخ فسجنَ المزيَّ، فبلغ ذلك الشَّيخ تقي الدِّين فتألم لذلك وذهب إلى السجن فأخرجه منه بنفسه، وراح إلى القصر فوجد القاضي هناك، فتقاولا بسبب الشَّيخ جمال الدِّين المزي، فحلف ابن صصري ولا بد أن يعيده إلى السجن وإلا عزَلَ نفسه. فأمر النائب بإعادته تطييبًا لقلب القاضي، فحبسه عنده في القوصية أيامًا ثمَّ أطلقه. ولما قدم نائب السلطنة ذكر له الشَّيخ تقي الدِّين ما جرى في حقه وحق أصحابه في
غيبته، فتألم النائب لذلك، ونادى في البلد: أن لا يتكلم أحد في العقائد، ومن تكلم في ذلك حلّ ماله ودمه ونُهبت داره وحانوته، فسكنت الأمور.
وقد رأيت فصلًا من كلام الشَّيخ تقي الدِّين في كيفية ما وقع في هذه المجالس الثلاثة من المناظرات.
ثمَّ عُقِد المجلس الثالث في سابع شعبان بالقصر، واجتمع الجماعة على الرضى بالعقيدة المذكورة. وفي هذا اليوم عزَل ابنُ صصري نفسه عن الحكم بسبب كلام سمعه من بعض الحاضرين في المجلس المذكور، وهو الشَّيخ كمال الدِّين ابن الزَّمْلَكاني، ثمَّ جاء كتاب السلطان في السادس والعشرين من شعبان فيه إعادة ابن صصري إلى القضاء، وذلك بإشارة المنبجي، وفي الكتاب: إنا كنا رسمنا بعقد مجلس للشيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة، وقد بلغنا ما عقد له من المجالس، وأنَّه على مذهب السلف، وإنما أردنا بذلك براءة ساحته مما نسب إليه. ثمَّ جاء كتاب آخر في خامس رمضان يوم الاثنين وفيه الكشف عمَّا كَانَ وقع للشيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة في أيام جاغان، والقاضي إمام الدِّين القزويني، وأن يحمل هو والقاضي ابن صصري إلى مصر. فتوجها على البريد نحو الديار المصرية، وخرج مع الشَّيخ خلق من أصحابه وبكوا وخافوا عليه من أعدائه، وأشار عليه نائب السلطنة الأفرم بترك الذهاب إلى مصر، وقال له: أنا أكاتب السلطان في ذلك وأصلح القضايا. فامتنع الشَّيخ من ذلك وذكر له أنَّ في توجهه لمصر مصلحة كبيرة، ومصالح كثيرة. فلما توجّه لمصر ازدحم الناس لوداعه ورؤيته، حتَّى انتشروا من باب داره إلى قرب الجسورة، فيما بين دمشق والكسوة، وهم ما بين باكٍ وحزين ومتفرّج ومتنزّه ومُزاحم مُتغالٍ فيه.
فلما كَانَ يوم السبت دخل الشَّيخ تقي الدِّين غزة، فعمل بجامعها مجلسًا عظيمًا، ثمَّ رحلا معًا إلى القاهرة والقلوبُ معه وبه متعلّقة. فدخلا مصر يوم الاثنين الثَّاني والعشرين من رمضان، وقيل إنّهما دخلاها يوم الخميس.
فلما كَانَ يوم الجمعة بعد الصلاة عُقد للشيخ تقي الدِّين مجلس بالقلعة اجتمع فيه القُضاة وأكابر الدولة. وأراد أن يتكلّم على عادته، فلم يُمكّن من البحث والكلام. وانتُدب له الشمس ابن عدلان خصمًا احتسابًا، وادّعى عليه عند ابن مخلوف المالكي أنَّه يقول: إنّ الله فوق العرش حقيقةً، وأنّ الله يتكلم بحرف وصوت. فسأله القاضي جوابه. فأخذ الشَّيخ في حمد الله والثناء عليه، فقيل له: أجبْ، ما جئنا بك لتخطب. فقال: ومَن الحاكم فيَّ؟ فقيل له: القاضي المالكي. فقال له الشَّيخ: كيف تحكم فيَّ وأنت خصمي؟ فغضب غضبًا شديدًا، وانزعج، وأقيم مرسَّمًا عليه، وحُبس في بُرْج أيامًا، ثمَّ نُقل منه ليلة العيد إلى الحبس المعروف بالجب، هو وأخواه شرف الدِّين عبد الله، وزين الدِّين عبد الرَّحمن.
وأما ابن صصري فإنّه جُدّد له توقيع بالقضاء بإشارة المنبجي شيخ الجاشنكير حاكم مصر. وعاد إلى دمشق يوم الجمعة سادس ذي القعدة والقلوبُ له ماقتة، والنفوس منه نافرة. وقرئ تقليده بالجامع. وبعده قُرئ كتابٌ فيه الحطُّ على الشَّيخ تقيّ الدِّين ومخالفته في العقيدة، وأن ينادي بذلك في البلاد الشامية، وألزم أهل مذهبه بمخالفته. وكذلك وقع بمصر، قام عليه جاشنكير، وشيخه نصر المنبجي، وساعدهم جماعة كثيرة من الفقهاء والفقراء، وجرت فتنٌ كثيرة منتشرة، نعوذ بالله من الفتن!
وحصل للحنابلة بالديار المصرية إهانة عظيمة كثيرة، وذلك أن قاضيهم كان قليل العلم مُزْجَى البضاعة، وهو شرف الدِّين الحراني، فلذلك نال أصحابهم ما نالهم، وصارت حالهم حالهم. (14/ 38 - 40). (18/ 51 - 57).
سنة (706)
استهلت
…
والشيخ تقيّ الدِّين ابن تَيْمِيَّة مسجون بالجبّ من قلعة الجبل. (14/ 42). (18/ 62).
وفي يوم الأحد العشرين من ربيع الآخر قدم البريد من القاهرة
…
ووصل مع البريدي أيضًا كتاب فيه طلب الشَّيخ كمال الدِّين ابن الزَّمْلَكَاني إلى القاهرة. فتوهّم من ذلك، وخاف أصحابه عليه، بسبب انتسابه إلى الشَّيخ تقيّ الدِّين ابن تَيْمِيَّة. فتلطّف يه نائب السلطنة، ودارى عنه حتَّى أُعْفِي من الحضور إلى مصر ولله الحمد. (14/ 43). (18/ 63).
وفي ليلة عيد الفطر أحضر الأمير سيف الدِّين سلار نائب مصر، القضاة الثلاثة وجماعة من الفقهاء. فالقضاةُ: الشَّافعيّ والمالكي والحنفي، والفقهاء الباجي والجَزَري والنِّمْرَاوي. وتكلّموا في إخراج الشَّيخ تقيّ الدِّين ابن تَيْمِيَّة من الحبس. فاشترط بعض الحاضرين عليه شروطًا في ذلك، منها أنَّه يلتزم بالرجوع عن بعض العقيدة، وأرسلوا اليه ليحضر ليتكلّموا معه في ذلك، فامتنع من الحضور وصمّم. وتكرّرت الرسل إليه ست مرّات، فصمّم على عدم الحضور، ولم يلتفت إليهم، ولم يَعِدْهم شيئًا، فطال عليهم المجلس. فتفرّقوا وانصرفوا غير مأجورين! ! (14/ 44). (18/ 65).
وفي اليوم الثامن والعشرين من ذي الحجة أُخْبر نائب السلطنة بوصول كتاب من الشَّيخ تقي الدِّين من الحبس الَّذي يُقال له: الجبّ. فأرسل في
طلبه، فجيء به، فقُريء على الناس. فجعل يشكر الشَّيخ ويُثني عليه وعلى علمه وديانته وشجاعته وزُهده. وقال: ما رأيتُ مثله. وإذا هو كتاب مشتمل على ما هو عليه في السجن من التوجّه إلى الله، وأنَّه لم يقبل من أحد شيئًا لا من النفقات السلطانية ولا من الكسوة ولا من الإدارات ولا غيرها، ولا تدنّس بشيء من ذلك.
وفي هذا الشهر، يوم الخميس السابع والعشرين منه، طُلِبَ أخَوَا الشَّيخ تقي الدين: شرف الدِّين وزيْن الدِّين من الحبس إلى مجلس نائب السلطان سلّار. وحضر نائبَ السَّلْطنةِ ابنُ مخلوف المالكيُّ. وجرى بينهم كلام كثير. فظهر شرف الدِّين بالحجّة على القاضي المالكي بالنقل والدليل والمعرفة. وخطَّأه في مواضع ادّعى فيها دعاوى باطلة. وكان الكلام في مسألة العرش ومسألة الكلام، وفي مسألة النزول.
وفي يوم الجمعة أُحْضِر شرف الدِّين أخو الشيخ تقي الدِّين وحده في مجلس نائب السلطنة سلّار، وحضر ابنُ عدلان، وتكلم معه الشيخ شرف الدِّين وناظره وبحث معه، وظهر عليه أيضًا. (14/ 45). (18/ 67).
سنة (707)
استهلت
…
والشيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة معتقل بالجب من قلعة الجبل بمصر. (14/ 46). (18/ 72).
وفي يوم الجمعة رابع عشر صفر اجتمع قاضي القضاة بدر الدِّين ابن جماعة بالشيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة في دار الأوحدي من قلعة الجبل، وطال بينهما الكلام ثمَّ تفرقا قبل الصلاة، والشيخ تقي الدِّين مصمم على عدم الخروج من السجن.
فلما كَانَ يوم الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الأوَّل جاء الأمير حسام الدِّين مهنّا بن عيسى ملك العرب إلى السجن بنفسه، وأقسم على الشَّيخ تقي الدِّين ليخرجنّ إليه، فلما خرج أقسم عليه ليأتينّ معه إلى دار سلار، فاجتمع به بعض الفقهاء بدار سلّار وجرت بينهم بحوث كثيرة، ثمَّ فرقت بينهم الصلاة، ثمَّ اجتمعوا إلى المغرب وبات الشَّيخ تقي الدِّين عند سلّار، ثمَّ اجتمعوا يوم الأحد بمرسوم السلطان جميع النهار، ولم يحضر أحد من القضاة بل اجتمع من الفقهاء خلق كثير، أكثر من كل يوم، منهم الفقيه نجم الدِّين ابن الرفعة وعلاء الدِّين الباجي وفخر الدِّين ابن بنت أبي سعد، وعز الدِّين النِّمراوي، وشمس الدِّين بن عدلان، وجماعة من الفقهاء، وطلبوا القضاة فاعتذروا بأعذار، بعضهم بالمرض، وبعضهم بغيره، لمعرفتهم بما ابن تَيْمِيَّة منطوٍ عليه من العلوم والأدلة، وأن أحدًا من الحاضرين لا يطيقه، فقبل عذرهم نائب السلطنة ولم يكلفهم الحضور بعد أنْ رسم السلطان بحضورهم وانْفَصَل المجلس على خير، وبات الشَّيخ عند نائب السلطنة. وجاء الأمير حسام الدِّين مهنّا يريد أنْ يستصحب الشَّيخ تقي الدِّين معه إلى الشام، فأشار سلار بإقامة الشَّيخ بمصر عنده ليرى الناس فضله وعلمه، وينتفع الناس به ويشتغلوا عليه. وكتب الشَّيخ كتابًا إلى الشَّام يتضمن ما وقع له من الأمور.
قال البرزالي: وفي شوال منها شكا الصوفيةُ بالقاهرة على الشَّيخ تقي الدِّين وكلامه في ابن عربي وغيره إلى الدولة، فردوا الأمر في ذلك إلى القاضي الشَّافعيّ، فعقد له مجلس وادعى عليه ابن عطاء بأشياء لم يثبت عليه منها شيء، لكنه قال: لا يستغاث إلَّا بالله، ولا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم استغاثة
بمعنى العبادة، ولكن يتوسّل به ويُتَشفع به إلى الله. فبعض الحاضرين قال: ليس عليه في هذا شيء، ورأى القاضي بدر الدِّين بن جماعة أنَّ هذا فيه قلة أدب، فحضرت رسالة إلى القاضي أنْ يعمل معه ما تقتضيه الشريعة، فقال القاضي: قد قلت له ما يقال لمثله.
ثمَّ إنَّ الدولة خيروه بين أشياء؛ إمَّا أنْ يسير إلى دمشق أو الإسكندرية بشروط أو الحبس، فاختار الحبس، فدخل عليه جماعة في السفر إلى دمشق ملتزمًا ما شُرط، فأجاب أصحابه إلى ما اختاروا جبرًا لخواطرهم، فركب خيل البريد ليلة الثامن عشر من شوال، ثمَّ أرسلوا خلفه من الغد بريدًا آخر، فردوه وحضر عند قاضي القضاة ابن جماعة وعنده جماعة من الفقهاء، فقال له بعضهم: إنَّ الدولة ما ترضى إلَّا بالحبس، فقال القاضي: وفيه مصلحة له. واستناب شمس الدِّين التونسي المالكي وأذن له أنْ يحكم عليه بالحبس فامتنع وقال: ما ثبت عليه شيء، فأذن لنور الدِّين الزواوي المالكي فتحيَّر، فلما رأى الشَّيخُ توقفَهم في حبسه قال: أنا أمضي إلى الحبس وأتّبِع ما تقتضيه المصلحة. فقال نور الدِّين الزواوي: يكون في موضع يصلح لمثله. فقيل له: الدولة ما ترضى إلَّا بمسمى الحبس، فأُرسل إلى حبس القضاة، وأُجْلِس في المكان الَّذي أُجْلس فيه تقي الدِّين ابن بنت الأعزّ حين سُجن، وأذن له أنْ يكون عنده من يخدمه، وكان ذلك كله بإشارة نصر المنبجي لوجاهته في الدولة، فإنه كَانَ قد استحوذ على عقل الجاشنكير الَّذي تسلطن فيما بعد، وغيره من الدولة، والسلطان مقهور معه.
واستمر الشَّيخ في الحبس يُستفتى ويقصده الناس ويزورونه، وتأتيه الفتاوي المشكلة الَّتي لا يستطيعها الفقهاء من الأمراء وأعيان الناس، فيكتب
عليها بما يحيّر العقول من الكتاب والسنة. ثمَّ عُقد للشيخ مجلس بالصالحية بعد ذلك كله، ونزل الشَّيخ بالقاهرة بدار ابن شقير، وأكب الناس على الاجتماع به ليلًا ونهارًا. (14/ 47 - 48). (18/ 73 - 76).
سنة (708)
استهلّت
…
والشيخ تقي الدِّين قد أُخرج من الحبس
(1)
، والناس قد عكفوا عليه زيارة وتعلُّمًا وإفتاءً وغير ذلك. (14/ 49). (18/ 78).
سنة (709)
وفي ليلة سلخ صفر توجه الشَّيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة من القاهرة إلى الإسكندرية صحبة أمير مقدَّم، فأدخله دار السلطان وأنزله في برج منها فسيح متسع الأكناف، فكان الناس يدخلون عليه ويشتغلون في سائر العلوم، ثمَّ كَانَ بعد ذلك يحضر الجمعات ويعمل المواعيد على عادته في الجوامع، وكان دخوله إلى الإسكندرية يوم الأحد، وبعد عشرة أيام وصل خبره إلى دمشق، فحصل للناس عليه تألم وخافوا عليه غائلة الجاشنكير وشيخه نصر المنبجي، فتضاعف له الدعاء، وذلك أنهم لم يمكّنوا أحدًا من أصحابه أنْ يخرج معه إلى الإسكندرية فضاقت له الصدور، وذلك أنَّه تمكّن منه عدوُّه نصر المنبجي. وكان سبب عداوته له أّنَّ الشَّيخ تقي الدِّين كَانَ ينال من الجاشنكير ومن شيخه نصر المنبجي، ويقول: زالت أيامه وانتهت رياسته، وقرب انقضاء أجله، ويتكلم فيها وفي ابن عربي وأتباعه. فأرادوا أنْ يسيّروه إلى الإسكندرية كهيئة المنفيّ، لعل أحدًا من أهلها يتجاسر عليه فيقتله غِيلة
(1)
في المحققة: والشيخ في الحبس.
فيستريح منه، فما زاد ذلك الناس إلا محبة فيه وقُربًا منه، وانتفاعًا به، واشتغالًا عليه، وحُنوًّا وكرامة له.
وجاء كتاب من أخيه يقول فيه: إنَّ الأخ الكريم قد نزل بالثغر المحروس على نية الرباط، فإن أعداء الله قصدوا بذلك أمورًا يكيدونه بها ويكيدون الإسلام وأهله، وكانت تلك كرامة في حقِّنا، وظنوا أنَّ ذلك يؤدّي إلى هلاك الشَّيخ فانقلبت عليهم مقاصدهم الخبيثة وانعكست من كل الوجوه، وأصبحوا وأمسوا وما زالوا عند الله وعند عباده العارفين سود الوجوه، يتقطعون حسراتٍ وندمًا على ما فعلوا، وانقلب أهل الثغر أجمعين إلى الأخ مقبلين عليه مكرمين له، وفي كل وقت ينشر من كتاب الله وسنة رسوله ما تقرّ به أعينُ المؤمنين، وذلك شجًى في حلوق الأعداء، واتفق أنَّه وجد بالإسكندرية إبليس قد باض فيها وفرخ وأضل بها فرق السبعينية والعربية، فمزق الله بقدومه عليهم شملهم، وشتت جموعهم شَذَرَ مَذَرَ، وهتك أستارهم وفضحهم، واستتاب جماعة كثيرة منهم، وتوّب رئيسًا من رؤسائهم، واستقر عند عامة المؤمنين وخواصهم ــ من أمير وقاض وفقيه، ومفتٍ وشيخ وجماعة المجتهدين، إلَّا من شذَّ من الأغمار الجهال، مع الذلة والصغَار ــ محبة الشَّيخ وتعظيمه وقبول كلامه والرجوع إلى أمره ونهيه، فَعَلَتْ كلمةُ الله بها على أعداء الله ورسوله، ولُعنوا سرًّا وجهرًا وباطنًا وظاهرًا، في مجامع الناس بأسمائهم الخاصة بهم، وصار ذلك عند نصر المنبجي المقيم المقعد، ونزل به من الخوف والذل ما لا يُعَبَّر عنه، وذكر كلامًا كثيرًا.
والمقصود أنَّ الشَّيخ تقي الدِّين أقام بثغر الإسكندرية ثمانية أشهر مقيمًا
ببرج متسع مليح نظيف له شباكان أحدهما إلى جهة البحر والآخر إلى جهة المدينة، وكان يدخل عليه من شاء، ويتردّد إليه الأكابر والأعيان والفقهاء، يقرأون عليه ويستفيدون منه، وهو في أطيب عيش وأشرح صدر.
وفي آخر ربيع الأوَّل عزل الشَّيخ كمال الدِّين ابن الزَّمْلَكاني عن نظر المارستان بسبب انتمائه إلى ابن تَيْمِيَّة بإشارة المنبجي، وباشره شمس الدِّين عبد القادر بن الحظيري. (14/ 51 - 52). (18/ 83 - 85).
وفي هذا الشهر [جمادى الآخرة] عزل عنها (أي: مشيخة سعيد السعداء) الشيخ كريم الدِّين الآملي؛ لأنه عزل منها الشهود فثاروا عليه، وكتبوا في حقه محاضر بأشياء قادحة في الدين، فرُسِم بصرفه عنهم، وعُومل بنظر ما كان يعامل به الناس، ومن جملة ذلك: قيامه على شيخ الإسلام ابن تيمية، وافتراؤه عليه الكذب، مع جهله وقلة ورعه، فعجَّل الله له هذا الجزاء على يد أصحابه وأصدقائه جزاءً وفاقًا. (18/ 86).
قال الشَّيخ علم الدِّين البرزالي: ولما دخل السلطان إلى مصر يوم عيد الفطر، لم يكن له دأب إلَّا طلب الشَّيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة من الإسكندرية معزَّزًا مكرَّمًا مُبجَّلًا، ، فوجه إليه في ثاني يوم من شوال بعد وصوله بيوم أو يومين، فقدم الشَّيخ تقي الدِّين على السلطان في يوم ثامن الشهر، وخرج مع الشَّيخ خلق من الإسكندرية يودعونه، واجتمع بالسلطان يوم الجمعة فأكرمه وتلقّاه ومشى إليه في مجلس حافل، فيه قضاة المصريين والشاميين، وأصلح بينه وبينهم، ونزل الشَّيخ إلى القاهرة وسكن بالقرب من مشهد الحسين، والناس يترددون إليه، والأمراء والجند وجماعة كثيرة من الفقهاء والقضاة منهم من يعتذر إليه ويتنصل مما وقع منه، فقال: أنا قد حاللتُ كل من آذاني.
قلت: وقد أخبرني القاضي جمال الدِّين بن القلانسي بتفاصيل هذا المجلس، وما وقع فيه من إكرام الشيخ تقي الدين، وما حصل له من الشكر والمدح من السلطان، وكذلك أخبرني بذلك قاضي القضاة صدر الدِّين الحنفي، ولكن أخبار ابن القلانسي أكثر تفصيلًا، وذلك أنَّه كَانَ إذ ذاك قاضي العساكر، وكلاهما كَانَ حاضرًا هذا المجلس، ذكر لي: أنَّ السلطان لما قدم عليه الشَّيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة نهض قائمًا للشيخ أول ما رآه، ومشى له إلى طرف الإيوان واعتنقا هناك هُنيهةً، ثمَّ أخذ بيده فذهب به إلى صُفَّةٍ فيها شباك إلى بستان فجلسا ساعة يتحدَّثان، ثمَّ جاء ويد الشَّيخ في يد السلطان، فجلس السلطان وعن يمينه ابن جماعة قاضي مصر، وعن يساره ابن الخليلي الوزير، وتحته ابن صصري، ثمَّ صدر الدِّين عليّ الحنفي، وجلس الشَّيخ تقي الدِّين بين يدي السلطان على طرف طراحته، وتكلم الوزير في إعادة أهل الذمة إلى لبس العمائم البيض بالعلائم، وأنهم قد التزموا للديوان بسبه مائة ألف في كل سنة، زيادة على الجالية
(1)
، فسكت النَّاس وكان فيهم قضاة مصر والشام وكبار العلماء من أهل مصر والشام من جملتهم ابن الزَّمْلَكاني. قال ابن القلانسي: وأنا في مجلس السلطان إلى جنب ابن الزَّمْلَكاني، فلم يتكلم أحد من العلماء ولا من القضاة، فقال لهم السلطان: ما تقولون؟ يستفتيهم في ذلك، فلم يتكلم أحد، فجثا الشَّيخ تقي الدِّين على ركبتيه وتكلم مع السلطان في ذلك بكلام غليظ، وردّ على الوزير ما قاله ردًّا عنيفًا، وجعل يرفع صوته والسلطان يتلافاه ويُسكته بترفّق وتودد وتوقير. وبالغ الشَّيخ في الكلام وقال
(1)
وهو ما يؤخذ من أهل الذمة من الجزية المقررة عليهم كل سنة. «صبح الأعشى» (3/ 458).
ما لا يستطيع أحد أن يقوم بمثله، ولا بقريب منه، وبالغ في التشنيع على من يوافق على ذلك.
وقال للسلطان: حاشاك أنْ يكون أول مجلس جلسته في أبهة الملك تنصر فيه أهل الذمة لأجل حطام الدنيا الفانية، فاذكر نعمة الله عليك إذ ردَّ مُلكك إليك، وكبت عدوك ونصرك على أعدائك. فذكر أنَّ الجاشنكير هو الَّذي جدد عليهم ذلك، فقال: والذي فعله الجاشنكير كَانَ من مراسيمك؛ لأنَّه إنَّما كَانَ نائبًا لك. فأعجب السلطان ذلك واستمرَّ بهم على ذلك، وجرت فصول يطول ذكرها.
وقد كَانَ السلطان أعلم بالشيخ من جميع الحاضرين، وبعلمه ودينه وقيامه بالحق وشجاعته. وسمعتُ الشَّيخ تقي الدِّين يذكر ما كَانَ بينه وبين السلطان من الكلام لمَّا انفردا في ذلك الشباك الَّذي جلسا فيه، وأن السلطان استفتى الشَّيخ في قتل بعض القضاة بسبب ما كانوا تكلموا فيه، وأخْرَجَ له فتاوي بعضهم بعزله من الملك ومبايعة الجاشنكير، وأنهم قاموا عليك وآذوك أنت أيضًا، وأخذ يحثه بذلك على أنْ يفتيه في قتل بعضهم، وإنما كَانَ حَنَقُه عليهم بسبب ما كانوا سعوا فيه من عزله مبايعة الجاشنكير، ففهم الشَّيخ مراد السلطان فأخذ في تعظيم القضاة والعلماء، وينكر أنْ ينال أحدًا منهم سوء، وقال له: إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلَهم، فقال له: إنهم قد آذوك وأرادوا قتلك مرارًا. فقال الشَّيخ: من آذاني فهو في حِلٍّ، ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه، وأنا لا أنتصر لنفسي، وما زال به حتَّى حَلُم عنهم وصَفَح.
قال: وكان قاضي المالكية ابن مخلوف يقول: ما رأينا مثل ابن تَيْمِيَّة حرَّضْنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا.
ثمَّ إنَّ الشَّيخ بعد اجتماعه بالسلطان نزل إلى القاهرة وعاد إلى بث العلم
ونشره، وأقبلت الخلق عليه ورحلوا إليه يشتغلون عليه ويستفتونه ويجيبهم بالكتابة وبالقول، وجاءته الفقهاء يعتذرون مما وقع منهم في حقه فقال: قد جعلت الكل في حلّ، وبعث الشَّيخ كتابًا إلى أهله يذكر ما هو فيه من نعم الله وخيره الكثير، ويطلب منهم جملة من كتب العلم الَّتي له، ويستعينوا على ذلك بجمال الدِّين المزي، فإنه يدري كيف يستخرج له ما يريده من الكتب الَّتي أشار إليها، وقال في هذا الكتاب: والحق كل ما له في علو وازدياد وانتصار، والباطل في انخفاض وسفول واضمحلال، وقد أذلّ الله رقاب الخصوم، وطلب أكابرهم من السلم ما يطول وصفه، وقد اشترطنا عليهم من الشروط ما فيه عز الإسلام والسنة، وما فيه قمع الباطل والبدعة، وقد دخلوا تحت ذلك كله وامتنعنا من قبول ذلك منهم، حتَّى يظهر إلى الفعل، فلم نثق لهم بقول ولا عهد، ولم نجبهم إلى مطلوبهم حتَّى يصير المشروط معمولًا، والمذكور مفعولًا، ويظهر من عز الإسلام والسنة للخاصة والعامة ما يكون من الحسنات الَّتي تمحو سيئاتهم، وذكر كلامًا طويلًا يتضمن ما جرى له مع السلطان في قمع اليهود والنصارى وذلهم، وتركهم على ما هم عليه من الذلة والصغار، والله سبحانه أعلم. (14/ 51 - 57). (18/ 92 - 95).
سنة (710)
استهلّت
…
والشيخ تقيّ الدِّين ابن تَيْمِيَّة مقيم بمصر معظمًا مكرّمًا.
سنة (711)
استهلّت والحكام هم المذكورون في الَّتي قبلها
…
وقد انتقل الأفرم إلى نيابة طرابلس بإشارة ابن تَيْمِيَّة على السلطان بذلك. (14/ 62 - 63). (18/ 109).
وفي هذا الشهر [جمادى الأولى] قُرّر على أهل دمشق ألف وخمس مئة فارس. ولكل فارس خمس مئة درهم، وضُربت على الأملاك والأوقاف. فتألم الناس من ذلك تألمًا عظيمًا. وسعوا إلى الخطيب جلال الدِّين [القزويني] فسعى إلى القضاة، واجتمع الناس بُكرة يوم الاثنين ثالث عشر الشهر، واختلفوا في الاجتماع، وأخرجوا معهم المصحف العثماني والأثر النبوي والسناجق الخليفتية. ووقفوا في الموكب. فلما رآهم النائب تغيّظ عليهم وشتم القاضي والخطيب. وضرب مجد الدِّين التونسي، ورسم عليهم، ثمَّ أطلقهم بضمان وكفالة فتألم الناس من ذلك كثيرًا. فلم يمهله الله إلّا عشرة أيّام، فجاءه الأمر فجأة فعُزل، وحُبس. ففرح الناس بذلك فرحًا شديدًا. ويُقال إنَّ الشَّيخ تقيّ الدِّين لما بلغه ذلك الخبر عن أهل الشَّام، فأخبر السلطان بذلك فبعث من فَوْره فمسكه شرّ مِسْكَة
…
(14/ 64). (18/ 112).
سنة (712)
وفي ثامن شوال دقت البشائر بدمشق بسبب خروج السلطان من مصر لأجل ملاقاة التتر، وخرج الركب في نصف شوال وأميرهم حسام الدِّين لاجين الصغير، الَّذي كَانَ والي البرّ، وقدمت العساكر المنصورة المصرية أرسالًا، وكان قدوم السلطان ودخوله دمشق يوم الثلاثاء ثالث عشري شوال، واحتفل الناس لدخوله، فنزل بالقلعة وقد زين البلد ودقت البشائر، ثمَّ انتقل بعدُ ليلتئذ إلى القصر وصلى الجمعة بالجامع بالمقصورة وخلع على الخطيب، وجلس في دار العدل يوم الاثنين، وقدم وزيره أمين المُلْك يوم الثلاثاء عشري الشهر، وقدم صحبة السلطان الشَّيخ الإمام العالم العلامة
تقي الدِّين أبو العبَّاس أحمد ابن تَيْمِيَّة إلى دمشق يوم الأربعاء مستهل ذي القعدة وكانت غيبته عنها سبع سنين كوامل، ومعه أخواه وجماعة من أصحابه، وخرج خلق كثير لتلقيه وسُرُّوا بقدومه وعافيته ورؤيته، واستبشروا به حتَّى خرج خلق من النساء أيضًا لرؤيته. وقد كَانَ السلطان صحبه معه من مصر فخرج معه بنية الغزاة، فلما تحقق عدم الغزاة وأن التتر قد رجعوا إلى بلادهم فارق الجيش من غزة وزار القدس وأقام به أيامًا، ثمَّ سافر على عجلون وبلاد السواد وزُرَع، ووصل دمشق في أول يوم من ذي القعدة، فدخلها فوجد السلطان قد توجه إلى الحجاز الشريف في أربعين أميرًا من خواصه يوم الخميس ثاني ذي القعدة، ثمَّ إنَّ الشَّيخ بعد وصوله إلى دمشق واستقراره بها لم يزل ملازمًا لإشْغال الناس في سائر العلوم ونشر العلم وتصنيف الكتب وإفتاء الناس بالكلام والكتابة المطولة والاجتهاد في الأحكام الشرعية، ففي بعض الأحكام يفتي بما أدى إليه اجتهاده من موافقة أئمة المذاهب الأربعة، وفي بعضها يفتي بخلافهم وبخلاف المشهور في مذاهبهم، وله اختيارات كثيرة مجلدات عديدة أفتى فيها بما أدى إليه اجتهاده، واستدل على ذلك من الكتاب والسنة وأقوال الصَّحابة والسلف. (14/ 69). (18/ 124 - 125).
سنة (714)
وفي المحرم استحضر السلطان إلى بين يديه: الفقيه نور الدِّين عليًّا البكري، وهمّ بقتله، وشفع فيه الأمراء، فنفاه، ومنعه من الكلام في الفتوى والعلم، وكان قد هرب لما طلب من جهة الشَّيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة فهرب واختفى، وشُفع فيه أيضًا
…
(14/ 72). (18/ 136).
[وفيها] توفيت الشيخة الصالحة
…
أم زينب فاطمة بنت عباس بن أبي الفتح
…
(وَذكَر من فضلها)، وقد كانت تحضر مجلس الشَّيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة فاستفادت منه
…
وقد سمعتُ الشَّيخ تقي الدِّين يُثني عليها، ويصفها بالفضيلة والعلم، ويذكر عنها أنها كانت تستحضر كثيرًا من «المغني» أو أكثره وأنَّه كَانَ يستعدّ لها من كثرة مسائلها، وحُسن سؤالاتها وسرعة فهمها. (14/ 74 - 75). (18/ 140 - 141).
سنة (715)
[توفي فيها] الحكيم الفاضل البارع بهاء الدِّين عبد السيد
…
الطبيب
…
أسلم على يدي شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة، لما بيَّن له بطلان دينهم وما هم عليه، وما بدّلوه من كتابهم وحرَّفوه من الكلم عن مواضعه رحمه الله . (4/ 77 - 78). (18/ 148).
سنة (716)
توفي الشَّيخ الصدر بن الوكيل، وهو العلّامة أبو عبد الله محمد بن الشَّيخ الإمام مفتي المسلمين زين الدِّين عمر بن مكي بن عبد الصمد المعروف بابن المُرَحِّل وبابن الوكيل، شيخ الشافعية في زمانه
…
وكان ينصب العداوة للشيخ ابن تَيْمِيَّة، ويُناظره في كثير من المحافل والمجالس. وكان يعترف للشيخ تقي الدِّين بالعلوم الباهرة ويُثني عليه، ولكنه كَانَ يجاحف عن مذهبه وناحيته وهواه، ويُنافح عن طائفته. وقد كَانَ شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة يثني عليه وعلى علومه وفضائله، ويشهد له بالإسلام إذا قيل له عن أفعاله وأعماله القبيحة، وكان
يقول: كَانَ مخلّطًا على نفسه، متبعًا مراد الشيطان منه، يميل إلى الشهوة والمحاضرة
…
(14/ 83). (18/ 160 - 161).
[وتوفيت] الشيخة الصالحة ست النعم بنت عبد الرَّحمن بن عليّ ابن عبدوس الحرّانية، والدة الشَّيخ تقيّ الدِّين ابن تَيْمِيَّة. عمرت فوق التسعين سنة. وكانت من الصالحات، ولدت تسع بَنِين. ولم ترزق بنتًا قط. توفيت يوم الأربعاء العشرين من شوال ودُفنت بالصوفية، وحضر جنازتها خلق كثير وجمٌ غفير. رحمها الله. (14/ 81). (18/ 159).
سنة (717)
في صفر شُرع في عمارة الجامع الَّذي أنشأه ملك الأمراء سيف الدِّين تنكز نائب الشَّام ظاهر باب النصر تجاه حكر السمّاق، على نهر بانياس بدمشق. وتردّد القضاة والعلماء في تحرير قبلته، فاستقرّ الحال في أمرها على ما قاله الشَّيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة في يوم الأحد الخامس والعشرين منه، وشرعوا في بنائه بأمر السلطان ومساعدته لنائبه في ذلك. (14/ 83). (18/ 163).
وفي التاسع عشر منه [شوال] درّس ابن الزَمْلَكاني بالعذراوية عوضًا عن ابن سلام. وفيه درّس الشيخ شرف الدِّين ابن تَيْمِيَّة بالحنبلية عن إذن أخيه له في ذلك بعد وفاة أخيهما لأمهما بدر الدِّين قاسم بن محمد بن خالد. ثمَّ سافر الشَّيخ شرف الدِّين إلى الحج. وحضر الشَّيخ تقي الدِّين ابن تيمية الدرس بنفسه، وحضر عنده خلق كثير من الأعيان وغيرهم حتَّى عاد أخوه، وبعد عوده أيضًا. (14/ 85). (18/ 166).
وفي ذي القعدة يوم الأحد درس بالصمصامية
…
الفقيه نور الدِّين على بن عبد النصير المالكي، وحضر عنده القضاة والأعيان وممن حضر عنده الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية وكان يعرفه من إسكندرية. (14/ 85). (18/ 166).
سنة (718)
قال الشَّيخ علم الدين: وفي يوم الخميس منتصف ربيع الأوّل اجتمع قاضي القضاة شمس الدِّين بن مُسَلَّم بالشيخ الامام العلّامة تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة، وأشار عليه في ترك الإفتاء في مسألة الحَلِف بالطلاق، فقبل الشَّيخ نصيحته، وأجاب إلى ما أشار به، رعاية لخاطره وخواطر الجماعة المفتين.
ثمَّ ورد البريد في مستهلّ جمادى الأولى بكتاب من السلطان فيه منع الشَّيخ تقي الدِّين من الإفتاء في مسألة الحلف بالطلاق. وانعقد بذلك مجلس. وانفصل الحالُ على ما رسم به السلطان. ونودي به في البلد.
وكان قبل قدوم المرسوم قد اجتمع بالقاضي ابن مسلَّم الحنبلي جماعة من المفتين الكبار، وقالوا له أنْ ينصح الشَّيخ في ترك الإفتاء في مسألة الطلاق، فعلم الشَّيخ نصيحته، وأنَّه إنَّما قصد بذلك ترك ثوران فتنة وشرّ. (14/ 89). (18/ 177).
سنة (719)
ولما كَانَ يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من شهر رمضان اجتمع القضاة وأعيان الفقهاء عند نائب السلطنة بدار السعادة، وقريء عليهم كتاب من السلطان يتضمّن منع الشَّيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة من الفتيا بمسألة الطلاق.
وانفصل المجلس على تأكيد المنع من ذلك. (14/ 96). (18/ 192).
سنة (720)
وفي يوم الخميس ثاني عشري رجب عُقد مجلس بدار السعادة للشيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة بحضرة نائب السلطنة، واجتمع فيه القضاة والمفتون من المذاهب. وحضر الشَّيخ، وعاتبوه على العود إلى الإفتاء بمسألة الطلاق. ثمَّ حُبس الشيخ يومئذٍ بالقلعة. (14/ 100).
سنة (721)
وفي يوم عاشوراء خرج الشَّيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة من القلعة بمرسوم السلطان وتوجّه إلى داره. وكانت مدّة إقامته خمسة أشهر وثمانية عشر يومًا. رحمه الله . (14/ 101). (18/ 206).
سنة (725)
وفي [ربيع الأوَّل] مُنع شهاب الدِّين بن مرّي البعلبكِّي من الكلام على الناس بمصر على طريقة الشَّيخ تقيّ الدِّين ابن تَيْمِيَّة وعزره القاضي المالكي بسبب الاستغاثة. (14/ 121). (18/ 254).
وفي يوم الأربعاء ثاني عشر شوال درّس الشَّيخ شمس الدِّين ابن الأصبهاني بالرواحية بعد ذهاب ابن الزَّمْلَكاني إلى حلب. وحضر عنده القضاةُ والأعيان. وكان فيهم شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة. وجرى يومئذ بحث في العام إذا خُصّ، وفي الاستثناء بعد النفي، ووقع انتشار وطال الكلام في ذلك المجلس. وتكلّم الشَّيخ تقي الدِّين كلامًا أبهت الحاضرين. (14/ 122). (18/ 256).
سنة (726)
وفي يوم الثلاثاء حادي عشري ربيع الأوَّل بكرةَ النهار ضُربت عُنق ناصر ابن الشرف أبي الفضل بن إسماعيل بن الهيتي بسوق الخيل على كفره واستهانته واستهتاره بآيات الله وصحبته الزنادقة كالنجم ابن خلكان، والشمس محمد الباجربقي وابن المعمار البغدادي، وكل منهم فيه انحلال وزندقة، مشهور بها بين الناس
…
قلت: وقد شهدتُ قتله. وكان شيخنا العلامة أبو العبَّاس ابن تَيْمِيَّة حاضرًا يومئذ. وقد أتاه وقرّعه على ما كَانَ يصدر منه قبل قتله، ثمَّ ضُربت عُنُقه وأنا مشاهد ذلك. (14/ 127). (18/ 266).
قال البرزالي: وفي يوم الاثنين بعد العصر السادس من شعبان اعتُقل الشَّيخ الإمام العالم العلّامة تقيّ الدِّين ابن تَيْمِيَّة بقلعة دمشق. حضر إليه من جهة نائب السلطنة تنكز مشدّ الأوقاف، وابن الخطير أحد الحجّاب بدمشق وأخبراه أنَّ مرسوم السلطان [الملك الناصر] ورد بذلك وأحضرا معهما مركوبًا ليركبه، فأظهر السرور والفرح بذلك، وقال أنا كنتُ منتظرًا لذلك، وهذا فيه خيرٌ كثير ومصلحة كبيرة. وركبوا جميعًا من داره إلى باب القلعة، وأُخليت له قاعة، وأجري إليها الماء، ورُسم له بالإقامة فيها. وأقام معه أخوه زين الدِّين يخدمه بإذن السلطان، ورُسم له بما يقوم بكفايته.
قال البرزالي: وفي يوم الجمعة عاشر الشهر المذكور قريء بجامع دمشق الكتاب السلطاني الوارد باعتقاله ومنعه من الفتيا. وهذه الواقعة سببُها قتيا وُجدت بخطّه في المنع من السفر، وإعمال المطيّ إلى زيارة قبور الأنبياء ــ عليهم الصلاة والسلام ــ، وقبور الصالحين.
قال: وفي يوم الأربعاء منتصف شعبان أمر قاضي القضاة الشَّافعيّ بحبس جماعة من أصحاب الشَّيخ تقي الدِّين في سجن الحكم. وذلك بمرسوم نائب السلطنة وإذنه له، فيما تقتضيه الشريعة في أمرهم. وعزّر جماعة منهم على دوابّ، ونودي عليهم، ثمَّ أطلقوا. سوى شمس الدِّين محمد ابن قيّم الجوزية فإنه حُبس بالقلعة. وسكنت القضية. (14/ 127 - 128). (18/ 267 - 268).
وفي يوم الأربعاء عاشر ذي القعدة درّس بالحنبلية برهان الدِّين إبراهيم بن أحمد بن هلال الزرعي الحنبلي، بدلًا عن شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة، وحضر عنده القاضي الشَّافعيّ وجماعة من الفقهاء وشق ذلك على كثير من أصحاب الشَّيخ تقي الدين، وكان ابن الخطير الحاجب قد دخل على الشَّيخ تقي الدِّين قبل هذا اليوم فاجتمع به وسأله عن أشياء بأمر نائب السلطنة. ثمَّ يوم الخميس دخل إليه القاضي جمال الدِّين بن جُمْلة وناصر الدِّين مشد الأوقاف، وسألاه عن مضمون قوله في مسألة الزيارة، فَكَتَب ذلك في دَرَجٍ وكتب تحته قاضي الشافعية بدمشق: قابلتُ الجوابَ عن هذا السؤال المكتوب على خط ابن تَيْمِيَّة فصح
…
إلى أنْ قال: وإنما المَحَزُّ جعله زيارة قبر النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقبور الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم معصية بالإجماع مقطوعًا.
فانظر الآن هذا التحريف على شيخ الإسلام، فإنَّ جوابه على هذه المسألة ليس فيه منع من زيارة قبور الأنبياء والصالحين، وإنما فيه ذكر قولَين في شدّ الرحال والسفر إلى مجرد زيارة القبور، وزيارة القبور من غير شدِّ رحلٍ إليها مسألة، وشد الرحل لمجرد الزيارة مسألةٌ أخرى، والشيخ لم يمنع
الزيارة الخالية عن شدِّ رحلٍ، بل يستحبُّها ويندب إليها، وكتبه ومناسكه تشهد بذلك، ولم يتعرض إلى هذه الزيارة في هذه الوجه في الفتيا، ولا قال: إنَّها معصية، ولا حكى الإجماع على المنع منها، ولا هو جاهل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة» والله سبحانه لا يخفى عليه شيء ولا تخفى عليه خافية، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227].
سنة (727)
[توفي فيها] الشَّيخ كمال الدِّين ابن الزَّمْلَكاني
…
وله مجلّد كبير في الرد على الشَّيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة في مسألة الطلاق
…
وكان من نيته الخبيثة إذا رجع إلى الشَّام متولِّيًا: أن يؤذي شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة، فدعا عليه، فلم يبلغ أمله ومراده، فتوفي
…
(14/ 137). (18/ 286 - 288).
سنة (728)
(وفاة شيخ الإسلام أبي العبَّاس تقي الدِّين أحمد ابن تَيْمِيَّة قدس الله روحه).
قال الشَّيخ علم الدِّين البرزالي في «تاريخه» : وفي ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة توفي الشَّيخ الإمام العلّامة الفقيه الحافظ القدوة شيخ الإسلام تقي الدِّين أبو العبَّاس أحمد ابن شيخنا الامام العلامة المفتي شهاب الدِّين أبي المحاسن عب الحليم ابن الشَّيخ الإمام شيخ الإسلام مجد الدِّين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم محمد بن الخضر بن محمد بن الخضر بن عليّ بن عبد الله ابن تَيْمِيَّة الحَرَّاني ثمَّ الدِّمشقي، بقلعة
دمشق بالقاعة الَّتي كَانَ محبوسًا بها، وحضر جمعٌ كثير إلى القلعة، وأُذن لهم في الدخول، وجلس جماعة عنده قبل الغسل، وقرأوا القرآن وتبركوا برؤيته وتقبيله، ثمَّ انصرفوا، ثمَّ حضر جماعة من النساء ففعلوا مثل ذلك، ثمَّ انصرفن، واقْتُصِر على من يغسله، فلما فُرِغَ من غسله أُخرج. وقد اجتمع الناس بالقلعة والطريق إلى الجامع، وامتلأ الجامع وصحنُه والكلّاسة وبابُ البريد وبابُ الساعات إلى اللبّادين والفوّارة، وحضرت الجنازة في الساعة الرابعة من النهار أو نحو ذلك، ووُضعت في الجامع، والجند يحفظونها من النَّاس من شدة الزحام، وصُلِّي عليه أوّلًا بالقلعة، تقدم في الصلاة عليه الشَّيخ محمد بن تمام، ثمَّ صُلِّي عليه بالجامع الأموي عقيب صلاة الظهر، وألقى الناس على نعشه مناديلهم وعمائمهم وثيابهم، وذهبت النِّعالُ من أرجل الناس وقباقيبهم ومناديل وعمائم، لا يلتفتون إليها لشغلهم بالنظر إلى الجنازة، وصار النعش على الرؤوس تارة يتقدّم وتارة يتأخر، وتارة يقف حتَّى تمر الناس، وخرج الناس من الجامع من أبوابه كلِّها، وهي شديدة الزحام، كل باب أشد زحمة من الآخر، ثم خرج الناس من أبواب البلد جميعها من شدَّة الزِّحام فيها، لكن كَانَ معظم الزحام من الأبواب الأربعة: باب الفرج الَّذي أُخرجت منه الجنازة، وباب الفراديس، وباب النصر، وباب الجابية.
وعَظُمَ الأمرُ بسوق الخيل وتضاعف الخلقُ وكثُر الناس، ووُضعت الجنازة هناك وتقدم للصلاة هناك أخوه زين الدِّين عبد الرَّحمن، فلما قُضيت الصلاة حُمل إلى مقبرة الصوفية فدُفن إلى جانب أخيه شرف الدِّين عبد الله رحمهما الله.
وكان دفنه قبل العصر بيسير، وذلك من كثرة من يأتي ويصلي عليه من
أهل البساتين وأهل الغوطة وأهل القرى وغيرهم، وأغلق الناس حوانيتهم، ولم يتخلّف عن الحضور إلّا مَنْ هو عاجز عن الحضور، مع الترحم والدعاء له، وأنَّه لو قدر ما تخلف، وحضر نساء كثيرات بحيث حُزِرْنَ بخمسة عشر ألف امرأة، غير اللاتي كُنّ على الأسطحة وغيرهن، الجميع يترحمن ويبكين عليه فيما قيل. وأما الرجال فحُزروا بستين ألفًا إلى مائة ألف إلى أكثر من ذلك إلى مائتي ألف. وشرب جماعةٌ الماء الَّذي فَضُل من غسله، واقتسم جماعة بقية السدر الَّذي غُسل به، ودُفع في الخيط الَّذي كَانَ فيه الزئبق الَّذي كَانَ في عنقه بسبب القمل مائة وخمسون درهمًا، وقيل: إنَّ الطاقية الَّتي كانت على رأسه دُفع فيها خمس مئة درهم. وحصل في الجنازة ضجيج وبكاء كثير، وتضرّع، وخُتمت له ختمات كثيرة بالصالحية وبالبلد، وتردّد الناس إلى قبره أيامًا كثيرة ليلًا ونهارًا يبتون عنه ويصبحون! ! ورُئيَتْ له منامات صالحة كثيرة، ورثاه جماعة بقصائد جمة.
وكان مولده يوم الاثنين عاشر ربيع الأوَّل بحران سنة إحدى وستين وست مئة، وقدم مع والده وأهله إلى دمشق وهو صغير، فسمع الحديث من ابن عبد الدائم، وابن أبي اليسر، وابن عبد، والشيخ شمس الدِّين الحنبلي، والشيخ شمس الدِّين بن عطاء الحنفي، والشيخ جمال الدِّين ابن الصيرفي، ومجد الدِّين بن عساكر، والشَّيخ جمال الدِّين البغدادي، والنجيب بن المقداد، وابن أبي الخير، وابن علان، وابن أبي بكر الهروي، والكمال عبد الرحيم، والفخر عليّ، وابن شيبان، والشرف ابن القواس، وزينب بنت مكي، وخلق كثير سمع منهم الحديث وقرأ بنفسه الكثير وطلب الحديث، وكتب الطِباق والأثبات، ولازم السماع بنفسه مدة سنين، وقل أنْ سمع شيئًا
إلَّا حفظه، ثمَّ اشتغل بالعلوم، وكان ذكيًا كثير المحفوظ، فصار إمامًا في التفسير وما يتعلق به، عارفًا بالفقه، وكان عالمًا باختلاف العلماء، عالمًا في الأصول والفروع والنحو واللغة، وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية، وما قُطع في مجلس ولا تكلم معه فاضل في فن من الفنون إلَّا ظنّ أنَّ ذلك الفن فنه، ورآه عارفًا به متقنًا له، وأما الحديث فكان حامل رايته حافظًا له متنًا وإسنادًا، مميّزًا بين صحيحه وسقيمه، عارفًا برجاله، متضلِّعًا من ذلك، وله تصانيف كثيرة وتعاليق مفيدة في الأصول والفروع، كمل منها جملة، وبيّضت وكتبت عنه وقرئت عليه أو بعضها، وجملة كبيرة لم يُكملها، وجملة كملها ولم تُبيّض إلى الآن. وأثنى عليه وعلى علومه وفضائله جماعة من علماء عصره، مثل القاضي الخوييّ، وابن دقيق العيد، وابن النحاس، والقاضي الحنفي قاضي قضاة مصر ابن الحريري، وابن الزَّمْلَكاني وغيره. ووجدت بخط ابن الزَّمْلَكاني أنَّه قال: اجتمعتْ فيه شروطُ الاجتهاد على وجهها، وأنَّ له اليد الطولى في حسن التَّصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين، وكتب على تصنيف له هذه الأبيات:
ماذا يقول الواصفون له
…
وصفاتهُ جَلَّتْ عن الحَصْرِ
هو حجةٌ للهِ قاهرةٌ
…
هو بيننا أعجوبةُ الدهرِ
هو آيةٌ في الخلق ظاهرةٌ
…
أنوارُها أرْبَتْ على الفجر
وهذا الثناء عليه، وكان عمره يومئذ نحو الثلاثين سنة. وكان بيني وبينه مودة وصحبة من الصغر، وسماع الحديث والطلب من نحو خمسين سنة. وله فضائل كثيرة، وأسماء مصنفاته وسيرته وما جرى بينه وبين الفقهاء والدولة وحبسه مرات، وأحواله لا يحتمل ذكر جميعها هذا الموضع، وهذا
الكتاب. ولما مات كنت غائبًا عن دمشق بطريق الحجاز الشريف، ثمَّ بلغنا خبر موته بعد وفاته بأكثر من خمسين يومًا لما وصلنا إلى تبوك، وحصل التأسف لفقده رحمه الله تعالى. هذا لفظه في هذا الموضع من «تاريخه» .
ثمَّ ذكر الشَّيخ علم الدِّين في «تاريخه» بعد إيراد هذه الترجمة جنازة أبي بكر بن أبي داود وعظمها، وجنازة الامام أحمد ببغداد وشهرتها، وقال الإمام أبو عثمان الصابوني: سمعت أبا عبد الرَّحمن الصوفي يقول: حضرت جنازة أبي الفتح القواس الزاهد مع الشَّيخ أبي الحسن الدارقطني، فلما بلغ إلى ذلك الجمع العظيم أقبل علينا وقال: سمعتُ أبا سهل بن زياد القطان يقول: سمعتُ عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول: سمعت أبي يقول: قولوا لأهل البِدَع بيننا وبينكم الجنائز. قال: ولا شكّ أنَّ جنازة أحمد بن حنبل كانت هائلة عظيمة، بسبب كثرة أهل بلده واجتماعهم لذلك، وتعظيمهم له، وأن الدولة كانت تحبه، والشيخ تقي الدِّين رحمه الله توفي ببلده دمشق، وأهلها لا يعشرون أهل بغداد حينئذ كثرة، ولكنهم اجتمعوا لجنازته اجتماعًا لو جمعهم سلطان قاهر، وديوان حاصر لما بلغوا هذه الكثرة الَّتي اجتمعوها في جنازته، وانتهوا إليها. هذا مع أنَّ الرَّجل مات بالقلعة محبوسًا من جهة السلطان، وكثير من الفقهاء يذكرون عنه للناس أشياء كثيرة، مما ينفر منها طباع أهل الأديان، فضلًا عن أهل الإسلام، وهذه كانت جنازته.
قال: وقد اتفق موتُه في سحر ليلة الاثنين المذكور، فذكر ذلك مؤذنُ القلعة على المنارة بها، وتكلّم به الحراسُ على الأبرجة، فما أصبح الناس إلّا وقد تسامعوا بهذا الخَطْب العظيم والأمر الجسيم، فبادر الناسُ على الفور إلى الاجتماع حول القلعة من كل مكان أمكنهم المجيءُ منه، حتَّى من
الغوطة والمرج، ولم يطبخ أهل الأسواق شيئًا، ولا فتحوا كثيرًا من الدكاكين الَّتي من شأنها أنْ تفتح أوائل النهار على العادة، وكان نائب السلطنة سيف الدِّين تنكز قد ذهب يتصيّد في بعض الأمكنة، فحارت الدولة ماذا يصنعون، وجاء الصاحب شمس الدِّين غبريال نائب القلعة فعزاه فيه، وجلس عنده، وفُتح باب القلعة وباب القاعة لمن يدخل من الخواص والأصحاب والأحباب، فاجتمع عند الشَّيخ في قاعته خلق من أخصّاء أصحابه من الدولة وغيرهم من أهل البلد والصالحية، فجلسوا حوله يبكون ويثنون.
على مِثْل ليلى يقتلُ المرء نفسَه
وكنت فيمن حضر هناك مع شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزّي رحمه الله، وكشفتُ عن وجْه الشَّيخِ ونظرتُ إليه وقبّلتُه، وعلى رأسه عمامة بعذب مغروزة، وقد علاه الشيب أكثر مما فارقناه. وأخبر الحاضرين أخوه زين الدِّين عبد الرَّحمن أنَّه قرأ هو والشيخ منذ دخل القلعة ثمانين ختمةً وشرعا في الحادية والثمانين، فانتهيا فيها إلى آخر اقتربت الساعة {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54 - 55]. فشرع عند ذلك الشيخان الصالحان الخيّران عبد الله بن المحب، وعبد الله الزرعي الضرير ــ وكان الشَّيخ رحمه الله يحب قراءتهما ــ فابتدآ من أول سورة الرَّحمن حتَّى ختموا القرآن وأنا حاضر أسمع وأرى.
ثمَّ شرعوا في غسل الشَّيخ، وخرجتُ إلى مسجدٍ هُناك، ولم يمكث عنده إلّا مَنْ ساعد في غسله، منهم شيخنا الحافظ المزّي وجماعة من كبار الصالحين الأخيار، أهل العلم والإيمان، فما فُرغ منه حتَّى امتلأت القلعة
وضج الناس بالبكاء والثناء والدعاء والترحّم، ثمَّ ساروا به إلى الجامع، فسلكوا طريق العمادية على العادلية الكبيرة، ثمَّ عطفوا إلى باب الناطفانيين وذلك أنَّ سويقة باب البريد كانت قد هُدمت لتُصلح، ودخلوا بالجنازة إلى الجامع الأموي، والخلائق فيه بين يدي الجنازة وخلفها وعن يمينها وشمالها ما لا يحصي عدّتهم إلا الله تعالى، فصرخ صارخ وصاح صائح: هكذا تكون جنائز أئمة السُنّة! فتباكى الناسُ وضَجّوا عند سماع هذا الصارخ. ووُضع الشيخُ في موضع الجنائز مما يلي المقصورة، وجلس الناس من كثرتهم وزحمتهم على غير صفوف، بل مرصوصين رصًّا لا يتمكّنُ أحدٌ من الجسود إلَّا بكُلفة، جُوّا الجامع وبرّا الأزقة والأسواق، وذلك قبل أذان الظهر بقليل، وجاء الناس من كل مكان، ونوى خلقٌ الصيام لأنهم لا يتفرغون في هذا اليوم لأكل ولا لشرب، وكثُر الناسُ كثرةً لا تُحَدُّ ولا توصف. فلما فرغ من أذان الظهر أقيمت الصلاة عقبه على السُدّة خلاف العادة، فلما فرغوا من الصلاة خرج نائب الخطيب لغيبة الخطيب بمصر فصلّى عليه إمامًا، وهو الشَّيخ علاء الدِّين بن الخرّاط، ثمَّ خرج الناس من كل مكان من أبواب الجامع والبلد كما ذكرنا، واجتمعوا بسوق الخيل، ومن الناس من تعجل بعد أن صلى في الجامع إلى مقابر الصوفية، والناس في بكاء وتهليل في مخافتةٍ كل واحد بنفسه، وفي ثناء وتأسف، والنساء فوق الأسطحة من هناك إلى المقبرة يبكين ويدعين وَيَقُلْنَ: هذا العالم.
وبالجملة كَانَ يومًا مشهودًا لم يُعهد مثله بدمشق إلَّا أنْ يكون في زمن بني أُميَّة حين كَانَ الناس كثيرين. وكانت دار الخلافة. ثمَّ دُفن عند أخيه قريبًا من أذان العصر على التحديد، ولا يمكن أحدًا حصر مَنْ حضر الجنازة،
وتقريب ذلك أنَّه عبارة عمن أمكنه الحضور من أهل البلد وحواضره، ولم يتخلف من الناس إلا القليل من الصِّغار والمخدّرات، وما علمتُ أحدًا من أهل العلم إلَّا النفر اليسير تخلّف عن الحضور في جنازته، وهم ثلاث أنفس: وهم ابن جملة، والصدر، والقحفازي، وهؤلاء كانوا قد اشتهروا بمعاداته من الناس خوفًا على أنفسهم، بحيث أنهم علموا متى خرجوا قُتلوا وأهلكهم الناس، وتردد شيخنا الإمام العلامة برهان الدِّين الفزاري إلى قبره في الأيام الثلاثة، وكذلك جماعة من علماء الشافعية، وكان برهان الدِّين الفزاري يأتي راكبًا على حماره وعليه الجلالة والوقار رحمه الله.
وعُملت له ختمات كثيرة، ورُئيَتْ له مناماتٌ باهرة صالحة عجيبة، ورُثي بأشعار كثيرة وقصائد مطوّلة جدًا. وقد أفردتْ له تراجمُ كثيرة، وصنف في ذلك جماعة من الفضلاء وغيرهم، وسنحصر من مجموع ذلك ترجمة وجيزة في ذكر مناقبه وفضائله وشجاعته وكرمه ونصحه وزهادته وعبادته وعلومه المتنوعة الكثيرة المجودة وصفاته الكبار والصغار، الَّتي احتوت على غالب العلوم ومفرداته في الاختيارات الَّتي نَصَرَها بالكتاب والسنة وأفتى بها.
وبالجملة؛ كَانَ رحمه الله من كبار العلماء وممن يخطيء ويُصيب، ولكن خطأه بالنسبة إلى صوابه كنقطة في بحر لُجّي، وخطأه أيضًا مغفور له كما في «صحيح البخاريّ»:«إذا اجتهد الحَاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» فهو مأجور. وقال الإمام مالك بن أنس: كل أحد يؤخذ من قوله ويُترك إلّا صاحبَ هذا القبر.
وسنفرد له ترجمة على حدة إن شاء الله تعالى. (14/ 141 - 145).
* * * *
نزهة العيون في تاريخ طوائف القرون
(1)
للملك الأفضل عباس بن علي بن داود بن رسول (778)
أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن شيخ الإسلام مجد الدِّين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيميَّة.
عالم العصر، شيخ الإسلام، بقية المجتهدين، تقي الدِّين الحراني ثم الدمشقي الحنبلي الحافظ المفسِّر، صاحب التصانيف.
ولد في ربيع الأول سنة إحدى وستين وست مئة.
سمع من جماعةٍ كثيرة، وبرع في الفقه والخلاف وضبط المذاهب، وكان عارفًا بالعربية والتفسير والأصول والشرع، يتوقد ذكاءً، قوَّالًا بالحق، ناهيًا عن المنكر، مجاهدًا في ذات الله بنفسه ويده ولسانه.
حُبِسَ مدة ثم أُخْرِج، ثم حُبِس ثم أُخْرِج، فأفتى بعد ذلك وصنف، ثم قدم دمشق فاعتُقِل بالقلعة، وقاسى شِدَّة.
وكان موصوفًا بالقناعة والتعفُّف والسخاء والجود والذكاء والعقل والشجاعة والإقدام والجهاد والزهد، قليل الراحة والتنعُّم، لم يُر في حياته إلا كاتبًا أو ذاكرًا أو متوجهًا أو ناشرًا للعلم أو مُتكلِّمًا بفائدة، قليل النوم، مُكِبًّا على العلم مُذْ نَشَأ، قليل الأكل، لم يتزوج قط ولا تسرَّى، ولم يكمل أحدٌ من العالم كما كَمُل:
(1)
(ق/ 92 ب- 93 أ) نسخة دار الكتب المصرية 351 تاريخ.
هيهاتَ لا يأْتي الزَّمانُ بمثلِه
…
إنَّ الزَّمانَ بِمِثْلِه لَعَدِيْمُ
توفي ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مئة، وهو في ثمانٍ وستين
(1)
سنة، وذلك في القلعة، ثم أُخرج فشهده خَلْق لا يُحْصَون، وشيعه من أربعة أبواب دمشق؛ بابِ الفرج ومنه أُخْرِج، وبابِ الفراديس، وباب النصر، وباب الجابية، وكان في هذه الأبواب الازدحام الكُلِّي الذي لا يوصَف ولا يَعْلَم قدرَهم إلا الله، وكان النساء على السقوف وفي الطرق مثل دخول الرَّكْب، وحُمِل على الرؤوس، وصلى الناسُ عليه في الجامع كصلاة الجمعة سواء، ودُفن بمقابر الصوفية إلى جانب أخيه، حُزِر الجمع تسعين ألفًا وقيل: مئتي ألف، وكثر البكاء والضجيج والتأسُف عليه والحُزْن، وامتنع جماعةٌ كثيرة من الصلاة عليه تديُّنًا وإنما الأعمال بالنيات
(2)
، ورُثي بقصائد حسنة، ورُئي له منامات جيِّدة ــ رحمه الله ونفع به ــ.
* * * *
(1)
في النسخة: وستون.
(2)
وهذا مخالف لما ذكره معاصروه ومن شهدوا دفنه، بل نص ابن كثير أنه لم يتخلف عن الصلاة عليه إلا ثلاثة من أعدائه خوفًا من الناس.
صفحة بيضاء
العلامة الحسن بن عمر بن الحسن بن حبيب (779)
- تذكرة النبيه في أيام المنصور وبنيه
- دُرَّة الأسلاك في دولة الأتراك
صفحة بيضاء
تَذْكِرَةُ النَّبِيْهِ في أيام المنصورِ وبَنِيْهِ
(1)
وفي ذي القَعْدة منها؛ توفّي شيخ الإسلام تقيّ الدِّين أبو العبّاس أحمد بن الشيخ شهاب الدين، أبي المحاسن عبد الحليم بن الشيخ مجد الدين، أبي البركات عبد السَّلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحرَّاني الحنبلي، عن سبع وستين سنة، بقلعة دمشق المحروسة معتقلًا، وشيَّع جنازته خلق كثير أقلّ ما حُزِروا بستين ألفًا، كان تغمّده الله برحمته سحابًا يسحب ذيله على الطالب والوافد، وعُبابًا لا تكدره دِلاء الصّادر والوارد، وبحرًا زاخرًا في النَّقليات، وحبرًا متلفِّعًا بحبرات العقليات، وإمامًا في معرفة الكتاب والسُّنة، وهُمامًا لا يميل إلى حلاوة من المنة، ذا ورعٍ زائد، وزهد فَرْعه في روض الرِّضى مائد، وسخاء وشجاعة، وعزة وقناعة، وتصانيف مشهورة، وفتاوٍ أعلامها منشورة، ومعارف موادّها وافية، وإعراض عن الدنيا بالجملة الكافية، لا يكترِث بنضرتها وبهجة نضارها، ولا يلتفت إلى المنقوش من درهمها ودينارها، يصدع بالحقِّ، ويتكلَّم فيما جلَّ ودقَّ.
ويأْمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويثابر على إقامة الحقِّ والحدِّ، إن شكر وإن لم يُشكر، اجتمعت فيه شروط الاجتهاد، وبلغ من اجتناء ثمر أفنان الفنون غاية المراد.
وكان من العلوم بحيث يُقضى
…
لَه في كُلِّ علمٍ بالجميع
(1)
(1/ 185 - 188) طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب.
ورثاه جماعة، وقال الشَّيخ زين الدِّين عمر بن الوردي:
عَثَا في عرضه قوم سِلاط
…
لهم من نَثْر جوهره التقاطُ
تقيُّ الدِّين أحمدُ خيرُ حبرٍ
…
خُروق المعضلات به تخاطُ
توفّي وهو محبوسٌ فريد
…
وليس له إلى الدنيا انبساطُ
ولو حضروه حين قضى لألفَوا
…
ملائكةَ النِّعيم به أحاطوا
فيالله ماذا ضمَّ لحدٌ
…
ويالله ما غطى البلاط
هم حسدوه لمّا لم ينالوا
…
مناقبه فقد مكروا وشاطوا
وكانوا عن طرائقه كُسالى
…
ولكن في أذاه لهم نشاط
وحبس الدر في الأصداف فخر
…
وعند الشيخ بالسجن اغتباط
بآل الهاشمي له اقتداء
…
فقد ذاقوا المنون ولم يواطوا
إمام لا وِلاية كان يرجو
…
ولا وقفٌ عليه ولا رِباط
ولا جاراكم في كَسْب مال
…
ولم يُعهد له بكم اختلاط
سيظهر قصدكم يا حابسيه
…
ونيتكم إذا نُصب الصراط
فها هو مات عنكم واسترحتم
…
فعاطوا ما أردتم أن تُعاطوا
وحلوا واعقدوا من غير ردٍّ
…
عليكم وانطوى ذاك البساط
من نظم الشَّيخ تقي الدِّين بن تيميَّة أبياتًا قالها في قوله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ مُنْجيات وثلاثٌ مُهْلِكَات» الحديث:
عليك بخوف الله في السرِّ والجهر
…
وبالقصد للإنفاق في العسر واليسر
وبالعدلِ إن تغضب وإن تكُ راضيًا
…
فهن ثلاثٌ منجيات من الشرِّ
وإياك والشُّح المطاع ولا تكن
…
بمتَّبع الأهوا فترجع بالخسر
وعَدِّ عن الإعجاب بالنفس إنه
…
ختام الثَّلاث المُهْلكات لدى الحشر
وكتب الإمام العلَّامة كمال الدِّين محمد بن الزَّمْلَكاني على بعض مصنَّفاته:
ماذا يقول الواصفون له
…
وصفاتُه جلَّت عن الحصرِ
هو حجةٌ لله قاهرةٌ
…
هو بيننا أعجوبة العصرِ
هو آية في الخلق ظاهرة
…
أنوارها أربت على الفجر
وقال فيه الإمام أبو حيَّان أبياتًا منها:
قام ابن تيميَّة في نصر شِرعتنا
…
مقام سيِّد تَيْمٍ إذ عَصَتْ مُضَر
فأظهر الحقَّ إذ آثاره دَرَسَت
…
وأخمد الشرَّ إذ طارت له الشَّرر
كنا نُحدَّث عن حبرٍ يجيء لنا
…
أنت الإمام الذي قد كان يُنتظر
وقال الشَّيخ سعد الدِّين سعد الله بن عبد الأحد بن بُخَيْخٍ الحرَّاني فيه من أبيات:
سناكَ تقيُّ الدِّين أبهى وأنورُ
…
وأشرقُ منْ شمسِ النهارِ وأشهرُ
ومجدكَ أسمى أنْ يُقاسَ بمثلهِ
…
وأعظمُ مما في النفوسِ وأكبرُ
وعرف ثناك المندلي له شذا
…
ألذ من المسكِ الذكي وأعطرُ
وعلمكَ أقسامَ العلومِ بأسرهَا
…
أدلته توهي الخصومَ وتبهرُ
وصبركَ في ذاتِ الإلهِ على الأذى
…
أنالك ما ترجو وَمَا تتخيَّرُ
وأمركَ بالمعروفِ طهَّر وقتنا
…
فلمْ يبدُ في أيَّامك الغرِّ منكرُ
فياليتَ علمي والمناقبُ جمَّةٌ
…
لأي سجاياك الجميلةِ نشكرُ
وماذا عسى يثني عليكَ مبالغٌ
…
بمدحٍ وهل يُهْدى إلى البحر جوهرُ
فَدُم واثقًا بالله معتصمًا به
…
وعاضدك الشّرعُ الشريفُ المطهَّرُ
سليمًا من الآفات في ظِلِّ نِعمةٍ
…
من الله صافي وردها لا يكدَّرُ
درَّة الأسْلاكِ في دَوْلَةِ الأتْراكِ
(1)
وفيها توفّي شيخ الإسلام، تقيّ الدين، أبو العبّاس، أحمد بن الشيخ شهاب الدِّين أبي المحاسن عبد الحليم بن الشيخ مجد الدِّين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحرَّاني الحنبلي.
سحاب يسحب ذيله على الطَّالب والوافد، وعُباب لا تكدره دِلاء الصّادر والوارد، وبحر زاخر في النقليات، وحبر ماهر في حفظ عقائل العقليّات، وإمام في معرفة الكتاب والسّنّة، وهمام لا يميل إلى حلاوة من المنّة.
كان ذا ورع زائد، وزهد فرعه في روضة الرِّضى مائد، وسخاءٍ وشجاعة، وعزلةٍ وقناعة، وتصانيف مشهورة، وفتاوٍ أعلامها منشورة، ومعارف وموادها وافية، وإعراض عن الدّنيا بالجملة الكافية، لا يكترث بنضرتها وبهجة نضارها، ولا يلتفت إلى المنقوش من درهمها ودينارها.
يصدع بالحق، ويتكلم فيما جلّ ودقّ، ويأْمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويثابر على إقامة الحدود إن شُكر وإن لم يشكر.
اجتمعت فيه شروط الاجتهاد، وبلغ من اجتناء ثمر أفنان الفنون غاية المراد.
وكان من العلوم بحيث يُقضى
…
لَه في كُلِّ علمٍ بالجميع
(1)
(ق/ 130 أ - 131 ب). نسخة ترخان والدة السلطان (233) أتحفنا بصورة منها د/عبد الرحمن العثيمين.
من نظمه في قول صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ مُنْجيات وثلاثٌ مُهْلِكَات» الحديث:
عليك بخوف الله في السرِّ والجهر
…
وبالقصد للإنفاق في العسر واليسر
وبالعدلِ إن تغضب وإن تك راضيًا
…
فهن ثلاث منجيات من الشرِّ
وإياك والشُّح المطاع ولا تكن
…
بمتَّبع الأهوا فترجع بالخسر
وعدِّ عن الإعجاب بالنفس إنه
…
ختام الثَّلاث المهلكات لدى الحشر
كتب قاضي القضاة، كمال الدِّين أبو المعالي محمد بن الزَّمْلَكاني على بعض مصنَّفاته:
ماذا يقول الواصفون له
…
وصفاته جلَّت عن الحصر
هو حجةٌ لله قاهرةٌ
…
هو بيننا أعجوبة العصر
هو آية للخلق ظاهرة
…
أنوارها أربت على الفجر
وفيه يقول العلَّامة أثير الدِّين أبو حيَّان الأندلسي من أبيات:
قام ابن تيميَّة في نصر شِرعْتنا
…
مقام سيد تيم إذ عَصَتْ مضرُ
فأظهر الحقَّ إذ آثاره دَرَسَت
…
وأخمد الشرَّ إذ طارت له الشَّررُ
كنا نُحدَّث عن حبرٍ يجيء لنا
…
أنت الإمام الذي قد كان يُنتظر
وفيه يقول الشَّيخ سعد الدِّين سعد الله بن عبد الأحد بن بخيخ من أبيات:
سناكَ تقيُّ الدِّين أبهى وأنورُ
…
وأشرقُ منْ شمسِ النهارِ وأشهرُ
ومجدكَ أسمى أنْ يُقاسَ بمثلهِ
…
وأعظمُ مما في النفوسِ وأكبرُ
وعَرْف ثناك المندلي له شذا
…
ألذّ من المسكِ الذَّكي وأعطرُ
وعلمكَ أقسامَ العلومِ بأسرهَا
…
أدلته توهي الخصومَ وتبهرُ
وصبركَ في ذاتِ الإلهِ على الأذى
…
أنالك ما ترجو وَمَا تتخيَّرُ
وأمركَ بالمعروفِ طهَّر وقتنا
…
فلمْ يبدُ في أيَّامك الغرِّ منكرُ
فياليتَ علمي والمناقبُ جمَّةٌ
…
لأي سجاياك الجميلةِ نشكرُ
وماذا عسى يثني عليكَ مبالغٌ
…
بمدحٍ وهل يُهْدى إلى البحر جوهرُ
فَدُم واثقًا بالله معتصمًا به
…
وعاضدك الشّرع الشريفُ المطهرُ
سليمًا من الآفات في ظِلِّ نِعمةٍ
…
من الله صافي عيشها لا يكدَّرُ
ورثاه الإمام زين الدِّين أبو حفص عمر بن الوردي بقصيدة، منها:
عَثَا في عرضه قوم سِلاطٌ
…
لهم من نَثْر جوهره التقاطُ
تقي الدِّين أحمد خيرُ حَبْر
…
خُروق المعضلات به تخاطُ
توفّي وهو محبوس فريد
…
وليس له إلى الدنيا انبساطُ
ولو حضروه حين قَضَى لألفوا
…
ملائكةَ النَّعيم به أحاطوا
فيالله ماذا ضمَّ لحدٌ
…
ويالله ما غطَّى البلاطُ
هم حسدوه لمّا لم ينالوا
…
مناقبه فقد مكروا وشاطوا
وكانوا عن طرائقه كسالى
…
ولكن في أذاه لهم نشاطُ
وحَبْس الدُّور في الأصداف فخر
…
وعند الشيخ بالسجن اغتباطُ
بآل الهاشمي له اقتداء
…
فقد ذاقوا المَنون ولم يواطوا
إمام لا وِلاية كان يرجو
…
ولا وقف عليه ولا رِباطُ
ولا جاراكم في كَسْب مالٍ
…
ولم يُعهد له بكم اختلاطُ
سيظهر قصدُكم يا حابسيه
…
ونيتكم إذا نُصب الصّراطُ
فها هو مات عنكم واسترحتم
…
فعاطوا ما أردتم أن تُعاطوا
وحلوا واعقدوا من غير ردٍّ
…
عليكم وانطوى ذاك البساطُ
وكانت وفاته بقلعة دمشق مُعْتقَلًا، عن سبع وستين سنة، وشيّع جنازته خلق كثير، أقل ما حُزِروا بستين ألفًا.
وهو من مشايخ والدي في الحديث، تغمَّده الله برحمته.
* * * *
تُحْفَةُ النُّظَّار في غَرَائبِ الأمْصارِ وعَجائبِ الأسْفارِ
المعروف بـ «رِحْلَة ابن بَطُّوْطة»
(1)
لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الطَّنْجِي
المعروف بابن بطوطة (779)
وكان بدمشق من كبار الفقهاء الحنابلة: تقي الدِّين ابن تيميَّة، كبير الشأن، يتكلم في الفنون، إلا أن في عقله شيئًا! وكان أهل دمشق يعظمونه أشد التعظيم، ويعِظُهم على المنبر، وتكلم مرةً بأمرٍ أنكره الفقهاء، ورفعوه إلى الملك الناصر؛ فأمر بإشخاصه إلى القاهرة وجمع القضاة والفقهاء بمجلس الملك الناصر، وتكلم شرف الدِّين الزواوي المالكي
(2)
، وقال: إن هذا الرجل قال: كذا، وعدَّد ما أُنكِر على ابن تيمية، وأحضر العقود بذلك، ووضعها بين يدي قاضي القضاة، وقال قاضي القضاة لابن تيمية: ما تقول؟ قال: لا إله إلا الله، فأعاد عليه فأجاب بمثل قوله، فأمر الملك الناصر بسجنه فسجن أعوامًا، وصنف في السجن كتابًا في تفسير القرآن سماه «بالبحر المحيط» في نحو أربعين مجلدًا.
ثم إن أُمَّه تعرضت للملك الناصر وشكت إليه، فأمر بإطلاقه، إلى أن
(1)
(1/ 316 - 317)، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، 1417، تحقيق عبد الهادي التازي، ذكر العلامة حمد الجاسر أن هذه الطبعة أفضل طبعات الكتاب، وله عليها بعض الملاحظات نشرها في جريدة الرياض.
(2)
جمال الدِّين وليس شرف الدِّين كما عند ابن بطوطة، والقصد إلى محمد بن سليمان بن يوسف البربري الزواوي المالكي. توفي في جمادى الآخرة سنة 717. «الدرر الكامنة» (4/ 68)، «الدارس في تاريخ المدارس» (ص 12 - 15).
وقع منه مثل ذلك ثانية، وكنت إذ ذاك بدمشق فحضرتُه يوم الجمعة وهو يَعِظ الناسَ على منبر الجامع ويذكّرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا
(1)
، ونزل درجة من درج المنبر، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء وأنكر ما تكلم به، فقامت العامةُ إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال، ضربًا كثيرًا حتى سقطت عمامتُه، وظهر على رأسه شاشية حرير، فأنكروا عليه لباسَها، واحتملوه إلى دار عز الدِّين بن مُسَلَّم قاضي الحنابلة، فأمر بسجنه وعزره بعد ذلك، فأنكر فقهاء المالكية والشافعية ما كان من تعزيره، ورفعوا الأمر إلى ملك الأمراء سيف الدِّين تِنْكيز ــ وكان من خيار الأمراء وصلحائهم ــ فكتب إلى الملك الناصر بذلك وكتب عقدًا شرعيًّا على ابن تيمية بأمور منكرة منها: أن المطلّق بالثلاث في كلمة واحدة لا تلزمه إلا طلقة واحدة، ومنها: أن المسافر الذي ينوي بسفره زيارة القبر الشريف زاده الله طيبًا لا يقصر الصلاة، وسوى ذلك مما يشبهه، وبعث العقد إلى الملك الناصر؛ فأمر بسجن ابن تيمية بالقلعة، فسُجِنَ بها حتى مات في السجن.
* * * *
(1)
هذا بهتان عظيم، فابن بطوطة دخل دمشق في التاسع من رمضان سنة 726، وكان شيخ الإسلام آنذاك في السجن، فكيف رآه يعظ الناس يوم الجمعة على المنبر؟ وقد كتب بعض العلماء في الرد على هذه الفرية، منهم: الشيخ محمد بهجة البيطار في مجلة «العالم الإسلامي» س 1: ج 7 - 8 (1940)(ص 394 - 399)، والشيخ محمد راغب الطباخ في مجلة المجمع العلمي بدمشق مج 17: ج 3 - 4 (1942)(ص 132 - 134)، والشيخ محمد عطاء الله الفوجياني في مجلة رحيق مج 3 (1959)(ص 511 - 518). وغيرهم.
سؤال وجواب في شيخ الإسلام ابن تيمية
(1)
للشيخ شهاب الدِّين أحمد ابن الأذرعي الشافعي (ت 783)
سؤال ورد من حلب الشهباء في شيخ الإسلام تقي الدِّين أحمد ابن تيمية رضي الله عنه، وهو:
ما تقول السادة العلماء أئمة الدِّين رضي الله عنهم أجمعين في شيخ الإسلام تقي الدِّين ابن تيمية رحمه الله تعالى، هل هو من أهل العلم والدين الذين يُقتدى بهم أم لا؟
فإذا قلتم: إنه من أهل العلم والدين، هل يجوز لمغرور أن يأخذ الأشياء تقليدًا ويقدح في علمه وديانته؟ وهل يحرم عليه الطعن في مثل هذا الإمام من غير فهمٍ لكلامه؟ وهل يُثاب الإمام على زَجْر هذا المغرور أم لا؟ أفتونا مأجورين رضي الله عنكم أجمعين.
فأجاب الشيخ الإمام العالم العلامة فريد العصر ووحيد الدهر مفتي المسلمين مظهر آثار المرسلين شيخ الدنيا والدين: شهاب الدِّين أحمد ابن الأذرعي الشافعي بحلب المحروسة رحمه الله تعالى فقال بعد الحمد لله:
الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية رحمه الله تعالى أحد أئمة الإسلام الأعلام، كان رحمه الله تعالى بحرًا من البحور في العلم، وجبلًا شامخًا لا يختلف فيه اثنان من أهل العصر، ومن قال خلاف ذلك فهو جاهل أو معاند مقلدٌ لمثله،
(1)
نسخة تركيا ضمن مجموع (2 ق)، وقد تفضل بإرسالها إليَّ الصديق الأستاذ أبو الفضل القونوي محمد بن عبد الله أحمد.
وإن خالف الناسَ في بعضِ مسائلَ فأمره إلى الله تعالى.
والوقيعة في أهل العلم ــ ولا سيّما أكابرهم ــ من كبائر الذنوب. وقد روى الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى في كتابه «الجامع في آداب الراوي والسامع»
(1)
بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «من آذى فقيهًا واحدًا فقد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد آذى الله تعالى» .
وقد قال بعض العلماء الماضين
(2)
: «لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هَتْك أعراض منتقصيهم معلومة، ومن وقع فيه
(3)
بالثَّلْب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب، فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم».
ويُثاب وليُّ أمور المسلمين ــ أيده الله تعالى ــ على زَجْر هذا المعتدي الظالم لنفسه ولغيره. وكأنَّ المسكين المفتون لم يبلغه قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبّوا الأموات فإنهم قد أفْضَوا إلى ما قدّموا»
(4)
. وغير ذلك مما جاء من التحذير من الوقيعة في أعراض آحاد الناس فكيف في أكابر العلماء؟ وكأنه لم يبلغه قول بعضهم للرَّبيع بن خُثَيم: ما نراك تَعِيب أحدًا!
(5)
فقال:
(1)
كذا في الأصل، وليس الحديث فيه، وإنما هو في كتابه الآخر «الفقيه والمتفقه» رقم (124).
(2)
العبارة بنحوها في سياق أطول لأبي القاسم ابن عساكر في كتابه «تبيين كذب المفتري على أبي الحسن الأشعري» : (ص/29 - 30).
(3)
كذا في الأصل.
(4)
أخرجه البخاري (1393) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(5)
الأصل: «أحد» .
لستُ عن نفسي براضٍ فأتفرّغ من عيبها إلى عيب غيرها
(1)
.
وقد قال بعض الأئمة: لي في عيوب نفسي شُغْل عن عيوب الناس.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
* * * *
(1)
أخرجه بنحوه أبو نعيم في «الحلية» : (2/ 110).
الذَّيْلُ عَلَى طَبَقَاتِ الحَنَابِلَةِ
(1)
للعلّامة زين الدِّين أبي الفرج عبد الرَّحمن بن أحمد
ابن رجب الحنبلي (795)
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد ابن تَيْمِيَّة الحَرَّاني، ثمَّ الدِّمشقي، الإمام الفقيه، المجتهد المحدِّث، الحافظ المفسر، الأصولي الزاهد. تقي الدِّين أبو العبَّاس، شيخ الإسلام وعلم الأعلام، وشهرته تُغْنِي عن الإطناب في ذكره والإسهاب في أمره.
ولد يوم الاثنين عاشر ربيع الأوَّل سنة إحدى وستين وستمائة بحران.
وقدم به والده وبإخوته إلى دمشق، عند استيلاء التتر على البلاد، سنة سبع وستين.
فسمع الشَّيخ بها من ابن عبد الدايم، وابن أبي اليسر، وابن عبد، والمجد ابن عساكر، ويحيى بن الصيرفي الفقيه، وأحمد بن أبي الخير الحداد، والقاسم الإربلي، والشيخ شمس الدِّين بن أبي عمر، والمسلم بن علان، وإبراهيم بن الدرجي وخلق كثير.
وعُني بالحديث. وسمع «المسند» مرات، والكتب السِّتَّة، ومُعجم الطَّبرانيّ الكبير، وما لا يُحصى من الكتب والأجزاء. وقرأ بنفسه، وكتب بخطه جملة من الأجزاء، وأقبل على العلوم في صغره. فأخذ الفقه والأصول
(1)
(2/ 387 - 408 تحقيق الفقي)، و (4/ 491 - 529 - تحقيق العثيمين).
عن والده، وعن الشَّيخ شمس الدِّين بن أبي عمر، والشيخ زين الدِّين ابن المنجّى. وبرع في ذلك، وناظر. وقرأ في العربية أيامًا على ابن عبد القوي
(1)
، ثمَّ أخذ كتاب سيبويه، فتأمله ففهمه. وأقبل على تفسير القرآن الكريم، فبرز فيه، وأحكم أصول الفقه، والفرائض، والحساب والجبر والمقابلة، وغير ذلك من العلوم، ونظر في علم الكلام والفلسفة، وبرز في ذلك على أهله، وردَّ على رؤسائهم وأكابرهم، ومهر في هذه الفضائل، وتأهل للفتوى والتدريس، وله دون العشرين سنة، وأفتى من قبل العشرين أيضًا، وأمده الله بكثرة الكتب وسرعة الحفظ، وقوة الإدراك والفهم، وبُطْء النسيان، حتَّى قال غير واحد: إنَّه لم يكن يحفظ شيئًا فينساه.
ثمَّ توفي والده الشَّيخ شهاب الدين، المتقدم ذكره، وكان له حينئذ إحدى وعشرين
(2)
سنة. فقام بوظائفه بعده، فدرس بدار الحديث السكرية في أول سنة ثلاث وثمانين وستمائة.
وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدِّين بن الزكي، والشيخ تاج الدِّين الفزاري، وزين الدِّين بن المرحِّل، والشيخ زين الدِّين بن المنجَّى، وجماعة، وذكر درسًا عظيمًا في البسملة. وهو مشهور بين الناس، وعظَّمه الجماعة الحاضرون، وأثنوا عليه ثناءً كثيرًا.
(1)
هو: محمد بن عبد القوي بن بدران المقدسي المرداوي أبو عبد الله (ت 699)، ترجمته في «الذيل» (4/ 307 - 309)، ونصّ ابن رجب على أنه هو الذي قرأ عليه الشيخ تقي الدين. وليس سليمان بن عبد القوي الطوفي.
(2)
كذا بالأصل.
قال الذَّهبيّ: وكان الشَّيخ تاج الدِّين الفزاري يبالغ في تعظيم الشَّيخ تقي الدين، بحيث إنَّه علَّق بخطه درسه بالسكرية.
ثمَّ جلس عقب ذلك مكان والده بالجامع على منبر أيام الجمع، لتفسير القرآن العظيم، وشرع من أول القرآن. فكان يورد من حفظه في المجلس نحو كراسين أو أكثر، وبقي يفسر في سورة نوح، عدة سنين أيام الجمع.
وفي سنة تسعين: ذكر على الكرسي يوم جمعة شيئًا من الصفات، فقام بعض المخالفين، وسعوا في منعه من الجلوس، فلم يمكنهم ذلك.
وقال قاضي القضاة شهاب الدِّين الخُوَيّي: أنا على اعتقاد الشَّيخ تقي الدين، فعوتب في ذلك. فقال: لأن ذهنه صحيح، ومواده كثيرة. فهو لا يقول إلَّا الصحيح.
وقال الشَّيخ شرف الدِّين المقْدِسِيّ: أنا أرجو بركته ودعاءه، وهو صاحبي، وأخي. وذكر ذلك البرزالي في «تاريخه» .
وشرع الشَّيخ في الجمع والتصنيف، من دون العشرين، ولم يزل في علوٍّ وازدياد من العلم والقدر إلى آخر عمره.
قال الذَّهبيّ في «معجم شيوخه»
(1)
: أحمد بن عبد الحليم ــ وساق نسبه ــ الحَرَّاني، ثمَّ الدِّمشقي، الحنبلي أبو العبَّاس، تقي الدين، شيخنا وشيخ الإسلام، وفريد العصر علمًا ومعرفة، وشجاعة وذكاء، وتنويرًا إلهيًّا، وكرمًا ونصحًا للأمة، وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر. سمع الحديث، وأكثر
(1)
هذا النقل ليس في «معجم الشيوخ» المطبوع، ولعله من نسخة أو إبرازة أخرى للمعجم.
بنفسه من طلبه، وكتب وخرج، ونظر في الرجال والطبقات، وحصل ما لم يحصله غيره. وبرع في تفسير القرآن، وغاص في دقيق معانيه بطبع سيال، وخاطر إلى مواقع الإشكال ميال، واستنبط منه أشياء لم يُسبق إليها. وبرع في الحديث وحفظه، فقلَّ من يحفظ ما يحفظه من الحديث، معزوًّا إلى أصوله وصحابته، مع شدة استحضاره له وقت إقامة الدليل. وفاق الناس في معرفة الفقه، واختلاف المذاهب، وفتاوى الصَّحابة والتابعين، بحيث إنَّه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل بما يقوم دليله عنده. وأتقن العربية أصولًا وفروعًا، وتعليلًا واختلافًا. ونظر في العقليات، وعرف أقوال المتكلِّمين، وَردَّ عليهم، وَنَبَّه على خطئهم، وحذَّر منهم ونصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين. وأُوذي في ذات الله من المخالفين، وأُخيف في نصر السنة المحضة، حتَّى أعلى الله مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له، وَكَبَتَ أعداءه، وهدى به رجالًا من أهل الملل والنحل، وجبَلَ قلوبَ الملوك والأمراء على الانقياد له غالبًا، وعلى طاعته، وأحيى به الشَّام، بل والإسلام، بعد أن كَاد ينثلم، بتثبيت أولي الأمر لما أقبل حزب التتر والبغي في خيلائهم، فظُنت بالله الظنون، وزلزل المؤمنون، واشْرَأبَّ النفاق وأبدى صفحته. ومحاسنه كثيرة، وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي، فلو حُلِّفت بين الركن والمقام، لحلفت: أني ما رأيت بعيني مثله، وأنَّه ما رأى مثل نفسه.
وقد قرأت بخط الشَّيخ العلامة شيخنا كمال الدِّين بن الزَّمْلَكاني، ما كتبه سنة بضع وتسعين تحت اسم «ابن تَيْمِيَّة» كَانَ إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع: أنَّه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أنَّ أحدًا لا يعرفه مثله. وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا منه في مذاهبهم أشياء، ولا يعرف أنَّه ناظر أحدًا فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم ــ سواء
كَانَ من علوم الشرع أو غيرها ــ إلَّا فاق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها.
وقال الذَّهبيّ في «معجمه المختص» : كَانَ إمامًا متبحرًا في علوم الديانة، صحيح الذهن، سريع الإدراك، سيال الفهم، كثير المحاسن، موصوفًا بفرط الشجاعة والكرم، فارغًا عن شهوات المأكل والملبس والجماع، لا لذة له في غير نشر العلم وتدوينه. والعمل بمقتضاه.
قلت
(1)
: وقد عرض عليه قضاء القضاة قبل التسعين، ومشيخة الشيوخ، فلم يقبل شيئًا من ذلك. قرأت ذلك بخطه.
قال الذَّهبيّ ذكره أبو الفتح اليعمري الحافظ ــ يعني ابن سيد الناس ــ في جواب السؤالات أبي العبَّاس ابن الدمياطي الحافظ، فقال: ألْفَيْتُه ممن أدرك من العلوم حظًّا. وكاد يستوعب السنن والآثار حفظًا، إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته، وإن أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر بالحديث فهو صاحب علمه وذو روايته، أو حاضر بالنحل والملل لم ير أوسع من نحلته، ولا أرفع من درايته. برز في كل فن على أبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله، ولا رأت عينه مثل نفسه.
وقد كتب الذَّهبيّ في «تاريخه الكبير»
(2)
للشيخ ترجمة مطولة، وقال
(1)
القائل ابن رجب.
(2)
لعله يقصد «سير أعلام النبلاء» وترجمة الشيخ من «السير» مفقودة حتى الآن، والقطعة التي طبعت مؤخرًا من السير سقطت منها ترجمة الشيخ. وما في «ذيل تاريخ الإسلام» لا يوافق النقل هنا.
فيها: وله خبرة تامة بالرجال، وجرحهم وتعديلهم، وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث، وبالعالي والنازل، والصحيح والسقيم، مع حفظه لمتونه، الَّذي انفرد به، فلا يبلغ أحد في العصر رتبته، ولا يقاربه، وهو عجيب في استحضاره، واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب السِّتَّة والمسند، بحيث يصدق عليه أن يقال: كل حديث لا يعرفه ابن تَيْمِيَّة فليس بحديث.
وقال: ولما كَانَ معتقلًا بالإسكندرية التمس منه صاحب سبتة أن يجيز لأولاده، فكتب لهم في ذلك نحوًا من ست مئة سطر، منها سبعة أحاديث بأسانيدها، والكلام على صحتها ومعانيها، وبحث وعمل ما إذا نظر فيه المحدث خضع له في صناعة الحديث. وذكر أسانيده في عدة كتب. ونَبَّه على العوالي. عمل ذلك كله من حفظه، من غير أن يكون عنده ثَبَت أو من يراجعه.
ولقد كَانَ عجيبًا في معرفة علم الحديث. فأما حفظه متون الصحاح وغالب متون السنن والمسند: فما رأيت من يُدانيه في ذلك أصلًا.
قال: وأما التفسير فمسلم إليه. وله من استحضار الآيات من القرآن ــ وقت إقامة الدليل بها على المسألة ــ قوة عجيبة. وإذا رآه المقرئ تحيّر فيه. ولفرط إمامته في التفسير، وعظم اطلاعه، يبين خطأ كثير من أقوال المفسرين، ويُوهي أقوالًا عديدة، وينصر قولًا واحدًا، موافقًا لما دل عليه القرآن والحديث. ويكتب في اليوم والليلة من التفسير، أو من الفقه، أو من الأصلين، أو من الرد على الفلاسفة والأوائل: نحوًا من أربعة كراريس أو أزيد.
قلت: وقد كتب «الحموية» في قعدة واحدة. وهي أزيد من ذلك.
وكتب في بعض الأحيان في اليوم ما يبيض منه مجلد.
وكان رحمه الله فريد دهره في فهم القرآن، ومعرفة حقائق الإيمان. وله يد طولى في الكلام على المعارف والأحوال، والتمييز بين صحيح ذلك وسقيمه، ومعوجه وقويمه.
وقد كتب ابن الزَّمْلَكاني بخطه على كتاب «إبطال التحليل» للشيخ ترجمة الكتاب واسم الشَّيخ، وترجم له ترجمة عظيمة، وأثنى عليه ثناءً عظيمًا.
وكتب أيضًا تحت ذلك:
ماذا يقولُ الواصفونَ له
…
وصفاته جلَّتْ عن الحصر
هو حجَّةٌ لله قاهرةٌ
…
هو بيننا أُعجوبةُ الدهر
هو آيةٌ للخلقِ ظاهرةٌ
…
أنوارها أربتْ على الفجر
وللشيخ أثير الدِّين أبي حيان الأندلسي النحوي ــ لما دخل الشَّيخ مصر واجتمع به ــ ويقال: إنَّ أبا حيان لم يقل أبياتًا خيرًا منها ولا أفحل:
لمَّا رأينا تقيَّ الدِّين لاحَ لنا
…
داعِ إلى اللهِ فردٌ ماله وَزَرُ
على مُحَيَّاهُ من سِيْمَا الأُولَى صَحِبُوا
…
خيرَ البريَّةِ نورٌ دونَه القَمَرُ
حَبْرٌ تَسَرْبَلَ منه دَهرُه حِبَرًا
…
بَحرٌ تَقَاذَفُ مِن أمواجه الدُّرَرُ
قام ابنُ تَيميَّةٍ في نَصْر شِرعَتِنَا
…
مَقامَ سَيِّدِ تَيْمٍ إذْ عَصَتْ مُضَرُ
فأظهرَ الدِّين إذْ آثارُهُ دَرَسَتْ
…
وأخمدَ الشَّرَّ إذ طارتْ له الشَّرَرُ
يا من تحدّث عن علم الكتاب أصِخْ
…
هذا الإمامُ الذي قد كان يُنتظر
وحكى الذَّهبيّ عن الشَّيخ: أنَّ الشَّيخ تقي الدِّين بن دقيق العيد قال له ــ عند اجتماعه به وسماعه لكلامه ــ: ما كنت أظن أنَّ الله بقي يخلق مثلك.
ومما وجد في كتاب كتبه العلامة قاضي القضاة أبو الحسن السبكي إلى الحافظ أبي عبد الله الذَّهبي في أمر الشَّيخ تقي الدِّين المذكور: أما قول سيدي في الشَّيخ فالمملوك يتحقق كبر قدره، وزخارة بحره، وتوسعه في العلوم الشرعية والعقلية، وفرط ذكائه واجتهاده، وبلوغه في كل من ذلك المبلغ الَّذي يتجاوز الوصف. والمملوك يقول ذلك دائمًا. وقدره في نفسي أكبر من ذلك وأجلّ. مع ما جمعه الله له من الزهادة والورع والديانة، ونصرة الحق، والقيام فيه لا لغرض سواه، وجريه على سنن السلف، وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى. وغرابة مثله في هذا الزمان، بل من أزمان.
وكان الحافظ أبو الحجاج المزِّي يبالغ في تعظيم الشَّيخ والثناء عليه، حتَّى كَانَ يقول: لم يُر مثله منذ أربعمائة سنة.
وبلغني من طريق صحيح عن ابن الزَّمْلَكاني: أنَّه سئل عن الشَّيخ فقال: لم ير من خمسمائة سنة، أو أربعمائة سنة ــ الشك من الناقل. وغالب ظنه: أنَّه قال: من خمسمائة سنة ــ أحفظ منه.
وكذلك كَانَ أخوه الشَّيخ شرف الدِّين يبالغ في تعظيمه جدًّا، وكذلك المشايخ العارفون، كالقدوة أبي عبد الله محمد بن قوام. ويحكى عنه أنَّه كَانَ يقول: ما أسلمت معارفنا إلَّا على يد ابن تَيْمِيَّة.
والشيخ عماد الدِّين الواسطي كَانَ يعظمه جدًّا، وتلمذ له، مع أنَّه كَانَ أسن منه. وكان يقول: قد شارف مقام الأئمة الكبار، ويناسب قيامه في بعض الأمور قيام الصديقين.
وكتب رسالة إلى خواص أصحاب الشَّيخ يوصيهم بتعظيمه واحترامه، ويعرِّفهم حقوقه، ويذكر فيها: أنَّه طاف أعيان بلاد الإسلام، ولم ير فيها مثل الشَّيخ علمًا وعملًا، وحالًا وخلقًا واتباعًا، وكرمًا وحلمًا في حق نفسه، وقيامًا في حق الله تعالى، عند انتهاك حرماته. وأقسم على ذلك بالله ثلاث مرات.
ثمَّ قال: أصدق الناس عقدًا، وأصحهم علمًا وعزمًا، وأنفذهم وأعلاهم في انتصار الحق وقيامه، وأسخاهم كفًّا، وأكملهم اتباعًا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم. ما رأينا في عصرنا هذا من تستجلى النبوة المحمدية وسننها من أقواله وأفعاله إلَّا هذا الرَّجل، بحيث يشهد القلب الصحيح: أنَّ هذا هو الاتباع حقيقة.
ولكن كَانَ هو وجماعة من خواص أصحابه ربما أنكروا من الشَّيخ كلامه في بعض الأئمة الأكابر الأعيان، أو في أهل التخلي والانقطاع ونحو ذلك.
وكان الشَّيخ رحمه الله لا يقصد بذلك إلَّا الخير، والانتصار للحق إن شاء الله تعالى.
وطوائف من أئمة أهل الحديث وحفاظهم وفقهائهم: كانوا يحبون الشَّيخ ويعظمونه، ولم يكونوا يحبون له التوغّل مع أهل الكلام ولا الفلاسفة، كما هو طريق أئمة أهل الحديث المتقدمين، كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد ونحوهم، وكذلك كثير من العلماء من الفقهاء والمحدثين والصالحين كرهوا له التفرد ببعض شذوذ المسائل الَّتي أنكرها السلف على من شذ بها، حتَّى إنَّ بعض قضاة العدل من أصحابنا منعه من الإفتاء ببعض ذلك.
قال الذَّهبيّ: وغالب حطِّه على الفضلاء والمتزهدة فبحق، وفي بعضه هو
مجتهد، ومذهبه توسعة العذر للخلق، ولا يكفر أحدًا إلَّا بعد قيام الحجة عليه.
قال: ولقد نصر السنة المحضة، والطريقة السلفية، واحتج لها ببراهين ومقدمات، وأمور لم يسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا، وجسر هو عليها حتَّى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قيامًا لا مزيد عليه، وبدَّعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابت لا يُداهن ولا يحابي، بل يقول الحق المرَّ الَّذي أدَّاه إليه اجتهاده، وحدة ذهنه، وسعة دائرته في السنن والأقوال، مع ما اشتهر عنه من الورع، وكمال الفكر، وسرعة الإدراك، والخوف من الله، والتعظيم لحرمات الله.
فجرى بينه وبينهم حملات حربية، ووقعات شامية ومصرية، وكم من نوبة قد رموه عن قوس واحدة، فينجيه الله، فإنه دائم الابتهال، كثير الاستغاثة والاستعانة به، قوي التوكل، ثابت الجأش، له أوراد وأذكار يُدْمنها بكيفية وجمعية. وله من الطرف الآخر محبون من العلماء والصلحاء، ومن الجند والأمراء، ومن التجار والكبراء، وسائر العامة تحبه، لأنَّه منتصب لنفعهم ليلًا ونهارًا، بلسانه وقلمه.
وأما شجاعته: فبها تضرب الأمثال، وببعضها يتشبه أكابر الأبطال. ولقد أقامه الله تعالى في نوبة قازان، والتقى أعباء الأمر بنفسه، وقام وقعد وطلع، ودخل وخرج، واجتمع بالملك ــ يعني قازان ــ مرتين، وبقَطْلوشاه، وبُولاي. وكان قبجق يتعجب من إقدامه وجراءته على المغول.
وله حدة قوية تعتريه في البحث، حتَّى كأنه ليث حَرِب. وهو أكبر من أن ينبه مثلي على نعوته. وفيه قلة مداراة، وعدم تؤدة غالبًا، والله يغفر له. وله إقدام وشهامة، وقوة نفس توقعه في أمور صعبة، فيدفع الله عنه.
وله نظم قليل وسط. ولم يتزوج، ولا تسرَّى، ولا له من المعلوم إلَّا شيء قليل. وأخوه يقوم بمصالحه، ولا يطلب منهم غداء ولا عشاء في غالب الوقت.
وما رأيت في العالم أكرم منه، ولا أفرغ منه عن الدينار والدرهم، لا يذكره، ولا أظنه يدور في ذهنه، وفيه مروءة، وقيام مع أصحابه، وسعي في مصالحهم. وهو فقير لا مال له. وملبوسه كآحاد الفقهاء: فَرَجِيَّة، ودَلَق، وعمامة تكون قيمة ثلاثين درهمًا، ومداس ضعيف الثمن. وشعره مقصوص.
وهو رَبْع القامة، بعيد ما بين المنكبين، كأن عينيه لسانان ناطقان، ويصلي بالناس صلاة لا يكون أطول من ركوعها وسجودها. وربما قام لمن يجيء من سفر أو غاب عنه، وإذا جاء فربما يقومون له، الكل عنده سواء، كأنه فارغ من هذه الرسوم ولم ينحنِ لأحد قط، وإنما يسلم ويصافح ويبتسم. وقد يعظم جليسة مرة، ويُهِيْنُه في المحاورة مرات.
قلت: وقد سافر الشَّيخ مرة على البريد إلى الديار المصرية يستنفر السلطان عند مجيء التتر سنة من السنين، وتلا عليهم آيات الجهاد، وقال: إن تخليتم عن الشَّام ونصرة أهله والذَّب عنهم، فإنَّ الله تعالى يقيم لهم من ينصرهم غيركم، ويستبدل بكم سواكم. وتلا قوله تعالى:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]، وقوله تعالى:{إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} [التوبة: 39].
وبلغ ذلك الشَّيخ تقي الدِّين بن دقيق العيد ــ وكان هو القاضي حينئذ ــ فاستحسن ذلك، وأعجبه هذا الاستنباط، وتعجب من مواجهة الشَّيخ للسلطان بمثل هذا الكلام.
وأما مِحَنُ الشَّيخ: فكثيرة، وشرحها يطول جدًّا.
وقد اعتقله مرة بعض نواب السلطان بالشام قليلًا، بسبب قيامه على نصراني سَبَّ الرسول صلى الله عليه وسلم، واعتقل معه الشَّيخ زين الدِّين الفارِقِيّ، ثمَّ أطلقهما مكرمين.
ولما صنف المسألة «الحموية» في الصفات: شنَّع بها جماعة، ونودي عليها في الأسواق على قصبة، وأن لا يستفتى، من جهة بعض القضاة الحنفية. ثمَّ انتصر للشيخ بعض الولاة، ولم يكن في البلد حينئذ نائب، وضُرب المنادي وبعض من معه، وسكن الأمر.
ثمَّ امتحن سنة خمس وسبعمائة بالسؤال عن معتقده بأمر السلطان، فجمع نائبه القضاةَ والعلماءَ بالقصر، وأحضر الشَّيخ وسأله عن ذلك؛ فبعث الشَّيخ من أحضر من داره «العقيدة الواسطية» فقرؤُوها في ثلاثة مجالس، وحاقَقُوه، وبحثوا معه، ووقع الاتفاق بعد ذلك على أنّ هذه عقيدة سُنية سلفية، فمنهم من قال ذلك طوعًا، ومنهم من قاله كرهًا.
وورد بعد ذلك كتاب من السلطان فيه: إنَّما قصدنا براءة ساحة الشَّيخ، وتبيَّن لنا أنَّه على عقيدة السلف.
ثمَّ إنَّ المصريين دبروا الحيلة في أمر الشَّيخ، ورأوا أنَّه لا يمكن البحث معه، ولكن يعقد له مجلس، ويُدَّعى عليه، وتقام عليه الشهادات. وكان
القائمون في ذلك منهم: بيبرس الجاشنكير، الَّذي تسلطن بعد ذلك، ونصر المنبجي، وابن مخلوف قاضي المالكية، فطُلب الشَّيخ على البريد إلى القاهرة، وعُقد له ثاني يوم وصوله ــ وهو ثاني عشرين رمضان سنة خمس وسبعمائة ــ مجلس بالقلعة، وادُّعي عليه عند ابن مخلوف قاضي المالكية، أنَّه يقول: إنَّ الله تكلم بالقرآن بحرف وصوت، وأنَّه على العرش بذاته، وأنَّه يشار إليه بالإشارة الحسية.
وقال المدعي: أطلب تعزيره على ذلك، التعزير البليغ ــ يشير إلى القتل على مذهب مالك ــ فقال القاضي: ما تقول يا فقيه؟ فحمد الله وأثنى عليه، فقيل له: أسرع ما جئت لتخطب، فقال: أأُمنع من الثناء على الله تعالى؟ فقال القاضي: أجب، فقد حمدت الله تعالى. فسكت الشَّيخ، فقال: أجب. فقال الشَّيخ له: من هو الحاكم فيَّ؟ فأشاروا: القاضي هو الحاكم، فقال الشَّيخ لابن مخلوف: أنت خصمي، كيف تحكم فيَّ؟ وغضب، ومراده: أني وإياك متنازعان في هذه المسائل، فكيف يحكم أحد الخصمين على الآخر فيها، فأقيم الشَّيخ ومعه أخواه، ثمَّ رد الشَّيخ، وقال: رضيت أن تحكم فيَّ، فلم يمكَّن من الجلوس، ويقال إنَّ أخاه الشَّيخ شرف الدِّين ابتهل، ودعا الله عليهم في حال خروجهم، فمنعه الشَّيخ، وقال له: بل قل: اللهمَّ هب لهم نورًا يهتدون به إلى الحق.
ثمَّ حبسوا في بُرْج أيامًا، ونقلوا إلى الجُبِّ ليلة عيد الفطر، ثمَّ بعث كتاب سلطاني إلى الشَّام بالحط على الشَّيخ، وإلزام الناس ــ خصوصًا أهل مذهبه ــ بالرجوع عن عقيدته، والتهديد بالعزل والحبس، ونودي بذلك في الجامع والأسواق، ثمَّ قرئ الكتاب بسُدَّة الجامع بعد الجمعة، وحصل أذًى كثير
للحنابلة بالقاهرة، وحبس بعضهم، وأخذ خطوط بعضهم بالرجوع. وكان قاضيهم الحَرَّاني قليل العلم.
ثمَّ في سلخ رمضان سنة ست: أحضر سلار ــ نائب السلطان بمصر ــ القضاة والفقهاء، وتكلم في إخراج الشَّيخ، فاتفقوا على أنَّه يشترط عليه أمور، ويلزم بالرجوع عن بعض العقيدة، فأرسلوا إليه من يحضره، وليتكلموا معه في ذلك، فلم يجب إلى الحضور، وتكرر الرسول إليه في ذلك ست مرات، وصمم على عدم الحضور، فطال عليهم المجلس، فانصرفوا من غير شيء.
ثمَّ في آخر هذه السنة وصل كتاب إلى نائب السلطنة بدمشق من الشَّيخ، فأخبر بذلك جماعة ممن حضر مجلسه، وأثنى عليه، وقال: ما رأيت مثله، ولا أشجع منه. وذكر ما هو عليه في السجن من التوجه إلى الله تعالى، وأنَّه لا يقبل شيئًا من الكسوة السلطانية، ولا من الإدرار السلطاني، ولا تدنس بشيءٍ من ذلك.
ثمَّ في ربيع الأوَّل من سنة سبع وسبعمائة دخل مهنا بن عيسى أمير العرب إلى مصر، وحضر بنفسه إلى السجن، وأخْرَجَ الشَّيخ منه، بعد أن استأذن في ذلك، وعُقد للشيخ مجالس حضرها أكابر الفقهاء، وانفصلت على خير.
وذكر الذَّهبيّ والبرزالي وغيرهما: أنَّ الشَّيخ كتب لهم بخطه مجملًا من القول وألفاظًا فيها بعض ما فيها، لما خاف وهُدِّد بالقتل، ثمَّ أُطلق وامتنع عن المجيء إلى دمشق. وأقام بالقاهرة يقرئ العلم، ويتكلم في الجوامع والمجالس العامة ويجتمع عليه خلق.
ثمَّ في شوال من السنة المذكورة: اجتمع جماعة كثيرة من الصوفية، وشكوا من الشَّيخ إلى الحاكم الشَّافعيّ، وعقد له مجلس لكلامه في
ابن عربي وغيره، وادعى عليه ابن عطاء بأشياء، ولم يُثبِت منها شيئًا، لكنه اعترف أنَّه قال: لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم، استغاثة بمعنى العبادة، ولكن يتوسل به، فبعض الحاضرين قال: ليس في هذا شيء.
ورأى الحاكم ابن جماعة: أنَّ هذا إساءة أدب، وعنَّفه على ذلك، فحضرت رسالة إلى القاضي: أن يعمل معه ما تقتضيه الشريعة في ذلك، فقال القاضي: قد قلت له ما يقال لمثله.
ثمَّ إنَّ الدولة خيروه بين أشياء، وهي الإقامة بدمشق، أو بالإسكندرية، بشروط، أو الحبس، فاختار الحبس. فدخل عليه أصحابه في السفر إلى دمشق، ملتزمًا ما شرط عليه، فأجابهم، فأركبوا خيل البريد، ثمَّ ردوه في الغد، وحضر عند القاضي بحضور جماعة من الفقهاء، فقال له بعضهم: ما ترضى الدولة إلَّا بالحبس. فقال القاضي: وفيه مصلحة له، واستناب التونسي المالكي وأذن له أن يحكم عليه بالحبس، فامتنع، وقال: ما ثبت عليه شيءٌ، فأذن لنور الدِّين الزواوي المالكي، فتحير، فقال الشَّيخ: أنا أمضي إلى الحبس، وأتبع ما تقتضيه المصلحة، فقال الزواوي المذكور: فيكون في موضع يصلح لمثله، فقيل له: ما ترضى الدولة إلَّا بمسمى الحبس، فأرسل إلى حبس القاضي وأجلس في الموضع الَّذي أجلس فيه القاضي تقي الدِّين ابن بنت الأعز لما حبس، وأذن أن يكون عنده من يخدمه. وكان جميع ذلك بإشارة نصر المنبجيّ.
واستمر الشَّيخ في الحبس يستفتى ويقصده الناس، ويزورونه، وتأتيه الفتاوي المشكلة من الأمراء وأعيان الناس.
وكان أصحابه يدخلون إليه أولًا سرًّا، ثمَّ شرعوا يتظاهرون بالدخول
عليه، فأخرجوه في سلطنة الششنكير الملقب بالمظفر، إلى الإسكندرية على البريد، وحبس فيها في برج حسن مضيء متسع، يدخل عليه من شاء، ويمنع هو من شاء، ويخرج إلى الحمام إذا شاء. وكان قد أخرج وحده، وأرجف الأعداء بقتله وتفريقه غير مرة، فضاقت بذلك صدور محبيه بالشام وغيره، وكثر الدعاء له، وبقي في الإسكندرية مدة سلطنة المظفر.
فلما عاد الملك الناصر إلى السلطنة وتمكن، وأهلك المظفر، وحمل شيخه نصر المنبجي، واشتدت موجدة السلطان على القضاة لمداخلتهم المظفر، وعزل بعضهم: بادر بإحضار الشَّيخ إلى القاهرة مكرمًا في شوال سنة تسع وسبعمائة، وأكرمه السلطان إكرامًا زائدًا، وقام إليه، وتلقاه في مجلس حفل، فيه قضاة المصريين والشاميين، والفقهاء وأعيان الدولة. وزاد في إكرامه عليهم، وبقي يُسارّه ويستشيره سويعة، وأثنى عليه بحضورهم ثناء كثيرًا، وأصلح بينه وبينهم. ويقال: إنَّه شاوره في أمرهم به في حق القضاة، فصرفه عن ذلك، وأثنى عليهم، وأن ابن مخلوف كَانَ يقول: ما رأينا أفتى من ابن تَيْمِيَّة، سعينا في دمه. فلما قدر علينا عفا عنا.
واجتمع بالسلطان مرة ثانية بعد أشهر، وسكن الشَّيخ بالقاهرة، والناس يترددون إليه، والأمراء والجند، وطائفة من الفقهاء، ومنهم من يعتذر إليه ويتنصل مما وقع.
قال الذَّهبيّ: وفي شعبان سنة إحدى عشرة: وصل النبأ أنَّ الفقيه البكري ــ أحد المبغضين للشيخ ــ استفرد بالشيخ بمصر، ووثب عليه، ونتش بأطواقه، وقال: احضر معي إلى الشرع، فلي عليك دعوى، فلما تكاثر الناس انملص، فطلب من جهة الدولة، فهرب واختفى.
وذكر غيره: أنَّه ثار بسبب ذلك فتنة، وأراد جماعة الانتصار من البكري فلم يمكنهم الشَّيخ من ذلك.
واتفق بعد مدة: أنَّ البكري همّ السلطان بقتله، ثمَّ رسم بقطع لسانه؛ لكثرة فضوله وجراءته، ثمَّ شفع فيه، فنفي إلى الصعيد، ومنع من الفتوى بالكلام في العلم. وكان الشَّيخ في هذه المدة يقرئ العلم، ويجلس للناس في مجالس عامة.
قدم إلى الشَّام هو وإخوته سنة اثنتي عشرة بنية الجهاد، لما قدم السلطان لكشف التتر عن الشَّام. فخرج مع الجيش، وفارقهم من عسقلان، وزار البيت المقدس.
ثمَّ دخل دمشق بعد غيبته عنها فوق سبع سنين، ومعه أخواه وجماعة من أصحابه، وخرج خلق كثير لتلقيه، وسُرَّ الناس بمقدمه، واستمر على ما كَانَ عليه أولًا، من إقراء العلم، وتدريسه بمدرسة السكرية، والحنبلية، وإفتاء الناس ونفعهم.
ثمَّ في سنة ثمان عشرة: ورد كتاب من السلطان بمنعه من الفتوى في مسألة الحلف بالطلاق بالتكفير، وعُقِد له مجلس بدار السعادة، ومنع من ذلك، ونودي به في البلد.
ثمَّ في سنة تسع عشرة عُقِد له مجلس أيضًا كالمجلس الأوَّل، وقرئ كتاب السلطان بمنعه من ذلك، وعوتب على فتياه بعد المنع، وانفصل المجلس على تأكيد المنع.
ثمَّ بعد مدة عُقِد له مجلس ثالث بسبب ذلك، وعوتب وحبس بالقلعة.
ثمَّ حبس لأجل ذلك مرة أخرى. ومنع بسببه من الفتيا مطلقًا، فأقام مدة يفتي بلسانه، ويقول: لا يسعني كتم العلم.
وفي آخر الأمر: دبروا عليه الحيلة في مسألة المنع من السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين، وألزموه من ذلك التنقص بالأنبياء، وذلك كفر، وأفتى بذلك طائفة من أهل الأهواء، وهم ثمانية عشر نفسًا، رأسهم القاضي الإخنائِي المالكي وأفتى قضاة مصر الأربعة بحبسه، فحبس بقلعة دمشق سنتين وأشهرًا. وبها مات رحمه الله تعالى.
وقد بين رحمه الله: أنَّ ما حكم عليه باطل بإجماع المسلمين من وجوه كثيرة جدًا، وأفتى جماعة بأنه يخطئ في ذلك خطأ المجتهدين المغفور لهم، ووافقه جماعة من علماء بغداد، وغيرهم. وكذلك ابنا أبي الوليد شيخ المالكية بدمشق أفتيا: أنَّه لا وجه للاعتراض عليه فيما قاله أصلًا، وأنَّه نقل خلاف العلماء في المسألة، ورجح أحد القولين فيها.
وبقي مدة في القلعة يكتب العلم ويصنفه، ويرسل إلى أصحابه الرسائل، ويذكر ما فتح الله به عليه هذه المرة من العلوم العظيمة، والأحوال الجسمية.
وقال: قد فتح الله عليَّ في هذا الحصن في هذه المرة من معاني القرآن، ومن أصول العلم بأشياء، كَانَ كثير من العلماء يتمنونها، وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن، ثمَّ إنَّه مُنِع من الكتابة، ولم يُتْرك عنده دواة ولا قلم ولا ورق، فأقبل على التلاوة والتهجد والمناجاة والذكر.
قال شيخنا أبو عبد الله ابن القيم: سمعت شيخنا شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة قدس الله روحه، ونور ضريحه، يقول: إنَّ في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. قال: وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي
وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي، لا تفارقني، أنا حبسي خَلْوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
وكان في حبسه في القلعة يقول: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهبًا ما عدل عندي شكر هذه النعمة ــ أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير ــ ونحو هذا.
وكان يقول في سجوده، وهو محبوس: اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ما شاء الله.
وقال مرة: المحبوس من حُبِس قلبُه عن ربِّه، والمأسور من أسره هواه، ولما دخل إلى القلعة، وصار داخل سورها نظر إليه، وقال:{بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ} [الحديد: 13].
قال شيخنا: وعلم الله ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط، مع ما كَانَ فيه من الحبس والتهديد والإرجاف، وهو مع ذلك أطيب النَّاس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرُّهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض: أتيناه، فما هو إلَّا أن نراه، ونسمع كلامه، فيذهب عنا ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوة ويقينًا وطمأنينة. فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه! وفتح لهم أبوابها في دار العمل! فأتاهم من رَوحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها، والمسابقة إليها اهـ.
وأما تصانيفه رحمه الله: فهي أشهر من أن تُذْكَر، وأعرف من أن تُنْكَر. سارت مسير الشمس في الأقطار، وامتلأت بها البلاد والأمصار. قد جاوزت
حد الكثرة، فلا يمكن أحدًا حصرها، ولا يتسع هذا المكان لعدِّ المعروف منها، ولا ذكرِها.
ولنذكر نبذة من أسماء أعيان المصنفات الكبار: كتاب «الإيمان» مجلد، كتاب «الاستقامة» مجلدان، «جواب الاعتراضات المصرية على الفتوى الحموية» أربع مجلدات، كتاب «تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية» في ست مجلدات كبار، كتاب «المحنة المصرية» مجلدان، «المسائل الإسكندرانية» مجلد، «الفتاوى المصرية» سبع مجلدات.
وكل هذه التَّصانيف ما عدا كتاب «الإيمان» كتبه وهو بمصر في مدة سبع سنين صنفها في السجن. وكتب معها أكثر من مائة لَفَّةِ ورق أيضًا، كتاب «درء تعارض العقل والنقل» أربع مجلدات كبار. والجواب عما أورده الشَّيخ كمال الدِّين ابن الشريشي على هذا الكتاب، نحو مجلد. كتاب «منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية» أربع مجلدات. «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح» مجلدان. «شرح أول المحصل للرازي» مجلد. «شرح بضعة عشر مسألة من الأربعين للرازي» مجلدان. «الرد على المنطق» مجلد كبير. «الرد على البكري في مسألة الاستغاثة» مجلد. «الرد على أهل كسروان الروافض» مجلدان. «الصفدية». «جواب من قال: إنَّ معجزات الأنبياء قوى نفسانية» مجلد. «الهلاوونية» مجلد. «شرح عقيدة الأصبهاني» مجلد. «شرح العمدة» للشيخ موفق الدين. كتب منه نحو أربع مجلدات. «تعليقه على المحرر» في الفقه لجده عدة مجلدات. «الصارم المسلول على شاتم الرسول» مجلد. «بيان الدليل على بطلان التحليل» مجلد. «اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم» مجلد. «التحرير في مسألة
حفير» مجلد. في مسألة من القسمة، كتبها اعتراضًا على الخويي في حادثة حكم فيها. «الرد الكبير على من اعترض عليه في مسألة الحلف بالطلاق» ثلاث مجلدات. كتاب «تحقيق الفرقان بين التطليق والأيمان» مجلد كبير. «الرد على الإخنائي في مسألة الزيارة» مجلد.
وأما القواعد المتوسطة والصغار وأجوبة الفتاوى: فلا يمكن الإحاطة بها، لكثرتها وانتشارها وتفرقها. ومن أشهرها «الفرقان بين أولياء الرَّحمن وأولياء الشيطان» مجلد لطيف. «الفرقان بين الحق والبطلان» مجلد لطيف. «الفرقان بين الطلاق والأيمان» مجلد لطيف. «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية» مجلد لطيف. «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» مجلد لطيف.
ذكر نبذة من مفرداته وغرائبه
اختار ارتفاع الحدث بالمياه المتعصرة، كماء الورد ونحوه، واختار جواز المسح على النعلين، والقدمين، وكل ما يحتاج في نزعه من الرِّجل إلى معالجة باليد أو بالرجل الأخرى، فإنه يجوز عنده المسح عليه مع القدمين.
واختار أنَّ المسح على الخفين لا يتوقف مع الحاجة، كالمسافر على البريد ونحوه، وفعل ذلك في ذهابه إلى الديار المصرية على خيل البريد ويتوقف مع إمكان النزع وتيسره.
واختار جواز المسح على اللفائف ونحوها.
واختار جواز التيمم لخشية فوات الوقت في حق غير المعذور، كمن أخَّر الصلاة عمدًا حتَّى تضايق وقتها.
وكذا من خشى فوات الجمعة
والعيدين وهو محدث. فأما من استيقظ أو ذكر في آخر وقت الصلاة: فإنه يتطهر بالماء ويصلي، لأن الوقت متسع في حقه.
واختار أنَّ المرأة إذا لم يمكنها الاغتسال في البيت، أو شقّ عليها النزول إلى الحمام وتكرره: أنها تتيمم وتصلي.
واختار أن لا حَدَّ لأقلِّ الحيض ولا لأكثره، ولا لأقل الطهر بين الحيضتين، ولا لسن الإياس من الحيض. وأنّ ذلك راجع إلى ما تعرفه كل امرأة من نفسها، واختار أنَّ تارك الصلاة عمدًا: لا يجب عليه القضاء، ولا يشرع له، بل يكثر من النوافل، وأن القصر يجوز في قصير السفر وطويله، وأن سجود التلاوة لا يشترط له طهارة.
ذكر وفاته
مكث الشيخ في القلعة من شعبان سنة ست وعشرين إلى ذي القعدة سنة ثمان وعشرين، ثمَّ مرض بضعة وعشرين يومًا، ولم يعلم أكثر الناس بمرضه، ولم يفجأهم إلَّا موته.
وكانت وفاته في سحر ليلة الاثنين عشري ذي القَعْدة، سنة ثمان وعشرين وسبعمائة.
وذكره مؤذن القلعة على منارة الجامع، وتكلم به الحرس على الأبراج، فتسامع الناس بذلك، وبعضهم أعلم به في منامه، وأصبح الناس، واجتمعوا حول القلعة حتَّى أهل الغوطة والمرج، ولم يطبخ أهل الأسواق شيئًا، ولا فتحوا كثيرًا من الدكاكين الَّتي من شأنها أن تُفْتح أوَّل النهار. وفتح باب القلعة.
وكان نائب السلطنة غائبًا عن البلد، فجاء الصاحب إلى نائب القلعة، فعزاه به وجلس عنده، واجتمع عند الشَّيخ في القلعة خلق كثير من أصحابه، يبكون ويثنون، وأخبرهم أخوه زين الدِّين عبد الرَّحمن: أنَّه ختم هو والشيخ منذ دخلا القلعة ثمانين ختمة، وشرعا في الحادية والثمانين، فانتهيا إلى قوله تعالى:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54 - 55].
فشرع حينئذ الشيخان الصالحان: عبد الله بن المحب الصالحي، والزُّرَعيّ الضرير ــ وكان الشَّيخ يحب قراءتهما ــ فابتدءا من سورة الرَّحمن حتَّى ختما القرآن. وخرج الرجال، ودخل النساء من أقارب الشَّيخ، فشاهدوه ثمَّ خرجوا، واقتصروا على من يغسله، ويساعد على تغسيله، وكانوا جماعة من أكابر الصالحين وأهل العلم، كالمزِّي وغيره، ولم يفرغ من غسله حتَّى امتلأت القلعة بالرجال وما حولها إلى الجامع، فصلى عليه بدركات القلعة: الزاهد القدوة محمد بن تمام. وضجَّ الناس حينئذ بالبكاء والثناء، وبالدعاء والترحم.
وأخرج الشَّيخ إلى جامع دمشق في الساعة الرابعة أو نحوها. وكان قد امتلأ الجامع وصحنه، والكلاسة، وباب البريد، وباب الساعات إلى اللبادين والفوارة. وكان الجمع أعظم من جمع الجمعة، ووضع الشَّيخ في موضع الجنائز، مما يلي المقصورة، والجند يحفظون الجنازة من الزحام، وجلس الناس على غير صفوف، بل مرصوصين، لا يتمكن أحد من الجلوس والسجود إلَّا بكلفة. وكثر الناس كثرة لا توصف.
فلما أذن المؤذن الظهر أقيمت الصلاة على السدة، بخلاف العادة،
وصلوا الظهر، ثمَّ صلوا على الشَّيخ. وكان الإمام نائب الخطابة علاء الدِّين ابن الخراط لغيبة القزويني بالديار المصرية، ثمَّ ساروا به، والناس في بكاء ودعاء وثناء، وتهليل وتأسُّف، والنساء فوق الأسطحة من هناك إلى المقبرة يدعين ويبكين أيضًا. وكان يومًا مشهودًا، لم يعهد بدمشق مثله، ولم يتخلف من أهل البلد وحواضره إلَّا القليل من الضعفاء والمخدرات، وصرخ صارخ: هكذا تكون جنائز أئمة أهل السنة. فبكى الناس بكاء كثيرًا عند ذلك.
وأخرج من باب البريد، واشتد الزحام، وألقى الناس على نعشه مناديلهم وعمائمهم، وصار النعش على الرؤوس، يتقدم تارة، ويتأخر أخرى. وخرج الناس من أبواب الجامع كلها وهي مزدحمة. ثمَّ من أبواب المدينة كلها، لكن كَانَ المُعْظم من باب الفرج، ومنه خرجت الجنازة، وباب الفراديس، وباب النصر، وباب الجابية، وعظم الأمر بسوق الخيل.
وتقدم في الصلاة عليه هناك أخوه زين الدِّين عبد الرَّحمن.
ودفن وقت العصر أو قبلها بيسير إلى جانب أخيه شرف الدِّين عبد الله بمقابر الصوفية، وحُزِر الرجال بستين ألفًا وأكثر، إلى مائتي ألف، والنساء بخمسة عشر ألفًا، وظهر بذلك قول الإمام أحمد «بيننا وبين أهل البدع يوم الجنائز» .
وختم له ختمات كثيرة بالصالحية والمدينة، وتردد الناس إلى زيارة قبره أيامًا كثيرة، ليلًا ونهارًا، ورُئيت له منامات كثيرة صالحة. ورثاه خلق كثير من العلماء والشعراء بقصائد كثيرة من بلدان شتى، وأقطار متباعدة، وتأسف المسلمون لفقده. رضي الله عنه ورحمه، وغفر له.
وصُلّي عليه صلاة الغائب في غالب بلاد الإسلام القريبة والبعيدة، حتَّى
في اليمن والصين. وأخبر المسافرون: أنَّه نودى بأقصى الصين للصلاة عليه يوم الجمعة «الصلاة على ترجمان القرآن» .
وقد أفرد الحافظ أبو عبد الله بن عبد الهادي له ترجمة في مجلَّدة، وكذلك أبو حفص عمر بن علي البزار البغدادي في كراريس. وإنما ذكرناها هنا على وجه الاقتصار ما يليق بتراجم هذا الكتاب.
وقد حدّث الشَّيخ كثيرًا. وسمع منه خلق من الحفاظ والأئمة من الحديث ومن تصانيفه، وخرَّج له ابن الواني أربعين حديثًا حدّث بها.
* * * *
كتاب العِقْد الفاخر الحَسَن في طبقات أكابر اليمن
(1)
للمؤرِّخ شمس الدِّين علي بن الحسن الخزرجي اليمني (812)
وفي سنة ثمانٍ وعشرين: توفي شيخُ الإسلام، عالم العصر، بقيَّة المجتهدين، تقي الدِّين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن شيخ الإسلام مجد الدِّين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيمية
(2)
الحراني، ثم الدمشقي، الحافظ المفسِّر صاحب التصانيف.
وكان إمامًا مجتهدًا، عارفًا بالعربية والتفسير، والأصول والفروع، يتوقَّد ذكاءً، قوَّالًا بالحق، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، وكان موصوفًا بالقناعة والتعفُّف، والسخاء والجود، والشجاعة والإقدام، قليل الراحة والتنعم، قليل النوم، مُكِبًّا على العلم والعمل، قليل الأكل، لم يتروَّج قطُّ ولا تَسَرَّى.
وكان ميلاده: عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين بحرَّان، وكان معتقلًا في قلعة دمشق، بعد أن أقام خمسة أشهر ممنوعًا من الدواة والورق.
وكان وفاته ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة، وله يومئذٍ ثمان وستون سنة، وشَهِدَه خلقٌ كثير لا يُحْصَون، وصُلِّي عليه في الجامع، ودُفن في مقابر الصوفية عند أخيه، وحضر دَفْنَه نحوٌ من مئتي ألف، وامتنع طائفة كثيرة من الصلاة عليه تديُّنًا
(3)
والأعمال بالنيَّات. أعاد الله علينا من بركاته.
(1)
(ق/ 141 ب- 142 أ) ميكروفلم بمركز البحث بجامعة أم القرى.
(2)
في النسخة: بن أبي التيمية!
(3)
هذا نقله المؤلف عن «نزهة العيون
…
» للرسولي، والذي ذكره معاصروه ــ كما تقدم ــ أنه لم يتخلف أحد في الصلاة عليه إلا من خاف على نفسه من الناس بسبب معاداته لشيخ الإسلام.
تحفة الأبيه فيمن نُسب إلى غير أبيه
(1)
لمجد الدِّين الفيروزآبادي (817)
أحمد ابن تيمية، هي أمّ أحدِ أجداده الأبعدين، وهو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحرانيّ، الحافظ المشهور، الذي لم يلحق شأوَه في الحفظ أحدٌ من المتأخِّرين.
* * * *
(1)
(ص 101) تحقيق الأستاذ عبد السلام هارون، ضمن «نوادر المخطوطات» .
ذَيْل التقييد لمعرفة رواة السُّنن والمسانيد
(1)
لتقي الدِّين محمد بن أحمد الفاسي (832)
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن عبد الله بن أبي القاسم، واسمه الخضر بن محمد بن الخضر بن عليّ بن عبد الله الحَرَّاني، ثمَّ الدِّمشقي، الشَّيخ تقي الدِّين أبو العَبَّاس ابن الشَّيخ شهاب الدِّين ابن الشَّيخ مجد الدين، المعروف بابن تَيْمِيَّة.
سمع على أمين الدِّين القاسم بن أبي بكر الإربلي «صحيح مسلم» ، وعلى الشَّيخ تاج الدِّين الفزاري، وعلي بن بَلَبَان، ويوسف بن أبي نصر الشقاري
(2)
المجلدة الأولى من «صحيح البخاريّ» نسخة السميساطية، والمجلدة الثانية منه، والمجلدة الثالثة، والمجلدة الرابعة، والسادسة بقراءة الصفي العراقي سنة اثنتين وثمانين وستمائة.
وكان واسع المعرفة بالتفسير، والحديث، والفقه، والأصول، والعربية، وغير ذلك، موصوفًا بالاجتهاد.
مات سنة ثمان وعشرين وسبع مئة مسجونًا بقلعة دمشق.
وسمع من ابن عبد الدَّائم، وابن أبي اليسر، وغيرهم.
وحدّث، سمع منه الحافظان البرزالي، والذهبي.
(1)
(2/ 72 - 73) مركز البحوث وإحياء التراث الإسلامي بمكة المكرمة (ط: 1) 1418، تحقيق محمد صالح المراد.
(2)
في بعض المصادر: «السفاري» .
التِّبْيَان لِبَدِيْعَةِ البَيَان
(1)
للعلّامة محمد بن ناصر الدِّين الدِّمشقي الشَّافعيّ (842)
ثمَّ فَتَى تَيْمِيَّةٍ حَرَّاني
…
ذَكَّرَهُمْ كَلَامُهُ المَعَانِيْ
حرَّاني: نسبة إلى حرّان مدينة مشهورة بين الموصل والشام والروم، بينها وبين الرّها يوم، وبين الرقة يومان، قيل: سميت بهاران أخي إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وهو والد لوط ــ عليه السلام ــ لأنَّه أوّل من بناها، ثمَّ عُرِّبت فقيل: حران، وذكر قوم فيما حكاه ياقوت في «معجم البلدان»: أنها أوّل مدينة بنيت في الأرض بعد الطوفان، فُتحت في أيام عمر رضي الله عنه على يدي عِياض بن غنم بن زهير الفهري رضي الله عنه صُلحًا في سنة تسع عشرة، ونزلها أنس بن مالك وغيره من الصَّحابة رضي الله عنهم، وخرج منها أئمة، ذكر غالبهم أبو عَروبة الحَرَّاني في «تاريخه» ، وكذلك أبو عليّ محمد بن سعيد الحَرَّاني في «تاريخه» ، وأبو الحسن عليّ بن الحسن بن علان بن عبد الرَّحمن الحَرَّاني.
وقولي: (ذكّرهم) أي: أعلمهم، (والمعاني) جمع معنى، وهو مراد الكلام، وفي الحاء والذال والكاف
(2)
: رمز وفاة ابن تَيْميَّة المذكور بلا خلاف.
(1)
راجعنا نسختين من الكتاب، إحداهما عليها خط المؤلف، ميكروفيلم رقم (798) بجامعة أم القرى، والثانية ــ وفيها زيادات ــ نسخة مكتبة عارف حكمت بالمدينة النبوية برقم (561 - تاريخ)[ق/ 151 ب- 152 ب].
(2)
يعني هذه الحروف في البيت المتقدم، وقيمته العددية على حساب الجُمَّل= (728) فالحاء= 8، والذال= 700 والكاف = 20.
وهو: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن إبراهيم بن عليّ بن عبد الله النُّميري
(1)
الحَرَّاني ثمَّ الدِّمشقي، أبو العَبَّاس، ابن تَيْميَّة الإمام شيخ الإسلام أستاذ الحفاظ، علم الأئمة الأيقاظ، المنعوت بتقي الدين.
ذكر أبو عبد الله بن محمد بن النجار مؤرِّخ المحدِّثين في (تَيْميَّة) المعوّل في شهرته عليها
(2)
أنَّ أُم جده محمد بن الخضر كانت واعظة تسمَّى تَيْميَّة، فنُسب إليها، وقيل: حج جدّه المذكور فمرّ على درب تَيْماء المشهور، فخرج عليه من خباء جارية طفلة سنية، فلما رجع رأى زوجته، وكانت حاملًا قد وضعت بنتًا، فقال لها: يا تَيْميَّة يا تَيْميَّة! فلزمه هذا الاسم لقبًا مذكورًا، وصار لذريته من بعده علمًا مشهورًا، ومن زعم أنَّ أُمهم من وادي التيم فقد تقوَّل، وليس بصحيح ما عليه عوّل.
ولد أبو العَبَّاس بحرَّان يوم الاثنين عاشر ربيع الأوّل، وقيل: ثاني عشره، وعلى الأوَّل المعوَّل. سنة إحدى وستين وست مئين، وأوّل سماعه من ابن عبد الدَّائم في سنة سبع وستين، ثمَّ برع في التفسير والفقه وأُصوله والعربية، ولم يصل عمره إلى العشرين.
ثمَّ سمع من خلق من الأعيان، منهم: إسماعيل بن أبي اليسر، ويحيى بن أبي منصور الصيرفي، والمسلم بن علان.
حدّث عنه خلق منهم: الذَّهَبيّ والبرزالي وأبو الفتح ابن سيد النَّاس،
(1)
ووافقه على هذه النسبة العلامة: العدوي في كتابه «الزيارات» ، انظره في هذه المجموعة.
(2)
كذا بالأصلين، والأولى: عليه.
وحدثنا عنه جماعة من شيوخنا الأكياس.
وقال الذَّهبيّ في عَدِّ مصنّفاته المجوّدة: وما أُبعد أنَّ تصانيفه إلى الآن تبلغ خمس مئة مجلدة، وأثنى عليه الذَّهبيّ وخلق بثناءٍ حميد، منهم: الشَّيخ عماد الدِّين الواسطي العارف، والعلّامة تاج الدِّين عبد الرَّحمن الفزاري، وكمال الدِّين أبو المعالي محمد بن الزَّمْلَكاني، وأبو الفتح ابن دقيق العيد. وحسبه من الثناء الجميل، قولُ أستاذ أئمة الجرح والتعديل: أبي الحجاج المزِّي الحافظ الجليل، قال عنه: ما رأيت مثله ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحدًا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله، ولا أتبع لهما منه.
وترجمه بالاجتهاد وبلوغ درجته، والتمكن في أنواع من العلوم وفنون: ابن الزَّمْلَكاني، والذَّهبيّ، والبرزالي، وابن عبد الهادي وآخرون. وقال الذَّهبيّ ــ بعد أن أشار إلى بعض ما كَانَ فيه، وما كَانَ يحويه من العلوم ويدريه: وهو أعظم من أن تصنفه كلمي، ويُنَبِّهَ على شَأْوِه قلمي؛ فإنَّ سيرته وعلومه ومعارفه ومحنه وتنقلاته تحتمل أن توضع في مجلدتين.
وذكر وفاته في كتابه «الدول الإسلامية» ، وقال: وشيَّعه خلق أقلّ ما حُزروا بستين ألفًا، ولم يخلف بعده من يقاربه في العلم والفضل. انتهى. وقيل: كَانَ من حضر جنازته أكثر من مئتي ألف إنسان، لأنّ أهل دمشق حضروه إلَّا نفرًا قليلًا، ومن عجز عن الإتيان، وكان بين الحاضرين بكاءٌ عظيم، وتضرع إلى الله تعالى وأذكار. وتردد النَّاس إلى قبره بالصوفية الليل والنهار، ورُئِيَتْ له منامات حسنة خطيرة، ورثاه جماعة بقصائد كثيرة.
قال أبو عبد الرَّحمن السلمي: حضرت جنازة أبي الفتح القوّاس الزاهد مع الشَّيخ أبي الحسن الدارقطني، فلما بلغ إلى ذلك الجمع الكثير أقبل علينا
فقال: سمعتُ أبا سهل بن زياد القطان يقول: سمعت ابن أحمد بن حنبل يقول: سمعت أبي يقول: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز.
أنبأنا شيخنا الحافظ الكبير أبو بكر محمد بن عبد الله السعدي قال: أنشدنا الحافظ الكبير أبو عبد الله محمد بن أحمد بن الذَّهبيّ لنفسه يرثي شيخ الإسلام أبا العَبَّاس ابن تَيْميَّة ــ رحمة الله تعالى عليه ــ:
يا موتُ خُذْ من أردت أو فدعِ
…
مَحوتَ رسم العلومِ والورعِ
أخذت شيخ الإسلام وانفصمت
…
عُرى التُّقى فاشتفى أُولو البِدَعِ
غيَّبت بحرًا مفسِّرًا جبلًا
…
حبرًا تقيًّا مجانب الشبعِ
فإن يحدِّث فمسلم ثقة
…
وإنْ يُناظر فصاحب «اللمعِ»
وإن يخض نحو سيبويه يَفُهْ
(1)
…
بكلِّ معنى في الفنِّ مخترعِ
وصار عالي الإسناد حافِظَهُ
…
كشعبةٍ أو سعيد الضبعي
والفقه فيه فكان مجتهدًا
…
وذا جهاد عارٍ من الجزعِ
وجوده الحاتمي مشتهر
…
وزهده القادري في الطمعِ
(2)
أسكنه الله في الجنان ولا
…
زال علِيًّا في أجمل الخِلَعَ
مع مالك والإمام أحمد والنـ
…
ـعمان والشافعي والخِلَعِي
(3)
مضى ابن تيميةٍ وموعِدُه
…
مع خصمه يومَ نفخةِ الفزع
* * * *
(1)
في نسخة: يُفِد.
(2)
كذا، وفي «العقود»:«الطبع» .
(3)
في العقود: «النخعي» .
العلامة أحمد بن علي المقريزي (845)
1 -
المقفّى الكبير.
2 -
المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار.
3 -
السلوك لمعرفة دول الملوك.
صفحة بيضاء
المُقَفَّى الكَبِيْرُ
(1)
ابن تَيْمِيَّة
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم [بن] محمد بن تَيْمِيَّة، تقيّ الدين، أبو العبَّاس، المنعوت «شيخ الإسلام» ابن الإمام شهاب الدِّين أبي المحاسن، ابن العلامة مجد الدِّين أبي البركات، الحرّانيّ الأصل، الدمشقيّ المنشأ والدار والوفاة.
ولد بحرّان يوم الاثنين عاشر ربيع الأوَّل سنة إحدى وستّين وستّمائة. وقدم مع والده وأهله دمشق في سنة سبع وستّين وستّمائة. وسمع من ابن عبد الدائم وطبقته. ثمَّ طلب بنفسه قراءةً وسماعًا من خلق كثير، وقرأ بنفسه الكتب، وكتب الطِّباق والأثبات، ولازم السَّماعَ مدّة سنين فبلغت شيوخه نحو [مئتي]
(2)
شيخ. واشتغل بالعلوم، وكان من أذكى الناس، كثير الحفظ، قليل النسيان، قلّما حفظ شيئًا فنسيه، إلى أنْ صار إمامًا في التفسير وعلوم القرآن، عارفًا بالفقه واختلاف [العلماء]، بارعًا في الأصلين، والنحو وما يتعلق به، واللغة، والمنطق، وعلم الهيئة، والجبر والمقابلة، وعلم الحساب، وعلم أهل الكتابين وأهل البدع، وغير ذلك من العلوم النقليّة والعقلية، حتَّى إنَّه ما تكلّم معه فاضل في فنٍّ من الفنون إلَّا ظنَّ أنَّ ذلك الفنَّ فنُّه. وصار حُفَظَةً للحديث، مُميّزًا بين صحيحه وسقيمِه، عارفًا بربجاله وعلله، مُتضلّعًا من ذلك، مع التبحّر في علم التاريخ.
(1)
(1/ 454 - 483) دار الغرب الإسلامي، بيروت، (ط: 1) 1411.
(2)
في الأصل: مئة، والتصويب من المصادر.
ومات أبوه في السابع والعشرين من ذي الحجَة سنة اثنتين وثمانين بدمشق. وفي يوم الاثنين ثامن المحرّم سنة ثلاث وثمانين، ذُكر الشَّيخ تقيّ الدِّين للدرس موضعَ والده، بدار الحديث من القصّاعين، وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدين، والشيخ تاج الدِّين الفزاريّ، وزين الدِّين ابن المرحّل، وزين الدِّين ابن المُنجَّى وجماعة. وفي يوم الجمعة عاشر صفر، جلس بجامع دمشق على المنبر لتفسير القرآن الكريم مكانَ والده، وابتدأ من أوّل الفاتحة.
وفي يوم الجمعة رابع شهر ربيع الآخر سنة تسعين وستّمائة، ذكر على كرسيِّه شيئًا من الصِّفات، فشنّع عليه نور الدِّين بن مصعب، وساعده الفقير المعتقد نجم الدِّين محمد الحريريّ، وصدر الدِّين ابن الوكيل، وجماعة. وَمَشوا إلى الشيخين شرف الدِّين المقدسيّ وزين الدِّين الفارقاني، ومنعوه من الجلوس فلم يمتنع، وجلس في الجمعة الثانية. وقال قاضي القضاة شهاب الدِّين محمد بن أحمد الخويّي حاكم دمشق: أنا على عقيدة الشَّيخ تقيّ الدِّين فعوتب على ذلك. فقال: لأنّ ذهنه صحيح، وموادّه كثيرة، فلا يقول إلّا الصحيح.
ثمَّ إنَّ القاضي شرف الدِّين المقدسيّ قال: أنا أرجو بركته ودُعاءَه، وهو صاحبي وأخي.
واجتمع به وجيه الدِّين ابن المنجَّى، وزين الدِّين الخطيب، فتبرّأ من القضيّة، وعتب ولده صدر الدين، فسكن الأمرُ بعد ذلك.
وتوجّه إلى الحجّ في سنة اثنتين وتسعين وعاد. فلمّا كَانَ في شهر رجب سنة ثلاث وتسعين، دخل هو والشَّيخ زين الدِّين الفارقيّ إلى الأمير
عزّ الدِّين أيبك الحمويّ نائب دمشق وكلّماه في أمر النصرانيّ الَّذي سبّ النَّبي صلى الله عليه وسلم، فأجابهُما إلى إحضاره، وخرج الناس. فرأوا ابن أحمد بن حجّي الَّذي أجار النصرانيّ، فكلّموه في أمره، وكان معه رجل من العرب، فقال للناس عن النصرانيّ: إنَّه خيرٌ منكم! فرجموه بالحجارة. وهرب عسّاف. فأحضر النائب لمّا بلغه ذلك، ابن تَيْمِيَّة والفارفاني وأخرق بهما، وأمر بهما فضُربا، وحُبسا في العذراويّة، وضَرَبَ عدّةً من العامّة وحبس منهم ستة نفر، وضرب والي البلد جماعةً وعلّقهم. وسعى النائب في إثبات العداوة بين النصرانيّ وبين مَن شهد عليه، ليخلّصه. فخاف النصرانيّ عاقِبَة هذه الفتنة وأسلم. فعقد النائب عنده مجلسًا حضره قاضي القضاة وجماعة من الشافعيّة، وأفتوا بحَقْنِ دم النصرانيّ، بعد الإسلام. وطلب الفارقانيّ فوافقهم، وطَلب ابنَ تَيْمِيَّة وطيّب خاطره وأطلقه.
وفي يوم الأربعاء سابع عشر شعبان سنة خمس وتسعين، درّس ابن تَيْمِيَّة بالمدرسة الحنبليّة عوضًا عن زين الدِّين ابن المنجَّى. وفي شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وتسعين، قام جماعة من الشافعيّة عليه، لكلامه في الصفات. ووقعت بأيديهم فُتْياه الحمويّة، فردّوا عليه وانتصبوا لعناده. ووافقهم القاضي جلال الدِّين الحنفيّ. وأمر بإطلاق النداء على إبطال العقيدة الحمويّة، فُنودي بذلك. فانتصر له الأمير سيف الدِّين جاغان المشدّ، وطلب الَّذين قاموا عليه، وضرب المنادي، وجماعة ممّن كانوا معه. وفي يوم الجمعة ثالث عشره، جلس على عادته وتكلّم على قوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. وحضر عنده من الغد قاضي القضاة إمام الدِّين القزوينيّ، وقُرئت العقيدة الحمويّة بحضور جماعة، وحُوقِقَ على ما فيها
فأجاب بما عنده وانفصل المجلس فسكنت القضيّة.
وفي شهر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وستّمائة، خرج من دمشق في جماعة إلى غازان متملّك التتر لمّا قدم إلى الشَّام، وكان قد نزل تلّ راهط. فلم يمكّنه الوزير [سعد الدين] من لقاء غازان فعاد. ثمَّ إنَّه توجّه إليه ثانيًا واجتمع به وكلّمه بغلظة، فكفّ اللهُ يدَ غازان عنه وذلك أنَّه قال لترجمان الملك غازان: قل للقان: أنت تزعم أنك مسلم، ومعك قاض، وإمام، وشيخ ومؤذّنون على ما بلغنا، فغَزوتنا. وأبوك وجدّك هولاكو كانا كافرَين، وما عمِلا الَّذي عمِلت، عاهدا فوَفَيا. وأنت عاهدتَ فغدرْتَ، وقُلتَ فما وفيتَ! ومرّ في مثل هذه المحاسبة، وقد حضر قضاة دمشق وأعيانُها. فقدّم إليهم غازان طعامًا فأكلوا، إلّا ابن تَيْمِيَّة. فقيل له: لمَ لا تأكل؟
فقال: كيف آكلُ من طعامكم، وكلّه ممّا نهبتُم من أغنام الناس وقطعتُم من أشجار الناس؟
ثمَّ إنَّ غازان طلب منه الدعاءَ. فقال في دعائه: اللهم، إنْ كَنتَ تَعلمُ أنَّه إنّما قاتلَ لتكون كلمةُ الله هي العليا، وجهادًا في سبيلك، فأيّدْه وانصُره. وإن كَانَ للمُلك والدنيا والتكاثُرِ، فافعل به واصنع! يدعو عليه، وغازان يؤمّن على دعائه، وقضاة دمشق قد خافوا القتل وجمعوا ثيابهم خوفًا أن يبطشَ به غازان فيصيبهم من دمه. فلّما خرجوا قال قاضي القضاة ابن الصصريّ لابن تَيْمِيَّة: كدتَ تُهلكنا معك. ونحن ما نَصْحَبُك من هنا!
فقال: وأنا لا أصحبُكم!
فانطلقوا عُصبةً وتأخَّر ابن تَيْمِيَّة في خاصّة من معه. فلم يبق أحدٌ من الحرّاس والأمراء حتَّى أتَوه من كلّ جهةٍ وتلاحَقوا به ليتبرَّكُوا برؤيته. فما
وصل دمشق إلَّا في نحو ثلاثمائة فارس في ركابه، ودخلوا. وأمّا القضاة فخرج عليهم جماعة فجرّدُوهم من ثيابهم، ودخلوا المدينة عُراةً.
فلمّا عاد غازان إلى بلاده، ركب ابن تَيْمِيَّة البريد إلى مهنّأ بن عيسى واستحضره إلى الجهاد. وركب بعده إلى القاهرة واستَنْفَر السلطان. وواجه بالكلام الغليظ أمراءه وعسكره. ولمّا جاء السلطان إلى شَقْحب لاقاه وجعل يشجّعه ويثبّته. فلمّا رأى السلطان كثرة التَّتار قال: يا لخالدِ بن الوليد!
فقال له: لا تقُل هذا. بل قل: يالله! واستغث بالله ربّك ووحِّدْه وحدَه تُنصَرْ، وقل: يا مالكَ يوم الدين، إيّاك نعبد وإيّاك نستعين! وما زال يطلّ تارة على الخليفة المستكفي بالله، وتارة على الملك الناصر محمد بن قلاوون ويُهَدِّئُهما ويربط جأشَهما، حتَّى جاء نصر الله والفتح. وقال للسلطان: أنت منصور فاثبت!
فقال له بعض الأمراء: قل: إن شاء الله!
فقال: إنْ شاء الله، تحقيقًا، لا تعليقًا! فكان كما قال.
ولمّا أعيدت الخطبة بجامع دمشق ــ بعد رحيل غازان ــ للملك الناصر محمد بن قلاوون في يوم الجمعة سابع عشري شهر رجب من السنة المذكورة، دار [ابن تَيْمِيَّة] بنفسه على ما جُدّد من الخمّارات، وأراق خمورها وكسر أوانيَها وشقّ ظروفها، وعزّر الخمّارين هو وجماعتُه. وكان الناس يمشون معه، وهو يدور على الجماعات ويقرأ عليهم سورة القتالِ وآيات الجهاد وأحاديث الغزو والرباط والحرس، ويحثّهم على ذلك.
فلمّا عاد التَّتار إلى حلب في سنة سبعمائة، وانجفَل الناس منهم ــ وكان
قد خرج عسكر ورجع ــ ركب ابنُ تَيْمِيَّة خَيل البريد إلى مصر فدخل قلعة الجبل في اليوم الثامن من خروجه من دمشق، وذلك في شهر جمادى الأولى، وحضّ على الجهاد في سبيل الله وأغلظ في القول. واجتمع بالسلطان وأركان الدولة. وأنزل بالقلعة ورُتّب له في كل يوم دينار ومحفيَّة
(1)
، وبعَثَ إليه السلطان بَقْجة قُماش. فلم يقبل من ذلك شيئًا. ثمَّ عاد إلى دمشق وقد حرّض الدولة على قتال التَّتار.
فلمّا كَانَ أوّل ذي القعدة سنة إحدى وسبعمائة، قام عليه جماعة وسألوا الأمير أيبك الأفرم نائب دمشق مَنْعَه مِمَّا يتعاطاه من التعزير وإقامة الحدود. وكان قد حلق رؤوسًا وضرب جماعة. ثمَّ سكنت القضيّة.
وفي شهر رجب سنة ثلاث وسبعمائة، أحضر ابنُ تَيْمِيَّة إبراهيم القطّان صاحب الدلق الكبير، وقصّ أظفاره وشعره المفتّل وشاربه المسبل، وأمره بترك الصياح والفحش وأكل الحشيشة وتركِ لباس الدلق الكبير، وفتقه، وكان فيه قطع كثيرة من بسط وعبيّ. وفي سابع عشر أحضر الشَّيخ محمد البلاسيّ فتاب على يده، وأشهد عليه بترك المحرّمات واجتنابها، وأنَّه لا يخالط أهل الذّمّة ولا يتكلّم في تعبير الرؤيا ولا في شيءٍ من العلوم بغير معرفة. وكتب عليه بذلك مكتوبًا.
وفي يوم الإثنين سادس عشريه، حضر، ومعه عدّة من الحجّارين، وقطع الصخرة الَّتي بجوار مصلّى دمشق حتَّى زالت، وأراح الناس من أمرها، فإنها كانت تزارُ وينذرها الناس ويتبرّكون بها.
(1)
كذا بالأصل.
وفي محرّم سنة خمس وسبعمائة توجّه مع الأفرم إلى جبل كسروان وغزا أهله وشدّ في وسطه السيف والتركاش وأفتى بقتالهم، وعاد وقد انتصر عليهم.
وفي جمادى الأولى اجتمع عند الأفرم جماعة من الفقراء الأحمديّة الرّفاعيّة، وحضر ابنُ تَيْمِيَّة. وأراد الفقراءُ إظهار شيءٍ من أحوالهم. فقال: لا يسع أحدًا الخروج عن الشريعة بقول ولا فعل. (وقال) هذه حِيَل يتحيّلون بها في دخول النار وإخراج الزبَد من الحلق. ومَن أراد دخول النار فليغسل جسدَه في الحمّام ثمَّ يدلكه بالخلّ وبعد ذلك يدخل النار. ولو دخل لا يلتفت إلى ذلك، بل هو نوع من فعل الدجّال عندنا. وكان جمعًا كبيرًا. فقال الشَّيخ الصالح شيخ المنيبع: نحن أحوالُنا تنفقُ عند التَّتار، وما تنفق عند أهل الشرع.
وانفصل المجلس على أنَّهم يخلعون أطواقَ الحديد، وأنّ مَن خرج عن الكتاب والسنّة تضرب رقَبَتُه. وكتب ابن تَيْمِيَّة عُقَيب هذه الواقعة جزءًا في حال الأحمديّة ومبدأ أمرهم وأصل طريقتهم، وما فيهم من الخير والشرّ.
وكان قد ظهر الشَّيخ نصر الدِّين المنبجيّ بمصر، واستولى على أرباب الدولة حتَّى شاع أمره. فقيل لابن تَيْمِيَّة: إنَّه اتّحاديّ وإنَّه ينصر مذهب ابن العربيّ وابن سبعين. فكتب إليه نحو ثلاثمائة سطر ينكر عليه. فتكلّم نصر المنبجيّ مع قضاة مصر في أمره، وقال: هذا مبتدعٌ، وأخاف على الناس من شَرّه! فحسّن القضاة للأمراء طلبه إلى القاهرة وأن يعقد له مجلس بدمشق. فلمّا كَانَ في يوم الاثنين ثامن شهر رجب، طُلب ابن تَيْمِيَّة والفقهاء إلى القصر الأبلق عند الأفرم. وسأله عن العقيدة فأحضر عقيدته الواسطيّة وقرئت في
المجلس، وبحث معه فيها، وانفصل المجلس ولم يُكمل قراءتَها. ثمَّ اجتمعوا يوم الجمعة ثاني عشره بعد الصلاة، وحضر الشَّيخ صفيّ الدِّين الهنديّ وأقامو [هـ] للبحث معه. ثمَّ أقاموا الشَّيخ كمال الدِّين ابن الزملكانيّ فحاققه وبحث معه من غير مسامحة، فرضُوا ببحثه وأثنَوا على فضائله وانفضُّوا، والأمر قد انفصل.
فاتّفق بعد ذلك أنَّ بعض قضاة دمشق عزَّر شخصًا من أصحاب ابن تَيْمِيَّة وطلب جماعةً ثمَّ أُطلِقُوا، فوقع هرجٌ في البلد. وكان الأفرم قد خرج للصيد، فقرأ في يوم الاثنين ثاني عشري رجب المذكور الشَّيخ جمالُ الدِّين المزّيّ فصلًا في الردّ على الجهْمِيّة من كتاب:«أفعال العباد» للبخاري، تحت [قبة] النسر فغضب بعض الفقهاء لذلك وقالوا: نحن المقصودون بهذا! ورفعوا الأمر إلى قاضي القضاة الشافعيّ. فطلبه ورسم عليه. فقام ابن تَيْمِيَّة وأخْرَجَ المزيّ من الحبس بنفسه، وخرج إلى القصر واجتمع هناك بقاضي القضاة وأثنى على المزّيّ. فغضب القاضي وأعاد المزيّ إلى الحبس فبقِي أيّامًا. فرسم الأفرم فنودي في البلد بمنع الكلام في العقائد، ومن تكلّم فيها حلّ دمُه ومالُه ونُهبت داره وحانوتُه.
وعقد في تاسع شعبان مجلس ثالث بالقصر لابن تَيْمِيَّة، فرضي الجماعة بالعقيدة، وعزل قاضي القضاة نجم الدِّين نفسه بسبب كلام سمعه من ابن الزملكانيّ. ثمَّ وردت ولايتُه من مصر.
فقام نصر المنبجيّ بالقاهرة وقال لقاضي القضاة زين الدِّين بن مخلوف المالكيّ: قل للأمراء بأنّ ابن تَيْمِيَّة يُخْشى على الدولة منه، كما جرى لابن تومرت في بلاد المغرب.
فحدّثهم بذلك حتَّى تَخَيَّلوا منه. فورد كتاب السلطان بإحضار ابن تَيْمِيَّة وإحضار قاضي القضاة نجم الدِّين ابن الصصري إلى مصر. فمانع الأفرم نائب دمشق وقال: قد عُقد له مجلسان بحضرتي وحضرة القضاة والفقهاء، وما ظهر عليه شيءٌ.
فقال له الرسول: أنا لك ناصحٌ. وقد قال عنه الشَّيخ نصر المنبجي إنَّه يجمع الناس عليك ويعقد البيعة لغير السلطان.
فخاف النائب وبكى
(1)
منه.
فتوجّها في ثاني عشر شهر رمضان على البريد. فلمّا دخل ابن تَيْمِيَّة مدينة غزّة عمل بجامعها مجلسًا.
وتوجّه إلى قلعة الجبل وقد كتب الأفرمُ معه كتابًا إلى السلطان، وكُتب معه محضر فيه خطوط عدّةٍ من القضاة وكبار الصلحاء والعلماء يصفون ما جرى في المجلسَين بدمشق، وأنَّه لم يثبت عليه فيهما شيءٌ، ولا منع من الإفتاء. فلم يلتفت إلى ذلك.
وقصد ابن تَيْمِيَّة أنْ يعقد بالقلعة مجلسًا، وأراد أن يتكلم فلم يمكّن من الكلام على عادته، وحبس في البرج أيّامًا. ثمَّ نُقِل إلى الجبّ ليلة عيد الفطر، هو وأخواه.
وأُكرِم قاضي القضاة نجم الدِّين وخُلع عليه، وأعيدَ إلى دمشق، ومعه كتاب قُرِئ بدمشق يتضمَّن مخالفة ابن تَيْمِيَّة في العقيدة وإلزامَ النَّاس بذلك، خصوصًا أهل مذهبه، والوعيدَ بالعزل والحبس. ونودي بذلك في البلاد الشاميّة.
(1)
كذا.
وكثر المتعصّبون على ابن تَيْمِيَّة بالقاهرة، وأوذيَ الحنابلةُ، وحبس تقيّ الدِّين عبد الغنيّ ابن الشَّيخ شرف الدِّين الحنبليّ. وأُلزِم سائر الحنابلة بالرجوع عن عقيدة ابن تَيْمِيَّة، وشُنّع عليه. وأشار القضاة على رفيقهم قاضي القضاة شرف الدِّين أبي محمد عبد الغني بن يحيى بن محمد الحَرَّاني بموافقة الجماعة، فوافق وأُلزم جماعة من أهل مذهبه بذلك وأخذ خطّهم. ومرّ على الحنابلة ما لم يجر عليهم مثله. وكان ذلك كلّه بقيام الأمير ركن الدِّين بيبرس الجاشِنكير، تعصُّبًا للشيخ نصر المنبجيّ.
وفي أوائل شهر ربيع الأوّل سنة ستّ وسبعمائة، اعتُقِل شرفُ الدِّين محمد بن بُخيخ الحَرَّاني، أحد أصحاب ابن تَيْمِيَّة، بقلعة الجبل، بعد أن اجتمع بالأمير سلار والأمير بيبرس وتكلّم عندهما كلامًا طويلًا. واستمرّ في الحبس إلى سادس شعبان فأطلقه الأمير سلار.
وفي سلخ شهر رمضان جمع الأمير سلار القضاة، ما خلا الحنبليّ، والجزريّ، والنمراوي، وتكلّم في إخراج ابن تَيْمِيَّة. فقال الفقهاء والقضاة: بشرط أنْ يلتزم أمورًا، منها الرجوع عن بعض العقيدة.
وبعثوا إليه ليحضر فلم يوافق على الحضور، وتكرّر إليه الرسول مرّاتٍ، وهو مصمّم على عدم الحضور، فانصرفوا من غير شيءٍ.
فلمّا كَانَ في ثامن عشري ذي الحجّة منها، ورد كتاب ابن تَيْمِيَّة من الجبّ على الأفرم يخبره بحاله. فأثنى الأفرم على علمه وشجاعته وقال: إنَّه ما قبل شيئًا من الكسوة السلطانية ولا من الأمراء، ولم يأخذ شيئًا، قلّ ولا جلّ.
فلمّا كَانَ في صفر سنة سبع وسبعمائة اجتمع قاضي القضاة بدر الدِّين محمد بن جماعة الشافعيّ بالشيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة في دار الأمير الأوحديّ بكرةَ الجمعة رابع عشريْه بقلعة الجبل، وطال بينهما الكلام، وتفرّقا قبل الصلاة.
وفي شوّال شكا الشَّيخ كريم الدِّين الآمليّ شيخ الصوفيّة بالقاهرة، وابن عطاء وجماعة نحو الخمسمائة نفس، من ابن تَيْمِيَّة وكلامه في ابن العربيّ الصوفيّ وغيره، إلى أمراء الدولة. فردُّوا الأمر في ذلك إلى ابن جماعة. فعُقد له مجلس، وادّعى عليه ابن عطاء بأشياء لم يثبت منها شيء. لكنّه اعترف بأنّه قال: لا يُستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم استغاثةً بمعنى العبادة، ولكنه يُتوَسّلُ به. فقال بعض الحاضرين: ليس في هذا شيءٌ.
ورأى ابن جماعة أنَّ هذا إساءةُ أدبٍ وعنّفه على ذلك، فحضرت رسالة إليه أنْ يعمل في ابن تَيْمِيَّة ما تَقْتضيه الشريعة في ذلك فقال: قد قلتُ له ما يقال لأمثاله.
فلم يقنعهم بذلك. وخيّروا ابن تَيْمِيَّة بين الإقامة بدمشق أو الإسكندرية بشرط الحبس، فاختار الحبس.
ودخل عليه جماعة في السفر إلى دمشق، ملتزمًا ما شُرط، فأجابهم، وركب البريدَ ليلةَ الثامن عشر من شوّال وسار. فأرسل إليه من الغد بريدٌ آخر ردّه إلى عند ابن جماعة، وقد اجتمع الفقهاء. قال بعضهم: ما ترضى الدولة إلَّا بالحبس.
فقال ابن جماعة: وفيه مصلحة له.
فاستناب شمس الدِّين التونسيّ المالكيّ، وأذن له أنْ يحكم عليه بالحبس، فامتنع وقال: ما ثبت عليه شيء.
فأذن لنور الدِّين الزواوي المالكيّ، فتحيّر فقال ابن تَيْمِيَّة: أنا أمضي إلى الحبس وأتَّبع ما تقتضيه المصلحة.
فقال الزواوي: فيكون في موضع يصلح لمثله.
فقيل له: ما ترضى الدولة إلَّا بالحبس.
فأرسل إلى حبس القاضي. وأجلس في الموضع الَّذي أجلس فيه قاضي القضاة تقي الدِّين ابن بنت الأعزّ لمّا حبس. وأُذن له أنْ يكونَ عنده مَن يخدمه. وكان هذا جميعه بإشارة الشَّيخ نصر المنبجيّ.
فاستمر في الحبس، يُستَفتَى، ويزوره الناس، وتأتيه الفتاوى الغريبة المشكلة من الأمراء والأعيان، إلى ليلة الأربعاء العشرين من شوال [فـ] طُلِب أخواه زين الدِّين وشرف الدين، فُوجد زين الدِّين ورُسم عليه، وحُبس عند الشَّيخ تقيّ الدين.
فلم يزالا إلى أنْ قدِم مهنّأ بن عيسى أمير العرَب إلى السلطان. فدخل على الشَّيخ وهو بالسجن، في أوائل ربيع الأوّل سنة تسع وسبعمائة، وزاره، وأخْرَجَه بعدما استأذنَ في ذلك.
فخرج يوم الجمعة ثالث عشريْه إلى دار النيابة بالقلعة. وحضر الفقهاء وحصل بينهم وبينه بحث كبير إلى وقت الصلاة. ثمَّ عادوا إلى البحث حتَّى دخل الليل، ولم ينفصل الأمر.
ثمَّ اجتمعوا بمَرسوم السلطان يوم الأحد خامس عشريْه مجموع النهار،
وحضر أكثر الفقهاء، فيهم نجم الدِّين ابن الرفعة، وعلاء الدِّين التاجي، وفخر الدِّين ابن بنت أبي سعد، وعزّ الدِّين النصراوي، وشمس الدِّين ابن عدلان، ولم يحضر القضاة. وطُلبوا فاعتذروا. وانفصل المجلس، وبات ابن تَيْمِيَّة عند النائب. فأشار الأمير سلار بتأخيره أيامًا ليرى الناس فضلَه ويجتمعُوا به. فعُقِد له مجلسٌ آخر بالمدرسة الصالحيّة بين القصرين.
ثمَّ أخرج من القاهرة [إلى] الإسكندرية [و] معه أمير، ولم يمكّن أحدٌ من جماعته أن يسافرَ معه. ودخل إليها ليلًا وحُبس في برج. ثمَّ توجّه إليه أصحابُه واجتمعوا به. فأقام إلى ثامن شوّال. وطلب فسار إلى القاهرة، واجتمع بالسلطان في يوم الجمعة رابع عشريْه فأكرمه وتلقّاه في مجلس حفل فيه القضاة والفقهاء، وأصلح بيْنهم وبينَه.
ونزل إلى القاهرة فسكن بجانب المشهد الحسينيّ، وتردّد الفقهاء والأمراء والأجناد وطوائف الناس إليه.
فلمّا كَانَ في العشر الأوسط من شهر رجب سنة إحدى عشرة وسبعمائة، ظفر به أحد المتعصّبين عليه في مكان خال، فأساء عليه الأدب. وعلم بذلك أصحابه فحضر إليه كثير من الجند وتحدّثُوا بالانتصار له، فأبى ذلك ومنعهم منه.
ثمَّ خرج إلى دمشق مع العسكر قاصدًا الغزاة، وتوجّه إلى القدس وسار على عجلون وزرع، فدخل دمشق في أوّل ذي القعدة ــ وقد غاب عنها أكثر من سبع سنين ــ ومعه أخواه وجماعة من أصحابه. فخرج إليه خلق كثير، وسُرّوا به سرورًا كبيرًا.
وفي يوم الأربعاء العشرين من شوّال سنة ستّ عشرة وسبعمائة، توفّيت
والدتُه ستُّ النعم بنت عبد الرَّحمن بن عليّ بن عبدوس الحرّانية بدمشق، ودُفنت بمقابر الصوفيّة. وكان مولدها في سنة خمس وعشرين وستّمائة تقريبًا. وولدت تسعة أولاد من الذكور، ولم ترزق بنتًا.
وفي يوم الخميس منتصف شهر ربيع الآخر سنة ثماني عشرة وسبعمائة اجتمع قاضي القضاة شمس الدِّين الحنبلي بالشيخ تقيّ الدين، وأشار عليه بترك الإفتاء في مسألة الحلف بالطلاق، فقبِل إشارتَه.
فلمّا كَانَ مستهلّ جمادى الأولى منها، ورد البريد من مصر، ومعه مرسوم السلطان بمنعه من ذلك، وفيه:«من أفتى بذلك نكّل به» . ونُودِي بذلك في البلد.
فلمَا كَانَ يوم الثلاثاء تاسع عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وسبعمائة، جُمع الفقهاء والقضاةُ عند الأمير تنكز نائب الشَّام، وقُرئ عليهم كتاب السلطان، وفيه فصل يتعلّق بالشيخ تقيّ الدِّين بسبب فتياه في مسألة الطلاق. فعوتب على فتياه بعد المنع، وانفضّ المجلس على توكيد المنع.
ثمَّ عقد له مجلس في يوم الخميس ثاني عشري شهر رجب سنة عشرين وسبعمائة بدار السعادة من دمشق، وعاودوه في فُتيا الطلاق وحاققوه عليها وعاتبوه بسببها. ثمَّ إنهم حبسوه بقلعة دمشق فأقام بها إلى يوم الاثنين يوم عاشوراء سنة إحدى وعشرين. فأخرج بعد العصر بمرسوم السلطان وتوجّه إلى منزله، فكانت مدّةُ سَجنه بالقلعة خمسةَ أشهر وثمانيةَ عشرَ يومًا.
وفي يوم الاثنين بعد العصر، السادس من شعبان سنة ستٍّ وعشرين، اعتُقل بقلعة دمشق بعدما حضر إليه الأمير بدر الدِّين أمير مسعود ابن الخطير الحاجب، بمرسوم السلطان بذلك، ومعه مركوب. فأظهر السرور وقال: أنا
كنت منتظرًا لذلك، وهذا فيه خير كثير! وركب وهو معه إلى القلعة فأخليت له دار، وأجري له فيها الماءُ، وأقام معه أخوه زين الدِّين يخدمه بإذن السلطان، ورُسم له بما يقوم بكفايته. وكان سبب هذه الكائنة فتوى وُجِدت بخطّه في المنع من السفر وإعمال المطيّ إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين، وفتوى في أنَّ الطلاق الثلاث بكلمة يُرَدُّ إلى واحدة.
وفي يوم الأربعاء منتصف شعبان، أمر قاضي القضاة جلال الدِّين القزوينيّ بحبس جماعة من أصحابه بسجن الحكم. وكان ذلك بإشارة تنكز نائب الشام. وعزّر جماعة على دوابّ ونودي عليهم، ثمَّ أطلقوا إلَّا شمس الدِّين ابن قيّم الجوزية، فإنه حُبِس بالقلعة.
وفي يوم الاثنين تاسع عشر جمادى الآخرة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، أخرج ما كَانَ قد اجتمع عند ابن تَيْمِيَّة بالمكان الَّذي هو فيه معتقل بقلعة دمشق من الكتب والكراريس والأوراق، ومن دواة وأقلام، ومُنع من الكتابة وقراءة الكتب وتصنيف شيءٍ من العلوم البتّةَ. وحُملت في مستهلّ شهر رجب من القلعة إلى مجلس الحكم، فوضعت بخزانة في المدرسة العادليّة وكانت أكثر من ستّين مجلّدًا وأربع عشرة ربطة كراريس. فنظر القضاة والفقهاءُ فيها، وتفرّقت في أيديهم. وكان سببُ هذا أنَّه وُجد له جوابٌ عمّا ردّه عليه القاضي المالكيّ بديار مصر، وهو زين الدِّين ابن مخلوف، فأُعلم السلطان بذلك فشاور القضاةَ فأشاروا بهذا.
ولم يزل بالقلعة حتَّى مات يوم الاثنين العشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة. فحضر جمع كبير إلى القلعة، وأذن لبعضهم في الدخول وغُسّل وصلّي عليه بالقلعة. ثمَّ حُمل على أصابع الرجال، وأتَوا بنعشه من
القلعة إلى الجامع الأمويّ. وحالَما أُذّن لصلاة الظهر، صلّى الإمام الشافعيّ، من غير أنْ ينتظر صلاة المشهد على العادة. ثمَّ صلّي عليه، وتوجّهوا به إلى مقابر الصوفية. فما وصلوا به إليها حتَّى أذّن للعصر. وأراد جماعة أّن يخرجوا من باب الفرج أو باب النصر فلم يقدروا من شدّة الزحام وحُمِل على الأيدي والرؤوس والأصابع. وكان الناس يُلقون عمائمهم على النعش ويجرّونها إليهم طلبًا للتبرّك بذلك! ! وحُزِرَ مَن صلّى عليه من الرجال فكانوا ستّين ألفًا، وخمسة آلاف امرأة. وقيل أكثر من ذلك. وكان في عُنقه خيط عُمل بالزئبق لأجل القمل وطرده، فاشْتُرِي بجملة مال.
وكتَب بخطّه من التَّصانيف والتعاليق المفيدة، والفتاوي المشبعة، في الأصول، والفروع، والحديث، وردّ البدَع بالكتاب والسنّة، شيئًا كثيرًا يبلغ عدّة أحمال. فممَّا كمل منها:
- كتاب الصارم المسلول على منتقص الرسول صلى الله عليه وسلم.
- كتاب تبطيل التحليل.
- وكتاب اقتضاء السّراط المستقيم.
- وكتاب [في الردّ على] تأسيس التقديس [للرازي]، في عدّة مجلّدات.
- وكتاب الردّ على طوائف الشيعة، أربع مجلّدات، وكتاب دفع الملام عن الأئمة الأعلام، وكتاب السياسة الشرعيّة، وكتاب التصوّف، وكتاب مناسك الحجّ، وكتاب الكلم الطيّب. ومسائل كثيرة جدًّا يقوم منها عِدَّات كثيرة من المجلّدات.
وأكثر مصنّفاته مسوّدات لم تُبَيَّضْ، وأكثرُ ما يوجدُ منها الآن بأيدي
الناس قليل من كثير. فإنّه أُحرقَ منها شيءٌ كثير، ولا قوّة إلَّا بالله.
ومع ذلك قال القاضي
(1)
الذهبيّ: ولعل تصانيفه في هذا الوقت تكون أربعة آلاف كرّاس وأكثر. وفسّر كتاب الله تعالى مدّة سنين من صدره أيّامَ الجُمع.
ولمّا ولي مشيخة دار الحديث بعد والده، وهو شابّ، وحضره الأعيانُ وأثَنوا عليه وعلى فضائله وعلومه قال الشَّيخ إبراهيم الرقّيّ: الشَّيخ تقيّ الدِّين يؤخذ عنه ويُقلّد في العلوم. فإنْ طال عمرُه ملأ الأرض علمًا وهو على الحقّ. ولا بدَّ أن يعادِيَه الناسُ فإنّه وارثُ علم النبوّة. وقال كمال الدِّين ابن الزملكانيّ: لقد أعطي ابن تَيْمِيَّة اليدَ الطولى في حسن التَّصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين. وقد ألان اللهُ له العلومَ كما ألان لداود الحديد! ثمَّ كتب على بعض تصانيفه هذه الأبيات من نظمه:
ماذا يقول الواصفون له
…
وصفاتُهُ جَلَّتْ عن الحَصْرِ
هو حجَّةٌ للهِ قاهرةٌ
…
هو بينَنَا أعجوبةُ الدهرِ
هو آيةٌ في الخَلْقِ ظاهرةٌ
…
أنوارُها أرْبَتْ على الفجر
ثمَّ نزغ الشيّطان بينهُما وغلبت على ابن الزملكانيّ أهويته فمالَ عليه مع مَن مال.
وقال قاضي القضاة تقيّ الدِّين أبو الفتح محمد ابن دقيق العيد لمّا اجتمع به عند حضوره إلى القاهرة في سنة سبعمائة: رأيت رجلًا كلُّ العلوم بين عينيه، يأخذ ما يريد ويدَع ما يُريد.
(1)
كذا بالأصل.
وحضر عنده العلّامة أثير الدِّين أبو حيّان فقال عنه: ما رأت عيناي مثلَه، ومدحه في المجلس بقوله:
لمَّا أتينا تقيَّ الدِّين لاحَ لنا
…
داعٍ إلى اللهِ فردٌ ما له وَزَرُ
على مُحَيَّاهُ من سِيْمَا الأُلَى صَحِبُوا
…
خيرَ البريَّةِ نورٌ دونَه القَمَرُ
حَبْرٌ تَسَرْبَلَ منه دَهرُه حِبرًا
…
بَحرٌ تَقَاذَفُ مِن أمواجه الدُّرَرُ
قامَ ابنُ تَيميَّةٍ في نَصْر شِرعَتِنَا
…
مَقامَ سَيِّدِ تَيْمٍ إذْ عَصَتْ مُضَرُ
فأظهرَ الحقَّ إذ آثارُهُ دَرَسَتْ
…
وأخمدَ الشَّرَّ إذ طارتْ له الشَّرَرُ
كُنّا نُحدَّث عن حَبْر يجيءُ فهَا
…
أنتَ الإمامُ الذي قد كان يُنتظر
ثمَّ دار بينهما كلام جرى فيه ذكر سيبويه. فتسرّع ابن تَيْمِيَّة فيه بمَقول نافره عليه أبو حيَّان وقاطعه بسببه، ثمَّ عاد أكثرَ الناس له ذمًّا، واتخذه ذنبًا لا يُغفر.
وكان قاضي القضاة نجم الدِّين أبو العبّاس ابن صصريّ لا يسمح لمناظريه في بلوغ مرادهم من ضرره ويقول: ما لي وله؟
(1)
.
وحكى أبو حفص عمر بن عليّ بن موسى البزار البغداديّ قال: حدّثني الشَّيخ المقرئ تقيّ الدِّين عبد الله بن أحمد بن سعيد قال: مرضت بدمشق مرضة شديدة فجاءني ابن تَيْمِيَّة فجلس عند رأسي وأنا مُثقَل بالحمَّى والمرض. فدعا لي وقال: قُم، جاءت العافية! فما كَانَ إلَّا [أن] قام وفارَقَني، وإذا بالعافية قد جاءت وشُفِيتُ لوقتي.
وقال فيه الإمام الأوحد القاضي الرئيس كاتب الأسْرَار شهاب الدِّين
(1)
كذا هنا، وينظر «مسالك الأبصار» ففيه ما يخالف ما هنا.
أحمد بن يحيى بن فضل الله العمريّ: هو البحر من أيّ النواحي جئته، والبدرُ من أيّ الضواحي أتيته. جرت آباؤه لِشأو ما قنع به، ولا وقف طليحًا مريحًا من تَعَبِه، طلبًا لا يرضى بغاية، ولا تُقضى له نهاية. رضع ثديَ العلم منذ فُطِمَ، وطلع وجهُ الصباح ليحاكيَه فلُطم، وقطع الليل والنهار دائبين، واتَّخذ العلم والعمل صاحبين، إلى أنْ أنْسَى السلفَ بِهُداه، وأنأى الخلَف عن بلوغ مداه:
وَثَقَّفَ الله أمْرًا باتَ يَكلؤُهُ
…
يَمضِي حُساماه فيه السيفُ والقلمُ
بهمَّةٍ في الثريَّا أثرُ أخْمَصِها
…
وعَزْمَةٍ ليسَ من عادتِها السَّأمُ
على أنّه من بيت نشأت منه علماء في سالف الدهور، ونَسأت منه عظماءُ على المشاهير الشهورَ، فأحيَا معالم بيته القديم إذ درس، وجنى من فَنَنِه الرطيب ما غرس. وأصبح في فضله آيةً إلَّا أنّه آية الحرس. عرضت له الكدى فزحزحها، وعارضته البحارُ فضحضحَهَا، ثمَّ كَانَ أمّة وحده، وفردًا حتَّى نزل لحدَه، أخمل من القرناءِ كلّ عظيم، وأخمد من أهل الفناء كلّ قديم، ولم يكن منهم إلَّا من يجفل عنه إجفالَ الظليم، ويتضاءل لديه تضاؤلَ الغريم:
مَا كانَ بعضُ الناسِ إلّا مِثْلَما
…
بعضُ الحصَا الياقوتةُ الحمراءُ
جاء في عصرٍ مأهولٍ بالعلماء، مشحونٍ بنجومِ السماء، تَمُوجُ في جانبَيهِ بحورٌ خَضَارِمُ، وتطِيرُ بين خَافِقَيهِ نُسُورٌ قَشَاعِمُ، وتُشْرِقُ في أنديتهِ بُدورُ دُجُنَّةٍ، وصدورُ أسِنَّةٍ، وتَثْأَرُ جُنُودُ رَعيلٍ، وتَجْأرُ أسودُ غِيْلٍ، إلَّا أنَّ صَبَاحَه طَمَسَ تلك النجوم، وبَحْرهُ طَمَّ على تِلكَ الغُيُوم، ففَاءَتْ سُمْرَتُه على تلك التِّلاعِ، وأطلَّتْ قَسورتُه على تلك السِّبَاعِ، ثُمَّ عُبِّئَتْ له الكتائبُ فحَطَّمَ صفوفَها، وخَطَمَ أُنوفَها، وابتلَعَ غَدِيرُهُ المطمئنُّ جَداولَها، واقتلَعَ طَوْدُهُ المُرْجَحِنُّ
جَنَادِلَها، وأخمدتْ أنفاسَهم رِيحُه، وأكْمَدَت شَرَاراتِهم مصابِيحُه:
تَقدَّمَ راكبًا فيهم إمامًا
…
ولولاه لما رَكِبُوا وَراءَا
فجَمعَ أشْتَات المذاهب، وشُتَّاتَ المذاهب، ونَقَلَ عن أئمةِ الإجماعِ فمَنَ سِواهم مذاهبَهم المختلفةَ واستَحْضَرَها، ومَثَّل صُوَرَهم الذاهبةَ وأحْضَرها، فلو شعَرَ أبو حنيفةَ بزَمانِه ومَلَكَ أمرَه لأدْنَى عَصْرَهُ إليه مُقرِّبًا، أو مالكٌ لأجْرَي وراءَه أشهبَه ولو كَبَا، أو الشَّافعيُّ لقالَ: ليتَ هذا كَانَ للأمِّ وَلَدًا، أو: لَيتَني كنت له أبَا، أو الشيبانيُّ ابنُ حنبلٍ لما لامَ عِذَارَه إذا غَدا منه لفَرْطِ العَجبِ أشْيَبَا، لا بل داودُ الظاهريُّ وسِنَان الباطنيُّ لظَنَّا تحقيقَه، من مُنتَحَلِه، وابنُ حَزْمٍ والشَّهْرستانيُّ لحَشَرَ كلٌّ منهما ذِكرَه أمَّةً في نِحَلِه، والحاكمُ النَّيسابوري والحافظ السِّلَفي لأضافَه هذا إلى استدراكِه وهذا إلى رِحَلِه.
تَرِدُ [إليه] الفتاوي ولا يَردُّها، وتَفِدُ عليه فيُجِيب عليها بأجوبةٍ كأنَّهُ كَانَ قاعدًا لها يُعِدُّهَا:
أبدًا على طَرَفِ اللسانِ جوابُه
…
فكأنَّما هي دَفعةٌ مِن صَيِّبِ
يَغدُو مُسَاجلُه بغُرَّةِ صافحٍ
…
ويَرُوحُ مُعتَرِفًا بذلَّةِ مُذْنِب
ولقد تَضَافَرتْ عليه عُصَبُ الأعداءِ فَأُلْجِمُوا إذْ هَدَرَ فَحْلُه، وأُفْحِمُوا إذْ زَمزَمَ ليَجْنِيَ الشهدَ نَحْلُه، ورُفِعَ إلى السلطانِ غيرَ مَا مَرَّةٍ ورُمِيَ بالكبَائِر، وتُرُبِّصَتْ به الدَّوائِرُ، وسُعِيَ به ليُؤْخَذَ بالجَرائِر، وحَسَدَه مَن لم يَنَل سَعْيَه وكثر فَارتَابَ، ونَمَّ فما زادَ على أنَّه اغتابَ.
وأُزْعِجَ من وَطنِه تارةً إلى مِصْرَ ثمَّ إلى الإسكندرية، وتارةً إلى مَحْبِسِ القَلْعَةِ بدمَشْقَ، وفي جميعها يُودَعُ أخْبِئَةَ السُّجونِ، ويُلْدَغُ بِزُبَانَى المَنُونِ، وهو
على علمٍ يُسَطِّرُ صُحُفَه، ويَدَّخِرُ تُحَفَه، وما بينه وبين الشيء إلَّا أنْ يُصنِّفَه، ويُقرِّطَ به ولو سَمْعَ امْرِئٍ واحدٍ ويُشَنِّفَه، حتَّى تَسْتَهديَ أطرافُ البلادِ طُرَفَه، وتَسْتَطلعَ ثَنايا الأقاليم شُرَفَه، إلى أنْ خَطَفَتْه آخرَ مَرَّةٍ من سِجْنِه عُقَابُ المنَايا، وجَذّبَتْهُ إلى مَهْوَاتِها قرارةُ الرزايَا.
وكَانَ قبلَ مَوتِه قَد مُنِعَ الدَّواةَ والقَلَم، [وطُبِعَ على قلبه] منه طابعُ الألَمِ، فكان مبدأ مَرَضِه ومَنْشَأ عَرَضِه، حتَّى نزلَ قِفارَ المقابر، وتركَ فَقَارَ المنابر، وحَلَّ ساحةَ تُربه ومَا يُحاذِر، وأخذَ راحةَ قَلبه من اللائِم والعاذِر، فماتَ لا بل حَيِي، وعُرِفَ قَدْرُه لأنَّ مِثلَه ما رُئِي.
وكان يومُ دَفْنِه يَومًا مشهودًا ضاقت به البلدُ وظواهِرُها، وتُذُكِّرتْ به أوائِلُ الرَّزايا وأواخِرُها، ولم يكن أعظم منها مُنذُ مِئِينَ سِنِينَ جنازة رُفِعَتْ على الرِّقَابِ، ووُطِئَتْ في زِحَامِهَا الأعقابُ، وسارَ مرفوعًا على الرُّؤوس، متبوعًا بالنفوس، تَحْدُوهُ العَبَرات، وتَتْبَعُه الزَّفَرات، وتقولُ له الأمم: لا فُقِدتَ مِن غائب، ولأقلامه النافعةِ: لا أبْعَدَكُنَّ اللهُ مِن شَجَرات.
وكان في مَدَد ما يؤخذ عليه في مقاله ويُنْبَذُ في حُفْرةِ اعتقالِه، لا تَبرُد له غُلَّة في الجمع بينه وبين خُصَمائه بالمناظرة، والبحثِ حيث العيونُ ناظرة، بل يَبدُر حاكمٌ فيحكمُ باعتقاله، ويمنعه من الفتوى، أو بأشياءَ من نوعِ هذه البلوى، لا بعد إقامة بيّنةٍ ولا تقدُّمِ دعوى، ولا ظهورِ حجّةٍ بالدليل، ولا وضوح محجَّةٍ للتأميل، وكان يَجد لهذا ما لا يُزَاح فيه ضَرَرُ شَكْوَى، ولا يُطْفَأُ ضَرَمُ عَدْوى:
وكلُّ امرئٍ حازَ المكارمَ محسود
كضَرائرِ الحسناءِ قُلنَ لِوَجْهِها
…
حسَدًا وبُغْضًا إنه لَدَميمُ
كل هذا لتبريزه في الفضل حيثُ قصَّرتِ النُّظَراءُ، وتَجلِّيْهِ كالمصباح إذْ أظلمت الآراءُ، وقيامِه في دفع حُجَّةِ التَّتارِ، واقتحامه وسيوفُهم تتدفَّقُ لُجَّةَ البِدار، حتَّى جَلَس إلى السلطان محمود غازان حيث تَجِم الأُسْدُ في آجامِها، وتَسقُط القلوبُ في دواخلِ أجسامِها، وتَجِدُ النارُ فتورًا في ضَرَمِها، والسيوفُ فَرَقًا في قَرَمِها، خوفًا من ذلك السَّبُع المغتال، والنمروذِ المختال، والأجل الَّذي يُدفَع بحيلةِ مُحتال، فَجلس إليه وأومأ بيده إلى صدرِه، وواجَهَه ودرأ في نَحْرِه، فطَلَبَ منه الدُّعَاء، فرفَع يديه ودعَا دُعاءَ مُنصفٍ أكثرُه عليه، وغازانُ يؤمِّنُ على دعائه وهو مُقبلٌ إليه. ثمَّ كَانَ على هذه المواجهة القبيحة، والمشاتمة الصريحة، أعظم في صدرِ غازانَ والمُغَل من كلّ من طلعَ معه إليهم، وهم سلف العلماء في ذلك الصَّدْر، وأهلُ الاستحقاقِ لرِفعةِ القَدْر.
هذا مع ما له من جهادٍ في الله لم تُفزِعْه فيه طلل الوشيج، ولم يُجزِعْه فيه ارتفاع النشيج، مواقفُ حروبٍ باشرَها، وطوائفُ ضُروبٍ عاشرَها، وبَوارِقُ صِفاحٍ كاشَرَها، ومضايقُ رِماح حاشَرَها، وأصناف خُصومٍ لُدٍّ اقتحمَ معها الغمراتِ، وواكلَها مختلفَ الثَّمرات، وقَطَع جِدالَها قوِيُّ لسانِه، وجِلَادَها شَبَا سِنانِه، قامَ بها وصابَرها، وبُلِيَ بأصاغِرها وقاسَى أكابرَها، وأهلِ بِدَعٍ قامَ في دِفاعِها، وجَاهدَ في حَطِّ يَفَاعِها، ومخالفةِ مِلَلٍ بَيَّنَ لها خطأ التأويلِ، وسَقَمَ التَّعليلِ، وأسكَتَ طَنِينَ الذُباب في خياشيم رؤوسهم بالأضاليل، حتَّى ناموا في مراقدِ الخضُوع، وقاموا وأرجلُهم تَتساقَطُ للوقوع، بأدِلَّةٍ أقطعَ من السيوف، وأجمعَ من السُّجُوف، وأجلَى من فَلَقِ الصَّباح، وأجلبَ من فِلَقِ الرّماحِ:
إذا وَثَبَتْ في وجهِ خَطْبِ تمزَّقَتْ
…
على كتفيهِ الدِّرْعُ وانْتَثَر السَّرْدُ
إلّا أنَّ سابقَ المقدور أوقَعَه في خَلَلِ المَسَائِل، وخَطَل خَطَإٍ لا يأمَنُ فيه مع الإكثارِ قائِلٌ، وأظنُّه ــ واللهُ يَغفِرُ له ــ عُجِّلَتْ له في الدنيا المقاصَّة، وأخذ نَصِيبَه من بلواها عامَّةً وله خاصَّة، وذلك لحطِّه على بعض سلفِ العلماء، وحَلِّه لقواعدَ كثيرةٍ من نواميسِ القدماء، وقِلَّةِ توقيرِه للكُبَراء، وكثرةِ تكفيرِه للفُقراء، وتزييفه لغالبِ الآراء، وتقريبه لجهَلَةِ العوامِّ وأهلِ المِراء، وما أفتَى به آخرًا في مسألتَي الزيارةِ والطلاق، وإذاعتِه لهما حتَّى تكلّم فيهما من لا دينَ له ولا خلاق، فسلّط ذبالَ الأعداءِ على سَلِيطه، وأطلقَ أيديَ الاعتداءِ في تفريطِه، ولَقَّمَ نارَهم سَعَفَه، وأرَى أقساطَهم شَرَفَه، فلم يَزَلْ إلى أن ماتَ عِرْضُه منهوبًا، وعَرْضُه مَوْهُوبًا، وصَفَاتُه تَتصدَّع، ورُفَاتُه لا يتجمَّع، ولعلَّ هذا لخيرٍ أُريدَ به، وأُرِيغَ له بحُسنِ مُنقَلَبه.
وكان تعمُّده للخلاف، وتَقصُّده لغيرِ طريقِ الأسْلاف، وتقويتُه للمسائل الضعاف، وتقويضُه عن رؤوس السِّعاف
(1)
= يُغَيِّر مكانتَه من خاطِر السلطان، ويُسَبِّبُ له التغرُّبَ عن الأوطان، ويُنَفّذُ إليه سِهامَ الألسنةِ الرواشِق، ورِماحَ الطَّعنِ في يدِ كلِّ ماشق، فلهذا لم يَزَلْ مُنغَّصًا عليه طولَ مُدَّتِه، لا تكادُ تَنفرِجُ عنه جوانبُ شِدَّتِه.
هذا مع ما جَمعَ من الورع، وإلى ما فيه من العُلَى، وما حازَه بحذافيرِ الوجود من الجود: كانت تأتيه القَناطيرُ المقنطرةُ من الذهب والفضة، والخيلِ المُسَوَّمةِ والأنعام والحرثِ، فيَهَبُه بأجمعِه، ويَضعُه عند أهل الحاجةِ في موضعِه، لا يَأخذ منه شيئًا إلَّا ليهَبه، ولا يَحفَظُه إلَّا ليُذْهِبَه، كُلَّه في سبيل
(1)
كذا هنا وفيما تقدم (ص 390) ولعلها: من رؤوس الشِّعاف.
البرّ، وطريق أهلِ التواضع لا أهلِ الكِبْر.
لم يَمِلْ به حُبُّ الشهوات، ولا حُبِّبَ إليه من ثلاثِ الدنيا غير الصلاة.
ولقد نافستْ ملوك جَنكِزْ خان عليه، ووَجَّهَت دسائِسَ رُسُلِها إليه، وبعثَتْ تجدُّ في طلبهِ، فنُوسِيَتْ عليه لأمورٍ أعظمُها خوفُ توثُّبِه، وما زال على هذا ومثلِه إلى أنْ صَرعَه أجلُه، وأتاهُ بَشِيْرُ الجَنَّةِ يَستعجلُه، فانتقل إلى اللهِ والظنُّ به أنَّه لا يُخجِلُه.
(قال) وحكيَ عن شجاعتِه في مواقف الحرب نوبةَ شَقْحب، ونوبة كسروان، ما لم يسمع إلَّا عن صناديد الرجال، وأبطال اللقاء، وأحلاس الحرب، تارةً يباشر القتال وتارة يحرّض عليه.
(قال) وكان يجيئه من المالِ في كلّ سنة ما لا يكاد يُحصَى فينفقه جميعَه آلافًا ومئين، لا يلمس منه درهمًا ولا ينفقه في حاجةٍ له. وكان يعود المرضى، ويشيّع الجنائز، ويقوم بحقوق النَّاس، ويتألّف القلوب، ولا ينسب إلى باحث لديه مذهبًا، ولا يحفظ لمتكلّم عنده زلّة، ولا يَتَشَهَّى طعامًا ولا يمتنع عن شيءٍ منه، بل هو مع ما حضر لا يتجهّم مرآه، ولا يتكدّر صفوُه ولا يسأم عفوه، (قال) ورُئِيَتْ له منامات صالحة.
ورثاه جماعات من النَّاس بالشام ومصر والعراق والحجاز والعرب من آل فضل.
(قال) ورثيتُه بقصيدة لي، وهي:
أهكذا بالدياجي يُحجب القمر
…
ويُحبس النوءُ حتى يذهبَ المطرُ؟
أهكذا تُمنع الشمسُ المنيرة عن
…
منافع الأرض أحيانًا فتستَتِرُ؟
أهكذا الدهر ليلًا كلّه أبدًا
…
فليس يُعْرَف في أوقاته سحَر؟
أهكذا السيف لا تَمضِي مضاربُه
…
والسيف في الفتك ما في عزمه خور؟
أهكذا القوس تُرمَى بالعراء وما
…
تُصمِي الرَّمايا وما في باعها قصر؟
أهكذا يترك البحرُ الخِضمُّ ولا
…
يُلوَى عليه، وفي أصدافه الدّرر؟
أهكذا بِتَقِيّ الدِّين قد عَبِثتْ
…
أيدي العِدى وتعدّى نحوَه الضررُ؟
ألابنِ تيميّة تُرمى سهامُ أذًى
…
من الأنام ويدمي النابُ والظفُر؟
بذّ السوابقَ ممتدَّ العبادةِ لا
…
ينالُه ملَلٌ فيها ولا ضجر
ولم يكن مثله بعد الصحابة في
…
علم عظيمٍ وزهدٍ ماله خطرُ
طريقَةٌ كان يمشي قبل مشيتِه
…
بها أبو بكرٍ الصدّيقُ أو عمرُ
فردُ المذاهب في أقوال أربعةٍ
…
جاؤوا على أثر السُّبَّاقِ وابتدروا
لمّا بنَوا قبله عُليا مذاهبهم
…
بنى وعمّر منها مثلَ ما عمَروا
مثل الأئِمّة قد أحيا زمانَهُمُ
…
كأنّه كان فيهم وهو منتَظَر
إن يرفعوهم جميعًا رفع مبتدأ
…
فحقُّه الرفع أيضًا إنّه خبرُ
أمثلُه بينكم يُلفَى بمَضيَعةٍ
…
حتّى يطيح له عمدًا دمٌ هدَرُ؟
يكون وهْوَ أمانيٌّ لغيركُمُ
…
تنوبه منكُمُ الأحداثُ والغِير
والله لو أنّه في غيرِ أرضكمُ
…
لكان منكم على أبوابه زُمَرُ
مثل ابن تيميّةٍ يُنسى بمحبسه
…
حتى يموت ولم يُكحَل به بصر
مثل ابن تيميّة ترضى حواسدُه
…
بحبسِه ولكُمْ في حبسِه عذر
مثل ابن تيميَّة في السجن معتقَلٌ
…
والسجن كالغمدِ وهو الصارمُ الذكر
مثل ابن تيميَّة يُرمى بكلِّ أذًى
…
وليس يُجلى قذى منه ولا نظَرُ
مثل ابن تيميَّة تذوي خمائلُه
…
وليس يُلقط من أفنانِه الزهَر
مثل ابن تيميَّة شمسٌ تغيبُ سُدًى
…
وما ترِقُّ لها الآصال والبكر
مثل ابن تيميَّة يمضي وما عبقت
…
بمسكه العاطِرِ الأردانُ والطُّرَرُ!
مثل ابن تيميَّة يمضي وما نهلَت
…
له سيوفٌ ولا خطيّة سُمر
ولا تجارى له خيلٌ مسوّمَةٌ
…
وجوهُ فرسانها الأوضاحُ والغَرَرُ
ولا تحفّ به الأبطالُ دائرةً
…
كأنهُم أنجمٌ في وسطها قمَر
ولا تعبّس حربٌ في مواقِفِه
…
يومًا ويضحكُ في أرجائه الظفرُ
حتّى يقوّمَ هذا الدِّين مِن مَيَلٍ
…
ويستقيم على منهاجه البشرُ
بل هكذا السلفُ الأبرارُ ما برِحُوا
…
يُبلى اصطبارهمُ جهدًا وَهُمْ صبُرُ
تأسّ بالأنبياءِ الطُّهر كم بلغَتْ
…
فيهم مضرّةُ أقوام وكم هُجروا
في يوسف في دخول السجن منقَبة
…
لمن يكابدُ ما يلقى ويصطبرُ
ما أُهمِلوا أبدًا بل أمهلوا لمدًى
…
والله يُعقِبُ تأييدًا وينتصِرُ
أيذهبُ المنهلُ الصافي وما نُقعت
…
به الظماءُ ويَبْقى الحمأةُ الكدر؟
مضى حميدًا ولم يعلق به وضرٌ
…
وكلّهم وضرٌ في الناس أو وذر
طوْدٌ من الحِلم لا تُرقى له قُننٌ
…
كأنّما الطودُ من أحجاره حجرُ
بحرٌ من العلم قد فاضت بقيّتُه
…
فغاضت الأبحرُ العظمى وما شعروا
ياليت شعريَ هل في الحاسدين له
…
نظره في جميع القوم إن ذُكِروا
هل فيهمُ لحديث المصطفى أحدٌ
…
يميّزُ النقّدَ أو يُروى له خبر؟
هل فيهِمُ من يضمّ البحث في نظرٍ
…
أو مثله من يضمّ البحثُ والنظرُ؟
هلّا جَمعتُمْ له من قومكم ملأً
…
كفعل فرعَوْنَ مَعْ مُوسى لتعتبروا؟
قولوا لهم: قال هذا فابحثوا مَعه
…
قدّامَنا وانظروا الجهّال إن قدروا
تُلقي الأباطيلَ أسحَارٌ لها دهَشٌ
…
فيلقفُ الحقُّ ما قالوا وما سحرُوا
فليتهُم مثل ذاك الرهطِ من ملأٍ
…
حتى يكون لكم في شأنِه عِبَر
وليتهم أذعنوا للحقّ مثلهم
…
فآمنوا كلّهم من بعد ما كفرُوا
يا طالما نفروا عنه مجانبةً
…
وليتَهم نفَعوا في الضيم أو نفروا
هل فيهِمُ صادع بالحقّ مِقولُه
…
أو خائض للوغى والحرب تَسْتَعِرُ؟
رمى إلى نحر غازانٍ مواجهةً
…
سِهامَه من دعاءٍ عونُه القدَرُ
بتلِّ راهط والأعداءُ قد غلبوا
…
على الشآم وطار الشرّ والشرر
وشَقّ في المرج والأسياف مسلطةٌ
…
طوائف كلّها أو بعضُها التتر
هذا وأعداؤه في الدور أشجعهم
…
مثلَ النساء بظلّ الباب مُستتِر
وبعدها كسروانٌ والجبال وقد
…
أقام أطوادها والطوْد منفطِر
واستحصد القوم بالأسياف جهدهُمُ
…
وطالما بطلوا طغوى وما بطروا
قالوا: قبرناه، قلنا: إنّ ذا عجبٌ
…
حقًّا أللكوكب الدرّيّ قد قبرُوا؟
وليس يذهبُ معنًى منه متّقدٌ
…
وإنّما تذهبُ الأجسام والصور
لم يَبْكِه ندمًا من لا يصبّ دمًا
…
تجري به ديَمًا تهمي وتنهمِر
لهفي عليه أبا العبّاس كم كرم
…
لمَّا قَضَيتَ قضى من عمره العمرُ
سَقَى ثراك من الوسمِيّ صيّبُه
…
وزانَ مغناك قَطْرٌ كلّه قطر
ولا يزال له برقٌ يغازله
…
حلوُ المراشف في أجفانه حور
لِفقدِ مثلِك يا مَن ما له مثل
…
تأسى المحاريب والآياتُ والسورُ
يا وارثًا من علوم الأنبياء نُهًى
…
أورثتَ قلبيَ نارًا وقدُها الفِكَرُ
يا واحدًا لستُ أستَثْنِي به أحدًا
…
من الأنام ولا أُبقِي ولا أذرُ
يا عالمًا بنقول الفقهِ أجمعِها
…
أعنك تحفظ زلّاتٌ كما ذكروا؟
يا قامعَ البدَع اللاتي تجنّبَها
…
أهلُ الزمان، وهذا البدوُ والحضرُ
ومُرشد الفرقةِ الضلّال نهجَهُم
…
من الطريق فما حارُوا ولا سهروا
ألم تكن للنصارى واليهودِ معًا
…
مجادلًا، وهمُ في البحث قد حَصِرُوا
وكم فتًى جاهلٍ غِرٍّ أمنتَ له
…
رُشدَ المقال فزال الجهلُ والغرَر
ما أنكروا منك إلّا أنّهُمْ جَهِلوا
…
عظيم قدرِك لكن ساعدَ القدر
قالوا بأنّك قد أخطأتَ مسألةً
…
وقد تكون، فهلّا منك تُغْتَفَرُ؟
غَلِطْتَ في الدهرِ أو أخطأتَ واحدةً
…
أمَا أجَدتَ إصاباتٍ فتعتذرُ؟
ومَن يكون على التحقيق مجتهدًا
…
له الثوابُ على الحالَين، لا الوزرُ
ألم تكن بأحاديث النبيّ إذا
…
سُئِلتَ تعرِفُ ما تأتي وما تذر؟
حاشاك من شُبَهٍ فيها ومن شَبَهٍ
…
كلاهُما منك لا يبقى له أثرُ
عليك في البحث أن تبدي غوامضَهُ
…
قدّمتَ لله ما قدّمتَ من عملٍ
…
وما عليك بهم، ذمّوك أو شكروا
هَل كان مثلُك من يخفى عليه هدًى
…
ومن سَمائك تبدو الأنجمُ الزُّهُر
وكيف تحذر من شيءٍ تزلّ به
…
أنت التقيّ فماذا الخوفُ والحذرُ؟
وقال زين الدِّين عمر بن الوردي يرثيه:
عَثَا في عرضه قومٌ سِلاطٌ
…
لهم من نَثْر جوهره التقاطُ
تقي الدِّين أحمد خيرُ حبرٍ
…
خُروق المعضلات به تُخاطُ
توفّي وهو محبوسٌ فريدٌ
…
وليس له إلى الدنيا انبساطُ
ولو حضروه حين قضى لألفوا
…
ملائكةَ النعيمِ به أحاطوا
فيالله ماذا ضمَّ لحدٌ
…
ويالله ما غطَّى البلاط
هم حسدوه لمّا لم ينالوا
…
مناقبه فقد مكروا وشاطوا
وكانوا عن طرائقه كُسالى
…
ولكن في أذاه لهم نشاط
وحَبْسُ الدُّرِّ في الأصداف فخر
…
وعن الشيخ بالسجن اغتباط
بآل الهاشمي له اقتداء
…
فقد ذاقوا المنون وما تواطوا
إمام لا وِلاية كان يرجو
…
ولا وقف عليه ولا رِباط
ولا جَاراكمُ في كسْبِ مالٍ
…
ولم يُعهَد له بكمُ اختلاطُ
سيظهر قصدكم يا حابسيه
…
ونيتكم إذا نُصب الصراط
فها هو مات عنكم واسترحتم
…
فعاطوا ما أردتم أن تُعاطوا
وحلوا واعقدوا من غير رد
…
عليكم وانطوى ذاك البساط
* * * *
المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار
(1)
[قال بعد كلامه على أبي الحسن الأشعري]:
لم يبقَ اليومَ مذهبٌ يخالفه إلا أن يكون مذهب الحنابلة أتباع الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه فإنهم كانوا على ما كان عليه السلف؛ لا يرون تأويل ما ورد من الصِّفات.
إلى أن كان بعد السبع مئة من سني الهجرة: اشْتَهر بدمشق وأعمالها تقيّ الدِّين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيميَّة الحرَّاني؛ فتصدَّى للانتصار لمذهب السَّلف، وبالغ في الرد على مذهب الأشاعرة، وصَدَع بالنكير عليهم، وعلى الرافضة وعلى الصوفية؛ فافترق الناسُ فيه فريقان:
فريق يقتدي به، ويعوِّل على أقواله، ويعمل برأْيه، ويرى أنه شيخ الإسلام، وأجلّ حفَّاظ أهل الملّة الإسلامية.
وفريق يبدِّعه ويضلّله، ويُزري عليه بإثباته الصِّفات، وينتقد عليه مسائل منها ما له فيه سلف، ومنها ما زعموا أنه خَرَق فيه الإجماع، ولم يكن له فيه سلف.
وكانت له ولهم خطوب كثيرة، وحسابُه وحسابُهم على الله الذي لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السَّماء، وله إلى وقتنا هذا عدة أتباع بالشام، وقليل بمصر.
(1)
(2/ 358 - 359) دار الطباعة المصرية، تصحيح الشيخ قطة العدوي (1270).
السلوك لمعرفة دول الملوك
(1)
ومات في هذه السنة من الأعيان: شيخ الإسلام تقي الدِّين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني، بدمشق ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة، في سجنه بالقلعة. ومولده يوم الاثنين عاشر ربيع الأول، سنة إحدى وستين وست مئة.
* * * *
(1)
(2/ 304) تحقيق: محمد مصطفى زيادة، ط. القاهرة 1971.
مختصر ذَيْل طبقات الحنابلة
(1)
للشيخ أحمد بن نصر الله البغدادي الحنبلي (846)
«أحمد بن عبد الحليم .......................... » .
(تنبيه): لم نثبت الترجمةَ هنا؛ لأنها بنصها من «ذيل طبقات الحنابلة» لابن رجب، أصل هذا الكتاب، فقد أثبتها المُخْتَصِر كما هي في الأصل لم يُغيِّر فيها شيئًا، وقد ذكر (المؤلِّف) في مقدمة مُخْتَصَرِه هذا أن بعض التراجم يثبتها كما هي = فهذا من ذاك.
* * * *
(1)
ق/ 98 - 104، نسخة مكتبة عمومية بايزيد رقم 5135، بعضها بخط المؤلف وبعضها بخط عز الدِّين الكناني، أتحفنا بصورة من هذه الترجمة الشيخ العلامة عبد الرحمن العثيمين. وللمؤلف تقريظ على «الرد الوافر» بهامش «جلاء العينين» (ط. بولاق 1298)(ص 132 - 134).
الحافظ أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني (852)
1 -
الدرر الكامنة
2 -
تقريظه للرّد الوافر لابن ناصر الدين
صفحة بيضاء
الدُّرر الكَامِنَة في أعْيان المائة الثَّامِنَةَ
(1)
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تَيْمِيَّة الحَرَّاني ثمَّ الدِّمشقي الحنبلي تقي الدِّين أبو العَبَّاس بن شهاب الدِّين بن مجد الدين.
ولد في عاشر ربيع الأوَّل سنة (661) وتحوّل به أبوه من حرّان سنة (667) فسمع من ابن عبد الدَّائم والقاسم الإربلي والمسلم بن علان وابن أبي عمر والفخر في آخرين، وقرأ بنفسه ونسخ «سنن أبي داود» ، وحصّل الأجزاء، ونظر في الرجال والعلل، وتفقَّه وتمهر وتميز وتقدّم، وصنّف ودرّس وأفتى وفاق الأقران، وصار عجبًا في سرعة الاستحضار وقوّة الجنان، والتّوسع في المنقول والمعقول، والاطلاع على مذاهب السلف والخلف.
وأول ما أنكروا عليه من مقالاته في شهر ربيع الأول سنة (698) قام عليه جماعة من الفقهاء بسبب الفتوى الحموية. وبحثوا معه ومُنِع من الكلام، ثمَّ حضر مع القاضي إمام الدِّين القزويني؛ فانتصر له، وقال هو وأخوه جلال الدين: من قال عن الشَّيخ تقي الدِّين شيئًا عزرناه.
ثمَّ طلب ثاني مرة في سنة (705) إلى مصر فتعصب عليه بيبرس الجاشنكير وانتصر له سلار، ثمَّ آل أمره أنْ حُبس في خزانة البنود مدة، ثمَّ نقل في صفر سنة (709) إلى الإسكندرية، ثمَّ أُفرج عنه وأُعيد إلى القاهرة ثمَّ أُعيد إلى الإسكندرية، ثمَّ حضر الناصر من الكرك فأطلقه، ووصل إلى دمشق
(1)
(1/ 144 - 160) طبعة المستشرق كرنكو.
في آخر سنة (712). وكان السَّبب في هذه المحنة: أن مرسوم السلطان ورد على النائب بامتحانه في معتقده لما وقع إليه من أُمور تُنكر في ذلك، فعقد له مجلس في سابع رجب، وسئل عن عقيدته، فأملى منها شيئًا ثمَّ أحضروا العقيدة الَّتي تُعرف بالواسطية فقرئ منها، وبحثوا في مواضع ثمَّ اجتمعوا في ثاني عشره، وقرّروا الصَّفي الهندي يَبْحث معه، ثمَّ أخروه وقدّموا الكمال الزمْلكاني، ثمَّ انفصل الأمر على أنَّه شهد على نفسه أنَّه شافعي المعتقد، فأشاع أتباعه أنَّه انتصر فغضب خصومه ورفعوا واحدًا من أتباع ابن تَيْميَّة إلى الجلال القزويني نائب الحكم بالعادلية فعزَّره وكذا فعل الحنفي باثنين منهم.
ثمَّ في ثاني عشري رجب قرأ المزِّي فصلًا من كتاب «أفعال العباد» للبخاري في الجامع فسمعه بعض الشافعية فغضب، وقالوا: نحن المقصودون بهذا ورفعوه إلى القاضي الشَّافعيّ فأمر بحبسه، فبلغ ابن تَيْمِيَّة فتوجَّه إلى الحبس فأخرجه بيده، فبلغ القاضي فطلع إلى القلعة فوافاه ابن تَيْمِيَّة فتشاجرا بحضرة النّائب، واشتط ابن تَيْمِيَّة على القاضي لكون نائبه جلال الدِّين آذى أصحابه في غيبة النائب، فأمر النائب من ينادي: أن من تكلّم في العقائد فعل كذا به، وقصد بذلك تسكين الفتنة.
ثمَّ عقد لهم في سلخ رجب وجرى فيه بين ابن الزمْلكاني وابن الوكيل مباحثة، فقال ابن الزَّمْلَكاني لابن الوكيل: ما جرى على الشَّافعية قليل حتَّى تكون أنت رئيسهم، فظن القاضي نجم الدِّين بن صصري أنَّه عناه، فعزل نفسه وقام فأعانه الأمراء، وولاه النائب وحكم الحنفي بصحة الولاية، ونفذها المالكي، فرجع إلى منزله وعلم أنَّ الولاية لم تصح، فصمم على العزل فرسم النائب لنوَّابه بالمباشرة إلى أن يرد أمر السلطان.
ثمَّ وصل بريدي في أواخر شعبان بعوده، ثمَّ وصل بريدي في خامس رمضان بطلب القاضي والشَّيخ وأن يرسلوا بصورة ما جرى للشّيخ في سنة (698). ثمَّ وصل مملوك النائب وأخبر أنَّ الجاشنكير والقاضي المالكي قد قاما في الإنكار على الشَّيخ، وأن الأمر اشتدّ بمصر على الحنابلة حتَّى صفع بعضهم.
ثمَّ توجّه القاضي والشَّيخ إلى القاهرة ومعهما جماعة فوصلا في العشر الأخير من رمضان، وعقد مجلس في ثالث عشريْهِ بعد صلاة الجمعة، فادُّعِيَ على ابن تَيْمِيَّة عند المالكي فقال: هذا عدوِّي ولم يُجب عن الدَّعوى، فكرّر عليه فأصر فحكم المالكي بحبسه، فأُقيم من المجلس وحبس في برج، ثمَّ بلغ المالكي أنَّ النَّاس يترددون إليه فقال: يجب التَّضييق عليه إن لم يُقتل وإلا فقد ثبت كفره، فنقلوه ليلة عيد الفطر إلى الجبِّ، وعاد القاضي الشَّافعيّ إلى ولايته ونُودي بدمشق: من اعتقد عقيدة ابن تَيْمِيَّة حلّ دمه وماله خصوصًا الحنابلة، فنودي بذلك وقرئ المرسوم وقرأها ابن الشِّهاب محمود في الجامع، ثمَّ جمعوا الحنابلة من الصّالحية وغيرها وأشهدوا على أنفسهم أنهم على معتقد الإمام الشَّافعيّ، وذكر ولد الشَّيخ جمال الدِّين ابن الظاهري في كتاب كتبه لبعض معارفه بدمشق أن جميع من بمصر من القضاة والشُّيوخ والفقراء والعلماء والخواص يحطّون على ابن تَيْمِيَّة، إلَّا الحنفي فإنه يتعصّب له، وإلّا الشَّافعيّ فإنه ساكت عنه.
وكان من أعظم القائمين عليه الشَّيخ نصر المنبجي لأنه كَانَ بلغ ابن تَيْمِيَّة أنَّه يتعصب لابن العربي فكتب إليه كتابًا يُعاتبه على ذلك، فما أعجبه لكونه بالغ في الحطِّ على ابن العربي وتكفيره، فصار هو يحطّ على ابن تَيْمِيَّة
ويغري به بيبرس الجاشنكير، وكان بيبرس يفرط في محبة نصر ويعظِّمه، وقام القاضي زين الدِّين ابن مخلوف قاضي المالكية مع الشِّيخ نصر وبالغ في أذية الحنابلة، واتفق أنَّ قاضي الحنابلة شرف الدِّين الحَرَّاني كَانَ قليل البضاعة في العلم، فبادر إلى إجابتهم في المعتقد واستكتبوه خطَّه بذلك، واتفق أنَّ قاضي الحنفية بدمشق، وهو شمس الدِّين ابن الحريري انتصر لابن تَيْمِيَّة، وكتب في حقه محضرًا بالثناء عليه بالعلم والفهم، وكتب فيه بخطه ثلاثة عشر سطرًا من جملتها أنَّه منذ ثلاثمائة سنة ما رأى النَّاس مثله، فبلغ ذلك ابن مخلوف فسعى في عزل ابن الحريري، فعُزِل وقرر عوضه شمس الدِّين الأذرعي، ثمَّ لم يلبث الأذرعي أن عُزِل في السنة المقبلة.
وتعصّب سلار لابن تَيْمِيَّة وأحضر القضاة الثلاثة الشَّافعيّ والمالكي والحنفي وتكلّم معهم في إخراجه فاتفقوا على أنَّهم يشترطون فيه شروطًا، وأن يرجع عن بعض العقيدة، فأرسلوا إليه مرَّات فامتنع من الحضور إليهم واستمر، ولم يزل ابن تَيْمِيَّة في الجب إلى أن شفع فيه مهنَّا أمير آل فضل فأخرج في ربيع الأول في الثالث وعشرين منه، وأُحضر إلى القلعة، ووقع البحث مع بعض الفقهاء، فكتب عليه محضر بأنه قال: أنا أشعري، ثمَّ وجد خطه بما نصه: الَّذي أعتقد أّنَّ القرآن معنًى قائم بذات الله، وهو صفة من صفات ذاته القديمة، وهو غير مخلوق، وليس بحرف ولا صوت، وأن قوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] ليس على ظاهره، ولا أعلم كُنْه المراد به، بل لا يعلمه إلَّا الله، والقول في النزول كالقول في الاستواء. وكتبه أحمد بن تَيْمِيَّة
(1)
. ثمَّ أشهدوا عليه أنَّه تاب مما ينافي ذلك مختارًا، وذلك في
(1)
فصَّلنا القول في هذا الرجوع والمكتوب في المقدمة (ص 44).
خامس عشري ربيع الأول سنة (707) وشهد عليه بذلك جمع جمّ من العلماء وغيرهم، وسكن الحال وأُفرج عنه وسكن القاهرة.
ثمَّ اجتمع جمع من الصوفية عند تاج الدِّين ابن عطاء، فطلعوا في العشر الأوسط من شوال إلى القلعة، وشكوا من ابن تَيْمِيَّة أنَّه يتكلم في حق مشايخ الطريق، وأنَّه قال: لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم فاقتضى الحال أن أمر بتسييره إلى الشَّام، فتوجه على خيل البريد
…
(1)
وكل ذلك والقاضي زين الدِّين ابن مخلوف مشتغل بنفسه بالمرض، وقد أشرف على الموت وبلغه سفر ابن تَيْمِيَّة فراسل النائب، فرده من بلبيس وادعي عليه عند ابن جماعة، وشهد عليه شرف الدِّين ابن الصابوني، وقيل إنَّ علاء الدِّين القونوي أيضًا شهد عليه؛ فاعتقل بسجن بحارة الدَّيلم في ثامن عشر شوال إلى سلخ صفر سنة (709). فنقل عنه أنَّ جماعة يترددون إليه، وأنَّه يتكلَّم عليهم في نحو ما تقدم فأمر بنقله إلى الإسكندرية، فنقل إليها في سلخ صفر، وكان سفره صحبة أمير مقدم، ولم يمكن أحدًا من جهته من السفر معه، وحبس ببرج شرقي، ثمَّ توجّه إليه بعض أصحابه فلم يمنعوا منه، فتوجّهت طائفة منهم بعد طائفة، وكان موضعه فسيحًا، فصار النَّاس يدخلون إليه ويقرؤون عليه ويبحثون معه. قرأت ذلك في «تاريخ البرزالي» .
فلم يزل إلى أن عاد النّاصر إلى السلطنة فشفع فيه عنده، فأمر بإحضاره، فاجتمع به في ثامن عشر شوال سنة تسع، فأكرمه، وجمع القضاة وأصلح بينه وبين القاضي المالكي، فاشترط المالكي أن لا يعود، فقال له السلطان: قد تاب.
(1)
بياض بالأصل.
وسكن القاهرة وتردد النَّاس إليه إلى أنْ توجه صحبة الناصر إلى الشَّام بنية الغزاة في سنة (712) وذلك في شوال، فوصل دمشق في مستهل ذي القعدة فكانت مدة غيبته عنها أكثر من سبع سنين، وتلقاه جمع عظيم فرحًا بمقدمه، وكانت والدته إذ ذاك في قيد الحياة.
ثمَّ قاموا عليه في شهر رمضان سنة (719) بسبب مسألة الطَّلاق، وأُكِّد عليه المنع من الفتيا، ثمَّ عقد له مجلس آخر في رجب سنة عشرين، ثم حبس بالقلعة ثمَّ أُخرج في عاشوراء سنة (721).
ثمَّ قاموا عليه مرة أُخرى في شعبان سنة (726) بسبب مسألة الزيارة، واعتقل بالقلعة، فلم يزل بها إلى أن مات في ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة سنة (728). قال الصّلاح الصّفدي: كَانَ كثيرًا ما ينشد:
تموتُ النفوسُ بأوْصابِها
…
ولم تدرِ عوَّادُها ما بها
وما أنْصَفَتْ مهجةٌ تشتكي
…
أذاها إلى غيرِ أحبابها
وكان يُنْشد كثيرًا:
مَنْ لم يُقَدْ ويُدَسَّ في خَيْشومِهِ
…
رَهَجُ الخميسِ فلن يقودَ خميسا
وأنشد له على لسان الفقراء:
والله ما فَقْرُنا اختيارُ
…
وإنّما فقرُنا اضطرارُ
جماعةٌ كُلُّنا كُسالى
…
وأكلُنا ما لهُ عيارُ
تسمعُ منّا إذا اجتمعنا
…
حقيقةً كُلُّها فشارُ
وسرد أسماء تصانيفه في ثلاثة أوراق كبار، وأورد فيه من أمداح أهل عصره كابن الزَّمْلكاني قبل أنْ ينحرف عليه، وكأبي حيّان كذلك وغيرهما،
قال: ورثاه محمود بن عليّ الدقوقي ومجير الدِّين ابن الخياط وصفي الدِّين عبد المؤمن البغدادي وجمال الدِّين ابن الأثير وتقي الدِّين محمد بن سليمان الجعبري وعلاء الدِّين بن غانم وشهاب الدِّين ابن فضل الله وزين الدِّين ابن الوردي وجمع جمّ وأورد لنفسه فيه مرثية على قافية الضاد المعجمة.
قال الذَّهَبيّ ما ملخصه: كَانَ يقضى منه العجب إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف واستدل ورجّح وكان يحق له الاجتهاد لاجتماع شروطه فيه.
قال: وما رأيتُ أسرع انتزاعًا للآيات الدالة على المسألة الَّتي يوردها منه، ولا أشد استحضارًا للمتون وعزوها منه كأن السُّنة نصب عينيه وعلى طرف لسانه بعبارة رشيقة وعين مفتوحة، وكان آية من آيات الله في التفسير والتوسع فيه. وأما أُصول الديانة ومعرفة أقوال المخالفين فكان لا يشق غباره فيه. هذا مع ما كَانَ عليه من الكرم والشجاعة والفراغ عن ملاذِّ النفس ولعلَّ فتاويه في الفنون تبلغ ثلثمائة مجلد بل أكثر، وكان قوَّالًا بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم.
ثمَّ قال: ومن خالطه وعرفه؛ فقد ينسبني إلي التقصير فيه، ومن نابذه وخالفه قد ينسبني إلى التغالي فيه، وقد أُوذيت من الفريقين؛ من أصحابه وأضداده، وكان أبيض أسود الرأس واللحية قليل الشيب، شعره إلى شحمة أذنية وكأن عينيه لسانان ناطقان، رَبْعةً من الرِّجال، بعيد ما بين المنكبين، جهوري الصوت فصيحًا سريع القراءة تعتريه حِدّة لكن يقهرها بالحلم.
قال: ولم أر مثله في ابتهاله واستغاثته وكثرة توجُّهه، وأنا لا أعتقد فيه عصمة، بل أنا مُخالف له في مسائل أصلية وفرعية، فإن كَانَ مع سعة علمه،
وفرط شجاعته، وسيلان ذهنه، وتعظيمه لحرمات الدِّين، بشرًا من البشر تعتريه حدة في البحث، وغضب وشظف للخصم؛ تزرع له عداوة في النفوس وإلّا لو لاطَفَ خصومه لكان كلمة إجماعٍ؛ فإنَّ كبارهم خاضعون لعلومه معترفون بشفوفه مقرّون بندور خطئه وأنّه بحر لا ساحل له، وكنز لا نظير له، ولكن ينقمون عليه أخلاقًا وأفعالًا وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك.
قال: وكان محافظًا على الصلاة والصوم، معظِّمًا للشرائع ظاهرًا وباطنًا لا يؤتى من سوءِ فهم فإنّ له الذكاء المفرط، ولا من قلة علم فإنَّه بحر زخار، ولا كَانَ متلاعبًا بالدين ولا ينفرد بمسائله بالتشهِّي ولا يطلق لسانه بما اتفق، بل يحتج بالقرآن والحديث والقياس ويبرهن ويناظر أُسوةَ من تقدمه من الأئمة، فله أجر على خطئه، وأجران على إصابته.
إلى أن قال: تمرَّض أيامًا بالقلعة بمرض جد إلى أنْ مات ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة وصلي عليه بجامع دمشق وصار يضرب بكثرة من حضر جنازته المثل، وأقل ما قيل في عددهم أنَّهم خمسون ألفًا.
قال الشهاب ابن فضل الله: لما قدم ابن تَيْمِيَّة على البريد إلى القاهرة في سنة سبع مئة نزل عند عمي شرف الدين، وحض أهل المملكة على الجهاد فأغلظ القول للسلطان والأمراء، ورتَّبوا له في مقرِّ إقامته في كل يوم دينارًا ومخفقة
(1)
طعام فلم يقبل شيئًا من ذلك، وأرسل له السلطان بقجة قماش فردّها، قال: ثمَّ حضر عنده شيخنا أبو حيّان فقال: ما رأتْ عيناي مثل هذا
(1)
كذا هنا، وتقدم في «مسالك الأبصار» و «المقفى»:«دينار ومحفية وبقجة قماش» . ولعلها: «مِحَفّة» .
الرجل، ثمَّ مدحه بأبيات ذكر أنَّه نظمها بديهًا وأنشده إيَّاها.
لمَّا أتانا تقيُّ الدِّين لاحَ لنا
…
داعٍ إلى اللهِ فردٌ ما له وَزَرُ
على مُحَيَّاهُ من سِيْمَا الأُلَى صَحِبُوا
…
خيرَ البريَّةِ نورٌ دونَه القَمَرُ
حَبْرٌ تَسَرْبَلَ منه دَهرُه حِبرًا
…
بَحرٌ تَقَاذَفُ مِن أمواجه الدُّرَرُ
قامَ ابنُ تَيميَّةٍ في نَصْر شِرعَتِنَا
…
مَقامَ سَيِّدِ تَيْمٍ إذْ عَصَتْ مُضَرُ
وأظهرَ الحقَّ إذ آثارُهُ اندرست
…
وأخمدَ الشَّرَّ إذ طارتْ له شررُ
كُنّا نُحدَّث عن حَبْرٍ يجيءُ فهَا
…
أنتَ الإمامُ الذي قد كان يُنتظر
ثمَّ دار بينهما كلام فجرى ذكر سيبويه فأغلظ ابن تَيْمِيَّة القول في سيبويه فنافره أبو حيان وقطعه بسببه، ثمَّ عاد ذامًّا له وصيَّر ذلك ذنبًا لا يغفر، قال
(1)
: وحجَّ ابن المحب سنة (34) فسمع من أبي حيان أناشيد فقرأ عليه هذه الأبيات فقال: قد كشطتها من «ديواني» ولا أذكره بخير، فسأله عن السبب في ذلك فقال: ناظرته في شيءٍ من العربية فذكرت له كلام سيبويه فقال: يفشر سيبويه، قال أبو حيان: وهذا لا يستحق الخطاب، ويُقال إنَّ ابن تَيْمِيَّة قال له: ما كَانَ سيبويه نبي النَّحو، ولا كَانَ معصومًا بل أخطأ في الكتاب في ثمانين موضعًا ما تفهمها أنت، فكان ذلك سبب مقاطعته إياه وذكره في تفسيره «البحر» بكل سوءٍ، وكذلك في مختصره «النَّهر»
(2)
.
ورثاه شهاب الدِّين ابن فضل الله بقصيدة رائية مليحة، وترجم له ترجمة هائلة تُنقل من «المسالك» إنْ شاء الله، ورثاه زين الدِّين ابن الوردي بقصيدة
(1)
هذا القول ليس للشهاب بن فضل الله.
(2)
لم نجد ذمَّه لشيخ الإسلام في «البحر» وهو في «النهر» في مواضع!
لطيفة طائية، وقال جمال الدِّين السُّرمري في «أماليه»: ومن عجائب ما وقع في الحفظ من أهل زماننا: أنَّ ابن تَيْمِيَّة كَانَ يمر بالكتاب مطالعةً مرّة فينتقش في ذهنه وينقله في مصنَّفاته بلفظه ومعناه، وقال الآقشهري في «رحلته» في حق ابن تَيْمِيَّة: بارع في الفقه والأصلين والفرائض والحساب وفنون أُخر، وما من فنِّ إلا له فيه يدٌ طُولى، وقلمه ولسانه متقاربان.
قال الطوفي: سمعته يقول: من سألني مستفيدًا حقَّقت له، ومن سألني متعنتًا ناقضته فلا يلبث أنْ ينقطع فأُكفى مؤنته.
وذكر تصانيفه وقال في كتابه «إبطال الحيل» : عظيم النفع، وكان يتكلّم على المنبر على طريقة المفسرين مع الفقه والحديث فيورد في ساعة من الكتاب والسنة واللغة والنظر ما لا يقدر أحد على أن يورده في عدّة مجالس كأّنَّ هذه العلوم بين عينيه يأخذ منها ما يشاء ويذر، ومن ثمَّ نُسِب أصحابه إلى الغلو فيه واقتضى له ذلك العُجْب بنفسه! حتَّى زُهي على أبناء جنسه! واستشعر أنَّه مجتهد فصار يرد على صغير العلماء وكبيرهم قديمهم وحديثهم، حتَّى انتهى إلى عمر فخطّأه في شيء، فبلغ الشَّيخ إبراهيم الرقي فأنكر عليه فذهب إليه واعتذر واستغفر، وقال في حق عليّ: أخطأ في سبعة عشر شيئًا ثمَّ خالف فيها نص الكتاب منها اعتداد المتوفى عنها زوجها أطول الأجلين، وكان لتعصُّبه لمذهب الحنابلة يقع في الأشاعرة حتَّى إنَّه سبَّ الغزالي، فقام عليه قوم كادوا يقتلونه
(1)
. ولما قدم غازان بجيوش التتر إلى
(1)
ما نقله الحافظ هنا عن الآقشهري أو غيره لم نجده في المصادر السابقة! ولم نجد ما يوافق ما ذكر في مؤلفات الشيخ رحمه الله.
الشَّام خرج إليه وكلّمه بكلام قوي فهمَّ بقتله
(1)
ثمَّ نجا واشتهر أمره من يومئذ.
واتفق [أن] الشَّيخ نَصْر المنبجي كَانَ قد تقدم في الدولة لاعتقاد بيبرس الجاشنكير فيه، فبلغه أنَّ ابن تَيْمِيَّة يقع في ابن العربي لأنَّه كَانَ يعتقد أنَّه مستقيم، وأن الَّذي ينسب إليه من الاتحاد أو الإلحاد من قصور فهم من ينكر عليه، فأرسل ينكر عليه وكتب إليه كتابًا طويلًا ونسبه وأصحابه إلى الاتحاد الَّذي هو حقيقة الإلحاد، فَعَظُم ذلك عليهم وأعانه عليه قوم آخرون ضبطوا عليه كلمات في العقائد مغيرة وقعت منه في مواعيده وفتاويه فذكروا أنَّه ذكر حديث النزول فنزل عن المنبر درجتين فقال: كنزولي هذا فنسب إلى التجسيم
(2)
، ورده على من توسَّل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو استغاث فاُشخِصَ من دمشق في رمضان سنة خمس وسبعمائة فجرى عليه ما جرى وحبس مرارًا فأقام على ذلك نحو أربع سنين أو أكثر وهو مع ذلك يشغل ويفتي إلى أن اتفق أنَّ الشَّيخ نصرًا قام على الشَّيخ كريم الدِّين الآملي شيخ خانقاه سعيد السعداء فأخرجه من الخانقاه، وعلى شمس الدِّين الجزري فأخرجه من تدريس الشريفية، فيقال: إنَّ الآملي دخل الخلوة بمصر أربعين يومًا فلم يخرج حتَّى زالت دولة بيبرس وخمل ذكر نصر وأطلق ابن تَيْمِيَّة إلى الشَّام.
وافترق النَّاس فيه شيعًا فمنهم من نسبه إلى التّجسيم لما ذكر في «العقيدة الحموية» و «الواسطية» وغيرهما من ذلك كقوله: إنَّ اليد والقدم والسّاق
(1)
هذا مخالف لما ورد في المصادر، من تعظيم غازان لشيخ الإسلام وطلب الدعاء منه
…
(2)
هذا ذكره ابن بطوطة في رحلته، وهو غير ثابت تاريخيًّا، وقد نقضه غير واحد من العلماء، ذكرناهم في تعليقنا على «رحلة ابن بطوطة» من هذا الكتاب (ص 575).
والوجه صفات حقيقية لله، وأنَّه مستوٍ على العرش بذاته، فقيل له: يلزم من ذلك التحيز والانقسام فقال: أنا لا أسلّم أنَّ التحيز والانقسام من خواصِّ الأجسام، فألزم بأنه يقول بتحيز في ذات الله، ومنهم من ينسبه إلى الزندقة لقوله: إنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لا يُستغاث به، وأن في ذلك تنقيصًا ومنعًا من تعظيم النَّبي صلى الله عليه وسلم، وكان أشد النَّاس عليه في ذلك النور البكري فإنه لما عقد له المجلس بسبب ذلك قال بعض الحاضرين: يُعزَّر، فقال البكري: لا معني لهذا القول فإنه إن كَانَ تنقيصًا يُقتل وإن لم يكن تنقيصًا لا يعزَّر، ومنهم من ينسبه إلى النفاق لقوله في عليّ ما تقدّم، ولقوله: إنَّه كان مخذولًا حيثما توجَّه وإنه حاول الخلافة مرارًا فلم ينلها وإنما قاتل للرياسة لا للديانة، ولقوله: إنَّه كَانَ يحب الرياسة، وأن عثمان كَانَ يحب المال، ولقوله: أبو بكر أسلم شيخًا [لا] يدري ما يقول، وعليّ أسلم صبيًّا والصبي لا يصح إسلامه على قول، وبكلامه في قصة خطبة بنت أبي جهل ومات ما نسبها من الثناء على
(1)
…
وقصة أبي العاص بن الربيع وما يؤخذ من مفهومها فإنه شنع في ذلك فألزموه بالنفاق لقوله صلى الله عليه وسلم: «ولا يبغضك إلَّا منافق» ، ونسبه قوم إلى أنَّه يسعى في الإمامة الكبرى فإنَّه كَانَ يلهج بذكر ابن تومرت ويطريه فكان ذلك مؤكدًا لطول سَجنه، وله وقائع شهيرة وكان إذا حوقق وألزم يقول: لم أُرد هذا إنما أردت كذا فيذكر احتمالًا بعيدًا
(2)
.
(1)
كذا في الأصل، والعبارة قلقة.
(2)
جميع ما نقله الحافظ عن الآقشهري في «رحلته» مخالف لكل ترجمات الشيخ، وغريب من الحافظ استرواحه لهذه الأخبار التي لا أساس لها من الصحة، واعتماده على الآقشهري مع تفرُّده بها.
قال: وكان من أذكياء العالم وله في ذلك أُمور عظيمة، منها: أنَّ محمد بن أبي بكر السّكاكيني عمل أبياتًا على لسان ذمِّي في إنكار القدر وأولها:
أيا علماء الدِّين ذمِّي دينكم
…
تحير دُلُّوه بأعظم حُجَّة
إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم
…
ولم يرضه مني فما وجه حيلتي
فوقف عليه ابن تَيْمِيَّة فثنى إحدى رجليه على الأخرى وأجاب في مجلسه قبل أن يقوم بمائة وتسعة عشر بيتًا أولها:
سُؤالك يا هذا سؤال معاند
…
مخاصم ربِّ العرش باري البرية
وكان يقول: أنا فاقرت في الأقفاص
(1)
.
وقال شيخ شيوخنا الحافظ أبو الفتح اليعمري في ترجمة ابن تَيْمِيَّة: حداني ــ يعني المزي ــ على رؤية الشَّيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدِّين فألفيته ممن أدرك من العلوم حظَّا وكاد يستوعب السنن والآثار حفظًا، إن تكلّم في التفسير فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكَرَ في الحديث فهو صاحب علمِه وذُو روايته، أو حاضَر بالمِلَل والنِّحَل لم يُرَ أوْسَعُ مِن نحْلتِه في ذلك ولا أرفعُ من درايته، برز في كلِّ فنّ على أبناء جنسه، ولم تَرَ عين من رآه مثلَه ولا رأتْ عينُهُ مثل نَفْسِه، كَانَ يتكلّم في التفسير فيحضر مجلسه الجم الغفير، ويَرِدُون من بحره العذب النمير، يرتعون من ربيع فضله في روضة وغدير، إلى أن دبّ إليه من أهل بلده داء الحسد، وأكب أهل النَّظر منهم على ما ينتقد عليه من أمور المعتقد، فحفِظُوا عنه في ذلك
(1)
كذا في الأصل، ونسخة:«ناقرت» .
كلامًا، أوسعوه بسببه ملامًا، وفوَّقُوا لتبديعه سِهامًا، وزعموا أنَّه خالف طريقهم، وفرَّق فريقَهم، فنازعهم ونازعوه، وقاطع بعضَهم وقاطعوه، ثمَّ نازع طائفة أخرى ينتسبون من الفقر إلى طريقة، ويزعمون أنهم على أدقِّ باطن منها وأجلى حقيقة، فكشف تلك الطرائق، وذكر [لها]ــ على ما زعم ــ بوائق، فآضَتْ إلى الطَّائفة الأُولى من منازعيه، واستعانت بذوي الضِّغْن عليه من مقاطعيه، فوصلوا بالأمر أمرَه، وأعمل كلّ منهم في كُفْره فِكْرَه، فرتَّبوا محاضر، وألَّبوا الرُّوَيْبِضَة للسَّعي بها بين الأكابر، وسعوا في نقله إلى حَضْرة المملكة بالدِّيار المِصْرية فَنُقِلَ، وأُودع السِّجْن ساعةَ حُضُوره واعْتُقِل، وعقدوا لإراقة دمه مجالس، وحشدوا لذلك قَوْمًا من عُمَّار الزَّوايا وسكَّان المدارس، ما بين مُجَامل في المُنَازعة، ومخاتِلٍ بالمخادعَة، ومُجاهر بالتَّكْفير مبارز بالمقاطعة، يسومونه رَيْبَ المَنُون، وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ.
وليس المجاهِر بكفره بأسوأ حالًا من المجامل، وقد دبَّتْ إليه عقارب مكره، فَرَدَّ الله كيد كلٍّ في نحره، ونجاه على يد من اصْطَفَاه، والله غالب على أمره.
ثمَّ لم يَخْلُ بعد ذلك من فتنة بعد فتنة، ولم ينتقل طول عمره من محنة [إلّا] إلى محنة، إلى أنْ فُوِّض أمره إلى بعض القُضَاة فتقلَّد ما تقلَّد من اعتقاله، ولم يزلْ بمحبسه ذلك إلى حين ذهابه إلى رحمة الله تعالى وانتقاله، وإلى الله ترجع الأُمور، وهو مطَّلع على خائنة الأعين وما تخفي الصُّدور.
وكان يومه مشهودًا، ضاقت بجنازته الطريق، وانتابها المسلمون من كلِّ فَجٍّ عميق، يتقربون بمشهده يوم يقوم الأشهاد، ويتمسكون بسريره حتَّى كسروا تلك الأعواد.
قال الذَّهَبيّ مترجمًا له في بعض الإجازات: قرأ القُرْآن والفِقْه، وناظر واستدلَّ وهو دون البلوغ، وبَرَعَ في العلم والتفسير، وأفتى ودرَّس وهو دون العشرين، وصنَّف التَّصانيف، وصار من كبار العلماء في حياة شيوخه، وتصانيفُه نحو أربعة آلاف كُرَّاسة وأكثر.
وقال في موضع آخر: وأمَّا نقله للفقه ومذاهب الصَّحابة والتابعين فضلًا عن المذاهب الأربعة فليس له فيه نظير.
وفي موضع آخر: وله باع طويل في معرفة أقوال السلف، وقلَّ أنْ تذكر مسألة إلَّا ويذكر فيها مذاهب الأئمة، وقد خالف الأئمة الأربعة في عدة مسائل صنّف فيها واحتجّ لها بالكتاب والسنة، ولما كَانَ معتقلًا بالإسكندرية التمس منه صاحب سَبْتة أنْ يجيز له بعض مروياته؛ فكتب له جملة من ذلك في عشرة أوراق بأسانيده من حفظه بحيث يعجز أن يعمل بعضه أكبر من يكون، وأقام عدة سنين لا يفتي بمذهب معيَّن.
وقال في موضع آخر: [كان] بصيرًا بطريقة السَّلف، واحتج له بأدلة وأُمور لم يُسبق إليها وأطلق عبارات أحجم عنها غيره حتَّى قام عليه خلق من العلماء بالمصرين فبدّعوه وناظروه، وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي بل يقول الحق إذا أداه إليه اجتهاده وحدة ذهنه وسعة دائرته، فجرى بينهم حملات حربية ووقعات شآمية ومصرية، ورموه عن قوس واحدة ثمَّ نجّاة الله تعالى. وكَانَ دائم الابتهال كثير الاستغاثة قوي التوكل رابط الجأش، له أوراد وأذكار يُدْمنها بكيفية وجمعية.
وكتب الذَّهَبيّ إلى السبكي يُعاتبه بسبب كلام وقع منه في حقِّ ابن تَيْمِيَّة فأجابه ومن جملة الجواب: وأما قول سيدي في الشَّيخ تقي الدِّين فالمملوك
يتحقق كبير قدره، وزخارة بحره، وتوسعه في العلوم النقلية والعقلية، وفرط ذكائه واجتهاده، وبلوغه في كلٍّ من ذلك المبلغ الَّذي يتجاوز الوصف، والمملوك يقول ذلك دائمًا، وقدره في نفسي أكبر من ذلك وأجلّ، مع ما جمعه الله له من الزهادة والورع والديانة، ونصرة الحق، والقيام فيه لا لغرض سواه، وجريه على سنن السَّلف، وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى، وغرابة مثله في هذا الزمان، بل من أزمان.
وقرأت بخط الحافظ صلاح الدِّين العلائي في ثبت شيخ شيوخنا الحافظ بهاء الدِّين عبد الله بن محمد بن خليل ما نصه: وسمع بهاء الدِّين المذكور على الشيخين: شيخنا وسيدنا وإمامنا فيما بيننا وبين الله تعالى شيخ التَّحقيق السالك بمن اتبعه أحسن طريق ذي الفضائل المتكاثرة والحجج القاهرة الَّتي أقرت الأُمم كافة أنَّ هممها عن حصرها قاصرة ومتعنا الله بعلومه الفاخرة ونفعنا به في الدنيا والآخرة وهو الشَّيخ الإمام العالم الرباني والحبر البحر القطب النوراني إمام الأئمة بركة الأمة علامة العلماء وارث الأنبياء آخر المجتهدين أوحد علماء الدِّين شيخ الإسلام حجّة الأعلام قدوة الأنام برهان المتكلمين قامع المبتدعين سيف المناظرين بحر العلوم كنز المستفيدين ترجمان القرآن أعجوبة الزمان فريد العصر والأوان: تقي الدِّين إمام المسلمين حجّة الله على العالمين اللاحق بالصَّالحين والمشبه بالماضين مفتي الفرق ناصر الحق علامة الهدى عمدة الحفاظ فارس المعاني والألفاظ ركن الشريعة ذو الفنون البديعة أبو العَبَّاس ابن تَيْمِيَّة.
وقرأْت بخطِّ الشَّيخ برهان الدِّين محدِّث حلب قال: اجتمعت بالشيخ شهاب الدِّين الأذرعي سنة (779) لما أردت الرحلة إلى دمشق فكتب لي
كتبًا إلى الياسوفي والحسباني وابن الجابي وابن مكتوم وجماعة الشافعية إذ ذاك فحصل لي منهم تعظيم، وذكر لي في ذلك المجلس الشَّيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة وأثنى عليه، وذكر شيئًا من كراماته، وذكر أنَّه حضر جنازته، وأن النَّاس خرجوا من الجامع من كلِّ باب، وخرجت من باب البريد فوقعت سرموزتي فلم أستطع أن أستعيدها وصرت أمشي على صدور النَّاس، ثمَّ لما فرغنا ورجعت لقيت السرموزة ذلك من بركة الشَّيخ رحمه الله.
* * * *
تقريظه على الرد الوافر
(1)
الحمد لله، وسلام على عباده الَّذين اصطفى.
وقفت على هذا التأليف النافع، والمجموع الَّذي هو للمقاصد الَّتي جُمع لأجلها جامع. فتحققت سعة اطلاع الإمام الذي صنّفه. وتضلعه من العلوم النافعة بمَا عظمه بين العلماء وشرفه.
وشهرة إمامة الشَّيخ تقي الدِّين أشهر من الشمس. وتلقيبه بشيخ الإسلام في عصره باقٍ إلى الآن على الألسنة الزكية ويستمر غدًا كما كَانَ بالأمس. ولا ينكر ذلك إلًّا من جهل مقداره. أو تجنب الإنصاف. فمَا أغْلطَ من تعاطى ذلك وأكثر عثاره. فالله تعالى هو المسؤول أن يقينا شرور أنفسنا وحصائد ألسنتنا بمَنِّهِ وفضله.
ولو لم يكن من الدليل على إمامة هذا الرَّجل إلَّا ما نبّه عليه الحافظ الشهير علم الدِّين البرزالي في تاريخه: أنَّه لم يوجد في الإسلام من اجتمع في جنازته لما مات ما اجتمع في جنازة الشَّيخ تقي الدِّين. وأشار إلى أنَّ جنازة الإمام أحمد كانت حافلة جدًّا شهدها مئات ألوف. ولكن لو كَانَ بدمشق من الخلائق نظير من كَانَ ببغداد أو أضعاف ذلك لما تأخر أحد منهم عن شهود جنازته. وأيضًا فجميع من كَانَ ببغداد إلّا الأقل كانوا يعتقدون إمامة الإمام أحمد. وكان أمير بغداد وخليفة الوقت إذ ذاك في غاية المحبة له والتعظيم.
(1)
ساقه في «الجواهر والدرر» : (2/ 734 - 736)، وهو ملحق بآخر الرد الوافر، طبعة المكتب الإسلامي. ونشر هذا التقريظ لأول مرة على هامش «جلاء العينين» (ط. بولاق 1298)(ص 89 - 97).
بخلاف ابن تَيْمِيَّة فكان أمير البلد حين مات غائبًا. وكان أكثر من بالبلد من الفقهاء قد تعصبوا عليه حتَّى مات محبوسًا بالقلعة. ومع هذا فلم يتخلف منهم عن حضور جنازته والترحم عليه والتأسف عليه إلَّا ثلاثة أنفس. تأخروا خشية على أنفسهم من العامة.
ومع حضور هذا الجمع العظيم فلم يكن لذلك باعث إلَّا اعتقاد إمامته وبركته، لا بجمع سلطان ولا غيره، وقد صحّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:«أنتم شهداء الله في الأرض» .
ولقد قام على الشَّيخ تقي الدِّين جماعة من العلماء مرارًا بسبب أشياء أنكروها عليه من الأصول والفروع، وعقدت له بسبب ذلك عدة مجالس بالقاهرة وبدمشق، ولا يحفظ عن أحد منهم أنَّه أفتى بزندقته ولا حكم بسفك دمه، مع شدة المتعصبين عليه حينئذ من أهل الدولة، حتَّى حبس بالقاهرة ثمَّ بالإسكندرية، ومع ذلك فكلهم معترف بسعة علمه وكثرة ورعه وزهده، ووصفه بالسخاء والشجاعة، وغير ذلك من قيامه في نُصرةِ الإسلام والدعاء إلى الله تعالى في السر والعلانية.
فكيف لا ينكر على من أطلق: أنَّه كافر؟ بل من أطلق على من سماه شيخَ الإسلام: الكفر، وليس في تسميته بذلك ما يقتضي ذلك. فإنه شيخ في الإسلام بلا ريب. والمسائل الَّتي أنكرت عليه ما كَانَ يقولها بالتشهي. ولا يصر على القول بها بعد قيام الدليل عليه عنادًا، وهذه تصانيفه طافحة بالرد على من يقول بالتجسيم والتبري منه، ومع ذلك فهو بشرٌ يخطئ ويصيب، فالذي أصاب فيه وهو الأكثر يستفاد منه ويترحم عليه بسببه، والذي أخطأ فيه لا يُقلد فيه، بل هو معذور، لأن أئمة عصره شهدوا له بأن أدوات الاجتهاد
اجتمعت فيه. حتَّى كَانَ أشد المتعصبين عليه، والقائمين في إيصال الشر إليه، وهو الشَّيخ كمال الدِّين الزملكاني يشهد له بذلك. وكذلك الشَّيخ صدر الدِّين ابن الوكيل الَّذي لم يثبت لمناظرته غيره.
ومن أعجب العجب، أنَّ هذا الرَّجل كَانَ أعظم النَّاس قيامًا على أهل البدع من الروافض، والحلولية، والاتحادية، وتصانيفه في ذلك كثيرة شهيرة، وفتاويه فيهم لا تدخل تحت الحصر، فيا قرة أعينهم إذا سمعوا بكفره، ويا سرورهم إذا رأوا من يكفره من أهل العلم
(1)
! !
فالواجب على من تلبَّس بالعلم، وكان له عقل أن يتأمل كلام الرَّجل من تصانيفه المشتهرة، أو من ألسنة من يوثق به من أهل النقل، فيفرد من ذلك ما يُنكر، فيُحذِّر منه على قصد النصح، ويثني عليه بفضائله فيمَا أصاب من ذلك، كدأب غيره من العلماء الأنجاب.
ولو لم يكن للشيخ تقي الدِّين من المناقب إلَّا تلميذه الشهير الشَّيخ شمس الدِّين ابن قيم الجوزية، صاحب التَّصانيف النافعة السائرة، الَّتي انتفع بها الموافق والمخالف، لكان غاية في الدلالة على عظم منزلته.
فكيف وقد شهد له بالتقدم في العلوم، والتميز في المنطوق والمفهوم، أئمة عصره من الشافعية وغيرهم! فضلًا عن الحنابلة.
فالذي يطلق عليه مع هذه الأشياء: الكفر، أو على من سماه شيخ الإسلام، لا يُلتفت إليه، ولا يعول في هذا المقام عليه، بل يجب ردعه عن ذلك، إلى أن يراجع الحق، ويذعن للصواب.
(1)
في نسخة: «من يكفِّر من لا يكفِّره» !
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قاله وكتبه أحمد بن عليّ بن محمد بن حجر الشافعي، عفا الله عنه، وذلك في يوم الجمعة التاسع من شهر ربيع الأوَّل عام خمسة وثلاثين وثمان مئة حامدًا لله، ومصلّيًا على رسوله محمد وآله ومسلمًا.
* * * *
صفحة بيضاء
العلامة بدر الدِّين محمود العيني (855)
1 -
عِقْد الجمان
2 -
تقريظه للرّد الوافر لابن ناصر الدين
صفحة بيضاء
عِقْدُ الجُمَان
(1)
ابن تَيْمِيِّة
هو الشَّيخ الإمام العالم العلَّامة تقي الدِّين أبو العَبَّاس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تَيْمِيِّة الحَرَّاني الحنبلي.
كَانَ إمامًا فاضلًا بارعًا ذا فنون كثيرة، ولاسيما علم الحديث والتفسير والفقه والأصولين، وكان سيفًا صارمًا على المبتدعين، وكانت له مواعيد
(2)
حسنة، وأوقات طيبة، وكان على مكانة عظيمة من الورع، وخشونة العيش، والقناعة، والكفّ عن حطام الدنيا، وله تصانيف مشهورة في علوم شتَّى.
وكان كثير الذِّكر والصوم والصّلاة والعبادة، وكان أمَّارًا للمعروف نهَّاءً عن المنكر، وكان ذا همّة وشجاعة وإقدام، وجرى له حكايات كثيرة فيما يتعلّق بمسائل الطلاق ونحوه، وقد ذكرنا بعضها في أثناء السِّنين الماضية، فآل حاله إلى أنْ اعتُقِل بقلعة دمشق، وتوفي فيها في الثُّلث الأخير من ليلة الاثنين المسْفِر صباحها عن عشرين من ذي القعدة من سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مئة، وكان مرضه مدَّة سبعة عشر يومًا، وصلًّى عليه بباب القلعة الشَّيخ محمد بن تمام، ثمَّ صلّوا عليه في الجامع، ثمَّ دفن في مقابر الصوفية إلى جانب أخيه الشَّيخ شرف الدين.
(1)
نسخة طوب قابي برقم 2199/ 17، بخط المؤلف، (17/ ق 42 ب- 43 أ).
(2)
في الأصل: «مواعيده» !
ومولده في عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وست مئة بحرّان، وقدم مع والده إلى دمشق، ثمَّ أخذ العلوم من مشايخ كثيرةٍ، قال ابن كثير: ويوم مات غلق جميع أسواق دمشق، وامتلأ الجامع أكثر من يوم الجمعة، وحضر الأمراء والحجاب وحملوه على رؤوسهم، وخرجوا به من باب الفرج، وامتدّ إلى مقابر الصُّوفية، وختموا على قبره ختمات، وبات أصحابه على قبره لياليَ.
وكتب قاضي القضاة كمال الدِّين بن الزَّمْلَكاني على بعض مصنفاته:
ماذا يقول الواصفون له
…
وصفاتُه جَلَّتْ عن الحَصْرِ
هو حُجَّةٌ للهِ قاهرةٌ
…
هو بيننا أعجوبَةُ العَصْرِ
هو آيةٌ للخَلْقِ ظاهرةٌ
…
أنوارُها أربتْ على الفَجْر
وفيه يقول العلَّامة أثير الدِّين أبو حيَّان من أبيات:
قامَ ابنُ تَيْمِيِّة في نَصْر شِرعَتِنَا
…
مَقامَ سَيِّدِ تَيْمٍ إذْ عَصَتْ مُضَرُ
فأظهرَ الحقَّ إذ آثارُهُ دَرَسَتْ
…
وأخمدَ الشَّرَّ إذ طارتْ له الشَّرَرُ
كُنّا نُحدَّث عن حَبْرٍ يجيءُ فهَا
…
أنتَ الإمامُ الذي قد كان يُنتظر
ورثاه الإمام زين الدِّين عمر ابن الوردي بقصيدةٍ منها:
عثا في عِرضه قومٌ سِلاط
…
لهم من نَثْر جوهره التقاطُ
تقي الدِّين أحمد خير حَبْر
…
خُروق المعضلات به تُخاطُ
توفّي وهو محبوسٌ فريدٌ
…
وليس له إلى الدُّنيا انبساطُ
ولو حضروه حين قَضَى لألفوا
…
مَلائِكةَ النَّعيم به أحاطُوا
فيالله ماذا ضمَّ لحدٌ
…
ويالله ما غطّى البَلَاطُ
هم حسدوه لمّا لم ينالوا
…
مناقبه فقد مكروا وشاطوا
وكانوا عن طرائقه كسالى
…
ولكن في أذاه لهم نشاط
وحبس الدر في الأصداف فخر
…
وعند اليخ بالسجن اغتباط
بآل الهاشمي له اقتداءٌ
…
فقد ذاقوا المنون ولم تواطوا
إمام لا وِلاية كان يرجو
…
ولا وقف عليه ولا رِباط
ولا جاراكم في كسب مالٍ
…
ولم يُعهد له بكم اختلاط
سيظهر قصدكم يا حابسيه
…
ونيتكم إذا نُصب الصراط
فها هو مات عنكم واسترحتم
…
فعاطوا ما أردتم أن تُعاطوا
وحلوا واعقدوا من غير ردٍّ
…
عليكم وانطوى ذاك البساط
* * * *
تقريظه للرّد الوافر لابن ناصر الدِّين
(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
إن أضوَع زهر تفتق عنه أكمام ألسن الأنام. وأبدعَ ذكرٍ يعبق منه طيب الأفهام، حمد من أجرى ماء التبيان في عود اللسان. لحمل ثمار المعاني والبيان، وكشف ضبابة الأوهام بشموس الحقائق، وأبان ما في القلوب بأقمار الدقائق، وأشرع أسنة الخواطر والأفكار، بأيدي أنوار البصائر والأبصار، إلى ثغر العلوم والأخبار، وأقلع عنا بنسائم ألطافه عجاجة الظنون والشكوك، ووقع لنا مناشير الصدق في السلوك، وأراحنا في ركوب أعناق الكلام، من العثرات والملام، وأزاحنا عن مقالات لا يُقال فيها العِثار، ومحالات يستحيل فيها الإعذار، اللهم صلِّ على صاحب الوحي والرسالة، المخلوق من طينة الفصاحة والبسالة، الَّذي أصعدته ذرى الملكوت وأعطيته الكتاب، وقرنت بطاعته ومعصيته الثواب والعقاب، محمد المصطفى المستأثر بالشفاعة يوم الحساب، وعلى آله الَّذين استأسدوا في رياض نبوته، وأصحابه الَّذين تقلدوا بسيوف النصرة في دعوته، وعلى علماء الأمة الَّذين استظهروا على صدمات الدهر وصولته بنزع ألسنتهم من تفويق سهام الطعن إلى أغراض العصبية، وإقلاع أسنة خوضهم في أعراض الأنفس الأبية، فلذلك صاروا أنجمًا للاهتداء، وبدورًا للاقتداء، فأجدر بهم أن يفوه لهم بمشايخ الإسلام، وأنصار شرائع خير الأنام.
(1)
ملحق بآخر «الرد الوافي» طبعة المكتب الإسلامي. ونشر هذا التقريظ لأول مرة على هامش «جلاء العينين» (ط. بولاق 1298)(ص 109 - 123).
وبعد؛ فإنَّ مؤلف كتاب «الرد الوافر» قد جد في هذا التَّصنيف البديع الزاهر وجلا بمنطقه السحار، الرد على من تفوه بالإكفار، علماء الإسلام، والأئمة الأساطين الأعلام، الَّذين تبوؤوا الدار في رياض النعيم، واستنشقوا رياح الرحمة من رب كريم، فمن طعن في واحد منهم، أو نقل غير صحيح قيل عنهم، فكأنمَا نفخ في الرماد، أو اجتنى من خرط القتاد، وكيف يحل لمن يتسمى بالإسلام، أو يتسِمُ بسِمةٍ من علم أو فهم أو إفهام، أن يكفر من قلبه عن ذلك سليم بهيج، واعتقاده لا يكاد إلى ذلك يهيج، ومن لم يورِ زَنْد طبعه في القريض، لم يزل يجد العذب مرًّا كالمريض، والعائب لجهله شيئًا يبدي صفحة معاداته، ويتخبط خبط العشواء في محاوراته، وليس هو إلَّا كالجُعل باشتمام الورد يموت حتف أنفه، وكالخفاش يتأذى ببهور سناء الضوء لسوء بصره وضعفه، وليس سجية نقادة، ولا رَويَّة وقَّادة، وما هم إلَّا صلقع بلقع سلقع، والمكفر منهم صلمعة بن قلمعة، وهيان بن بيان، وهي بن بيّ، وضل بن ضل، وضلال بن التلال.
ومن الشائع المستفيض أنَّ الشَّيخ الإمام العالم العلامة تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة من شُمّ عرانين الأفاضل، ومن جم براهين الأماثل، الَّذي كَانَ له من الأدب مآدب تغذي الأرواح، ومن نخب الكلام له سلافة تهز الأعطاف المراح، ومن يانع ثمار أفكار ذوي البراعة طبعه المفلق في الصناعة، الخالية عن وصمة الفجاجة والبشاعة، وهو الكاشف عن وجوه مخدرات المعاني نقابها، والمفترع عرائس المباني بكشف جلبابها، وهو الذاب عن الدِّين طعنَ الزنادقةِ والملحدين، والناقد للمرويات عن النبي سيد المرسلين، وللمأثورات من الصَّحابة والتابعين.
فمن قال: هو كافر! ! فهو كافر حقيق! ! ومن نسبه إلى الزندقة! ! فهو زنديق! !
وكيف ذاك وقد سارت تصانيفه في الآفاق، وليس فيها شيء ممَّا يدل على الزيغ والشقاق، ولم يكن بحثه فيما صدر عنه في مسألة الزيارة والطلاق: إلَّا عن اجتهاد سائغ بالاتفاق، والمجتهد في الحالتين مأجور مثاب، وليس فيه شيء مما يلام أو يعاب. ولكن حملهم على ذلك حسدهم الظاهر، وكيدهم الباهر، وكفى للحاسد ذمًّا آخر سورة الفلق في احتراقاته بالفلق، ومن طعن في واحد ممن قضى نحبه منهم، أو نقل غير ما صدر عنهم، فكأنمَا أتى بالمحال، واستحق به سوء النكال.
وهو الإمام الفاضل البارع التقي النقي الوارع الفارس في علمي الحديث والتفسير، والفقه والأصولين بالتقرير والتحرير، والسيف الصارم على المبتدعين، والحبر القائم بأمور الدين، والأمّار بالمعروف والنّهاء عن المنكر. ذو همة وشجاعة وإقدام فيمَا يَرْدَع ويزجر، كثير الذكر والصوم والصلاة والعبادة، خشن العيش والقناعة، من دون طلب الزيادة، وكانت له المواعيد الحسنة السنية، والأوقات الطيبة البهية، مع كفه عن حطام الدنيا الدنية، وله المصنفات المشهورة المقبولة، والفتاوي القاطعة غير المعلولة. وقد كتب على بعض مصنفاته قاضي القضاة كمال الدِّين ابن الزَّمْلَكاني رحمه الله تعالي:
ماذا يقول الواصفون له
…
وصفاتُه جَلَّتْ عن الحَصْرِ
هو حُجَّةٌ للهِ قاهرةٌ
…
هو بيننا أعجوبَةُ الدَّهر
وقد عرفتَ ترجمة ابن الزَّمْلَكاني.
وهو: الإمام أبو المعالي كمال الدِّين محمد ابن الإمام علاء الدِّين أبي الحسن علي بن كمال الدِّين أبي محمد عبد الواحد بن عبد الكريم بن خلف بن نبهان الأنصاري، الشهير بابن الزَّمْلَكاني الشافعي، أخذ النحو عن بدر الدِّين بن مالك، والفقه عن الشَّيخ تاج الدِّين عبد الرَّحمن، والأصول عن قاضي القضاة بهاء الدِّين ابن الزكي.
وكان كثير الفضل سريع الإدراك يتوقد ذكاء وفطنة، وأجمع الناس على فضله، وانتهت إليه رئاسة المذهب في عصره، وتولى قضاء حلب وأقام بها إلى حين طلب إلى مصر.
ومات بمدينة بلبيس يوم الأربعاء السادس عشر من رمضان، من سنة سبع وعشرين وسبعمائة، وحمل من بلبيس إلى القرافة، ودفن بالقرب من قبر قاضي القضاة إمام الدِّين القزويني، بجوار قبة الإمام الشَّافعيّ ـ بظاهر القاهرة ـ رحمهم الله تعالى، وكان قد طُلب ليتولى قضاء دمشق ومن شعره:
سواكم بقلبي لا يحِلُّ ولا يحلو
…
كما أنه من حُبّكم قط لا يخلو
حللتم عُرى صَبري وحلَّلتم دمي
…
وحرَّمتُمُ وصلي فلذّ لِيَ القتل
إلى غير ذلك من الأبيات.
ولما قدم إلى حلب حاكمًا، نزل بمشهد الفردوس ظاهرها، فقال الأديب شمس الدِّين محمد بن يوسف الدِّمشقي:
يا حاكم الحكام يا مَنْ به
…
قد شرفت رتبته الفاخره
ومن سقى الشهباء مُذ حلها
…
بحار علم وندًى زاخره
نزلت بالفردوس فابشر به
…
دارك في الدنيا وفي الآخره
وكتب إليه الشَّيخ جلال الدِّين القلانسي أبياتًا كذلك، وكذلك الشَّيخ جمال الدِّين ابن نُباتة المصري، ثمًّ رثاه بقصيدة يطول ذكر ذلك هاههنا.
أفلا تكفي شهادة هذا الحبر لهذا الإمام، حيث أطلق علية: حجة الله في الإسلام، ودعواه أنَّ صفاته الحميدة لا يمكن حصرها، ويعجز الواصفون عن عدها وزبرها.
فإذا كَانَ كذلك كيف لا يجوز إطلاق: شيخ الإسلام عليه؟ أو التوجه بذكره إليه؟ وكيف يسوغ إنكار المعاند الماكر الحاسد؟ وليت شعري ما متمسك هذا المكابر، المجازف الجاهل المجاهر، وقد عُلم أنَّ لفظة الشَّيخ لها معنيان؛ لغوي، واصطلاحي.
فمعناه اللغوي: الشَّيخ من استبان فيه الكبر.
ومعناه الاصطلاحي: الشَّيخ من يصلح أن يتلمذ له.
وكلا المعنين موجود في الإمام المذكور، ولا ريب أنَّه كَانَ شيخًا لجماعة من علماء الإسلام، ولتلامذة من فقهاء الأنام، فإذا كَانَ كذلك كيفَ لا يطلق عليه: شيخ الإسلام؟ لأن من كَانَ شيخ المسلمين يكون شيخًا للإسلام، وقد صرح بإطلاق ذلك عليه قضاة القضاة الأعلام، والعلماء الأفاضل أركان الإسلام، وهم الَّذين ذكرهم مؤلف كتاب «الرد الوافر» في رسالته الَّتي أبدع فيها بالوجه الظاهر، وقد استغنينا بذكره عن إعادته، فالواقف عليه يتأمله، والناظر فيه يتقبله.
وأما مَاجَرَيَات هذا الإمام فكثيرة في مجالس عديدة، فلم يظهر في ذلك لمعانديه فيمَا ادُّعِيَ به عليه برهان، غير تنكيدات رسخت في القلوب من ثمرات الشنآن، وقصارى ذلك أنَّه حبس بالظلم والعدوان، وليس في ذلك ما
يعاب به ويشان، وقد جرى علي جلّة من التَّابعين الكبار، من قتل وقيد وحبس وإشهار، وقد حبس الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه، ومات في الحبس، فهل قال أحدٌ من العلماء: إنَّه حبس حقًّا.
وحُبِس الإمام أحمد رضي الله عنه، وقُيِّد لما قال قولًا صدقًا.
والإمام مالك رضي الله عنه ضُرِب ضربًا مؤلمًا شديدًا بالسياط.
والإمام الشَّافعيّ رضي الله عنه حمل من اليمن إلى بغداد بالقيد والاحتياط.
وليس ببدع أن يجري على هذا الإمام ما جرى على هؤلاء الأئمة الأعلام.
وكان آخر حبسه بقلعة دمشق، وتوفي فيها في الثلث الأخير من ليلة الاثنين المسفر صباحها عن عشرين من ذي القعدة، من سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، وكان مرضه سبعةَ عشر يومًا، وصلى عليه بباب القلعة الشَّيخ محمد بن تمام، ثمَّ صلوا عليه في الجامع الأموي، ثمَّ دفن في مقابر الصوفية إلى جانب أخيه الشَّيخ شرف الدين.
ومولده في عاشر ربيع الأوَّل سنة إحدى وستين وستمائة بحران، وقدم مع والده إلى دمشق.
ووقت الصلاه عليه امتلأ الجامع أكثر من يوم الجمعة، وحضرت الأمراء والحجاب وحملوه على رؤوسهم وخرجوا به من باب الفرج، وامتد الخلق إلى مقابر الصوفية، وختموا على قبره ختمات، وبات أصحابه على قبره لياليَ عديدة. ورثاه الإمام زين الدِّين عمر ابن الوردي رحمه الله بقصيدة منها قوله:
عثا في عرضه قومٌ سِلاط
…
لهم من نَثْر جوهره التقاطُ
تقي الدِّين أحمد خير حَبْر
…
خُروق المعضلات به تُخاطُ
توفّي وهو محبوسٌ فريدٌ
…
وليس له إلى الدُّنيا انبساطُ
ولو حضروه حين قَضَى لألفوا
…
مَلائِكةَ النَّعيم به أحاطُوا
فيالله ماذا ضمَّ لحدٌ!
…
ويالله ما غطى البَلاطُ!
هم حسدوه لمّا لم ينالوا
…
مناقبه فقد مكروا وشاطوا
وكانوا عن طرائقه كُسالى
…
ولكن في أذاه لهم نشاط
وحَبْسُ الدُّر في الأصداف فخر
…
وعند الشيخ بالسجن اغتباط
بآل الهاشمي له اقتداءٌ
…
فقد ذاقوا المنون ولم يواطوا
إمام لا وِلاية كان يرجو
…
ولا وقف عليه ولا رِباط
ولا جاراكم في كسب مالٍ
…
ولم يُعهد له بكم اختلاط
سيظهر قصدكم يا حابسيه
…
ونيتكم إذا نُصب الصراط
فها هو مات عنكم واسترحتم
…
فعاطوا ما أردتم أن تُعاطوا
وحلوا واعقدوا من غير ردٍّ
…
عليكم وانطوى ذاك البساط
والإمام زين الدِّين هذا كَانَ علامة متقنًا في العلوم. ومجيدًا في المنثور والمنظوم. وله الأشعار الرائقة، والمقاطيع الفائقة، وكان ماهرًا في العربية درس وأعاد وأفتى، وله مؤلفات مفيدة منها:«نظم الحاوي الصغير» .
مات بحلب في سنة تسع وأربعين وسبعمائة.
وفيه يقول الإمام العالم العلامة أثير الدِّين أبو حيان:
قامَ ابنُ تَيميَّةٍ في نَصْر شِرعَتِنَا
…
مَقامَ سَيِّدِ تَيْمٍ إذْ عَصَتْ مُضَرُ
فأظهرَ الحقَّ إذ آثارُهُ دَرَسَتْ
…
وأخمدَ الشَّرَّ إذ طارتْ له الشَّرَرُ
كُنّا نُحدَّث عن حَبْرٍ يجيءُ فها
…
أنت الإمامُ الذي قد كان يُنتظر
فإذا كَانَ هذا الإمام بهذا الوصف بشهادة هذا العلامة، وبشهادة غيره من العلماء الكبار، فماذا يترتب على من يطلق عليه: الزندقة أو ينبذه بالكفر؟ ولا يصدر هذا إلّاِ عن غبي جاهل، أو مجنون كامل.
فالأول: يعزر بغاية التعزير، ويُشَهَّر في المجالس بغاية التشهير، بل يؤبد في الحبس إلى أنْ يحدث التوبة، أو يرجع عن ذلك بأحْسن الأوبة.
والثاني: يداوى بالسلاسل والأصفاد، والضرب الشديد بلا أعداد، وهذا كله من فساد أهل هذا الزمان، وتواني ولاة الأمور عن إظهار العدل والإحسان، وقطع دابر المفسدين، واستئصال شأفة المدبرين، حيث يتصدى جاهل يدعي أنَّه عالم، بثلب أعراض علماء المسلمين، ولا سيمَا الَّذين مضوا إلى الحق بالحق، وبه كانوا عادلين.
وهذا الإمام مع جلالة قدره في العلوم، نقلت عنه على لسان جم غفير من الناس كرامات ظهرت منه بلا التباس، وأجوبة قاطعة عند السؤال منه عن المعضلات، من غير توقف منه بحالة من الحالات.
ومن جملة ما سئل عنه وهو على كرسيه، يعظ الناس والمجلس غاص بأهله، في رجل يقول: ليس إلَّا الله. ويقول: الله في مكان، هل هو كفر أو إيمان؟
فأجاب على الفور: من قال: إنَّ الله بذاته في كل مكان، فهو مخالف للكتاب والسنة وإجماع المسلمين، بل هو مخالف للْمِلَل الثلاث، بل الخالق سبحانه وتعالى بائن من المخلوقات ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، بل هو الغني عنها، البائن بنفسه منها. ولقد اتفق الأئمة من الصَّحابة والتابعين، والأئمة الأربعة وسائر أئمة الدين، أَنَّ
قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4] ليس معناه أنَّه مختلط بالمخلوقات وحالٌّ فيها، ولا أنَّه بذاته في كل مكان، بل هو سبحانه وتعالى مع كل شيء بعلمه وقدرته ونحو ذلك، فالله سبحانه وتعالى مع العبد أينمَا كَانَ، يسمع كلامه، ويرى أفعاله، ويعلم سره ونجواه، رقيب عليهم مهيمن عليهم، بل السماوات والأرض وما بينهمَا كل ذلك مخلوق لله، ليس الله بحالٍّ في شيء منها سبحانه، ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، لا في ذاته ولا في صفاته، ولا أفعاله، بل يوصف الله بمَا وصف به نفسه، وبمَا وصفه به رسوله، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، فلا تمثل صفاته بصفات خلقه، ومذهب السلف: إثباتٌ بلا تشبيه، وتنزيهٌ بلا تعطيل. وقد سئل الإمام مالك رضي الله عنه عن قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
فهذا الإمام كما رأيتَ عقيدته، وكاشفتَ سريرته، فمن كَانَ على هذه العقيدة كيف ينسب إليه الحلول والاتحاد، أو التجسيم أو ما يذهب إليه أهل الإلحاد؟
أعاذنا الله وإياكم من الزيغ والضلال والعناد، وهدانا إلى سبيل الخير والرشاد، إنَّه على كلِّ شئٍ قدير، وبالإجابة جدير.
حرره مُنمَّقًا فقير رحمة ربه الغني، أبو محمد محمود بن أحمد العيني، عامله الله بلطفه الخفي والجلي. بتاريخ الثَّاني عشر من ربيع الأول، عام (835) بالقاهرة المحروسة.
* * * *
تقريظ العلامة صالح بن عمر البلقيني (868)
«للرد الوافر» لابن ناصر الدين
(1)
الحمد لله الَّذي بنعمته تتم الصالحات، اللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمد سيد السادات، من أهل الأرضين والسموات، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، ويسِّر والطف واختم بخير.
وقفت على هذا التَّصنيف الجامع، والمنتقى البديع للسامع، وعملت بشروط الواقفين من استيفاء النظر، فوجدته عقدًا منظمًا بالدرر، يفوق عقود الجُمان، ويزري بقلائد العِقيان، ويضوع مسك الثناء على جامعه مدى الزمان، وقال لسان الحال في حقه: ليس الخبر كالعيان، وكيف لا وهو مشتمل على مناقب عالم زمانه، والفائق على أقرانه، والذابِّ عن شريعة المصطفى باللسان والقلم، والمناضل عن الدِّين الحنيفي وكم أبدى من الحكم، صاحب المصنفات المشهورة، والمؤلفات المأثورة، الناطقة بالرد على أهل البدع والإلحاد، القائلين بالحلول والاتحاد، ومن هذا شأنه كيف لا يلقَّب بشيح الإسلام؟ وينوه بذكره بين العلماء الأعلام؟ ولا عبرة بمن يرميه بمَا ليس فيه، أو ينسبه بمجرد الأهواء لقول غير وجيه، فلم يضره قول الحاسد والباغي، والجاحد والطاغي.
وما ضرَّ نور الشَّمسِ إنْ كان ناظرًا
…
إليه عيونٌ لم تزَل دَهْرَها عُميا
(1)
ملحق بآخر الرد الوافر. ونُشِر لأول مرة على هامش «جلاء العينين» (ط. بولاق 1298)(ص 97 - 102).
غير أنَّ الحسد يحمل صاحبه على اتباع هواه، وأن يتكلم فيمن يحسده بمَا يلقاه: لله دَرُّ الحسدِ ما أعدله، بدأ بصاحِبِه فقتله.
وما أحق هذا العالم بقول القائل:
حَسدُوا الفتى إذ لم ينالوا عِلمَه
…
فالقومُ أعداءٌ له وخُصومُ
وقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «إيَّاكُم والحسد، فإنَّ الحَسَّدَ يأكلُ الحسنات كما تأكل النَّار الحَطَب» أو قال: «العشب» أعاذنا الله من حسد يسد باب الإنصاف، ويصد عن جميل الأوصاف.
وكيف يجوز أن يكفر من لقب هذا العالم بشيخ الإسلام، ومذهبنا: أنَّ من كفر أخاه المسلم بغير تأويل فقد كفر، لأنَّه سمى الإسلام كفرًا.
ولقد افتخر قاضي القضاة تاج الدِّين السبكي رحمه الله تعالى في ترجمة أبيه الشَّيخ تقي الدِّين السبكي في ثناء الأئمة عليه، بأن الحافظ المزي لم يكتب بخطه لفظة شيخ الإسلام إلَّا لأبيه، وللشيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة، وللشيخ شمس الدِّين ابن أبي عمر.
فلولا أنَّ ابن تَيْمِيَّة في غاية العلو في العلم والعمل، ما قرن ابن السبكي أباه معه في هذه المنقبة، ولو كَانَ ابن تَيْمِيَّة مبتدعًا أو زنديقًا ما رضي أنْ يكون أبوه
(1)
قرينًا له.
نعم قد نسب الشَّيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة لأشياء أنكرها عليه معاصروه وانتصب للرد عليه الشَّيخ تقي الدِّين السبكي في مسألتي: الزيارة، والطلاق،
(1)
في الأصل: أباه.
وأفرد كلًّا منهما بتصنيف، وليس في ذلك ما يقتضي كفره ولا زندقته أصلًا، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلَّا صاحب هذا القبر ـ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ـ والسعيد من عُدَّت غلطاته، وانحصرت سقطاته.
ثمَّ إنَّ الظن بالشيخ تقي الدِّين أنَّه لم يصدر منه ذلك تهورًا وعدوانًا ــ حاشا لله ـ بل لعله لرأي رآه وأقام عليه برهانًا، ولم نقف إلى الآن بعد التتبع والفحص على شيء من كلامه يقتضي كفره ولا زندقته، إنمَا نقف على رده على أهل البدع والأهواء، وغير ذلك ممَا يظن به براءة الرَّجل وعلو مرتبته في العلم والدين، وتوقير العلماء والكبار وأهل الفضل متعين، قال الله تعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] وصح أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا» وفي رواية: «حق كبيرنا» .
وكيف يجوز أنْ يقدم على رمي عالم بفسق أو كفر ولم يكن فيه ذلك؟ وقد صح أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يرمي رجلٌ رجلًا بالفسق أو الكفر إلَّا ارتدت عليه إنْ لم يكن صاحِبُه كذلك» .
ثمَّ كيف يجوز الإقدام على سب الأموات بغير حق وهم محرم، [و] صح أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا تسبُّوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا» .
وكيف يجوز أذى المؤمن بغير حق والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58].
وصح أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلمُ مَنْ سَلِمَ المسلمون من لسانِهِ ويَدِه، والمهاجِرُ مَنْ هَجَر ما نهى اللهُ عَنْه» .
فالواجب على من أقدم على رمي هذا العالم بمَا ليس فيه، الرجوع إلى الله والإقلاع عما صدر منه، ليحوز الأجر الجزيل بالقصد الجميل، وإن اطلع على أمر يحتمل التأويل بغير دليل، وإن صح عنده أمر جازم عنه يقضي إنكاره فينكره قاصدًا النصيحة، ولا يهضم مقام الرَّجل مطلقًا مع شهرته بالعلم والفضل والتصانيف والفتاوي الَّتي سارت بها الركبان، والله يحفظنا من الخطأ والخَطَل، ويحمينا من الزيع والزلل، آمين والحمد لله رب العالمين.
وكتب في اليوم المبارك الموافق ليوم ولادة النَّبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأوَّل، سنة خمس وثلاثين وثمانمائة.
قال ذلك وكتبه الفقير إلى عفو ربه صالح بن عمر البلقيني الشَّافعيّ، لطف الله تعالى به.
* * * *
العلامة جمال الدِّين يوسف بن تَغْري بَرْدي (874)
- المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي
- الدليل الشافي
- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
صفحة بيضاء
المَنْهَل الصَّافي والمُسْتَوْفَى بعد الوافي
(1)
ابن تَيْمِيَّة
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر ابن عليّ بن عبد الله، شيخ الإسلام تقي الدِّين أبو العبَّاس بن أبي المحاسن شهاب الدِّين ابن أبي البركات مجد الدِّين الحَرَّاني الأصل والمولد، الدِّمشقي الدار والوفاة، الحنبلي، المعروف بابن تَيْمِيَّة، الإمام العلامة، الحافظ الحجة، فريد دهره، ووحيد عصره.
مولده بحران يوم الاثنين عاشر شهر ربيع الأوَّل سنه إحدى وستين وستمائة ، وقدم دمشق مع والده سنة تسع وستين، وسمع الحديث من أحمد بن عبد الدَّائم، ومجد الدِّين بن عساكر، وابن أبي اليسر، وأكثر من أصحاب حنبل، وأبي حفص ابن طَبَرْزَد، وغيرهم. وقرأ واشتغل وانتقى، وبرع في علوم الحديث، وانتهت إليه الرئاسة في مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، ودرس وأفتى، وتصدر للإقراء والإفادة عدة سنين، وفسر، وصنف التَّصانيف المفيدة. وكان صحيح الذهن، ذكيًّا، إمامًا متبحِّرًا في علوم الديانة، موصوفًا بالكرم، مقتصدًا في المأكل والملبس، وكان عارفًا بالفقه، واختلافات العلماء، والأصلين، والنحو، إمامًا في التفسير وما يتعلق به، عارفًا باللغة، إِمامًا في المعقول والمنقول، حافظًا للحديث، مميزًا بين صحيحه وسقيمه.
أثنى عليه جماعة من أعيان علماء عصره، مثل الشَّيخ تقي الدِّين بن دقيق العيد، والقاضي شهاب الدِّين الخويي، والشيخ شهاب الدِّين بن النحاس.
(1)
(1/ 358 - 362) الهيئة العامة المصرية.
قال القاضي كمال الدِّين ابن الزَّمْلكاني: اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها.
ثمَّ جرت له محن في مسألة الطلاق الثلاث، وشد الرحال إلى قبور الأنبياء والصالحين، وحبب للناس القيام عليه، وحُبِسَ مرَّات بالقاهرة والإسكندرية ودمشق، وعقد له مجالس بالقاهرة ودمشق، مع أنَّه حصل له في [بعضها] تعظيم من الملك الناصر محمد بن قلاوون، وأطلق وتوجه إلى دمشق فأقام بها إلى أن ورد مرسوم شريف من السلطان في شعبان سنة ست وعشرين وسبعمائة بأن يجعل في قلعة دمشق في قاعة حسنة، فأقام فيها مدة مشغولًا بالتصنيف، ثمَّ بعد مدة منع من الكتابة والمطالعة، وأخرجوا ما عنده من الكتب، ولم يتركوا عنده دواة ولا قلمًا ولا ورقة.
ومما وقع له قبل حبسه أنَّه بحث مع بعض الفقهاء، فكتب عليه محضر بأنه قال: أنا أشعري، ثمَّ أُخِذ خطه بما نصه: أنا أعتقد أنَّ القرآن معنى قائم بذات الله وهو صفة من صفات ذاته القديمة، وهو غير مخلوق، وليس بحرف ولا صوت، وأن قوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] ليس على ظاهره، ولا أعلم كنه المراد به، بل لا يعلمه إلَّا الله، والقول في النزول كالقول في الاستواء، وكتبه أحمد بن تَيْمِيَّة، ثمَّ أشهدوا عليه جماعة أنَّه تاب مما ينافي ذلك مختارًا، وشهد عليه بذلك جمع من العلماء وغيرهم
(1)
. انتهى.
قلت: وعلم الشَّيخ تقي الدِّين وفضله معروف لا يحتاج إلى التطويل في ذكره. وقد أثنى عليه جماعة من أكابر العلماء، من ذلك ما كتبه القاضي كمال الدِّين بن الزَّمْلَكاني على كتاب «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» تأليف
(1)
سبق التعليق على هذا في المقدمة.
ابن تَيْمِيَّة ما لفظه: تأليف الشَّيخ الإمام العالم العلامة، الأوحد، الحافظ المجتهد الزاهد العابد القدوة، إمام الأئمة، قدوة الأمة علامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد علماء الدين، بركة الإسلام، حجة الأعلام، برهان المتكلمين، قامع المبتدعبن، محي السنة، ومن عَظُمَت به لله علينا المنة، وقامت به على أعدائه الحجة، واستبانت ببركته وهديه المحجَّة، تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة، ثمَّ قال:
ماذا يقول الواصفونَ له
…
وصِفاته جلَّت عن الحصرِ
هو حُجَّةٌ للهِ قاهرةٌ
…
هو بيننا أعجوبةُ الدهر
هو آيةٌ للخلق ظاهرةٌ
…
أنوارُها أربتْ على الفَجْر
انتهي باختصار [منه]
(1)
، ولما كتب له ذلك كَانَ عمره إذ ذاك نحو الثلاثين سنة.
ولم يزل الشَّيخ تقي الدِّين المذكور مُحْتَفَظًا به في قلعة دمشق إلى أن توفي بها في ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة ثمان وعشرين وسبعمائة، ودفن من الغد بمقابر الصوفية، وحضر جنازته خلق كثير.
قال الحافظ أبو عبد الله الذَّهبيّ: شيعه نحو خمسين ألفًا، وحمل على الرؤوس، انتهى.
ومصنفاته تزيد على مائتي مصنف، استوعبها الشَّيخ صلاح الدِّين خليل بن أيبك في تاريخه «الوافي بالوفيات» ، رحمه الله تعالى.
* * * *
(1)
في الأصل: «نسبه» ؟
الدَّليلُ الشّافِي من المَنْهل الصَّافي
(1)
لأبي المحاسن بن تَغْري بَرْدي (874)
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر ابن علي، الحافظ الحجة تقيّ الدِّين أبو العبَّاس ابن تَيْمِيَّة، الحَرَّاني الدِّمشقي الحنبلي، ولد بحرَّان في يوم الاثنين عاشر شهر ربيع الأوَّل سنة إحدى وستين وست مئة، ومات في قَلْعة دمشق مُعْتَقَلًا بها ـ في ليلة الاثنين العشرين من ذي القَعْدة سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مئة، ودُفِنَ من الغد.
* * * *
(1)
(1/ 56) مركز البحث العلمي وإحياء الترات بمكة المكرمة، تحقيق فهيم شلتوت.
النُّجُومُ الزَّاهِرة فِي مُلُوكِ مِصْرَ والقَاهِرَةِ
(1)
للعلّامة جمال الدِّين أبي المحاسن يوسف بن تَغْري بَرْدي (874)
فيها (أي سنة ثمان وعشرين وسبعمئة) توفي: شيخ الإسلام، تقي الدِّين، أبو العَبَّاس، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تَيْمِيَّة، الحَرَّاني الدِّمشقي، الحنبلي بدمشق، في ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة في سِجنه بقلعة دمشق.
ومولده في يوم الاثنين عاشر ربيع الأوّل سنة إحدى وستين وستمائة، وكان سُجِن بقلعة دِمشق لأُمور حكيناها في غير هذا المكان.
وكان إمام عصره بلا مدافعة في الفقه، والحديث، والأصول، والنحو، واللُّغة، وغير ذلك.
وله عدّة مصنفات مفيدة يضيق هذا المحلّ عن ذكر شيءٍ منها.
أثنى عليه جماعة من العلماء، مثل الشَّيخ تقي الدِّين بن دقيق العيد، والقاضي شهاب الدِّين الخويي، والقاضي شهاب الدِّين ابن النحّاس.
وقال القاضي كمال الدِّين بن الزَّمْلَكاني المقدَّم ذكره: اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها. ثمَّ جرت له محنٌ في مسألة الطلاق الثلاث، وشدّ الرحال إلى قبور الأنبياء والصالحين، وحُبِّبَ للناس القيام عليه، وحُبس مرات بالقاهرة والإسكندرية ودمشق.
(1)
(7/ 196 - 197) دار الكتب العلمية 1413.
وعُقِد له مجالس بالقاهرة ، ودمشق، مع أنَّه حصل له في بعضها تعظيم من الملك الناصر محمد بن قلاوون، وأُطلق، وتوجّه إلى دمشق وأقام بها، إلى أنْ ورد مرسوم شريف في سنة وعشرين وسبعمئة، ؛ بأن يُجعل في قلعة دمشق في قاعة، فجُعل في قاعة حسنة، وأقام بها مشغولًا بالتصنيف والكتابة.
تمَّ بعد مدة منع من الكتابة والمطالعة، وأخرجوا ما عنده من الكتب، ولم يتركوا عنده دواة، ولا قلمًا، ولا ورقة.
ثمَّ ساق ابن الزَّمْلَكاني كلامًا طويلًا الأليق الإضراب عنه.
* * * *
الشُّهُب العَليَّة
في الردِّ على مَنْ كَفَّر ابن تيميّة
نظم
القاضي عمر بن موسى بن الحسن
الحمصي الشافعي
(777 - 861)
صفحة بيضاء
بسم الله الرحمن الرحيم
الله المستعان
الحمد لله.
رُفِع إليَّ بدمشق حين نزلتُ اليونسيّة
(1)
متوجِّهًا إلى طرابلس هذا السؤال المنظوم:
ما قول أهل علوم الشرع والحَسَبِ
…
فيمن يُكفّر شيخَ العلم والأدبِ
تقيّ دين إله العرش شُهْرتُه
…
بابنٍ لتيميةٍ حرّانيَ النّسبِ
مع علمه ما حوى من حِفْظ سنّتنا
…
وذبّ عنها أُهيلَ الزَّيغ والرِّيَبِ
وزهده وتصانيفٍ مُحرّرةٍ
…
وذو الكرامات والهِمّات والقُرَبِ
وهل يُكفَّر من أفتى بِرِدّتِه
…
ويستتاب وماذا قيل في الكتبِ
وهل يُباح مقالٌ في تَنَقّصِه
…
مقلّد الغير في ردٍّ لمعتصبِ
وقال من قال عنه من أئمتنا
…
بشيخ الاسلام كفّره بلا رِيَبِ
فأفت يا عالمًا في ذا المُصاب بما
…
علمتَ وابسط بنظمٍ واضحٍ أجب
قال: فكتبتُ بعض الجواب وعاجلني السفر، وأهملتُ ذلك إلى أن ورد عليّ بطرابلس خَبَر الواقعة
(2)
، واستفتاء علماء مصر، فوقفتُ على
(1)
هي الخانقاه اليونسية، أنشأها الأمير يونس دوادار السلطان الظاهر برقوق سنة (784). انظر «الدارس في تاريخ المدارس» (2/ 189 - 190)، و «خطط دمشق»:(ص 338، 408) للعلبي.
(2)
يعني واقعة العلاء البخاري (ت 841) في تكفيره شيخ الإسلام ابن تيمية، وأن من يطلق عليه لقب «شيخ الإسلام» فهو كافر. انظر «الضوء اللامع»:(4/ 464 - 466)
بعضها، فأحببت أن أجعل لي معهم قَدَمًا، وإن كنت أقلّهم عِلمًا وقَلَمًا، فقلت:
* الحمد لله هادينا بلا نَصَب
…
إلى الصواب بخير العُجْم والعَرَب
عليه صلى مع التسليم خالقُنا
…
ناهيك عن شرفٍ في أعظم الكتبِ
خُذ الجوابَ مع الإيجاز منتظمًا
…
كالدّر من بحرك الوافي لِذِي طلبِ
كُسِي جواهرَ مَنْ والَى أئمتنا
…
ونورُه يُخْمِد الأعداءَ بالرَّهَب
دليلُه قول خير الخلق شافِعنا
…
ثم القياس وإجماعٌ من الصّحَب
يَضُوعُ مِسْكُ ثناه من تكرّره
…
للسمع كالطيب في نثرٍ من الكتب
له الضياء ووقعٌ للقلوب له
…
شأنٌ من الله في فتح عن الحُجُب
وسرّه جاء مثل السيف منتضلًا
…
كم ماردٍ قد رمى كالسمع بالشّهب
يُسلِّمَنْ لمقالي كلُّ ذي عمل
…
في العلم والدين والإنصاف والقُرَبِ
وينصرَنَّ لحِزْب الله ثم لمن
…
قد أيّد الدِّين بالتقوى مع الطلب
* نعم نُكفّر من أفتى بردّته
…
بغير تأويل إذ يفضي إلى العَطَب
وصَحّ من سُنّةِ المختار سيِّدِنا
…
معنى حديث البخاري ثم ذي الكتب
(1)
لا يرميَنْ رجلٌ منكم لصاحبه
…
بالكفر يَكْفُر وإن لَمْ ردّةً تجب
وفي القُرانِ دليل لا نُكفّر من
…
على الذنوب سوى شركٍ وسبِّ نبيْ
وأجمعوا بجوازٍ في شهادة من
…
يكون ذا بدعة لا مُحْلِلَ الكذب
ثم القياس جليّ أن نكفّر من
…
أخرج من ديننا شخصًا بلا سبب
(1)
يعني حديث: «من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما» .
لمثل هذا الذي يُضرب به مثلٌ
…
وطار شهرتُه في الأُفق بالسُّحُبِ
* و «شيخَ الاسلام» قد سمّاه أعلمُنا
…
في عصره وتلا جمعٌ من العَقِب
والزملكانيْ وصدر الدين
(1)
مُذْ بَرزا
…
وناظرا خاطَبا للشيخ بالأدب
ويشهدان له بالحفظ في سننٍ
…
ولم يكن كفّرا يومًا من الحُقُب
وكان في عصره في الشام يومئذٍ
…
سبعون مجتهدًا من كل مُنتخب
لم يُرْوَ أن الذي ردوا عليه لهم
…
قولٌ بتكفيره أو نسبة الكذب
بل عاذِرٌ باطلاعٍ في مداركه
…
وقائلٍ لعثارٍ كالجواد رُبي
من نحن للخوض في عِرْضٍ لأعْلمنا
…
وما لنا بزقاقٍ ضيّق الخبب
وإن يقل: حجتي إنكارُ منكره
…
فقل: له سابقٌ في قول ذي النُّجُب؟
وإن تكن زلّة أو غلطة وقعت
…
مع اجتهادٍ فعفو الله مُنسحبُ
حاشاه سبحانه من أن يُعذّب من
…
حامى عن الدِّين في ردٍّ على الصُّلُب
دين النصارى ودينٍ لليهود وما
…
قد اطْرَوه من التثليث باسم الاب
أهل الحُلول والأهوا ثم مُتَّحدٍ
…
والرافضي ولتجسيمٍ وذي كَلَبِ
(2)
* وانظر عقيدتَه وافهم عبارته
…
في كُتْبه فتجده غاية العجب
في كل فنّ يدٌ طولى وسيرتُه
…
في الزهد مثل النواوي كامل الرّتب
(1)
يعني كمال الدِّين الزملكاني (ت 727). وصدر الدِّين ابن الوكيل ويعرف بابن المرحِّل (ت 716) وهما من كبار الشافعية، ومن أقران شيخ الإسلام، وكانا قد أثنيا عليه، وناظراه، وزعموا أنه لم ينهض لمناظرة ابن تيمية غير ابن الوكيل. وانظر نموذجًا من مناظراته لشيخ الإسلام في «العقود» (ص 145 - 167)، و «الفتاوى»:(11/ 135 - 156).
(2)
(متحد) يعني: أهل وحدة الوجود. و (ذي كلب) يعني: اتباع «ابن كُلّاب» .
له الردود على الأهوا وذي بدع
…
في كُتْبه العاليات
(1)
القَدْر والخطب
من قال عنه بتجسيم بمعتقد
…
فكاذِبٌ باء في نارٍ بمنقلَبِ
بل اعتقاديَ فيه أنّه رجلٌ
…
كالأولياءِ ومَن عاداه في حَرَب
إن لم يك العلما أهل الولاية مَنْ
…
يكن وليًّا سوى بالوهب والجذَبِ
علمٌ بلا عملٍ يهوي بصاحبه
…
إلى جهنم مَعْ حمّالة الحَطَب
كم عالمٍ زلّ بالأقدام في رجلٍ
…
يخوض في عرضه بالذمّ والكذب
ويمدحنَّ لمذمومٍ ببدعته
…
مع ذمّ شيخِ علوم الشرع والأدب
ما كلمة قالها إلا اقشعرّ لها
…
جلدٌ وذابَ لها قلبٌ لمُنْتَحِب
* نبكي على زمنٍ صِرْنا لرؤية من
…
يفتي بكفر وهُوْ في الجهل مُنْحَجبُ
يجازفُ القولَ في أهل العلوم وهُم
…
سُمٌّ لحومهم قد جُرّبوا فَتُبِ
من أجمعوا أنه البحر الإمام لنا
…
مجدّدُ الدِّين في عصرٍ لمضطرب
وأنه حافظ الإسلام عالمه
…
سارت فتاويه في الآفاق والشُّعَب
له الكرامات كالأعلام شائعة
…
تُروى وتُقرا ومحياةٌ لمقترب
(2)
له التصانيف دلّت في تفرّده
…
بالحفظ والفهم والإتقان والكتب
له المحافل والسلطان يسمعه
…
وقطعُ خصمٍ بأعلى قطع منتصب
وكم رأوه يصلي الفجر في الأموي
…
مَعْ سجنه، وكذا في أزهر النُّجُب
(3)
(1)
تحتمل «الغاليات» .
(2)
(ط): «وتنتحي لمنتحب» .
(3)
هذا من المبالغات، أنه مع سجنه كان يُرى في المسجد الأموي، والجامع الأزهر! وهذا مما أنكره شيخ الإسلام على مدَّعي المشيخة والولاية.
وإن أردت دليل الحسّ فهو إذن
…
موجودُ يُشهد مثلَ الشمس لم تَغِب
مؤلفات عظامٌ ثم شهرته
…
وجعله مَثل الباهي بذي نَسَب
جنازة شُهِدَت ما مثلها شهدوا
…
بعد القرون التي بالخير في التُّرَب
وابنٌ لقيّم تليمذٌ ورُفقته
…
وصَحْبُه كلهم فاقوا على الصَّحَب
فمثل هذا يكن بالكفر متصفًا
…
بقول من يدّعي علمًا ولم يُجِب
أما لنا غيرةٌ في الحقِّ تأخذنا
…
بقَصْم من يجتري بالفُجْر والثَّلَبِ
ويا شَماتةَ أعداءٍ به امَّشَعوا
…
رفعًا وبُشراهمُ في خفض مُنْتَصِب
يا ضحك إبليس منّا إذ نكفّره
…
من غير ما رِدَّةٍ كلا ولا رِيَب
مُنى العِدا كُفْر من أطْفى أدِلَّتهم
…
بنوره ودوام اللهو واللعب
فلا جزى الله خيرًا من يُعينهمُ
…
بالقول والكتب في حِلْمٍ وفي غضب
ما حققوا العلمَ ما شموا روائحه
…
إذ كفروا عالم الإسلام بالعَصَب
تعصَّبوا بمقال في تنقّبهم
(1)
…
ولُثِّموا إثمَه في الرأس والذنب
قد زانه لهمُ شيطانُ إنسهمُ
…
مُحَسّنًا وانْثَنى من بعد ما غُلِبُوا
فقال: إني بَرِيْ قولًا بردّته
…
بل كنتُ في دمه مَعْكم كمُغْتَصَب
فيا أئمة دين الله هل أحدٌ
…
يرضيه قولٌ بكفر العالم الدَّرِب
تَحَتّم الفَحْص والدَّعوى على رجلٍ
…
أفتى بكفرٍ بأنْ يُلْجى إلى السبب
فإن أقام دليلًا قاطعًا عجبًا
…
فذاك أو ذا احتمال فيه فاستتب
أولَمْ فكَفّرْه واحْكُم إذ تنقّصَه
…
تعزيرَه بسياطٍ أو بذي الأدب
وإن تخفّفْ بسجنٍ فاضْرِبَنّ له
…
طويل وقتٍ إلى شعبان أو رجبِ
(1)
تحتمل: «تيقنهم» .
لرَدْع أمثاله والمُقْدمين على
…
مقالِه تَبَعًا تقليدَ مُصطحب
فما يضرّ بنا غير التساهل في
…
أمرٍ كهذا وقولُ العاذِلِ النّدب
إن تنصروا الله ينصرْكم ويخذلهم
…
وإن عفوتم فلا لومٌ لمُعْتَقب
ما يسلمُ الشرفُ الأعلى لملتنا
…
حتى يُراق دمٌ أو ضربُ مرتكب
وامنع شهادته أيضًا روايته
…
فإن مضى عامُه في الخير فاتَّهِبِ
وإن يُصمّم على تكفيره ويَقُل
…
بكُفْر من قال: «شيخَ الدين» فاطَّلبِ
بمجلسٍ حَفِلٍ وافسد لصورته
…
وكرّر الضرب بالتكرار أو يَتُبِ
ما خاب نقلٌ لنجل الناصري وبل
…
أصاب في القول كالإبريز بالذهب
ونجل ناصرِ دينِ الله حافظِنا
(1)
…
أجاد في جَمْع من سمَّاه في الكتب
بشيخ الإسلام فانظر في مؤلفه
…
صدقًا وعدلًا فما ينكِرْه غير غبي
أو حاسدٍ عَميت عنه بصيرته
…
فخاض في هُوَّةٍ تُفضي إلى العَطب
الله أكبر هل تُنكِرْ فضائلَ مَن
(2)
…
سارت فضائله كالشمس لم تغب
يا ليتني كنت في يوم لأزْمَتِهِ
(3)
…
حتى يرى النصر حقًّا بعض ما يجب
وقد كفاه بهم أعلام شِرْعتنا
…
في مصر إذ شاهدوا التصنيف باللقب
(1)
يعني: الحافظ ابن ناصر الدِّين الدمشقي (ت 842) الذي ألف كتابه «الرد الوافر على من زعم بأن مَن سمى ابنَ تيمية: شيخَ الإسلام كافر» . في الردّ على العلاء البخاري.
(2)
من قوله: «ونجل ناصر
…
» إلى هنا مُحاط عليها بقلم دقيق ثم كتب في الهامش الأيمن ما نصه: «هذه الأربعة الأبيات المحوق عليها نظم الشيخ شمس الدِّين محمد بن محمد الياسوفي شيخنا» اهـ.
(3)
كذا ضبطها في الأصل، وفي (ط):«أُلازمه» .
فصالح الوقت نجل الحبر أَعْلمُنا
…
ورِفْقُةُ بقضاء الحق لم يَشب
وذا جوابُ عُبيدٍ قاصرٍ عمرَ الـ
…
حمصِي انْتمَى لبني مخزومَ بالنسب
هُوْ نقطة من بحار العلم خادمهم
…
أحبّ نظمًا له في سِلْك ذي النَّشَب
(1)
فالمرء مع مَن أحبَّ الله يجمعهم
…
يوم المعاد وناجٍ يشفعَنْ كنبي
ويرحم الله مشغولًا بِعَورَته
…
وعيبِ نفسٍ عن الإسلام والكسب
(2)
وما لنا ولمن قد مات من قدم
…
وتمّ دينٌ بدون النقص والعَتَب
وما لنا وأصول الدِّين قد كَمُلت
…
وفي الفروع كِفايات لذي أرَبِ
بشهرةٍ وافتخارٍ أو مناظرةٍ
…
أو قصد نفعٍ ولا تكفير خير أب
* وإن تجد خللًا فيما أجبتُ به
…
أصلحه واستر عِثارِي سترة الهَرِب
من عابَ عِيب ومن خطّاه أخطأ في
…
مقاله بجزافٍ لم يقع لغبي
من أين يعلمُ كفرًا في الكمون لمن
…
يأتي بمستقبل من قال ذا كصبي
(3)
وإن يكن عنده حرفٌ بحجَّته
…
من قال كل لها
(4)
يدري ليجتنبِ
والحقّ ما قلتُ من ضربٍ وتوبته
…
إن لم وإلا فَهُوْ في مشركي العرب
وإن تكن هذه الدنيا قد انصرمت
…
وهذه مبدأ الآيات والنُّوَبِ
وإنها فتن من بعدها فتنٌ
…
والجهلُ في صَعَدٍ والعلم في صَبَبِ
(1)
البيت مستدرك في الهامش وعليه علامة التصحيح. وفيه كلمات شبه مطموسة، استفدت قراءة بعض كلماته من (ط)، والبيت فيها:
هو نقطة من بحار القوم خادمهم
…
أحبّ نظمًا له في سلك ذي نَسب
(2)
(ط): «والكتب» .
(3)
البيت لحق في الهامش وعليه علامة التصحيح.
(4)
(ط): «أما» .
فباطنُ الأرض خيرٌ من ظواهرها
…
وما لذي أربٍ في العيش من أرَبِ
وحسبنا الله والغُفران يجمعنا
…
فاسمح تسامح وصابِر ثمَّ واحتسب
والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
تمت بحمد الله تعالى في أوائل جمادى الأولى، سنة خمس وثلاثين وثمانمائة. ونُظِمت في ليلة ونصف يوم ميسرة، والحمد لله.
ثم كتب المؤلف بخطه إجازة لناسخها العلامة الخَيْضِري نصها:
«الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى.
وبعد، فقد قرأ عليّ الولد الأغرّ الشيخ الفاضل شمس الدِّين عين الطلبة المعتبرين محمد بن الشيخ الصالح شمس الدِّين محمد بن
…
(1)
بن عبد الله الخَيْضِري، نفع الله به وأعانه، ووفقه وصانه= جميعَ هذه القصيدة المسماة بـ «الشهب العلية في الردّ على من كفّر ابن تيمية» من نظم كاتبه، قراءةً صحيحة معربة، وقرأ عليَّ أيضًا بعض أحاديث نبوية وسمع، ووجدته ممن يحافظ على حفظ السنة النبوية، ومحبّة أهل السنة، ودلّني ذلك على خيره ودينه وأنه سيصير
…
(2)
إلى رتب أهل طاعته ويقينه. وأذنت أن يرويها عنّي وجميع ما يجوز لي وعني روايته بشرطه المعتبر. والله يوفقه وإيّانا لطاعاته ومرضاته، ويكتبنا في ديوان الناجين، آمين آمين آمين.
(1)
كلمة لم تتحرر، ورسمها «حميد» وليس في سياق نسبه بين محمد وعبدالله أحد فيما اطلعت عليه. انظر «الضوء اللامع»:(4/ 340).
(2)
كلمة غير واضحة.
قال ذلك وكتبه في رجب سنة ثمانٍ وثلاثين وثمانمائة: الفقير المعروف بالتقصير عمر بن موسى بن الحسن المخزومي الحمصي الشافعي خادم الشرع الشريف».
* * * *
المقْصَدُ الأرشَدُ في ذِكْرِ أصحَاب الإمام أحْمَدَ
(1)
للعلّامة: برهان الدِّين إبراهيم بن مفلح (884)
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن أبي القاسم
(2)
الخضر بن محمد بن تيميِّة الحَرَّانيّ، ثمَّ الدِّمشقِيّ، الإمام الفقيه المُجتهد الحافظ المُفسِّرُ الزَّاهِدُ، أبو العبَّاس تَقِيُّ الدّين، شيخُ الإسلام، وعلمُ الأعلام. ولِدَ يومَ الاثنين عاشر ربيع الأوَّل سنة إحدى وستِّين وستمائة بحرَّان. قدمَ به والده وبإخوته إلى دمشق عند استيلاء التَّتَر على البلاد. وسمع من ابن عبد الدَّائم، وابن أبي اليسر، والمجد بن عساكر، والقاسم الإربلي، والشَّيخ شمس الدِّين بن أبي عُمر، وخلقٍ كثير، سمعَ «المُسند» مرَّات، والكتب السِّتَّة، و «مُعْجَم الطَّبراني» وما لا يُحْصَى. وكتَبَ بخطِّه جملةً من الأجزاء، وأقبل على العُلوم في صِغَره، وأخذ الفِقْه والأُصول عن والده، وعن الشِّيخ شمس الدِّين بن أبي عمر، والشَّيخ زين الدِّين ابن المنُجَّى، وبرعَ في ذلك وناظَر وقرأ العَرَبِيَّة على ابن عبد القوي، ثمَّ أخذ «كتاب سيبويه» فتأمَّله وفهمه، وأقبل على تَفْسِيْر القُرآن العَظيم، فبرز فيه وأحكم الفَرائض والحِسَاب، والجَبر والمُقابلة وغير ذلك من العُلوم، ونظر في علم الكلام والفَلْسَفَة وبرز في ذلك على أهله، وردَّ علَى رُؤسائهم وأكابرهم، وتأهَّل للفَتْوَى والتَّدريس وله دون العشرين سنة، وأمدّه الله تعالى بكثرة الكُتب، وسرعة الحِفْظ، وقوَّة الإدراك والفهْم، وكان بَطِيءَ النِّسيان حتَّى ذَكَرَ جماعةٌ أنَّه لم يكن يحفظ شيئًا فينساهُ.
(1)
(1/ 132 - 139) مكتبة الرشد (ط، 1) 1410، تحقيق د/ عبد الرحمن العثيمين.
(2)
في المطبوعة: «بن» بين القاسم والخضر، والصواب حذفها.
وتوفي والده الشَّيخ شهاب الدِّين وكان عمره إذ ذاك إحدى وعشرين سنة، فقام بوظائفه ودرس بدار الحديث السُّكَّرية في أول سنة ثلاث وثمانين، وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدِّين بن الزَّكيّ
(1)
، والشَّيخ تاج الدّين
(2)
الفَزَارِيُّ، والشَّيخُ شهاب الدِّين ابن المُرَحِّلِ، والشِّيخُ زين الدِّين ابن المُنَجَّى وذكر درسًا عظيمًا في البَسْمَلَة، وعظمه الجماعة الحاضرون فأثنوا عليه ثناءً كثيرًا.
قال الذَّهَبيُّ: وكان الشَّيخ تاج الدِّين الفَزَارِيُّ يبالغُ في تعظيمه بحيثُ إنَّه علق بخطِّه دَرْسَهُ بالسُّكرية. ثمَّ جلس مكان والده بالجامع يفسّر القرآن الكريم وشرع من أوله، وكان يورد من حفظه في المجلس نحو كراسين أو أكثر، وبقي يفسّر في سورة نوح عدة سنين، وفي وقتٍ ذَكَر يومَ جُمعة شيئًا من الصفات فقام بعضُ المخالفين وسعوا في منعه فلم يمكنهم ذلك.
وقال قاضي القُضَاة شِهابُ الدِّين الخُوَيِّي: أنا على اعِتقادِ الشَّيخ تَقِيّ الدّين، فعُوتبَ في ذلك، فقال: لأن ذهنه صحيحٌ وموادّه كثيرة، فهو لا يقولُ إلَّا الصَّحيح.
وكان أعجوبةَ زمانِهِ في الحفظ وقد حُكي أنَّ بعضَ مشايِخ حَلَب قدم دمشق لينظر إلى حفظ الشَّيخ فسأل عنه فقيل الآن يحضر، فلما حضر ذكر له أحاديث فحفظها من ساعَته، ثمَّ أملى عليه عدة أسانيد انتخبها ثمَّ قال: اقرأ هذا فنظر فيه كما فعل أول مرة، فقام الشَّيخ الحلبى وهو يقول: إن عاشَ هذا الفَتى ليكونَنّ له شأنٌ عظيمٌ فإنَّ هذا لم يُرَ مثلُه، وقالَ الشَّيخُ شرفُ الدين: أنا أرجو بركته ودعاءه؛ وهو صاحبي وأخي. ذكر ذلك البِرزَالِيُّ في «تاريخه» .
(1)
في المطبوعة: «شهاب الدِّين بن المزكِّي» ! والتصويب من المصادر.
(2)
في المطبوعة: «شهاب الدين» والتصويب من المصادر.
ثمَّ شرع في الجَمع والتَّصنيف من العشرين، ولم يزَل في عُلُوٍ وازْدياد في العِلم والقَدرِ إلى آخر عُمُرِه. قالَ الحافِظُ المِزَّي: ما رأيْتُ مثلَه، ولا رأى هو مثل نَفْسِهِ. وذكرَهُ الذَّهبيُّ في «مُعْجَم شُيُوخِهِ» ، ووصفه بأنَّه شيخُ الإسلام، وفريدُ عَصْرِه علمًا ومعرفةً وشجاعةً وذكاءً ونصحًا للأمَّة [و] أمْرًا بالمعروفِ ونَهْيًا عن المُنكر إلى غير ذلك من الصِّفاتِ الحَمِيْدة، والأخلاق المَرْضِيَّة.
وقال الشَّيخُ كمالُ الدِّين ابن الزَّملكاني: كَانَ ابن تَيْمِيِّة إذا سُئِلَ عن فنٍّ من العِلْم ظَنَّ الرائِي والسَّامع أنَّه لا يَعرِفُ غيرَ ذلك الفَنّ، وحكمَ أنَّ أحدًا لا يعرفه مثلَهُ، وكان الفقهاءُ من سائِر الطَّوائِفِ إذا جالسُوه استفادوا منه في مذاهبهم أشياء، ولا يُعْرَفُ أنَّه ناظر أحدًا فانقطع معه، ولا تَكَلَّم معه في علمٍ من العلومِ سواءً كَانَ من علومِ الشَّرع أو غَيرها إلَّا فاق فيه أهله واجتمعت فيه شُروط الاجتهاد على وجهها.
قالَ الشَّيخُ زينُ الدِّين ابن رَجَبِ: وقد عُرض عليه قضاء الحنابلة قبل التِّسعين ومشيَخَة الشُّيوخ فلم يَقْبَل شيئًا من ذلك. وقد كتبَ ابن الزّملكاني بخطِّه على كتاب «إبطال الحِيَل» ترجمةَ الكِتَاب، واسم الشَّيخ وترجم له تَرجمة عظيمة وأثنى عليه شيئًا كثيرًا وكتب تحته بخطِّهِ:
ماذَا يَقُوْل الوَاصِفُونَ لَهُ
…
وصِفَاتُهُ جَلَّتْ عن الحَصْرِ
هو حُجَّةٌ للهِ قاهِرَةٌ
…
هو بَيْنَنَا أُعْجُوْبَةُ الدَّهْر
هو آيةٌ للخَلْقِ ظَاهِرَةٌ
…
أنْوارُها أرْبَتْ على الفَجْر
وحَكَى الذَّهَبيُّ، عن الشَّيخ تقي الدِّين ابن دَقيق العِيْد، أنَّه قالَ له عند اجتماعه به وسماعه لكلامِهِ: ما كنتُ أظُنُّ أنَّ الله تعالى بقِي يخلق مثلك. وقد كَتَب العَلّامة قاضي القُضاة تقي الدِّين السُّبكيُّ إلى الحافظ الذَّهبيّ في أمر
الشّيخ تقِيّ الدين: فالمملوك يتحقق أن قدره وزخارة بحره وتوسعه في العلوم الشرعية والعقلية، وفرط ذكائه واجتهاده بلغ من ذلك كلَّ المبلغ الذي يتجاوزه الوصف، والمملوك يقول ذلك دائمًا، وقدره في نفسي أكثر من ذلك وأجلّ، مع ما جمعه الله تعالى [له] من الزّهادة والوَرع والدِّيانة ونُصرة الحقّ والقِيام فيه لا لغرض سواه، وجريه على سَنَنِ السَّلَف وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى، وغرابة مثله في هذا الزَّمان، بل [من] أزمان.
وللشَّيخ أثير الدِّين أبي حيَّان الأنْدَلسي النَّحوي لما دَخلَ الشَّيخ إلى مصر واجتمع به قال أبياتًا لم يَقُلْ خيرًا منها ولا أفحل:
لمَّا رأيْنَا تَقِيَّ الدِّين لاحَ لَنَا
…
داعٍ إلى اللهِ فردٌ ما له وَزَرُ
على مُحَيَّاهُ مِنْ سِيْمَا الأُولَى صَحِبُوا
…
خيرَ البَرِيَّةِ نُوْرٌ دُوْنَهُ القَمَرُ
حَبْرٌ تَسَرْبَلَ مِنْهُ دَهْرُهُ حِبَرًا
…
بَحرٌ تَقَاذَفُ مِن أمواجه الدُّرَرُ
قامَ ابنُ تَيْمِيَّةٍ في نَصْرِ شِرعَتِنَا
…
مَقَامَ سَيِّدِ تَيْمٍ إذْ عَصَتْ مُضَرُ
فأظهرَ الحقَّ إذا آثارُهُ دَرَسَتْ
…
وأخْمدَ الشِّرْكَ إذ طارَتْ لَهُ شَرَرُ
يا مَنْ يُحَدِّثُ عن عِلْمِ الكتابِ أصِخْ
…
هذا الإمامُ الذي قَدْ كان يُنتظر
وأمَّا مناظرتُهُ للخصوم وإفحامُهم وقطعُهُم لديه فهو ظاهرٌ، وكتبه التي صنَّفَها فهى أشهر من أن تذكر وتعرف فإنها سارت مسيرَ الشَّمس في الأقطار وامتلأت بها البلاد والأمصار، وقد جاوزت حد الكثرة فلا يمكن أحدًا حَصْرُها، ولا يتسع هذا المكان لعدها. وله اختيارات غريبة جمعها بعضهم في مجلَّدٍ لطيف. ووقع له أمور وأحوال قام عليه فيها المعاندُ والحاسدُ إلى أن وصلَ الحال به أن وُضِعَ في قلعة دمشق في مقام أبي الدَّرْدَاء رضي الله عنه سنة ستٍّ وعشرين في شَعبان إلى ذي القَعْدة سنة ثمانٍ وعشرين، ثمَّ مرض أيَّامًا
ولم يَعْلَم أكثرُ النَّاس مَرضه. وتوفي سحر ليلة الاثنين العشرين من ذي القَعْدة سنة ثمانٍ وعشرين وسَبْعِمائة. وذكره مؤذن القَلْعَة على منارة الجامع، وتكلّم به الحَرَسُ واجتمَع النَّاسُ، ولم تفتح الأسواق المعتادة بالفتح أول النهار، واجتمع عنده خلق يبكون ويثنون خيرًا، وأخبرهم أخوه زين الدِّين عبد الرَّحمن أنهما ختما في القَلْعة ثمانين ختمةً، والحادية والثَّمانين انتهيا فيها إلى قوله تعالى:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54 - 55].
وابتدأ عنده جماعة في القراءة من سورة الرَّحمن إلى ختمه. ولم يُفرغ من غَسله حتَّى امتلأ أكثر القلعة بالرجال فصَلَّى عليه بدَركاتِها الشَّيخُ الزَّاهدُ محمد بن تَمَّامٍ، وضجَّ الناسُ، ثمَّ خرجوا به إلي جامع دمشق، وكثر الجَمْع حتَّى يقال: إنَّه فاق جميع الجُمَع، ثمَّ وضع عند موضع الجنائز حتَّى صلِّيَتِ الظهرُ، ثمَّ صلى عليه نائب الخطيب علاء الدِّين الخَراَّط لغيبة القَزْوِيْني، ثمَّ خرجوا به من باب الفرج، وكثر الزِّحام وخرج الناس من غالب أبواب البلد، ثمَّ صلَّى عليه أخوه زين الدِّين عبد الرَّحمن بسوق الخَيْل، ودفن وقت صلاة العصر بالصُّوفية إلى جانب أخيه شرف الدين. وحُزِرَ الرِّجال بستين ألفًا وأكثر، والنِّساء بخمسةَ عشرَ ألفًا، وظهرَ بذلك قَولُ الإمام
(1)
: بينَنا وبينَهم الجنائز. وختم له ختمات كثيرة، وتردد النَّاسُ إلى قَبره، ورُئِيَتْ له منامات
(2)
حسنة، وتأسف النَّاسُ لفقده رضي الله عنه.
* * * *
(1)
أي: الإمام أحمد.
(2)
في المطبوعة «مقامات» !
دستورُ الأعلام بمعارف الإسلام
(1)
لمحمد بن عمر ابن عَزَم التميمي التونسي المكي (891)
ابن تيمية (728) الحرَّاني الحنبلي، شيخ الإسلام وصاحب التصانيف الكثيرة، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام.
* * * *
(1)
ق 28 أ (نسخة مكتبة خدا بخش خان بباتنه 2376).
غربال الزمان في وفيات الأعيان
(1)
للعلامة يحيى بن أبي بكر العامري الحَرَضي اليماني (893)
وفيها (728) مات بقلعة دمشق محبوسًا الحافظ تقي الدين، عرف بابن تيمية، وهو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله، ومنع قبل وفاته بخمسة أشهر من الدواة والورق، ولد بحران سنة إحدى وستين وستمائة، وبرع في الحديث والأصلين، وكان يتوقد ذكاءً، وصنف أكثر من مائتي مجلد، وله غرائب حبس بسببها مخالفة لمذهب أهل السنة، منها: نهيه عن زياره قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنكاره على مشايخ الصوفية العارفين بالله كالغزالي والقشيري وابن العريف والشاذلي وغيرهم ممن حقق في العلمين، وكذلك فتياه في الطلاق، وعقيدته في الجهة وغير ذلك.
قال اليافعي: وقد رأيت منامًا في حقه يدل على خطئه في عقيدته.
قال الفقيه حسين: إنما أنكر على المعينين مسائل معينة مع اعترافه بفضلهم. قال: واعتقاده في الجهة إنما يعني به ما فوق العالم وهو الله سبحانه، كذا رأيته في كلامه. قال: وفي ترجمة اليافعي له ضعف، وترجم الذهبي له ما هو لائق به وبجلالته وإمامته وعلومه التي انفرد بها.
* * * *
(1)
(ص 595) تحقيق محمد ناجي زعبي، دار الخير 1405.
طبقات الحفاظ
(1)
للعلامة جلال الدِّين السيوطي (911)
ابن تَيْمِيَّة
الشَّيخ الإمام العلامة الحافظ الناقد الفقيه المجتهد المفسر البارع، شيخ الإسلام، عَلَم الزُّهاد، نادرة العصر، تقي الدِّين أبو العبَّاس أحمد بن المفتي شهاب الدِّين عبد الحليم بن الإمام المجتهد شيخ الإسلام مجد الدِّين عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الحرَّاني، أحد الأعلام.
ولد في ربيع الأوَّل سنة إحدى وستين وستمائة، وسمع ابن أبي اليسر وابن عبد الدَّائم وعدةً، وعُنِي بالحديث، وخرَّجَ وانتقى، وبَرَعَ في الرجال وعلل الحديث وفقهه، وفي علوم الإسلام وعلمِ الكلام وغيرذلك. وكان من بحور العلم، ومن الأذكياء المعدودين، والزّهاد الأفراد.
ألَّف ثلاثمائة مجلدة، وامتُحن وأوذِيَ مرارًا. مات في العشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
* * * *
(1)
(ص 516 - 517) مكتبة وهبة، القاهرة 1393، تحقيق علي محمد عمر.
صِدْقُ الأخْبار
(1)
للمؤرِّخ حمزة بن أحمد الغَرْبي المعروف بابن سباط
(2)
(926)
وفي هذه السنة
(3)
ثاني عشرين ذي القعدة توفي الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد العابد الورع الخاشع القدوة العارف تقي الدين، أحمد ابن الشيخ الإمام العالم شهاب الدِّين عبد الحليم ابن الشيخ الإمام شيخ الإسلام مجد الدِّين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله ابن تَيْمِيَّة الحراني الدمشقي بقلعة دمشق في القاعة التي كان محبوسًا بها، وغسّلوه وكفنوه وأخرجوه من القلعة، وصلى عليه بباب القلعة الشيخ محمد بن تمام، أتوا به إلى الجامع، وغُلِّق جميع الأسواق بدمشق، وامتلأ الجامعُ أكثر من يوم الجمعة، وحضروا
(4)
الأمراء والحُجَّاب، وصلوا عليه صلاة الظهر، وحملوه
(5)
الناس على رؤوسهم وأخرجوه من القلعة إلى باب الفرج، وبعض الناس من باب الفراديس، ومن باب النصر، ومن باب الجابية، وامتدَّ العالم إلى سوق الخيل إلى مقبرة الصوفية، ودفن إلى جانب قبر أخيه الشيخ شرف الدين، وانصرف الناس متأسِّفين عليه، وختموا على قبره الختمات.
(1)
2/ 646 - 647 مطبعة جرس برس، بطرابُلُس ط. الأولى (1413) تحقيق د. عمر عبد السلام تدمري.
(2)
ويقال: أسباط، وقيل: شباط، انظر الأعلام: 2/ 276 ومقدمة تحقيق «تاريخه» .
(3)
(728).
(4)
على لغة أكلوني البراغيث.
(5)
كسابقه.
وكان مولده بحران عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وست مئة، سمع الحديث، واشتغل في العلوم، وحَصَّل في أسرع وقت ما لا يحصله غيره في سنين
(1)
كثيرة، وعلوم شتى
(2)
، وكان كثير الذكر والصوم والصلاة والعبادة.
* * * *
(1)
كذا، والصواب:«سني» .
(2)
كذا، والصواب:«وعلومًا شتى» .
الدّارس في تاريخ المَدَارِس
(1)
للعلامة عبد القادر بن محمد النعيمي (ت 927 هـ)
في يوم الاثنين ثاني المحرم منها
(2)
: درَّس الشَّيخ الإمام العالم العلامة تقي الدِّين أبو العبَّاس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تَيْمِيَّة الحَرَّاني بدار الحديث السكرية الَّتي بالقصاعين، وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدِّين يوسف بن الزكي الشَّافعيّ، والشيخ تاج الدِّين الفزاري شيخ الشافعية، والشيخ زين الدِّين بن المرحِّل، والشيخ زين الدِّين المنجَّى الحنبلي، وكان درسًا [هائلًا] حافلًا ــ يعني في البسملة كما ذكره ابن مفلح في «طبقاته» ــ وقد ذكره
(3)
الشَّيخ تاج الدِّين الفزاري بخطه لكثرة فوائده وكثرة ما استحسنه الحاضرون. وقد أطنب الحاضرون في شكره على حداثة سنه وصغره، فإنه كَانَ إذ ذاك عمره عشرين سنة وسنتين، ثمَّ جلس الشَّيخ تقي الدِّين المذكور أيضًا ــ يعني مكان والده بالجامع كما ذكره ابن كثير ــ يوم الجمعة عاشر صفر بالجامع الأموي بعد صلاة الجمعة على منبر قد هيئ له لتفسير القرآن العزيز، فابتدأ من أوله في تفسيره، وكان يجتمع عنده الخلق الكثير والجم الغفير، من كثرة ما كَانَ يورد من العلوم المتنوعة المحررة مع الديانة والزهادة والعبادة، سارت بذكره الركبان في سائر الأقاليم والبلدان واستمر على ذلك مدة سنين متطاولة.
(1)
(1/ 75 - 77) مجمع اللغة العربية بدمشق، تحقيق جعفر الحُسَيني.
(2)
أي سنة 683.
(3)
كذا، ولعله: زبره.
زاد ابن مفلح في «طبقاته» وأنَّه كَانَ يورد من حفظه في المجلس نحو كراسين أو أكثر، وبقي يُفسِّر في سورة نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام عدة سنين. وأطال في ترجمته كثيرًا، وشهرته تغني عن الإطناب في ذكره والإسهاب في أمره.
ولد يوم الاثنين عاشر شهر ربيع الأوَّل سنة إحدى وستين وستمائة بحرّان، وقدم مع أهله سنة سبع وستين وستمائة إلى دمشق فسمع بها من ابن عبد الدَّائم والمجد بن عساكر وابن أبي الخير والقاسم الإربلي والمسلم بن علان وإبراهيم بن الدرجي وابن أبي اليسر وخلق كثير، وأقبل على العلوم في صغره، فأخذ الفقه والأصول عن والده والشيخ شمس الدِّين ابن أبي عمر والشيخ شمس الدِّين بن المنجَّى، وبرع في ذلك، وقرأ في العربية أيامًا على ابن عبد القوي، ثمَّ أخذ «كتاب سيبويه» وتأمَّله ففهمه، وأقبل على تفسير القرآن العزيز فبرز فيه، وأحكم الفرائض والحساب والجبر والمقابلة وغير ذلك من العلوم، ونظر في علم الكلام وبرز في ذلك على أهله، وردّ على رؤسائهم. وتأهل للفتوى والتدريس وله دون العشرين سنة، وأمدَّه الله تعالى بكثرة الكتب وسرعة الحفظ وقوة الفهم وبطء النسيان، وعُنِي بالحديث أتمَّ عناية ونسخ الأجزاء، ودارعلى الشيوخ وخرَّج وانتقى وبرع في الرجال وعلل الحديث.
وكان كثير المحاسن، فارغًا عن شهوات المأكل والملبس والجماع. لا لذة له في غير نشر العلم وتدوينه، عرض عليه قضاء [القضاة] قبل التسعين
(1)
(1)
أي: وست مئة. وعمره دون الثلاثين.
ومشيخة الشيوخ فلم يقبل شيئًا من ذلك، وامتُحِنَ وأوذي مرات وحبس بقلعة مصر والقاهرة وبالإسكندرية وبقلعة دمشق مرتين، وصنف التَّصانيف الحسنة الَّتي هي أشهر من أن تذكر، وأعرف من أن تنكر، وحدث بدمشق ومصر والثغر، وسمع منه خلق من الحفاط والأئمة من الحديث ومن تصانيفه، وخرَّج له ابن الواني أربعين حديثًا حدث بها، وقد أفرد له الحافظ أبو عبد الله بن عبد الهادي ترجمة في مجلَّدةٍ وكذلك أبو حفص البزار البغدادي في كراريس.
ومات بدمشق قي القلعة معتقلًا سحر ليلة الاثنين عشرين ذي الحجة أو ذي القَعْدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة ثمَّ جُهِّز وأُخْرِجَ إلى جامع البلد وكان الجمع أعظم من جمع الجُمع، حُزِرَ الرجال بستين ألفًا وأكثر، والنساء بخمسة عشر ألفًا. صلى عليه أخوه زين الدِّين عبد الرَّحمن بسوق الخيل بعد خروج جنازته من باب الفرج، ودفن بمقابر الصوفية إلى جانب أخية الشرف وهو عبد الله ورُئِيَتْ له منامات حسنة.
* * * *
العلامة مجير الدِّين عبد الرحمن العليمي الحنبلي (928)
- المنهج الأحمد في ذكر أصحاب الإمام أحمد
- الدُّر المنضَّد في ذكر أصحاب الإمام أحمد
صفحة بيضاء
المَنْهج الأحمد في ذكر أصحاب الإمام أحمد
(1)
أحمدُ بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن أبي محمد عبد الله بن أبي القاسم الخَضِر بن محمد بن الخَضِر بن علي بن عبد الله بن تَيْمِيَّة الحَرَّاني.
نزيلُ دمشقَ، الشَّيخ الإمام العالم المحقّق الحافظ المجتهد المحدِّث المفسّر القُدوة الزّاهد، نادرة العصر، شيخ الإسلام، قدوة الأنام، علّامة الزمان، تقي الدِّين أبو العَبَّاس ابن الشَّيخ شهاب الدِّين أبي المحاسن ابن شيخ الإسلام مجد الدِّين أبي البركات صاحب التَّصانيف الَّتي لم يسبق إلى مثلها، وشهرته تغني عن الإطناب في ذِكره والإسهاب في أمره.
ولد يوم الاثنين عاشر ربيع الأوَّل سنة إحدى وستين وست مئة بحران، وقدم مع والده وأهله إلى دمشق وهو صغير، وكانوا قد خرجوا من حَرَّان مُهَاجِرين بسبب جَوْر التَّتار واستيلائهم على البلاد، فساروا باللَّيل ومعهم الكتب على عجلةٍ لعدم الدَّواب؛ فكاد العدو يلحقهم، ووقفتِ العجلة، وابتهلوا إلى الله تعالى واستغاثوا به، فَنَجَوا وسَلِموا، وقدموا دمشق في أثناء سنة سبع وستين وست مئة.
فسمع الشَّيخ بها من جماعة منهم: الشيخ شمس الدِّين بن أبي عمر وخلق كثير، وعني بالحديث، وسمع «المُسْنَد» مرّات، و «الكتب السِّتَّة» ، و «معجم الطَّبرانيّ الكبير» وما لا يُحصى من الكتب والأجزاء. وقرأ بنفسه، وكتب بخطّه جملةً من الأجزاء، وأقبل على العلوم في صغره، فأخذ الفقه
(1)
(5/ 24 - 44) مؤسسة الرسالة، (ط، 1 - 1416).
والأصول عن والده، وعن الشَّيخ شمس الدِّين بن أبي عمر، والشيخ زين الدِّين بن المُنجَّى، وبَرَعَ في ذلك، وناظر، وقرأ في العربية أيَّامًا على ابن عبد القوي، ثمَّ أخذ «كتاب سيبويه» فتأمله ففهمه، وأقبل على تفسير القرآن الكريم فبرّز فيه، وأحكم أصول الفقه، والفرائض، والحساب، والجبر، والمقابلة، وغير ذلك من العلوم، ونظر في علم الكلام والفلسفة، وبرّز في ذلك على أهله، وردَّ على رؤسائهم وأكابرهم، ومهر في هذه الفنون، وتأهل للفتوى والتَّدريس وله دون العشرين سنةً، وأفتى من قبل العشرين أيضًا، وأمدّه الله بكثرة الكتب، وسُرعة الحفظ، وقوة الإدارك والفهم، وبطء النسيان.
ثمَّ توفي والده وكان له حينئذ إحدى وعشرون سنة، فقام بوظائفه بعده فدرَّس «بدار الحديث السكرية» في أول سنة ثلاثٍ وثمانين وست مئة، وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدِّين بن الزكي، والشيخ تاج الدِّين الفَزَاري، وزين الدِّين المرحّل، والشيخ زين الدِّين ابن المنجَّى وجماعة، وذكر درسًا عظيمًا في البسملة، وهو مشهور بين الناس، وعظَّمه الجماعة الحاضرون، وأثنَوْا عليه ثناءً كثيرًا، ثمَّ جلس بالجامع أيّام الجمع لتفسير القرآن العظيم، وشرع الشَّيخ في الجمع والتَّصنيف من دون العشرين، ولم يزل في علوّ وازدياد من العلوم والقدر، ورزقه الله شجاعةً وذكاءً وتنويرًا إلهيًّا وكرمًا ونصحًا وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، وكان له شدّةُ استحضار وقت إقامة الدليل، وفاق النَّاس في معرفة الفقه واختلاف المذاهب وفتاوي الصّحابة والتابعين، بحيث إنّه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب بل بما يقوم دليله عنده، وكان إذا سئل عن فن من العلم ظنَّ الرّائي والسّامع أنّه لا يعرف غير
ذلك الفن، وحَكَمَ أن أحدًا لا يعرفه مِثْله. وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا في مذاهبهم أشياء، ولا يُعرف أنَّه ناظر أحدًا فانقطع معه، ولا تكلَّم في عِلْم من العلوم ـ سواء كان من علوم الشّرع أو غيرها ـ إلَّا فاق فيه أهلَه، واجتمعت فيه شروطُ الاجتهاد على وجهها، وكان إمامًا متبحّرًا فارغًا عن شهوات المآكل والملابس والجماع، لا لذَّة له في غير نَشْر العلم وتدْوِينِه والعَمَل بمُقْتَضاه، وقد عرض عليه قضاء القضاء قبل التسعين، ومشيخة الشيوخ، فلم يقبل شيئًا من ذلك، وكان ممّن أدرك من العلوم حَظًّا، وكاد يستوعب السُّنَن والآثار حِفْظًا.
إنْ تكلَّم في التفسير فهو حامل رايته، أو أفتى في الفِقْه فهو مدرك غايته، أو ذاكر بالحديث فهو صاحب علمه وذو روايته، أو حاضر بالنِّحَل والملل لم يُر أوسع من نحلته، ولا ارفع من درايته، برز في كل فن على أبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله، ولا رأت عينه مِثْلَ نفسه.
وكان له خِبْرَةٌ تامَّة بالرِّجال، وجَرْحهم وتَعْديلهم وطبقاتهم، ومعرفةٌ بفنون الحديث، وبالعالي والنَّازل، والصَّحيح والسَّقيم، مع حفظه لمتونه الَّذي انفرد به، فلا يبلغ أحد في العصر مرتبته ولا يقارِبُه، وهو عَجَبٌ في استحضاره، واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إلى «الكتب السِّتَّة» و «المُسند» . فلقد كَانَ عجبًا في معرفة الحديث، وكان يكتب في اليوم والليلة نحوًا من أربعة كراريس أو أزيد.
وكتب «الحموية» في قعدة واحدة، وهي أزيد من ذلك، وكتب في بعض الأحيان في اليوم ما يبيض منه مجلّد، وكان رحمه الله فريد دهره في فهم القرآن ومعرفة حقائق الإيمان، وله يدٌ طُولى في الكلام على المعارف والأحوال
والتمييز بين صحيح ذلك وسقيمه ومعوجّه وقويمه، وقد ترجمه الشَّيخ الإمام العلَّامة القاضي البارع مجموع الفضائل شهاب الدِّين أبو العَبَّاس أحمد بن فضل الله كاتب السرّ بالديار المصرية والشامية في «تاريخه» الَّذي ذكر فيه البلاد وما فيها من الأعيان والمشاهير والعلماء والأماثل فذكر اسمه ثمَّ قال: هو البحرُ من أيِّ النواحِي جِئتَه، والبدرُ من أيّ الضواحِي رأيتَه، جَرَتْ آباؤُه لِشَأْوٍ ما قَنِعَ به، ولا وقفَ عنده طليحًا مُريحًا من تَعَبِه، طلبًا لا يَرضَى بِغاية، ولا يقضى له بنهاية. رَضَعَ ثَدْيَ العلمِ مُنذُ فُطِم، وطَلعَ الصباح ليُحَاكِيَهُ فَلُطِم، وقَطَعَ اللّيلَ والنهارَ دائبينِ، واتخذ العلمَ والعملَ صاحبَينِ، إلى أن أنسى السلَّفَ بِهُداه، وأنْأى الخَلَف عن بلوغ مَدَاه.
وَثَقَّفَ الله أمْرًا بات يَكلؤُهُ
…
يَمضِي حُساماه فيه السيفُ والقلمُ
بهمَّةٍ في الثريَّا أثرُ أخْمَصِها
…
وعَزْمَةٍ ليسَ من عادتِها السَّأمُ
على أنَّه من بيتٍ نشأ منه علماء في سالفِ الدُّهُور، ونسأت منه عْظَماء على المشاهير الشُّهور، فأحْيَا معالمَ بيتهِ القديم إذْ دَرَسَ، وجَنَى من فننه الرَّطيبِ ما غَرَسَ، وأصبحَ في فضله آيةً إلَّا أنَّه آيةُ الحَرَسِ، عَرضَتْ له الكُدَى فزَحْزَحَها، وعارضَتْه البحارُ فضَحْضَحَها، ثمَّ إنَّه كَانَ أُمَّةٌ وحده، وفردًا حتَّى نزلَ لَحْدَه. أَخْمَلَ من القُرَناءِ كلَّ عَظِيم، وأخْمَدَ من أهل الفناءِ كلَّ قديم، ولم يكن منهم إلَّا مَن يُجْفِل عنه إجفالَ الظَّليم، ويَتَضاءلُ لديه تَضاؤُلَ الغَرِيم.
مَا كانَ بعض الناسِ إلّا مِثْلَما
…
بعضُ الحصَا الياقوتةُ الحمراءُ
جاء في عصرٍ مأهولٍ بالعلماء، مشحونٍ بنجومِ السّماء، يَمُوجُ في جانبَيهِ بحورٌ خَضَارِمُ، ويطِيرُ بين خافِقيهِ نُسُورٌ قَشَاعِمُ، وتُشْرِقُ في أنديتهِ بُدورُ دُجُنَّةٍ، وصدورُ أسِنَّةٍ، ويَثْأرُ جُنُودُ رَعيلٍ، وتَزْأرُ أسودُ غِيْلٍ، إلَّا أنَّ صَبَاحَه طَمَسَ
تلك النجوم، وبحْرهُ طَمَّ تِلكَ الغُيُوم، ففَاءَتْ سُمْرَتُه على تلك التلاعِ، وأطلَّتْ قَسورتُه على تلك السِّبَاعِ، ثُمَّ عُبِّئَتْ له الكتائبُ فحَطَّمَ صفوفَها، وخَطَمَ أُنوفَها، وابتلَعَ غَدِيرُهُ المطمئنُّ جَداولَها، واقتلَعَ طَوْدُهُ المُرْجَحِنُّ جَنَادِلَها، وأخمدتْ أنفاسَهم رِيحُه، وأكْمَدَت شَرَاراتِهم مصابِيحُه:
تَقدَّمَ راكبًا فيهم إمامًا
…
ولولاه لما رَكِبُوا وَراءَا
فجَمعَ أشْتَاتَ المذاهب، وشُتَّاتَ المذاهب. ونَقَلَ عن أئمةِ الإجماعِ فمَنَ سِواهم مذاهبَهم المختلفةَ واستَحْضَرَها، ومَثَّل صُوَرَهم الذاهبةَ وأحْضَرها، ولو شعَرَ أبو حنيفةَ بزَمانِه ومَلَكَ أمرَه لأدْنَى إليه عَصْرَهُ مُقترِبًا، ومالكٌ لأجْرَى وراءَه أشْهَبَهُ ولو كَبَا، أو الشَّافعيُّ لقالَ: ليتَ هذا كَانَ لـ الأمِّ وَلَدًا ولَيتَني كنت له أبَا، أو الشيبانيُّ ابنُ حنبلٍ لما لامَ عِذَارَه إذا غَدا منه لفَرْطِ العَجبِ أشيبا.
لَا بل داودُ الظاهريُّ، وسِنَان الباطنيُّ لظَنَّا تحقيقَه من مُنْتَحَلِه، وابنُ حَزْمٍ والشَّهْرِستانيُّ لحَشَرَ كلٌّ منهما ذِكرَه أمَّة في نِحَلِه، والحاكمُ النَّيسابوري والحافظ السِّلَفي لأضافَه هذا إلى «استدراكِه» وهذا إلى «رِحَلِه» ، تَرِدُ إليه الفتاوى ولا يردّها، وتَفِدُ عليه فيُجِيب عنها بأجوبة، كأنَّهُ كَانَ قاعدًا لها يُعِدُّهَا.
أبدًا على طَرَفِ اللسانِ جوابُه
…
فكأنَّما هي دَفعةٌ مِن صَيِّبِ
يَغدُو مُسَاجلُه بغُرَّةِ صافحٍ
…
ويَرُوحُ مُعتَرِفًا بذلَّةِ مُذْنِب
ولقد تَضَافَرتْ عليه عُصَبُ الأعداءِ فَأُقْحِمُوا إذْ هَدَرَ فَحْلُه، وأُفْحِمُوا إذ زَمزَمَ ليجني الشهَد نَحْلُه، ورُفِعَ إلى السُّلطانِ غيرَ مَا مَرَّةٍ، ورُمِيَ بالكبَائِر،
وتُرُبِّصَتْ به الدَّوائِرُ، وسُعِيَ به ليُؤْخَذَ بالجَرائِر، وحَسَدَه مَن لم يَنَل سَعْيَه وكثر فَارتَابَ، ونَمَّ وما زادَ على أنَّه اغتابَ، وأُزْعِجَ من وَطنِه تارةً إلى مِصْرَ، وتارة إلى الإسكندريّة، وتارةً إلى محبس القَلْعَةِ بدمَشْقَ، وفي جميعها يُودَعُ أخْبِيةَ السُّجونِ، ويُلْدَغُ بزنَابى المَنُونِ، وهو على علمٍ يُسَطِّرُ صُحُفَه، ويَدَّخِرُ تُحَفَه، وما بينه وبين الشيء [إلا أن يصنفه] ويُقرِّط به ولو سَمْعَ امرئٍ واحدٍ ويُشَنِّفَه، حتَّى تسْتَهديَ أطرافُ البلادِ طُرَفَه، ويَسْتَطلعَ ثَنايا الأقاليم شُرَفَه، إلى أنْ خَطَفَتْه آخرَ مَرَّةٍ من سِجْنِه عُقَابُ المنَايا، وجذبته إلى مَهْوَاتِها قرارةُ الرَّزايَا، وكَانَ قبلَ مَوتِه قَد مُنِعَ الدَّواةَ والقَلَم، وطُبِعَ على قلبه منه طابعُ ألَمِ، وكان مبدأُ مَرَضِه ومَنْشَأ عَرَضِه، حتَّى نزلَ قِفارَ المقابر، وتركَ فِقَارَ المنابِر، وحَلَّ بساحة تُربِه ومَا يُحاذِر، وأخذَ راحةَ قَلبِه من اللائِم والعاذِر.
وقد كتب الشَّيخ العلَّامة كمال الدِّين بن الزَّماكاني بخطه على كتاب «إبطال التحليل» للشيخ ترجمة الكتاب، واسم الشَّيخ، وترجم له ترجمةً عظيمة، وأثنى عليه ثناءً عظيمًا، وكتب أيضًا تحت ذلك:
ماذَا يَقُوْلُ الوَاصِفُونَ لَهُ
…
وصِفَاتُهُ جَلَّتْ عن الحَصْرِ
هُوَ حُجَّةٌ للهِ قَاهِرَةٌ
…
هو بَيْنَنَا أُعْجُوْبَةُ الدَّهْرِ
هو آيةٌ للخَلْقِ ظَاهِرَةٌ
…
أنْوارُها أُرْبَتْ على الفَجْر
وللشيخ أثير الدِّين أبي حيَّان الأندلسي النَّحوي: لمَّا دخل الشَّيخُ مصرَ واجتمع به:
لمَّا رأينا تقيَّ الدِّين لاحَ لنا
…
داعٍ إلى اللهِ فرْدًا ما لَه وَزَرُ
على مُحَيَّاهُ من سِيْمَا الأُلَى صَحِبُوا
…
خيرَ البريَّةِ نورٌ دونَه القَمَرُ
حَبْرٌ تَسَرْبَلَ منه دَهرُه حِبَرًا
…
بَحرٌ تَقَاذَفُ مِن أمواجه الدُّرَرُ
قامَ ابنُ تَيميَّةٍ في نَصْر شِرعَتِنَا
…
مَقامَ سَيِّدِ تَيْمٍ إذْ عَصَتْ مُضَرُ
فأظهرَ الدِّين إذْ آثارُهُ دَرَسَتْ
…
وأخمدَ الشِّرك إذ طارتْ له شَرَرُ
يا من تحدّثَ عن علم الكتاب أصِخْ
…
هذا الإمامُ الذي قد كان يُنتظرُ
وحكى الذَّهَبيّ: أنَّ الشَّيخ تقي الدِّين بن دقيق العيد قال للشيخ تقي الدِّين بن تَيْميَّة عند اجتماعه به وسماعه لكلامه: ما كنت أظن أنَّه بقي يُخلق مثلك.
وكان المشايخ يعظِّمونه تعظيمًا زائدًا، وكان الشَّيخ عماد الدِّين الواسطي يتلمذ له مع أنَّه كَانَ أسنَّ منه، وكان يقول: قد شارفَ مقام الأئمة الكبار، ويناسب قيامه في بعض الأمور قيام الصديقينَ.
ولكن كَانَ هو وجماعةٌ من خواص أصحابه ربّما أنكروا من الشَّيخ كلامه في بعض الأعيان من العلماء، أو في أهل التخلِّي والانقطاع ونحو ذلك. وكان الشَّيخ رحمه الله لا يقصد بذلك إلَّا الخير والانتصار للحقّ ــ إن شاء الله تعالى.
وطوائف من أئمة أهل الحديث حفاظهم وفقهائهم كانوا يحبُّون الشَّيخ ويعظِّمونه، ولم يكونوا يحبون له التَّوغُّل مع أهل الكلام والفلاسفة، كما هو طريقة أئمة أهل الحديث المتقدّمين، كالشَّافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد، وكذلك كثير من العلماء من الفقهاء والمحدِّثين والصّالحين كرهوا له التفرُّد ببعض شذوذ المسائل الَّتي أنكرها السلف على من شذَّ بها، حتَّى إنَّ بعض قضاة العدل من أصحابنا وهو قاضي القضاة شمس الدِّين بن مُسَلَّم المتقدِّم ذكره منعه من الإفتاء ببعض ذلك كما تقدَّم في ترجمته.
وغالبُ حطِّه على الفضلاء والمتنزهّدة فبحق، وبعضُه هو مجتهد فيه، ومذهبه توسعة العذر للخلق، ولا يكفِّر أحدًا إلَّا بعد قيام الحجّة عليه.
وقد قام على الشَّيخ خلق من علماء مصر والشام قيامًا لا مزيد عليه، وبدَّعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابتٌ لا يداهن ولا يحابي، بل يقول ما أدَّاه إليه اجتهاده وحدّةُ ذهنه وسعة دائرته، فجرى بينه وبينهم حملات حربية، ووقعات شامية ومصرية، وكم من نوبة قد رمَوْه فينجيه الله، فإنّه كَانَ دائم الابتهال، كثير الاستعانة، قويَّ التوكل، وكان له عصبة يحبُّونه من العلماء والصُّلحاء والجند والأمراء والتّجار والكبراء والعامة.
وأما شجاعته فبها تُضرب الأمثال، وببعضها يشتبه أكابر الأبطال، ولقد أقامه الله تعالى في نوبة غَازَان، والتقى أعباءَ الأمر بنفسه، وقام، وقعد، وطلع، وخرج، واجتمع بالملك غازان مرتين وبخطلوشاه وبُولاي، وكان قبجق يتعجب من إقدامه وجرأته، وله حدة قوية تعتريه في البحث، حتَّى كأنه لَيثٌ حَرِب وكان رحمه الله فيه قلة مداراة، وعدم تؤدة غالبًا، وله إقدام وشهامة، وقوة نفس، توقعه في أمور صعبة، فيدفع الله عنه، وله نظم قليل، ولم يتزوّج ولا تسرّى، ولا له من المعلوم إلَّا شئ قليل، وكان كريمًا فارغًا عن الدّينار والدِّرهم، وفيه مروءة وقيام مع أصحابه، وسعي في مصالحهم، وهو فقير لا مال له، وملبوسه كآحاد الفقهاء فَرَجِيَّة، ودَلَق، وعمامة تكون قيمته ثلاثون درهمًا، ومداس ضعيف الثمن، وشعره مقصوص، وهو رَبْع القامة، بعيد ما بين المنكبين، كأنّ عينيه لسانان ناطقان ويصلِّي بالناس صلاةً لا يكون أطولُ من ركوعها ولا سجودها، ولم ينحن لأحد قطُّ، وإنما يسلِّم ويصافح ويبتسم.
وقد سافر مرَّة على البريد إلى الديار المصرية يستنفر السُّلطان عند مجيء التتار سنةً من السنين، وتلا عليهم آيات الجهاد، وقال: إن تخليتم عن الشَّام ونصرة أهله والذَّب عنهم فإنَّ الله تعالى يقيم لهم من ينصرهم غيركم، ويستبدل بكم سواكم. وتلا قوله تعالى:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].
وقوله تعالى: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [التوبة: 39].
وبلغ ذلك الشَّيخ تقي الدِّين بن دقيق العيد ــ وكان هو القاضي حينئذٍ ــ فاستحسن ذلك، وأعجبه الاستنباط، وتعجب من مواجهة الشَّيخ للسُّلطان بمثل هذا الكلام.
وأما مِحَنُ الشَّيخ: فكثيرة، وشرحها يطول، وقد نقلها المؤرخون ودوّنوها، وقد اعتقله مرّة بعضُ نواب السُّلطان بالشام قليلًا، بسبب قيامه على نَصْراني سَبَّ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم، واعتقل معه الشَّيخ زين الدِّين الفارقي، ثمَّ أطلقهما مكرمين، وقد شُنِّع عليه غيرَ مرّة بسبب أحاديث الصِّفات.
ثمَّ امتحن سنة خمس وسبعمائة بالسُّؤال عن معتقده بأمر السُّلطان؟ فجمع نائبه القضاة والعلماء بالقصر، وأحضر الشَّيخ، وسأله عن ذلك، فبعث الشَّيخ فأحضر من داره «العقيدة الواسطية» فقرؤوها في ثلاثة مجالس، وحاقَقُوه، وبحثوا معه، ووقع الاتفاق بعد ذلك على أَنَّ هذه عقيدة سُنيَّة سلفيّة، فمنهم من قال ذلك طوعًا، ومنهم من قاله كرها، ثمَّ تعصَّب جماعة من المصريين منهم بيبرس الشَّشْنَكير الَّذي تسلطن بعد ذلك وغيره من
الفقهاء منهم نصر المنبجي وابن مخلوف قاضي المالكيّة، وطُلب الشَّيخ على البريد إلى القاهرة، وعُقد له ثاني يوم وصوله ــ وهو ثاني عشري رمضان سنة خمس وسبع مئة مجلسٌ بالقلعة، ادُّعي عليه بدعاوى عند ابن مخلوف قاضي المالكية، فاستخصم الشَّيخ ابن مخلوف القاضي، ولم يثبت عليه ما يُوجب التَّعزير ولا غيره، ثمَّ حبس هو وأخوه شرف الدِّين في برجٍ أيّامًا ويقال: إنَّ أخاه شرف الدِّين ابتهل ودعا الله عليهم، فمنعه الشَّيخ، وقال له: بل قل: اللهم هب لهم نورًا يهتدون به. وحصل أذًى كثيرٌ للحنابلة بالقاهرة، واستمرَّ الشَّيخ في السّجن، وهو متوجه إلى الله تعالى، لا يقبل شيئًا من الكُسْوة السُّلطانية، ولا تَدنَّس بشيءٍ من ذلك.
ثمَّ في ربيع الأوَّل سنة سبع وسبع مئة أخرج الشَّيخ من السّجن، وعقد له مجالس حضرها أكابر الفقهاء، وانفصلت علي خيرٍ، ثمَّ أُطلق وامتنع من المجيء إلى دمشق، وأقام بالقاهرة يقرئ العلم ويتكلم في الجوامع والمجالس العامة، ويجتمع عليه خلق، ثمَّ حصل بينه وبين جماعة من الصُّوفية تنازع، وعقد له مجلس لكلامه في ابن عربي، وادّعي عليه بأشياء لم يثبت شيء منها، فطلب من بعض القضاة الحكم عليه بالحبس، فلم يتوجّه عليه الحكم بذلك، فاختار الشَّيخ أنْ يحبس فأُرسل إلى حبس القاضي وأُجلس في الموضع الَّذي أجلس فيه القاضي تقي الدِّين ابن بنت الأعز لمَّا حبس.
وكل ذلك بسعي نصر المنبجي، واستمرّ الشَّيخ في الحبس يستفتى، ويقصده النَّاسُ ويزورونه، وتأتيه الفتاوى المشكلة من الأمراء وأعيان النَّاس، ثمَّ أخرجوه في سلطنة بيبرس الشَّشْنكير الملقب بالمظفر إلى
الإسكندرية على البريد، وحبس بها في برجٍ حسن متَّسع مضيء، يدخل عليه من شاء ويمنع هو من شاء، ويخرج إلى الحمَّام إذا شاء. وبقي في الإسكندرية مدة سلطنة المظفَّر، وكانت أحد عشر شهرًا، فلما عاد الملك النّاصر محمدَّ ابن قلاوون وكان دخوله إلى القاهرة وجلوسه على سرير ملكه بعد العصر من نهار الأربعاء مستهل شوّال سنة تسعٍ وسبع مئة، وتمكن، وأهلك المظفّر، وخمد شيخُه نصر المنبجي، واشتد غضب السُّلطان على القضاة لمداخلتهم المظفر وعزل بعضهم، بادر بإحضار الشَّيخ إلى القاهرة مكرمًا في شوّال سنة تسع وسبع مئة وأكرمه إكرامًا زائدًا وقام إليه وتلقّاه في مجلس حفل فيه قضاة المصريين والشاميين والفقهاء وأعيان الدّولة، وزاد في إكرامه، وبقي يُسَارّه ويستشيره، وأثنى عليه بحضورهم ثناءً كثيرًا، وأصلح بينه وبينهم، ويقال: إنَّه شاوره في أمرٍ هَمَّ به في حقّ القضاة فصرفه عن ذلك، وأثنى عليهم، وأنّ ابن مخلوف المالكي كَانَ يقول: ما رأينا أفتى من ابن تَيْميَّة، سعينا في دمه فلمّا قدر علينا عفا.
وسكن الشَّيخ بالقاهرة، والناسُ يتردّدون إليه والأمراء والجند وطائفة من الفقهاء وفيهم من يعتذر إليه ويتنصّل مما وقع، وهو في هذه المدّة يقرئ العلم، ويجلس للناس مجالس عامة.
ثمَّ قدم إلى الشَّام هو وأخواه سنة اثنتي عشرة بنيَّة الجهاد لمّا قدم السُّلطان لكشف التتر عن الشَّام فخرج مع الجيش، وفارقهم في عسقلان وزار البيت المقدَّس، ثمَّ دخل دمشق بعد غيبته عنها فوق سبع سنين ومعه أخواه وجماعة من أصحابه، وخرجَ خلقٌ كثير لتلقيه، وسُرَّ النَّاس بمقدمه، واستمر على ما كانَ عليه أولًا من إقراء العلم وتدريسه بمدرسة السُّكريّة
والحَنْبلية وإفتاء النَّاس.
ثمَّ في سنة ثماني عشرة ورد كتابٌ من السُّلطان بمنعه من الفتوى في مسألة الحلف بالطّلاق بالتكفير، وعقد له مجلس بدار السّعادة، ومنع من ذلك.
ثمَّ في سنة تسع عشرة عقد له مجلس أيضًا كالأول وانفصل على تأكيد المنع، ثمَّ عقد له مجلس ثالث بسبب ذلك وحبس بالقلعة ثمَّ حبس لأجل ذلك مرَّة أخرى، ومنع بسببه من الفتيا مطلقًا فأقام مدة يفتي بلسانه، ويقول: لا يَسَعُني كتمُ العلم، وفي آخر الأمر تكلّموا معه في مسألة المنع من السَّفر إلى قبور الأنبياء والصّالحين وأفتى قضاة مصر الأربعة بحبسه، فحبس بقلعة دمشق سنتين وأشهرًا. وبها مات رحمه الله.
وقد بين أنَّ ما حُكم عليه به باطل بإجماعِ المسلمين من وجوه كثيرة جدًّا، وأفتى جماعةٌ بأنه مخطئ في ذلك خطأ المجتهدين المغفور لهم، ووافقه جماعة من علماء بغداد وغيرهم، وكذلك ابنا أبي الوليد شيخ المالكية بدمشق أفتيا أنَّه لا وجه للاعتراض عليه فيما قاله أصلًا، وأنَّه نقل خلاف العلماء في المسألة، ورجَّح أحد القولين فيها، وبقي مدَّة في القلعة يكتب العلمَ ويصنفه، ويرسل إلى أصحابه الرسائل، ويذكر ما فتح الله به عليه في هذه المرة من العلوم العظيمة، والأحوال الجسيمة، وقال: قد فتح الله عليّ في هذا الحصن في هذه المرة من معاني القرآن، ومن أصول العلم بأشياء، مات كثير من العلماء يتمنّونها، ثمَّ إنَّه منع من الكتابة، ولم يُترك عنده دواةٌ ولا قلمٌ ولا ورقٌ، فأقبل على التّلاوة والتهجُّد والذّكر، وقال مرة: ما يصنع أعدائي بى؟ أنا جنَّتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلادي سياحة.
وقال مرة: المحبوس من حبس قلبُه عن ربّه، والمأسور من أسره هواه.
ولمّا دَخل القلعة، وصار داخل سورها نظر إليه، وقال:{بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ} [الحديد: 13].
وكَانَ مع ما هو فيه من الحبس والتهديد والإرجاف، وهو مع ذلك أطيب النَّاس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرّهم نفسًا ــ رحمه الله وعفا عنه ــ.
ذكر بعض تصانيفه: وهي كثيرة جدًا، ولكن نذكر نَبْذةً من أسماء أعيان المصنّفات الكبار:
كتاب «الايمان» مجلد. «الاستقامة» مجلدان. «جواب الاعتراضات المصريّة على الفتاوى الحموية» أربع مجلدات. «بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية» في ستة مجلدات كبار. كتاب «المحنة المصرية» مجلدان. «المسائل الإسكندرية» مجلد. «الفتاوى المصرية» سبع مجلدات. كل هذه التَّصانيف ما عدا كتاب «الإيمان» كتبه وهو بمصر في مدّة سبع سنين، صنّفها في السجن، وكتب معها أكثر من مئة لَفّة ورق أيضًا.
كتاب «درء تعارض العقل والنقل» أربع مجلدات كبار. «الجواب عما أورده الشَّيخ كمال الدِّين الشريشي على هذا الكتاب» نحو مجلد.
وكتاب «منهاج السنّة النبويّة في نقض كلام الشيع والقدرية» أربع مجلدات. «الجوابُ الصَّحيح لمن بَدَّل دين المسيح» مجلدان. «شرح أول المحصّل» للرازي مجلد. «شرح بضع عشرة مسألة من الأربعين للرازي» مجلدان. «الرد على المنطق» مجلد كبير. «الرد على البكري في مسألة
الاستغاثة» مجلد. «الرَدّ على أهل كسروان الرّوافض» مجلدان. «الصّفدية جواب من قال: إنَّ معجزات الأنبياء قوًّى نفسانية» مجلد. «الهلاوونية» مجلد. «شرح عقيدة الأصبهاني» مجلد. «شرح العمدة للشيخ موفق الدين» كتب منه أربعة مجلدات. «تعليقة على المحرر في الفقه لجدِّه» عدَّة مجلدات. «الصَّارم المسلول على شاتم الرسول» مجلد. «بيان الدليل على بطلان التحليل» مجلد. «اقتضاء الصّراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم» مجلد. «التحرير في مسألة حفير» مجلد في مسألة من القسمة كتبها اعتراضًا على الخويّي في حادثة حكم فيها. «الرد على من اعتراض عليه في مسألة الحلف بالطلاق» ثلاث مجلدات. كتاب «تحقيق الفرقان بين التطليق والأيمان» مجلد كبير. «الرد على الإخنائي في مسألة الزّيارة» مجلد.
وأما القواعد المتوسطة والصغار وأجوبة الفتاوى فلا يمكن الإحاطة بها لكثرتها وانتشارها وتفرقها.
ومن أشهرها «الفرقان بين أولياء الرَّحمن وأولياء الشيطان» مجلد لطيف. «الفرقان بين الحق والبطلان» مجلد لطيف. «الفرقان بين الطّلاق والأيمان» مجلد لطيف. «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية» مجلد لطيف. «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» مجلد لطيف.
ذكر نبذة من مفرداته وغرائبة
- اختار ارتفاع الحدث بالمياه المتعصرة، كماء الوَرْد ونحوه.
- واختار جواز المسح على النَّعلين، والقدمين وكل ما يُحتاج في نزعه من الرِّجل إلى معالجة باليد أو بالرجل الأخرى، فإنه يجوز عنده المسح عليه مع القدمين.
- واختار أنَّ المسح على الخفين لا يتوقف مع الحاجة كالمسافر على البريد ونحوه، وفعل ذلك في ذهابه إلى الدّيار المصرية على خيل البريد، ويتوقف مع إمكان النزع وتيسره.
- واختار جواز المسح علي اللّفائف ونحوها.
- واختار جواز التَّيمُّم لخشية فوات الوقت في حق غير المعذور، كمن أخَّر الصلاة عمدًا حتَّى تضايق وقتُها. وكذا من خشي فوات الجمعة والعيدين، وهو محدث، فأما من استيقظ أو ذكر في آخر وقت الصَّلاة فإنَّه يتطهر بالماء ويصلي لأنَّ الوقت متسع في حقه.
- واختار أنَّ المرأة إذا لم يمكنها الاغتسال في البيت وشقّ عليها النزول إلى الحمام وتكرره، أنَّها تتيمّم وتُصلي.
- واختار أنْ لا حَدَّ لأقلِّ الحيض ولا لأكثره، ولا لأقل الطُّهر بين الحيضتين، ولا لسنّ اليأس من الحيض، وأنّ ذلك يرجع إلى ما تعرفه كلُّ امرأة من نفسها.
- واختار أنَّ تارك الصَّلاة عمدًا لا يجب عليه القضاء، ولا يُشرع له، بل يكثر من النّوافل.
- وأنَّ القصر يجوز في قصير السفر وطويله.
- وأن سجود التّلاوة لا يُشترط له الطَّهارة.
ومن إنشاد الشَّيخ رحمه الله لنفسه قبل موته بأيَّام:
أنا الفقير إلى ربِّ السّموات
…
أنَا المُسَيكين في مجموع
(1)
حالاتي
(1)
في الأصل: جميع.
أنَا الظَّلوم لنفسي وَهْيَ ظالمتي
…
والخيرُ إن جاءَنا من عنده ياتي
لا أستطيع لنفسي جلبَ منفعةٍ
…
ولا عَنِ النَّفس في دفع المَضَرَّاتِ
وليسَ لي دونَه مولى يدبِّرُني
…
ولا شَفيعٌ إلى ربِّ البريّات
إلا بإذنٍ من الرَّحمن خالقنا
…
إلى الشَّفيع كما قد جا في الآيات
ولستُ أملكُ شيئًا دونَهُ أبدًا
…
ولا شريك أنَا في بعض ذرَّاتِ
ولا ظهيرَ لهُ كيما أُعاونُه
…
كما يكونُ لأرْبَاب الولايَاتِ
والفَقْرُ لي وصفُ ذاتٍ لازمٌ أبَدًا
…
كمَا الغِنَى أبَدًا وصفٌ له ذاتي
وهذهِ الحالُ حالُ الخلقِ أجمعِهِ
…
وكلُّهم عنده عبد له آتي
فمن بَغَى مطلَبًا من دون خالقه
…
فَهْوَ الجَهول الظَّلومُ المشرك العاتي
والحمدُ لله ملءَ الكون أجمعِهِ
…
ما كان فيه وما من بعدِهِ ياتي
وهذه الأبيات متضمنة حسن اعتقاد وافتقار.
ذكر وفاته رحمه الله
مكث الشَّيخ في القلعة من شعبان سنة ست وعشرين إلى ذي القعدة سنة ثمانٍ وعشرين، ثمَّ مرض بضعةً وعشرين يومًا، ولم يعلم أكثر النَّاس بمرضه، ولم يفجأهم إلَّا موتُه، وكانت وفاته في سحر ليلة الاثنين عشري ذي االقعدة، سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مئة. وذكره مؤذّن القلعة على منارة الجامع، وتكلَّم به الحرسُ على الأبرجة، فتسامع النَّاس بذلك، وبعضهم أُعلم به في منامه، وأصبح النَّاسُ، واجتمعوا حول القلعة حتَّى أهل الغوطة والمرج، ولم يطبخ أهل الأسواق شيئًا، ولا فتحوا كثيرًا من الدكاكين الَّتى من شأنها أن تفتح أوّل النّهار. وفتح باب القلعة وكان نائبُ السَّلطنة غائبًا عن البلد، فجاء الصَّاحبُ إلى نائب القلعة، فعزاه به، وجلس عنده، واجتمع عند الشَّيخ في القلعة خلق
كثير من أصحابه، يبكون ويُثْنُون، وأخبرهم أخوه زين الدِّين عبد الرَّحمن أنَّه ختم هو والشيخ منذ دخلا القلعة ثمانينَ ختمَة، وشرعا في الحادية والثمانين، فانتهيا إلى قوله تعالى:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54 - 55].
فشرع حينئذ الشَّيخان الصّالحان: عبد الله بن المحب الصَّالحي، والزُّرَعيّ الضَّرير ــ وكان الشَّيخ يحبُّ قراءتهما ــ فابتدأا من سورة {الرَّحْمَنُ} حتَّى ختما القرآن، وخرج الرّجالُ، ودخل النساءُ من أقارب الشَّيخ فشاهدوه، ثمَّ خرجوا واقتصر على من يغسله، ويساعدُ في تغسيله، وكانوا جماعة من أكابر الصَّالحين وأهل العلم، كالمِزِّي وغيره، ولم يفرغ من غسله حتَّى امتلأت القلعة بالرّجال وما حولها إلى الجامع، فَصلّى عليه بدركات القلعة الزاهد القدوة محمد بن تمَّام، وضجّ الناسُ حينئذ بالبكاء والثَّناء، وبالدعاء والترحمُّ، وأُخرج الشَّيخ إلى جامع دمشق في السّاعة الرابعة أو نحوها، وكان قد امتلأ الجامع وصحنه، والكلّاسة، وباب البريد، وباب السّاعات إلى اللبادين والفوارة، وكان الجمع أعظم من جمع الجُمَع، ووضع الشَّيخ في موضع الجنائز ممّا يلي المقصورة، والجند يحفظون الجنازة من الزّحام، وجلس النَّاسُ على غير صفوف، بل مرصوصين، لا يتمكن أحد من الجلوس ولا السّجود إلَّا بكلفة، وكثر الناس كثرةً لا توصف، فلما أذَّن المؤذِّن بالظهر أقيمت الصَّلاة علي السُّدة، بخلاف العادة، وصلوا الظُّهر، ثمَّ صُلّي على الشَّيخ، وكان الإمام نائب الخطابة علاء الدِّين بن الخراط لغيبة القَزْويني بالديار المصرية، ثمَّ ساروا به، والنَّاس في بكاءٍ ودعاءٍ وثناءٍ، وتهليل وتأسُّفٍ، والنّساء فوق الأسطحة من هناك إلى المقبرة يدعين ويبكين أيضًا،
وكان يومًا مشهودًا لم يعهد بدمشق مثله، ولم يتخلّف من أهل البلد وحواضره إلَّا القليل من الضُّعفاء والمُخدَّرات، وصرخ صارخ: هكذا تكون جنائز أئّمة السُّنّة.
فبكى النَّاس بكاءً كثيرًا عند ذاك؛ وأُخرجَ من باب البريد، واشتدَّ الزّحام، وألقى النَّاسُ على نعشه مناديلهم وعمائمهم، وصار النّعش على الرّؤوس يتقدّم تارة ويتأخّر أخرى، وخرج النَّاس من أبواب الجامع كلّها، وهي مزدحمة، ثمَّ من أبواب المدينة كلها، لكن كَانَ المعظم من باب الفرج، ومنه خرجت الجنازة، وباب الفراديس، وباب النّصر، وباب الْجابية، وعظم الأمر بسوق الخيل، وتقدّم في الصلاة عليه هناك أخوه زين الدِّين عبد الرَّحمن.
ودفن وقت العصر أو قبلها بيسير إلى جانب أخيه شرف الدِّين عبد الله بمقابر الصوفية، وحُزِر الرّجالُ بستين ألفًا، أو أكثر إلى مائتي ألف، والنساء بخمسة عشر ألفًا. وظهر بذلك قول الإمام أحمد رضي الله عنه:«بيننا وبين أهل البدع يوم الجنائز» .
وختم له ختمات كثيرة بالصّالحية والمدينة، وتردَّد النَّاسُ إلى زيارة قبره أيّامًا كثيرة ليلًا ونهارًا، ورئيت له منامات كثيرة صالحة. ورثاه خلق من العلماء والشعراء بقصائد كثيرة من بلدان شتى وأقطار متباعدة، وتأسَّف المسلمون لفقده ــ رحمه الله تعالى وغفر له ــ وصُلِّي عليه صلاة الغائب في غالب بلاد الإسلام القريبة والبعيدة، حتَّى في اليمن والصِّين، وأخبر المسافرون: أنَّه نُودي بأقصى الصِّين للصلاة عليه يوم جمعة: «الصَّلاةُ علة تَرْجُمَان القرآن» .
وقد أفرد الشَّيخ الإمام العلَّامة المتقن المحقِّق بحر العلوم شمس الدِّين
أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد المقْدِسِيّ الحنبلى ــ رضي الله عنه وغفر له ــ للشيخ تقي الدِّين ترجمةً في مجلد.
وكذلك أبو حفص عمر بن علي البزار البغدادي في كراريس.
وقد حدّث الشَّيخ كثيرًا وسمع منه خلق من الحفاظ والأئمة من الحديث ومن تصانيفه.
وقد أنشد الشَّيخُ الحافظ شمس الدِّين محمد بن أحمد بن عثمان الذَّهّبيّ ــ رحمه الله تعالى ــ يرثي الشَّيخ تقي الدِّين رضي الله عنه:
يا موتُ خُذْ من أرَدْتَ أوْ فَدَعِ
…
مَحوْتَ رَسْمَ العُلوم والوَرَعِ
غَيَّبتَ بحرًا مفسّرًا جبلًا
…
حَبْرًا تقيًّا مجانب الشِّبَعِ
فإن يحدّث «فمسلمٌ» ثقةً
…
وإن يُناظر فصاحبُ «اللُّمَعِ»
وإن يَخُض نحو «سيبويه» يَفُهْ
…
بكلّ معنًى في الفنّ مخترعِ
وصارَ عالي الإسناد حافظه
…
كشُعبة أو سعيد الضُّبَعيِ
والفقه فيه فكان مجتهدًا
…
وذا جهادٍ عارٍ من الجَزَعِ
وجودُه «الحاتميّ» مشْتهر
…
وزُهده «القادري» في الطَّمعِ
أسكنه الله في الجنان ولا
…
زال عَلِيًّا في أجمل الخلع
معْ مالك والإمام أحمد والـ
…
ـنُّعمان والشّافعي والنَخَعي
مضى ابن تيمية وموعده
…
مع خصمه يوم نفخةِ الفزع
ورثاه أيضًا الشَّيخ زينُ الدِّين عمر بن الوَرْدي الشَّافعيّ رحمه الله فقال:
عَثَا في عرضه قومٌ سِلاطٌ
…
لهم من نَثْر جوهره التقاطُ
تقي الدِّين أحمد خيرُ حبرٍ
…
خُروق المعضلات به تُخاطُ
توفّي وهو محبوسٌ فريدٌ
…
وليس له إلى الدنيا انبساطُ
ولو حضروهُ حينَ قَضى لألْفَوْا
…
ملائكةَ النَّعيمِ به أحاطوا
قضى نحبًا وليس له قرينٌ
…
ولا لنظيره لُفَّ القِماط
فريدًا في ندَى كفٍّ وعلم
…
وحلُّ المشكلات به يُناط
وكان إلى التقى يدعو البرايا
…
وينهى فِرْقةً فَسَقُوا ولاطُوا
وكان يخافُ إبليسٌ سطاه
…
بوعظٍ للقلوب هو السِّياط
فيالله ماذا ضمَّ لحدٌ
…
ويالله ما غطَّى البلاط
هُمُ حَسَدَوه لما لم ينالوه
…
مناقبَهُ فقد مكَرَوا وشاطوا
وكانوا عن طرائقه كُسَالى
…
ولكنْ في أذاه لهم نشاط
وحَبْسُ الدُّرِّ في الأصداف فخرٌ
…
وعند الشيخ بالسِّجن اغتباطُ
بآل الهاشمي له اقتداءٌ
…
فقد ذاقوا المنون ولم يواطوا
بنو تيميَّةٍ كانوا فبانوا
…
نجوم العلم أدركها انهباط
ولكن يا ندامة حابسيه
…
فشك الشرك كان به يماط
ويا فرح اليهود بما فعلتم
…
فإن الضد يعجبه الخباط
ألم يك فيكم رجل رشيد
…
يرى سجن الإمام فيستشاط
إمام لا وِلاية كان يرجو
…
ولا وقف عليه ولا رِباط
ولا جاراكم في كسب مال
…
ولم يُعهد له بكم اختلاط
ففيم سجنتموه وغظتموه
…
أما لجزا أذيته اشتراط
وسجن الشيخ لا يرضاه مثلي
…
ففيه لقدر مثلكم انحطاط
أما والله لولا كتم سري
…
وخوف الشر لانحل الرباط
وكنت أقول ما عندي ولكن
…
بأهل العلم ما حَسُن اشتطاط
فما أحد إلى الإنصاف يدعو
…
وكلّ في هواه له انخراط
سيظهر قصدكم يا حابسيه
…
ونيتكم إذا نُصِبَ الصراط
فها هو مات عنكم واسترحتم
…
فعاطوا ما أردتم أن تُعاطوا
وحلوا واعقدوا من غير ردٍّ
…
عليكم وانطوى ذاك البساط
* * * *
الدُّرُّ المنضَّد في ذكر أصحاب الإمام أحمد
(1)
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن أبي محمد عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن عليّ بن عبد الله ابن تَيْمِيَّة الحَرَّاني.
نزيلُ دمشقَ، الشَّيخ، الإمام، العالم، المحقّق، الحافظ، المجتهد، المحدِّث، المفسّر، القُدوة، الزّاهد، نادرة العصر، شيخ الإسلام، قدوة الأنام، علّامة الزمان، تقي الدِّين، أّبو العَبَّاس ابن الشَّيخ شهاب الدِّين أبي المحاسن ابن شيخ الإسلام مجدِ الدِّين أبي البركات صاحبُ التَّصانيف الَّتي لم يُسبَق إلى مثلِها، ولد يومَ الاثنين عاشر ربيع الأوَّل سنةَ إحدى وستِّين وستِّمائة بحرَّان، وقَدِمَ مع والده وأهلِهِ إلى دمشق مُهَاجِرين بسبب جَوْرِ التَّتار في أثناء سنةِ سبعٍ وستِّين وستِّمائة وصار من شأنه ما هو مشهورٌ.
ذكر نبذة من أسماء أعيان تصانيفه الكبار
كتاب «الإيمان» مُجلَّدٌ، كتاب «الاستقامة» مُجلَّدان، «جواب الاعتراضات المصريَّة على الفتاوى الحَمَوِيَّة» أربعُ مُجلَّداتٍ، «بيان تلبيس الجَهْمِيَّة في تأسيس بدعهم الكلامِيَّة» في ستِّ مُجلَّداتٍ كبارٍ، كتابُ «المِحْنَة المِصْرِيَّة» مُجلَّدان، «المسائل الاسكندرية» مُجلَّدٌ، «الفتاوى المصريَّة» سبعُ مُجلَّداتٍ.
(1)
(1/ 476 - 479). مكتبة التوبة، تحقيق د. عبد الرحمن العثيمين (1412).
وكلُّ هذه التَّصانيف ما عدا كتاب «الإيمان» كتبه وهو بمصر في مدّةِ سبعِ سنين صنَّفها في السِّجن. وكتب معها أكثر من مائة لَفَّة
(1)
ورق أَيضًا، كتاب «درءُ تَعَارض العَقلِ والنَّقْلِ» أربع مُجلَّداتٍ كبارٍ، و «الجوابُ عمَّا أورده الشَّيخ كمال الدِّين بن الشَّرِيشيُّ على هذا الكتاب» نحو مُجلَّد، كتاب «منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية» أربع مُجلَّداتٍ، «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح» مُجلَّدان، «شرح أول المحصل» للرازي مُجلَّدٌ، «شرح بضعة عشر
(2)
مسألة من الأربعين للرازي» مُجلَّدان، «الرَّدُّ على المَنطق» مُجلَّدٌ كبيرٌ، «الرَّدُّ على البكريِّ في مسألة الاستغاثة» مُجلَّدٌ، «الرَدُّ على أهل كسروان الروافض» مُجلَّدان، «الصَّفدِيّةُ جواب من قال: إنَّ معجزات الأنبياء قوًى نفسانية» مُجلَّدٌ، «الهلاوونية» مُجلَّدٌ، «شرح عقيدة الأصبهاني» مُجلَّدٌ، «شرحُ العُمدة» للشَّيخ موفَّق الدِّين، كتب منه أربَع مُجلَّداتٍ، «تعليقة علي المُحرَّر في الفقه» لجدّه عدّة مُجلَّداتٍ، «الصَّارِمُ المَسْلُول على شاتم الرَّسُول» مُجلَّدٌ، «بيانُ الدَّليل على بطلان التَّحليل» مُجلَّدٌ، «اقتضاء الصِّراط المُستقيم في مخالفة أصحاب الجَحيم» مُجلَّدٌ، «التحرير في مسألة حفير» مّجلَّدٌ في مسألة من القسمة كتبها اعتراضًا على الخُويي في حادثة حكم فيها، «الردُّ الكَبِير على من اعتَرض عليه في مسألةِ الحَلف بالطلاق» ثلاثُ مُجلَّداتٍ، كتاب «تَحقيق الفُرقان بين التطليق
(3)
والأيمان» مَجلَّدٌ كبيرٌ، «الرَّدُّ على الإخنائي في مسألة الزِّيارة» مُجلَّدٌ.
(1)
في المطبوعة: كفة!
(2)
كذا في الأصل، والصواب: بضع عشرة.
(3)
في المطبوعة: التطبيق!
وأمَّا القواعدُ المُتوسطة والصِّغار وأجوبة الفتاوى فلا يُمكن الإحاطة بها، لكثرتها وانتشارها وتَفرُّقها، ومن أشهرها «الفُرقان بين أولياء الرَّحمن وأولياء الشَّيطان» مُجلَّدٌ لطيف، «الفُرقان بين الحقِّ والبُطلان» مُجلَّدٌ لطيفٌ، «الفرقان بين الطَّلاق والأيمان» مُجلَّدٌ لطيفٌ، «السِّياسة الشَّرعِيَّة في إصلاح الرَّاعي والرَّعيَّة» مُجلَّدٌ لطيفٌ، «رفع المَلام عن الأئمة والأعلام» مُجلَّدٌ لطيفٌ.
وقد حصل للشيخ محنٌ كثيرةٌ، وسُجن غيرَ مرَّةٍ، ثمَّ في آخر عمره سُجن بقلعة دمشق في دولة الملك الناصر محمد قلاوون فمكثَ في القلعةِ من
(1)
شعبان سنة ستٍّ وعشرين إلى ذي القعدة سنةَ ثمانٍ وعشرين ثمَّ مرض بضعةً وعشرين يومًا ولم يَعلم أكثرُ النَّاسِ بمرضه ولم يفجأهم إلَّا موته وكانت وفاته في سحرِ ليلةِ الاثنين عشري ذي القَعْدة سنةَ ثمان وعشرين وسبعِمائة، وذكره مؤذِّن القَلعة على منارةِ الجامعِ وتكلَّم به الحَرَسُ على الأبرجة ثمَّ في صَبيحة ذلك اليوم غُسِّل بحضرة جماعةٍ من أكابر الصَّالحين وأهلِ العلمِ كالمِزِّي وغيره، وصَلَّى عليه بدركات القَلعة الزَّاهِدُ القُدوة محمد بن تَمَّام، وأُخرج إلى جامع دمشق وكان الجمعُ أعظمَ من جمع الجمعِ، وصُلِّي عليه بعد صلاةِ الظُّهرِ وكان الإمام نائب الخطابة عَلاء الدِّين بن الخراط وأُخرج من بابِ البَريد، واشتَدَّ الزِّحامُ وخرجت الجَنازةُ من بابِ الفرج، وعَظُمَ الأمرُ بسوقِ الخيلِ، وتقدّم في الصَّلاة عليه هناك أخوه زين الدِّين عبد الرَّحمن ودُفن وقت العَصْرِ أو قبلها بيسيرٍ إلى جانب أخيه شرف الدِّين عبدِ الله بمقابر الصُّوفية، وحُزِر الرِّجال
(1)
في المطبوعة: «في» !
بستين ألفًا وأكثر، إلى مائتي ألف، والنِّساء بخمسةَ عشرَ ألفًا، رحمه الله وغفر له، وصُلّي عليه صلاة الغَائِبِ في غالبِ بلادِ الإسلامِ القَريبةِ والبعيدةِ، حتَّى في اليَمَنِ والصِّين، وأخبر المُسافرون أنَّه نودي بأقصى الصِّين للصَّلاة عليه يومَ جُمعةٍ: الصلاةُ على ترجمان القرآن ــ رحمه الله تعالى ــ.
* * * *
طبَقَاتُ المفَسِّريْن
(1)
للعلَّامة شمس الدِّين محمد بن عليّ بن أحمد الداوودي (945)
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر ابن محمد بن تَيْمِيَّة الحَرَّاني ثمَّ الدِّمشقي الحنبلي، الإمام العلامة الفقيه المجتهد الناقد المفسر البارع الأصولي شيخ الإسلام علم الزهاد، نادرة دهره، تقي الدِّين أبو العبَّاس، ابن المفتي شهاب الدِّين عبد الحليم، ابن الإمام المجتهد شيخ الإسلام مجد الدين، شهرته تُغني عن الإطناب في ذكره، والإسهاب في أمره.
ولد يوم الاثنين عاشر ربيع الأوَّل سنة إحدى وستين وستمائة بحرَّان، وقدِم به والده وبإخوته إلى دمشق، عند استيلاء التَّتار على البلاد سنة سبع وستين. فسمع بها من ابن عبد الدَّائم، وابن أَبي اليُسر، والمجد بن عساكر، ويحيي بن الصيرفي الفقيه، وابن أبي الخير الحداد، والقاسم الإرْبِليّ، والشيخ شمس الدِّين بن أبي عمر، والمسلم بن علّان، وإِبراهيم بن الدرجي؛ وخلق.
وعُني بالحديث، وسمع «المسند» مرّات، والكتب السِّتَّة، و «معجم الطَّبرانيّ الكبير» ، وما لا يحصى من الكتب والأجزاء.
وقرأ بنفسه وكتب بخطه جملة من الأجزاء، وأقبل على العلوم في صغره. فأخذ الفقه والأصول عن والده، وعن الشَّيخ شمس الدِّين بن أبي عمر،
(1)
(1/ 46 - 50) تحقيق علي محمد عمر، مصر 1392.
والشيخ زين الدِّين بن المنجّى. وبرع في ذلك.
وقرأ في العربية أيامًا على ابن عبد القوي، ثمَّ أخذ «كتاب سيبويه» ، فتأمله ففهمه.
وأقبل علي تفسير القرآن الكريم، وبرز فيه، وأحكم أصول الفقه والفرائض والحساب والجبر والمقابلة، وغير ذلك من العلوم، ونظر في علم الكلام والفلسفة وبرز في ذلك على أهله، ورد على رؤسائهم وأكابرهم، ومهر في هذه الفضائل.
وتأهل للفتوى والتدريس، وله دون العشرين سنة، وأفتى من قبل العشرين أيضًا، وأمدَّه الله بكثرة الكتب وسرعة الحفظ، وقوة الإدراك والفهم، وبُطْء النسيان، حتَّى قال غير واحد: إنَّه لم يكن يحفظ شيئًا فينساه، ثمَّ توفي والده وكان له حينئذٍ إحدى وعشرون سنة. فقام بوظائفه بعده، فدرس بدار الحديث السكرية في أول سنة ثلاث وثمانين.
وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدِّين بن الزكي، والشيخ تاج الدِّين الفزاري، وزين الدِّين بن المرحِّل، والشيخ زين الدِّين بن المنجَّي، وجماعة، وذكر درسًا عظيمًا في البسملة. وهو مشهور بين الناس، وعظّمه الجماعة الحاضرون، وأثْنَوا عليه ثناء كثيرًا.
قال الذَّهبيّ: وكان الشَّيخ تاج الدِّين الفزاري يبالغ في تعظيمه، بحيث إنَّه علق بخطه درسه بالسكرية، ثمَّ جلس عقب ذلك مكان والده بالجامع على منبر أيام الجمع، لتفسير القرآن العظيم، وشرع من أول القرآن، وكان يورد من حفظه في المجلس نحو كراسين أو أكثر، وبقي يفسر في سورة نوح عليه السلام، عدة سنين أيامَ الجُمَع. وفي سنة تسعين: ذكر على الكرسي يوم
جمعة شيئًا من الصفات، فقام بعض المخالفين، وسعوا في منعه من الجلوس، فلم يمكنهم ذلك.
وقال قاضي القضاة شهاب الدِّين بن الخُويِّيّ: أنا على اعتقاد الشَّيخ تقي الدين، فعوتب في ذلك. فقال: لأن ذهنه صحيح، وموادَّه كثيرة. فهو لا يقول إلَّا الصحيح، فقال الشَّيخ شرف الدِّين المقْدِسِيّ: أَنا أرجو بركته ودعاءه، وهو صاحبي وأخي، ذكر ذلك البرزالي في «تاريخه» .
وشرع الشَّيخ في الجمع والتصنيف من دون العشرين، ولم يزل في علُوٍّ وازدياد من العلم والقدر إلى آخر عمره.
قال الذَّهبيّ في «معجم شيوخه» : برع في تفسير القرآن، وغاص في دقيق معانيه بطبع سيال، وخاطر إلى مواقع الإشكال ميَّال، واستنبط منه أشياء لم يُسْبَق إليها. وبرع في الحديث وحفظه، فقلَّ من يحفظ ما يحفظه معزوًّا إلى أصوله وصحابته، مع شدة استحضار له وقت إقامة الدليل، وفاق الناس في معرفة الفقع واختلاف المذاهب، وفتاوي الصَّحابة والتابعين، بحيث إنَّه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب بل بما يقوم دليله عنده، وأتقن العربية أصولًا وفروعًا وتعليلًا واختلافًا، ونظر في العقليات، وعرف أقوال المتكلمين، وَرَدّ عليهم، ونبه على أخطائهم، وحذَّر منهم، ونصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين.
وأُوذي في ذات الله من المخالفين، وأخيف في نصر السنة المحضة، حتى أعلى الله مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له، وكَبتَ أعداءه، وهدى به رجالًا من أهل الملل والنحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالبًا، وعلى طاعته، وأحيا به الشَّام، بل الإسلام، بعد أن كاد ينثلم بتَثْبِيتِ أولي الأمر لمّا أقبل حزب التتر والبغي في خيلائهم،
فظُنت بالله الظنون، وزلزل المؤمنون، واشْرَأبّ النفاق وأبدى صفحته، ومحاسنُه كثيرة، وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي، فلو حلفت بين الركن والمقام، لحلفت: أني ما رأيت بعيني مثله، وأنَّه ما رأى مثل نفسه.
قال الذَّهبيّ: وقد قرأت بخط شيخنا العلامة كمال الدِّين بن الزَّمْلَكاني، ما كتبه سنة بضع وتسعين تحت اسم «ابن تَيْمِيَّة» كَانَ إذا سئل عن فنٍّ من العلم ظن الرائي والسامع: أنَّه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أنَّ أحدًا لا يعرفه مثله.
وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا في مذاهبهم منه أشياء كثيرة، ولا يعرف أنَّه ناظر أحدًا فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم ــ سواء كَانَ من علم الشرع أو غيره ــ إلَّا فاق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد علي وجهها.
وأمَّا تصانيفه رحمه الله فهي أشهر من أن تُذْكر، وأعرف من أن تنكر. سارت مسير الشمس في الأقطار، وامتلأت بها البلاد والأمصار، قد جاوزت حدّ الكثرة، فلا يمكن أحدًا حصرُها، ولا يتسع هذا الكلام، لعد المعروف منها ولا ذكرها. وقد بلغت ثلاثمائة مجلدة.
وكتب بخطه من التَّصانيف والتعاليق المفيدة والفتاوى المشبعة في الأفرع والأصول والحديث ورد البدع بالكتاب والسنة شيئًا كثيرًا، يبلغ عدة أحمال، فمما كمل منها «كتاب الصارم المسلول على متنقص الرسول» ، و «كتاب تبطيل التحليل» ، و «كتاب اقتضاء الصراط المستقيم» ، و «كتاب [الرد على] تأسيس التقديس» في عدة مجلدات، و «كتاب الرد علي طوائف الشيعة» أربع مجلدات، و «كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام» ، و «كتاب
السياسة الشرعية»، و «كتاب التصوف» ، و «كتاب الكلم الطيب» ، و «كتاب مناسك الحج» ، وغير ذلك.
وقد امتُحِن وأُوذي مرارًا ومات في سحر ليلة الاثنين العشرين من ذي القَعْدة سنة ثمانٍ وعشرين وسبعمائة مُعْتقلًا بقلعة الشَّام، وقد وقع أجره على الله.
* * * *
قلادة النحر في وَفَيَات أعيان الدهر
(1)
للمؤرخ عبد الله بن أحمد بامخرمة (947)
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله المعروف بابن تيميَّة. الشيخ الحافظ الكبير تقي الدين.
ولد يوم الاثنين عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وست مئة بحرَّان، وسمع من جماعة، وبرع في حفظ علم الحديث والأصْلَين، وكان يتوقَّد ذكاءً، قيل: مصنفاته أكثر من مئتي مجلد، وله مسائل غريبة أُنْكِر عليه فيها، وحُبِسَ بسببها؛ لمباينتها لمذهب أهل السنة، ومن أقبحها نهيه عن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وطعنه في مشايخ الصوفية العارفين؛ كحجة الإسلام أبي حامد الغزالي، والأستاذ أبي القاسم القُشَيري، والشيخ أبي الحسن الشاذلي، والشيخ ابن العريف، وغيرهم، وكذلك ما عُرِف من مذهبه كمسألة الطلاق وغيرها، وكذلك عقيدته في الجهة، وما نُقِل عنه فيها.
اعْتُقِل بقلعة دمشق، ومُنع قبل وفاته بخمسه أشهر من الدواة والورق، وتوفي معتقلًا سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
* * * *
(1)
(3/ ق 522 ب) نسخة تركيا. والكتاب ملخّص من كتاب «مرآة الجنان» لليافعي، ثم أضاف إليه من تواريخ اليمن.
كتاب الزّيارات
(1)
للقاضي محمود بن محمد العدوي (1032)
ابن تيمية
العلامة أحمد بن عبد الحليم [بن عبد السلام] بن عبد الله النميري الحرّاني، نسبة إلى حرّان مدينة مشهورة بين الموصل والشام، بينها وبين الرّها يوم وبين الرقة يومان. وذكر قوم فيما حكاه ياقوت في «معجم البلدان» أنها أول مدينة بُنيت في الأرض بعد الطوفان.
الإمام أستاذ الحفاظ وعَلَم الأئمة الأيقاظ الأصوليّ المفسّر المجتهد المنعوت بتقي الدِّين [ابن] العلامة شهاب الدِّين ابن المجتهد مجد الدين. وشهرته تُغني عن التمديد والإطناب في ذكره.
وُلد بحرَّان يوم الاثنين عاشر شهر ربيع الأول سنة إحدى وستين وست مئة، وقدم إلى دمشق مع أهله سنة سبع وستين وست مئة. مات بقلعة دمشق معتقلًا ــ قيل على مسألة الزيارة ــ ليلة الاثنين عشرين ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. وكانت له جنازة حافلة حُزر الرجال بستين ألفًا، وقيل: بمئتي ألف، والنساء بخمسة عشر ألفًا، وظهر بذلك ما قال أبو عبد الرحمن السُّلمي: حضرتُ جنازة أبي الفتح القواس الزاهد [مع] الشيخ أبي الحسن الدارقطني، فلما بلغ [إلى] ذلك الجمع الكثير أقبل علينا فقال: سمعت أبا
(1)
(ص 94 - 95) دمشق (1956) بالمجمع العلمي.
سهل بن زياد القطَّان يقول: إن ابن أحمد بن حنبل يقول سمعت أبي يقول: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز.
ودفن بمقابر الصوفية، و [قبره] مشهور مقصود للزيارة.
* * * *
أزهار الرياض في أخبار عياض
(1)
لشهاب الدِّين أحمد بن محمد المقَّري التِّلِمْساني (1041)
فائدة: في تعليق البَسِيلي
(2)
على التفسير مما التقطه من كلام شيخه ابن عَرَفَة: أن تقي الدِّين ابن تيمية قال ــ لمَّا رأى شِفاء القاضي عياض
(3)
ــ: غلا هذا المُغَيربي
(4)
!
(1)
(5/ 9 - 17) تحقيق عبد السلام الهراس وسعيد أعراب، 1400 هـ، ط المغرب.
(2)
هو أحمد بن محمد البَسِيلي التونسي (ت 830)، جمع تفسيرًا مما قيده عن شيخه ابن عَرَفة. انظر «كشف الظنون»:(ص 635)، و «الأعلام»:(1/ 227). وقد طبع أخيرًا.
(3)
يعني كتاب «الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم» للقاضي عياض.
(4)
هذا القول المنسوب إلى شيخ الإسلام يطعن في نسبته له أمور:
1 -
أن هذا النقل لا وجود له في كتبه ورسائله، وهي كثيرة بحمد الله.
2 -
أن هذا يخالف طريقة شيخ الإسلام من تعظيم العلماء وإجلالهم، فلا نجد لهذه العبارة نظيرًا في حق أي عالم، حتى الذين خالفهم شيخ الإسلام ورد عليهم.
3 -
أن هذا القول لم ينقله أحد من تلاميذه وأصحابه على كثرتهم.
4 -
أنا وجدنا شيخ الإسلام قد أثنى على القاضي عياض وعلى كتاب «الشّفا» في مواضع متعددة من كتبه، مع كونه قد ينتقد ما في كتاب «الشفا» من المنقولات الضعيفة
…
وإليك أمثلة: قال ابن تيمية: «ومثل القاضي عياض بن موسى السبتي ــ مع علمه وفضله ودينه ــ أنكر العلماء عليه كثيرًا مما ذكره في شفائه من الأحاديث والتفاسير التي يعلمون أنها من الموضوعات والمناكير، مع أنه قد أحسن فيه وأجاد بما فيه من تعريف حقوق خير العباد وفيه من الأحاديث الصحيحة والحسان ما يفرح به كل من عنده إيمان» . «الرد على البكري» : (1/ 58 - ت عجال). انظر أيضًا (1/ 86).
قال: وإلى الردِّ عليه أشار شيخنا ابن عرفة رحمه الله تعالى بقوله:
شفاء عياض في كمال نبينا
…
كواصف ضوء الشمس ناظر قرصها
فلا غَرْو في تبليغه كُنْه وصفه
…
وفي عجزه عن وصفه كنه شخصها
وإن شئتَ شبِّهه بذكر أمارة
…
بأصلٍ لبرهان مبينٍ لنقصها
وهذا لقول قيل عن زائغٍ: غلا
…
عياضٌ فتبّت ذاتُه عن محيصها
ونسب البَسِيلي المذكور لابن تيمية القولَ بالجهة.
وكتب بعضُهم على طُرَّة البَسيلي ما نصه: رأيت أسئلة ابن تيمية في أسفار، فلا تسأل عن اطلاعه وحُسْن تصرّفه. والتجسيم نسَبَه له أبو حيان في آية الكرسي
(1)
، وأبو حيان مدحه بقصيدة، ثم عاداه؛ فوجب التوقف في نقله لأجلها. ولم يزل حاله في ظهور حتى ناظر السُّبْكيين
(2)
، ومناظرته معهم
(1)
في كتابه «النهر الماد» مختصر البحر المحيط.
(2)
لا أعلم من أمْرِ هذه المناظرة شيئًا، ولا ذكرها أحدٌ من المؤرخين، ولا أظنها وقعت أصلًا؛ فأما التاج السبكي فمولود سنة (727 أو 729) فأنى له مناظرة من توفي سنة (728)! ! وأما والده التقي السبكي فمولود سنة (683) في مصر، وكان بقاء شيخ الإسلام في مصر بين سنتي (705 - 712) وعمر السبكي آنذاك (22 - 29 سنة) فمناظرته للشيخ مستبعدة في حضرة شيوخه الذين عجزوا عن مناظرة الإمام، خاصة إذا علمنا أنه تأخر في طلب بعض العلوم كعلم الحديث، فإنه كان سنة (703) كما ذكر تلميذه الحافظ العراقي. ثم السبكي لم يقدم الشام إلا سنة 739 هـ بعد وفاة الإمام. فأين ناظره ومتى؟ ! وإن كان المقصود ردّ السبكيذ على ابن تيمية في مسألة الطلاق والزيارة، وردّ ابن تيمية عليه في الطلاق، فنعم، هذا بالنسبة للمناظرة، أما قوله:«ولم يزل حاله في ظهور حتى ناظر السبكيين» فغير صحيح واقعًا ولا مذكور تاريخًا!
حجة باهرة في فضله. وقد أثنى على عياض فلا يصح عنه ذمُّه، أو أراد أن القتل لا يقول به من الأربعة غير مالك، ولهذا رد حكم هذا الباب إليه في البلاد المشرقية. انتهى ما في الطرة.
قلت: أما علمه فأمر لا يُنكَر ولا يُجْحد، وقد رأيت مؤلفًا في التعريف به ومحاشاته عما نُسب إليه من التجسيم وغيره من المقالات الشنيعة
(1)
، وذكر فيه قصيدة أبي حيان التي مدحه بها، وثناء الأكابر عليه، وغير ذلك من أموره، وكتب بالموافقة على ذلك الحافظ ابن حجر والعيني والبساطي وغيرهم. وقال بعض هؤلاء: إن مسألة الزيارة التي ردّ عليه فيها السبكي لا توجب في حقه بدعة، وغاية ما هنالك أنه أخطأ فيها، والتسليم في أمره أسلم. وهؤلاء نزَّهوه عن القول بالجهة وهم أعرف بحاله من غيرهم وإن صرح بخلاف ذلك غير واحد من المغاربة، منهم الحاج الرَّحال ابن بطوطة، فإنه قال في «رحلته»
(2)
: شاهدته نزل درجةً وقال: إن الله ينزل كما أنزل. انتهى. عياذًا بالله من هذه المقالة! وقد صرح بذلك أيضًا بعض سلفنا وهو الإمام القاضي أبو عبد الله محمد بن أحمد المقَّري التلمساني رحمه الله في أول رحلته المسماة بـ «نظم اللآلي في سلوك الأمالي» عندما تعرَّض لشيخيه ابني الإمام التلمسانيين
…
أبو زيد عبد الرحمن، وأبو موسى عيسى ابنا محمد ابن عبد الله بن الإمام
(3)
..
(1)
يعني كتاب «الرد الوافر على من زعم أن من سمى ابن تيمية: شيخ الإسلام
…
كافر» للحافظ ابن ناصر الدِّين الدمشقي الشافعي (ت 842). وهو مطبوع في مجلد.
(2)
(1/ 316 - 317 تحقيق التازي). وهذه فِرية من ابن بطوطة على شيخ الإسلام رحمه الله، وقد كتب جمع من العلماء في بيانها، انظر ما سبق (ص 575).
(3)
ترجمتهما في «الأعلام» : (3/ 330 و 5/ 108).
قال:
…
ولقيا أيضًا جلال الدِّين القزويني صاحب البيان
(1)
، وسمعا «صحيح البخاري» على الحجّار، وقد سمعته أنا عليهما، وناظرا تقي الدِّين ابن تيمية وظهرا عليه، وكان ذلك من أسباب محنته
(2)
.
وكانت له مقالات شنيعة من إمرار حديث النزول على ظاهره، وقوله فيه: كنزولي هذا
(3)
، وقوله فيمن سافر إلى المدينة لا ينوي إلا زيارة القبر الكريم: لا يقصر حتى ينوي المسجد، لحديث: «لا تشد الرحال
…
»
(4)
.
وكان شديد الإنكار على الإمام فخر الدين. حدثني شيخنا الإمام أبو عبد الله الآبلي أن عبد الله بن إبراهيم الرزموري أخبره أنه سمع ابن تيمية ينشد لنفسه:
محصَّلٌ في أصول الدِّين حاصله
…
من بعد تحصيله علم بلا دين
أصل الضلالة والإفك المبين فما
…
فيه فأكثره وحي الشياطين
(1)
صاحب كتاب «التلخيص» في علم البلاغة.
(2)
قارن بما قاله العلامة ابن الزملكاني ــ قرين شيخ الإسلام وبلديّه وخصمه ــ: «ولا يُعرف أنه ناظر أحدًا فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم سواء كان من علوم الشرع أو غيرها إلا فاق فيه أهله والمنسوبين إليه» اهـ.
(3)
تقدم كذب هذه الفرية، وأن مصدرها ابن بطوطة.
(4)
ذكر شيخ الإسلام النزاع في هذه المسألة عند العلماء في «الفتاوى» : (27/ 153)، وقال في موضع آخر:«ولهذا كان أئمة العلماء يعدون من جملة البدع المتكررة السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين، وهذا في أصح القولين غير مشروع حتى صرح بعض من قال ذلك: أن من سافر هذا السفر لا يقصر فيه الصلاة؛ لأنه سفر معصية» . «الفتاوى» : (26/ 153).
قال: وكان في يده قضيب فقال: والله لو رأيته لضربته بهذا القضيب هكذا، ثم رفعه ووضعه
(1)
.
* * * *
(1)
هذان البيتان ذكرهما شيخ الإسلام في «منهاج السنة» : (5/ 433) عن بعض معاصريه في قصة له، ولم ينسبهما لنفسه! وهذا يدلك على ما في بقية القصة من أمر القضيب والضرب! ! وذكرهما الصفدي في «الوافي بالوفيات»:(4/ 180) ولم ينسبهما لأحد، بل قال: رأيت بعضهم قد كتب على كتاب المحصل
…
ثم أجاب عنهما بثلاثة أبيات له. وانظر «نفح الطيب» : (5/ 216 - 217) للمؤلف. و «شذرات الذهب» : (6/ 103). وفي البيتين بعض اختلاف في المصادر.
شذَرَاتُ الذَّهبِ في أخْبَارِ مَنْ ذَهَبَ
(1)
للعلّامة أبي الفلاح عبد الحيّ بن العِماد الحنبلي (1089)
وفيها [728] شيخ الإسلام تقي الدِّين أبو العبَّاس أحمد بن عبد الحليم ابن عبد السَّلام ابن تّيْمِيَّة الحرَّاني الحنبلي، بل المجتهد المُطْلق.
ولد بحَرّان يوم الاثنين عاشر ربيع الأوَّل، سنة إحدى وستين وستمائة، وقدم به والده وبأخويه عند استيلاء التَّتار علي البِلاد إلى دمشق سنة سبع وستين، فسمع الشَّيخ بها ابن عبد الدَّائم، وابن أبي اليسر، والمجد ابن عساكر، ويحيي بن الصّيرفي، والقاسم الإربلي، والشيخ شمس الدِّين ابن أبي عمر، وغيرهم. وعني بالحديث، وسمع «المسند» مرّات، والكتب السِّتَّة، و «معجم الطَّبرانيّ الكبير» وما لا يُحصى من الكتب والأجزاء. وقرأ بنفسه، وكتب بخطّه جملة من الأجزاء، وأقبل على العلوم في صغره، فأخذ الفقه والأصول عن والده، وعن الشَّيخ شمس الدِّين بن أبي عمر، والشيخ زين الدِّين بن المُنَجَّى، وبَرَعَ في ذلك، وناظر، وقرأ العربية على ابن عبد القوي. ثمَّ أخذ «كتاب سيبويه» فتأمله وفهمه، وأقبل على تفسير القرآن الكريم فبرّز فيه، وأحكم أصول الفقه، والفرائض، والحساب، والجبر، والمقابلة، وغير ذلك من العلوم. ونظر في الكلام والفلسفة، وبرز في ذلك على أهله، وردَّ علي رؤسائهم وأكابرهم، ومهر في هذه الفضائل، وتأهل للفتوى والتدريس، وله دون العشرين سنة. وأفتى من قبل العشرين أيضًا. وأمدّه الله بكثرة الكتب، وسُرعة الحفظ، وقوة الإدراك والفهم، وبُطء
(1)
(7/ 142 - 150) دار ابن كثير، دمشق، تحقيق الأرناؤوط.
النسيان، حتَّى قال غير واحد: إنَّه لم يكن يحفظ شيئًا فينساه، ثمَّ توفي والده وله إحدى وعشرون سنة، فقام بوظائفه بعده مدة، فدرَّس بدار الحديث السُّكَّريَّة المجاورة لحمّام نور الدِّين الشهيد في البزورية في أول سنة ثلاث وثمانين، وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدِّين بن الزّكي، والشيخ تاج الدِّين الفَزَاري، وابن المُرَحّل، وابن المُنَجَّي، وجماعة، فذكر درسًا عظيمًا في البسملة، بحيث بَهَرَ الحاضرين، وأثنوا عليه جميعًا.
قال الذَّهبيّ: وكان الشَّيخ تاج الدِّين الفَزَاري يُبالغ في تعظيم الشَّيخ تقي الدِّين، بحيث إنَّه علّق بخطّه درسه بالسُّكرية.
ثمَّ جلس مكان والده بالجامع على منبر أيام الجمع لتفسير القرآن العظيم، وشرع من أول القرآن، فكان يُوردُ في المجلس من حفظه نحوَ كُرَّاسين أو أكثر. وبقي يُفسّر في سورة نوح عِدَّةَ سنين أيامَ الجُمَع.
وقال الذَّهبيّ في «معجم شيوخه» : شيخنا، وشيخ الإسلام، وفريد العصر، علمًا، ومعرفةً، وشجاعة، وذكاءً، وتنويرًا إلهيًّا، وكرمًا، ونصحًا للأمة، وأمرًا بالمعروف، ونهيًا عن المنكر.
سمع الحديث، وأكثر بنفسه من طلبه، وكتب، وخرَّج، ونظر في الرجال والطبقات، وحصَّل ما لم يحصّله غيره، وبرع في تفسير القرآن، وغاص في دقيقِ معانيه بطبع سيالٍ، وخاطر وقّادٍ إلى مواضع الإشكال مَيَّال، واستنبط منه أّشياء لم يُسبق إليها، وبَرَعَ في الحديث وحفظه، فقلَّ مَنْ يحفظ ما يحفظ من الحديث مَعْزُوًّا إلى أصوله وصحابته، مع شدة استحضارٍ له وقت إقامة الدّليل. وفاق النَّاس في معرفة الفقه، واختلاف المذاهب، وفتاوى الصّحابة والتابعين، بحيث إنَّه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل بما يقوم دليله عنده،
وأتقن العربية أصولًا وفروعًا، وتعليلًا واختلافًا. ونظر في العقليات، وعَرَفَ أقوال المتكلمين. وردّ عليهم، ونَبّه على خطئهم وحذَّر، ونصر السُّنِّة بأوضح حُججٍ وأبهر براهين، وأُوْذِيَ في ذات الله من المخالفين، وأُخيف في نصر السنة المحضة، حتَّى أعلى الله مناره، وجمع قلوب أهل التَّقوى على محبته والدعاء له. وكَبَتَ أعداءه، وهدى به رجالًا من أهل الملل والنِّحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالبًا، وعلى طاعته. وأحيا به الشَّام، بل الإسلام، بعد أنْ كاد ينثلم خصوصًا في كائنة التَّتار، وهو أكبر من أن يُنَبِّه علي سيرته مثلي: فلو حُلِّفْتُ بين الركن والمقام لحَلَفْتُ: أني ما رأيت بعيني مثله، وأنَّه ما رأى مثل نفسه. انتهى كلام الذَّهبيّ.
وكتب الشَّيخ كمال الدِّين ابن الزَّمْلَكاني تحت اسم «ابن تَيْميِّة» : كَانَ إذا سُئِلَ عن فنٍّ من العلم ظَنَّ الرائي والسَّامع أَنَّه لا يعرف غير ذلك الفَنِّ، وحكم أنَّ أحدًا لا يعرفه مثله. وكان الفقهاء من سائر الطّوائف إذا جالسوه استفادوا في مذاهبهم منه أشياء، ولا يُعرف أنَّه ناظر أحدًا فانقطع معه، ولا تكلم في علمٍ من العلوم سَوَاء كَانَ من علم الشَّرع أو غيرها إلَّا فاق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها.
وكتب الحافظ ابن سَيِّد الناس في «جواب سؤالات الدّمْيَاطي» في حقِّ ابن تَيْمِية: ألفيتهُ ممن أدرك من العلوم حظًّا، وكاد يستوعب السُّنن والآثار حفظًا، إن تكلم في التفسير، فهو حامل رايته، وإن أفتي في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر بالحديث فهم صاحب علمه، وذو روايته، أو حاضر بالنّحَل والمِلَل لم يُرَ أوسع من نحلته، ولا أرفع من درايته.
برز في كل فنٍّ على أبناء جنسه، ولم تَرَ عينُ من رآه مثله، ولا رأت عينه
مثل نفسه.
وقال الذَّهبيّ في «تاريخه الكبير» بعد ترجمة طويلة: بحيث يصدق عليه أن يُقال: كل حديث لا يعرفه ابن تَيْمِيَّة فليس بحديث.
وترجمه ابن الزَّمْلَكَاني أيضًا ترجمة طويلة وأثنى عليه ثناءً عظيمًا، وكتب تحت ذلك:
ماذا يقول الواصفون له
…
وصفاتُه جَلَّتْ عن الحَصْر
هو حُجَّةٌ للهِ قاهرةٌ
…
هو بيننا أعجوبَةُ العَصْرِ
هو آيةٌ للخَلْق ظاهرةٌ
…
أنوارُها أربتْ على الفَجْر
وللشيخ أثير الدِّين أبي حيَّان النّحوي لما دخل الشَّيخ مصرَ واجتمع به فأنشد أبو حَيَّان:
لمَّا رأيْنَا تَقِيَّ الدِّين لاحَ لنَا
…
داعٍ إلى اللهِ فردٌ ما له وَزَرُ
على مُحَيَّاهُ مِنْ سِيْمَا الأُولَى صَحِبُوا
…
خيرَ البَرِيَّةِ نُوْرٌ دُوْنَهُ القَمَرُ
حَبْرٌ تَسَرْبَلَ مِنْهُ دَهْرُهُ حِبرًا
…
بَحرٌ تَقَاذَفُ مِنْ أمواجه الدُّرَرُ
قامَ ابنُ تَيميَّةٍ في نَصْرِ شِرعَتِنَا
…
مَقَامَ سَيِّدِ تَيْمٍ إذْ عَصَتْ مُضَرُ
فأظْهَرَ الدِّين إذْ آثارُهُ دَرَسَتْ
…
وأخْمدَ الشِّرْكَ إذ طارَتْ لَهُ شَرَرُ
يا مَنْ يُحدثُ عن عِلْمِ الكتابِ أصِخْ
…
هذا الإمامُ الذي قَدْ كان يُنتظر
يشير بهذا إلى أنَّه المجدد.
وممن صرَّح بذلك الشَّيخ عماد الدِّين الواسطي، وقد توفي قبل الشَّيخ. وقال في حقِّ الشَّيخ بعد ثناء طويل جميل ما لفظه: فوالله، ثمَّ والله، ثمَّ والله، لم يُرَ تحت أديم السماء مثل شيخكم ابن تَيْمِيَّة، علمًا، وعملًا، وحالًا،
وخُلقًا واتِّباعًا، وكرمًا، وحلمًا، وقيامًا في حقِّ الله عند انتهاك حُرُماته، أصدق النَّاس عقدًا، وأصحهم علمًا، وعزمًا، وأنفذهم وأعلاهم في انتصار الحقّ وقيامه همةً، وأسخاهم كفًّا، وأكملهم اتباعًا لنَبيّه محمد صلى الله عليه وسلم. ما رأينا في عصرنا هذا من تستجلى النُّبُوة المحمدية وسُننها من أقواله وأفعاله إلَّا هذا الرَّجل، يشهد القلب الصحيح أنَّ هذا هو الاتباع حقيقة.
وقال الشَّيخ تقي الدِّين بن دقيق العيد، وقد سئل عن ابن تَيْمِيَّة بعد اجتماعه به: كيف رأيته؟ فقال: رأيت رجلًا سائر العلوم بين عينيه، يأخذ ما شاء منها ويترك ما شاء، فقيل له: فلم لا تتناظران؟ قال: لأنَّه يحب الكلام وأحبُّ السّكوت.
وقال برهان الدِّين بن مُفلْح في «طبقاته» : كتب العَلّامة تقي الدِّين السُّبْكي إلى الحافظ الذَّهَبيّ في أمر الشَّيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة: فالمملوك يتحقق قدره وزخارة بحره وتوسّعه في العلوم الشرعية والعقلية، وفرط ذكائه واجتهاده، وأنَّه بلغ من ذلك كل المبلغ الَّذي يتجاوزه الوصف، والمملوك يقول ذلك دائمًا، وقدره في نفسي أكبر من ذلك وأجلُّ، مع ما جمعه الله تعالى له من الزَّهَادة، والوَرَع، والدِّيانة، ونصرة الحقِّ، والقيام فيه لا لغرض سواه، وجريه على سنن السَّلف، وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفي، وغرابة مثله في هذا الزَّمَان، بل من أزمان. انتهى.
وقال العَلّامة الحافظ ابن ناصر الدِّين في «شرح بديعته» بعد ثناء جميل وكلام طويل: حَدَّث عنه خلقٌ، منهم الذَّهَبيّ، والبِرزالي، وأبو الفتح بن سيد النَّاس، وحدَّثنا عنه جماعة من شيوخنا الأكياس.
وقال الذَّهَبيّ في عدَّ مصنّفاته المجوّدة: وما أُبعد أن تصانيفه إلى الآن
تبلغ خمسمائة مجلدة.
وأثنى عليه الذَّهَبيّ وخلق بثناء حميد، منهم الشَّيخ عماد الدِّين الوَاسطي العارف، والعَلَّامة تاج الدِّين عبد الرَّحمن الفَزَاري، وابن الزَّمْلَكاني، وأبو الفتح ابن دقيق العيد.
وحَسْبُه من الثناء الجميل قول أستاذ أئمة الجرح والتعديل أبي الحجَاج المِزِّي الحافظ الجليل، قال عنه: ما رأيت مثله، ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحدًا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله، ولا أتبع لهما منه. وترجمه بالاجتهاد وبلوغ درجته، والتمكن في أنواع العلوم والفُنون: ابن الزَّمْلَكاني، والذَّهبيّ، والبرزاليُ، وابن عبد الهادي، وآخرون.
ولم يخلف بعده من يقاربه في العلم والفضل. انتهى كلام ابن ناصر الدِّين ملخَّصًا.
وكان الشَّيخ العارف بالله أبو عبد الله ابن قوّام يقول: ما أسلمت معارِفُنا إلَّا على يد ابن تيميَّة.
وقال ابن رجب: كان العلماء، والصُّلحاء، والجُند، والأُمراء، والتُّجار، وسائر العامّة تحبُّه، لأَنَّه منتصب لنفعهم ليلًا ونهارًا، بلسانه، وقلمه.
ثمَّ قال ابن رجب وغيره: ذِكْر نبذة من مفرداته وغرائبه:
اختار ارتفاع الحديث بالمياه المعتصرة كماء الورد ونحوه.
والقول بأن المائع لا ينجس بوقوع النجاسة فيه إلَّا أن يتغير قليلًا كَانَ أو كثيرًا.
والقول بجواز المسح على النَّعلين والقدمين وكل ما يُحتاج في نزعه من
الرّجل إلى معالجة باليد أو بالرِّجل الأخرى فإنه يجوز المسح عليه مع القدمين. واختار أن المسح على الخفين لا يتوقت مع الحاجة، كالمسافر على البريد ونحوه، وفعل ذلك في ذهابه إلى الديار المصرية على خيل البريد، ويتوقف مع إمكان النزع وتيسره.
واختار جواز المسح على اللفائف ونحوها.
واختار جواز التيمم لخشية فوات الوقت في حق غير المعذور، كمن أخّر الصلاة عمدًا حتَّى تضايق وقتها. وكذا من خشي فوات الجمعة والعيدين وهو مُحْدِثٌ.
واختار أنَّ المرأة إذا لم يمكنها الاغتسال في البيت وشق عليها النزول إلى الحمّام وتكرره، أنها تتيمم وتُصلي.
واختار أن لا حدَّ لأقلّ الحيض ولا لأكثره، ولا لأقلّ الطُّهر بين الحيضتين، ولا لسنِّ الإياس، وأن ذلك يرجع إلى ما تعرفه كل امرأة من نفسها.
واختار أنَّ تارك الصلاة عمدًا لا يجب عليه القضاء، ولا يشرع له، بل يكثر من النوافل.
وأن القصر يجوز في قصير السفر وطويله، كما هو مذهب الظّاهرية.
واختار القول بأن البكر لا تستبرأ وإن كانت كبيرة، كما هو قول ابن عمر واختاره البخاريّ صاحب «الصحيح» .
والقول بأن سجود التلاوة لا يشترط له وضوء، كما هو مذهب ابن عمر واختيار البخاريّ.
والقول بأن من أكل في شهر رمضان معتقدًا أنَّه ليل وكان نهارًا لا قضاء عليه كما هو الصحيح عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، وإليه ذهب بعض التَّابعين وبعض الفقهاء بعدهم.
والقول بجواز المسابقة بلا محلّل وإن أخرج المتسابقان.
والقول باستبراء المختلعة بحيضة، وكذلك الموطوءة بشبهة، والمطلقة آخر ثلاث تطليقات.
والقول بإباحة وطء الوثنيات بملك اليمين.
وجواز طواف الحائض، ولا شيء عليها إذا لم يمكنها أن تطوف طاهرًا.
والقول بجواز بيع الأصل بالعصير، كالزيتون بالزيت، والسّمسم بالسّيرج.
والقول بجواز بيع ما يتخذ من الفضة للتحلي وغيره كالخاتم ونحوه بالفضة متفاضلًا، وجعل الزائد من الثمن في مقابلة الصّنعة والقول.
ومن أقواله المعروفة المشهورة الَّتي جرى بسبب الإفتاء بها محن وقلاقل قوله بالتفكير في الحلف بالطلاق، وأن الطّلاق الثلاث لا يقع إلَّا واحدة، وأن الطلاق المحرّم لا يقع، وله في ذلك مؤلفات كثيرة لا تنحصر ولا تنضبط.
وقال ابن رجب: مكث الشَّيخ معتقلًا في القلعة من شعبان سنة ست وعشرين إلى ذي القعدة سنة ثمان وعشرين، ثمَّ مرض بضعة وعشرين يومًا، ولم يعلم أكثر النَّاس بمرضه، ولم يفجأهم إلَّا موته.
وكانت وفاته في سحر ليلة الاثنين عشري ذي القعدة، ذكره مؤذن القلعة على منارة الجامع، وتكلّم به الحرس على الأبرجة، فتسامع النَّاس بذلك، وبعضهم علم به في منامه، واجتمع النَّاس حول القلعة حتَّى أهل الغوطة والمَرْج، ولم يطبخ أهل الأسواق، ولا فتحوا كثيرًا من الدكاكين، وفُتح باب القلعة.
واجتمع عند الشَّيخ خلق كثير من أصحابه يبكون ويثنون، وأخبرهم أخوه زينُ الدِّين عبد الرَّحمن أنَّه ختم هو والشَّيخ منذ دخلا القلعة ثمانين خَتْمَة، وشرعا في الحادية والثمانين، وانتهيا إلى قوله تعالى:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54 - 55].
فشرع حينئذ الشيخان الصّالحان عبد الله بن المحبّ الصّالحي، والزُّرَعيّ الضّرير ــ وكان الشَّيخ يحب قراءتهما ــ فابتدأا من سورة {الرَّحْمَنُ} حتَّى ختما القرآن.
وخرج من عنده من كَانَ حاضرًا إلَّا من يغسّله ويساعد على تغسيله، وكانوا جماعة من أكابر الصَّالحين وأهل العلم، كالمِزَّي وغيره، وما فُرغ من تغسيله حتَّى امتلأت القلعة وما حولها بالرِّجال، فصَلى عليه بدركات القلعة الزَّاهد القُدوة محمد بن تمّام، وضجَّ النَّاس حينئذ بالبكاء، والثناء، والدعاء بالتّرحم.
وأُخرج الشَّيخ إلى جامع دمشق، وصلّوا عليه الظُّهر، وكان يومًا مشهودًا لم يعهد بدمشق مثله، وصرخ صارخ: هكذا تكون جنائز أئمة السُّنَّة، فبكى النَّاس بكاءً كثيرًا، وأُخرج من باب البريد، واشتد الزحام وألقى النَّاس على نعشه مناديلهم! وصار النَّعش على الرؤوس يتقدم تارة ويتأخر أخرى،
وخرجت جنازته من باب الفرج، وازدحم النَّاس على أبواب المدينة جميعًا للخروج، وعظُم الأمر بسوق الخيلِ، وتقدم في الصلاة عليه هناك أخوه عبد الرَّحمن، ودفن وقتَ العصر أو قبلها بيسير إلى جانب أخيه شرف الدِّين عبد الله بمقابر الصُّوفية. وحُزِرَ من حضر جنازته بمائتي ألف، ومن النساء بخمسة عشر ألفًا. وخُتمت له ختمات كثيرة، رحمه الله ورضي عنه.
* * * *
دُرّة الحِجَال في غُرَّة أسْماء الرِّجال
(1)
لابن القاضي المكناسي (1125)
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تَيْمِيَّة.
مفتي الشَّام ومحدِّثه وحافظه.
كَانَ يرتكب شواذ الفتاوى!! ويزعم أنَّه مجتهد مصيب
(2)
!! سمع من ابن عبد الدَّائم، وابن أبي اليسر، وابن أبي الخير، وابن عطاء، وابن عساكر، وابن البخاريّ فخر الدين، وله تآليف.
مولده سنة 661 بحرَّان، ذكره ابن جابر في شيوخه.
* * * *
(1)
(1/ 30) دار التراث والمكتبة العتيقة (1390)، تحقيق د/ محمد الأحمدي أبو النور.
(2)
تقدَّم التعليق عليه في «برنامج ابن جابر» .
حدائق الإنعام في فضائل الشام
(1)
لعبد الرحمن بن إبراهيم بن عبد الرزاق الدمشقي (1138)
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، المعروف بابن تيمية الحنبلي، الإمام العلامة الحافظ المتقن، أبو العباس الحرَّاني ثم الدمشقي.
ولد سنة إحدى وستين وستمئة، وبرع وأفتى ودرّس، وصنَّف التصانيف البديعة الكثيرة.
سرد الإمام صلاح الدِّين الصفدي أسماءها في ثلاث أوراق كبار، وجرت له مِحنٌ كثيرة، إلى أن توفي مسجونًا بقلعة دمشق في ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمئة، وشيَّعَه أممٌ لا يُحْصون، ودُفن بمقبرة الصوفية، وقبره معروف يزار. ذكره ابن قاضي شُهبة.
* * * *
(1)
(ص 209 - 210) دار المكتبي، تحقيق يوسف بديوي، سنة 1420.
ديوان الإسلام
(1)
شمس الدِّين محمد بن عبد الرحمن الغزي (1167)
الشَّيخ الإمام العلَّامة الحبر البحر، شيخ الإسلام تقيّ الدِّين أبو العَبَّاس الدِّمشقي الحنبلي، صاحب التَّصانيف الكثيرة الشَّهيرة الَّتي تزيد على مئتي مجلَّد كِبار.
توفّي بدمشق سنة ثمانٍ وعشرين وسبعمئة.
* * * *
(1)
(2/ 40) دار الكتب العلمية (ط 1) 1411، تحقيق سيد كسروي حسن.
رسالة في مناقب ابن تَيْمِيَّة والدفاع عنه
(1)
للعلّامة الشاه وليّ الله الدِّهلوي (1176)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله مُفيضِ النِّعَم وملهمِ الحِكمِ، وصلى الله على سيدنا محمد سيد العرب والعجم، وعلى آله وصحبه عَوالي الهمم.
أما بعد، فيقول الفقير ولي الله بن عبد الرحيم عاملهما الله تعالى بفضله الجسيم: وردتْ رقيمة كريمة من مخدوم مكرم، لا زال مُعينًا للحق والدين، في الفحص عن حال الشَّيخ تقي الدِّين أحمد بن تَيْمِيَّة عامله الله تعالى بفضله، وأي شيء ينبغي أنْ يعتقده فيه، فوجب الائتمار بأمره، وإن كنت بمعزل عن مثل ذلك.
والذي أعتقده أنا وأحبّ أنْ يعتقده جميع المسلمين في علماء الإسلام حملةِ الكتاب والسنة والفقه، الذابين عن عقيدة أهل السنة والحديث، أنهم عدول بتعديل النَّبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:«يحمل هذا الدِّين من كل طبقة عدوله»
(2)
. وإن كَانَ بعضهم تكلّم بما لا يرتضيه هذا المعتقد، إذا كَانَ قوله غير مردود بنص الكتاب والسنة والإجماع، وكان قوله ذلك محتملًا، وكان مجال ومساغ للخوض فيه، سواء كَانَ قوله ذلك في أصول الدين، أو في المباحث الفقهية، أو في الحقائق الوجدانية.
(1)
طبعت قديمًا، ثم نشرها الشيخ الفوجياني في المكتبة السلفية بلاهور.
(2)
لفظ الحديث: «يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدولُه
…
».
وعلى هذا الأصل اعتقدنا في الشَّيخ الأجل محيي الدِّين محمد بن عليّ بن العربي، وفي الشَّيخ المجدد أحمد بن عبد الأحد السهرندي أنهما من صفوة عباد الله، ولم نلتفت إلى ما قيل فيهما
(1)
. وكذلك ابن تَيْمِيَّة، فإنّا قد تحققنا من حاله أنَّه عالم بكتاب الله ومعانيه اللغوية والشرعية، وحافظ لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار السلف، عارف بمعانيها اللغوية والشرعية، أستاذ في النحو واللغة، محرر لمذهب الحنابلة فروعه وأصوله، فائق في الذكاء، ذو لسان وبلاغة في الذَّب عن عقيدة أهل السنة، لم يؤثر عنه فسق ولا بدعة، اللهم إلَّا هذه الأمور الَّتي ضُيِّق عليه لأجلها، وليس شيءٌ منها إلَّا ومعه دليله من الكتاب والسنة وآثار السلف. فمثل هذا الشَّيخ عزيز الوجود في العالم، ومن يطيق أنْ يلحق شأوه في تحريره وتقريره؟ والذين ضيَّقوا عليه ما بلغوا معشار ما آتاه الله تعالى، وإن كَانَ تضييقهم ذلك ناشئًا من اجتهاد، ومشاجرة العلماء في مثل ذلك ما هي إلَّا كمشاجرة الصَّحابة فيما بينهم، والواجب في ذلك كف اللسان إلَّا بخير.
وقد ذكر أّنَّه قال: إنَّ الله تعالى فوق العرش، والتحقيق أنَّ في هذه المسألة ثلاث مقامات:
أحدها: البحث عما يصح إثباته للحق توقيفًا وعمّا لا يصح توقيفًا، والحق في هذا المقام أنَّ الله تعالى أثبت لنفسه جهة الفوق، وأن الأحاديث متظاهرة على ذلك، وقد نقل التِّرمذيّ ذلك عن الإمام مالك ونظرائه.
(1)
قد ثبت عن ابن عربي القول بالحلول والاتحاد ثبوتًا لا شك فيه، وألَّف العلماء حول معتقده كتبًا عديدة، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية والبقاعي والسخاوي وغيرهم. وعلى هذا فلا وجه للتسوية بين ابن عربي وابن تيمية.
وثانيها: أنَّ العقل هل يجوِّز كون مثل هذا الكلام حقيقةً أو يوجب حملَه على المجاز؟ والحق في هذا المقام أنَّ العقل يوجب أنَّه ليس على ظاهره في نفس الأمر.
وثالثها: أنَّه هل يجب تأويله أو يجوز وقفُه على ظاهرهِ من غير تعيين المراد؟ والحق فيه أنَّه لم يثبت في حديث صحيح أو ضعيف أّنَّه يجب تأويله ولا أنَّه لا يجوز استعمال مثل تلك العبارات من الأمة.
أخبرني أبو طاهر عن أبيه أنَّه قال: قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: لم ينقل عن النَّبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصَّحابة من طريقٍ صحيح التصريح بوجوب تأويل شيء من ذلك يعني المتشابهات ولا المنع من ذكره، ومن المحال أن يأمر الله نبيه بتبليغ ما أنزل إليه من ربّه وينزل عليه {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ثمَّ يترك هذا الباب، فلا يميز ما يجوز نسبته إليه تعالى مما لا يجوز، مع حثّه على تبليغ الشاهد الغائب، حتَّى نقلوا أقواله وأفعاله وأحواله وما فعل بحضرته، فدلّ على أنهم اتفقوا على الإيمان بها على الوجه الَّذي أراده الله تعالى منها وأوجب تنزيهه عن مشابهة المخلوقات بقوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فمن أوجب خلاف ذلك بعدهم، فقد خالف سبيلهم، انتهى.
وهذا الَّذي حقّقناه هو مذهب الشَّيخ أبي الحسن الأشعري. أقرأني أبو طاهر المدني رضي الله عنه بخط أبيه أنَّ الشَّيخ أبا الحسن قال في كتابه: «إني على مذهب أحمد في مسألة الصفات وأن الله فوق العرش» وكلام ابن تَيْمِيَّة محمول على المقام الأوَّل والثالث، وإذا رجعنا إلى الوجدان فلا شك أنَّ لله
تعالى خصوصية مع العرش كما أنا لا نجد عبارة في انكشاف المسموعات والمبصرات أفصح من السمع والبصر، والله أعلم بحقائق الأمور.
وقد ذكر عنه أنَّه منع السفر لزيارة (قبر) النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولا يروى كلامه ذلك بدليل صريح صحيح، فإنه لم يمنع الزيارة مطلقًا، بل منع السفر لزيارة القبر بحديث «لا تشدوا الرحال» وبحديث «لا تتخذوا قبري عيدًا» فإذا كَانَ لقوله مساغ اجتهادي لا ينبغي أّنْ يشدد عليه ذلك التشدد.
وقد ذكر عنه أنَّه قد أنكر وجود القطب والغوث والخضر والذي تدعيه الشيعة أنَّه المهدي، وحق له ذلك فإنَّ السني ما دام على شرطه من اعتقاد ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع والسكوت عما لا يثبت بها يجوز له أنْ لا يعتقد ذلك، ومن أثبت ذلك من الصوفية، فإنه لم يثبت عن كتاب وسنة، اللهم إلَّا الكشف، وليس من أدلّة الشرع، والذي أفهم من كلامه أنَّه يريد أنَّ هذا القول مبتدع باطل اعتقاده من حيث الشرع لقوله صلى الله عليه وسلم:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» ولو كَانَ قطع بالإنكار لم يستحق التكفير ولا التفسيق أيضًا. وههنا دقيقة وهي أنَّه كم من مسألة لم يدل عليها الشرع لا نفيًا ولا إثباتًا، ودل عليها العقل كقولنا: يحصل من ضرب العشرة في العشرة المائة، أو الكشف والوجدان كقولنا المحبة الذاتية ثابتة لِكمَّل من عباد الله وهي ميل الوجود الخاص إلى أصله المطلق من القيود كمثل ميل كل عنصر إلى مقرّه. وهذه المسائل حقة في الحقيقة ولو اعتقد إنسان أنها من الشرع كَانَ اعتقاده ذلك خطأ ولو أحلها محل الثابت بالشرع فأنكر على من لم يقل بها أو حاول إثباتها على منكريها كإثبات الشرعيات كَانَ خطأ أيضًا.
وقد ذكر عنه أنَّه أنكر اعتقاد الشيعة في الإمام المحجوب على زعمهم،
وحق له أن ينكر ذلك بل الأشاعرة كلهم على هذا الإنكار ولا أعلم أحدًا قال به، وقد ذكر عنه أنَّه أساء الأدب مع سيدنا عليّ رضي الله تعالى عنه، وحاشاه من ذلك، وقد طالعت كلامه فوجدت بعضه مسوقًا في مناقضة الشيعة في طعنهم على الخلفاء الثلاثة بأمور تخيلوها نقصًا كما هو مذكور في آخر «التجريد» . فقام هذا الشَّيخ يعدّد عليهم أمورًا اعترفوا بها في سيدنا عليّ هي مثلها، كأنه يقول: ليست هذه الأمور نقصًا كما تخيلتم فإنَّ مثلها مأثور عن سيدنا عليّ وهو رضي الله عنه مرضي عندنا وعندكم، وما هو جوابكم في سيدنا عليّ هو جوابنا في الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم وهذا من كمال علمه وفوة مناظرته ومن الاعتراف بفضل سيدنا عليّ رضي الله عنه. وعلى هذا الأصل يخرج قول معلوم أنَّ الرأي إن لم يكن مذمومًا
…
الخ وقوله فإنَّ الحسين ــ رضي الله تعالى عنه ــ لم يعظم إنكار الأمة لقتله كما عظم إنكارهم بقتل عثمان رضي الله عنه وقوله فإنَّ فصل أبي بكر
…
إلخ، معناه الردّ على الشيعة في طعنهم على الصدّيق بمنع فدك وأّنَّه إيذاء لفاطمة ــ رضي الله تعالى عنها ــ وقد قال النَّبي صلى الله عليه وسلم:«يؤذيني من آذاها» وحاصله أّنَّ مثل هذه الأمور مستثنًى من مطلق الإيذاء لإنه مما يشرع للشرع.
وكذلك قوله: وأما فعل يؤذيني حاشاه أن يشنّع على عليّ وفاطمة ــ رضي الله تعالي عنها ــ بل هو علي سبيل المناقضة، كأنّه قال: تشنيعكم على أبي بكر هو مثل ما يفرض من تشنيع أحد على عليّ وفاطمة، وجوابكم هو جوابنا بعينه، وبعضه في مناقضة الشيعة في إثباتهم فضيلة سيدنا عليَ على الخلفاء الثلاثة كما هو مذكور في آخر «التجريد» أيضًا، فقام هذا الشَّيخ يثبت للخلفاء الثلاثة مثل ما أثبتوا لسيدنا عليّ أو أفضل منه وليس في التفضيل إساءة أدب فإنَّ التفضيل مذهب أهل السنة أجمع حاشاهم أنْ يسيئوا الأدب معه ــ رضي الله تعالى عنه ــ.
أما تفسير آية الطهارة بالإرادة التشريعية دون الإرادة التكوينية فصحيح، ومثله {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ} [البقرة: 185]، و {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27] إلى غير ذلك من الآيات.
وبعد؛ فإنَّي أذكّر الله عز وجل كل مسلم في هذه المسألة وأمثالها، الله الله أن يسب أحد من المسلمين عالمًا مجتهدًا في أمثال هذه، هذا ما تيسر لي من الجواب، وما حملني على الجواب إلَّا النصح، والله أعلم بحقيقة الأمور.
* * * *
الذّبّ عن ابن تيمية
(1)
لمحمد بدر الدِّين الشُّرُنْبابلي الأزْهَري الشافعي (ت 1182)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي يقول الحق وهو يهدي السبيل، ويهزم بقهر سلطانه جيوشَ البغي ويُدْحِض الأباطيل، والصلاة والسلام على الهادي إلى الحق والداعي إليه، والمقاتل بشكيمة بأسه من خالفه فيه وعانده عليه، وعلى آله وصحبه الذين بذلوا نفوسهم في نُصرته، وخذلوا أولئك المعادين بواضح حجته وفاضح محجّته.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المتعالي في أحديّته عن أن تُشْبه ذاتُه الذوات، المتعالي في صَمَديته عن سمات الشوائب وشوائب السّمات، جلّ ربّنا أن تشبه صفاته الصفات، بل له المثل الأعلى في الأرض والسماوات.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وحبيبه وخليله، سيِّد من لله عليه السيادة، وإمام أهل العبودية في مراتب العبادة. اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى
(1)
نسخة خطية في (3 ق) مصورة مركز جمعة الماجد رقم (3900).
أقول: على طرة الورقة الأولى من الرسالة تعليق طويل بخط ناسخها لمؤلف الرسالة ــ فيما يظهر ــ فيه: أنه وقف على بعض الردود على شيخ الإسلام ابن تيمية، من السبكي وغيره، وأنه اطلع على قدحه في الأولياء ــ عنده ــ كابن عربي والشاذلي، وذمه للأشعرية
…
وأنه بريء من هذه العقائد.
من ينتمي إليه ما اختلف المَلَوان وتعاقب الجديدان.
أما بعد؛ فطالما طَنّ على أذني طنين الذباب، وحام على عيني ما كأنه جناح غراب أو خيال سراب، من القَدْح الفظيع والقول الشنيع في إمام الأئمة وحافظ هذه الأمة، مَن أجمع الموافقُ والمخالفُ على فضله ونُبْله، واتفقت الآراء قديمًا وحديثًا على ذكائه وحُسْن عمله.
من دلّت أخلاقُه الكريمة فيه على حُسْن النية والطويّة، الإمام المجتهد تقي الدِّين شيخ الإسلام ابن تيمية.
فقلت: لا يخلو إما أن يكون الطعن من جهة العقيدة السلفية، أو من جهة الأحكام الفقهية والمسائل الفرعية.
فإن كان من الجهة الأولى، فما عليه في ذلك ملام. وحق الجواب لمن لامه أو تعقّبه أن يقال فيه: سلام.
وإن كان من الجهة الثانية، فما رأيت أحدًا بدّع ولا ضلّل ولا فسّق بسبب ذلك، ولا أُهمل، فإن المسائل الفقهية أدلتها ظنية. وأما القطعيات فخارجة عن محلّ الاجتهاد، ويعد من خالفها من أهل الكفر والإلحاد أو الزيغ والعناد.
وهذه
(1)
العلماء في القديم والحديث يتفقَّهون ويتناظرون، وما سمعت أنهم في ذلك يُبدّعون ويُضلّلون، بل من ظهر الحقّ على يديه يُعترف له به ويُعَوَّل عليه.
وغاية الأمر أن المجتهد يخطئ ويصيب، ولو سُلّم عدم أهلية
(1)
كذا في الأصل.
الاجتهاد له، فهو رأيٌ له، وهو غير معيب، فإن الاختيارات من أهل المذاهب المرضيّة أكثر من أن تُحصى أو تخفى إلا على أرباب العصبية.
فإن قيل: قد ذكر أئمة فضلاء وقادة نبلاء القدح فيه، وذلك لا محالة مما ينقصه ويُزريه.
قلت: لا شكَّ في وقوع ذلك، ولكن لا يضرّ بعد العلم بما هنالك، فإن هؤلاء القادحين كانوا لغيرهم تابعين. وقد قام عليه الجمّ الغفير من أهل زمانه وأنكروا عليه النكير، وانتصر له أئمة هم بيت القصيد، فنطقوا بما تحققوا وقمعوا كلّ جبار عنيد، وإنما قيل الذي قيل فيه ــ قالت الأئمة: ــ لتفرده وعلوّ مراقيه، وعدم مبالاته في الحق بأحدٍ كائنًا من كان، فإنه لا يحابي فيه ولا يداهن مدى الأزمان.
وقد كان بشهادة من ذُكِر حافظ السنة وترجمان القرآن وناصر هذه الملة المحمدية بوسع الإمكان. فلا يغترّ بتلك المقالات، إذ بقدر الفضل تحدث العداوات؛ لأن من جهل شيئًا عاداه، فلا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إلا امرأً أنصفَ من نفسه وترك المراء مخالفًا لحَدْسِه وطبيعة أبناء جنسه، وذلك من أقلّ القليل ولا يكاد يوجد إليه من سبيل.
وقد وقع لكل إمام من الأئمة محنة بعد محنة مدلهِمَّة، بل أكثرهم عِرفانًا هو أشدهم امتحانًا كما تشهد له الآيات والأخبار، ولا يخفى على أهل الاستبصار، فقد وضح الحقُّ واستبان، وأنَّ الشيخَ من أهل العِرفان، وأنه لا ينكر ذلك إلا جاهل أو معاند هالك.
فإن قيل: ليس إلى ذلك من سبيل؛ لأن أئمة مذهبنا عليهم التعويل، وقد قدحوا فيه وأبانوا عن خوافيه.
قلت: الجمُّ الغفير من الجماهير سلّموا له من غير نكير، ولا سيما كالحافظين السيوطي وشيخه
(1)
الإمامين، فلو قوبلا بالألوف لكان النقد لهما، إذ هما أدرى بالزيف.
ويشهد لما قلناه: أن الإمام الثاني
(2)
نصّ في بعض تأليفاته على هذه المعاني، فقال: لا يُعوّل في كلِّ فنٍّ إلا على أربابه، فإنه بذلك يُعْرَف خطأ القول من صوابه. فالمفسّر من حيث أنه مفسِّر لا يُعوّل عليه إلا في فنِّ التفسير، وكذلك المحدّث والفقيه وبقية الفنون من غير نكير.
وأئمة النقد بحمد الله معروفون وبتمييز الخبيث من الطيب موصوفون، فهم الذين يُعوّل عليهم ويُرجع في أمثال ذلك إليهم. وهذا الذي نحن فيه من هذا القبيل فلا يُرْجَم فيه بالظنون، وقد قال تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
وعلى الحقيقة ما خلا متكلِّم فيه من العصبية والحمية الجاهلية، وإلا فما لأمثال هذه القوادح تجرّ هذه القضية، وأيّ ضلالة ارتكبها حتى يقول فيه الشهاب ابن حجر
(3)
: إنه ضالّ مُضِل، وساق العُجَر والبُجَر
(4)
، وقد قضى
(1)
في الهامش: هو الحافظ ابن حجر. أقول: وكون ابن حجر شيخًا للسيوطي لا يصح لأن الحافظ توفي سنة 852 ومولد السيوطي سنة 849 فلم يدرك من حياته إلا ثلاث سنوات فقط. إلا أن يكون شيخًا له بالإجازة العامة لأهل العصر.
(2)
في الهامش: «أي في الوجود لا في الذكر وهو الجلال» .
(3)
في الحاشية: أي الهيتمي ومثله الرملي. أقول: كلام الهيتمي في «الفتاوى الحديثية» وغيرها.
(4)
في الحاشية تعليق نصه: «لو أنه تعلق في ذلك بنحو مسألة حوادث لا أول لها لأصاب المرمى. ولكنه تعلق بمسألة الزيارة والطلاق ونحوهما مما لم ينتج له ذلك، فلذلك لم أسلم له وإن كنت سلمت له بعد ذلك وتبين لي ما هنالك» .
بنفسه على ابن المقري حين كفّر من تردّد في كفر الطائفة الحاتمية
(1)
، بأنه قد بالغ في التعصُّب المزيد والحمية، وأيّ حميّة مع كونه أعلى منه مقامًا وأكبر منه ذروةً وسنامًا؟ ! فيقال له ما قال فيه ويُنتحى به النحو الذي ينتحيه.
وهلّا ضُلل من قال منّا في المسألة الدوريّة بعدم وقوع الثلاث، فإنها أشنع وأبشع من قوله بوقوع واحدة ولا اكتراث.
وأيضًا يقال له: لمَ قبلتَ شهادة الأئمة كاليافعي وغيره في الطائفة الأخرى ولمَ لم تقبلْها فيه؟ ! فإن قبولها فيه أولى وأحرى، وإنما لم نعوّل إلا عليه لأنه ممن يُحْتفل به ويُنظر إليه ولكنَّ الحقَّ أحق بالاتباع، وإذا عُرف فقد عُرف أهله بلا دفاع أو نزاع.
قاله عجلًا ونمّقه خجِلًا: الفقير من العمل واليقين محمد بدر الدِّين الشافعي الأزهري سبط الشرنبابلي حامدًا مصليًّا مسلمًا مُحسبلًا محوقلًا مستسلمًا مفوّضًا، والحمد لله وحده وصلى الله على من لا نبي بعده، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله رب العالمين.
* * * *
(1)
وهم أتباع ابن عربي الطائي الحاتمي الصوفي صاحب وحدة الوجود.
كتاب الدُّر المكنون في مآثر الماضي من القرون
(1)
للشيخ ياسين بن خير الله الخطيب الموصلي (بعد 1232)
وفيها (سنة 728) توفي تقي الدِّين المشهور بابن تيمية ابن المفتي عبد الحليم بن شيخ الإسلام عبد السلام مُعْتَقلًا بقلعة دمشق.
ولما حُمِلَت جَنازتُه اجتمع عليه نحو مئتي ألف من الرجال، وخمسة عشر ألفًا من النساء.
وتصانيفة كثيرة؛ نحو خمس مئة مجلَّد، منها كتاب في الرد على ابن المطهر الرافضي في ثلاث مجلَّدات، وكتاب في الرد على «تأسيس التقديس» للرازي، سبع مجلدات، وكتاب «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعيَّة» ، وكتاب «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» .
* * * *
(1)
(ق/ 111 ب) نسخة المتحف البريطاني.
البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع
(1)
للعلّامة محمد بن عليّ الشوكاني (1250)
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيميَّة الحَرَّاني الدِّمشقي الحنبلي تقي الدِّين أبو العَبَّاس شيخ الإسلام إمام الأئمة المجتهد المطلق. ولد سنة (661) إحدى وستين وستمائة، وتحوّل به أبوه من حرَّان سنة (667) سبع وستين وستمائة، فسمع من ابن عبد الدايم، والقاسم الإربلي، والمسلم ابن علان، وابن أبي عمر، والفخر ومن آخرين.
قال ابن حجر في «الدرر» : وقرأ بنفسه ونسخ «سنن أبي داود» وحصَّل الأجزاء. ونظر في الرجال والعلل. وتفقه، وتمهر، وتقدم، وصنف، ودرس، وأفتى، وفاق الأقران، وصار عجبًا في سرعة الاستحضار وقوة الجنان والتوسُّع في المنقول والمعقول والاطلاع على مذاهِب السَّلف والخلف
…
انتهي.
وأقول أنا: لا أعلم بعد ابن حزم مثله وما أظنه سمح الزمان ما بين عصر الرجلين بمن شابههما أو يقاربهما.
قال الذَّهَبيّ ما ملخصه: كَانَ يُقْضى منه العجب إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف، وما رأيت أسرعَ انتزاعًا للآيات الدالة على المسألة الَّتي يوردها منه، ولا أشد استحضارًا للمتون وعزوها منه. وكانت السنة نصب عينيه
(1)
(1/ 63 - 73) مكتبة ابن تيمية، القاهرة.
وعلى طرف لسانه بعبارة رشيقة، وكان آية من آيات الله في التفسير والتوسع فيه. وأما أُصول الديانة ومعرفة أقوال المخالفين فكان لا يُشق غبارة فيه.
هذا؛ مع ما كَانَ عليه من الكرم والشَّجاعة، والفراغ عن ملاذ النفس. ولعل فتاويه في الفنون تبلغ ثلاثمائه مجلد، بل أكثر. وكان قوَّالًا بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم. ثمَّ قال: ومن خالطه وعرفه قد ينسبني إلى التقصير فيه. ومن نابذه وخالفه قد ينسبني إلى التغالي فيه. وقد أُوذيت من الفريقين من أصحابه وأضداده.
وكان أبيض، أسود الرأس واللحية، قليل الشيب، شعره إلى شحمة أُذنيه، كأنّ عينيه لسانان ناطقان، رَبْعة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جهوري الصوت، فصيحًا سريع القراءة. تعتريه حدّة لكن يقهرها بالحلم.
قال: ولم أر مثله في ابتهاله واستعانته بالله وكثرة توجهه. وأنا لا أعتقد فيه عصمة، بل أنا مخالف له في مسائل أصلية وفرعية؛ فإنه كَانَ مع سعة علمه، وفرط شجاعته وسيلان ذهنه وتعظيمه لحرمات الدِّين بشرًا من البشر، تعتريه حِدّة في البحث وغضب
(1)
وصدمة للخصوم، تزرع له عداوة في النفوس. ولولا ذلك لكان كلمة إجماع فإن كبارهم خاضعون لعلومه، معترفون بأنه بحر لا ساحل له، وكنز ليس له نظير. ولكن ينقمون عليه أخلاقًا وأفعالًا. وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك. قال: وكان محافظًا على الصّلاة والصّوم، معظمًا للشرائع ظاهرًا وباطنًا، لا يؤتى من سوء فهم؛ فإنَّ له الذكاء المفرط، ولا من قلة علم؛ فإنه بحر زاخر ولا كَانَ متلاعبًا بالدين ولا ينفرد بمسائل
(1)
في ذيل تاريخ الإسلام للذهبي: «شظف» .
بالتشهِّي ولا يطلق لسانه بما اتفق، بل يحتج بالقرآن والحديث والقياس ويبرهن ويناظر أُسْوةَ من تقدمه من الأئمة. فله أجر على خطئه وأجران على إصابته. انتهى.
ومع هذا فقد وقع له مع أهل عصره قلاقل وزلازل. وامتحن مرة بعد أخرى في حياته. وجرت فتن عديدة، والناس قسمان في شأنه: فبعض منهم مقصر به عن المقدار الَّذي يستحقه بل يرميه بالعظائم، وبعض آخر يبالغ في وصفه ويجاوز به الحد ويتعصب له كما يتعصب أهل القسم الأوّل عليه. وهذه قاعدة مطَّردة في كل عالم يتبحر في المعارف العلمية ويفوق أهل عصره ويدين بالكتاب والسنة، فإنه لا بد أن يستنكره المقصِّرون، ويقع له معهم محنة بعد محنة. ثمَّ يكون أمره الأعلى وقوله الأوْلى، ويصير له بتلك الزلازل لسان صدق في الآخرين ويكون لعلمه حظ لا يكون لغيره وهكذا حال هذا الامام، فإنه بعد موته عرف النَّاس مقداره، واتفقت الألسن بالثناء عليه إلَّا من لا يعتد به، وطارت مصنفاته واشتهرت مقالاته.
وأول ما أنكر عليه أهل عصره في شهر ربيع الأوَّل سنة (698) أنكروا عليه شيئًا من مقالاته فقام عليه الفقهاء وبحثوا معه ومُنِع من الكلام. ثمَّ طلب ثاني مرة سنة (705) إلى مصر فتعصب عليه بعض أركان الدولة. وهو (بيبرس الجاشنكير) وانتصر له ركن آخر وهو (الأمير سلار) ثمَّ آل أمره أن حبس في خزانة البنود مدة ثمَّ نقل في صفر سنه (9) إلى الإسكندرية. ثمَّ أفرج عنه وأعيد إلى القاهرة ثمَّ أعيد إلى الإسكندرية. ثمَّ حضر السلطان الناصر من الكرك فأطلقة، ووصل إلى دمشق في آخر سنة (712) وكان السبب في هذه المحنة أن مرسوم السلطان ورد على النائب بامتحانه في معتقده لما رفع
إليه من أُمور تُنكر في ذلك، فعقد له مجلس في سابع رجب فسئل عن عقيدته، فأملى منها. ثمَّ أحضروا العقيدة الَّتي تعرف بالواسطية فقرأ منها. وبحثوا في مواضع ثمَّ اجتمعوا في ثاني عشره وقرروا الصفي الهندي يبحث معه. ثمَّ أخّروه وقدموا الكمال الزَّمْلَكانِي، ثمَّ انفصل الأمر على أنَّه أشهد على نفسه أنَّه شافعي المعتقد فأشاع أتباعه أنَّه انتصر، فغضب خضومه ورفعوا واحدًا من أتباع ابن تيميَّة إلى الجلال القزويني نائب الحكم بالعادلية فعزّره، وكذا فعل الحنفي باثنين منهم.
وفي ثاني عشر رجب قرأ المزِّي فصلًا من كتاب «أفعال العباد» للبخاري في الجامع فسمع بعض الشافعية فغضب، وقال: نحن المقصودون بهذا ورفعوه إلي القاضي الشَّافعيّ فأمر بحبسه. فبلغ ابن تيميَّة فتوجّه إلى الحبس فأخرجه بيده، فبلغ القاضي، فطلع إلى القلعة فوافاه ابن تيميَّة فتشاجرا بحضرة النائب. فأمر النائب من ينادي أن من تكلَّم في العقائد فُعل به كذا، وقصد بذلك تسكين الفتنة. ثمَّ عقد له مجلس في سلخ شهر رجب، وجرى فيه من ابن الزَّمْلَكاني، وابن الوكيل مباحثة. فقال ابن الزَّمْلَكاني لابن الوكيل: ما جرى على الشافعية قليل، حيث تكون أنت رئيسهم، فظن القاضي ابن صصري أنَّه يعرض به فعزل نفسه. ثمَّ وصل بريد من عند السلطان إلى دمشق أن يرسلوا بصورة ما جرى في سنة (698) ثمَّ وصل مملوك النائب وأخبر أنَّ بيبرس والقاضي المالكي قد قاما في الإنكار على ابن تيميَّة، وأن الأمر قد اشتد على الحنابلة حتَّى صفع بعضهم. ثم توجه القاضي ابن صصري، وابن تيمية صحبة البريد إلى القاهرة، ومعهما جماعة فوصلا في العشر الأخير من رمضان. وعقد مجلس في ثاني عِشريه بعد صلاة الجمعة فادّعى على ابن
تيميَّة عند المالكي، فقال: هذا عدُوِّي ولم يجب عن الدعوى، فكرَّر عليه فأصرّ. فحكم المالكي بحبسه، فأقيم من المجلس وحبس في برج. ثمَّ بلغ المالكي أن النَّاس يترددون إليه. فقال: يجب التضييق عليه إن لم يُقتل، وإلا فقد ثبت كفره. فنقلوه ليلة عيد الفطر إلى الجبِّ.
ولقد أحسن المترجَمُ له رحمه الله بالتصيميم على عدم الإجابة عند ذلك القاضي الجريء الجاهل الغبي، ولو وقعت منه الإجابة لم يبعد الحكم بإراقة دم هذا الإمام الَّذي سمح الزمان به، وهو بمثله بخيل. ولا سيَّما هذا القاضي من المالكية الَّذي يقال له: ابن مخلوف، فإنه من شياطينهم المتجرئين على سَفْك دماء المسلمين بمجرد أكاذيب وكلمات ليس المراد بها ما يحملونها عليه، وناهيك بقوله: إن هذا الإمام قد استحق القتل وثبت لديه كفره، ولا يساوي شعرة من شعراته، بل لا يصلح لأن يكون شسعًا لنعله. وما زال هذا القاضي الشيطان يتطلَّب الفرص الَّتي يتوصل بها إلى إراقة دم هذا الإمام فحجبه الله عنه، وحال بينه وبينه والحمد لله ربِّ العالمين.
ثمَّ بعد هذا نودي بدمشق: أن من اعتقد عقيدة ابن تيميَّة حلّ دمه وماله، خصوصًا الحنابلة فنودي بذلك، وقُريء المرسوم، قرأه ابن الشهاب محمود في الجامع، ثمَّ جمعوا الحنابلة من الصّالحية وغيرها وأشْهَدوا على أنفسهم أنهم على معتقد الإمام الشَّافعيّ، وكان من أعظم القائمين على المترجم له الشَّيخ نصر المنبجي لأنَّه كَانَ بلغ ابن تيميَّة أنَّه يتعصب لابن العربي، فكتب إليه كتابًا يُعاتبه على ذلك فما أعْجبه. لكونه بالغ في الحط على ابن العربي وكفره. فصار هو يحط على ابن تيميَّة ويُغري بيبرس الَّذي يفرط في محبة
نصر وتعظيمه، وقام القاضي المالكي المتقدم ذكره مع الشَّيخ نصر وبالغ في أذيَّة الحنابلة واتفق أنَّ قاضي الحنابلة كَانَ قليل البضاعة في العلم فبادر إلى اجابتهم في المعتقد واستكتبوا خطَّه بذلك.
واتفق أنَّ قاضي الحنفية بدمشق وهو شمس الدِّين ابن الحريري انتصر لابن تيميَّة وكتب في حقه محضرًا بالثناء عليه بالعلم والفهم، وكتب فيه بخطه ثلاثة عشر سطرًا، من جملتها أنَّه منذ ثلاث مئة سنة ما رأى النَّاس مثله فبلغ ذلك ابن مخلوف فسعى في عزل ابن الحريري فعزل وقرر عوضه شمس الدِّين الأذرعي، ثمَّ لم يلبث الأذرعي أنْ عُزِل في السنة المقبلة.
وتعصب سلار لابن تيميَّة وأحضر القضاة الثلاثة الشَّافعيّ والمالكي والحنفي وتكلّم معهم في إخراجه فاتفقوا على أنهم يشترطون فيه شروطًا. وأن يرجع عن بعض العقيدة فأرسلوا إليه مرات. فامتنع من الحضور إليهم، واستمر على ذلك ولم يزل ابن تيميَّة في الجب إلى أن تشفَّع فيه مُهنَّا أمير آل فضل، فأخرج في ربيع الأوَّل في الثالث والعشرين منه. وأُحضر إلى القلعة ووقع البحث مع بعض الفقهاء فكتب عليه محضر بأنه قال: أنا أشعري
(1)
. ثمَّ اجتمع جماعة من الصوفية عند تاج الدِّين بن عطاء فطلعوا في العشر الأوسط من شوال إلى القلعة وشكوا من ابن تيميَّة أنَّه تكلم في حق مشايخ الطريقة، وأنَّه قال: لا يُستغاث بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فاقتضى الحال أن أمر بتسييره إلى الشَّام فتوجه على خيل البريد، وكل ذلك والقاضي زين الدِّين ابن مخلوف مشتغل بالمرض. وقد أشرف على الموت فبلغه سير
(1)
سبق التعليق عليه في الدرر الكامنة، والمؤلف ينقل عنه.
ابن تيميًّة، فراسل النائب، فرده من نابُلُس، وادّعى عليه عند ابن جماعة وشهد عليه شرف الدِّين ابن الصّابوني. وقيل: إن علاء الدِّين القونوي شهد عليه أيضًا، فاعتقل بسجن حارة الديلمة في ثامن عشر شوال، إلى سلخ شهر صفر سنة (709) فنقل عنه أنَّ جماعة يترددون إليه وأنَّه يتكلم عليهم في نحو ما تقدم، فأمر بنقله إلى الإسكندرية فنقل إليها في سلخ صفر. وكان سفره صحبة أمير مقدم ولم يمكَّن أحد من جهته من السفر معه. وحبس ببرج شرقي. ثمَّ توجه إليه بعض أصحابه فلم يُمنعوا منه، فتوجهت طائفة منهم بعد طائفة وكان موضعه فسيحًا، فصار النَّاس يدخلون إليه ويقرأون عليه ويبحثون معه.
فلم يزل إلى أن عاد الناصر إلى السلطنة، فشفع فيه عنده فأمر بإحضاره فاجتمع به في ثامن عشر شوال سنة (709) فأكرمه وجمع القضاة فأصلح بينه وبين القاضي المالكي. فاشترط المالكي أن لا يعود. فقال له السلطان قد تاب. وسكن القاهرة وتردد النَّاس إليه إلى أن توجَّه صحبة الناصر إلى الشَّام بنية الغزو سنة (712) فوصل إلى دمشق. وكانت غيبته منها أكثر من سبع سنين، وتلقاه جمع كثير فرحًا بمقدمه. وكانت والدته إذ ذاك حية. ثُمَّ قاموا عليه في شهر رمضان سنة (719) بسبب قوله إنَّ الطلاق الثلاث من دون تخلل رجعة بمنزلة طلقة واحدة. ثمَّ عقد له مجلس آخر في رجب سنة (720) ثمَّ حبس بالقلعة، ثمَّ أخرج في عاشوراء سنة (721) ثمَّ قاموا عليه مرة أُخرى في شعبان سنة (726) بسبب مسألة الزيارة واعتُقِل بالقلعة فلم يزل بها إلى أن مات في ليلة الاثنين، لعشرين من شهر القعدة سنة (728) بجامع دمشق. وصار يضرب المثل بكثرة من حضر جنازته، وأقل ما قيل في
عددهم أنهم خمسون ألفًا.
قال ابن فضل الله: لما قدم ابن تيميَّة على البريد إلى القاهرة في سنة (700) حضّ أهل المملكة على الجهاد وأغلظ القول للسُّلطان والأمراء. ورتبوا له كل يوم دينارًا وطعامًا فلم يقبل ذلك. ثمَّ قال: حضر عنده شيخنا أبو حيان فقال: ما رأت عيناي مثل هذا الرَّجل، ومدحه بأبيات ذكر أنَّه نظمها بديهة منها:
لمَّا أتانا تقيُّ الدِّين لاحَ لنا
…
داعٍ إلى اللهِ فَرْدٌ ما له وَزَرُ
على مُحَيَّاهُ من سِيْمَا الأُلَى صَحِبُوا
…
خيرَ البريَّةِ نورٌ دونَه القَمَرُ
قال: ثمَّ دار بينهما كلام فجرى ذكر سيبويه فأغلظ ابن تيميّة القول في سيبويه، فنافره أبو حيان وقطعه، وصيَّر ذلك ذنبًا لا يغفر. وسُئل عن السبب، فقال: ناظرته في شيء من العربية فذكرت له كلام سيبويه. فقال: ما كَانَ سيبويه نبيّ النحو ولا كَانَ معصومًا، بل أخطأ في «الكتاب» في ثمانين موضعًا! ما تفهمها أنت! فكان ذلك سبب مقاطعته إياه، وذكره في تفسيره «البحر» بكلِّ سوء، وكذلك في مختصره «النهر» وقد ترجم له جماعة وبالغوا في الثناء عليه، ورثاه كثير من الشعراء.
وقال جمال الدِّين السرمرّي في «أماليه» : ومن عجائب زماننا في الحفظ ابن تيمية كَانَ يمر بالكتاب مرة مطالعة فينقش في ذهنه، وينقله في مصنفاته بلفظه ومعناه، وحكى بعضهم عنه أنَّه قال: من سألني مستفيدًا حقَّقت له ومن سألي متعنتًا ناقَضْتُه، فلا يلبث أن ينقطع فأُكْفى مؤنته. وقد ترجم له الصفدي وسرد أسماء تصانيفه في ثلاثة أوراق كبار. ومن أنفعها: كتابه في إبطال الحيل فأِنه نفيس جدًا، وكتاب «المنهاج في الرد على الروافض» في غاية الحسن،
لولا أنَّه بالغ في الدفع حتَّى وقعت له عبارات وألفاظ فيها بعض التحامل.
وقد نسبه بعضهم إلى طلب الملك. لأنَّه كَانَ يلهج بذكر ابن تومرت ونظرائه، فكان ذلك مولدًا لطول سجنه. وله وقائع مشهورة. وكان إذا حوقق وأُلزم، يقول: لم أُرِد هذا وإنما أردت كذا فيذكر احتمالًا بعيدًا، ولعل ذلك ـ والله أعلم ـ أنه يصرِّح بالحقّ فتأباه الأذهان، وتنبو عنه الطبائع لقصور الأفهام، فيحوله إلى احتمال آخر دفعًا للفتنة. وهكذا ينبغي للعالم الكامل أن يفعل، يقول الحق كما يجب عليه ثمَّ يدفع المفسدة بما يمكنه.
وحكي عنه أنَّه لما وصل إليه السؤال الَّذي وضعه السكاكيني على لسان يهودي وهو:
أيا عُلماءَ الدِّين ذمِّي دينكم
…
تحيَّر دُلُّوه بأعظم حُجَّة
إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم
…
ولم يرضه مني فما وجه حيلتي
إلى آخرها، فوقف ابن تَيْمِيَّة على هذه الأبيات فثنى إحدى رجليه على الأخرى، وأجاب في مجلسه قبل أن يقوم بمائة وتسعة
(1)
عشر بيتًا أوَّلها:
سُؤالك يا هذا سؤال مُعَاند
…
مُخاصم ربِّ العرش ربِّ البريَّة
وقال ابنُ سيِّد النَّاس اليعمري في ترجمة ابن تيميَّة: إنَّه برَّز في كلّ فنّ على أبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله، ولا رأت عينُه مثل نفسه.
وقال الذَّهَبيّ مترجمًا له في بعض الإجازات: قرأ القرآن والفِقه، وناظر واستدل وهو دون البلوغ، وبرع في العلوم والتفسير وأفتى ودرس، وهو دون
(1)
اختلف في عددها، فأقل ما قيل (102)، وأكثر ما قيل (184) بيتًا.
العشرين، وصنف التَّصانيف، وصار من أكابر العلماء في حياة مشايخه. وتصانيفه نحو أربعة آلاف كراسة وأكثر.
وقال: وأما نقله للفقه ومذاهب الصَّحابة والتابعين، فضلًا عن المذاهب الأربعة فليس له نظير. وقال: إنّه لا يذكر مسألة إلَّا ويذكر فيها مذاهب الأئمة، وقد خالف الأئمة الأربعة في عدة مسائل، صنف فيها واحتجَّ لها بالكتاب والسنة. وقد أثنى عليه جماعة من أكابر علماء عصره فمن بعدهم. ووصفوه بالتفرد، وأطلقوا في نعته عبارات ضخمة وهو حقيق بذاك. والظاهر أنَّه لو سَلِم مما عرض له من المحن المستغرقة لأكثر أيامه، المكدِّرة لذهنه، المشوِّشة لفهمه، لكان من المؤلَّفات والاجتهادات ما لم يكن لغيره. قال الصَّفدي: وكان كثيرًا ما يُنْشد:
تموتُ النفوسُ بأوصابها
…
ولم يَدْرِ عُوّادُها ما بِها
وما أنْصَفَتْ مهجةٌ تشتكي
…
أذاها إلى غَيْر أرْبابِها
ومما أُنشدَ له على لسان الفقراء:
والله ما فَقرُنا اختيارُ
…
وإنّما فقرُنا اضطرارُ
جماعةٌ كُلُّنا كُسَالى
…
وأكلُنا مَا لهُ عِيارُ
تَسْمعُ منّا إذا اجتمعنا
…
حقيقةً كُلّها فُشَارُ
* * * *
نُزُل من اتَّقَى بكشفِ أحوال المنتقى
(1)
للعلامة عبد الرشيد بن محمود الكشميري (1298)
هو: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني تقي الدين.
شيخنا
(2)
الإمام الرباني، مقدام الأئمة، ومفتي الأُمة، بحر العلوم، سيد الحفاظ، فريد العصر، قريع الدهر، شيخ الإسلام، قدوة الأنام، علّامة الزمان، وترجمان القرآن، عَلَمُ الزُّهاد، وأوْحَد العُبَّاد، قامع المبتدعين، وآخر المجتهدين، نزيل دمشق، وصاحب التصانيف التي لم يُسبق إلى مثلها.
ولد بحرَّان يوم الاثنين عاشر شهر ربيع الأوَّل، وقيل: ثاني عشر ربيع الأول، سنة إحدى وستين وست مئة.
وقدم مع والده وأهله إلى دمشق وهو صغير، وكانوا قد خرجوا من حرَّان مهاجرين بسبب جَوْر التتار، فساروا بالليل ومعهم الكتب على عجلة لعدم الدواب، فكاد العدو يلحقهم، ووقفتِ العجلة، فابتهلوا إلى الله تعالى، واستغاثوا به فنجوا وسلموا.
وقدموا دمشق في أثناء سنة سبع وستين؛ فسمع من الشيخ زين الدِّين أحمد بن عبد الدائم بن نعمة المقدسي جُزْء ابن عرفة، وغير ذلك.
(1)
(ص 17 - 34) ط. المطبع الفاروقي سنة 1297. وترجمة المؤلف في «الإعلام بمن في الهند من الأعلام»: (3/ 8/ 1011) لعبد الحي الحسني، طبعة دار ابن حزم.
(2)
هذا النقل من «مختصر طبقات علماء الحديث» لابن عبد الهادي مع تصرف.
وسمع الكثير من ابن أبي اليُسر، والكمال ابن عَبْد، والشيخ شمس الدِّين الحنبلي، والقاضي شمس الدِّين بن عطاء الحنفي، والشيخ جمال الدِّين الصيرفي، ومجد الدِّين بن عساكر، والنجيب المقداد، وابن أبي الخير، وابن علان، وأبي بكر الهروي، والكمال عبد الرحيم، وفخرالدين ابن البخاري، وابن شيبان، والشرف بن القواس، وزينب بنت مكي، وخلق كثير.
وشيوخه الذين سمع منهم أزيد من مئتي شيخ.
وسمع «مسند الإمام أحمد» مرَّات، و «معجم الطبراني الكبير» ، والكُتب الكبار، والأجزاء، وعُني بالحديث، وقرأ بنفسه الكثير، ولازم السماع مُدَّة سنين، وقرأ «الغيلانيات» في مجلس، ونسخَ وانتقى، وكتب الطِّباق والأثبات، وتعلم الخط والحساب في المكتب، واشتغل بالعلوم، وحفظ القرآن، وأقبل على الفقه، وقرأ أيامًا في العربية على ابن عبد القوي ثم فهمها، وأخذ يتأمل «كتاب سيبويه» حتى فهمه، وبرع في النحو، وأقبل على التفسير إقبالًا كليًّا حتى حاز فيه قصب السبق، وأحكم أُصول الفقه، وغير ذلك، هذا كله وهو ابن بضع عشرة سنة، فانبهر الفضلاء من فرط ذكائه، وسيلان ذهنه، وقُوَّة حافظته، وسرعة إدراكه.
نشأ في تصوُّن تام، وعفاف وتألُّه، واقتصاد في الملبس والمأكل، ولم يزل على ذلك خلفًا صالحًا، برًّا بوالديه، تقيًّا وَرِعًا، عابدًا ناسكًا، صَوّامًا قوَّامًا، ذاكرًا لله تعالى في كل أمر وعلى كل حال، رجَّاعًا إلى الله تعالى في سائر الأحوال والقضايا، وقَّافًا عند حدود الله تعالى، وأوامره ونواهيه، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، لا تكاد نفسه تشبع من العلم، ولا تروى من المطالعة، ولا تمل من الاشتغال، ولا تكِلُّ من البحث، وقلَّ أن يدخل في علمٍ
من العلوم، في باب من أبوابه إلا ويُفْتَح له من ذلك الباب أبواب، ويستدرك أشياء في ذلك العلم على حُذَّاق أهله.
وكان يحضر المجالس والمحافل في صغره، فيتكلّم ويناظر، ويُفحِم الكبار، ويأتي بما يتحيَّر منه أعيان البلدة في العلم، وأفْتى وله نحو سبع عشرة سنة، وشرع في الجمع والتأليف من ذلك الوقت، ومات والده ـ وكان من كبار الحنابلة وأئمتهم ـ ودرَّس بعده وقام بوظائفه؛ وله إحدى وعشرون سنة، فاشتهر أمره، وبَعُد صيته في العالم، وأخذ في تفسير الكتاب العزيز أيام الجمع على كرسي من حفظه، فكان يورد ما يقوله من غير توقف ولا تلعثم، وكذا كان يورد الدُّرُوْس بتؤدَةٍ وصوتٍ جهوري فصيح.
وحجَّ سنة إحدى وتسعين وله ثلاثون سنة، ورجع وقد انتهت إليه الإمامة في العلم، والعمل، والزهد، والورع، والشجاعة، والكرم، والتواضع، والحلم، والأناة، والجلالة، والمهابة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مع الصِّدق والأمانة، والعفة والصيانة، وحُسْن القصد والإخلاص، والابتهال إلى الله تعالى وشدة الخوف منه، ودوام المراقبة له، والتمسك بالأثر، والدعاء إلى الله تعالى، وحُسْن الأخلاق، ونفع الخَلْق، والإحسان إليهم.
وكان رحمه الله سيفًا مسلولًا على المخالفين، وشجًى في حلوق أهل الأهواء والمبتدعين، وإمامًا قائمًا ببيان الحق ونصرة الدين، طنَّت بذكره الأمصار، وظنَّت بمثله الأعصار.
وقال أبو الحجاج
(1)
: ما رأيت مثله، ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت
(1)
هو الحافظ المزي.
أحدًا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله، ولا أتْبَع لهما منه.
وقال العلَّامة كمال الدِّين الزملكاني: كان إذا سُئل عن فنٍّ من الفنون ظنَّ الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحدًا لا يعرف مثله، وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا في مذاهبهم منه ما لم يكونوا عرفوه قبل ذلك، ولا يُعرف أنه ناظر أحدًا فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم ــ سواء كان من علوم الشرعِ أو غيرها ــ إلَّا فاقَ فيه أهلَه والمنسوبين إليه، وكانت له اليد الطولَى في حسن التصنيف وجودة العبارة، والترتيب والتقسيم والتبيين.
ووقعت مسألة فرعية في قسمة جري فيها اختلاف بين المفتين في العصر؛ فكتب فيها مجلدةً كبيرةً، وكذلك وقعت مسألةٌ في حدٍّ من الحدود؛ فكتب أيضًا مجلدة كبيرةً، ولم يخرج في كل واحدة عن المسألة ولا طَوَّلها بتخليط الكلام والدخول في شيءٍ والخروج من شيءٍ، وأتى في كل واحدة بما لم يكن يجري في الأوهام والخواطر، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها.
وقرأت بخط الشيخ كمال الدِّين أيضًا على كتاب «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» لشيخنا: تأليف الشيخ الإمام العالم العلَّامة الأوحد، الحافظ المجتهد، الزاهد العابد القدوة، إمام الأئمة، قدوة الأُمة، علّامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد علماء الدين، بركة الإسلام، حجة الأعلام، برهان المتكلمين، قامع المبتدعين، مُحيي السنة، ومن عَظُمت به لله علينا المنة، وقامت على أعدائه الحجة، واستبانت ببركته وهديه المحجة، تقي الدِّين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية
الحرَّاني، أعلى الله تعالى مكانه
(1)
، وشيّد من الدِّين أركانه.
ماذا يقول الواصفون له
…
وصفاتُه جَلَّتْ عن الحصر
هو حُجَّة لله قاهرة
…
هو بيننا أعجوبة الدهر
هو آية في الخلق ظاهرة
…
أنوارها أربت على الفجر
وهذا الثناء عليه وكان عمره نحو الثلاثين سنة، وقد أثنى عليه خلقٌ من شيوخه، ومن كبار علماء عصره؛ كالشيخ شمس الدِّين بن أبي عُمر، والشيخ تاج الدِّين الفزاري، وابن منجَّا، وابن عبد القوي، والقاضي الخويي، وابن دقيق العيد، وابن النحاس، غيرهم.
وقال الشيخ عماد الدِّين الواسطي ــ وكان من العلماء العارفين ــ وقد ذكره: هو شيخنا السيد الإمام الهمام، قامع البدعة، ناصر الحديث، مفتي الفرق، الفاتق عن الحقائق ومؤصّلها بالأصول الشرعية للطالب الذائق، الجامع بين الظاهر والباطن، وهو يقضي بالحق ظاهرًا وقلبه في العلى قاطن، أنموذج الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، الشيخ الإمام تقي الدِّين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحرَّاني أعاد الله علينا بركته، ورفع إلى المدارج العليا درجته.
ثم قال في أثناء كلامه: والله ثم والله لم أرَ تحت أديم السماء مثله علمًا وعملًا وحالًا وخلقًا واتباعًا وكرمًا وحلمًا في حقِّ نفسه، وقيامًا في حق الله تعالى عند انتهاك حرمته.
ثم أطال في الثناء عليه.
(1)
في كتاب ابن عبد الهادي: «مناره» .
وقال الشيخ علم الدِّين في «معجم شيوخه» : تقي الدِّين أبو العباس، الإمام المجمع على فضله ونبله ودينه، قرأ الفقه وبرع فيه وفي العربية والأصول، ومهر في علم التفسير والحديث، وكان إمامًا لا يلحق غباره في كل شيء، وبلغ رتبة الاجتهاد، واجتمعت فيه شروط المجتهدين. وكان إذا ذكر التفسير أبهت الناس من كثرة محفوظاته، وحسن إيراده، وإعطائه كل قول ما يستحقه من الترجيح والتضعيف والإبطال، وخوضه في كل فن، كان الحاضرون يقضون منه العجب، هذا مع انقطاعه إلى الزهد والعبادة، والاشتغال بالله تعالى، والتجرد عن أسباب الدنيا، ودعاء الخلق إلى الله تعالى، وكان يجلس في صبيحة كل جمعة على الناس يفسر القرآن العظيم، فانتفع بمجلسه وبركة دعائه، وطهارة أنفاسه، وصدق نيته، وصفاء ظاهره وباطنه، وموافقة قوله لعمله، أناب إلى الله خلق كثير، وجرى على طريقة واحدة من اختيار الفقر، والتقلل من الدنيا، ورد ما يفتح به عليه.
وقال علم الدِّين في موضع آخر: رأيت في إجازة لابن الشهرزوري الموصلي خط الشيخ تقي الدين، وقد كتب تحته الشيخ الإمام شمس الدِّين الذهبي رحمه الله: هذا خط شيخنا الإمام، شيخ الإسلام، فرد الزمان، بحر العلوم، تقي الدين. مولده عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وست مئة، وقرأ القرآن والفقه، وناظر واستدل وهو دون البلوغ، وبرع في العلم والتفسير، وأفتى ودرس وله نحو العشرين، وصنف التصانيف، وصار من أكابر العلماء في حياة شيوخه، وله المصنفات الكبار التي سارت بها الركبان، ولعل تصانيفه في هذا الوقت تكون أربعة آلاف كراس وأكثر، وفسر كتاب الله تعالى مدة سنين من صدره أيام الجمع، وكان يتوقد ذكاءً، وسماعاته من
الحديث كثيرة، وشيوخه أكثر من مئتي شيخ، ومعرفته بالتفسير إليها المنتهى، وحفظه للحديث ورجاله وصحته وسقمه مما لا يلحق فيه، وأما نقله للفقه ولمذاهب الصحابة والتابعين ــ فضلًا عن المذاهب الأربعة ــ فليس له فيه نظير، وأما معرفته بالملل والنحل والأصول والكلام فلا أعلم له فيها نظيرًا، وكان يدري جملة صالحة من اللغة، وعربيته قوية جدًّا، وأما معرفته بالتأريخ والسير فعجب عجيب، وأما شجاعته وجهاده وإقدامه فأمر يتجاوز الوصف ويفوق النعت، وهو أحد الأجواد الأسخياء الذين يضرب بهم المثل، وفيه زهد وقناعة باليسير في المأكل والملبس.
وقال الذهبي في موضوع آخر: كان آية في الذكاء وفي سرعة الإدراك، رأسًا في معرفة الكتاب والسنة والاختلاف، بحرًا في النقليات، هو في زمانه فريد عصره علمًا وزهدًا وشجاعة وسخاءً، وأمرًا بالمعروف، ونهيًا عن المنكر، وكثرة تصانيف.
إلى أن قال: فإن ذكر التفسير فهو حامل لوائه، وإن عد الفقهاء، فهو مجتهدهم المطلق، وإن حضر الحفاظ نطق وخرسوا، وسرد وأبلسوا، واستغنى وأفلسوا، وإن سمي المتكلمون فهو فردهم، وإليه مرجعهم، وإن لاح ابن سينا يقدم الفلاسفة فلسهم وتيسهم، وهتك أستارهم، وكشف عوارهم، وله يد طولى في معرفة العربية والصرف واللغة، وهو أعظم من أن تصفه كلمي، وينبه على شأوه قلمي، فإن سيرته وعلومه ومعارفه ومحنه وتنقلاته يحتمل أن ترصع في مجلدتين.
وقال في مكان آخر: له خبرة تامة بالرجال، وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث، وبالعالي والنازل، وبالصحيح والسيقم،
مع حفظه لمتونه الذي انفرد به، فلا يبلغ أحد في العصر رتبته ولا يقاربه، وهو عجيب في استحضاره، واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة والمسند بحيث يصدق عليه أن يقال:«كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث» ؛ ولكن الإحاطه لله؛ غير أنه يغترف فيه من بحر، وغيره يغترف من السواقي، وأما التفسير فمسلم إليه، وله في استحضار الآيات من القرآن ــ وقت إقامة الدليل بها على المسألة ــ[قوة عجيبة]، وإذا رآه المقرئ تحير فيه، ولفرط إمامته في التفسير وعظمة اطلاعه يبين خطأ كثير من أقوال المفسرين، ويوهي أقوالًا عديدة، وينصر قولًا واحدًا موافقًا لما دل عليه القرآن والحديث، ويكتب في اليوم والليلة من التفسير، أو من الفقه، أو من الأصلين، أو من الرد على الفلاسفة الأوائل نحوًا من أربعة كراريس أو أزيد، وما أُبعِد أن تصانيفه إلى الآن تبلغ خمس مئة مجلدة، وله في غير مسألة مصنف مفرد.
وله من المؤلفات القواعد والفتاوى والأجوبة والرسائل والتعاليق ما لا ينحصر ولا ينضبط، ولا أعلم أحدًا من المتقدمين ولا من المتأخرين جمع مثل ما جمع، ولا صنف نحو ما صنف، ولا قريبًا من ذلك؛ مع أن تصانيفه كان يكتبها من حفظه، وكتب كثيرًا منها في الحبس وليس عنده ما يحتاج إليه، ويراجعه من الكتب.
وقال الشيخ فتح الدِّين بن سيد الناس بعد أن ذكر ترجمة شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي رضي الله عنه: وهو الذي حداني على رؤية الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدِّين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية؛ فألفيته ممن أدرك من العلوم حظًّا، وكاد يستوعب السنن والآثار حفظًا، إذا تكلم في
التفسير فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر بالحديث فهو صاحب علمه وذو رايته، أو حاضر بالنحل والملل لم ير أوسع من نحلته في ذلك، ولا أرفع من درايته، برز في كل فن على أبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله، ولا رأت عينه مثل نفسه، كان يتكلم في التفسير فيحضر مجلسه الجم الغفير، ويردون من بحر علمه العذاب النمير، ويرتعون من رياض فضله في روضة وغدير، إلى أن دب إليه من أهل بلده الحسد، وأكب أهل النظر منهم بما يُنتقد عليه من أمور المعتقد، فحفظوا عنه في ذلك كلامًا، أوسعوه بسببه ملامًا، وفوقوا لتبديعه سهامًا، وزعموا أنه خالف طريقهم، وفرق فريقهم، فنازعهم ونازعوه، وقاطع بعضهم وقاطعوه، ثم نازعه طائفة أخرى ينتسبون من الفقر إلى طريقة، ويزعمون أنهم على أدق باطن منها وأجلى حقيقة، فكشف تلك الطرائق، وذكر لها مراغم وموابق
(1)
،
فآضت إلى الطائفه الأولى من منازعيه، واستعانت بذوي الضغن عليه من مقاطعيه، فوصلوا بالأمراء أمره، وأعمل [كل] منهم في كفره فكره فرتبوا محاضر، وألبوا الرويبضة للسعي بها بين الأكابر، وسعوا في نقله إلى حضرة المملكة بالديار المصرية، فنقل وأودع السجن ساعة حضوره واعتقل، وعقدوا لإراقة دمه مجالس، وحشدوا لذلك قومًا من عُمَّار الزوايا وسكان المدارس، من مجامل في المنازعة مخاتل في المخادعة، ومن مجاهر بالتكفير مبارز بالمقاطعة، يسومونه ريب المنون، {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص: 69]، وليس المجاهر بكفره بأسوأ حالًا من المخاتل، وقد دبت إليه عقارب مكره، فرد الله كيد كلٍّ في نحره، ونجَّاه على يد من
(1)
في كتاب ابن عبد الهادي: «على ما زعم بوائقِ» ..
اصطفاه، والله غالب على أمره، ثم لم يخل بعد ذلك من فتنة بعد فتنة، ولم ينتقل طول عمره من محنة إلا إلى محنة، إلى أن فُوِّض أمره لبعض القضاة فتقلد ما تقلد من اعتقاله، ولم يزل بمحبسه ذلك إلى حين ذهابه إلى رحمة الله وانتقاله، وإلى الله ترجع الأمور، وهو المطلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وكان يومًا مشهودًا، ضاقت بجنازته الطريق، وانتابها المسلمون من كل فج عميق، يتبركون بمشهده يوم يقوم الأشهاد، ويتمسكون بشَرْجَعِهِ
(1)
حتى كسروا تلك الأعواد.
هذا كلام الصلاح في: «فوات الوفيات»
(2)
ذكرته ههنا بالألفاظ.
وفي «طبقات الحنابلة» لزين الدِّين عبد الرحمن بن رجب الدمشقي:
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن الخضر بن محمد بن تيمية الحرَّاني ثم الدمشقي، الإمام الفقيه، المجتهد المحدث، الحافظ المفسر الأصولي، الزاهد تقي الدِّين أبو العباس شيخ الإسلام وعلم الأعلام، وشهرته تغني عن الإطناب في ذكره والإسهاب في أمره.
ولد يوم الاثنين عاش ربيع الأول سنة إحدى وستين وست مئة بحرَّان، وقَدِم به والده وبإخوته دمشقَ عند استيلاء التتر على البلاد، فسمع الشيخ بها من ابن عبد الدائم، وابن أبي اليُسر، وابن عبد، والمجد بن عساكر،
(1)
أي: سريره. وتقدم التعليق على مثل هذا.
(2)
بل هذا منقول من كتاب ابن عبد الهادي «مختصر طبقات علماء الحديث» أما كتاب ابن شاكر؛ فليس فيه هذه النصوص، والجميع مثبت في هذا الجامع.
ويحيى بن الصَّيْرفي الفقيه، وأحمد بن أبي الخير الحداد، والقاسم الإربلي، والشيخ شمس الدِّين بن أبي عُمر، والمسلم ابن علّان، وإبراهيم بن الدَّرجي، وخلق كثير.
وعُني بالحديث، وسمع «المسند» مرَّات، والكتب الستة، و «معجم الطبراني الكبير» وما لا يُحصى من الكتب والأجزاء، وقرأ بنفسه، وكتب بخطه جملةً من الأجزاء، وأقبل على العلوم في صغره؛ فأخذ الفقه والأصول عن والده، وعن الشيخ شمس الدِّين بن أبي عُمر، والشيخ زين الدِّين بن مُنجَّا، وبرع في ذلك، وناظر، وأقبل على تفسير القرآن الكريم فبرَّز فيه، وأحكمَ أصول الفقه، والفرائض، والحساب، والجبر، والمقابلة، وغير ذلك من العلوم.
ونظر في علمي الكلام والفلسفة وبرَّز في ذلك على أهله، وردَّ على رؤسائهم وأكابرهم، ومهر في هذه الفضائل، وتأهَّل للفتوى والتدريس وله دون العشرين سنة، وأفتى من قبل العشرين أيضًا، وأُمِدَّ بكثرة الكتب وبسرعة الحفظ، وقوة الإدراك والفهم وبُطء النسيان، حتى قال غير واحد: إنه لم يكن يحفظ شيئًا فينساه.
ثم توفي والده الشيخ شهاب الدين، وكان له حينئذ إحدى وعشرون سنة، فقام بوظائفه بعده، فدرَّس بدار الحديث السكَّرية وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدِّين بن الزكي، والشيخ تاج الدِّين الفزاري، وزين الدِّين بن المرحل، والشيخ زين الدِّين بن مُنجَّا وجماعة.
وذكر درسًا عظيمًا في البسملة وهو مشهور بين الناس، وعظَّمه الجماعة
والحاضرون، وأثنوا عليه ثناء كثيرًا.
قال الذهبي: وكان الشيخ تاج الدِّين الفَزَاري يبالغ في تعظيم الشيخ تقي الدين، بحيث إنه علق بخطه درسه بالسكَّرية.
ثم جلس عقب ذلك مكان والده بالجامع على منبره أيام الجُمع لتفسير القرآن الكريم، وشرع من أول القرآن، فكان يورد من حفظه في المجلس نحو كراسين أو أكثر، وبقي يفسِّر سورة نوح عِدة سنين أيام الجمع.
وفي سنة تسعين: ذكر يوم الجمعة شيئًا من الصفات؛ فقام بعض المخالفين، وسعوا في منعه من الجلوس، فلم يمكنهم ذلك.
وقال قاضي القضاة شهاب الدِّين الخويي: أنا على اعتقاد الشيخ تقي الدين، فعوتب على ذلك، فقال: لأن ذهنه صحيح، وموادّه كثيرة، فهو لا يقول إلا الصحيح.
قال الشيخ شرف الدِّين المقدسي: أنا أرجو بركتَه ودعاءه، وهو صاحبي، وأخي. ذكر البرازلي في «تاريخه» .
قال الذهبي في «معجم شيوخه» : تقي الدِّين شيخنا وشيخ الإسلام، فريد الزمان علمًا ومعرفة، وشجاعةً وذكاءً، وكرمًا ونصحًا للأمة، وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، سمع الحديث وأكثر بنفسه في طلبه، وكتب ونظر في الرجال، والطبقات، وحصل ما لم يحصِّله غيره. وفاقَ الناس في معرفة الفقه، واختلاف المذاهب، وفتاوى الصحابة والتابعين، بحيث إنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل بما يقوم عنده دليله. وعرف أقوال المتكلمين، وردَّ عليهم، ونبَّه على خطئهم، وحذَّر منهم، ونصر السنة بأوضح حجج
وأبهر براهين. وأُوذي في ذات الله من المخالفين، وأُخيف في نصر السنة المحضة، حتى أعلا الله مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له، وكبت أعداءه، وهدى به رجالًا من أهل الملل والنحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالبًا، وعلى طاعته، ومحاسنه كثيرة، وهو أكبر من أن ينبِّه على سيرته مثلي، فلو حلفت بين الركن والمقام وبالطلاق ألف طلقة
(1)
: أني ما رأيتُ بعيني مثله، وأنه ما رأى مثل نفسه ما حنثت. إلى أن قال ابن رجب: وقد عُرِض عليه قضاء القضاة قبل التسعين، ومشيخة الحديث
(2)
، فلم يقبل شيئًا من ذلك، قرأت ذلك بخط الإمام الذهبي.
وقد كتب الذهبي في «تاريخه الكبير» للشيخ ترجمةً مطولةً، وقال: كان يكتب في اليوم والليلة من التفسير، أو من الفقه، أو من الأصلين، أو من الرد على الفلاسفة الأوائل: نحوًا من أربعة كراريس أو أزيد.
قلت: وقد كتب «الحموية» في قَعْدةٍ واحدة، وهي أزْيد من ذلك. وكتب في بعض الأحيان في اليوم ما بُيِّض منه مجلدة.
وكان رحمه الله فريد دهره في فهم القرآن، ومعرفة حقائق الإيمان، وله يد طُوْلَى في الكلام على المعارف والأحوال، والتمييز بين الصحيح والسقيم، والمعوجّ والمستقيم.
وللشيخ أثير الدِّين أبي حيان الأندلسي االنحوي ــ لما دخل الشيخ مصر واجتمع به، ويقال: إن أبا حيان لم يقل أبياتًا خيرًا منها ــ:
(1)
هذه الجملة ليست في كتاب ابن رجب.
(2)
في «الذيل» : «الشيوخ» .
لما رأينا تقيَّ الدِّين لاح لنا
…
داعٍ إلى الله فردٌ ما له وَزَر
على محياه من سيما الأُولى صحبوا
…
خير البرية نورٌ دونه القمر
حبر تسربل منه دهره حِبَرا
…
بحر تقاذَف من أمواجه الدرر
قام ابن تيمية في نصر شِرْعتنا
…
مقامَ سيّد تيمٍ إذ عصت مُضر
فأظهر الدِّين إذ آثاره درست
…
وأخمد الشرَّ إذ طارت له شرر
يا من تحدث عن علم الكتاب أصِخ
…
هذا الإمام الذي قد كان يُنتظر
وحكى الذهبي عن الشيخ تقي الدِّين ابن دقيق العيد قال له ـ عند اجتماعه به وسماعه لكلامه ـ: ما كنت أظن أن الله بقي يخلق مثلك.
وعن ابن الزَّمْلكاني: أنه سُئل عن الشيخ، فقال: لم نَر من خمس مئه سنة، أو أربع مئة سنة ـ الشك من الناقل. وغالب ظنه أنه قال: من خمسمائة سنة ـ: أحفظَ منه.
قال الفقيه الأديب العلامة زين الدِّين عمر ابن الوردي في «تاريخه» :
وكان القدوة أبو عبد الله محمد بن قوام يقول: ما أسلمت معارفنا إلا على يد ابن تيمية.
والشيخ عماد الدِّين الواسطي كان يعظمه جدًّا، وتَلْمذ له، مع أنه كان
أسن منه. وكان يقول: قد شارف مقام الأئمة الكبار، ويناسب قيامه في بعض الأمور قيام الصديقين.
وكتب رسالة إلى خواص أصحاب الشيخ يوصيهم بتعظيمه واحترامه، ويعرفهم حقوقه، ويذكر فيها: أنه طاف أعيان بلاد الإسلام، ولم يَر فيها مثل الشيخ علمًا وعملًا، وحالًا وخلقًا واتباعًا، وكرمًا وحلمًا في حق نفسه، وقيامًا في حق الله تعالى عند انتهاك حرماته، وأقْسَم على ذلك بالله ثلاث مرات.
ثم قال: أصدق الناس عقدًا وأصحهم علمًا وعزمًا، وأنفذهم وأعلاهم في انتصار الحق وقيامه، وأسخاهم كفًّا، وأكملهم اتباعًا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ما رأينا في عصرنا هذا من تُسْتجلى النبوة المحمدية وسننها من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل، بحيث يشهد القلب الصحيح: أن هذا هو الاتباع حقيقة.
قال الإمام الذهبي: لقد نصر السنة المحضة، والطريقة السلفية، واحتج [لها] ببراهين ومقدمات وأمور لم يسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا، وجسر هو عليها حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قيامًا لا مزيد عليه، وبدَّعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحق المر الذي أداه إليه اجتهاده، وحِدَّةُ ذهنه، وسَعَةُ دائرته في السنن والأقوال، مع ما اشتهر عنه من الورع، وكمال الفكرة، وسرعة الإدراك، والخوف من الله، والتعظيم لحرمات الله.
فجرى بينه وبينهم حملات حربية، ووقعات شامية ومصرية، وكم من نوبة قد رموه عن قوس واحدة، فأنجاه الله، فإنه كان دائم الابتهال، كثير الاستعانة، قوي التوكل، ثابت الجأش، له أوراد وأذكار يدمنها بكيفية وجمعية. [وله محبون من] العلماء والصلحاء، ومن الجند والأمراء، ومن
التجار والكبراء، وسائرُ العامةِ تحبّه؛ لأنه منتصبٌ لنفعهم ليلًا ونهارًا، بلسانه وقلمه.
وأما شجاعته: فبها تضرب الأمثال، وببعضها يتشبه أكابر الأبطال.
وله إقدام وشهامة، وقوة نفس توقعه في أمورٍ صعبة، فيدفع الله عنه.
وله نظم قليل وسط. ولم يتزوج، ولا تسرَّى، ولا له من المعلوم إلا شيء قليل. وأخوه يقوم بمصالحه، ولا يطلب منه غداءً ولا عشاءً في غالب الأوقات.
وما رأيت في العالم أكرم منه، ولا أفرغ منه عن الدينار والدرهم، لا يذكره، ولا أظنه يدور في ذهنه، وفيه مروءة، وقيام مع أصحابه، وسَعْي في مصالحهم. وهو فقير لا مال له، وملبوسه كآحاد الفقهاء: فَرَجيَّة، ودَلَق، وعمامة تكون قيمة ثلاثين درهمًا، ومداس ضعيف الثمن، وشعره مقصوص.
وهو ربع القامة، بعيد ما بين المنكبين، كأنَّ عينيه لسانان ناطقان، ويصلي بالناس صلاة لا تكون أطول من ركوعها ولا سجودها، وربما قام لمن يجيء من سفر أو غاب عنه، وإذا جاء فربما يقومون له، والكل عنده سواء، كأنه فارغ من هذه الرسوم ولم ينحنِ لأحدٍ قط، وإنما يسلِّم ويصافح ويبتسم، وقد يعظِّم جليسَه مرة، ويُهينه في المحاورة مرات.
قلت: وقد سافر الشيخ مرةً على البريد إلى الديار المصرية يستنفر السلطان عند مجيء التتر سنةً من السنين، وتلا عليهم آيات الجهاد، وقال: إن تخليتم عن الشام ونصرة أهله والذب عنهم، فإن الله تعالى يقيم لهم من
ينصرهم غيركم، ويستبدل بكم، وتلا قوله تعالى:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]، وقوله تعالى:{إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} [التوبة: 39].
وبلغ ذلك الشيخ تقي الدِّين بن دقيق العيد ــ وكان هو القاضي حينئذٍ ــ فاستحسن ذلك، وأعجبه هذا الاستباط، وتعجب من مواجهة الشيخ للسلطان بمثل هذا الكلام.
وأما محن الشيخ: فكثيرة، وشرحها يطول جدًّا.
وقد اعتقله مرة بعض نواب السلطان بالشام قليلًا، بسبب قيامه على نصراني سبَّ الرسول صلى الله عليه وسلم: واعتقل معه الشيخ زين الدِّين الفارقي، ثم أطلقهما مكرمين.
ولما صنف المسأله «الحموية» في الصفات؛ شنع بها جماعة، ونودي عليها في الأسواق على قصبة، وأن لا يُستفتى، من جهةِ بعض القضاة الحنفية. ثم انتصر للشيخ بعضُ الولاة، ولم يكن في البلد حينئذٍ نائب، وضرب المنادي وسكن الأمر.
ثم امتُحِن سنة خمس وسبع مئة بالسؤال عن معتقده بأمر السلطان، فجمع نائبه القضاة واالعلماء بالقصر، وأحضر الشيخ، وسألهُ عن ذلك؛ فبعث الشيخ وأحضر من داره «العقيدة الواسطية» فقرؤوها في ثلاثة مجالس، وحاققوه، وبحثوا معه، ووقع الاتفاق بعد ذلك على أن هذه عقيدة سُنِّية سلفية، فمنهم من قال ذلك طوعًا، ومنهم من قاله كرهًا.
وورد بعد ذلك كتاب من السلطان فيه: إنما قصدنا براءة ساحة الشيخ، وتبين لنا أنه على عقيدة السلف.
ثمَّ إن المصريين دبروا الحيلة في أمر الشيخ، ورأوا أنه لا يمكن البحث معه، ولكن يُعقد له مجلس، ويُدَّعى عليه، وتقام عليه الشهادات. وكان القائمون في ذلك منهم: بيبرس الجاشنكير، الذي تسلطن بعد ذلك، ونصر المنبجي، وابن مخلوف قاضي المالكية، فطُلِب الشيخ على البريد إلى القاهرة، وعقد له ثاني يوم وصوله ــ وهو ثاني عشرين من رمضان سنة خمس وسبعمائة ــ مجلس بالقلعة، وادُّعي عليه عند ابن مخلوف أنه يقول: إن الله تعالى تكلم بالقرآن بحرف وصوت، وأنه على العرش بذاته، وأنه يشار إليه بالإشارة الحسية.
وقال المدعي ـ وهو ابن عدلان ـ: أطلبُ تعزيره على ذلك، التعزير البليغ ـ يشير إلى القتل على مذهب مالك ـ فقال القاضي: ما تقول يا فقيه؟ فحمد الله وأثنى عليه، فقيل له: أسرع ما جئت لتخطب، فقال: أُمنع من الثناء على الله تعالى؟ فقال القاضي: أجب، فقد حمدت الله تعالى. فسكت الشيخ، فقال: أجب. فقال الشيخ له: من هو الحاكم في؟ فأشاروا إلى القاضي وقالوا: هو الحاكم، فقال الشيخ لابن مخلوف: أنت خصمي، كيف تحكم في؟ وغضب، ومراده: أني وإياك متنازعان في هذه المسائل، فكيف يحكم أحد الخصمين على الآخر فيها، فأقيم الشيخ ومعه أخواه، ثم رُدَّ الشيخ، وقال: رضيت أن تحكم فيَّ، فلم يمكن له الجلوس، ويقال: إن أخاه الشيخ شرف الدِّين ابتهل، ودعا عليهم في حال خروجهم، فمنعه الشيخ، وقال له: قل: اللهم هب لهم نورًا يهتدون به إلى الحق.
ثم حُبِسوا في برج أيامًا، ونقلوا إلى الجب ليلة عيد الفطر، ثم بعث كتاب السلطان إلى الشام بالحط على الشيخ، وإلزام الناس ـ خصوصًا أهل مذهبه ـ بالرجوع عن عقيدته، والتهديد بالعزل والحبس، ونودي بذلك في الجامع والأسواق: ثم قُرئ الكتاب بسدة الجامع بعد الجمعة، وحصل أذى كثير للحنابلة بالقاهرة، وحبس بعضهم، وأخذ خطوط بعضهم بالرجوع، وكان قاضيهم الحراني قليل العلم.
ثم في سلخ رمضان سنة ست: أحضر سلار ـ نائب السلطنة بمصر ـ القضاة والفقهاء، وتكلم في إخراج الشيخ، فاتفقوا على أن يُشترط عليه أمور، ويلزم بالرجوع عن بعض العقيدة، فأرسلوا إليه من يحضره، ليتكلموا معه في ذلك، فلم يُجب إلى الحضور، وتكرر الرسول إليه في ذلك مرات، وصمم على عدم الحضور، فطال عليهم المجلس، وانصرفوا عن غير شيءٍ.
ثم في آخر هذه السنة وصل كتاب إلى نائب السلطنة بدمشق من الشيخ، فأخبر بذلك جماعة ممن حضر مجلسه، وأثنى عليه، وقال: ما رأيت مثله، ولا أشجع منه. وذكر ما هو عليه في السجن من التوجه إلى الله تعالى، وأنه لا يقبل شيئًا من الكسوة السلطانية، ولا من الإدرار السلطاني، ولا تدنَّس بشيء من ذلك.
ثم في ربيع الأول سنة سبع وسبعمائة دخل مُهنَّا بن عيسى أمير العرب إلى مصر، وحضر بنفسه إلى السجن، وأخرج الشيخ منه، بعد أن استأذن في ذلك، وعُقد للشيخ مجالس حضرها أكابر الفقهاء وانفصلت على خير.
وذكر الذهبي والبرزالي وغيرهما: أن الشيخ كتب لهم بخطه مجملًا من القول وألفاظًا فيها بعضُ ما فيها، لما خاف وهُدِّد بالقتل، ثم أُطلق وامتنع من
المجيء إلى دمشق. وأقام بالقاهرة يُقرئ العلم، ويتكلم في الجوامع والمجالس العامة ويجتمع عليه خلق.
ثم في شوال من السنة المذكورة: اجتمع جماعة كثيرة من الصوفية، وشكوا من الشيخ إلى الحاكم الشافعي، وعقد له مجلس لكلامه في ابن عربي وغيره، وادَّعى عليه ابنُ عطاء بأشياء، ولم يَثْبُت منها شيءٌ، لكنه اعترف أنه قال: لا يُستغاث بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، استغاثة بمعنى العبادة، ولكن يُتوسَّل به، فبعض الحاضرين قال: ليس في هذا شيء.
ورأى الحاكم ابن جماعة: أن هذه إساءة أدب، وعنَّفه في ذلك، فحضرت رسالة إلى القاضي: أن يعمل معه ما تقتضيه الشريعة في ذلك، فقال القاضي: قد قلت له ما يقال لمثله.
ثم إن الدولة خيرته بين أشياء، وهي الإقامة بدمشق أو بالاسكندرية، بشروط، أو الحبس، فاختار الحبس. فدخل عليه أصحابه في السفر إلى دمشق، ملتزمًا ما شُرِط عليه، فأجابهم، فأركبوه خيل البريد، ثم ردُّوه من الغد، وحضر عند القاضي بحضور جماعة من الفقهاء، فقال له بعضهم: ما ترضى الدولة إلا بالحبس، فقال القاضي: وفيه مصلحة له، واستناب التونسي المالكي، وأذن له أن يحكم عليه بالحبس، فامتنع، وقال: ما ثبت عليه شيء، فأذن لنور الدِّين الزواوي المالكي، فتحيَّر، فقال الشيخ: أنا أمضي إلى الحبس، وأتَّبع ما تقتضيه المصلحة، فقال الزواوي المذكور: فيكون في موضع يصلُح لمثله، فقيل له: ما ترضى الدولة إلا بمسمى الحبس، فأرسل إلى حبس القاضي وأُجلس في الموضع الذي أجلس فيه القاضي تقي الدِّين ابن بنت الأعز لما حُبِس، وأذن أن يكون عنده من يخدمه. وكان
جميع ذلك بإشارة نصر المنبجيّ.
واستمر الشَّيخ في الحبس يستفتى ويقصده الناس، ويزورونه، وتأتيه الفتاوي المشكلة من الأمراء وأعيان الناس.
وكان أصحابه يدخلون عليه أولًا سرًّا، ثمَّ شرعوا يتظاهرون بالدخول عليه، فأخرجوه في سلطنة الششنكير الملقب بالمظفر، إلى الإسكندرية على البريد، وحبس بها في برج حسن مضيء متسع، يدخل عليه من شاء، ويمنع هو من شاء، ويخرج إلى الحمام إذا شاء. وكان قد أخرج وحده، وأرجف الأعداء بقتله وتفريقه غير مرة، فضاقت بذلك صدور محبيه بالشام وغيره، وكثر الدعاء له، وبقي في الإسكندرية مدة سلطنة المظفر.
فلما عاد الملك الناصر إلى السلطنة وتمكن، وأهلك المظفر، وحمل شيخه نصر المنبجي، واشتدت موجدة السلطان على القضاة لمداخلتهم المظفر، وعزل بعضهم: بادر بإحضار الشَّيخ إلي القاهرة مكرمًا في شوال سنة تسع وسبعمائة، وأكرمه السلطان إكرامًا زائدًا، وقام إليه، وتلقاه في مجلس حفل، فيه قضاة المصريين والشاميين، والفقهاء وأعيان الدولة. وزاد في إكرامه عليهم، وبقي يسُارّه ويستشيره سويعة، وأثنى عليه بحضورهم ثناء كثيرًا، وأصلح بينه وبينهم. ويقال: إنَّه شاوره في أمر همَّ به في حق القضاة، فصرفه عن ذلك، وأثنى عليهم، وأن ابن المخلوف كَانَ يقول: ما رأينا أفتى من ابن تَيْمِيَّة، سعينا في دمه. فلما قدر علينا عفا عنا.
واجتمع بالسلطان مرة أخرى بعد أشهر، وسكن الشَّيخ بالقاهرة، والناس يترددون إليه، والأمراء والجند، وطائفة من الفقهاء، وفيهم من يعتذر إليه ويتنصل مما وقع منه.
قال الدَّهبيّ: وفي شعبان سنة إحدى عشرة: وصل النبأ أنَّ الفقيه البكري ــ أحد المبغضين للشيخ ــ استفرد بالشيخ بمصر، ووثب عليه، ونتش بأطواقه، وقال: احضر معي إلى الشرع، فلي عليك دعوى، فلما تكاثر الناس انملص، فطُلِب من جهة الدولة، فهرب واختفي.
وذكر غيره: أنَّه ثار بسبب ذلك فتنة، وأراد جماعة الانتصار من البكري فلم يُمَكنهم الشَّيخ من ذلك.
واتفق بعد مدة: أنَّ البكري همّ السلطان بقتله، ثمَّ رسم بقطع لسانه؛ لكثرة فضوله وجراءته، ثمَّ شفع فيه، فنفي إلى الصعيد، ومنع من الفتوى والكلام في العلم. وكان الشَّيخ في هذه المدة يُقْرئ العلم، ويجلس للناس في مجالس عامة.
ثم قدم إلى الشَّام هو وإخوته سنة اثنتي عشرة بنيَّة الجهاد، لما قدم السلطان لكشف التتر عن الشَّام. فخرج مع الجيش، وفارقهم من عسقلان، وزار البيت المقدس.
ثمَّ دخل دمشق بعد غيبته عنها فوق سبع سنين، ومعه أخواه وجماعة من أصحابه، وخرج خلق كثير لتلقيه، وسُرَّ الناس بمقدمه، واستمر على ما كَانَ عليه أولًا، من إقراء العلم، وتدريسه بمدرسة السكرية، والحنبلية، وإفتاء الناس ونفعهم.
ثمَّ في سنة ثمان عشرة: ورد كتاب من السلطان بمنعه من الفتوى في مسألة الحلف بالطلاق بالتكفير، وعُقِد له مجلس بدار السعادة، ومنع من ذلك، ونودي به في البلد.
ثمَّ في سنة تسع عشرة عُقِد له مجلس أيضًا كالمجلس الأوَّل، وقرئ كتاب السلطان بمنعه من ذلك، وعوتب على فتياه بعد المنع، وانفصل المجلس على تأكيد المنع.
ثمَّ بعد مدة عُقِد له مجلس ثالث بسبب ذلك، وعوتب وحبس بالقلعة. ثمَّ حبس لأجل ذلك مرة أخرى. ومنع بسببه من الفتيا مطلقًا، فأقام مدة يفتي بلسانه، ويقول: لا يسعني كتم العلم.
وفي آخر الأمر: دبروا عليه الحيلة في مسألة المنع من السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين، وألزموه من ذلك التنقص بالأنبياء، وذلك كفر، وأفتى بذلك طائفة من أهل الأهواء، وهم ثمانية عشر نفسًا، رأسهم القاضي الإخنائِي المالكي وأفتى قضاة مصر الأربعة بحبسه، فحبس بقلعة دمشق سنتين وأشهرًا. وبها مات رحمه الله تعالى ورضي عنه.
وقد بيَّن رحمه الله: أنَّ ما حكم عليه به باطل بوجوه كثيره جدًّا، وأفتى جماعة: أنه يخطئ كخطأ المجتهدين المغفور لهم، ووافقه جماعة من علماء بغداد. وكذلك ابنا أبي الوليد المالكي شيخ المالكية بدمشق أفتيا: أنَّه لا وجه للاعتراض عليه فيما قاله أصلًا، وأنَّه نقل خلاف العلماء في المسألة، ورجَّح أحدَ القولين فيها.
وبقي مدة في القلعة يبث
(1)
العلم ويصنفه، ويرسل إلى أصحابه الرسائل، ويذكر ما فتح الله به عليه هذه المرة من العلوم العظيمة، والأحوال الجسيمة.
(1)
في «الذيل» : «يكتب» .
وقال: قد فتح الله عليَّ في هذا الحصن في هذه المرة من معاني القرآن، ومن أصول العلم بأشياء، كَانَ كثير من العلماء يتمنونها، وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن، ثمَّ إنَّه مُنِع من الكتابة، ولم يُترك عنده دواة ولا قلم ولا ورق، فأقبل على التلاوة والتهجد والمناجاة والذكر.
قال الذهبي في «تاريخه الكبير» : ولما كان معتقلًا في الإسكندرية، التمس منه صاحب سبتة أن يجيز لأولاده، فكتب لهم في ذلك نحوًا من ست مئة سطرٍ، منها سبعة أحاديث بأسانيدها والكلام على صحتها ومعانيها، وبحث وعمل، فإذا نظر فيه المحدث خضع له في صناعة الحديث. وذكر أسانيدَه في عدة كتب، ونبَّه على العوالي، عمل ذلك كله من حفظه، من غير أن يكون عنده ثبت أو ما يراجعه.
قال في «فوات الوفيات»
(1)
: منع من الكتابة والمطالعة، وأخرجوا ما عنده من الكتب، ولم يتركوا له دواةً، ولا قلمًا، ولا ورقةً، وكتب عقب ذلك بفحمٍ. وكان يقول: إن إخراج الكتب من عنده من أعظم النعم.
قال الحافظ ابن القيم رحمه الله : قال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ جنتي في قلبي، وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي؛ لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
وكان في حبسه في القلعة يقول: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهبًا ما عدل عندي شكر هذه النعمة. أو قال: ما جزيتهم عل ما تسَبَّبوا لي فيه من الخير، وكان يقول في سجوده: اللهم أعنّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
(1)
كذا والنقل من كتاب ابن عبد الهادي.
وقال مرة: المحبوس من حُبس قلبُه عن ربه، والمأسور من أسره هواه.
ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها، نظر إليه، وقال:{بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ} [الحديد: 13].
قال شيخنا: وعلم الله ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط، مع ما كان فيه من الحبس، والتهديد، والإرجاف، وهو مع ذلك أطيب الناس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرّهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه. وكان إذا اشتد بنا الخوف، وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض؛ أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب عنا ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوة ويقينًا وطمأنينة.
كل هذا في «طبقات الحنابلة» لابن رجب.
وقال الشِّهاب بن فضل الله العمري في «مسالك الأبصار» .
منهم: أحمد بن عبد الحليم الحرَّاني، الحافظ الحجة.
هو البحرُ من أيِّ النواحِي أتيته، والبدرُ من أيّ الضَّواحِي رأيته، جَرَتْ آباؤُه لِشَأْوٍ ما قَنِعَ به، ولا وقفَ عنده طليحًا مُريحًا من تَعَبه. رَضَعَ ثَدْيَ العلمِ مُنذُ فُطِم، وطَلعَ وجهُ الصباحِ ليُحَاكِيَهُ فَلُطِم، وقَطَعَ الليلَ والنهارَ دائبينِ، واتخذ العلمَ والعملَ صاحبَينِ، إل أن أنسَى السلفَ بِهُداه، وأنْأى الخَلَفَ عن بلوغِ مَدَاه.
أحْيَا معالمَ بيتهِ إذْ دَرَسَ، وجَنَى من فَنَنِه الرَّطيبِ ما غَرَسَ، فأصبحَ في فضله آيةً إلّا أنه آيةُ الحَرَسِ، عَرضَتْ له الكُدَى فزَحْزَحَها، وعارضَتْه البحارُ فضَحْضَحَها، كان أُمَّةً وحدَه، وفردًا حتَّى نزلَ لَحْدَه. أخْمَلَ من القُرَناءِ كلَّ
عَظِيم، وأخْمَدَ من أهل الفناءِ كلَّ قديم، ولم يكن منهم أحد إلّا يُجْفِلُ عنه إجفالَ الظَّليم، ويَتَضاءلُ لديه تَضاؤُلَ الغَرِيم.
جاء في عصرٍ مأهولٍ بالعلماء، مشحونٍ بنجوم السماء، تَمُوجُ في جانبَيهِ بحورٌ خَضَارِمُ، وتَطِيرُ بين خافِقَيهِ نُسُورٌ قَشَاعِمُ، وتُشْرِقُ في أنديتهِ بُدورُ دُجُنَّةٍ، وصدورُ أسِنَّةٍ، إلّا أن صَبَاحَه طَمَسَ تلك النجوم، وبَحْرَهُ طَمَّ على تِلكَ الغُيُوم، ففَاءَتْ سُمْرَتُه على تلك التِّلاعِ، وأطلَّتْ قَسورتُه على تلك السِّبَاعِ، تُمَّ عُبِّئَتْ له الكتائبُ فحَطَّمَ صفوفَهَا، وخَطَمَ أُنوفَها، وابتلَعَ غَدِيرُهُ المطمئنُّ جَداولَها، واقتلَعَ طَوْدُهُ المُرْجَحِنُّ جَنادِلَها، وأخمدتْ أنفاسَهم رِيحُه، وأكْمَدَتْ شَرَاراتِهم مصابيحُه، نَقَلَ عن أئمة الإجماع فمَنَ سِواهم مذاهبَهم المختلفةَ واستَحْضَرَها، ومَثَّل صُوَرَهم الذاهبةَ وَأحْضَرها، فلو شَعَر أبو حنيفةَ بزَمانِه ومَلَكَ أمرَه لأدْنَى عَصْرَهُ إليه مُقترِبًا، أو مالكٌ لأجْرَى وراءَه أشهبَه ولو كَبَا، أو الشافعيُّ لقالَ: ليتَ هذا كان للأمِّ وَلَدًا ولَيتَني كنت له أخًا أو أبًا، أو الشيبانيُّ ابنُ حنبلٍ لما لامَ عِذَارَه إذا غَدا منه لفَرْطِ العَجبِ أشْيَبَا، لَا بَل داودُ الظاهريُّ وسِنَان الباطنيُّ لظَنَّا تحقيقَه من مُنتَحَلِه، وابنُ حَزْمٍ والشَّهْرِستانيُّ لحَشَرَ كلٌّ منهما ذِكرَه أمَّة في نِحَلِه، والحاكمُ النَّيسابوري والحافظ السِّلَفي لأضافَه هذا إلى استدراكِه وهذا إلى رِحَلِه.
تَرِدُ إليه الفتاوى ولا يَردُّها، وتَفِدُ عليه فيُجِيب عليها بأجوبةٍ كأنَّهُ كان قاعدًا لها يُعِدُّهَا.
ولقد تَضَافَرتْ عليه عُصَبُ الأعداءِ [فَأُقْحِمُوا] إذْ هَدَرَ فَحْلُه، وأُفْحِمُوا إذْ زَمزَمَ ليجني الشهدُ نَحْلُه، ورُمِيَ بالكبَائرِ، وتُرُبِّصَتْ به الدَّوائِرُ، وسُعِيَ به ليُؤْخَذَ بالجَرائِر، وحَسَدَه مَن لم يَنَل سَعْيَه وكثر فَارتَابَ، ونَمَّ وما زادَ على أنَّه
اغتابَ.
وكان قبلَ مَوتِه قَد مُنِعَ الدَّواةَ والقَلَم، وطُبِع على قلبه منها طابعُ الألَمِ، فكان مبدأُ مَرَضِه ومَنْشَأُ عَرَضِه، حت نزل قِفارَ المقابر، وترك فِقَارَ المنابِر، وحَلَّ ساحةَ تُربِه ومَا يُحاذِر، وأخذَ راحةَ قَلبِه من اللائمِ والعاذِر، فماتَ لا بل حَيِي، وعُرِفَ قَدْرُه لأنَّ مِثلَه رُئِي.
وكان يومُ دَفْنِه يَومًا مشهودًا ضاقت به بواطن البلدةِ وظواهِرُها، وتُذُكِّرَتْ به أوائِلُ الرَّزايا وأواخِرُها، ولم يكن [أعظم منها] مُنذُ مِئِينَ سِنِينَ جنازة رُفِعَتْ على الرِّقَابِ، ووُطِئَتْ في زحَامِهَا الأعقابُ، وسارَ مرفوعًا على الرُّؤوس، متبوعًا بالنفوس، تَحْدُوهُ العَبَرات، وتَتْبَعُه الزَّفَرات.
وكان في مَدَد ما يؤخذ عليه في مقاله ويُنْبَذُ في حُفْرةِ اعتقالِه، لا تَبرُد [له] غُلَّة بالجمع بينه وبين خُصَمائه بالمناظرة، والبحثِ حيث العيونُ ناظرة، بل يَبدُر حاكمٌ فيحكمُ باعتقاله، أو يمنعه من الفتوى، أو بأشياءَ من نوعِ هذه البلوى، لا بعد إقامة بيّنةٍ ولا تقدُّمِ دعوَى، ولا ظهورِ حجّةٍ بالدليل، ولا وضوح محجَّةٍ للتأميل.
كضَرائرِ الحسناءِ قُلنَ لِوَجْهِها
…
حسَدًا وبُغضًا إنه لَدَميمُ
كلُّ هذا لتبريزه في الفَضْل حيثُ قصَّرتِ النُّظَراءُ، وتَجلِّيْهِ كالمصباحِ إذْ أظلمت الآراءُ، وقيامِه في حُجَّةِ التتارِ، واقتحامِه، وسيوفُهم تتدفَّقُ لُجَّةَ البِدار، حتَّى جَلَس إلى السلطان محمود غازان حيث تَجِم الأُسْدُ في آجامِها، وتَسقُط القلوبُ في دواخلِ أجسامِها، وتَجِدُ النارُ فتورًا في ضَرَمِها، والسيوفُ فرقًا فِي قَرَمِها، خوفًا من ذلك السَّبُعِ المغتال، والنمروذِ المختال، والأجل الذي لا
يُدفَع بحيلةِ مُحتال، فجلس إليه وأومأ بيده إلى صدره، وواجَهَه ودرأ في نَحْرِه، وطَلَبَ منه الدُّعَا، فرفعَ يديه ودعَا، دُعاءَ مُنصفٍ أكثرُه عليه، وغازانُ يؤمِّنُ على دعائه وهو مُقبلٌ عليه. ثمَّ كان على هذه المواجهة القبيحة، والمشاتمة الصريحة، أعظم في صدرِ غازان والمُغَل من كلّ من طلعَ معه إليهم، وهم سلف العلماء في ذلك الصَّدْر، وأهل الاستحقاقِ لرِفعةِ القَدْر.
هذا مع ما له من جهادٍ في الله لم يُفزِعْه فيه طلل الوشيج، ولم يُجزِعْه ارتفاع النشيج، مواقفُ حروبٍ باشرَها، وطوائفُ ضروبٍ عاشرَها، وبَوارِقُ صِفاحٍ كاشَرَها، ومضايقُ رِماحٍ حاشَرَها، وأصناف خُصوم اقتحمَ معها الغمراتِ، وواكلَها مختلفَ الثَّمرات، وقَطَع جِدالَها قوِيُّ لسانِه، وجِلادَها شَبَا سِنانِه، قامَ بها وصابرَها، وبُلِي بأصاغرِها وقاسَى أكابرَها، وأهلِ بِدَعٍ قامَ في دِفاعِها، وجَهدَ في حَطِّ يَفَاعِها، ومخالفةٍ لِمَللٍ بَيَّنَ لها خطأ التأويلِ، وسَقَمَ التَّعليلِ، وأسكَتَ طَنِينَ الذُّباب في خياشيم رؤوسهم بالأضاليل، حتى ناموا في مراقدِ الخضُوع، وقاموا وأرجلُهم تَتساقَطُ للوقوع، بأدِلَّةٍ أقطعَ من السيوف، وأجمعَ من السُّجُوف، وأجلى من فَلَقِ الصَّباح، وأجلبَ من فِلَقِ الرّماحِ.
إلّا أنَّ سابقَ المقدور أوقَعَه في خَلَلِ المَسَائل، وخَطَأٍ خَطَل لا يأمَنُ فيه مع الإكثارِ قائِلٌ، وذلك لحطِّه على بعض سلفِ العلماء، وحَلِّه لقواعدَ كثيرةٍ من نواميس القدماء، وقِلَّةِ توقيرِه للكُبَراء، وكثرةِ تكفيره للفُقراء، وتزييفه لغالبِ الآراء، وتقريبه لجهَلَةِ العوامِّ وأهلِ المِراء، وما أفتَى به آخرًا في مسألتَي الزيارةِ والطلاق، وإذاعتِه لهما حتى تكلّم فيهما من لا دينَ له ولا خلاق، فسلّط ذُبالَ الأعداءِ على سَلِيطه، وأطلقَ أيديَ الاعتداءِ في تفريطِه،
ولَقَّمَ نارَهم سَعَفَه، وأرَى أقساطهم سَرَفَه، فلم يَزَلْ إلى أن ماتَ عِرْضُه منهوبًا، وعَرْضُه مَوْهُوبًا، وصَفَاتُه تَتصدَّع، ورُفاتُه لا يتجمَّع، ولعلَّ هذا لخيرٍ أُريدَ به، وأُرِيغَ له لحُسنِ مُنقَلَبه.
هذا مع ما جَمعَ من الورع، وما حازَه بحذافيرِ الوجود من الجود، كانت تأتيه القَناطيرُ المقنطرةُ من الذهب والفضة والخيلِ المُسَوَّمةِ والأنعام والحرثِ، فيَهَبُه بأجمعِه، ويَضعُه عند أْهل الحاجةِ في موضعِه، لا يأخذُ منه شيئًا إلا ليهبَه، ولا يَحفظُه إلّا ليُذْهِبَه كُلَّه في سبيل البرّ، وطريق أهلِ التواضع لا أهلِ الكِبْر. لم يَمِلْ به حُبُّ الشهوات، ولا حُبِّبَ إليه من ثلاثِ الدنيا إلا الصلوات.
وما زال على هذا إلى أن صرعه أجلُه، وأتاهُ بشيرُ الجنة يستعجله، فانتقل إلى الله والظنُّ به أنَّه لا يُخجِلهُ.
ولما قَدمَ غازانُ دمشقَ خرج ابن تيمية رضي الله عنه إليه في جماعة من صلحائهم القدوة الشيخ محمد بن قوام، فلمَّا دخلوا على غازانَ وكان ممّا قاله ابن تيمية للترجمان: قُلْ للقانِ: أنت تزعُم أنك مسلم ومعك قاضٍ وإمامٌ وشيخ ومؤذن على ما بلغَنا، فغَزوتَنا، وأبوكَ وجَدُّك هُولاكو كانا كافرينِ وما عَمِلَا الذي عملتَ، عَاهَدا فَوَفَيا، وأنتَ عاهدتَ فغدرتَ، وقُلتَ فما وفيتَ. وجرتْ له مع غازان وقطلوشاه وبولاي أمورٌ ونُوبٌ، قام فيها كلها لله، ولم يخشَ إلّا اللهَ.
أخبرنا قاضي القضاةِ أبو العباس ابن [صصري] أنهم لمَّا حضروا مجلسَ غازان قُدِّمَ لهم طعامٌ فأكلوا منه إلا ابنَ تيمية فقيل له: لِمَ لا تأكُلُ؟ قال: كيف آكلُ من طعامكم وكلُّه ممَّا نَهَبتُم من أغنامِ الناس، وطَبختُموه مما
قطعتم من أشجار الناس. ثمَّ إن غازان طلبَ منه الدعاءَ، فقال: اللهمّ إن كنتَ تَعلمُ أنه إنما يقاتل لتكون كلمةُ اللهِ هي العليا وجهادًا في سبيلك فان تؤيده وتنصره، وإن كان للملك والدنيا والتكاثر فان تفعل به وتصنع، يدعو عليه وغازان يؤمن على دعائه ونحن نجمع ثيابنا خوفًا أن يُقتل فيطرطش بدمه. ثم لما خرجنا قلنا له: كدتَ تهلكنا معك ونحن ما نصحبك من هنا، قال: ولا أنا أصحبكم، فانطلقنا عُصبةً، وتأخر في خاصة من معه، تسامعت الخوانين والأمراء، فأتوه من كل فج عميق، وصاروا يتلاحقون به ليتبركوا برؤيته، فأما هو فما وصل إلا في نحو ثلثمائة فارس في ركابه، أما نحن فخرج علينا جماعة، فسلحونا.
وكان قاضي القضاة أبو عبد الله الحريري يقول: إن لم يكن ابن تيمية شيخ الإسلام فمن هو؟ !
ثم بعد ذلك تمكن ابن تيمية رضي الله عنه في الشام حتى صار يَحلِق الرؤوس ويضرب الحدود ويأمر بالقطع والقتل. ثم ظهر الشيخ نصر المنبجي واستولى على أرباب الدولة بالقاهرة، وشاع أمره وانتشر، فقيل لابن تيمية رضي الله عنه: إن نصرًا اتّحادي، وإنَّه ينصر مذهب ابن عربي وابن سبعين، فكتب إليه نحو ثلاثمائه سطر يُنكر عليه، فتكلم نصر المنبجي مع قضاة مصر في أمره، وقال: هذا مبتدع، وأخاف على الناس شرَّه، فحسَّنَ القضاةُ للأمراء طلبَه إلى القاهرة، وأن يُعقد له مجلس، [فعُقد له مجلس] بدمشق، فلم يرضَ نصر المنبجي وقال لابن مخلوف: قل للأمراء: إن هذا يُخشَى على الدولة منه، كما جرى لابن تومرت في بلاد المغرب فطُلِبَ من الأفرم نائب دمشق، فعُقِد له مجلس ثانٍ وثالث، بسبب العقيدة الحموية، ثم
سكنت القضية إلى أيام الجاشنكير، فأوهمه الشيخ أن ابن تيمية يُخرِجهم من الملك ويُقيم غيرَهم، فطُلِب إلى مصر، فتمانع نائب الشام، وقال: قد عُقِد له مجلسان بحضرتي وحضره القضاة والفقهاء، وما ظهر عليه شيء، فقال الرسول لنائب دمشق: أنا ناصح لك، وقد قيل إنه يجمع الناسَ عليك، وعقد لهم بيعة، فجزع من ذلك، وأرسله إل القاهرة في سنة خمس، وكتب معه كتابًا إلى السلطان، وكُتِب معه محضر فيه خطوط جماعة من القضاة وكبار الصلحاء والعلماء بصورة ما جرى في المجلسين، وأنه لم يثبت فيهما عليه شيء، ولا مُنِع من الإفتاء، فما التفت إلى شيء من ذلك، وسُجِن بالإسكندرية مدةً، ثم عاد إلى دمشق.
وحُكِي من شجاعته في مواقف الحرب نوبة شقحب ونوبة كسروان ما لم يُسمع إلا عن صناديد الرجال وأبطالِ القتال وأحلاسِ الحرب، تارةً يباشر القتال، وتارةً يُحرِّض عليه.
ولما جاء السلطان إلى شقحب لاقاه إلى قرن الحرَّة، وجعل يشجِّعه ويُثبِّته، فلما رأى السلطان كثرة التتار قال: يا لخالد بن الوليد، فقال له: لا تقل هذا، وقل يا الله، واستغثْ بالله ربَّك، ووحِّدْه وحدَه تُنْصر، وقل: يا مالكَ يوم الدِّين إياك نعبد وإياك نستعين. ثم ما زال يُقبل تارةً على الخليفة وتارةً إلى السلطان يُهدّئُهما ويَربِط جأشهما حتى جاءَ نصرُ الله والفتح.
وحُكي أنه قال للسلطان: اثبُتْ فإنك منصور، فقال له بعض الأمراء: قل: إن شاء الله، فقال: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا، فكان كما قال.
قال الشيخ المقرئ عبد الله بن أحمد بن سعيد: مرضتُ بدمشق مرضًا شديدًا، فجاءني ابن تيمية رضي الله عنه، وجلس عند رأسي وأنا مُثقَل بالحمَّى
والمرض، فدعا لي، ثم قال: جاءت العافية، فما كان إلا أن قام وفارقني، وإذا بالعافية قد جاءت، وشُفِيتُ لوقتي.
وكان يجيئه من المال في كل سنة ما لا يكاد يُحصى، فيُنفقه جميعه آلافًا ومئين، لا يلمس منه درهمًا بيده، ولا ينفقه في حاجةٍ له، وكان يعود المرضى، ويُشيّع الجنائز، ويقوم بحقوق الناس، ويتألَّف قلوب الناس، ولا ينسب إلى باحثٍ لديه مذهبًا، ولا يحفظ لمتكلم عنده زلَّةً، ولا يشتهي طعامًا، ولا يمتنع من شيء منه، يأكل مما حضر، لا يتكدَّرُ صفوه، ولا يسأمُ عفوُه.
وآخر أمره أنه تكلَّم في مسألتي الزيارة والطلاق، فأُخِذ وسُجِن في قلعةِ دمشق في قاعة، فتوفي بها وصُلِّي عليه بالقلعة، ثم حُمِل على أصابع الرجال إلى جامع دمشق ضَحوةَ النهار، وصُلّي عليه، ودُفن بمقبرة الصوفية، وما وصل إلى قبرِه إلا وقت العصر، وخرج الناس من جميع أبواب البلد، وكانوا خلقًا لا يُحصيهم إلا الله تعالى، وحُزِر الرجال بستين ألفًا والنساء خمسة آلاف، وقيل أكثر من ذلك. ورُئِيت له منامات صالحة. ورثاه جماعات من الناس بالشام وبمصر والعراق والحجاز والعرب من آل فضلٍ.
هذا ما أورده شهاب الدِّين أحمد بن يحيى بن محمد الكرماني العمري الشافعي المعروف بابن فضل الله الدمشقي في كتابه «مسالك الأبصار في أخبار ملوك الأمصار» .
ونقلت عن «إتحاف النبلاء المتقين بإحْياء مآثر الفقهاء والمحدثين» للسيد البدر الكامل العلَّامة المعروف بإحياء المعارف إلى يوم القيامة، الفائح عَرْفه بين كل نجد وتهامة، القائم بأعباء الإيمان ثم الاستقامة، المضاهي بالسلف الصالح سيماءً وعلامة، المستمطر ببركاته إذا بخلت
الغمامة، المقدم بفقاهته ونبهاته على أبي يعلى وابن قدامة، سيدنا الآتي ذكره الشريف في الختام حُبًّا وكرامة، طيَّب الله لياليه وأيامه، وأبقاه محروسًا عن الرزايا وحباه ما فيه السلامة.
قال الحافظ ابن رجب الدمشقي: مكث الشيخ ـ أي: تقي الدِّين أبو العباس ـ في القلعة من شعبان سنة ست وعشرين إلى ذي القعدة سنة ثمان وعشرين، ثم مرض بضعة وعشرين يومًا، ولا يعلم أكثر الناس مرضه، ولم يفجأهم إلا موته.
وكانت وفاته في سحر ليلة الاثنتين عشري ذي القعدة، سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
وذكره مؤذن القلعة على منارة الجامع، وتكلم به الحرس على الأبراج، فتسامع الناس بذلك، وبعضهم أعلم به في منامه، وأصبح الناس، واجتمعوا حول القلعة حتَّى أهل الغوطة والمرج، ولم يطبخ أهل الأسواق شيئًا، ولا فتحوا كثيرًا من الدكاكين التي من شأنها أن تُفْتح أوَّل النهار. وفتح باب القلعة.
وكان نائب السلطنة غائبًا عن البلد، فجاء الصاحب إلى نائب القلعة، فعزاه به وجلس عنده، واجتمع عند الشَّيخ في القلعة خلق كثير من أصحابه، يبكون ويثنون، وأخبرهم أخوه زين الدِّين عبد الرَّحمن: أنَّه ختم هو والشيخ منذ دخلا القلعة ثمانين ختمة، وشرعا في الحادية والثمانين، فانتهيا إلى قوله تعالى:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54 - 55].
فشرع حينئذ الشيخان الصالحان: عبد الله بن المحب الصالحي، والزُّرَعيّ الضرير ـ وكان الشَّيخ يحب قراءتهما ـ فابتدءا من سورة الرَّحمن حتَّى ختما القرآن. وخرج الرجال، ودخل النساء من أقارب الشَّيخ، فشاهدوه ثمَّ خرجن، واقتصروا على من يغسله، ويساعد على تغسيله، وكانوا جماعة من كبار الصالحين وأهل العلم، كالمزِّي وغيره، ولم يفرغ من غسله حتَّى امتلأت القعلة بالرجال وما حولها إلى الجامع، فصلى عليه بدركات القلعة: الزاهد القدوة محمد بن تمام. وضجَّ الناس حينئذ بالبكاء والثناء، وبالدعاء والترحم.
وأخرج الشَّيخ إلى جامع دمشق في الساعة الرابعة أو نحوها. وكان قد امتلأ الجامع وصحنه، والكلاسة، وباب البريد، وباب الساعات إلى اللبادين
(1)
والفوارة. وكان الجَمْع أعظم من جمع الجمعة، ووضع الشَّيخ في موضع الجنائز، مما يلي المقصورة، والجند يحفظون الجنازة من الزحام، وجلس الناس على غير صفوف، بل مرصوصين، لا يتمكن أحد من الجلوس والسجود إلَّا بكلفة. وكثر الناس كثرة لا توصف.
فلما أذن المؤذن للظهر أقيمت الصلاة على السدة، بخلاف العادة، وصلوا الظهر، ثمَّ صلوا على الشَّيخ. وكان الإمام نائب الخطابة علاء الدِّين ابن الخراط لغيبة القزويني بالديار المصرية، ثمَّ ساروا به، والناس في بكاء ودعاء، وتهليل وتأسُّف، والنساء فوق الأسطحة من هناك إلى المقبرة يدعين ويبكين أيضًا. وكان يومًا مشهودًا، لم يعهد بدمشق مثله، ولم يتخلف من
(1)
في «الذيل» : «الميادين» ، ولعله تحريف.
أهل البلد وحواضره إلَّا القليل من الضعفاء والمخدرات، وصرخ صارخ: هكذا تكون جنازة أهل السنة. فبكى الناس بكاء كثيرًا عند ذلك.
وأخرج من باب البريد، واشتد الزحام، وألقى الناس على نعشه مناديلهم وعمائمهم، وصار النعش على الرؤوس، يتقدم تارة، ويتأخر أخرى. وخرج الناس من أبواب الجامع كلها وهى مزدحمة. ثمَّ من أبواب المدينة كلها، لكن كَانَ المُعْظم من باب الفرج، ومنه خرجت الجنازة، وباب الفراديس، وباب النصر، وباب الجابية، وعظم الأمر بسوق الخيل.
وتقدم في الصلاة عليه هناك أخوه زين الدِّين عبد الرَّحمن.
ودفن وقت العصر أو قبلها بيسير إلى جانب أخيه شرف الدِّين عبد الله بمقابر الصوفية وقت العصر، وحُزِر الرجال بستين ألفًا وأكثر، إلى مائتى ألف، والنساء بخمسة عشر ألفًا، وظهر بذلك قول الإمام أحمد بن حنبل «بيننا وبين أهل البدع يوم الجنائز» .
وختم له ختمات كثيرة بالصالحية والمدينة، وتردد الناس إلى زيارة قبره أيامًا كثيرة، ليلًا ونهارًا، ورُئيت له منامات كثيرة صالحة. ورثاه خلق كثير من العلماء والشعراء بقصائد كثيرة من بلدان شتى، وأقطار متباعدة وتأسَّف المسلمون لفقده. رضي الله عنه ورحمه وغفرله.
وصُلّي عليه صلاة الغائب في غالب بلاد الإسلام القريبة والبعيدة، حتَّى في اليمن والصين. وأخبر المسافرون: أنَّه نودي بأقصى الصين للصلاة عليه يوم جمعة «الصلاة على ترجمان القرآن» .
وقد أفرد الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الهادي له ترجمة في
مجلَّدة، وكذلك أبو حفص عمر بن علي البزار البغدادي في كراريس.
انتهى ما قاله ابن رجب الحافظ مختصرًا.
وقال السيد البدر في «الإتحاف» : وكذلك
(1)
الشيخ مرعي وسماها: «الكواكب الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية» وغيره من علماء السنة.
وكذلك الإمام الحجة القدوة شمس الدِّين محمد الذهبي، أفرد له ترجمة وسماها «الدرة اليتيمية في السيرة التيمية» قاله ابن الوردي في «تاريخه» .
وكذلك العلامة صفي الدِّين أحمد البخاري نزيل نابلس سماها «القول الجلي في مناقب ابن تيمية الحنبلي» ، وقرظ عليها العلامة مفتي القدس محمد التافلاتي، ومحدث الشام محمد الكزبري الشافعي ــ رضي الله عنه وعنهم وعنا ــ.
وقال: ومن مصنفاته في التفسير:
قاعدة [في] الاستعاذة. وقاعدة في البسملة [و] الكلام على الجهر بها، وقاعدة في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، وقطعة كبيرة من سورة البقرة في قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 8] ثلاث كراريس، وفي قوله:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] كراسين، وفي قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] ثلاث كراريس، وفي قوله تعالى:{إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] كراسة، آية الكرسي
(1)
يعني: ممن ألف في ترجمة الشيخ رحمه الله.
كراسان، وفي قوله:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18] ست كراريس، وفي قوله:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النساء: 79] عشر كراريس، وغير ذلك من سورة آل عمران، تفسير المائدة مجلد، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] ثلاث كراريس، {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 172] سبع كراريس. سورة يوسف، مجلد كبير. سورة النور، مجلد كبير. سورة [العلق] وأنها أوّل سورة نزلت، مجلد. سورة لم يكن. سورة الكافرون. سورة تبت والمعوّذتين، مجلد. سورة الإخلاص، مجلد.
ومن كتب الأصول: الاعتراضات المصرية على الفتوى الحموية، أربع مجلدات. مما أملاه في الجب ردًّا على تأسيس التقديس. شرح أوّل المحصّل، مجلد. شرح بضْعَ عشرةَ مسألة من الأربعين للإمام فخر الدين. تعارض العقل والنقل، أربع مجلدات. جواب ما أورده كمال الدِّين ابن الشريشي، مجلد. الجواب الصحيح، ردًّا على النصارى، أربع مجلدات. منهاج الاستقامة. شرح عقيدة الأصفهاني، مجلد. شرح أوّل كتاب الغَزْنوي في أصول الدين، مجلد. الردّ على المنطق، مجلد. ردّ آخر لطيف. الردّ على الفلاسفة، أربع مجلدات. قاعدة في القضايا الوهمية، قاعدة في قياس ما لا يتناهى، جواب الرسالة الصفدية. جواب في [نقض] قول بعض الفلاسفة: إن معجزات الآنبياء عليهم السلام قوى نفسانية، مجلد كبير. إثبات المعاد والردّ على ابن سينا. شرح رسالة ابن عبدوس في كلام الإمام أحمد رضي الله عنه في الأصول. ثبوت النبوات عقلًا ونقلًا والمعجزات والكرامات، مجلدان. قاعدة في الكليات، مجلد لطيف. الرسالة القبرصية. الرسالة إلى أهل طبرستان وجيلان في خلق الروح والنور. الرسالة البعلبكية. الرسالة
الأزهرية. القادرية. البغدادية. أجوبة القرآن والنطق
(1)
. إبطال الكلام النفساني، أبطله من ثمانين وجهًا. جواب مَن حلف بالطلاق الثلاث أن القرآن حرف وصوت. إثبات الصفات والعلو والاستواء، مجلدان. المراكشية. صفات الكمال والضابط [فيها]. جواب في الاستواء وإبطال تأويله بالاستيلاء. جواب مَن قال: لا يمكن الجمع بين إثبات الصفات على ظاهرها مع نفي التشبيه. أجوبة كون العرش والسموات كريَّة وسبب قصد القلوب جهة العلو. جواب كون الشيء في جهة العلو مع كونه ليس بجوهر ولا عرض معقول أو مستحيل. جواب هل الاستواء والنزول حقيقة؟ وهل لازم المذهب مذهب سماه الإربلية. مسألة النزول واختلافه باختلاف وقته وباختلاف البلدان والمطالع، مجلد لطيف. شرح حديث النزول، مجلد كبير.
بيان حل إشكال ابن حزم الوارد على الحديث. قاعدة في قرب الرب من عابديه وداعيه، مجلد. الكلام على نقض المرشدة. المسائل الإسكندرانية في الرد على الاتحادية والحلولية. ما تضمنه فصوص الحكم. جواب في لقاء الله. جواب في رؤية النساء ربهنّ في الجنة. الرسالة المدنية في إثبات الصفات النقلية. الهلاوونية. جواب سؤال ورَدَ على لسان ملك التتار، مجلد. قواعد في إثبات [القدر و] الرد على القدرية والجبرية، مجلد. الرد على الرافضة والإمامية على ابن مطهر الحلي الخبيث، أربع مجلدات. جواب في حق إرادة الله تعالى لخلق الخلق وإنشاء الأنام لعلة أم لغير علة. شرح حديث «فحَجَّ آدم موسى» . تنبيه الرجل الغافل على تمويه المجادل، مجلد. تناسي الشدائد في اختلاف العقائد، مجلد. كتاب الإيمان، مجلد.
(1)
في الوافي: الشكل والنقط.
شرح حديث جبريل في حديث الإيمان والإسلام، مجلد. عصمة الأنبياء عليهم السلام فيما يبلغونه. مسألة في العقل والروح. مسألة في المقربين: هل يسألهم منكر ونكير. مسألة هل يعذب الجسد مع الروح في القبر. الرد عى أهل الكسروان، مجلدان. في فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما على غيرهما. قاعدة تفضيل معاوية رضي الله عنه. [وقاعدة في] تفضيل صالحي الناس على سائر الأجناس. مختصر في كفر النصيرية. في جواز قتال الرافضة، كراسة. في بقاء الجنة والنار وفي فنائهما [ورد عليه فيها] تقي الدِّين السبكي.
ومن كتب أصول الفقه: قاعدة غالبها أقوال الفقهاء، مجلدان. قاعدة كل حمد وذم من الأقوال والأفعال لا يكون إلّا بالكتاب والسنة. شمول النصوص للأحكام، مجلد لطيف. قاعدة في الإجماع وأنه ثلاثة أقسام. جواب في الإجماع والخبر المتواتر. قاعدة في كيفية الاستدراك على الأحكام بالنص والإجماع. في الرد على من قال إن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين، ثلاث مصنفات. قاعدة فيما يظن من تعارض النص والإجماع. مواخذة على ابن حزم في الإجماع. قاعدة في تقرير القياس. قاعدة في الاجتهاد والتقليد في الأحكام. رفع الملام عن الأئمة الأعلام. قاعدة في الاستحسان. وفي وصف العموم والإلحاق والإطلاق. قاعدة في أن المخطئ في الاجتهاد لا يأثم. هل العامي يجب عليه تقليد مذهب معين. جواب في ترك التقليد. فيمن يقول مذهبي مذهب النبي صلى الله عليه وسلم وليس أنا محتاج إلى تقليد الأربعة. جواب من تفقه في مذهب ووجد حديثًا صحيحًا هل يعمل به أو لا. جواب تقليد الحنفيّ الشافعي في [الجمع] للمطر والوتر. الفتح على الإمام في الصلاة. تفضيل قواعد مالك وأهل المدينة. تفضيل الأئمة الأربعة وما امتاز به كل واحد
منهم. قاعدة في تفضيل الإمام أحمد. جواب هل كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة نبيًّا. جواب هل كان النبي صلى الله عليه وسلم متعبِّدًا بشرع مَنْ قبله. قواعد أنّ النّهي يقتضي الفساد.
ومن كتب الفقه: شرح المحرّر في مذهب أحمد رضي الله عنه، ولم يبيض. شرح العمدة لموفق الدين، أربع مجلدات. جواب مسائل وردت من أصفهان. جواب مسائل وردت من الصلت. مسائل من بغداد. مسائل وردت من زرع. مسائل وردت من طرابلس. قاعدة في المياه والمائعات وأحكامها. مسائل وردت من الرحبة. أربعون مسألة [لقبت] الدرة المضية في فتاوى ابن تيمية. الماردانية. الطرابلسية. قاعدة في حديث القُلتين وعدم رفعه. قواعد في الاستجمار وتطهير الأرض بالشمس والريح. جواز الاستجمار مع وجود الماء. نواقض الوضوء. قواعد في عدم نقضه بلمس النساء. التسمية على الوضوء. خطأ القول بجواز المسح على الخفين. جواز المسح على الخفين المنخرقين والجوربين واللفائف. وفيمن لا يعطي أجرة الحمام. تحريم دخول النساء الحمام بلا مئزر. في الحمام والاغتسال. وذم الوسواس. جواز طواف الحائض. تيسير العبادات لأرباب الضرورات بالتيمم والجمع بين الصلاتين للعذر. كراهية التلفظ بالنية وتحريم الجهر بها. الكلم الطيب في الأذكار. كراهية تقديم بَسط سجادة المصلي قبل مجيئه. في الركعتين اللتين تصليان قبل الجمعة، في الصلاة بعد أذان الجمعة. القنوات في الصبح والوتر [قتل] تارك المباني وكفره. الجمع بين الصلاتين في السفر. [فيما يختلف حكمه بالسفر] والحضر. أهل البدع: هل يصلي خلفهم. صلاة بعض أهل المذاهب خلف بعض. الصلوات المبتدعة. تحريم السماع. تحريم الشبابة.
تحريم اللعب بالشطرنج. تحريم الحشيشة القنبية ووجوب الحد عليها وتنجيسها. النهي عن المشاركة في أعياد النصارى واليهود وإيقاد النيران في الميلاد ونصف شعبان وما يُفعل في عاشوراء من الحبوب. قاعدة في مقدار الكفارة باليمين. وفي أن المطلقة بثلاثة لا تحل إلّا بنكاح زوج ثان. بيان الحلال والحرام في الطلاق. جواب مَن حلف لا يفعل شيئًا على المذاهب الأربعة ثم طلق ثلاثًا في الحيض. الفرق المبين بين الطلاق واليمين.
لمحة المختطف في الفرق بين الطلاق والحلف. كتاب التحقيق في الفرق بين الأيمان والتطليق. الطلاق البدعي لا يقع. مسائل الفرق بين الطلاق البدعي والخلع ونحو ذلك. مناسك الحج. في حجة النبي صلى الله عليه وسلم. في العمرة المكية. في شهر السلاح بتبوك وشرب السويق بالعقبة وأكل التمر بالروضة وما يلبس المحرم وزيارة الخليل عليه السلام عقيب الحج. زيارة البيت المقدس مطلقًا. جبل لبنان كأمثاله من الجبال ليس فيه رجال الغيب ولا أبدال. جميع أيمان المسلمين مكفَّرة.
الكتب في أنواع شتى: جمع بعضُ الناس فتاويه بالديار المصرية مدّة مقامه بها سبع سنين في علوم شتى، فجاءت ثلاثين مجلدًا. الكلام على بطلان الفتوة المصطلحة بين العوام، وليس لها أصل متصل بعلي رضي الله عنه. كشف حال المشايخ الأحمدية وأحوالهم الشيطانية. [بطلان] ما يقوله أهل بيت الشيخ عدي. النجوم: هل لها تأثير عند القران والمقابلة، وفي الكسوف: هل يقبل قول المنجمين فيه ورؤية الأهلة، مجلد. تحريم أقسام المعزمين بالعزائم المعجمة وصرع الصحيح وصفة الخواتيم. إبطال الكيميا وتحريمها ولو صحت وراجت. وكتاب السياسة الشرعية. وكتاب التصوف. وكتاب
الاستقامة في مجلدين. وكتاب تلبيس الجهمية في تأسيس كلامهم البدعية. في ست مجلدات. وكتاب المحنة المصرية. في مجلدين. وكتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان. بيان الدليل على بطلان التحليل. الرد على الإخنائي في مسألة الزيارة. طهارة بول ما يؤكل لحمه. الصارم المسلول على منتقص الرسول. كتاب اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم. الرد على البكري في مسألة الاستغاثة. التحرير في مسالة حفير. مجلد. في مسألة من القسمة كتبها اعتراضًا على الخويي في حادثة حكم فيها. الفرقان بين الحق والبطلان. هذا ما في «الإتحاف» مع تقديم وتأخير وزيادات قليلة.
وذكر ابن فضل الله الدمشقي: وكان أعرف الناس بالتاريخ، وكثير من مصنفاته ما بُيِّضت.
وقال الحافظ ابن رجب رضي الله عنه: وأما تصانيفه فهي أشهر من أن تُذكر، وأعرف من أن تُنكر. سارت مسير الشمس في الأقطار، وامتلأت بها البلاد والأمصار وقد جاوزت حد الكثرة، فلا يمكن لأحد حصرها، ولا يتسع هذا المكان لعدِّ المعروف منها ولا ذكرها.
وقال الصلاح الكتبي: وله أجوبة وسؤالات كان يسأل بها نثرًا فيجيب نظمًا، وليس هذا محل إيراد ذلك، وأشياء لم يصل ذكرها إلينا، ولا أسماؤها علينا.
ومن نظمه على لسان الفقراء المجردين:
والله ما فقرنا اختيار
…
وإنما فقرنا اضطرار
جماعة كلنا كُسالى
…
وأكلنا ما له عيار
تسمع منا إذا اجتمعنا
…
حقيقة كلها فشار
ولبعضهم في مرثيته:
تقي الدِّين لما مات أضحت
…
لك الدنيا تصيح بانتحاب
وكنت البحر فوق الأرض تمشي
…
فعاد البحر من تحت التراب
وقال الفقيه الأديب المؤرخ زين الدِّين عمر بن الوردي في «تاريخه» : قد رثاه جماعة ورثيته أنا بمرثية على حرف الطاء، فشاعت واشتهرت، فطلبها مني الفضلاء والعلماء من البلاد وهي:
عثا في عرضه قومٌ سلاطٌ
…
لهم من نثر جوهره التقاطُ
تقي الدِّين أحمد خيرُ حبرٍ
…
خروق المعضلات به تُخاط
توفّي وهو محبوسٌ فريدٌ
…
وليس له إلى الدنيا انبساطُ
ولو حضروه حين قضى لألفوا
…
ملائكةَ النعيمِ به أحاطوا
قضي نحبًا وليس له قرينٌ
…
ولا لنظيره لُفَّ القِماط
فتًى في علمه أضحى فريدًا
…
وحلُّ المشكلات به يُناط
وكان إلى التقى يدعو البرايا
…
وينهى فِرْقةً فسقوا ولاطوا
وكان الجن تَفْرق من سَطَاهُ
…
بوعظٍ للقلوب هو السِّياط
فيالله ما قد ضمَّ لحدٌ
…
وياللهِ ما غطَّى البلاط
هم حسدوه لمّا لم ينالوا
…
مناقبه فقد مكروا وشاطوا
وكانوا عن طرائقه كُسالى
…
ولكن في أذاه لهم نشاط
وحَبْسُ الدُّرِّ في الأصداف فخر
…
وعند الشيخ بالسِّجْن اغتباط
بآل الهامشي له اقتداء
…
فقد ذاقوا المَنُون ولم يُواطوا
بنو تيميةٍ كانوا فبانوا
…
نجوم العلم أدركها انهباط
ولكن يا ندامة حابسيه
…
فشك الشرك كان به يماط
ويا فرح اليهود بما فعلتم
…
فإن الضد يعجبه الخباط
ألم يك فيكم رجلٌ رشيد
…
يرى سَجْن الإمام فيُسْتَشَاط
إمام لا وِلاية كان يرجو
…
ولا وقف عليه ولا رِباط
ولا جاراكم في كسب مالٍ
…
ولم يُعهد له بكم اختلاط
ففيم سجنتموه وغظتموه
…
أما لجزا أذيته اشتراط
وسَجْن الشَّيخ لا يرضاه مثلي
…
ففيه لِقَدْر مثلكم انحطاط
أما والله لولا كتم سري
…
وخوف الشر لا نحل الرباط
وكنتُ أقولُ ما عندي ولكن
…
بأهل العلم ما حَسُن اشتطاط
فما أحد إلى الإنصاف يدعو
…
وكلّ في هواه له انخراط
سيظهر قصدكم يا حابسيه
…
وننبئكم إذا نُصِبَ الصِّراط
فها هو مات عنكم واسترحتم
…
فعاطوا ما أردتم أن تُعاطوا
وحلوا واعْقِدوا من غير ردٍّ
…
عليكم وانطوى ذاك البساط
تمت القصيدة البديعة، الفائقة في تلك الصنيعة.
ولا أدري ما حاك مثلها شعراء الإسلام والشريعة! وقد ختمنا ترجمة شيخ الإسلام، على هذه القصيدة البديعة النظام، ومن أراد الاطلاع والكشف التمام على ما قال العلماء الأعلام، في مدائح هذا القدوة الإمام، فليسرِّح الطرف في «إتحاف النبلاء» للسيد البدر الهادي إلى دار السلام، فإنه قضى الوطر عن سرد الأقوال والكلام، ولا يفتي وفي المدينة مالكٌ إمام، فجزى الله
خير الجزاء حيث قطع ببيانه ألْسنة اللئام، الواقعة في حصائد الطعن عليه والملام.
هذا والسلام على من سلم المسلمون من لسانه ويده، وفوض الأمر إلى الله الملك العلام، وثلج فؤاده بالذكر الحسن للبررة الكرام.
* * * *
التعليقات السنية على الفوائد البهية
(1)
لعبد الحي اللكنوي (1304)
هو أبو العباس تقي الدين أحمد بن شهاب الدين عبد الحليم بن مجد الدين عبد السلام بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيمية الحرَّاني ثم الدمشقي الحنبلي صاحب منهاج السنة وغيره من التصانيف المبسوطة المفيدة والتآليف النافعة، وُلد سنة 661 وتحول به أبوه من حران سنة 667 فسمع من ابن عبد الدائم والقاسم الأربلي في آخرين وتفقه وتمهر وتقدم وصنف ودرس وأفتى وفاق الأقران وصار عجبًا في سرعة الاستحضار وقوة الجنان والتوسع في المنقول والمعقول والاطلاع على مذاهب السلف والخلف وتوفي محبوسًا في ذي القعدة سنة 728 كذا في الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة للحافظ ابن حجر العسقلاني وفيه كلام طويل في ذكر ما جرى له من المحسن وما وقع به من الفتن وما وصفه به الأئمة الأعلام والمحدثون الكرام فليرجع إليه وقد طالعت من تصانيفه الفتوى الحموية والواسطية وغير ذلك من رسائله ومنهاج السنة وهو أجل تصانيفه رد فيه على منهاج الكرامة للحلي الشيعي لم يصنف في بابه مثله لا قبله ولا بعده.
* * * *
(1)
(ص 34) ط. مطبعة السعادة بمصر 1324.
العلامة صدِّيق حسن خان القِنَّوْجي (1307)
- أبْجدُ العُلومِ
- التَّاجُ المكلَّل
أبْجَدُ العُلُوم
(1)
شيخ الإسلام تقي الدِّين أبو العَبَّاس، أحمد بن المفتي شهاب الدِّين عبد الحليم بن شيخ الإسلام مجد الدِّين أبي البركات عبد السَّلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تَيْمِيَّة الحَرَّاني الحنبلي.
مولده ــ رحمه الله ورحمنا به
(2)
ــ بحرّان يوم الاثنين عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وست مئة، هاجر والده به وبإخوته إلى الشَّام من جَورْ التتر، وعُني الشَّيخ تقي الدِّين بالحديث، ونسخ جملةً، وتعلّم الخط والحساب في المكتب، وحفظ القرآن، ثمَّ أقبل على الفقه، وقرأ أيامًا في العربية على ابن عبد القوي، ثمَّ فهمها، وأخذ يتأمَّل كتاب سيبويه حتَّى فهمه، وبرع في النحو، وأقبل على التّفسير إقبالًا كلِّيًّا حتَّى سبق فيه، وأحكم أُصول الفقه، كل هذا وهو ابن بضع عشرة سنة، فانبهر الفضلاء من فرط ذكائه، وسيلان ذهنه وقوة حافظته وإدراكه، ونشأ في تصوُّن تامٍّ، وعفاف وتعبُّد، واقتصاد في الملبس والمأْكل.
وكان يحضر المدارس والمحافل في صغره، فيناظر ويفحم الكبار ويأتي بما يتحيّرون منه، وأفتى وله أقل من تسع عشرة سنة، وشرع في الجمع والتأليف، ومات والده وله إحدى وعشرون سنة، وبعُدَ صيته في العالم فطبَّق ذكره الآفاق وأخذ في تفسير الكتاب العزيز أيام الجُمَع على كرسي من حفظه
(1)
(3/ 130 - 138) وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق 1398، بعناية عبد الجبار زكَّار.
(2)
كذا في الأصل، وهو من التوسل الممنوع.
فكان يورد المجلس ولا يتلعثم، وكذلك الدرس بتؤدة وصوت جَهْوري فصيح يقول في المجلس أزيد من كراسين، ويكتب على الفتوى في الحال عدة أَوصال بخط سريع في غاية التعليق والإغلاق.
قال الشَّيخ العلَّامة كمال الدِّين بن الزَّمْلَكاني عَلَم الشافعية في خطٍّ كَتَبَه في حق ابن تَيْمِيَّة: كَانَ إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنَّه لا يعرف غير ذلك الفن وحكم بأن لا يعرفه أحد مثله، وكانت الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا في مذاهبهم منه أشياء.
قال: ولا يعرف أنَّه ناظر أحدًا فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم سواء كَانَ من علوم الشرع أو غيرها إلَّا فاق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد علي وجهها. انتهى كلامه.
وكانت له خبرة تامَّة بالرجال وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث، وبالعالي والنازل، والصحيح والسقيم، مع حفظه لمتونه الَّذي انفرد به، وهو عجيب في استحضاره واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إلى «الكتب السِّتَّة» و «المسند» بحيث يصدق عليه أن يقال:«كل حديث لا يعرفه ابن تَيْمِيَّة فليس بحديث» ، ولكن الإحاطة لله غير أنَّه يغترف فيه من بحر، وغيره من الأئمة يغترفون من السّواقي.
أّمّا التفسير فسلم إليه، وله في استحضار الآيات للاستدلال قوة عجيبة، ولفرط إمامته في التفسير وعظمة اطلاعه بيَّن خطأَّ كثير من أقوال المفسرين، ويكتب في اليوم والليلة من التفسير أو من الفقه أو من الأصلين أو من الرّدِّ على الفلاسفة والأوائل نحوًا من أربعة كراريسِ، وما يبعد أنّ تصانيفه إلى الآن تبلغ خمسمائة مجلّدة، وله في غير مسألة مصنَّف مفرد كمسألة التحليل
سماه «بيان الدليل علي إبطال التحليل» مجلد وغيرها.
وله مصنف في الرد على ابن مطهر الرافضي الحِلِّي في ثلاث مجلدات كبار سماه «منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية» .
وتصنيف في الرد علي «تأْسيس التقديس» للرازي في سبع مجلدات.
وكتاب في الرد علي المنطق، وكتاب في «الموافقة بين المعقول والمنقول» في مجلدين، وقد جمع أصحابه من فتاويه ست مجلدات كبار، وله باع طويل في معرفة مذاهب الصَّحابة والتابعين قلَّ أنْ يتكلَّم في مسألة إلَّا ويذكر فيها مذاهب الأربعة، وقد خالف الأربعة في مسائل معروفة، وصنّف فيها واحتج لها بالكتاب والسنة.
وله مصنّف سماه «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية» . وكتاب «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» .
وبقي عدّة سنين لا يُفتي بمذهب معيَّن بل بما قام الدليل عليه عنده، ولقد نصر السنة المحضة، والطريقة السلفية، واحتج لها ببراهين ومقدمات وأُمور لم يُسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون، وهابوا وجَسَر هو عليها، حتَّى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قيامًا لا مزيد عليه، وبدّعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي بل يقول الحق المر الَّذي أدى إليه اجتهاده، وحدة ذهنه، وسعة دائرته في السنن والأقوال.
وجرى بينه وبينهم حملات حربية ووقعات شامية ومصرية.
وكَانَ معظِّمًا لحرمات الله، دائم الابتهال، كثير الاستعانة، قوي التوكل،
ثابت الجأش، له أوراد وأذكار يُديمها، وله من الطرف الآخر محبون من العلماء والصلحاء والجند والأُمراء والتجار والكبراء، وسائر العامة تحبه، وبشجاعته تُضْرب الأمثال وببعضها يتشبه أكابر الأبطال، ولقد أقامه الله في نوبة غازان والتقى أعباء الأمر بنفسه واجتمع بالملك مرتين، وبخطلو شاه وبولاي، وكان قبجق يتعجب من إقدامه وجرأته على المغل.
قال القاضي المنشئ شهاب الدِّين أبو العَبَّاس أحمد بن فضل الله في ترجمته: جلس الشَّيخ إلى السلطان محمود غازان حيث تجم الأُسد في آجامها، وتسقط القلوب دواخل أجسامها، وتجد النار فتورًا في ضَرَمها والسيوف فرقًا في قرمها خوفًا من ذلك السبع المغتال والنمروذ المختال، والأجل الَّذي لا يدفع بحيله محتال فجلس إليه وأومأ بيده إلى صدره وواجهه ودرأ في نحره، وطلب منه الدعاء. فرفع يديه ودعا دعاء منصف أكثره عليه، وغازان يؤمن علي دعائه.
وكتب ابن الزَّمْلَكاني على بعض تصانيف ابن تَيْمِيَّة هذه الأبيات:
ماذا يقولٌ الواصفونَ له
…
وصِفاته جلَّت عن الحَصْرِ
هو حُجّة لله قاهرةٌ
…
هُو بيننا أُعجوبة العصر
هو آية في الخَلْق ظاهِرَةٌ
…
أنوارها أرْبَتْ على الفَجْر
قال القاضي أبو الفتح بن دقيق العيد: لما اجتمعت بابن تَيْمِيَّة رأيت رجلًا كل العلوم بين عينيه يأْخذ ما يريد ويدع ما يريد. وحضر عنده شيخ النحاة أبو حيَّان وقال: ما رأت عيناي مثله. وقال فيه على البديهة أبياتًا منها:
قامَ ابنُ تَيميَّةٍ في نَصْر شِرعَتِنَا
…
مَقامَ سَيِّدِ تَيْمٍ إذْ عَصَتْ مُضَرُ
فأظْهَرَ الحقَّ إذْ آثارُهُ دَرَسَتْ
…
وأخمدَ الشَّرَّ إذ طارتْ له الشَّرَرُ
كُنّا نُحدَّث عن حَبْرٍ يجيءُ فهَا
…
أنتَ الإمامُ الذي قَد كان يُنتظر
قال ابن الوردي في «تاريخه» بعد ذلك كلّه: هوأّكبر من أن ينبه مثلي على نعوته، فلو حلفت بين الركن والمقام لحلفت: أني ما رأيت بعيني مثله ولا رأى هو مثل نفسه في العلم، وكان فيه قلَّة مداراة وعدم تؤدة غالبًا، ولم يكن من رجال الدول ولا يسلك معهم تلك النواميس، وأعان أعداءه على نفسه بدخوله في مسائل كبار لا يحتمل عقول أبناء زماننا ولا علومهم، كمسألة: التكفير في الحلف بالطلاق، ومسألة: أنَّ الطلاق بالثلاث لا يقع إلَّا واحدة، وأنَّ الطلاق في الحيض لا يقع.
وساس نفسه سياسة عجيبة فحبس مراتٍ بمصر ودمشق والإسكندرية، وارتفع وانخفض واستبد برأْيه وعسى أنْ يكون ذلك كفارة له، وكم وقع في صعب بقوة نفسه وخلصه الله، وله نظم وسط، ولم يتزوج ولا تسرَّى ولا كَانَ له من المعلوم إلَّا شيء قليل، وكان أخوه يقوم بمصالحه، وكان لا يطلب منهم غداء ولا عشاء غالبًا، وما كانت الدنيا منه على بال، وكان يقول في كثير من أحوال المشايخ إنها شيطانية أو نفسانية فينظر في متابعة الشَّيخ الكتاب والسنة فإن كَانَ كذلك فحاله صحيح وكشفه رحماني غالبًا وما هو بالمعصوم، وله في ذلك عدة تصانيف تبلغ مجلدات، من أعجب العجب، وكم عوفي من صرع الجني إنسان بمجرد تهديده للجني، وجَرَت له في ذلك فصول ولم يفعل أكثر من أن يتلوَ آيات ويقول: إن لم تنقطع عن هذا المصروع وإلّا عملنا معك حكم الشرع وإلّا عملنا معك ما يرضي الله ورسوله.
وفي آخر الأمر ظفروا له بمسألة السفر لزيارة قبور النبيين، وأنَّ السفر وشد الرحال لذلك منهي عنه لقوله صلى الله عليه وسلم:«لا تُشَد الرِّحال إلَّا إلى ثلاثة مساجد» . مع اعترافه بأنَّ الزيارة بلا شد رحل قربة، فشنعوا عليه بها، وكتب فيها جماعة بأنه يلزم من منعه شائبة تنقيص للنبوَّة فيكفر بذلك.
وأفتى عدّة بأنه مخطئٌ بذلك خطأ المجتهدين المغفور لهم، ووافقه جماعة وكبرت القضية فأُعيد إلى قاعة بالقلعة فبقي بضعة وعشرين شهرًا، وآل الأمر إلى أن مُنِع من الكتابة والمطالعة، وما تركوا عنده كراسًا ولا دواة، وبقي أشهرًا على ذلك، فأقبل على التلاوة والتهجد والعبادة حتَّى أتاه اليقين، فلم يفجأ الناسَ إلَّا نعيُه وما علموا بمرضه فازدحم الخلق عند باب القلعة وبالجامع زحمة صلاة الجمعة وأرجح، وشيَّعه الخلق من أربعة أبواب البلد، وحمل على الرؤوس، وعاش سبعًا وستين سنة وأشهرًا، وكان أسود الرأْس قليل شيب اللحية ربعة جهوري الصوت أبيض أعْيَن.
قلت: تنقَّص مرة بعض النّاس من ابن تَيْمِيَّة عند القاضي ابن الزَّمْلَكاني وهو بحلب وأنا حاضر فقال: ومن يكون مثل الشَّيخ تقي الدِّين في زهده وصبره وشجاعته وكرمه وعلومه، والله لولا تعرضه للسلف لزاحمهم بالمناكب. وهذه نبذة من ترجمة الشَّيخ مختصرة أكثرها من «الدرة اليتيمية في السيرة التيمية» للإمام الحافظ شمس الدِّين محمد الذَّهَبيّ رحمه الله.
قال ابن الوردي: وفيها أي سنة (728) ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة توفي شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة رضي الله عنه معتقلًا بقلعة دمشق، وغُسل وكُفن وأُخرج وصلَّى عليه أولًا بالقلعة الشَّيخ محمد بن تمام، ثمَّ بجامع دمشق بعد الظهر، [وأُخرج] من باب الفرج، واشتدّ الزحام في سوق الخيل،
وتقدّم عليه في الصلاة هناك أخوه، وألقى الناس عليه مناديلهم وعمائمهم للتبرُّك! وتراصّ الناس تحت نعشه، وحُزِرت النساء بخمسة عشر ألفًا، وأما الرجال فقيل: كانوا مائتي ألف. وكَثُر البكاء عليه، وخُتمت له عدة ختم، وتردد الناس إلى زيارة قبره أيامًا، ورئيت له منامات صالحة ورثاه جماعة. قلت: ورثيته أنا بمرثية على حرف الطاء؛ فشاعت واشتهرت، وطلبها مني الفضلاء والعلماء من البلاد وهي:
عَثَا في عِرْضه قومٌ سِلاطٌ
…
لهم من نَثْر جَوْهره التقاطُ
تقي الدِّين أحمد خيرُ حبْرٍ
…
خُروق المعضلاتِ به تُخاطُ
توفّي وهو محبوسٌ فَريدٌ
…
وليس له إلى الدّنيا انبساطُ
ولو حَضَروه حينَ قَضَى لألْفَوا
…
ملائكةَ النَّعيمِ به أحاطُوا
قضى نحبًا وليس له قَرِينٌ
…
ولا لِنَظيره لُفَّ القِمَاطُ
فتًى في علمه أضْحى فريدًا
…
وحلُّ المشكلاتِ بِه يُناطُ
وكان إلى التُّقى يَدْعو البرايا
…
وينهى فِرْقةً فسقوا ولاطُوا
وكان الجنُّ تَفْرق من سَطَاه
…
بوعظٍ للقلوبِ هو السِّياطُ
فيالله ما قد ضمَّ لحدٌ
…
ويالله ما غطَّى البلاطُ!
هم حَسَدوه لمّا لَمْ يَنَالوا
…
مناقبه فقد مَكَروا وشاطُوا
وكانوا عن طرائقِهِ كُسالى
…
ولكنْ في أذاه لهم نَشَاطُ
وحَبْسُ الدُّرِّ في الأصداف فخرٌ
…
وعند الشّيخ بالسّجن اغْتِباطُ
بآلِ الهاشميِّ له اقتداءٌ
…
فقد ذاقوا المنُونَ ولم يُواطوا
بنو تيميَّة كانوا فبانوا
…
نجوم العلم أدركها انهباطُ
ولكن يا ندامةَ حَابِسيه
…
فشكّ الشِّرك كان به يُمَاطُ
ويا فرح اليهودِ بما فَعَلْتم
…
فإن الضدّ يُعْجبه الخباطُ
ألم يكُ فيكم رجلٌ رشيدٌ
…
يرى سَجْنَ الإمام فَيُستشاطُ
إمامٌ لا وِلاية كان يرجو
…
ولا وقف عليه ولا رِباطُ
ولا جاراكم في كَسْب مالٍ
…
ولم يُعْهد له بكم اختلاطُ
ففيم سَجَنْتموه وغظتموه
…
أمَا لجزا أذيَّته اشتراطُ
وسَجْن الشيخ لا يرضاه مثلي
…
ففيه لِقَدْر مثلكم انحطاطُ
أمَا والله لولا كَتْم سرِّي
…
وخوف الشّرِّ لانحلَّ الرِّباطُ
وكنتُ أقول ما عندي ولكنْ
…
بأهل العلم ما حَسُنَ اشتطاطُ
فما أحد إلى الإنْصَافِ يَدْعو
…
وكلٌ في هواه له انخراطُ
سيظهر قَصْدُكم يا حابسيه
…
ونيَّتُكم إذا نُصِبَ الصِّراطُ
فها هو مات عنكم واسترحتم
…
فعاطُوا ما أردتم أن تُعاطُوا
وحلّوا واعقدوا من غير ردٍّ
…
عليكم وانْطَوى ذاك البِسَاطُ
وكنتُ اجتمعتُ به بدمشق سنة (715) بمسجده بالقصاعين، وبحثت بين يديه في فقه وتفسير ونحو، فأعجبه كلامي وقبَّل وجهي وإني لأرجو بركة ذلك، وحكى لي عن واقعته المشهورة في جبل كسروان، وسَهِرت عنده ليلة، فرأيت من فتوَّته ومروءَته ومحبَّته لأهل العلم ولا سيما الغرباء منهم أمرًا كثيرًا، وصلَّيت خلفه التراويح في رمضان فرأيت على قراءته خشوعًا، ورأيت على صلاته رِقَّةَ حاشيةٍ تأْخذ بمجامع القلوب. انتهى كلام الإمام زين الدِّين عمر بن الوردي المتوفى بحلب سنة (749) رحمه الله تعالى بعبارته.
وقد ذكرت لابن تَيْمِيَّة رحمه الله ترجمة حافلة بالفارسية في كتابي «إتحاف النبلاء المتقين» .
وله قًدِّس سره تراجم كثيرة حسنة اعتنى بجمعها جمع جم من العلماء الفضلاء.
منها كتاب «القول الجلي» في ترجمة شيخ الإسلام تقي الدِّين بن تَيْمِيَّة الحنبلي للسيد صفى الدِّين أحمد الحنفي البخاريّ نزيل نابُلُس رحمه الله، وهو جزء لطيف، وعليه تقريظ للشيخ العلَّامة محمد التافلاني مفتي الحنفية بالقدس الشريف، وتقريظ للشيخ عبد الرَّحمن الشَّافعي الدِّمشقي الشهير بالكزبري.
ومنها كتاب «الكواكب الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة» للشيخ الإمام العلَّامة مرعي.
ومنها كتاب «الرّد الوافر على من زعم أَنَّ من سمى ابن تَيْمِيَّة شيخ الإسلام كافر» للشيخ الإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن شمس الدِّين أبي بكر بن ناصر الدِّين الشَّافعيّ الدِّمشقي، وعليه تقريظ للحافظ ابن حجر العسقلاني صاحب «فتح الباري» ، وتقريظ لقاضي القضاة صالح بن عمر البلقيني رحمه الله، وتقريظ للشيخ الإمام عبد الرَّحمن التفهني الحنفي، وتقريظ للشيخ العلَّامة شمس الدِّين محمد بن أحمد البساطي المالكي، وتقريظ للقاضي الفهامة نور الدِّين محمود بن أحمد العيني الحنفي وهذا أطول التقاريظ وهي الَّتي كتبوها في سنة (835)، وأيضًا عليه تقريظ للإمام العلَّامة قاضي قضاة الحنابلة بالديار المصرية أبي العّبَّاس أحمد بن نصر الله بن أحمد البغدادي ثمَّ المصري كتبه في سنة (836) بصالحية دمشق بدار الحديث الأشرفية، وتقريظ لمحدّث حلب الحافظ الإمام أبي الوفا إبراهيم بن محمد النعيم رضوان بن محمد بن يوسف العقبي المصري
الشافعي، ثمَّ قرظ عليه غيرهم من سائر البلدان كالقاضي سراج الدِّين الحمصي الشَّافعيّ وخلق كثير.
وكان قد نبغ شخص في المائة التاسعة يُسمّى علاء الدِّين محمد البخاريّ بدمشق تعصب على الشَّيخ وأفتى بكفره وكفر من سمّاه شيخ الإسلام، فردّ عليه في هذا الكتاب وعدّد من سمّاه شيخ الإسلام من أئمة جميع المذاهب منهم خصومه كالسبكي وغيره، وبعد إتمامه أرسله إلى مصر فقرظ عليه من تقدم ذكرهم.
وممن مدح شيخ الإِسلام بقصائد حسنة طويلة الشَّيخ العلَّامة إسحاق ابن أبي بكر التركي المصري الفقيه المحدث نجم الدِّين أبو الفضل أولها:
يُعنِّفني في بُغيتي رُتبة العُلى
…
جهولٌ أراه راكبًا غيرَ مَرْكبي
إلى آخرها وهي نفيسة جدًّا.
وهذه التقاريظ المشار إليها كلها بمنزلة (تراجم مفيدة) وهي تُفصح عن علوِّ مكان شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة رحمه الله في العلوم والمعلومات.
وقد أقرّ بفضله وبلوغه رتبة الاجتهاد من لا يحصى كثرة، منهم الحافظ الذَّهَبيّ، والسيوطي، والسخاوي، والمزي، والحافظ ابن كثير، وابن دقيق العيد، والحافظ فتح الدِّين اليعمري المعروف بابن سيِّد النَّاس، والحافظ عَلَم الدِّين البرزالي وغير هؤلاء، وقد ترجم له الحافظ ابن حجر في «الدرر الكامنة» ، والعلّامة شهاب الدِّين بن فضل الله العمري في «مسالك الأبصار» ، والإمام العلَّامة ابن رجب الحنبلي في «طبقاته» ، والعلامة ابن شاكر في «تاريخه» ، والإمام العالم الحافظ شمس الدِّين ابن عبد الهادي في «تذكرة
الحافظ» ترجمة حافلة جدًّا، وذكر الشَّيخ الفاضل صلاح الدِّين الكتبي في «فوات الوفيات» من تصانيفه كتبًا جمة لا يسع لها هذا الموضع.
وأثنى عليه شيخنا
(1)
العلَّامة القاضي محمد بن عليّ الشَّوكاني في آخر «شرح الصدور في تحريم رفع القبور» وشهد أيضًا بفضله وعلمه وسعة اطلاعه وكمال ورعه مخالفوه. منهم الشَّيخ كمال الدِّين الزّمْلكاني، والشَّيخ صدر الدِّين بن الوكيل، والشَّيخ أبو الحسن تقي الدِّين السبكي الرّاد عليه في مسئلة الزيارة.
وقد ردّ هذا الرّد صاحب كتاب «الصارم المنكي على نحر ابن السبكي» . وأجمعُ له إن شاء الله تعالى ترجمة حافلة مستقلة في كتاب مفرز
(2)
لذلك، فلنقتصر على هذا المقدار ههنا.
* * * *
(1)
بالإجازة، وإلا فهو لم يلْقه.
(2)
كذا.
التَّاج المُكلّل من جَوَاهِر مآثر الطِّراز الآخر والأوَّل
(1)
شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام ابن تَيْمِيَّة الحَرَّاني الدِّمشقي الحنبلي، تقي الدِّين أبو العّبَّاس.
قال الشوكاني في كتاب «شرح الصدور في تحريم رفع القبور» : هو الإمام المحيط بمذاهب سلف هذه الأمة وخلفها، انتهى.
وقال ابن فضل الله العمري في «مسالك الأبصار» : هو العلَّامة الحافظ المجتهد الحجة المفسر شيخ الإسلام نادرة العصر علم الزهاد.
وقال ابن رجب: هو الإمام الفقيه المجتهد المحدّث المفسر الأصولي.
وقال الحافظ شمس الدِّين بن عبد الهادي في «تذكرة الحفاظ» : هو شيخنا الإمام الرباني، إمام الأئمة ومفتي الأمة بحر العلوم سيد الحفاظ، فارس المعاني والألفاظ، فريد العصر قريع الدهر شيخ الإسلام قدوة الأنام، علامة الزمان، ترجمان القرآن، علم الزهاد أوحد العباد، قامع المبتدعين علامة المجتهدين.
وقال في «البدر الطالع» : شيخ الإسلام، إمام الأئمة المجتهد المطلق، ولد سنة (661).
قال ابن حجر في «الدرر» : نظر في الرجال والعلل، وتفقه، وتمهر وتقدم
(1)
(ص 420 - 431) تحقيق عبد الحكيم شرف الدين، ط. بومبي 1382.
وصنف، ودرس وأفتى، وفاق الأقران، وصار عجبًا في سرعة الاستحضار وقوّة الجنان، والتّوسع في المنقول والمعقول والاطلاع على مذاهب السلف والخلف، انتهى.
وأقول أنا: لا أعلم بعد ابن حزم مثله، وما أظن سمح الزمان ما بين عصري الرجلين بمن يشابههما أو يقاربهما. قال الذَّهَبيّ ما ملخصه: كَانَ يُقْضَى منه العجب إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف واستدل ورجّح، وكان يحق له الاجتهاد لاجتماع شروطه، وما رأيت أسرع انتزاعًا للآيات ــ الدالة على المسألة الَّتى يوردها ــ منه، ولا أشد استحضارًا للمتون وعزوها منه. كانت السنة نصب عينيه، وعلى طرف لسانه، بعبارة رشيقة، وكان آية من آيات الله في التفسير والتوسع فيه، قال: ولعل فتاويه في الفنون تبلغ ثلاث مائة مجلد بل أكثر، وكان قوالًا بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم.
وكان أبيض، أسود الرأس واللحية، قليل الشيب، شعره إلى شحمة أذنيه، كأن عينيه لسانان ناطقان، ربعة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جهوري الصوت فصيحًا، سريع القراءة تعتريه حدّة؛ لكن يقهرها بالحلم. قال: ولم أرَ مثله في ابتهاله واستعانته بالله وكثره توجهه إليه، وأنا لا أعتقد فيه عصمة، بل أنا مخالف له في مسائل أصلية وفرعية، فإنه كَانَ بشرًا من البشر تعتريه حدة في البحث؛ وغضب وصدمة للخصوم، تزرع له عداوة في النفوس، ولولا ذلك لكان كلمة إجماع، فإنَّ كبارهم خاضعون لعلمه، معترفون بأنه بحر لا ساحل له، وكنز ليس له نظير، ولكن ينقمون عليه أخلاقًا وأفعالًا، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الذهبي: ولا كَانَ متلاعبًا بالدين ولا يتفرد بمسائل بالتشهِّي، ولا
يطلق لسانه بما اتفق بل يحتج بالقرآن والحديث والقياس، ويبرهن ويناظر أُسوة مَنْ تقدمه من الأئمة، فله أجر على خطئه، وأجران على إصابته. انتهى.
قال الشوكاني: ومع هذا، فقد وقع له مع أهل عصره قلاقل وزلازل، وامتحن مرة بعد أخرى، وحبس حبسًا بعد حبس، وجرت فتن عديدة. والناس قسمان في شأنه: فبعض منهم مقصر به عن المقدار الَّذي يستحقه بل يرميه بالعظائم، وبعض آخر يبالغ في وصفه ويجاوز به الحد ويتعصب له كما يتعصب أهل القسم الأوّل عليه. وهذه قاعدة مطَّردة في كل عالم يتبحر في المعارف العلمية ويفوق أهل عصره ويدين بالكتاب والسنة، فإنه لا بد أن يستنكره المقصِّرون، ويقع له معهم محنة [بعد محنة]. ثمَّ يكون أمره الأعلى وقوله الأوْلى، ويصير له بتلك الزلازل لسان صدق في الآخرين. ويكون لعلمه حظ لا يكون لغيره، وهكذا كان حل هذا الامام، فإنه بعد موته عرف النَّاس مقداره، واتفقت الألسن بالثناء عليه إلَّا من لا يعتد به، وطارت مصنفاته واشتهرت مقالاته، انتهى.
وقد ترجم له جماعة منهم: شهاب [الدين] بن فضل الله العمري في «مسالك الأبصار» وكتب ترجمة حسنة طويلة عريضة كاملة، ومنهم العلَّامة ابن رجب الحنبلي في «طبقاته» وأثنى عليه ثناءً كثيرًا، ومنهم ابن شاكر صاحب «فوات الوفيات» ، ومنهم الشَّيخ مرعي وسماها «الكواكب الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة» ، ومنهم الحافظ ابن عبد الهادي ترجم له في مجلد مفرد، ومنهم أبو حفص عمر بن عليّ البزار البغدادي كتب كراريس في ترجمته، ومنهم العلَّامة صفي الدِّين أحمد البخاريّ نزيل نابلس وسماها «القول الجلي» ، وقرظ عليه العلَّامة مفتي القدس محمد التافلاتي، ومحدّث
الشَّام محمد الكزبري الشافعي، ومنهم العلَّامة نجم الدِّين أبو الفضل أنشد قصيدة حسنة طويلة في مدحه وثنائه
(1)
.
قال ابن رجب ــ رحمه الله تعالى ــ في حقه: شيخ الإسلام وعلم الأعلام، وشهرته تغني عن الإطناب في ذكره والإسهاب في أمره. عني بالحديث، وسمع «المسند» مرات، والكتب السِّتَّة، و «معُجم الطَّبرانيّ الكبير» ، وما لا يحصى من الكتب والأجزاء، وقرأ بنفسه، وكتب بخطه جملة من الأجزاء، وأقبل على العلوم في صغره، وبرع في ذلك وقرأ في العربية، وأقبل على تفسير القرآن الكريم، فبرز فيه، وأحكم أصول الفقه، والفرائض، والحساب، ونظر في علم الكلام والفلسفة، وبرز في ذلك على أهله، ورد على رؤسائهم وأكابرهم، ومهر في هذه الفضائل، وتأهل للفتوى والتدريس، وله دون العشرين سنة، وأفتى من قبل العشرين أيضًا، وأُمِدَّ بكثرة الكَتْب وسرعة الحفظ، وقوة الإدراك والفهم، وبُطْء النسيان، حتَّى قال غير واحد: إنه لم يكن يحفظ شيئًا فينساه.
وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدين، والشيخ تاج الدِّين الفزاري، وزين الدِّين بن المرحل، وابن المنجَّى، وجماعة، وذكر درسًا عظيمًا في البسملة ــ وهو مشهور بين الناس ــ وعظمه الجماعة الحاضرون، وأثنوا عليه ثناءً كثيرًا.
قال الذَهبيّ: وكان الفزاري يبالغ في تعظيمه، وذكر على الكرسي يوم جمعة شيئًا من الصفات، فقام بعض المخالفين، وسعوا في منعه من
(1)
كذا في الأصل.
الجلوس، فلم يمكنهم ذلك، وقال قاضي القضاة شهاب الدِّين الخويي: أنا على اعتقاد الشَّيخ تقي الدين، فعوتب في ذلك، فقال: لأنه ذهنه صحيح، وموادَّه كثيرة، فهو لا يقول إلَّا الصحيح. وقال الشَّيخ شرف الدِّين المقْدِسِيّ: أنا أرجو بركته ودعاءه، وهو صاحبي وأخي. ذكر ذلك البرزالي في «تاريخه» ، ولم يزل في علو وازدياد من العلم والقدر إلى آخر عمره.
وقال الذَّهبيّ: شيخنا وشيخ الإسلام، فريد الزمان علمًا ومعرفة، وشجاعة وذكاء، وتنويرًا إلهيًّا، وكرمًا ونصحًا للأمة، وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، سمع الحديث، وأكثر بنفسه من طلبه، وكتب، ونظر في الرجال والطبقات، وحصل ما لم يحصله غيره. وبرع في تفسير القرآن، وغاص في دقيق معانيه بطبع سيال، وخاطر إلى مواقع الإشكال ميال، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها. وبرع في الحديث وحفظه، فقلَّ من يحفظ [ما يحفظه] من الحديث معزوًّا إلى أصوله، مع شدة استحضاره له وقت إقامة الدليل، وفاق الناس في معرفة الفقه، واختلاف المذاهب، وفتاوى الصَّحابة والتابعين، بحيث إنَّه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل بما يقوم دليله عنده، وأتقن العربية أصولًا وفروعًا، وتعليلًا واختلافًا، ونظر في العقليات، وعرف أقوال المتكلمين، وَردَّ عليهم، ونبَّه على خطئهم، وحذَّر منهم، ونصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين. وأُوذي في ذات الله من المخالفين، وأُخيف في نصر السنة المحضة، حتَّى أعلى الله مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له، وَكَبَتَ أعداءه، وهدى به رجالًا من أهل الملل والنحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالبًا، وعلى طاعته، وأحيا به الشَّام، بل الإسلام بعد أن كَاد ينثلم بتثبيت [أولي] الأمر لما أقبل حزب
«التتر» والبغي في خيلائهم، وظُنت بالله الظنون، وزلزل المؤمنون، واشْرَأبَّ النفاق وأبدى صفحته. ومحاسنه كثيرة، وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي، فلو حلفت بين الركن والمقام [وبالطلاق ألف طلقة]
(1)
أني ما رأيت بعيني مثله، وأنَّه ما رأى مثل نفسه ما حنثت.
وقد قرأت بخط الشَّيخ العلامة شيخنا كمال الدِّين بن الزَّمْلَكاني ما كتبه سنة بضع وتسعين تحت اسم «ابن تَيْمِيَّة» : كَانَ إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنَّه لا يعرف غير ذلك، وحكم أنَّ أحدًا لا يعرفه مثله. وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا في مذاهبهم منه أشياء، ولا يعرف أنَّه ناظر أحدًا فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم ــ سواء كَانَ من علوم الشرع أوغيرها ــ إلَّا فاق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها.
قال ابن رجب: قلت: وقد عُرض عليه قضاء القضاة ومشيخة الشيوخ فلم يقبل شيئًا من ذلك.
أثنى عليه ابن سيد الناس ثناءً بالغًا حسنًا، وكتب الذَّهَبيّ في «تاريخه الكبير» ترجمة مطولة له، قال فيها: لا يبلغ أحد في العصر رتبته، ولا يقاربه، وهو عجب في استحضاره
(2)
واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب السِّتَّة والمسند بحيث يصدق عليه أن يقال:«كل حديث لا يعرفه ابن تَيْمِيَّة فليس بحديث» .
(1)
ما بين القوسين ليس من كلام الذهبي، وهو هكذا في المطبوعة.
(2)
اختصر المؤلف هنا عبارة الذهبي، والمقصود استحضار الحديث.
قال: فلقد كَانَ عجبًا في معرفة علوم الحديث، ولقد كتب «الحموية» في قعدة واحدة، وهي أزيد من ذلك، وله يد طولى في الكلام على المعارف والأحوال. والتمييز بين صحيح ذلك وسقيمه، ومعوجه وقويمه.
وقد ترجم له ابن الزَّمْلَكاني ترجمة عظيمة وأثنى عليه ثناء عظيمًا. ومدحه أبو حيان الأندلسي نظمًا حسنًا. وقال له ابن دقيق العيد عند اجتماعه به وسماعه لكلامه: ما كنت أظن أنَّ الله فيما بقي يخلق مثلك.
قال ابن رجب: ومما وجد في كتاب كتبه العلَّامة أبو الحسن السبكي إلى الحافظ الذَّهَبيّ في أمره: أما قول سيدي في الشَّيخ فالمملوك يتحقق كبر قدره، وزخارة بحره، وتوسعه في العلوم الشرعية والعقلية، وفرط ذكائه واجتهاده، وبلوغه في كل من ذلك المبلغ الَّذي يتجاوز الوصف، والمملوك يقول ذلك دائمًا، وقدره في نفسي أكبر من ذلك وأجلّ، مع ما جمعه الله له من الزهادة والورع والديانة، ونصرة الحق، والقيام فيه لا لغرض سواه، وجريه على سنن السلف، وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى، وغرابة مثله في هذا الزمان، بل من أزمان، انتهى.
قلت: وأبو الحسن السبكي ــ هو السبكي الكبير ــ كما صرّح بذلك ابن مفلح في طبقاته، وقد قال بعض السفهاء: إنَّ علمه كَانَ زائدًا على عقله ــ يشير بذلك إلى قلة فهمه، كأنَّ القائل بهذا القول لم يقف على ما أثنى به عليه جمع جم من الأئمة الكبار بالذكاء وقوة الدرك وبلوغه في المعقولات مبلغًا عظيمًا والزهد، فأين هذا يقع من ذاك، ولكن من أعمى الله بصر بصيرته فهو يرى الشمس مظلمة، هذا السبكي عدوه، والراد عليه قد أقر له في كتابه هذا بما أقر، ولنعم ما قيل:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
…
فهي الشهادة لي بأني كامل
وكان الحافظ المزي يبالغ في تعظيم الشَّيخ والثناء عليه، حتَّى كَانَ يقول: لم يرُ مثله منذ أربع مئة سنة، وقال ابن رجب: بلغني من طريق صحيح عن ابن الزَّمْلَكاني: أنَّه سئل عن الشَّيخ؟ فقال: «لم نر من خمس مئة سنة أو أربع مئة سنة ــ الشك من الناقل، وغالب ظنه: أنَّه قال: من خمس مئة سنة ــ أحفظ منه» . وكذلك المشايخ العارفون كالقدوة محمد بن قوام، ويحكى أنّه كَانَ يقول: ما أسْلَمَت معارفنا إلَّا على يد «ابن تَيْمِيَّة» ، والشَّيخ عماد الدِّين الواسطي كَانَ يعظمه جدًّا، وتلمذ له، مع أنَّه كَانَ أسن منه. وكان يقول: قد شارف مقام الأئمة الكبار، ويناسب قيامه في بعض الأمور مقام الصديقين.
وكتب رسالة إلى خواص أصحاب الشَّيخ ويوصيهم بتعظيمه واحترامه؛ ويعرفهم حقوقه؛ ويذكر فيها: أنَّه طاف أعيان بلاد الإسلام ولم ير فيها مثل الشَّيخ عملًا وعلمًا، وحالًا وخلقًا واتباعًا، وكرمًا وحلمًا في حق نفسه، وقيامًا في حق الله عند انتهاك حرماته، وأقسم على ذلك بالله ثلاث مرات، ثمَّ قال: أصدق الناس عقلًا، وأصحهم علمًا وعزمًا، وأنفذهم وأعلاهم في انتصار الحق وقيامه؛ وأسخاهم كفًّا، وأكملهم اتباعًا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ما رأينا في عصرنا هذا من تُستجلَى النبوة المحمدية وسننها من أقواله وأفعاله إلَّا هذا الرَّحل، بحيث يشهد القلب الصحيح أنَّ هذا هو الاتباع حقيقة.
وطوائف من أئمة الحديث حفاظهم وفقهائهم: كانوا يحبون الشَّيخ ويعظمونه، ولم يكونوا يحبون له التوغل مع أهل الكلام ولا الفلاسفة، كما هو طريقة أئمة الحديث المتقدمين مثل الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد ونحوهم، وكذلك كثير من الفقهاء وغيرهم كرهوا له التفرد ببعض شذوذ
المسائل الَّتي أنكرها السلف علي من شذ بها.
أقول: وهذا الإنكار منهم عليه إنكار جاهل على عالم، والمرء عدو لما جهل، والذي تفرد به شيخ الإسلام من بعض المسائل قد أثبته جماعة من أهل العلم بالأدلة الصحيحة المحكمة الثابتة، وذبّوا جنابه الرفيع عن تلك الإيرادات، ولهذا قال الذَّهَبيّ: غالب حطه على الفضلاء والمتزهدة حق، وفي بعضه هو مجتهد، ولا يكفر أحدًا إلَّا بعد قيام الحجة عليه، قال: ولقد نصر السنة المحضة، والطريقة السلفية؛ واحتج ببراهين ومقدمات، وأمور لم يسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا، وجسر هو عليها حتَّى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قيامًا لا مزيد عليه، وبدَّعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابت لا يداهن بحال ولا يحابي، بل يقول الحق المرَّ الَّذي أدَّاه إليه اجتهاده وحدة ذهنه وقوة عقله وفهمه وسعة دائرته في السنن والأقوال، مع ما اشتهر عنه من الورع وكمال الفكرة وسرعة الإدراك، والخوف من الله، والتعظيم لحرمات الله، فجرى بينه وبينهم حملات حربية، ووقعات شامية ومصرية، وكم من نوبة قد رموه عن قوس واحدة، فينجيه الله، فإنه دائم الابتهال، كثير الاستعانة، قوي التوكل، ثابت الجأش، وله من الشطر الآخر محبون من العلماء والصلحاء، ومن الجند والأمراء، ومن التجار والكبراء، وسائر العامة تحبه، لأَنَّه منتصب لنفعهم ليلًا ونهارًا، بلسانه وقلمه.
وأما شجاعته: فبها تضرب الأمثال، وببعضها يتشبه الأكابر الأبطال، فلقد أقامه الله في نوبة غازان، والتقى أعباء الأمر بنفسه، وقام وقعد وطلع وخرج، واجتمع بالملك مرتين، وكان «قبجق» يتعجب من إقدامه وجرأته
على المغول، وله حدة قوية تعتريه في البحث، حتَّى كأنه ليث حَرِب، وهو أكبر من أن ينبه على نعوته.
وله نظم قليل وسط. ولم يتزوج، ولا تسرى، ولا له من المعلوم إلَّا شيء قليل. وأخوه يقوم بمصالحه، ولا يطلب منهم غداء ولا عشاء في غالب الوقت، وما رأيت في العالم أكرم منه، ولا أفرغ منه عن الدينار والدرهم، لا يذكره ولا أظنه يدور في ذهنه، وفيه مروءة، وقيام مع أصحابه، وسعي في مصالحهم. وهو فقير لا مال له. وملبوسه كآحاد الفقهاء، ولم يَنْحَنِ لأحد قط، وإنما يسلم ويصافح ويبتسم.
وأما محنه فكثيرة، وشرحها يطول جدًّا، منها: أنَّه امتحن في سنة 705 بالسؤال عن معتقده ــ بأمر السلطان ــ فجمع نائبه القضاة والعلماء بالقصر، وأحضر من داره «العقيدة الواسطية» فقرأوها في ثلاثة مجالس، وحاققوه وبحثوا معه؛ ووقع الاتفاق بعد ذلك على أنَّ هذه عقيدة سنية سلفية، فمنهم من قال ذلك طوعًا ومنهم من قاله كرهًا، وورد بعد ذلك كتاب من السلطان فيه: إنَّما قصدنا براءة ساحة الشَّيخ، وتبين لنا أنَّه على عقيدة السلف.
وفي آخر الأمر: دبروا عليه الحيلة في مسألة المنع من السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين، وألزموه من ذلك بالتنقص بالأنبياء وذلك كفر، وأفتى بذلك طائفة من أهل الأهواء ــ وهم ثمانية عشر نفسًا ــ رأسهم القاضي الإخنائي المالكي، وحبس بقلعة دمشق سنتين وأشهرًا وبها مات ــ رحمه الله تعالى ــ. ووافقه جماعة من علماء بغداد، وكذلك ابنا أبي الوليد ــ شيخ المالكية بدمشق ــ أفتيا: أنَّه لا وجه للاعتراض عليه فيما قاله أصلًا، وأنَّه نقل خلاف العلماء في المسألة، ورجح أحد القولين.
قال الحافظ ابن القيم: سمعت «ابن تَيْمِيَّة» ــ قدس الله روحه، ونور ضريحه ــ يقول في الحبس:«إنَّ في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة» ، قال: وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي في قلبي، وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
وكان في حبسه يقول: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهبًا ما عدل عندي شكر هذه النعمة ــ أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي من الخير ــ أو نحو هذا.
وقال مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه. ولما دخل إلى القلعة، وصار داخل سورها، نظر إليه، وقال:{بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ} [الحديد: 13] انتهي حاصله.
قال ابن رجب: وأما تصانيفه فهي أشهر من أن تذكر وأعرف من أن تنكر، سارت مسير الشمس في الأقطار، وامتلأت بها البلاد والأمصار. قد جاوزت حد الكثرة، فلا يمكن أحدًا حصرها، ولا يتسع هذا المكان لعدِّ المعروف منها، ولا ذكرها، ثمَّ ذكر نبذة من أسماء أعيان مصنفاته الكبار، ثمَّ ذكر طرفًا من مفرداته وغرائبه، منها: أنَّه اختار ارتفاع الحدث بالمياه المعتصره كالورد ونحوه.
واختار جواز المسح على النعلين والقدمين، وكلّ ما يحتاج في نزعه من الرِّجل إلى معالجته باليد أو بالرجل الأخرى، فإنه يجوز عنده المسح عليه مع القدمين.
واختار أنَّ المسح على الخفين لا يتوقت مع الحاجة كالمسافر على
البريد ونحوه، وفعل ذلك في ذهابه إلى الديار المصرية على خيل البريد، ويتوقت مع إمكان النزع وتيسره.
واختار جواز المسح على اللفائف ونحوها، واختار جواز التيمم لخشية فوات الوقت في حق غير المعذور، كمن أخر الصلاة عمدًا حتَّى تضايق وقتها، وكمن خشي فوات الجمعة والعيدين وهو محدث، فأما من استيقظ أو ذكر في آخر وقت الصلاة، فإنه يتطهر بالماء ويصلي لأن الوقت متسع في حقه.
واختار أنَّ المرأة إذا لم يمكنها الاغتسال في البيت وشق عليها النزول إلى الحمام وتكرره فإنها تتيمم وتصلي.
واختار أن لا حد لأقل الحيض ولا لأكثره، ولا لأقل الطهر بين الحيضتين ولا لسن الإياس من الحيض، وأن ذلك يرجع إلى ما تعرفه كل امرأة من نفسها.
واختار أنَّ تارك الصلاة عمدًا لا يجب عليه القضاء، ولا يشرع له، بل يكثر من النوافل، وأن القصر يجوز في قصير السفر وطويله، وأن سجود التلاوة لا يشترط له الطهارة.
قلت: وهذه المسائل غالبها مبرهنة في مواضعها بالأدلة الصحيحة الدالة عليها، وقد ذهب إليها ذاهبون من أهل العلم قديمًا وحديثًا.
ثمَّ ذكر ابن رجب وفاته رحمه الله وقال: مرض الشَّيخ في القلعة بضعة وعشرين يومًا، ولم يعلم أكثر الناس بمرضه، ولم يفجأهم إلَّا موته، وكانت وفاته في سحر ليلة الاثنين عشري ذي القعدة، سنة (728)، ذكره مؤذن القلعة
على منارة الجامع، وتكلم به الحرس على الأبرجة، فتسامع الناس بذلك، وبعضهم أعلم به في منامه، وأصبح الناس، واجتمعوا حول القلعة حتَّى أهل الغوطة والمرج، ولم يطبخ أهل الأسواق شيئًا، ولا فتحوا كثيرًا من الدكاكين الَّتى من شأنها أن تفتح أول النهار. وفتح باب القلعة، واجتمع خلق كثير من أصحابه، يبكون ويثنون، وأخبر أخوه: أنَّه منذ دخل القلعة ختم ثمانين ختمة، وانتهى إلى قوله تعالى:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54 - 55].
صلى عليه الزاهد القدوة محمد بن تمام، وأُخْرِجَ إلى جامع دمشق، وكان الجمع أعظم من جمع الجمع، ثمَّ ساروا به، والناس في بكاء وثناء وتهليل وتأسف، والنساء فوق الأسطحة، وكان يومًا مشهودًا، لم يعهد بدمشق مثله، ولم يتخلف من أهل البلد وحواضره إلَّا الضعفاء والمخدرات، وصرخ صارخ: هكذا تكون جنائز أهل السنة. فبكى الناس بكاءً كثيرًا عند ذلك. واشتد الزحام، وألقى الناس على نعشه مناديلهم وعمائمهم، وصار النعش على الرؤوس، يتقدم تارة ويتأخر أخرى، وخرج الناس من أبواب المدينة كلها، ودفن وقت العصر، وحُزِر الرجال بستين ألفًا إلى مائة ألف وأكثر، والنساء بخمسة عشر ألفًا. وظهر بذلك قول الإمام أحمد:«بيننا وبين أهل البدع يوم الجنائز» ، وختم له ختمات كثيرة بالصالحية والمدينة، وتردد الناس إلى زيارة قبره أيامًا كثيرة، ليلًا ونهارًا، رُئيت له منامات كثيرة صالحة، ورثاه خلق من العلماء والشعراء بقصائد كثيرة من بلدان شتى، وأقطار متباعدة، وتأسف المسلمون لفقده، وصلي عليه صلاة الغائب في غالب بلاد الإسلام القريبة والبعيدة، حتَّى في اليمن والصين. وأخبر المسافرون: أنَّه نودي بأقصى
الصين للصلاة عليه يوم الجمعة «الصلاة على ترجمان القرآن» .
قال ابن رجب: وقد أفرد الحافظ محمد بن عبد الهادي له ترجمة في مجلدة، وكذلك أبو حفص عمر بن علي البغدادي البزار في كراريس. وإنما ذكرناها هنا على وجه الاختصار، وقد حدث الشَّيخ كثيرًا، وسمع منه خلق من الحفاظ والأئمة من الحديث، وخرج له ابن الواني أربعين حديثًا حدث بها، انتهى.
قلت: وقد اختصرت هذه الترجمة من الترجمة المختصرة الَّتي ذكرها ابن رجب مع زيادة بعض ألفاظ عليها، فإن شئت أن تطلع على جملتها فعليك بالمجلدات الكبار، والتراجم الحوافل الَّتي كتبها الأئمة الكبار مستقلة مفردة، والله يختص برحمته من يشاء، ويدخل من يشاء في رحمته.
قال في «الروضة الغناء» : ولد سنة (661)، وأفتى ودرس، وصنف التَّصانيف البديعة الكثيرة، وجرت له محن كثيرة إلى أن توفي ودفن بمقبرة الصوفية، انتهى.
وقال المعلم بطرس البستاني، في «دائرة المعارف»: وكان رحمه الله سيفًا مسلولًا على المخالفين، وشجى في حلوق أهل الأهواء والمبتدعين، طنت بذكره الأمصار، وضنت بمثله الأعصار، وله تصانيف ومؤلفات وقواعد وفتاوى وأجوبة ورسائل وتعاليق كثيرة، انتهى. وذكر منها نبذة، ثمَّ قال: فلما رأى أهل بلاده ما كَانَ له من الشهرة ورفعة الشأن دبَّ في قلوبهم الحسد، وأكب أهل النظر منهم بما ينتقد عليه من أمور المعتقد، فحفِظوا عليه في ذلك كلامًا، قد أوسعوا لثلبه ملامًا، وفوَّقُوا لتبديعه سِهامًا، وزعموا أنَّه خالف طريقهم، وفرَّق فريقَهم، فنازعهم ونازعوه، وقاطع بعضَهم
وقاطعوه، ثمَّ نازعه طائفة أخرى ينتسبون من الفقر إلى طريقة، ويزعمون أنهم على أدق باطنٍ منها وأجلى حقيقة، فكشف تلك الطرائق، وذكر لها ــ على ما زعم ــ بوائق، فآضَت إلى الطَّائفة الأولى من منازعيه، واستعانت بذوي الضِّغْن عليه من مقاطعيه، فوصلوا إلى الأمراء أمرَه، وأعمل كلّ منهم في كُفْره فِكْرَه، فرتَّبوا محاضر، وألَّبوا الرُّوَيْبِضَة للسَّعي بها بين الأكابر، قال: فَرَدَّ الله كيد كلٍّ في نحره ونجاه، والله غالب على أمره، انتهى حاصله.
* * * *
جلاء العينين في محاكمة الأحمدين
(1)
للشيخ نعمان خير الدِّين بن محمود الآلوسي (1317)
هو شيخ الإسلام، وحافظ الأنام، المجتهد في الأحكام: تقي الدِّين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن الخضر بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي. وفي «تاريخ إربل» : أن جده سئل عن اسم تيميّة، فأجاب: أن جده حج وكانت إمرأته حاملًا، فلما كان بتيماء ــ بلدة قرب تبوك ــ رأى جارية حسنة الوجه قد خرجت من خباء، فلما رجع وجد امرأته قد وضعت جارية، فلما رفعوها إليه قال: يا تيميّة يا تيميّة، يعني أنها تشبه التي رآها بتيماء، فسُميَ بها. انتهى.
وقد ولد بحران يوم الاثنين عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وست مئة. وقدم به والده وبأخويه عند استيلاء التتار على البلاد إلى دمشق سنة سبع وستين وست مئة.
فأخذ الفقه والأصول عن والده، وسمع عن خلق كثيرين، منهم الشيخ شمس الدين، والشيخ زين الدِّين بن المنجَّى، والمجد بن عساكر.
وقرأ العربية على ابن عبد القوي، ثم أخذ كتاب سيبويه فتأمله وفهمه.
وعُني بالحديث، وسمع الكتب الستة والمسند مرات.
وأقبل على تفسير القرآن الكريم فبرز فيه، وأحكم أصول الفقه والفرائض والحساب والجبر والمقابلة، وغير ذلك من سائر العلوم.
(1)
(ص 17 - 31)(القاهرة 1401 هـ).
ونظر في الكلام والفلسفة، وبرز في ذلك على أهله، ورد على رؤسائهم وأكابرهم، ومهر في هذه الفضائل، وتأهل للفتوى والتدريس وله دون العشرين سنة، وتضلع في علم الحديث وحفظه حتى قالوا: إن كل حديث لايعرفه ابن تيمية فهو ليس بحديث.
وأمده الله تعالى بكثرة الكتب، وسرعة الحفظ، وقوة الإدراك والفهم وبطء النسيان، حتى قال غير واحد: إنه لم يكن يحفظ شيئًا فينساه.
وألف في أغلب العلوم التأليفات العديدة، وصنف التصانيف المفيدة في التفسير والفقه، والأصول والحديث، والكلام والردود على الفرق الضالة والمبتدعة، وله الفتاوى المفصلة، وحل المسائل المعضلة.
ومن تصنيفاته التي تبلغ ثلاث مئة تصنيف: «تعارض العقل والنقل» أربع مجلدات، «والجواب الصحيح» ــ ردًّا على النصارى ــ أربع مجلدات، و «شرح عقيدة الأصفهاني» مجلد، و «الرد على الفلاسفة» أربع مجلدات، وكتاب «إثبات المعاد» والرد على ابن سينا، وكتاب «ثبوت النبوات عقلًا ونقلًا والمعجزات والكرامات» ، وكتاب «إثبات الصفات» مجلد، وكتاب «العرش» ، وكتاب «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» ، وكتاب «الرد على الإمامية» ــ ردًّا على ابن المطهر الحِلَّى ــ مجلدين كبيرين، وكتاب «الرد على القدرية» ، وكتاب «الرد على الاتحادية والحلولية» ، وكتاب «في فضائل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما على غيرهما» ، وكتاب «تفضيل الأئمة الأربعة» ، وكتاب «شرح العمدة» في الفقه أربع مجلدات، وكتاب «الدرة المضية في فتاوى ابن تيمية» ، وكتاب «المناسك الكبرى والصغرى» ، و «الصارم المسلول على من سب الرسول» ، وكتاب في «الطلاق» ، وكتاب في «خلق الأفعال» ، و «الرسالة
البغدادية»، وكتاب «التحفة العراقية» ، وكتاب «إصلاح الراعي والرعية» ، وكتاب في «الرد على تأسيس التقديس» للرازي ــ في سبع مجلدات، وكتاب «في الرد على المنطق» ، وكتاب «الفرقان» ، وكتاب «منهاج السنة النبوية» ، وكتاب «الاستقامة» مجلدين، وغير ذلك.
قال الذهبي: وما أُبْعد أن تصانيفه إلى الآن تبلغ خمس مئة مجلد، وترجمه في «معجم شيوخه» بترجمة طويلة، منها قوله: شيخنا وشيخ الإسلام، وفريد العصر علمًا ومعرفة وشجاعة، وذكاءً وتنويرًا إلهيًّا وكرمًا ونصحًا وللأمة، وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر. سمع الحديث وأكثر بنفسه من طلبه وكتابته، وخرَّج ونظر في الرجال والطبقات، وحصل ما لم يحصل غيره. وبرع في تفسير القرآن، وغاص في دقائق معانيه بطبع سيَّال، وخاطر وقّاد إلى مواضع الإشكال ميَّال، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها. وبرع في الحديث وحفظه، فقلَّ من يحفظ ما يحفظه من الحديث، مع شدة استحضاره له وقت الدليل، وفاق الناس في معرفة الفقه واختلاف المذاهب وفتاوى الصحابة والتابعين. وأتقن العربية أصولًا وفروعًا، ونظر في العقليات، وعرف أقوال المتكلمين، ورد عليهم ونبه على خطئهم، وحذر منهم، ونصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين. وأوذي في ذات الله تعالى من المخالفين، وأخيف في نصرالسنة المحفوظة حتى أعلى الله تعالى مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له، وكبتَ أعداءَه، وهدى به رجالًا كثيرة من أهل الملل والنحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالبًا وعلى طاعته، وأحيا به الشام؛ بل الإسلام بعد أن كاد ينثلم، خصوصًا في كائنة التتار. وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي، فلو حلفت
بين الركن والمقام: أني ما رأيت بعيني مثله، وأنه ما رأى مثل نفسه لما حنثت. انتهى.
وقال الحافظ ابن كثير: وفي رجب سنة سبع مئة وأربع راح الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية إلى مسجد النارنج، وأمر أصحابه وتلامذته بقطع صخرة كانت هناك بنهر قلوط تزار وينذر لها، فقطعها وأراح المسلمين منها ومن الشرك بها، فأزاح عن المسلمين شبهة كان شرها عظيمًا، وبهذا وأمثاله أبرزوا له العداوة. وكذلك بكلامه في ابن عربي وأتباعه، فحُسِدَ وعودي، ومع هذا لا تأخذه في الله لومة لائم. ولم يبال بمن عاداه ولم يصلوا إليه بمكروه. وأكثر ما نالوا منه الحبس، مع أنه لم ينقطع في بحث لا بمصر ولا بالشام، ولم يتوجه لهم عليه ما يشين. وإنما أخذوه وحبسوه بالجاه كما سيأتي. انتهى.
قيل: من جملة أسباب حبسه خوفهم أنه ربما يدعي ويطلب الإمارة، فلقي أعداؤه عليه طريقًا من ذلك، فحسَّنُوا للأمراءِ حبسه؛ لسد تلك المسالك.
وكتب الشيخ كمال الدِّين الزَّمْلَكاني: كان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا في مذاهبهم منه أشياء، ولا يعرف أنه ناظر أحدًا فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم سواء كان من علم الشرع أو غيره إلا فاق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها.
قلت: ورأيت في كتاب (النثر الذائب، في الأفراد والغرائب)، من فنون كتاب «الأشباه والنظائر النحوية» للإمام السيوطي عليه الرحمة ما نصه: جواب سؤال سائل عن حرف «لو» لسيدنا وشيخنا الإمام العالم الأوحد، الحافظ المجتهد الزاهد، العابد القدوة، إمام الأئمة، قدوة الأمة، علامة
العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد علماء الدين، بركة الإسلام، حجة الأعلام، برهان المتكلمين، قامع المبتدعين، ذي العلوم الرفيعة، والفنون البديعة، محيي السنة، ومن عظمت به لله تعالى علينا المنة، وقامت به على أعدائه الحجة، واستبانت ببركته وهديه المحجة: تقي الدِّين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني، أعلى الله تعالى مناره، وشيَّد من الدِّين أركانه.
ماذا يقول الواصفون له
…
وصفاته جلَّت عن الحصر
هو حجة لله قاهرة
…
هو بيننا أعجوبة الدهر
هو آية في الخلق ظاهرة
…
أنواره أرْبت على الفجر
نقلت هذه الترجمة من خط العلامة فريد دهره ووحيد عصره: الشيخ كمال الدِّين ابن الزملكاني بسم الله الرحمن الرحيم. نقلت من خط الحافظ علم الدين البرزالي قال: سيدنا وشيخنا الإمام العلامة، القدوة الحافظ الزاهد العابد الورع إمام الأئمة، خير الأمة مفتي الفرق، علامة الهدى، ترجمان القرآن، حسنة الزمان، عمدة الحفاظ، فارس المعاني والألفاظ، ركن الشريعة ذو الفنون البديعة، ناصر السنة، قامع البدعة: تقي الدِّين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني، أدام الله تعالى بركته، ورفع درجته.
الحمد لله الذي علم القرآن، خلق الإنسان علمه البيان؛ وأشهد ألّا إله إلا الله وحده لا شريك له، الباهر البرهان. وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، المبعوث إلى الإنس والجان، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا يرضى به الرحمن.
سألتَ وفقك الله تعالى عن معنى حرف «لو» وكيف يتخرَّج قول عمر رضي الله تعالى عنه: «نعم العبد صُهيب، لو لم يَخَفِ اللهَ لم يعصه» على معناها المعروف.
وذكرت أن الناس يضطربون في ذلك، واقتضيت الجواب اقتضاء أوجب أن أكتب في ذلك ما حضرني الساعة، مع بعد عهدي بما بلغني ما قاله الناس في ذلك، وأنه لا يحضرني الساسعة ما أراجعه في ذلك فأقول
…
اهـ بحروفه.
ثم ساق الإمام السيوطي آخر الجواب إلى نهايته، وأقرَّ المترجم على ترجمته فإن أردته فارجع إلى «الأشباه والنظائر» ، فإن فيه جلاء الأبصار والبصائر
(1)
.
وكتب الحافظ ابن سيد الناس: ألفيته ممن أدرك [من] العلوم حظًّا، وكاد يستوعب السنن والآثار حفظًا، إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته، وإن أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو بالحديث فهو صاحب علمه وذو روايته، أو حاضر بالملل والنحل لم ير أوسع من نحلته، ولا أرفع من درايته، برز في كل علم على أبناء جنسه، ولا رأت عينه مثل نفسه.
وقال ابن الوردي في تاريخه ــ وقد عاصره ورآه ــ: وكانت له خبرة تامة بالرجال وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث مع حفظه لمتونه الذي انفرد به، وهو عجيب في استحضاره واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة والمسند، بحيث يصدق عليه أن
(1)
وكذا المدقق ابن هشام في شرح الشذور، نقل عنه بعض الأقوال النحوية معبرًا عنه بالإمام العلامة، وكذا غيرهما ممن سُلِّمت له الإمامة.
يقال: (كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث)، ولكن الإحاطة لله تعالى. غير أنه يغترف فيه من بحر، وغيره من الأئمة يغترفون من السواقي. وأما التفسير فسلم إليه، وكان يكتب في اليوم والليلة من التفسير أو من الفقه أو من الأصلين أو من الرد على الفلاسفة نحوًا من أربعة كراريس.
وله التآليف العظيمة في كثير من العلوم، وما يبعد أن تصانيفه تبلغ خمس مئة مجلد. وله الباع الطويل في معرفة مذاهب الصحابة والتابعين. قلَّ أن يتكلم في مسألة إلا ويذكر فيها مذاهب الأربعة. وقد خالف الأربعةَ في مسائل معروفة وصنف فيها واحتج لها بالكتاب والسنة. وبقي سنين يفتي بما قام الدليل عنده.
ولقد نصر السنة المحضة والطريقة السلفيَّة. وكان دائم الابتهال، كثير الاستعانة، قوي التوكل، ثابت الجأش. له أوراد وأذكار يديمها، لا يداهن ولا يحابي، محبوبًا عند العلماء والصلحاء، والأمراء والتجار والكبراء، وصار بينه وبين بعض معاصريه وقعات مصرية وشامية لبعض مسائل أفتى فيها بما قامت عنده الأدلة الشرعية. واجتمع بالسلطان محمود غازان السفاك المغتال، وتكلم معه بكلام خشن ولم يهبه. وطلب منه الدعاء فرفع يديه ودعا دعاء منصف أكثره عليه، وغازان يؤمِّن على دعائه. انتهى ملخصًا، وأطال في ترجمته.
وقال العلامة الشيخ عماد لدين الواسطي في حقه بعد ثناء طويل جميل ما لفظه: فوالله، ثم والله لم ير تحت أديم السماء مثل شيخكم ابن تيمية علمًا وعملًا وحالًا وخلقًا واتباعًا وكرمًا وحلمًا، وقيامًا في حق الله تعالى عند انتهاك حرماته، أصدق الناس عقدًا، وأصحهم علمًا وعزمًا، وأنفذهم
وأعلاهم في انتصار الحق وقيامه همة، وأسخاهم كفًّا وأكملهم اتباعًا لنبيه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. ما رأينا في عصرنا هذا من تُستجلى النبوة المحمدية وسننها من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل، يشهد القلب الصحيح أن هذا هو الاتباع حقيقة اهـ.
ونقل في «الشذرات» عن الشيخ تقي الدِّين ابن دقيق العيد، وقد سئل عن الشيخ ابن تيمية بعد اجتماعه به كيف رأيته؟ قال: رأيت رجلًا سائر العلوم بين عينيه، يأخذ ما شاء منها ويترك ما شاء. فقيل له: فلم لا تتناظران؟ قال: لأنه يحب الكلام وأحب السكوت.
وقال ابن مفلح في «طبقاته» : كتب العلامة تقي الدِّين السبكي إلى الحافظ الذهبي في أمر الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية ما نصه: فالمملوك يتحقق قدره وزخارة بحره، وتوسعه في العلوم الشرعية والعقلية، وفرط ذكائه واجتهاده، وأنه بلغ في ذلك كل المبلغ الذي يتجاوزه الوصف، والمملوك يقول ذلك دائمًا. وقدره في نفسي أكبر من ذلك وأجل، مع ما جمعه الله تعالى له من الزهادة والورع، والديانة ونصرة الحق والقيام فيه، لا لغرض سواه، وجريه على سنن السلف، وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى، وغرابة مثله في هذا الزمان بل من أزمان. اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في ترجمته المطنبة: إن الفتنة لما ثارت على الشيخ ابن تيمية من جهة بعض كلماته، تعصب له القاضي الحنفي ونصره. وسكت القاضي الشافعي ولم يكن له ولا عليه. وكان من أعظم القائمين عليه الشيخ نصر بن المنبجي، لأنه كان بلغ ابن تيمية أنه يتعصب لابن عربي، فكتب يعاتبه على ذلك. فما أعجبه، لكونه بالغ في الحط
من
(1)
ابن عربي وتكفيره؛ فصار هو يحط من ابن تيمية؛ ويغري بيبرس الجاشنكير. وكان بيبرس يفرط في محبته ويعظمه. واتفق أن قاضي الحنفية بدمشق وهو شمس الدِّين ابن الحريري انتصر للشيخ ابن تيمية وكتب في حقه محضرًا بالثناء عليه بالعلم والفهم، وكتب به في خطه ثلاثة عشر سطرًا من جملتها: أنه منذ ثلاث مئة سنة ما رأى الناس مثله اهـ.
قلت: وسيأتي إن شاء الله تعالى في كتابنا هذا ما حرره الشيخ ابن تيمية للشيخ نصر بن المنبجي، وما يتعلق بالقاضي السبكي عليهم الرحمة.
ونقل الإمام العسقلاني أيضًا عن الحافظ الذهبي أنه قال: حضر عند شيخنا أبو حيان المفسر فقال: ما رأت عيناي مثل هذا الرجل! ثم مدحه بأبيات ذكر أنه نظمها بديهة، وأنشده إياها وهي:
لما أتانا تقيُّ الدِّين لاح لنا
…
داعٍ إلى الله فَرْدٌ ما له وَزَرُ
على محياه من سيما الألى صحبوا
…
خير البرية نور دونه القمر
حَبْرٌ تسربل منه دهره حِبَرًا
…
بحر تقاذفُ من أمواجه الدرر
قام ابن تيمية في نصر شِرعتنا
…
مقام سيدِ تَيْم إذ عَصَت مُضَرُ
وأظهر الحق إذ آثاره اندرست
…
وأخمد الشر إذ طارت له شرر
يا من يحدث عن علم الكتاب أصخ
…
هذا الإمام الذي قد كان ينتظر
يشير بهذا إلى أنه المجدد ــ وقد صرح بذلك أيضًا العماد الواسطي ــ ثم دار بينهما كلام فجرى ذكر سيبويه فأغلظ الشيخ ابن تيمية القول في سيبويه، فنافره أبو حيان بسببه، ثم عاد ذامًّا له، وصير ذلك ذنبًا لا يغفر.
(1)
(ص) على.
ويقال: إن ابن تيمية قال له: ما كان سيبويه نبي النحو ولا معصومًا، بل أخطأ في «الكتاب» في ثمانين موضعًا ما تفهمها أنت. فكان ذلك سبب مقاطعته إياه. وذكره في تفسيره «البحر» بكل سوء، وكذا في مختصره «النهر» اهـ.
وقد ترجمته علماء المذاهب المعاصرون له وغيرهم بتراجم مفصلة، وأثنوا عليه بالثناء الحسن، وذكروا له كرامات عديدة، ومواظبة على الطاعات والعبادات، وتجنُّبًا عن البدع، وشدة اتباع للسنن وطريقة السلف الصالح. وأنه لم يتزوج حتى مات.
وكان أبيض اللون، أسود الرأس واللحية، قليل الشيب، شعره إلى شحمتي أذنيه، عيناه لسانان ناطقان، رَبْعة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جَهْوَرِيّ الصوت.
وقد ذكر نبذة من اختياراته العلامة ابن رجب المتوفى سنة سبع مئة وخمس وتسعين في «طبقاته» . وفصَّل أيضًا سيرته وأحواله والثناء عليه. وقد توفي سنة سبع مئة وثمان وعشرين، سَحَر ليلة الاثنين عشري ذي القعدة الحرام في السجن، فأخرج إلى جامع دمشق فصلوا عليه، فكان يومًا مشهودًا، لم يعهد بدمشق مثله. وبكى الناس بكاءً شديدًا، وتبركوا بماء غسله، واشتد الزحام على نعشه، ودفن بمقابر الصوفية بعد أن صلوا عليه مرارًا. وحُزِرَ من حضر جنازته بمائتي ألف، ومن النساء بخمسة عشر ألفًا. وختمت له ختمات كثيرة. ورثي بقصائد بليغة. منها بخمسة عشر ألفًا. وختمت له ختمات كثيرة. ورثي بقصائد بليغة. منها قصيدة الشيخ عمر بن الوردي وهي:
عَثَا في عرضه قوم سِلاطُ
…
لهم من نثر جوهره التقاطُ
تقي الدِّين أحمد خير حَبْر
…
خُروق المعضلات به تُخاطُ
توفي وهو محبوس فريد
…
وليس له إلى الدنيا انبساطُ
ولو حضروه حين قَضى لألْفَوْا
…
ملائكة النعيم به أحاطوا
قضى نحبًا وليس له قرين
…
ولا لنظيره لُفَّ القماطُ
فتًى في علمه أضحى فريدًا
…
وحل المشكلات به يُناطُ
وكان إلى التقى يدعو البرايا
…
وينهى فرقةً فسقُوا ولاطوا
وكان الجن تفرَق من سطاه
…
بوعظ للقلوب هو السياطُ
فيا لله ما قد ضمَّ لَحْد
…
ويا لله ما غطَّى البلاطُ
هُم حسدوه لما لم ينالوا
…
مناقبهُ فقد مكروا وشاطوا
وكانوا عن طرائقه كسالى
…
ولكن في أذاه لهم نشاطُ
وحبس الدُّر في الأصداف فخر
…
وعند الشيخ في السجن اغتباط
بآل الهاشمي له اقتداء
…
فقد ذاقوا المنون ولم يواطوا
بنو تيميَّةٍ كانوا فبانوا
…
نجوم العلم أدركها انهباط
ولكن يا ندامة حابسيه
…
فشك الشرك كان به يماط
ويا فرح اليهود بما فعلتم
…
فإن الضد يعجبه الخُباط
ألم يك فيكمو رجل رشيد
…
يرى سَجن الإمام فيستشاط
إمام لا ولاية كان يرجو
…
ولا وَقْفٌ عليه ولا رِباطُ
ولا جاراكمو في كسب مال
…
ولم يُعهد له بكم اختلاط
ففيم سجنتموه وغظتموه
…
أما لِجَزَا أذيَّته اشتراط
وسجن الشيخ لا يرضاه مثلي
…
ففيه لقدر مثلكم انحطاط
أما والله لولا كَتْم سرِّي
…
وخوف الشر لا نحل الرباط
وكنت أقول ما عندي ولكن
…
بأهل العلم ما حسن اشتطاط
فما أحد إلى الإنصاف يدعو
…
وكل في هواه له انخراط
سيظهر قصدكم يا حابسيه
…
وننبئكم إذا نصب الصراط
فها هو مات عنكم واسترحتم
…
فعاطوا ما أردتم أن تعاطوا
وحُلُّوا واعقِدوا من غير رد
…
عليكم وانطوى ذاك البساط
مطلب
فيمن ابتلي وأوذي من العلماء
قلت: وما زال الناس ولا سيما الكبراء والعلماء يُبتلون في الله تعالى ويصبرون. وقد كانت الأنبياء عليهم السلام يقتلون، وأهل الخير في الأمم السالفة يقتلون ويحرقون، وينشر أحدهم بالمنشار وهو ثابت على دينه. ولولا كراهية التطويل لذكرت من ذلك ما يطول.
وقد سُمَّ أبو بكر وقُتل عمر وعثمان وعليّ، وسُمَّ الحسن، وقُتل الحسين وابن الزبير، وصُلب خُبيب بن عدي، وقتل الحجاجُ عبدَالرحمن بن أبي ليلى وسعيدَ بن جبير وغيرهما. وقُتل زيد بن علي.
وأما من ضُرب من كبار العلماء فكثيرون، منهم: عبد الرحمن بن أبي ليلى ــ ضربه الحجاج أربع مئة سوط ثم قتله.
وسعيد بن المسيب ــ ضربه عبد الملك بن مروان مئة سوط، وصبَّ عليه جرة ماء في يوم شاتٍ، وأُلبس جبة صوف.
وخُبيب بن عبد الله بن الزبير، ضربه عمر بن عبد العزيز بأمر الوليد مئة سوط، وذلك أنه حدث عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: إذا بلغ بنوا أبي العاص ثلاثين رجلًا اتخذوا عباد الله خَوَلًا، ومال الله دُوَلًا. فكان
عمر إذا قيل له: أبشر. قال: كيف بخبيب على الطريق! ؟
وأبو عمرو بن العلاء، ضربه بنو أمية خمس مئة سوط.
والإمام موسى الكاظم ــ سجنه هارون حتى مات.
والإمام أبو حنيفة ــ توفي في السجن بعد أن ضُرب. وقيل: أوجِر سمًّا.
والإمام مالك بن أنس، ضربه المنصور
(1)
أيضًا سبعين سوطًا في يمين المكره، وكان مالك يقول: لا يلزمه اليمين.
والإمام أحمد، امتحن وسجن وضرب في أيام بني العباس.
وللشيخ ابن تيمية في هؤلاء الأئمة أسوة. لو أردنا استقصاء ما ذكره معاصروه من الثناء عليه، وبيان سيرته ومفصل أحواله لأفضى بنا إلى الطول، والقلم ــ لا مَلِلْتَ ــ مَلُول، ويكفي من القلادة ما أحاط بالجيد.
فصل
في تبرئة الشيخ مما نسب إليه، وثناء المحققين المتأخرين عليه
(منهم): الفهَّامة ذو العلوم اللدنية، صوفي الفقهاء، وفقيه الصوفية: الشيخ إبراهيم بن حسن الكوراني المدني الشافعي، المتوفى سنة ألف ومئة وواحدة؛ فقد قال في كتابه «إفاضة العلام في تحقيق مسألة الكلام» ما لفظه:
(1)
كذا بالأصل، وهو غير صحيح. والذي في كتب التاريخ: أن الذي ضرب الإمام مالكًا هو جعفر بن سليمان والي المدينة من قبل المنصور وابن عمه. ولما علم المنصور بضرب الإمام وما نزل به أعظم ذلك إعظامًا شديدًا، وأنكره على ابن عمه وكتب بعزله، واعتذر للإمام مالك (م).
وفيما نقلناه من نصوصه ــ يعني ابن تيمية ــ وقررناه على وجه موافق للكتاب والسنة وعقيدة السلف؛ كفاية لبيان حاله في اعتقاده، وبراءة ساحته من القول بالتجسيم، والقول بالجهة على الوجه المحذور عند كل لبيب منصف.
ثم قال: ثم إن ابن القيم وإن كان على عقيدة شيخه كما عند المشنعين عليهما، فتبرئة شيخه عما نسب إليه تبرئة له أيضًا، وتصحيح اعتقاده وتطبيقه على الكتاب والسنة وعقيدة السلف، تصحيح لاعتقاده وتطبيق.
ولكنا ننقل من كلامه ما يؤكد ذلك إلى آخر ما قال، مما أطنب فيه وأطاب بما يزيل الإشكال.
(ومنهم) أمير المؤمنين في الحديث، علامة العراق الشيخ علي أفندي السويدي البغدادي الشافعي؛ فإنه قد كتب على عبارة السبكي في التشنيع على الشيخ ابن تيمية ما نصه:
هذه الدعوى من السبكي تحتاج إلى بيِّنة، مع أن نصوص المتقدمين وأحوالهم تخالفه؛ وعلى تقدير الجواز فكيف يقال بحقه: إنه عدل عن الصراط المستقيم؛ فكيف يعدل عن الصراط المستقيم من يقصر التوجه على الرب المتعال؟ فلا وجه لرد السبكي عليه بمثل هذا الكلام. مع اقتفاء ابن تيمية طريق خاتم الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام. انتهى ملخصًا.
وقد نقله عنه ولده العلامة الشيخ محمد الأمين في شرح كتابه «العقد الثمين» وأقرّه.
(ومنهم) شيخنا ومولانا الوالد عليه الرحمة والرضوان، فإنه قال في رسالته الاعتقادية ما نصه: ولقد اطلعت على رسالة للشيخ ابن تيمية، وهي معتبرة عند
الحنابلة، وطالعتها كلها فلم أر فيها شيئًا مما يُنبز ويرمى به في العقائد، سوى ما ذكرنا من تشديده في رد التأويل، وتمسكه بالظواهر؛ مع التفويض والمبالغة في التنزيه، مبالغة يُقطع معها بأنه لا يعتقد تجسيمًا ولا تشبيهًا؛ بل يصرح بذلك تصريحًا لا خفاء فيه. والعجب ممن يترك صريح لفظه بنفي التشبيه والتجسيم، ويأخذ بلازم قوله الذي لا يقول به، ولا يسلم لزومه. وعلى كل حال فهو كما قال كثير من المشايخ في الشيخ محيي الدين. اهـ.
وقال أيضًا في رحلته «نزهة الألباب» عندما سأله في القسطنطينية المحمية شيخ الإسلام عن أمر المتشابه ما نصه: ثم انجر الكلام إلى ابن تيمية فقال: إنه قائل بالجسمية؛ فقلت: حاشاه! ومذهبه في المجسم أنه مطلقًا غير مسلم. فقال: إنه يقول العرش قديم نوعًا؛ فقلت: لم نجد لنسبته إليه من غير الدواني نقلًا يليق أن يمنح سمعًا. فقال: له مخالفة للأئمة الأربعة في بعض المسائل الفقهية؛ فقلت: شبهته في تلك المخالفة بحسب الظاهر قوية، وله في بعض ذلك سلف، كما يعرفه من تتبع المذاهب ووقف، وقد مدحه غير واحد من العلماء الأعلام. وقد سمعت من شيخي أنه رأى كتابًا في ترجمة من لقبه بشيخ الإسلام. فقال: قد ذمه العلامة السبكي؛ فقلت: كم من جليل غدا مِن ذمّ عصْرِيّه يبكي! فآهٍ من أكثر المعاصرين. فهم بأيدي ظلمهم لحبات القلوب عاصرين. اهـ.
ثم ذكر ما قاله العلماء في المتشابه، فإن أردته فارجع إليه.
(ومنهم) عالم بلد الله الحرام، والمشاعر العظام، الملا علي الهروي القاري؛ فإنه أثنى عليه، وبرأه مما نسب إليه في «شرحه الشمائل» وغيره من تأليفاته.
(ومنهم) أبو عبد الله محمد بن جمال الدِّين يوسف الشافعي اليافعي اليمني.
(ومنهم) شيخنا السيد العلامة أبو الطيب الحسيني البخاري القنوجي، فسح الله تعالى في مدته؛ فإنه ترجم له ترجمة حافلة في كتابه "إتحاف النبلاء المتقين" و"أبجد العلوم" وأثنى عليه ثناءً كريمًا، وذكر كلام أهل الفتيا من أصحاب المذاهب الأربعة في الثناء عليه؛ منهم: العيني الحنفي، وأطال فيه إلى أوراق.
(ومنهم) كثيرون يطول الكتاب بذكرهم؛ فمن أراد أن يستوعب طيب نشرهم، فليرجع إلى كتب التواريخ والطبقات، فإن فيها المطالب المفصلات.
* * * *