الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبعد هذا العرض يبقى عندنا نوعان من الكتب والدراسات:
النوع الأول: كتب وردت فيها معلومات وشذرات تتعلق بحياة شيخ الإسلام، فمنها ما هو في كتب الشيخ نفسِه، وقد تصدَّى لجمع ذلك أحد طلبة العلم، على ما أخبرنا به الشيخ بَكْر أبو زَيْد.
ومنها ما هو منثور في كتب أصحابه وتلاميذه ومن بعدهم، خاصة كتب العلامة ابن القيم، وقد كنا تصدينا لجمع هذا الصنف فحصلنا على نقول وفيرة ونصوص عزيزة، وقد أدرجناها هنا بَادِئ ذِي بَدْء، ثم عدلنا عن هذا ورأينا أن تفرَد ببحث مستقلٍّ. ثم رأينا أن نجمع كلام ابن القيم عن شيخه، فنشرناه أولًا في تكملة الجامع، ثم ضممناه هنا.
النوع الثاني: البحوث والدراسات الحديثة عن شيخ الإسلام في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، لم نذكر شيئًا منها هنا، وهي كثرة كاثرة تصلح أن تفرَد ببحث ــ أيضًا ــ. وقد جمع منها الكثير الأستاذ بدر الغامدي في رسالة بعنوان «مسرد الدراسات عن ابن تيمية وعلومه» ذكر منها 984 عنوانًا.
-
منهج العمل:
كانت فكرة حَصْر مصادر ترجمة شيخ الإسلام المفردة والمضمَّنة كتب التواريخ ونحوها، سواء المخطوط والمطبوع، هي بداية هذا العمل ونواته وكان ذلك قبل خمس سنوات، فلما اكتملَ الجمعُ، رأينا أن نضم شمل هذه الترجمات، لتكون في سِفْرٍ واحد أمام نظر المطالع، ولا يخفى ما في ذلك من عظيم الفائدة وجليل الأثر ــ وقد تقدَّم ــ.
ويتلَخّص عملنا في إثبات هذه النصوص في النقاط الآتية:
1 -
الفترة الزمنية لهذه الترجمات تبدأ من حياة شيخ الإسلام، حيث كانت أول ترجمةٍ وقفنا عليها هي لابن شيخ الحزَّامِين (711) ــ أي في حياة الشيخ ــ وتنتهي بنهاية القرن الثالث عشر الهجري سنة (1300)، وكانت آخر التراجم لنعمان خير الدِّين الآلوسي (1317) وذلك في كتابه «جلاء العينين» ، وقد ألفه قبل نهاية القرن سنة 1297.
2 -
لم نُدْخِل في مجموعتنا هذه التراجمَ المفردةَ؛ لأنها تعدُّ قائمة بنفسها كـ «العقود الدرية» لابن عبد الهادي ــ وهو أوسعها ــ و «الكواكب الدرية» لمرعي الكرمي وغيرهما مما تقدَّم إحصاؤه قريبًا.
3 -
راعينا في إثبات هذه النصوص تواريخ وَفَيَات مؤلفيها، ومن لم تتبيّن وفاتُهُ؛ اجتهدنا في إثباتها في مكانها الملائم.
4 -
أثبتنا هذه النصوص بتمامها دون حذفٍ أو اختصارٍ أو تصرُّف وأشرنا في الحاشية إلى مصدر هذه الترجمة سواء المطبوع أو المخطوط، مع ذكر مكان الطبع وتاريخه، ورقم المخطوط ومكان وجوده.
ونحن إذ نثبت هذه التراجم برمتها، بعُجَرِها وبُجَرِها، وحقها وباطلها، فإن ذلك لأمور:
الأول: للاطلاع عليها فَيُعْرَف المنصِف من المجحف، فيُؤخَذ الحقُّ ويبقى، وأما الباطل فيذهب جُفَاءً.
الثاني: للنظر فيما يتعرَّض له أولياء الله، وعلماء الإسلام المجاهدون من صنوف الأذى؛ من تعذيب وحَبْس وطَعْن، وغيرها من أنواع الابتلاءات، ثم ما واجهوا به ذلك كله من الصبر والرِّضا، شأنهم شأن رسل الله الكرام، قال
تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34].
وقال صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» .
وأن ما يقع من الكلام عليهم بالباطل والهوى والتقليد؛ ما هو إلا زيادة في حسناتهم ورِفعة في درجاتهم ــ إن شاء الله تعالى ــ وأنَّ ذلك لا يضرهم عند الله ولا عند الناس.
وأن من كان منهم ــ أي الذَّامين ــ مقلدًا في الذم والطعن لمن سبقه؛ فقد تبينت الآن حقائق الأمور، ورجع المنصف عن قدحه، وأما من بقيَ من الخلف ذامًّا شانئًا؛ فما هو إلا مبتدعٌ صاحب هوى في الغالب، أو غير مطلع على جليَّات الأمور وحقائقها، فحُقَّ للشيخ أن يتمثَّل بقول الشاعر:
أثريتُ مَجْدًا فَلَمْ أعْبأ بما سَلَبَتْ
…
أيدي الحَوَادثِ مِنِّي فهو مُكتَسَبُ
وبقوله:
فَمَاذا على الأعداءِ أن يتقوَّلوا
…
عَلَيَّ وَعِرْضي نَاصِح الجيبِ وَافِرُ
وبقوله:
راجَعْتُ فِهْرِس آثارِي فما لَمَحت
…
بصيرتي فيه ما يُزْرِي بأعْمَالي
الثالث: فوائد أخرى ذكرناها عند الحديث عن فوائد هذا العمل (ص 58 - 60).
5 -
صححنا هذه الترجمات جميعًا، وقمنا بمقابلة بعضها على بعض عند وقوع تحريف أو تصحيف، وذلك رجاء الوصول إلى نصٍّ أقربَ إلى السلامة، ورجعنا في أثناء ذلك إلى عدة طبعاتٍ للكتاب، وكتب أخرى مساعدة.
ولم نُشِر إلى تلكم الأخطاء لكثرتها وشيوعها، إلا في النادر لقصدٍ، حتى الطبعات المحققة لم تَخْلُ من كثيرٍ من التصحيفات! !
أما ما كان له وجهٌ في العربية أو المعنى؛ فلم نتصرَّف فيه، بل أبقيناه كما هو، مع الإشارة إلى ذلك.
6 -
بذلنا غايةَ الوُسْع في التصحيح إلا أنه قد بقي في النصوص بعض العبارات التي لا تخلو من إشكال، ولم نهتدِ إلى صوابها، أو إلى تحرير معناها.
7 -
كان الوُكد منصبًّا على ما سبق من النقاط، فلم نلتفت إلى التعليق على النصوص، إلا عند الحاجة المُلِحَّة، وكان ذلك بعبارة وجيزة تكفي المنصِف.
8 -
ألحقنا بالكتاب ثلاثة فهارس:
أـ فهرس موضوعيّ تفصيلي دقيق، مُقسّم بعناية إلى فقرات، منذ ولادة شيخ الإسلام وحتى وفاته، ونذكر تحت كلِّ فِقْرةٍ منها أماكن وجودها وتكررها في جميع كتب هذا «الجامع» ، فيمكن القارئ أو الباحث أن يصنع ترجمةً للشيخ من خلال هذا الفهرس، تحتوي على أدقِّ التفاصيل في حياته.
ب ــ فهرس لكتب شيخ الإسلام الواردة في نصوص هذا «الجامع» مرتبًا على حروف الهجاء.
جـ ــ فهرس الكتب المضمّنة هذا «الجامع» .
وختامًا نحمد الله على توفيقنا لإنجاز هذا العمل، الذي نرجو أن يكون رائدًا في بابه، يستعينُ به كلُّ دارسٍ عن شيخ الإسلام، أو باحث في تراجم المجددين العِظام.
ولا يفوتنا أن نتقدم بخالص الشكر والدعاء لكل من أسهم في إنجاح هذا الكتاب وهم كثير، ونخص بالذكر هنا فضيلة العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد ــ وفقه الله لمراضيه ــ فقد كان متابعًا للعمل من بواكيره وحتى تم على سوقه. وكذلك الشيخ الدكتور صالح بن حامد الرفاعي الذي أتحفنا ببعض الترجمات، جزى الله الجميع خيرًا، وكتب ذلك في موازين حسناتهم، إنَّه وليُّ ذلك والقادر عليه. وندعو القراء والباحثين إلى إفادتنا باقتراحاتهم وآرائهم، أو بما فاتنا من ترجمات الشيخ، فالعلم رحمٌ بين أهله، والمؤمن مرآة أخيه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمَّد.
وكتب
محمد عُزَير شَمْس وعليُّ بن محمد العِمْرَان
في مكة المكرمة ــ حرسها الله تعالى ــ
نماذج من المصادر المخطوطة
تعليقات البرزالي لسماعاته على شيوخه
لقطة العجلان؛ لعبد الباقي اليمني
ذيل تاريخ الإسلام (تشستربتي) للذهبي
ذيل تاريخ الإسلام (ليدن) للذهبي
أسماء مؤلفات شيخ الإسلام، لابن رشيق
مسالك الأبصار، لابن فضل الله
الإيصال، لمغلطاي
أعيان العصر، للصفدي
عيون التواريخ، لابن شاكر
نثر الجمان، للفيومي
نزهة العيون، للأفضل الرسولي
درة الأسلاك، لابن حبيب
العقد الفاخر الحسن، للخزرجي
التبيان لبديعة الزمان، لابن ناصر الدِّين
[ميكروفلم بجامعة أم القرى]
…
[نسخة عارف حكمت]
مختصر طبقات الحنابلة، لابن نصر الله الحنبلي
عِقد الجمان، للعيني
دستور الأعلام، لابن عَزَم
قِلادة النحر، لبامخرمة
…
الدر المكنون لياسين الموصلي
الجامع لِسِيرَة شيخِ الإسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ خلال سَبعَة قرون
جمَعَه ووضع فهارسَه
محمد عزير شمس وعلي بن محمد العمران
إشراف وتقديم
بكر بن عبد الله أبو زيد
التَّذْكِرةُ والاعْتِبَارُ والانْتِصَارُ للأبْرَارِ
(1)
للعلّامة أحمد بن إبراهيم الواسطيّ المعروف بابن شيخ الحَزَّامين (711)
الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
الحمدُ لله وسبحان الله وبحمده، وتقدَّس في عُلُوِّه وجلاله، وتعالى في صفات كماله، وتعالى في سُبُحات فردانيَّتِهِ وجماله، وتكرّم في إفضاله نَواله، جَلَّ أن يُمثَّل بشيء من مخلوقاته، أو يُحاط به، بل هو المحيطُ بمبتدعاته، لا تَصَوَّرُهُ الأوهام، ولا تُقلُّه الأجرامُ، ولا تَعقل كُنْهَ ذاته البصائر ولا الأفهام.
الحمدُ لله مؤيِّد الحقِّ وناصره، ودافعِ الباطل وكاسره، ومُعزِّ الطائع وجابره، ومُذلِّ الباغي ودائره، الذي سَعِد بحضرة الاقتراب من قُدُسه مَن قام بأعباء الاتباع في بنائه وأُسِّه، وفاز بمحبوبيتِهِ في ميادين أُنسه مَنْ بذل ما يهواه في طلبه من قلبه وحسِّه، وتثَبَّت في مَهامِهِ الشكوك منتظرًا زوال لَبْسِهِ، سبحانه وبحمده وله المَثَلُ الأعلى، والنورُ الأتمُّ الأجلى، والبرهان الظاهر في الشريعة المُثلى.
وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الذي شهدت بوحدانيته الفِطَرُ، وأسلم لربوبيته ذوو العقل والنظر، وظهرت أحكامه في الآي والسور، وتمَّ اقتداره في تنزُّل القَدَر.
وأشهد أن محمدًا صلى الله عليه وسلم عبدُه ورسولُه، الذي شهدت بنبوته الهواتفُ
(1)
ساقه ابن عبد الهادي بتمامه في «العقود الدُّرية» (ص 356 - 387) وطبع مستقلًّا مرَّات.
والأحْبار، فكان قبل ظهوره يُنْتَظر، وتلاحقت عند مبعثه معجزاته من حنين الجِذع وانقياد الشجر، صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل الخشية والحذر، والعلم المُنَوَّر، فهم قدوة التابع للأثر.
وبعد:
فهذه رسالة سَطَرَها العبد الضعيف الراجي رحمة ربه وغفرانه، وكرمه وامتنانه: أحمدُ بن إبراهيمَ الواسِطي، عامله الله بما هو أهله، فإنه أهل التقوى والمغفرة. إلى إخوانه في الله السَّادة العلماء، والأئمة الأتقياء، ذوي العلم النافع، والقلب الخاشع، والنور الساطع، الذين كساهم الله كسوةَ الاتباع، وأرجو مِنْ كرمه أن يحققهم بحقائق الانتفاع:
السيد الأجَلِّ العالم، الفاضل فخر المُحدِّثين، ومصباح المتعبدين، المتوجه إلى رب العالمين، تقي الدِّين أبي حَفْص عمر بن عبد الله بن عبد الأحد بن شُقَيْر.
والشيخ الأجَلِّ، العالم الفاضل السالك الناسك ذي العلم والعَمَل، المُكتسي من الصفات الحميدة أجمل الحُلَل، الشيخ شمس الدِّين محمد بن عبد الأحد الآمِدي.
والسيد الأخ، العالم الفاضل، السالك الناسكِ، التقيِّ الصالح، الذي سيما نورِ قلبه لائحٌ على صفحات وجهه، شرف الدِّين محمد ابن المُنَجَّى.
والسيد الأخ، الفقيه العالم النبيل، الفاضل فخر المحدّثين، زين الدين، عبد الرحمن بن محمود بن عُبيْدان البَعْلَبَكِّي.
والسيد الأخ، العالم الفاضل، السالك الناسك، ذي اللُّبِّ الراجح
والعمل الصالح، والسكينة الوافرة، والفضيلة الغامرة، نور الدِّين محمد بن محمد بن محمد بن الصَّائِغ.
وأخيه السيد الأخ، العالم التقي الصالح، الخيِّر الدَّيِّن، العامل الثقة، الأمين الراجح، ذي السَّمْت الحسن، والدين المتين في اتباع السُّننِ، فخر الدِّين محمد.
والأخ العزيز الصالح، الطالب لطريق ربه، والراغب في مرضاته وحُبه، العالم الفاضل، الولد شرف الدِّين محمد بن سعد الدِّين سعد الله ابن بُخَيْخٍ
(1)
.
وغيرهم من اللائذين بحضرة شيخهم وشيخنا السيد الإمام، الأمَّة الهُمام، مُحيي السنة، وقامع البدعة، ناصر الحديث، ومُفتي الفرق، الفاتق عن الحقائق، ومؤصَّلها بالأُصول الشرعية للطالب الذائق، الجامع بين الظاهر والباطن، فهو يَقْضي بالحق ظاهرًا، وقلبُه في العلى قاطن، أُنموذج الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، الذين غابت عن القلوب سيرُهم، ونسيتِ الأمةُ حذْوَهم وسُبُلَهُم، فذكرهم بها الشيخُ، فكان في دارسِ نهجهم سالكًا، ولموَات حذوهم مُحييًا، وَلأعِنَّةِ قواعدهم مالكًا: الشيخ الإمام تقي الدِّين أبو العباس، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تَيْمِيَّةَ، أعاد الله بركته، ورفع إلى مدارج العلى درجته، وأدام توفيق السَّادة المبدوءِ بذكرهم وتسديدهم، وأجزل لهم حظَّهم، ومزيدَهم.
(1)
بموحّدة، ثم خاء معجمة، ثم ياء مثناة من تحت، آخره خاء معجمة. ضبطه ابن ناصر الدِّين في «توضيح المشتبه» (1/ 369).
السلام عليكم معشر الإخوان ورحمة الله وبركاته، جَعَلَنا الله وإياكم ممن ثبت على قَرْع نوائب الحق جأشَه، واحتسب لله ما بذله من نفسه في إقامة دينه، وما احْتَوَشَهُ من ذلك وحاشَه، واحتذى حذو السُّبَّق الأولين، من المهاجرين والأنصار، والذين لم تأخذهم في الله لومةُ لائم، فما ضَرَّهم مَنْ خذلهم ولا مَن خالفَهم، مَعَ قِلَّةِ عددهم في أوَّل الأمر، فكانوا ــ مع ذلك ــ كلٌّ منهم مجاهد بدين الله قائم، ونرجو من كرم الله تعالى أنْ يُوفِّقَنا لأعمالهم، ويرزق قلوبنا قِسطًا من أحوالهم، ويَنْظِمَنا في سِلكهم، تحت سَنْجقهم ولوائهم، مع قائدهم وإمامهم سيد المرسلين، وإمام المتقين، محمدٍ صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أُذّكِّرُكُم ــ رَحمكُم الله ــ ما أنتم به عالمون، عملًا بقوله تعالى:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55].
وأبدأُ مِن ذلك بأن أُوصي نفسي وإياكم بتقوى الله، وهي وصية الله تعالى إلينا وإلى الأمم مِن قَبْلنا، كما بَيَّنَ سبحانه وتعالى قائلًا وموصيًا:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131].
وقد علمتم تفاصيل التقوى على الجوارح والقلوب، بحَسَبِ الأوقاتِ والأحوال: من الأقوال، والأعمال، والإرادات، والنِّيَّاتِ.
وينبغي لنا جميعًا أن لا نقنعَ من الأعمال بصوَرِها حتى نطالبَ قلوبَنا بين يدي الله تعالى بحقائقها؛ ومع ذلك فلتكن لنا همة عُلْوِيَّةٌ، تترامى إلى أوطان القُرْبِ، والمحبوبية والحُبُّ، فالسعيدُ من حَظِيَ مِن ذلك بنصيب، وكان مولاه منه على سائر الأحوال قريبًا بخصوص التقريب، فيكتسي
العبدُ من ذلك ثمرةَ الخشية والتعظيم، للعزيز العظيم، فالحبُّ والخشية ثابتان في الكتاب العزيز والسنة المأثورة، قال تعالى:{بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ} [المائدة: 54]{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] وفي الحديث: «أسألك حبَّك وحبَّ من أحبك وحبَّ عمل يُقَرِّبني إلى حبك» وفي الحديث: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتُم كثيرًا، ولخرجتم إلى الصُّعُداتِ تجأرون إلى الله» .
ومعلومٌ أن الناس يتفاوتون في مقامات الحب والخشية، في مقام أعلى من مقام، ونصيبٍ أرفعَ مِن نصيب، فلتكن همةُ أحدِنا من مقامات الحب والخشية أعلاه، ولا يقنع إلا بِذرْوَتِهِ وذُراه، فالهمم القصيرةُ تقنع بأيسر نصيب، والهِمَمُ العَليَّةُ تعلو مع الأنفاس إلى قُرْب الحبيب، لا يَشْغَلنا عن ذلك ما هو دونه من الفضائل، والعاقلُ لا يقنع بأمر مفضول عن حال فاضل، ولتكن الهمةُ مُنقسمةً على نَيْل المراتب الظاهرة، وتحصيل المقامات الباطنة، فليس من الإنصاف الانصبَابُ إلى الظواهر والتشاغل عن المطالِب العُلْوِيَّة ذوات الأنوار البواهر.
وليكن لنا جميعًا بين الليل والنهار ساعة، نخلو فيها بربِّنا جل اسمه وتعالى قُدسه، نجمع بين يديه في تلك الساعة هُمومَنا، وَنَطَّرِحُ أشغالَ الدنيا عن قلوبنا، فنزهد فيما سوى الله ساعة من نهار، فبذلك يعرف الإنسانُ حالَه مَعَ رَبِّهِ، فَمَنْ كان له مع رَبِّهِ حالٌ، تَحَرَّكتْ في تلك الساعة عزائمُه، وابتهجت بالمحبة والتعظيم سرائرُه، وطارت إلى العلى زَفَراتُه وكوامِنُهُ، وتلك الساعة أُنموذجٌ لحالة العبد في قبره، حين خُلُوِّه عن ماله وحِبِّه، فمن لم يُخْلِ قلبَه لله ساعةً من نهار، لما احْتَوَشَه من الهموم الدنيويةِ وذوات الآصار، فليعلم أنه
ليس له ثَمَّ رابطةٌ علوية، ولا نصيبٌ من المحبة ولا المحبوبية، فليبكِ على نفسه، ولا يرضَ منها إلا بنصيب من قُرب ربه وأُنْسهِ.
فإذا خَلَصَتْ لله تلك الساعةُ، أمكن إيقاعُ الصلوات الخمس على نمطها من الحضور والخشوع، والهيبة للرب العظيم في السجود والركوع.
فلا ينبغي لنا أن نَبْخَل على أنفسنا في اليوم والليلة من أربع وعشرين ساعةً بساعة واحِدَة لله الواحد القهار، نعبدُه فيها حَقَّ عبادته، ثم نجتهد على إيقاع الفرائض والتهجد على ذلك النهج في رعايته، وذلك طريقٌ لنا جميعًا إن شاء الله تعالى إلى الفوز، فالفقيه إذا لم ينفُذْ في علمه حَصَلَ له الشَّطْرُ الظاهر، وَفَاتَهُ الشَّطْرُ الباطن، لاتِّصاف قلبه بالجمود، وبُعْدِهِ في العبادة والتلاوة عن لين القلوب والجلود، كما قال تعالى:{تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23] وبذلك يرتقي الفقيهُ عن فقهاءِ عصرنا، ويتميَّزُ به عنهم، فالنافذ من الفقهاء له البصيرة المُنوَّرة، والذَّوق الصحيح، والفراسة الصادقة، والمعرفة التامة، والشهادة على غيره بصحيح الأعمال وسقيمها، وَمَنْ لم يَنْفُذْ لم تكن له هذه الخصوصية، وأبْصَرَ بعضَ الأشياء وغاب عنه بعضها.
فيتعينُ علينا جميعًا طلبُ النفوذ إلى حضرة قُربِ المعبود، ولقائه بذوق الإيقان، لنعبدَه كأنَّنا نراه، كما جاء في الحديث.
وذلك بعدَ الحَظْوَةِ في هذه الدار بلقاءِ الرسول صلى الله عليه وسلم غيبًا في غيب، وسِرًّا في سِرٍّ، بالعُكُوف على معرفة أيامه وسننه واتِّباعها، فتبقى البصيرةُ شاخصةً إليه، تراه عيانًا في الغيب، كأنها معه صلى الله عليه وسلم، وفي أيامه، فيجاهدُ على دينه، ويبذل ما استطاع من نفسه في نُصْرتِه.
وكذلك مَنْ سَلَك في طريق النفوذ يُرجَى له أنْ يلقَى ربّه بقلبه غيبًا في غيب، وسرًّا في سرٍّ، فيُرْزَقُ القلبُ قسطًا من المحبة والخشْيةِ والتعظيم، فيرى الحقائقَ بقلبه من وراء سترٍ رقيق، وذلك هو المُعَبَّرُ عنه بالنفوذ، ويصل إلى قلبه من وراء ذلك الستر ما يغمُرُه من أنوار العَظَمة والجلال، والبهاء والكمال، فيتنوَّر العلمُ الذي اكتسبه العبد، ويبقى له كيفيةٌ أخرى زائدةٌ عَلَى الكيفية المعهودة من البهجة والأُنس والقوة في الإعلان والإسرار.
فلا ينبغي لنا أن نتشاغلَ عن نَيْلِ هذه الموهبة السَّنِيَّةِ، بشواغل الدنيا وهُمومها، فنَنْقَطِعَ بذلك ــ كما تقدم ــ بالشيء المفضول عن الأمر المهم الفاضل، فإذا سَلَكْنا في ذلك برهة من الزمان، ورزقَنا الله تعالى نفوذًا، وتمكَّنَّا في ذلك النُّفوذِ فلا تعودُ هذه العوارضُ الجزيئاتُ الكونياتُ تُؤثِّر فينا إنْ شاء الله تعالى، وليكن شأنُ أحدنا اليوم: التعديلَ بين المصالح الدنيوية والفضائل العلمية، والتوجُّهات القلبية، ولا يقنع أحدُنا بأحد هذه الثلاثة عن الآخَرَيْنِ، فيفوتَه المطلوبُ، ومتى اجتهد في التعديل فإنه ــ إن شاء الله تعالى ــ بِقَدْرِ ما يحصل للعبد جزءٌ من أحدهم، حصَّل جزءًا من الآخر، ثم بالصبر عَلَى ذلك تجتمعُ الأجزاء المُحصَّلة، فتصير مرتبة عالية عند النهائية ــ إن شاء الله تعالى ــ.
هذا، وإن كنتم ــ أيدكم الله تعالى ــ بذلك عالمين، لكنَّ الذكرى تنفع المؤمنين.
فصل
واعلموا ــ أيدكم الله ــ أنه يجب عليكم أن تشكروا ربكم تعالى في هذا العصر، حيث جعلكم بين جميع أهل هذا العصر كالشامة البيضاء في الحيوان
الأسود، لكنَّ مَنْ لم يسافر إلى الأقطار، ولم يتعرف أحوال الناس، لا يدري قَدْرَ ما هو فيه من العافية، فأنتم ــ إن شاء الله تعالى ــ في حقِّ هذه الأمة الأولى كما قال تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، وكما قال تعالى:{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41].
أصبحتم إخواني تحت سَنْجق
(1)
رسول الله صلى الله عليه وسلم ــ إن شاء الله تعالى ــ مع شيخكم وإمامكم، شيخِنا وإمامنا المبدوءِ بذكره رضي الله عنه، قد تميزتم عن جميع أهل الأرض من فقهائها وفقرائها، وصوفيتها، وعوامِّها= بالدين الصحيح.
وقد عرفتم ما أحدث الناسُ من الأحداث، في الفقهاء والفقراء والصوفية والعوام، فأنتم اليوم في مقابلة الجَهْمِيَّةِ من الفقهاء، نصرتم الله ورسولَه في حفظ الله ما أضاعوه من دين الله، تُصلحون ما أفسدوه من تعطيل صفات الله.
وأنتم أيضًا في مقابلة مَن لم يَنْفُذْ في علمه من الفقهاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجمد على مجرد تقليد الأئمة فإنكم قد نصرتم الله ورسولَه في تنفيذ العلم إلى أصوله من الكتاب والسنة، واتخاذ أقوال الأئمة، تأنُّسًا بهم لا تقليدًا لهم.
وأنتم أيضًا في مقابلة ما أحدَثَتْه أنواع الفقراء من الأحمدية والحريرية من إظهار شعار المُكاء والتَصْدِية ومؤاخاة النساء والصبيان، والإعراض عن دين
(1)
أي: تحت رايته.
الله إلى خرافات مكذوبة عن مشايخهم، واستنادهم إلى شيوخهم وتقليدهم في صائب حركاتهم وخطئها، وإعراضهم عن دين الله الذي أنزله من السماء، فأنتم بحمد الله تُجاهدون هذا الصِّنْفَ أيضًا كما تجاهدون مَنْ سبق، حفظتم من دين الله ما أضاعوه، وعرفتم ما جهلوه، تُقَوِّمون من الدِّين ما عَوَّجوه، وتُصلحون منه ما أفسدوه.
وأنتم أيضًا في مقابلة رَسْمِيَّة الصوفية والفقهاء، وما أحدثوه من الرسوم الوضعية، والآصار الابتداعية، من التصنُّع باللباس، والإطراق والسجادة لنيل الرزق من المعلوم، ولُبْسِ البقيار، والأكمام الواسعة في حَضْرةِ الدرس، وتنميق الكلام، والعَدْو بين يدي المدرس راكعين، حِفْظًا للمناصب، واستجلابًا للرزق والإدْرار! !
فخلط هؤلاء في عبادة الله غيرَه، وتألَّهوا سواه، ففسدت قلوبُهم من حيثُ لا يشعرون، يجتمعون لغير الله، بل للمعلوم
(1)
، ويلبسون للمعلوم، وكذلك في أغلب حركاتهم يراعون ولاةَ المعلوم، فضيَّعوا كثيرًا من دين الله وأماتوه، وحفظتم أنتم ما ضيَّعوه، وقوَّمتم ما عوَّجوه.
وكذلك أنتم في مقابلة ما أحدثته الزنادقةُ من الفقراء والصوفية من قولهم بالحلول والاتحاد، وتأله المخلوقات. كاليونُسية، والعَرَبية، والصَّدْرية، والسَّبْعينية، والسعدية، والتِّلِمْسَانية.
فكلُّ هؤلاء بَدَّلوا دينَ الله تعالى وَقَلبوه، وأعرضوا عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1)
أي: لما يأخذونه من زهيد المال.
فاليونُسية: يتألهون شيخَهم، ويجعلونه مظهرًا للحق، ويستهينون بالعبادات، ويظهرون بالفَرْعَنة والصَّوْلةِ، والسفاهة والمُحالات، لِمَا وَقَرَ في بواطنهم من الخيالات الفاسدة، وقِبْلَتُهُمُ الشيخُ يونُس.
ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم والقرآن المجيد عنهم بمعزِلٍ، يُؤمنون به بألسنتهم، ويكفرون به بأفعالهم.
وكذلك الاتحاديةُ، يجعلون الوجودَ مَظْهَرًا للحق، باعتبار أن المُتحرِّك في الكون سواه، والناطق في الأشخاص غيرُه، وفيهم مَنْ لا يفرق بين الظاهر والمظهر، فيجعلُ الأمرَ كموجِ البحر، فلا يُفرّقُ بين عين الموجة وبين عين البحر، حتى إن أحدهم يتوهَّم أنه الله، فينطق على لسانه، ثم يفعل ما أراد من الفواحش والمعاصي لأنه يعتقد ارتفاعَ المثنوية، فمَنِ العابد ومَنِ المعبود؟ صار الكلُّ واحدًا! ! اجتمعنا بهذا الصنف في الرُّبُط والزوايا! !
فأنتم بحمد الله قائمون في وجه هؤلاء أيضًا تنصرون الله ورسوله، وتذبُّون عن دينه، وتعملون على إصلاح ما أفسدوا وعلى تقويم ما عَوَّجوا، فإن هؤلاء مَحَوْا رَسْمَ الدِّين وقَلعوا أثره، فلا يُقال: أفسدوا ولا عَوَّجوا بل بالغوا في هدم الدِّين ومَحْوِ أثَرِهِ، ولا قُربةَ أفضلُ عند الله من القيام بجهاد هؤلاء بِمهما أمكن، وتبيين مذاهبهم للخاص والعام، وكذلك جهاد كل من ألحد في دين الله وزاغ عن حدوده وشريعته، كائنًا في ذلك ما كان من فتنة وقول، كما قيل:
إذا رَضِيَ الحبيبُ فلا أُبالي
…
أقام الحيُّ أم جَدَّ الرَّحيل
وبالله المستعان.
وكذلك أنتم بحمد الله قائمون بجهاد الأمراء والأجناد، تصلحون ما أفسدوا من المظالم والإجحافات، وسوء السيرة الناشئة عن الجهل بدين الله بما أمكن، وذلك لبعد العهد عن دين رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن اليوم له سبع مئة سنة، فأنتم بحمد الله تجددون ما دَثَرَ من ذلك بل يجدد الله بكم وبشيخكم إن شاء الله ما عفا من ذلك ودثر.
وكذلك أنتم بحمد الله قائمون في وجوه العامة، مما أحدثوا من تعظيم الميلاد، والقَلَنْدس، وخميس البيض، والشَّعانين
(1)
، وتقبيل القبور والأحجار، والتوسل عندها.
ومعلوم أن ذلك كلَّه من شعائر النصارى والجاهلية، وإنما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُوَحَّد الله ويُعبَد وحدَه، ولا يتألّه معه شيءٌ من مخلوقاته، بعثه الله تعالى ناسخًا لجميع الشرائع والأديان والأعياد، فأنتم بحمد الله قائمون بإصلاح ما أفسد الناسُ من ذلك.
وقائمون في وجوه من ينصر هذه البدعَ من مارقي الفقهاء، أهل الكيد والضِّرار لأولياء الله، أهل المقاصد الفاسدة، والقلوب التي هي عن نصر الحق حائِدةٌ.
وإنما أعرض هذا الضعيفُ عن ذكر قيامكم في وجوه التتر، والنصارى، واليهود، والرافضة، والمعتزلة، والقَدَرية، وأصناف أهل البدع والضلالات، لأن الناس متفقون على ذمِّهم، يعمون أنهم قائمون برد بدعتهم، ولا يقومون بتوفية حقِّ الردِّ عليهم كما تقومون، بل يعلمون ويجبنُونَ عند اللقاء فلا
(1)
أسماء لأعيادٍ بدعيَّة.
يجاهدون، وتأخذهم في الله اللائمة، لحفظ مناصبهم، وإبقاءً على أغراضهم.
سافرنا البلاد فلم نر من يقوم بدين الله في وجوه مثل هؤلاء ــ حق القيام ــ سواكم، فأنتم القائمون في وجوه هؤلاء إن شاء الله، بقيامكم بنصرة شيخكم وشيخنا ــ أيده الله ــ حق القيام، بخلاف مَن ادَّعى من الناس أنهم يقومونَ بذلك.
فصبرًا يا إخواني على ما أقامكم الله فيه، من نصرة دينه وتقويم اعوجاجه وخُذلان أعدائه، واستعينوا بالله، ولا تأخُذْكم في الله لومةُ لائم، وإنما هي أيامٌ قلائل، والدين منصورٌ، قد تولّى الله إقامَته، ونُصرةَ مَنْ قَامَ به من أوليائه، إن شاء الله ظاهرًا وباطنًا.
وابذُلوا فيما أقمتم فيه ما أمكنكم من الأنفس والأموال، والأفعال والأقوال، عسى أن تُلحَقوا بذلك بِسَلَفِكُمْ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد عرفتم ما لَقُوْا في ذات الله، كما قالَ خُبَيْبٌ حين صُلب على الجِذع.
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
…
يُبارِكْ على أوصال شِلْوٍ مُمَزَّع
وقد عرفتم ما لقي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِن الضُّرِّ والفاقة في شِعْبِ بني هاشم، وما لقي الأولون من التعذيب والهجرة إلى الحبشة، وما لقي المهاجرونَ والأنصارُ في أُحُد، وفي بئر مَعُونة، وفي قتال أهل الرِّدَّة، وفي جهاد الشام والعراق، وغير ذلك.
وانظروا كيف بذلوا نفوسَهم وأموالَهم لله، حُبًّا له، وشوقًا إليه، فكذلك أنتم ــ رحمكم الله ــ كلٌّ منكم على قدر إمكانه واستطاعته، بفعله، وبقوله، وبخطه، وبقلبه، وبدعائه. كلُّ ذلك جهادٌ.
أرجو أن لا يخيبَ مَنْ عامل الله بشيءٍ من ذلك، إذ لا عيشَ إلا في ذلك، ولو لم يكن فيه إلا أنَّ هِمَمَكم ــ مزاحِمةً لأهل الزيغ ــ مُشوِّشةٌ لهم، تبغضونهم في الله، وتطلبون استقامتهم في دين الله، وذلك من الجهاد الباطن إن شاء الله تعالى.
فصل
ثم اعرفوا إخواني حق ما أنعم الله عليكم من قيامكم بذلك، واعرفوا طريقَكم إلى ذلك، واشكروا الله تعالى عليها، وهو أن أقام لكم ولنا في هذا العصر مثل سيدنا الشيخ الذي فتح الله به أقفال القلوب، وكشف به عن البصائر عمى الشبهاتِ وحيرةَ الضلالاتِ، حيثُ تاه العقلُ بين هذه الفرق، ولم يهتد إلى حقيقة دين الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن العَجَب أن كلًّا منهم يدّعي أنه على دين الرسول، حتى كَشَفَ الله لنا ولكم بواسطة هذا الرجل عن حقيقة دينه الذي أنزله من السماء وارتضاه لعباده.
واعلموا أنَّ في آفاق الدنيا أقوامًا يعيشون أعمارَهم بين هذه الفرق، يعتقدون أن تلك البدعَ حقيقةُ الإسلام، فلا يعرفون الإسلام إلا هكذا.
فاشكروا الله الذي أقام لكم في رأس السبع مئة مِنَ الهجرة مَنْ بيَّن لكم أعلام دينكم، وهداكم الله به وإيانا إلى نهج شريعته، وبيَّن لكم بهذا النُّور المحمدي ضلالات العبّاد وانحرافاتهم، فصرتم تعرفون الزائغ من المستقيم، والصحيح من السقيم.
وأرجو أن تكونوا أنتم الطائفة المنصورة، الذين لا يضرهم من خذلهم
ولا من خالفهم، وهم بالشام إن شاء الله تعالى.
فصل
ثم إذا علمتم ذلك، فاعرِفوا حقَّ هذا الرجل الذي هو بين أظهُركم وقدرَه، ولا يعرف حقَّه وقدره إلا من عرف دين الرسول صلى الله عليه وسلم وحقه وقدره، فمن وقع دينُ الرسول صلى الله عليه وسلم من قلبه بموقع يستحقُّه، عرفَ ما قام هذا الرجلُ به بين أظهر عباد الله، يُقوِّم معوجَّهم، ويصلحُ فسادَهم، ويَلُمُّ شَعَثهم، جهد إمكانه، في الزمان المظلم، الذي انحرف فيه الدينُ، وجُهلت السُّننُ، وعُهدت البدع، وصار المعروفُ منكَرًا، والمنكر معروفًا، والقابض على دينه كالقابض على الجمر، فإنّ أجر من قام بإظهار هذا النور في هذه الظلمات لا يوصف، وخَطَرُه لا يُعرف، هذا إذا عرفتموه أنتم من حيثية الأمر الشَّرعي الظاهر، فهنا قوم عرفوه من حيثية أخرى من الأمر الباطن، ومن نفوذه إلى معرفة أسماء الله تعالى وصفاته، وعظمة ذاته، واتصال قلبه بأشعة أنوارها، والاحتظاء من خصائصها وأعلى أذواقها، ونفوذه من الظاهر إلى الباطن، ومن الشهادة إلى الغيب، ومن الغيب إلى الشهادة، ومن عالم الخلق إلى عالم الأمر، وغير ذلك مما لا يمكن شرحُه في كتاب.
فشيخُكم ــ أيدكم الله ــ عارفٌ بأحكام الله الشرعية، عارف بأحكامه القدرية، عارف بأحكام أسمائه وصفاته الذاتية، ومثلُ هذا العارفِ قد يُبْصر ببصيرته تنزُّلَ الأمر بين طبقات السماء والأرض. كما قال تعالى:{(11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} [الطلاق: 12].
فالناس يُحِسُّون بما يجري في عالم الشهادة، وهؤلاء بصائرهم شاخصة إلى الغيب، ينتظرون ما تجري به الأقدارُ، يشعرون بها أحيانًا عند تنزلها.
فلا تُهوِّنوا أمر مثل هؤلاء في انبساطهم مع الخلق؛ واشتغال أوقاتهم بهم، فإنهم كما حُكي عن الجُنَيد رحمه الله أنه قيل له:«كم تنادي على الله تعالى بين الخلق؟ فقال: أنا أنادي على الخلق بين يدي الله» .
فاللهَ اللهَ في حفظ الأدب معه، والانفعال لأوامره، وحفظ حُرُماته في الغيب والشهادة، وحبِّ مَنْ أحبَّه، ومجانبة من أبغضه أو عابه وانتقصه، وردِّ غِيبتهِ، والانتصارِ له في الحق.
واعلموا ــ رحمكم الله ــ أن هنا مَنْ سافر إلى الأقاليم، وعرف الناس وأذواقَهم وأشرف على غالب أحوالهم، فواللهِ، ثم واللهِ، لم يَرَ تحت أديم السماء مثلَ شيخكم: علمًا، وحالًا، وخُلُقًا، واتِّباعًا، وكرمًا وحِلْمًا في حق نفسه، وقيامًا في حق الله عند انتهاك حرماته، أصدقُ الناس عَقْدًا، وأصَحُّهم علمًا وعزمًا، وأنفذهم وأعلاهم في انتصار الحق وقيامِه همَّةً، وأسخاهم كفًّا، وأكملهم اتباعًا لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم.
ما رأينا في عصرنا هذا من تُستجلى النبوةُ المحمديةُ وسنتُها من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل، بحيث يشهد القلب الصحيح أن هذا هو الاتباع حقيقة.
وبعد ذلك كلِّه فقولُ الحقِّ فريضةٌ، فلا نَدَّعي فيه العصمة عن الخطأ، ولا ندَّعي إكماله لغاياتِ الخصائص المطلوبة، فقد يكونُ في بعض الناقصين خصوصيةٌ مقصودةٌ مطلوبةٌ، لا يتمُّ الكمال إلا بها [و] تلك الخصوصية في غيره أكمل مما هي فيه، بمعنى أن ذلك متصف بحقائقها مثلًا؛ لانفراد همة وقته بها، وتفرق شيخنا فيه فضائل مهمة دينية وغيرها، ولو حققنا لوجدنا شيخنا أفضل من ذلك الرجل مع قيامه بتلك الخصوصيةِ، وهذا القَدْرُ لا يجهله منصفٌ عارف، ولولا أن قول الحق فريضة، والتعصبَ للإنسان هوًى، لأعرضت عن
ذكر هذا ــ لكن يجبُ قولُ الحق إن ساءَ أو سَرَّ ــ والله المستعان.
إذا علمتم ذلك ــ أيدكم الله تعالى ــ فاحفظوا قلبه، فإن مثل هذا قد يُدْعَى عظيمًا في ملكوت السماء، واعملوا على رضاه بكل ممكن واستجلبوا وُدَّهُ لكم، وحبه إياكم بمهما قدرتم عليه، فإن مثل هذا يكون شهيدًا، والشهداءُ في العصر تَبَعٌ لمثله، فإنْ حصلت لكم محبته رجوت لكم بذلك خصوصيةً أكتمها ولا أذكرها، وربما يَفْطَنُ لها الأذكياءُ منكم، وربما سمحت نفسي بذكرها، كيلا أكتم عنكم نصْحي.
وتلك الخصوصية: هي أن تُرْزَقوا قسطًا من نصيبه الخاص المحمدي مع الله تعالى، فإن ذلك إنما يسري بواسطة محبة الشيخ للمريد، واستجلاب المريد محبةَ الشيخ بتأتِّيه معه، وحفظ قلبه وخاطره، واستجلاب وُدِّه ومحبته، فأرجو بذلك لكم قسطًا مما بينه وبين الله تعالى، فضلًا عما تكتسبونه من ظاهر علمه وفوائده وسياسته، إن شاء الله تعالى.
وأرجو أنكم إذا فتحتم بينكم وبين ربكم تعالى تصحيح المعاملة بحفظ تلك الساعة مع الله تعالى بالزهد فيها عما سواه، واستصحاب حكم تلك الساعة في الصلوات الخمس والتهجُّد أن ينفتح لكم معرفة حقيقة هذا الرجل ونبئِهِ إن شاء الله تعالى.
وإنما ذكرت حفظ الساعة ــ وإن كان في الصلوات الخمس كفايةٌ إذا قام العبد فيها بحقِّ الله تعالى ــ وذلك لأن الصلاة قد تهجُمُ على العبد وقلبُه مأخوذٌ في جواذب الظاهر، فلا يعرفُ نصيبَ قَلْبِهِ من ربه فإذا عرف فيها، كان للعبد ساعةٌ بين الليل والنهار عَرَفَ فيها نصيبَ قلبه من ربه، فإذا جاءت الصلواتُ، عرف فيها حاله وزيادته ونقصانه باعتبار حالته مع ربه في تلك
الساعة، وبالله المستعان.
فصل
وإذا عرفتم قَدْرَ دين الله تعالى الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وعرفتم قدر حقائق الدِّين الذي يُعَبَّر عنه بالنفوذ إلى الله تعالى، والحظوة بقربه، ثم عرفتم اجتماعَ الأمرين في شخص مُعيَّن، ثم عرفتم انحرافَ الأمة عن الصراط المستقيم، وقيامَ الرجل المُعيَّن الجامعِ للظاهر والباطن في وجوه المنحرفين، ينصر اللهَ تعالى ودينه، ويقوِّم مُعوجهم يَلُمُّ شعثهم، ويصلح فاسدهم، ثم سمعتم بعد ذلك طعنَ طاعن عليه من أصحابه أو من غيرهم، فإنه لا يخفى عليكم مُحِقٌّ هو، أو مبطل؟ إن شاء الله.
وبرهان ذلك: أن المُحقَّ يطلب الهدى والحق يَعرِض عند من أنكر عليه ذلك الفعل الذي أنكره، إما بصيغة السؤال أو الاستفهام بالتلطف عن ذلك النقص الذي رآه فيه، أو بلغه عنه، فإن وجد هناك اجتهادًا، أو رأيًا أو حجة، قنع بذلك، وأمسك، ولم يُفْشِ ذلك إلى غيره، إلا مع إقامةِ ما بَيَّنَه من الاجتهاد، أو الرأي، أو الحجة، ليَسُد الخَلَل بذلك.
مثل هذا يكون طالب هدى، محبًّا، ناصحًا، يطلب الحق، ويروم تقويم أستاذه عن انحرافه بتعريفه وتفويضه، كما يروم أستاذُه تقويمَه، كما قال بعضُ الخلفاء الراشدين
(1)
ــ ولا يحضرني اسمه ــ: «إذا اعوجَجْتُ فقوِّموني» .
فهذا حقٌّ واجبٌ بين الأستاذ والطالب، فإن الأستاذ يطلب إقامة الحق على نفسه ليقوم به، ويتَّهمُ نفسه أحيانًا، ويتعرّف أحواله من غيره، مما عنده
(1)
جاء نحوه عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
من النَّصَفَةِ وطلب الحق، والحذر من الباطل، كما يطلب المريد ذلك من شيخه من التقويم، وإصلاح الفاسد من الأعمال والأقوال.
ومِنْ براهينِ المُحِقِّ: أن يكون عدلًا في مدحه، عدلًا في ذمِّه، لا يحمله الهوى ــ عند وجود المُراد ــ على الإفراط في المدح، ولا يحمله الهوى ــ عند تعذُّر المقصود ــ على نسيان الفضائل والمناقب، وتعديد المساوئ والمثالب.
فالمُحِقُّ في حالَتَيْ غضبهِ ورضاهُ ثابتٌ على مدح مَنْ مدحه وأثنى عليه؛ ثابت على ذم من ثلبه وحطّ عليه.
وأما مَنْ عَمِلَ كُرَّاسةً في عَدِّ مثالب هذا الرجل القائم بهذه الصفات الكاملة بين أصناف هذا العالم المنحرف، في هذا الزمان المظلم، ثم ذكر مع ذلك شيئًا من فضائله، ويعلم أنه ليس المقصودُ ذكرَ الفضائل، بل المقصودُ تلك المثالب، ثم أخذ الكُرَّاسةَ يقرؤها على أصحابه واحدًا واحدًا في خَلْوة، يوقف بذلك هَمَّهُمْ عن شيخهم، ويُريهم قدحًا فيه، فإني أستخير الله تعالى وأجتهد رأيي في مثل هذا الرجل، وأقول انتصارًا لمن ينصرُ دينَ الله، بين أعداءِ الله في رأس السبع مئة، فإن نصرة مثل هذا الرجل واجبة على كل مؤمن، كما قال وَرَقَةَ بن نوفل:«لئن أدْرَكَني يومُك لأنصُرنَّك نصرًا مُؤَزّرًا»
(1)
. ثم أسأل الله تعالى العصمة فيما أقول عن تَعَدِّي الحدود والإخلاد إلى الهوى. أقولُ: مثل هذا ــ ولا أُعَيِّن الشخصَ المذكور بعينه ــ لا يخلو من أمور:
أحدها: أن يكون ذا سنٍّ تغيَّر رأيه لِسنِّه؛ لا بمعنى أنه اضطرب بل بمعنى أن السنَّ إذا كَبِرَ يجتهد صاحبه للحق، ثم يضعُه في غير مواضعه، مثلًا يجتهد
(1)
رواه البخاري في أول «صحيحه» .
أن إنكارَ المنكرِ واجبٌ، وهذا منكر، وصاحبه قد راج على الناس، فيجب عَلَيَّ تعريفُ الناس ما راج عليهم، وتَغِيبُ عليه المفاسد في ذلك.
فمنها: تخذيلُ الطَّلَبة، وهم مضطرون إلى محبة شيخهم، ليأخذوا عنه، فمتى تغيرت قلوبُهم عليه ورَأؤا فيه نقصًا حُرموا فوائدَه الظاهرةَ والباطنة: وخِيفَ عليهم المقتُ من الله أولًا، ثم من الشيخ ثانيًا.
المفسدة الثانية: إذا شعر أهلُ البِدَع الذين نحن وشيخُنا قائمون الليلَ والنهارَ بالجهاد والتوجُّه في وجوههم لنصرة الحق: أنَّ في أصحابنا مَنْ ثلب رئيس القوم بمثل هذا، فإنهم يتطرَّقون بذلك إلى الاشتفاء مِنْ أهل الحق ويجعلونه حُجَّة لهم.
المفسدة الثالثة: تعديل المثالب في مقابلة ما يستغرقها وما يزيد عليها بأضعاف كثيرة من المناقب، فإن ذلك ظلم وجهل.
والأمر الثاني من الأمور الموجبة لذلك: تغير حاله وقلبه، وفساد سلوكه بحسد كان كامِنًا فيه، وكان يكتمه بُرهة من الزمان، فظهر ذلك الكمين في قالبٍ، صورته حق ومعناه باطل.
فصل
وفي الجملة ــ أيَّدكم الله ــ إذا رأيتم طاعنًا على صاحبكم فافتقدوه في عقله أولًا، ثم في فهمه، ثم في صدقه، ثم في سِنِّه، فإذا وجدتم الاضطرابَ في عقله، دَلَّكم على جهله بصاحبكم، وما يقول فيه وعنه، ومثله قلَّة الفهم، ومثله عدم الصدق، أو قصوره، لأن نقصان الفهم يؤدي إلى نقصان الصدق بحسب ما غاب عقله عنه، ومثله العلة في السنّ فإنه يشيخ فيه الرأيُ والعقلُ
كما تشيخ فيه القُوى الظاهرة الحسِّيةُ، فاتَّهموا مثل هذا الشخص واحذروه، وأعرضوا عنه إعراض مداراةٍ بلا جدلٍ ولا خصومةٍ.
وصفةُ الامتحان بصحة إدراك الشخص وعقله وفهمه: أنْ تسألوه عن مسألة سلوكية، أو علمية، فإذا أجاب عنها فأوْرِدوا على الجواب إشكالًا متوجِّهًا بتوجيه صحيح، فإن رأيتم الرجل يروح يمينًا وشمالًا، ويخرُج عن ذلك المعنى إلى معانٍ خارجة، وحكايات ليست في المعنى حتى ينسى ربُّ المسألةِ سؤالَه، حيث تَوَّهَهُ عنه بكلامٍ لا فائدة فيه، فمثل هذا لا تعتمدوا على طعنه، ولا على مدحه، فإنه ناقصُ الفطرة، كثيرُ الخيال، لا يثبُت على تحرِّي المدارك العلمية، ولا تُنكروا مثل إنكار هذا، فإنه اشتهر قيام ذي الخُوَيْصِرة التَّميمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله له:«اعدل ــ فإنك لم تعدِلْ ــ إن هذه قسمةٌ لم يُرَدْ بها وجهُ الله تعالى»
(1)
أو نحو ذلك.
فوقوع هذا وأمثالِه من بعض معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم. فإنه قال: «لتركَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كان قبلكم حَذوَ القُذَّة بالقُذَّة»
(2)
، وإن كان ذلك في اليهود والنصارى، لكنْ لَمَّا كانوا منحرفين عن نَهْج الصواب، فكذلك يكون في هذه الأمة من يحذو حَذوَ كل منحرف وجد في العالم، متقدّمًا كان أو متأخّرًا، حَذو القُذَّة بالقذة، حتى لو دخلوا جُحْرَ ضَبٍّ لدخلوه.
يا سبحانَ الله العظيم! أين عقولُ هؤلاء؟ أعَمِيَت أبصارُهم وبصائرُهم؟ أفلا يرون ما الناسُ فيه من العَمَى والحيرة في الزمان المظلم المُدْلَهِمِّ، الذي
(1)
متفق عليه.
(2)
متفق عليه.
قد ملكت فيه الكفارُ معظَم الدنيا؟ وقد بقيت هذه الخُطَّة الضيقة، يَشُمُّ المؤمنون فيها رائحةَ الإسلام؟ وفي هذه الخُطَّة الضيقة من الظُّلُمات من علماء السوء والدُّعاة إلى الباطل وإقامته، ودَحْض الحق وأهله مالا يُحْصَرُ في كتاب، ثم إن الله تعالى قد رَحِمَ هذه الأمةَ بإقامة رجل قويِّ الهمة، ضعيف التركيب، قد فرَّق نفسَه وهمَّهُ في مصالح العالم، وإصلاح فسادهم، والقيام بمهماتهم، وحوائجهم، ضِمْنَ ما هو قائم بصد البدع والضلالات، وتحصيل موادِّ العلم النبوي الذي يصلح به فساد العالم، ويردهم إلى الدِّين الأول العتيق جهْد إمكانه! ! وإلا فأين حقيقةُ الدِّين العتيق؟
فهو مع هذا كله قائمٌ بجملة ذلك وَحْدَه، وهو منفرد بين أهل زمانه، قليلٌ ناصرُه، كثيرٌ خاذلُه، وحاسدُه، والشامتُ فيه! !
فمثل هذا الرجلِ في هذا الزمان، وقيامُه بهذا الأمر العظيم الخطير فيه، أيقال له: لِمَ تردُّ على الأحمدية؟ لمَ لا تعدِلُ في القسمة؟ لِمَ تَدخل على الأمراء؟ لِمَ تُقَرِّبُ زيدًا وعَمْرًا؟
أفلا يستحي العبد من الله؟ يذكر مثل هذه الجزئياتِ في مقابلة هذا العِبْء الثقيل؟ ولو حُوقِقَ الرجلُ على هذه الجزئيات وُجد عنده نصوصٌ صحيحةٌ، ومقاصدُ صحيحةٌ ونِيَّاتٌ صحيحةٌ! ! تغيب عن الضعفاء العقول، بل عن الكُمَّلِ منهم، حتى يسمعوها.
أما رَدُّه على الطائفة الفُلانية أيها المُفرِطُ التائهُ، الذي لا يدري ما يقول، أفيقوم دينُ محمد بن عبد الله الذي أُنزل من السماء، إلا بالطعن على هؤلاء؟ وكيف يظهر الحق إن لم يُخْذَلِ الباطل؟ لا يقولُ مثل هذا إلا تائهٌ، أو مُسنٌ أو حاسدٌ.
وكذا القسمةُ للرجل، في ذلك اجتهادٌ صحيحٌ، ونظرٌ إلى مصالح تترتب على إعطاء قوم دون قوم، كما خَصَّ الرسول صلى الله عليه وسلم الطُّلَقاء بمئة من الإبل، وحَرَمَ الأنصار! حتى قال منهم أحداثُهم شيئًا في ذلك، لا ذووا أحلامهم، وفيها قام ذو الخُوَيْصرة فقال ما قال!
وأما دخولُه على الأمراء، فلو لم يكن، كيف كان شمَّ الأمراءُ رائحةَ الدِّين العتيق الخالص؟ ولو فتَّش المفتش، لوجد هذه الكيفيةَ التي عندهم من رائحة الدين، ومعرفة المنافقين، إنما اقتبسوها من صاحبكم.
وأما تقريبُ زيدٍ وعمرو، فلمصلحة باطنة، لو فتَّش عنها مع الإنصاف وجد هنالك ما يرى أن ذلك من المصلحة ونفرض أنك مصيب في ذلك، إذ لا نعتقد العصمةَ إلا في الأنبياء، والخطأُ جارٍ على غيرهم، أيُذْكَرُ مثلُ هذا الخطأ في مقابلة ما تقدم من الأمور العظام الجِسَام؟
لا يذكر مثلَ هذا في كُرَّاسة ويُعدِّدُها، ثم يدور بها على واحد واحد، كأنه يقول شيئًا، إلا رجلٌ نسأل الله العافية في عقله، وخاتمَة الخير على عمله، وأن يردَّه عن انحرافِه إلى نهج الصواب، بحيث لا يبقى مَعْشَرُهُ يَعِيبُهُ بعلمه، وتصنيفه، من أولي العقول والأحلام.
ونستغفرُ الله العظيم، من الخطأ والزلل، في القول والعمل، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
(1)
.
(1)
قال الحافظ ابن عبد الهادي بعد أن أورد هذه الرسالة، في «العقود الدُّرِّيَّة» (ص 387):«هذا آخر الرسالة التي سماها مؤلفها «التذكرة والاعتبار والانتصار للأبرار» ، فرحم الله من قام بحمل الإصرار، وتصحيح التوبة بالاستغفار إلى عالم الأسرار، نفع اللهُ من وقف عليها، وأصغى إلى ما يفتح منها ولديها. آمين».
بسم الله الرحمن الرحيم
فصل فيما قام به ابن تيمية وتفرد به وذلك في تكسير الأحجار
(1)
لخادم شيخ الإسلام: إبراهيم بن أحمد الغياني
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]، {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان: 3]، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]، {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22].
وصلى الله على محمد عبده ورسوله، خير الخلق وأكرمهم على الله المصطفى المأمون، صلاة دائمة ما دامت الأيام والدهور والسنون.
أما بعد؛ فهذا فصل فيما قام به الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدِّين أبو العباس أحمد ابن تيمية رضي الله عنه وتفرّد به دون غيره من العلماء رضي الله عنهم الذين كانوا قبله وفي زمانه، وذلك بتكسير الأحجار التي كان الناس يزورونها، ويتبركون بها، ويقبلونها، وينذرون لها النذور، ويلطخونها الخَلُوق، ويطلبون عندها قضاء حاجاتهم، ويعتقدون أنَّ فيها ــ أوْ
(1)
من «الكواكب الدراري» المجلد 41/ ق 125 - 130 (مخطوطة الظاهرية 587). ونشره محب الدِّين الخطيب في القاهرة سنة 1368 بعنوان «ناحية من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية» .
لها ــ سرًّا، وأن من تعرَّض لها بسوء ــ بقالٍ أو فعال ــ أصابته في نفسه آفة من الآفات! !
فشرع الشيخ يعيب تلك الأحجار، وينهى الناس عن إتيانها، أو أن يُفعل عندها شيء مما ذُكر، أو أن يُحسَنَ بها الظن.
فقال له بعض الناس: إنه قد جاء حديث أن أم سلمة سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقرأ بالتين والزيتون، فأخذت تينة وزيتونة وربطت عليهما وعلقتهما حِرْزًا. وبقيت كلما جاء إليها أحد به مرض تحطه عليه فيبرأ من ذلك المرض. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك، فقالت: سمعتك تقرأ بالتين والزيتون، فقلتُ: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك إلا وفيه سرّ أو منفعة، فعملت تينة وزيتونة لي حرزًا، وأحسنت ظني به، ونفعت بذلك الناسَ. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:«لو أحسن أحدكم ظنَّه بِحَجَرٍ لنفعه الله به» .
فقال الشيخ: هذا الحديث كله ــ من أوله إلى آخره ــ كذب مختلق، وإفك مفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أم سلمة رضي الله عنها. والذي صحَّ وثبتَ عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل أنه قال: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني
…
» الحديث. و «أنا عند ظن عبدي بي، فليظنَّ بي خيرًا» . وقال: «لا يموتنَّ أحدُكم إلا ويحسن ظنَّه بالله الذي تفرَّد بخلقه، وأوجده من العدم ولم يكن شيئًا، وبيده ضرُّه ونفعه» ، كما قال إمامنا وقدوتنا إبراهيم خليل الرحمن:{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 78 - 82]. فهذا الرب العظيم الكبير المتعال، الذي بيده ملكوت كل شيءٍ، يُحسن العبد به ظنه، ما يحسن ظنه بالأحجار،
فإن الكفار أحسنوا ظنهم بالأحجار فأدخلتهم النار. وقد قال الله تعالى في الأحجار وفيمن أحسنوا بها الظنَّ حتى عبدوها من دونه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]. وقال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98]. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُسْتجمر من البول بثلاثة أحجار، ما قال أحسنوا ظنكم بها، بل قال: استجمروا بها من البول. وقد كسر النبي صلى الله عليه وسلم الأحجار التي أُحسِن بها الظن حتى عُبدتْ حول البيت وحرَّقها بالنار.
فبلغ الشيخَ أن جميع ما ذكر من البدع يتعمدها الناس عند العمود المُخَلَّق الذي داخل (الباب الصغير) الذي عند (درب النافدانيين
(1)
). فشدَّ عليه وقام، واستخار الله في الخروج إلى كسره، فحدَّثني أخوه الشيخ الإمام القدوة شرف الدِّين عبد الله ابن تيمية قال: فخرجنا لكسره، فسمع الناسُ أن الشيخ يخرج لكسر العمود المخلّق، فاجتمع معنا خلق كثير. قال: فلما خرجنا نحوه، وشاع في البلدان: ابنُ تيمية طالعٌ ليكسر العمود المُخَلَّق، صاح الشيطانُ في البلد، وضجّت الناس بأقوال مختلفة، هذا يقول:«ما بقيت عين الفيجة تطلع» ، وهذا يقول:«ما ينزل المطر، ولا يثمر شجر» ، وهذا يقول:«ما بقي ابن تيمية يفلح بعد أن تعرَّض لهذا» ، وكل من يقول شيئًا غير هذا.
قال الشيخ شرف الدين: فما وصلنا إلى عنده إلا وقد رجع عنا غالب الناس، خشية أن ينالهم منه في أنفسهم آفة من الآفات، أو ينقطع بسبب كسره بعض الخيرات.
(1)
كذا، ولم نجد بابًا بهذا الاسم في «خطط الشام» ولا «خطط دمشق» للعلبي (ص 439 - 440)، فعله تحريف.
قال: فتقدَّمنا إليه، وصِحنا على الحجَّارين:«دونكم هذا الصنم» فما جَسَر أحد منهم يتقدم إليه. قال: فأخذت أنا والشيخ المعاول منهم، وضربنا فيه، وقلنا:{جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]. وقلنا: إن أصاب أحدًا منه شيء نكون نحن فداه. وتابعنا الناسُ فيه بالضرب حتّى كسرناه، فوجدنا خلفه صنمين حجارة مجسَّدة مصوَّرة، طول كل صنم نحو شبر ونصف.
وقال الشيخ شرف الدين: قال الشيخ النووي: «اللهم أقم لدينك رجلًا يكسر العمود المخلّق، ويخرب القبر الذي في جيرون» فهذا من كرامات الشيخ محي الدِّين (أي النووي). فكسرناه ولله الحمد، وما أصاب الناس من ذلك إلا الخير. والحمد لله وحده.
فصل
قد بلغ الشيخ أن في المسجد الذي خلف (قبة اللحم) في (العلافين) يُعْرف باسم (مسجد الكف) بلاطة سوداء، وقد شاع بين الناس أن إنسانًا من قديم الزمان رأى في منامه النبي صلى الله عليه وسلم وحدثه بأمور فقال: يا رسول الله إن حدَّثتُ الناس بالذي حدَّثتني لا يصدّقونني، فقال له: هذا كفِّي اليمينُ في هذه البلاطة دليلًا على صدقك. وحط كفه فيها، فغاص، فبقي فيها موضع كف وخمس أصابع، وانعكف الناسُ عليه ــ كما ذكر ــ بالنذر له والتبرك به، والاستسقاء.
فبلغ ذلك الشيخ، فطلع إليه ومعه جماعته وأخوه الشيخ شرف الدِّين فسمعته غير مرة يحدِّث يقول: لما نظرت إليها قلت: هذا الكف منحوت، مصنوع، مكذوب. فإن النحّات جاء يعمله كف يمين فعمله كف شمال.
فبقي معكوسًا يجيء الخِنْصر موضع الإبهام، والإبهام موضع الخنصر. فكسرها، وما بقي لها ذكر ولا أثر. ولله الحمد.
فصل
وكانت صخرة كبيرة عظيمة في وسط محراب (مسجد النارنج) فيتوجه المصلي إليه ضرورة، وعليها ستر أسود مرخيّ ودَرَابزين
(1)
حولها. وقد استفاض بين الناس أنه حُطّ عليها رأس الحسين ــ عليه السلام ــ فانشقت له، وأنها متى انشقت كلها قامت القيامة. ولها في كل سنة ــ يومَ عاشوراء ــ عيدٌ يجتمع فيه الناس، ويبقون في ذلك اليوم وفي غيره من الأيام يتبرّكون بها ويقبلونها، وينذرون لها النذور، ويلطخونها بالخَلَوق، ويدعون عندها.
فبلغ ذلك الشيخ، فطلب الحجَّارين من القلعة، وخرج إليها ومعه شرف الدِّين في جماعة كبيرة. فأول شيء عمله قلع الدرابزين من حولها، ونتش الستر عنها ورماه. وصاح على الحجارين:«دَهْ عليه! »
(2)
، فتأخروا عنها، فتقدم هو وأخوه شرف الدِّين وضربها بنعله وقال:«إن أصاب أحدًا منها شيء أصابنا نحن قبله» . فتقدم إليها عند ذلك الحجارون، وحفروا عليها. فإذا هي رأس عمود كبير قد حفر له ونزل في ذلك المكان، فكسروه، وحملوه على أربع عشرة بهيمة وأحرقوه كلسًا.
(1)
هو الحاجز على جانبي الشيء، يقي من السقوط ونحوه.
(2)
كذا في الأصل. ولعلها صوت يصدره الشخص للحض والإغراء، كما يصدره صاحب الفرس أو الإبل للزجر، ينظر «المعجم الوسيط» (ص 299)، و «تكملة المعاجم» لدوزي (4/ 448).
قال الشيخ: بعض الرافضة عمل هذا في هذا المكان، ولوح بين الناس أن رأس الحسين حطوه على هذا الحجر، حتى يضل به جهال الناس. قال: والرافضة من عادتهم أنهم يخربون المساجد ويعمرون المشاهد ويعظمونها بخلاف المساجد، وقد قال الله سبحانه:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 18]. ولم يقل: «مشاهد الله» . وقال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18]. ما قال: «وأن المشاهد لله» . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بنى لله مسجدًا ولو كَمَفْحَص قطاة بنى الله له بيتًا في الجنة» ما قال: من بنى لله مشهدًا بنى الله له بيتًا في الجنة.
وتكلم وهو جالس في هذا المكان، وقال من هذا الجِنس شيئًا كثيرًا.
وقال: زيارة القبور زيارة شرعية مأمور بها، وزيارة بدعية منهيّ عنها، فالزيارة الشرعية هي التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه زار قبر أمه فقال:«استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي. فإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنها تذكركم الآخرة» ، فالكافر يزار قبره ليتذكر به الآخرة، ولا يُدْعَى له ولا يستغفر له، بخلاف المؤمن فإنه يزار قبره ليتذكر به الآخرة، ويدعى له، ويستغفر له، ويترحم عليه، ويسأل الله له من كلِّ خير، فإن زيارة قبره من جنس الصلاة عليه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله منا ومنكم المستقدمين والمستأخرين، ونسأل الله لنا ولكم العافية. اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنّا بعدهم، واغفر لنا ولهم» . فهذا كله حق للمؤمن، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أكثروا من الصلاة عليَّ يوم الجمعة وليلة الجمعة
فإن صلاتكم عليّ معروضة عليَّ». قالوا: يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرِمتَ؟ فقال: «تقولون إني بليت؟ » قالوا: نعم. قال: «إن الله قد حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء» . وقد روى ابن عبد البرّ حديثًا وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من رجل مؤمن يمرّ بقبر رجل مؤمن كان يعرفه في الدنيا فسلم عليه إلا ردّ الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام» .
وأما الزيارة البدعية؛ فهي أن تُزار القبور للتبرك بها، أو الدعاء عندها، أو الاستغاثة بأهلها، أو النذر لها ــ مثل زيت أو كسوة أو شمع أو دراهم ــ أو يشعلون عندها السُّرُج، أو يصلون عندها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن جميع ذلك فقال:«لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليا المساجد والسرج» وقال: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك» وقال: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما فعلوا: قالت عائشة رضي الله عنها: «ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا» . فهذه الزيارة على هذا الوجه بدعية منهيٌّ عنها.
فصل
وكان تحت الطاحون التي قبلي (مسجد النارنج) في الماء عند فراش الطاحون صنم حجر يُعظَّم ويستسقى به، فكان بعض الناس يكون عنده مولود صغير وقد طال به المرض، فيأتون به حتى يغطسوه عند الصنم في الماء ويشفى، ويحطون عند الصنم خبزًا وحلوى وغير ذلك. فخرج إليه الشيخ شرف الدِّين أخو الشيخ تقي الدِّين فكسره وخلّص أولاد الناس منه.
وكان عمود في حارة الفرما يقال له: (العمود المخلق) وكان حاله كما
ذكر، فكسره وأراح الناس منه.
فصل
وكان مع أناس حجارين حجر رخام وقد قمّعوه بقصدير، وفي وسط الحجر أثر قدم، دائرين به في البلاد، ويدخلون به على بيوت الكبراء والسعداء في الأسواق، ويقولون لهم: هذا موضع قدم نبيكم، فيبقى الناس يقبلونه ويتبركون به ويعطونهم الأموال لأجل ذلك، فأمسكهم الشيخ، فكسر ذلك الحجر، وتهارب أصحابه من قدام الشيخ مخافة أن يضرهم.
فصل
وجاء إنسان إلى الشيخ يومًا بخبزٍ يابس فقال: «يا سيدي قد جِبتُ هذا من صماط الخليل على اسمك» . فقال له: «ما لي به حاجة. أنا حاجتي إلى الدِّين الذي كان عليه الخليل، ومتابعة ملة الخليل الذي أمر الله أمة محمد بمتابعتها. ما لي حاجة بهذا الخبز، والخليل ما عمل هذا، ولا أمر بهذا العَدَس، ولا كان يطعم ويضيف غير اللحم. قال الله تعالى:{فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات: 26]. وأما العَدَس فإنه شهوة اليهود، وقد سئل عبد الله بن المبارك رضي الله عنه فقيل له: جاء حديث: أن العَدَس قدَّسه سبعون نبيًّا
(1)
، فقال:«لا، ولا نصف نبي» .
فصل
ولما كان الشيخ في ديار مصر كان ينهى عن إتيان المشاهد وتعظيمها،
(1)
موضوع، انظر:«المقاصد الحسنة» (ص 485) و «الفوائد المجموعة» (ص 161).
ويأمر بإتيان المساجد وتعظيمها. وأعظم المشاهد بالقاهرة مشهد الحسين فإن أمره عظيم، فإن جميع ما ذكر من البدع والضلال يقام عنده وأضعاف ذلك، حتى إذا غلَّظ أحدٌ اليمين على الحالف يحلفه عند مشهد الحسين، فكان الشيخ ينهاهم عن ذلك وينكره بجنانه وحاله، وقال: إن السلف ومن اتبعهم كانوا إذا حلَّفوا أحدًا وغلَّظوا عليه اليمين يحلّفونه بين المحراب والمنبر، ولم يحلفوه عند قبور أو أثر.
قال: وأما الحسين ــ رضي الله عنه وعن سلفه ولعن قاتله ــ فما حُمل رأسه إلى القاهرة، فإنّ القاهرة بناها الملك المعز في أوائل المائة الرابعة، والحسين ــ عليه السلام ــ قتل يوم عاشوراء سنة إحدى وستين، ودفنت جثة الحسين حيث قتل. وقد روى البخاري في «تاريخه»: أن رأس الحسين حُمل إلى المدينة ودفن بها في البقيع عند قبر أمه فاطمة رضي الله عنها. وبعض العلماء يقول: إنه حُمِل إلى دمشق ودفن بها. فبين مقتل الحسين وبين بناية القاهرة نحو مئتين وخمسين سنة. فإنه من المتواتر أن القاهرة بُنِيت بعد بغداد، وبعد البصرة والكوفة وواسط، فأين هذا من هذا؟ !
وقد ذكر صاحب الكتاب الذي سماه: (العَلَم المشهور، في فضل الأيام والشهور)
(1)
وصنف هذا الكتاب للملك الكامل رحمه الله، ذكر فيه أن هذا المشهد بناه بنو عبيد الملاحدة الزنادقة ملوك مصر في أواخر سنة خمسين وخمس مئة، وقوَّض الله دولة بني عُبيد بعد بنائهم لهذا المشهد بنحو أربع عشرة سنة. وهذا مشهد الكذب والمين، ما هو مشهد الحسين.
وكلا العلماء في ذمّ بني عبيد القدَّاح مشهور، وفي ذم مذاهبهم وما كانوا
(1)
هو ابن دِحية الكلبي (ت 643)، والكتاب لا يزال مخطوطًا، ومنه عدة نُسخ.
عليه. قال الشيخ أبو حامد الغزالي: «ظاهرهم الرفض، وباطنهم الكفر المحض» .
وكان الشيخ أبو عمرو عثمان بن مرزوق ' في زمن بني عُبيد في ديار مصر، وكان يفتي أنه لا تحل ذبائح بني عبيد، ولا نكاحهم، ولا يصلى خلفهم. وكان يغلظ في أمرهم.
وبلغ نور الدِّين بن زنكي حالهم وما هم عليه، فسأل العلماء في قتالهم وأخذ البلاد منهم، فأفتاه العلماء بذلك، وكتبت بذلك محاضر، وأثبتت على الحكام. فسيّر صلاح الدِّين ومعه جيش عظيم فغزاهم وفتح البلاد منهم.
وبعض الجهال يظن أن بني عبيد كانوا شرفاء من ذرية فاطمة وأنهم كانوا صالحين، وإنما كانوا زنادقة ملاحدة قرامطة باطنية وإسماعيلية ونصيرية، ومن عندهم طلع الرفض إلى الشام، وإلا قبل ذلك ما كان يعرف الرفض في الشام. وبقاياهم في ديار مصر إلى اليوم.
وكانت قصورهم بين القصرين. وكانوا ينادون «كل من لعن وسب، فله دينار وإردب» . فبينما إنسان منهم يلعن عائشة، وإنسان مغربي أنكر عليه، فتحاملوا إلى عند الحاكم، فقال له الحاكم:«لم أنكرت عليه! » قال له المغربي: «إن امرأة جدي اسمها عائشة، وقد ربتني وأحسنت إليَّ، فلما سمعته يلعنها ما هان عليَّ» . فقال له الحاكم: «ذا ما يلعن امرأة جدك أنت، ذا يلعن امرأة جدي أنا» . فقال له المغربي: «منك إليه! » .
ورأيت رجلًا من أهل القاهرة جاء إلى الشيخ بالقاهرة بعد مجيئه من إسكندرية فقال له: «إن أبي حدثني عن أبيه أن هذا المشهد بناه بنو عبيد، وأن رأس الحسين ما جاء إلى ديار مصر، لكن جرت لي واقعة. أني وأنا صغير
كنت أجري فوق سطح هذا المشهد، وما له عندي حُرْمة بما حدثني أبي عنه، فبينما أنا نائم ليلة وأنا أرى عجوزًا زرقاء العينين شمطاء الرأس، ومعها قيد، فحطته في رجلي وقالت: تتوب ولا تعود تجري فوق سطح المشهد؟ فقلت: التوبة، التوبة، ما بقيت أعود. فقعدت وأنا مرعوب».
فقال الشيخ: «وهذا أيضًا حجة لي على صحة ما أقوله، فإن هذه شيطانة هذا الموضع، وهي التي تزينه للناس. وكذلك لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه بقطع (العُزَّى) فقال له: لما قطعت العزَّى أيّ شيءٍ رأيتَ خرج؟ فقال: خَرَجَتْ منها عجوز شمطاء هاربة نحو اليمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تلك شيطانة العُزَّى» . وسمعت الشيخَ غير مرَّة يحكيها للناس.
فصل
في كشف حال بني عبيد
سمعت الشيخ يحكي غير مرة في مجالسه يقول: زرت يومًا المارستان المنصوري، فجاء إليَّ أناس فقالوا لي: تصدَّق وزُر المارستان العتيق: فرحت معهم أزوره، فقالوا لي: ألا تزور قبور الخلفاء؟ ــ يعنون بني عبيد ــ فرحت معهم إلى قبورهم، فوجدت قبورهم إلى القطب الشمالي. فتكلم عليهم وعلى مذاهبهم فقال الحاضرون: نحن نعتقد أن هؤلاء قوم صالحون، لأنا إذا مغلت عندنا الخيل
(1)
نجيء بها إلى قبور هؤلاء فتبرأ، فلولا أنهم صالحون ما برأت الدواب من المغل عند قبورهم. فقلت: وهو أيضًا حجة على صحَّة ما أقوله فيهم، فإن المغل من بَرْد يحصل للدواب، فإذا جيء بها
(1)
المغل: مغص يأخذ الدواب.
إلى قبور اليهود والنصارى في الشَّام، وإلى قبور المنافقين كالقرامطة والإسماعيلية والنصيرية، فإن الدّوابَّ إذا سمعت أصوات المعذَّبين في قبورهم تفزع فيحصل لها حرارة تذهب بالمغل الذي حصل لها.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يومًا راكبًا على بغلته فحادت حتى كادت تلقيه عن ظهرها، فقالوا: ما شأنها يا رسول الله؟ فقال: «إنها سمعت أصوات يهود تعذَّب في قبورها» . وقال: إنهم ليعذبون في قبورهم عذابًا تسمعه البهائم. فما يروح أصحاب الدّوابّ بها إلى قبر الشافعي ولا إلى قبر أشهب فإن عند قبورهم تنزل الرحمة. وتكلَّم شيئًا كثيرًا من هذا الجنس ما ينحصر، وهذا شيء منه.
فصل
ولما كان الشيخ في قاعة الترسيم دخل إلى عنده ثلاثة رهبان من الصعيد. فناظرهم وأقام عليهم الحجة بأنهم كفار وما هم على الدِّين الذي كان عليه إبراهيم والمسيح. فقالوا له: نحن نعمل مثل ما تعملون، أنتم تقولون بالسيدة نفيسة ونحن نقول بالسيدة مريم، وقد أجمعنا نحن وأنتم على أن المسيح ومريم أفضل من الحسين ومن نفيسة، وأنتم تستغيثون بالصالحين الذين قبلكم ونحن كذلك.
فقال لهم: وإن من فعل ذلك ففيه شَبَهٌ منكم، وهذا ما هو دين إبراهيم الذي كان عليه، فإن الدِّين الذي كان إبراهيم عليه: أن لا نعبد إلا الله وحده، لا شريك له. ولا ندَّ له، ولا صاحبة له، ولا ولد له، ولا نشرك معه ملكًا ولا شمسًا ولا قمرًا ولا كوكبًا، ولا نشرك معه نبيًّا من الأنبياء ولا صالحًا:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93]. وإن الأمور التي
لا يقدر عليها غير الله لا تطلب من غيره مثل إنزال المطر، وإنبات النبات، وتفريج الكربات، والهدى من الضلالات، وغفران الذنوب، فإنه لا يقدر أحد من جميع الخلق على ذلك، ولا يقدر عليه إلا الله. والأنبياء ــ عليهم الصلاة والسلام ــ نؤمن بهم ونعظمهم ونوقرهم ونتبعهم ونصدِّقهم في جميع ما جاؤوا به ونطيعهم كما قال نوح وصالح وهود وشعيب:{(2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} [نوح: 3]. فجعلوا العبادة والتقوى لله وحده، والطاعة لهم، فإن طاعتهم من طاعة الله. فلو كفر أحد بنبيٍّ من الأنبياء وآمن بالجميع ما نفعه إيمانه حتى يؤمن بذلك النبي. وكذلك لو آمن بجميع الكتب وكذب بكتاب كان كافرًا حتَّى يؤمن بذلك الكتاب وكذلك الملائكة واليوم الآخر.
فلما سمعوا ذلك منه قالوا: الدِّين الذي ذكرته خيرٌ من الدِّين الذي نحن وهؤلاء عليه. ثم انصرفوا من عنده.
فصل
لما كان الشيخ في قاعة الترسيم، وكان الشيخ العارف القدوة شمس الدِّين الدباهي
(1)
قد طلع من الشام إلى مصر حتى يصلح بين الشيخ وبين الشيخ نصر المنبجي، فكتب ورقة فيها:«الطفيلي على الله محمد بن الدباهي يسأل من الشيخين الصالحين ــ شيخ المشايخ أبي الفتح نصر المنبجي وشيخ الإسلام أحمد بن تيمية ــ أنهما يتفقان على طاعة الله ورسوله بحسب ما يمكنهما» وذكرَ أشياءَ يلتزمانها بحسب الإمكان ويتفقان عليها. وجاءت الورقة إلى الشيخ فقال: «إني أجيب إلى ذلك» ، فراح بها إلى الشيخ نصر، فوجد عنده المشايخ التدامرة:
(1)
محمد بن أحمد بن أبي نصر الدباهي البغدادي ت 711 هـ. ذيل طبقات الحنابلة: (2/ 361).
أبا بكر والشيخ إبراهيم أولاد بروان، فقام الشيخ نصر من مجلسه وأقعد الشيخ شمس الدِّين فيه وعظَّمه تعظيمًا كبيرًا، فأوقفه على الورقة، فقال له:«يا سيدي، ولم كتبت إلى الشيخ مثل هذه وما سُمع بعدُ مِنّا كلام كثير؟ » فقال له: «اكتب أنك أجبتَ إلى ذلك» فقال: «إن كتب الشيخ كتبت» فقال له: «الله على ما تقول وكيل؟ » فقال: «نعم» فسيَّر الورقة إلى الشيخ، فكتب:«أجبت على ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله العليِّ العظيم. وكتبه أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية» . وجاب الرسولُ الورقةَ إليه، فقال له الشيخ شمس الدين:«اكتب مع الشيخ مثل ما قلتَ وعاهدت الله عليه» . فقال: «ما بقيت أكتب شيئًا» . فقال له شمس الدِّين «عاديتك في الله» ، وكشف رأسه وقال:«ثم نبتهل، ثم نبتهل» وقام ونزل من عنده.
فسيّر الشيخ نصر إلى والي المدينة أن يكبس بيت ابن تيمية، ويمسك أصحابه ويحطهم في الحبس. فسير الوالي نائبه، فكبس البيت، وكان قصدهم أن يمسكوا شرف الدِّين أخا الشيخ، فهرَّبوه من فوق السطح، وأمسك أصحاب الشيخ وجاءَ بِهم إلى الوالي، فحطهم في قاعة عند بيته، ومنعوا الناس من الدُّخول إلى عند الشيخ ثم بعد أيام عُزل الوالي. فسيَّب الجماعة، فتأخر عنده زين الدِّين أخو الشيخ، فسير إلى القاضي ابن مخلوف برسالة الشيخ نصر، فأمسك زين الدِّين وحبسه عند الشيخ في قاعة الترسيم. وفي تلك الأيام سرق مملوك زين الدِّين له قماش نفتة ومروزي وغيره وسافر به، ومرض زين الدين، فطلب الحمام فراح السجَّان وخادم الشيخ ــ إبراهيم بن أحمد الغياني ــ إلى القاضي، فقال له خادم الشيخ: هذا إن كان في حبسك؛ فاكتب له ورقة اعتقال، وإن كان ما هو في حبسك فلم ترسم عليه؟ [فقال: ] ما هو في حبسي أنا، بلغني أنه يطلب يخدم أخاه، ما استحللت منعه. فقال له:
أخوه رجل تاجر يريد وحده عشرة تخدمه، والشيخ أنا أخدمه، وقد قال نائب السلطان وغيره: إنهم ما رسموا بحبس زين الدين، والشيخ يفتي بأن القماش الذي سرق لزين الدِّين يلزمك، ويقول السجّان: ما هو في حبسي، ولا نخليه يطلع. فقال له: إذا نزلت في بيتي غدًا تعالَ إلى عندي مع السجَّان.
قال إبراهيم: ثم حدثنا الشيخ بذلك فقال لزين الدين: قم اطلع، هذا القاضي قد تبرّأ من قضيتك. فقال السجان: حتى يروح إلى القاضي مثلما رأيتم. فقال الشيخ: إن الظلمة وأعوان الظلمة يحطون يوم القيامة في توابيت من نار، ثم يقذفون في الجحيم، قال الله:{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 22 - 23]. فقال: أنا ما أجسر أقول له هذا. ثم إنه رسم بأن يخرج، فقال الشيخ: ما بقي يخرج. فأرسل القاضي ابنه محب الدِّين يسأله مرارًا متعددة حتى خرج.
وفي تلك الأيام جاء المشايخ التدامرة ــ إبراهيم وأبو بكر ــ إلى الشيخ وقالوا له: «قد اجتمعنا بهؤلاء القائمين عليك، وقالوا قد بُلشنا به، والناس تلعننا بسببه، وقد قلنا: إنا قد أخذناه بحكم الشرع في الظاهر، فليبصر شيئًا لا يكون علينا ولا عليه فيه رد فيكتبه لنا ونتفق نحن وهو عليه» . فلما قالوا له ذلك قال لهم: «أنا منشرح الصدر، وما عندي قَلَق، وهم برّا الحبس فَلِمَ يقلقون؟ » وكتب: «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرضى لكم ثلاثًا: أن تعبدوه لا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَّقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم» . رواه مسلم». فخرجوا من عنده على ذلك. ثم إنهم بعد أيام جاؤوا إلى عنده وقالوا له: قد وقفوا على الورقة وقالوا: «هذا رجل مِحْجاج خصِم، وما له قلب يفزع من الملوك، وقد اجتمع بغازان ملك التتر وكبار دولته وما خافهم،
ومتى اجتمع بالسلطان والدولة وقرأ عليهم كتاب «الفصوص» الذي كانت الفتنة بسببه قتلونا أو قطعونا من المناصب، ويقال عنا: إنه ما خرج من الحبس حتى دخلتم تحت ما شرط عليكم. ابعثوا أنتم اشرطوا عليه ما أردتم، فإن لم يدخل تحته تكونوا قد عُذِرتم فيه.
فلما أخبره بذلك المشايخ التدامرة قالوا: يا سيدي قد حملونا كلامًا نقوله لك، وحلّفونا أنه ما يطلع عليه غيرنا: أن تنزل لهم عن مسألة العرش ومسألة القرآن ونأخذ خطَّك بذلك، نوقف عليه السلطان ونقول له: هذا الذي حبسنا ابن تيمية عليه قد رجع عنه ونقطع نحن الورقة.
فقال لهم: تدعونني أن أكتب بخطي أنه ليس فوق العرش إله يعبد، ولا في المصاحف قرآن، ولا لله في الأرض كلام؟ ودق بعمامته الأرض وقام واقفًا ورفع برأسه إلى السماء وقال: اللهم إني أشهدك على أنهم يدعونني أن أكفر بك وبكتبك ورسلك، وأن هذا الشيء ما أعمله. اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين. نفذت فيهم سهام الله. والله لتقلبن دولة بيبرس أسفلها أعلاها. ويكون أعز من فيها أذل من فيها ولينتقمنّ الله من الكبير والصغير، وكم أجد عليهم وما أدعو عليهم». فقلت أنا وشرف الدِّين بن سعد الدين: شيخُ الإسلام الأنصاري عُرِض على السيف أربع عشرة مرة لا يقال له: «وافِقْنا» بل اسْكُت ويقول: أُقْتَل ولا يسعني أن أسكت عمن خالفني.
وكان الشيخ سَكَتَ عنهم في دمشق، وما كان جرى شيء من هذا، وهم انفلتوا فينا بالسبّ القبيح والشتم، وما عليه أضر من أصحابه. ثم خرجوا من عنده.
وبعد ذلك جاء إلى عند الشيخ رجلٌ يقال له الشيخ عليّ الفرّا له منامات
خوارق فقال: رأيت في منامي كأن البحر قد زاد حتى دخل الماء في جميع حارات المدينة، وهو أسود مثل القطران وهو يغلي مثل القدر على النار، والشيخ راكب سفينة وقد ركب معه جماعة يسيرة وهو يقول: النجاء النجاء. وقد طلعتْ به من باب سعادة حتى جاءت إلى باب اللوق، وإذا بالسلطان سنقر راكب فيلًا وخلفه راكب القاضي ابن مخلوف والشيخ نصر، وأنا أقول: يا سيدي كيف نعمل حتى نخرج من هذا الكدر الذي نحن فيه إلى البحر الصافي وهذا الفيل في طريقنا؟ وأنت تقرأ {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] إلى آخرها، وما أصبت السفينة إلا أنها قد صارت في البحر الكبير.
ثم بعد أيام جاء عند الشيخ شمس الدِّين بن سعد الدِّين الحراني وأخبره أنهم يسفرونه إلى الإسكندرية. وجاءت المشايخ التدامرة وأخبروه بذلك، وقالوا له: كل هذا يعملونه حتى توافقهم، وهم عاملون على قتلك، أو نفيك. أو حبسك. فقال لهم:«أنا إن قتلت كانت لي شهادة، وإن نفوني كانت لي هجرة، ولو نفوني إلى قبرص لدعوت أهلها إلى الله وأجابوني، وإن حبسوني كان لي معبدًا، وأنا مثل الغنمة كيفما تقلبت تقلبت على صوف» ، فيئسوا منه وانصرفوا.
فلما كان بعدُ في صلاة المغرب جاء نائب والي المدينة بدر الدِّين المحب بن عماد الدِّين بن العفيف ومعه جماعة فقال: يا سيدي باسم الله. فقال له الشيخ: إلى أين؟ قال: إلى الإسكندرية قد رسم السلطان بذلك الساعة. فقال له: لو كنتم أخبرتموني بذلك حتى تجهزت للسفر وأخذت معي نفقة. فقال له: قد أمرت لك ولأصحابك ما يكفيك. فقال له: أنا الليلة ما أسافر. فقال له: ما
يمكنني أن أخالف مرسوم السلطان. فقال له معك مرسوم بأن تُسخطني؟ فقال: لا. وقام خرج من عنده. فغلق السجان باب الحبس، وراح.
فلما كان ثاني يوم، جاء عبد الكريم ابن أخت الشيخ نصر وحلف أن الشيخ نصر ما عنده علم من هذا، وانصرف.
فلما كان بعد صلاة العصر وقفت أبكي. فقال لي الشيخ: لا تبك، ما بقيت هذه المحنة تبطئ، فقلت له: أفتح لك في المصحف؟ فقال: افتح. فطلع قوله تعالى: {(126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ} [النحل: 127 - 128]، فقال: افتح في موضع آخر، فطلع قوله تعالى:{وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 50] إلى آخرها، فقال: افتح آخر، فطلع قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ
…
} [الفتح: 29] إلى آخرها
(1)
.
(1)
قال الشيخ في «مجموع الفتاوى» : (23/ 66): «وأما استفتاح الفأل في المصحف: فلم يُنْقل عن السلف فيه شيءٌ وقد تنازع فيه المتأخرون. وذكر القاضي أبو يعلى فيه نزاعًا، ذكر عن ابن بطة أنه فَعَله، وذكر عن غيره أنه كرهه.
فإن هذا ليس الفأل الذي يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يحب الفأل ويكره الطيرة. والفأل الذي يحبه هو أن يفعل أمرًا أو يعزم عليه متوكلًا على الله، فيسمع الكلمة الحسنة التي تسره: مثل أن يسمع: يا نجيح، يا مفلح، يا سعيد، يا منصور، ونحو ذلك»، كما لقي في سفرة الهجرة رجلًا فقال:«ما اسمك؟ » قال: يزيد. قال: «يا أبا بكر! يزيد أمرُنا»
…
» اهـ.
وانظر: «الإبداع في مضار الابتداع» (ص 74)، و «السنن والمبتدعات» (ص 123)، و «منسك ابن جماعة» .
فلما صلَّينا المغربَ بقي يدعو بدعاء الكرب، وأنزل الله عليه من النور والبهاء والحال شيئًا عظيمًا. وأشرت إلى المحبسين، كأن وجهه شمع يجلوه مثل العروس، حتى إذا راق الليل، جاء نائب الوالي فقال:«باسم الله» ، فبقوا يودّعونه ويبكون ويدعون عليهم بدعاء مختلف، أقله أن يسلبه الله نعمته.
وركب على باب الحبس، فقال له إنسان:«يا سيدي هذا مقام الصبر» . فقال له: «بل هذا مقام الحمد والشكر، والله إنه نازل على قلبي من الفرح والسرور شيء لو قُسِم على أهل الشام ومصر لفضل عنهم، ولو أن معي في هذا الموضع ذهبًا وأنفقته ما أديت عشر هذه النعمة التي أنا فيها» .
وخرج من باب سعادة، وركبنا في البحر إلى ذلك البر فَلقِيَنا أميرٌ يقال له بدر الدِّين طبر أمير عَشَرة مقدّم مائة، فمنعنا من السفر مع الشيخ وقال: ما معي مرسوم أن يجيء أحد مع الشيخ فقال الشيخ: «يا إبراهيم انزل إلى الشام، وقل لأصحابنا: وحق القرآن ــ ثلاث مرات ــ ما بقيت هذه المحنة تبطئ، وتنفرج قريبًا فوق ما في النفوس، ويقلب الله مملكة بيبرس أسفلها أعلاها، وليجعلنّ الله أعز من فيها أذل من فيها» .
فلما رجعنا بعد أن ودَّعناه انكسر في تلك الليلة البحر، ونقص الماء، وغلا الخبز وغيره، وما بقي شيءٌ لتقى، وبقيت الناس تلعنهم ويقولون: غرَّقوا ابن تيمية في البحر، ما بقي يطلع، فطلع جماعة من أكابر إسكندرية وصلحائها التقوا الشيخ، وقعد في البرج الأخضر حتى طلع السلطان الناصر من الكرك، وهرب بيبرس من السلطنة وسيَّر بطلبه مكرَّمًا.
* * * *
ذيل مرآة الزمان
(1)
لقطب الدِّين موسى بن محمد اليونيني الحنبلي (ت 726)
(سنة 699)
قال: «واجتمعوا (أي أهل دمشق) في هذا اليوم (الأحد الثاني من ربيع الثاني) بمشهد عليٍّ، واشتوروا في أمر الخروج إلى الملك محمود غازان، وأخْذِهم أمانًا لأهل البلد، فحضر من الفقهاء: قاضي القضاة وهو يومئذ خطيب الجامع بدر الدِّين بن جَماعة، والشيخ زين الدِّين الفارقي، والشيخ تقي الدِّين ابن تيمية
…
» وذكر جماعة كثيرة من العلماء. ثم قال: «وجماعة كثيرة من القُرَّاء والفقهاء والعدول» . (1/ 254).
وفيها أيضًا: قال: «وكان الناس بالبلد بلغهم ما حلَّ بإخوانهم
(2)
، فشقّ على الناس، وتوجّه الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية وجماعةٌ إلى شيخ المشايخ الذي نزل بالعادلية، وشَكَوا إليه الحال، فاتفق خروجه إليهم يوم الثلاثاء وسط النهار، فأدركهم بين الظهر والعصر، فردّ عنهم، وسمع التتار بقدومه وقدوم من سار معه، فهربوا
…
».
قال: «وكان الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية يمشي إلى من يُرْجى نفعُه أو شفاعته، فمضى إلى المعلم سليمان الهندي، وإلى شيخ المشايخ نظام الدِّين محمود بن علي الشيباني، وإلى سيف الدِّين قَبْجَق.
(1)
طبع المجمع الثقافي، أبو ظبي، ط 1، 1428 هـ، تحقيق د. حمزة عباس.
(2)
يعني في جبل الصالحية.
ثم إنه خرج يوم الخميس العشرين
(1)
من الشهر إلى مخيّم السلطان الذي يسمونه الأردو ــ وكان بِتَلّ راهط ــ فدخل عليه، ولم يمكَّن من إعلامه بما وقع، بل أُذِن له في الدّعاء له والإسراع، وقيل: إنه موجوعٌ من رجله، ومشغولُ الدماغ، وإنه إن علم بذلك لابدّ له من قتل جماعةٍ من المغل، ويحصل بذلك فتنةٌ وتَفَرقُ كلمة، وتكون الدائرة على أهل البلد وما شاكل ذلك، فاجتمع بالوزيرين سعد الدِّين ورشيد الدِّين وتحدَّث معهما، فذُكر أن جماعةً من المقدَّمين الأكابر لم يصل إليهم إلى الآن شيءٌ من مال دمشق، ولابدَّ من إرضائهم، وأُمر بإحضار جماعةٍ ممن كان أُسر، ورسم بالتفتيش على الأسرى في الجيش.
فدخل الشيخ تقي الدِّين ومن معه ليلةَ السبت إلى البلد، فلما كان في أثناء نهار السبت اشتدَّ الأمرُ بالناس، وضاق ضيقًا عظيمًا إلى غاية، وكَثُرت الأراجيف، وقيل: إن الأمر قد انتهى إلى البلد، وقد خبأ ما فيه للمغل خاصةً، وقد كتب السلطان أمانًا إلى أرْجَوَاشَ، فلم يلتفت إلى ذلك، وهم
(2)
يدخلون لا محالة بسبب تلك القلعة، ويجري في البلد ما جرى في الجبل
(3)
، وقيل: إنه من لم يخرج من البلد فدَمُه في عنقه، ومن أراد الخروج فليخرج إلى جبل الصالحية، والأولى أن يخرج الصُّلحاء والعلماء من البلد. فهلك الناسُ من هذا الكلام، وكان يُعزى أكثره إلى شيخ المشايخ، ثم إنه حمل حوائجه وخرج من العادِليَّة، فجَزَم الناسُ بذلك، وقالوا: لو لم يكن الخبر
(1)
كان في الأصل: «الخامس والعشرين» وأصلحه المحقق من المصادر.
(2)
(ط): «وهو» .
(3)
يعني: جبل الصالحية، كما سيأتي.
صحيحًا لما خرج منه مسرعًا، فلما كان مساءُ النهارِ المذكور رجع ببعض حوائجه، ورجع إليه الجماعة والأعيانُ، وقالوا: إن رَسَمَ السلطان بأن يضع على البلد شيئًا معلومًا سعينا في استخراجه، ويكون مثل الشراءِ للبلد، ويمنّ علينا السلطانُ بعِتقِ المسلمين». (1/ 272 - 274).
وقال: «وحكى لي الشيخ الإمام علمُ الدِّين ابن البِرْزَالي، قال:
في يوم الخميس خامس وعشرين، اجتمعتُ بالشيخ تقيِّ الدِّين ابن تيمية، فذكر اجتماعه بالأمير قُطْلُو شاه
(1)
، قال: وذكر لي قُطْلُوشاه أنه من أولاد جنكزخان، وأنه أصفر الوجه لا شعرةَ بوجهه أيضًا، من أبناء خمسين سنة، وأنه ذكر لهم أن الله ختم الرسالة بمحمد، وأن جنكزخان جدَّه كان ملك البسيطة، وكُلُّ من خرج عن طاعته وطاعة ذريته فهو خارجي.
وذكر اجتماعه بالملك غازان وبالوزيرين سعد الدِّين ورشيد الدِّين الوزير الطبيب، والشريف قطب الدِّين ناظر الخزانة، ومكاتبه صدر الدين، وبالنجيب الكحَّال اليهودي، وبشيخ المشايخ نظام الدِّين محمود، وبأصيل الدِّين ابن النَّصير الطُّوسي ناظر الأوقاف.
وذكر أنه رأى عند قُطْلو شاه صاحبَ سيس
(2)
، وهو أشقر كثُّ اللحية، ومعهم طائفةٌ قليلةٌ عليهم الذِّلَّةُ والإجرام، وذكر أن سفر قُطْلُوشاه كان ظهر
(1)
(ط): «قُطْلُغ شاه» في الموضعين، وسيأتي في الصفحة التالية على الصواب:«قطلوشاه» ، ويقال أيضًا:«خطلو شاه» . ترجمته في «أعيان العصر» : (2/ 321 - 322)، و «الدرر الكامنة»:(2/ 85).
(2)
مدينة من أعظم الثغور الشامية بين أنطاكية وطرسوس «معجم البلدان» : (3/ 297). وكان صاحبها نصرانيًّا معاونًا للتتار والنصارى على المسلمين، عاملًا على أذيتهم.
الثلاثاء الثالث والعشرين من الشهر، وكان اجتماعه به بسبب الأسرى يوم الأحد حادي عِشريه، وبات ليلة الاثنين بالمُنَيْبِعِ
(1)
هو والقاضي الحنبلي والحنفي، بسبب أنهم يمضونَ إلى القلعة في الرسالة، وذكر أنهم يكتبون في جميع كتبهم وفرامينهم: بقوة الله تعالى وميامين الملَّة المحمدية.
وذكر أنه اجتمع بواحدٍ منهم، وظهر له منه صلاةٌ وسكينةٌ، فسأله: ما السبب في خروجك وقتال المسلمين؟ فقال: أفتانا شيخُنا بتخريب الشام، وأخْذِ أموالهم لأنهم لايصلّون إلا بأُجرةٍ، ولا يتَفقَّهون إلا بأُجرةٍ، وغير ذلك، وقال: إذا فعلتم ذلك بهم يرجعون إلى الله ويتوكلون عليه!
وذكر وجيه الدِّين ابن مُنَجَّا وابن القُطَيْنةِ أنه هلك لكلٍّ منهما مئة ألفٍ وخمسون ألف درهم، وذكر الوجيه ابن مُنجَّا أن الذي حُمِلَ إلى خِزانة قازان ثلاثةُ آلاف ألف وستُّ مئة ألف درهم، سوى ما تَمَحَّقَ من التَّراسيم عليهم والبراطيل
(2)
والاستخراج لغيره من الأمراءِ والوزراءِ وغير ذلك، بحيث إن الصفيَّ السِّنجاري استخرج لنفسه ما يخصُّه أكثرَ من ثمانين ألفِ درهم، وللأمير إسماعيل مئتي ألف، وللوزيرين نحو أربع مئة ألف درهم، وغيرهم، ما في الجماعة إلا من سفى وجبى. وهذا المبلغ الذي ذكرناه خارجٌ عما تَبَرْطَلوه من المصادَرِين المطلوبين، وجماعةٌ أخرى ما يمكن تعيينهم، حصل لهم بمقدارِ ما ذُكر وزيادة، نسأل الله العافية. (1/ 291 - 294).
(1)
المنيبع: قرية بقرب دمشق بالشرق القِبْلي على وادي دمشق الأعلى، وهي ما كان يسمى بـ «صنعاء دمشق». انظر «توضيح المشتبه»:(4/ 94)، و «معجم البلدان»:(3/ 429). ومكانها اليوم جامعة دمشق. «خطط دمشق» (ص 443) للعلبي.
(2)
البراطيل هي: الرِّشا.
قال: وفي يوم الاثنين الثامن والعشرين من الشهر، دخلَ القلعةَ الخطيبُ بدرُ الدين، والشيخ تقي الدينِ، ومعهما نائب الأميرِ يحيى وقومٌ من جهته، وتكلم الناسُ في صلحٍ يقع بين نائبِ القلعةِ وبين نُواب قازانَ، ولم يُعْلَمْ ما جرى بينهم.
ثم استهلَّ شهرُ رجب المبارك ليلةَ الأربعاءِ، والخطيبُ بدرُ الدِّين وتقيُّ الدِّين ابن تيميَّة داخلان إلى أرْجَواشَ وقَبْجَقَ ساعيان في أمرِ الصُّلح بينهما، وتسكينِ أمرِ البلدِ، ولم يتم أمر الصلح بينهما.
وفي يوم الخميس ثاني الشهرِ، طُلب الأعيان من القضاة والعلماءِ والرؤساءِ بأوراقٍ عليها علامة قَبْجَق إلى داره، فحضر جماعة منهم، فحلفوا للدولةِ المحموديةِ بالنصحِ وعدمِ المداجاة وغير ذلك.
وفي يوم الخميس أيضًا، توجه الشيخ تقي الدِّين إلى مخيّم بولاي بسبب الأسرى واستفكاكهم، وكان معه خلقٌ من الأسرى كثيرون إلى غاية، فأقام ثلاثَ ليالٍ، وتحدث معه في أمر يزيد بن معاوية، وهل تجبُ محبتُه أو بغضُه، فقال له تقي الدين: لا نحبُّه ولا نبغضُه، فقال:
(1)
تجب لعنته؟ فعلم الشيخ أن عنده ولاء، فكلمه بما طابت نفسُه. فقال له: هؤلاء أهل دمشق قتلوا الحُسين، فقال له الشيخ: لم يكن من أهل الشام من حضر قتل الحُسين، والحسين قُتِل بأرض كَرْبلاء من العراق. فقال: صحيح، وكانوا بنو أُمَيَّةَ خلفاء الدنيا، وكانوا يحبون سُكنى الشام، وهذه بلاد الأنبياء والصلحاء، فسكن غيظُه عن أهل الشام، وذكر أن أصله مسلم من أهل خُراسان، وجرى بينه وبين الشيخ بحوثٌ كثيرةٌ وكلامٌ كثير. (1/ 299 - 300).
(1)
أضاف المحقق «وهل» والنص مستقيم بدونها.
قال: وفي بُكرة يومِ الجمعةِ المذكور دار الشيخ تقي الدِّين ابن تيميَّة بدمشق على ما جُدِّدَ من الخَمَّاراتِ، فَبدَّدَ الخمور، وكسر الجرار، وشقَّ الظُّروف، وعزَّر الخمَّارين هو وجماعتُه، أثابه الله تعالى.
ولازم الناس في هذه الليالي المبيت على الأسوار، ثم أظهروا عُددًا حسنة وتجمُّلًا. وكان الشيخ تقي الدِّين وأصحابه يمشون على الناس، ويَقرأ الشيخُ عليهم سُوَر القتال وآيات الجهاد، وأحاديث الغزو والرِّباط والحَرَس، ويحثّهم
(1)
على ذلك ويحرِّضهم. (1/ 302)
(سنة 702)
قال: وفيها في جمادى الأولى وقع بيد نائب السلطنة بدمشق كتابٌ إليه، له صورة نصيحة في حقه على لسان قُطُز ــ من مماليك الأمير سيف الدِّين قَبْجَق ــ وفيه: أن الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية والقاضي شمس الدِّين ابن الحريري يكاتبان قَبْجَق ويختارانه لنيابة المُلك، ويعملان على الأمير، وأن كمال الدِّين ابن العطار وكمال الدِّين ابن الزَّملْكاني كاتبَي الدَّرَج يطالعان بأخبار الأمير، وأن جماعةً من الأمراء معهم في هذه القضية، حتى ذكروا جماعة من مماليك الأمير وخواصّه، وأدخلوهم في ذلك، وذكروا عنهم غير ذلك.
فلما قرأ الأمير هذا الكتاب وفهمه عَرَف بطلانه، وأسرّه إلى بعض الكتّاب، وطلب التعريف بمن نقله، فاجتهدوا في ذلك، حتى وقع الخاطر والحَدْسُ على
(1)
في بعض النسخ: «ويحدثهم» . وهي التي أثبتها محقق الكتاب، وما أثبتها من غيرها، وهو أصح.
فقير يُعرف باليَعْفوري، ممن كان قد نُسب قبل ذلك إلى فضول وتزوير، فمُسِك، فوُجِد معه مسوّدة بالكتاب المذكور بعينه، فضُرب فأقرّ على شخصٍ آخر يعرف بأحمد القُبّاري، كان أيضًا قد نُسِب إليه زور ودخولٌ فيما لا يعنيه، فضُرب الآخر، فاعترف وعيَّن جماعةً من الأكابر كانوا هم الحاملين لهما على ذلك، وكان قصدهم تشويش خاطر الأمير من خواصِّه والسعي إلى هلاك المذكورين في الكتاب، فانجلت القضيةُ للأمير وعرف الأمرَ فيها معرفة شافية، وتُركوا في الحبس.
فلما كان يوم الاثنين مستهلّ جمادى الآخرة بُكْرة النهار أخذوا المذكورين والكاتب، وطيف بهم بدمشق ونُودي عليهم: هذا جزاء من يتكلم فيما لا يعنيه ويفتري على الأكابر. وعقيب ذلك وصلوا بهم إلى سوق الخيل، وَوُسِّطَ
(1)
منهم اثنان وهما الفقيران: اليعفوري وأحمد القُبّاري، وعُلقا على الخشب. والثالث وهو التاج الناسخ ابن المناديلي قُطعت يمينه وحُمل على البيمارستان. (2/ 684 - 685)
قال: ثم إن الجيش الذي كان قد اجتمع بحماة من عسكرها وعسكر حلب وعسكر الحصون تأخر إلى حمص، وخرج معهم جماعة كبيرة من حماة، وتركوا أهاليهم وأموالهم، وحصلت لهم مشقة كبيرة، وشدة عظيمة، ووصلوا إلى حمص فلم يروا المقام بها خوفًا من أن يدهمهم العدو المخذول، فتأخروا عن حمص، فلم يروا منزلةً تليق بهم بالجيش، فوصلوا إلى المَرْج يوم الأحد الخامس والعشرين من الشهر، وذكروا أن التتار جاوزوا حمص إلى
(1)
التوسيط: قطع الشيء نصفين.
قارا، ثم رجعوا إلى حمص، وذكروا أن طائفةً منهم وصلت بعلبك ثم رجعت، وذلك على طريق الغارة والعبث والفساد، وأصبح الناس يوم الأحد المذكور في أمر عظيم لقرب العدو، وتأخر السلطان وجمهور الجيش، فشرعوا وتحركوا في الجَفْل، وذكروا أن هذا الجيش الذي قد اجتمع بالمرج ودمشق ليس لهم طاقة بلقائه، هذا وإنما سبيلهم أن يتأخروا عنهم مرحلتين، واحتيط البلد، فلما تعالى النهارُ اجتمع الأمراء بالميدان، وتحالفوا على لقائهم، وشجعوا أنفسهم، ونوديَ في البلد: أن لا يجفل أحد، ولا يسافر أحد، فسكنَ الناسُ، وجلس القضاة بالجامع وحلَّفوا جماعةً من الفقهاء والعامة على حضور الغزاة، وتوجه الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية إلى جهة العسكر الواصل من حماة، فأدركه بالقُطَيفة
(1)
والمَرْج، فاجتمع بهم وأعلمهم بما اتفق عليه رأي الأمراء بدمشق، فوافقوا على ذلك.
وفي يوم الأربعاء الثامن والعشرين من شهر شعبان اختبط الناس كثيرًا، وجَفَل جميع القرى والحواضر، واعتكر الناسُ بأبواب دمشق، ودخل كثير من الناس إلى القلعة، وامتلأت المنازل والطرق، وحصل التنازع في ذلك، وتشوَّشت القلوب بسبب أنَّ جماعةً من الجيش توجهوا إلى الكُسْوة
(2)
وناحيتها، فتكلّم الناسُ في أن هؤلاء يريدون اللحاق بالسلطان وبقية الجيش، وهذا يقتضي ترك الكسوة، يقولون: ليس ثَمَّ شيء بالكلية ويتعجّبون لما فعل الله
(1)
قرية دون ثنية العقاب للقاصد إلى دمشق من ناحية حمص. «معجم البلدان» : (4/ 378).
(2)
الكسوة: مدينة جنوب دمشق، كان يصنع بها كسوة الكعبة، انظر: www.keswa.net. و «معجم البلدان» : (4/ 461).
بهذا الجيش وأزاله في لحظة، [وتركوا]
(1)
البلدَ [ومن فيه وراء ظهورهم]، وانزعج الناس لذلك. ومن الناس من ذكر أن القصد أن يرتادوا موضعًا للوقعة يكون أصلح من المَرْج، فإن فيه خضرًا ومياهًا كثيرة، والله أعلم بحقيقة الحال.
وذكروا أن التتار قرّبوا حتى وصل منهم طائفة إلى القُطَيفة، ومنهم من يقول: تُرك الجيش بأسره على الجسور قبلي دمشق، فسكن الناس بين الظهر والعصر، فلما كان بعد العصر شرع الناس يتحدثون في رحيلهم من هناك، فمن الناس من يقول: قد شرع المصريون في الرحيل والشاميون يتبعونهم بلا شك، واضطرب الناس، وكان الشيخ تقي الدِّين في البلد، وأما القضاة فكانوا قد خرجوا مع الجيش.
وبات الناس ليلة الخميس، وفي أول الليل رأى الناس نيرانهم وخيمهم، وفي آخره لم يروا لهم أثرًا، فأصبح الناسُ بكرةَ يوم الخميس، وقد اشتدَّ الأمرُ واضطربَ البلدُ، وغُلِّقت الأبواب، وازدحم الناس في القلعة، وهرب من قدر منهم، ومنهم من عجز، وخرج الشيخ تقي الدِّين بُكرةً إلى جهتهم، ففُتِح له باب النصر بمشقَّة، وحصل له لومٌ كثير من الناس، لكونه كان من مواقع الجفل، وبقي البلد لا متولي فيه والناس رَعاع، وغلا السِّعر، ثم انحصر الناس فلا يجسر أحدٌ على الخروج إلى بستانه ولا مزرعته ولا داره، وخرجت الشلوح واللصوص إلى البساتين يقطفون المشمش قبل أوانه، وكذلك الباقلاء والقمح والشعير في السنبل، والخسّ والثوم والبصل وغير ذلك من الزرعات، والناس في حيرة، وحيل بينهم وبين خبر المسلمين، وانقطعت الطريق من دمشق إلى
(1)
(ط): «في لحظة (من) البلد، ومن فيه
…
»، ولعل ما أثبته أنسب. وستتكرر العبارة في الصفحة الآتية.
الكسوة في ساعة واحدة، فيرجع هذا وهو مجروح، وهذا وهو مُشَلَّح، وظهرت الوَحْشة على البلد والحواضر وجميع الحواضر أُخليت، وليس للناس غير الصعود في مآذن الجامع ينظرون كذا وكذا، فتارة يقولون: رأينا سوادًا وغبرة من جهة المرج، فيخاف الناس ويجزمون بأن التتار قد أحاطت بهم، وينظرون إلى جهة الكسوة يقولون: ليس ثَمَّ شيء بالكلية، ويتعجبون لما فعل الله بهذا الجيش وأزاله في لحظة
(1)
مع الكثرة وجَودة العُدَد والسلاح والثياب والهيئات، ثم يقولون: ليس لهم من يجمعهم على أمر واحد، فلهذا حصل فيه الفشل والجبن والتخاذل، فإنا لله وإنا إليه راجعون. (2/ 689 - 691)
قال: فلما كان بعد الظهر قُرئ كتاب السلطان إلى متولي القلعة يخبر فيه باجتماع الجيش ظهر السبت بشَقْحَب، وبعد العصر قُرئت بطاقة من نائب السلطنة الأمير جمال الدِّين آقوش الأفرم فيها تصريح بالمقصود أكثر من الكتاب السلطاني مضمونها: أن الوقعة كانت منذ عصر السبت إلى الساعة الثانية من يوم الأحد، وأن السيف كان يعمل في رقابهم ليلًا ونهارًا، وأنهم هربوا وركنوا إلى الفرار، ومنهم من اعتصم بالهضائب والتلال، وأنه لا يفلت منهم أحدٌ إلا القليل، فأمسوا الناس وقد استقرَّت خواطرهم، واستبشروا بهذا الأمر العظيم والنصر المبارك، ودقَّت البشائر بالقلعة من أول النهار المذكور، وبعد الظهر نُودي بالقلعة بإخراج مَنْ دخلها من الجُفَّال لأجل نزول السلطان بها.
فشرع الناس في نقل أمتعتهم وحوائجهم، ووقع أيضًا بين الظهر والعصر مطر عظيم غزير، ويوم الاثنين رابِعِه وصل الشيخُ تقي الدِّين ابن تيمية
(1)
قوله «الكسوة يقولون
…
في لحظة» سبقت العبارة بنصها في الصفحة السابقة، فلعله انتقال نظر من الناسخ
…
وأصحابه بكرة النهار والناس يُهنّئونهم ويصافحونهم، وخرج خلق وجمع كثير من البلد إلى مكان الوقعة لأجل الفُرْجة والعيان والمكاسب، ووصل نائب الشام والعسكر الشامي معه وتوجهوا إلى جهة المرج، ونودي: أن لا يبيت بالبلد منهم أحد، ومن بات شُنِق وسبب ذلك الإسراع خلف المنهزمين، ونودي: من أراد الكسب والغزاة فليخرج إلى الثنية فإن هناك طائفة منهم. (2/ 695 - 696)
قال: وفيها (سنة 702)، توفي الشيخ المحدِّث الفقيه نجم الدِّين موسى بن إبراهيم بن يحيى الشَّقْراوي الحنبلي بقاسيون ودفن به من الغد، وكان فاضلًا، سمع على الحافظ ضياء الدين، وعلى جماعة كثيرة، واشتغل كثيرًا بالفضائل، وله نظم حسن، فمنه ما مدح به شيخَنا العلامة تقيَّ الدِّين أبا العباس أحمد ابن تيمية الحراني، رحمه الله تعالى قوله:
إن بَني المجد
(1)
أهلُ بيتٍ
…
لله في بيتهم عنايه
ما زال في بيتهم إمامٌ
…
يقول بالعدل في الولايه
فأحمدٌ أحمدٌ مقامًا
…
في العلم والفضل والدِّرايه
فخذ علوم الحديث نصًّا
(2)
…
تُسْنَد بالنقل والروايه
فهو إمامٌ لكل فضلٍ
…
يحوطه الله بالكلايه
(2/ 734 - 735)
(1)
تحرفت إلى «المجاهد» . والمجد هو مجد الدِّين أبو البركات جد شيخ الإسلام ابن تيمية.
(2)
(ط): «نصبًا» ولعله ما أثبت.
(سنة 703)
قال: فلما كان بكرة الاثنين ثاني عشري الشهر، وصل صدر الدين
(1)
على البريد إلى دمشق، وتلقَّاه جماعة، وحضر عند نائب السلطنة بالقصر، وانفصل عنه قاصدًا للجامع المعمور عَقيبَ الظهر، ففُتِح له باب دار الخطابة، فدخلها، وحضر المهنئون والمؤذنون والقراء والناس على اختلاف طبقاتهم، فلما حضرت
(2)
العصر صلى بالناس بالمقصورة، وعلم من قوَّة نفسه وهمَّته أنه لا يترك شيئًا من المناصب التي وليها والتي كان مباشرها، وأنه يستعيد الشامية الجُوَّانية من كمال الدِّين ابن الزَّمَلْكاني، والعذراوية من القاضي جلال الدين، واختلف الناس في أمره، فطائفة تختاره، وطائفة ما تختاره، وبقوا حزبين، فاتفق رأي جماعةٍ على القيام عليه مع الشيخ تقيّ الدِّين ابن تيمية، فاجتمع بالكَلَّاسة بعد الظهر يوم الأربعاء رابع عِشْري الشهر، كانوا خلقًا كثيرًا، وتوجهوا إلى القصر الأبلق إلى نائب السلطنة، وكان منهم قاضي القضاة نجم الدِّين ابن صَصْرَى، وابن الحريري، وكمال الدِّين [ابن] الشريشي، والقاضي جلال الدِّين القَزْويني، والشيخ محمد بن قوام، والشيخ علي الكردي، وعلاء الدِّين ابن العطار، وتقي الدِّين ابن تيمية، وجماعة من الفقهاء والفقراء وعامة التجار والناس خلقًا كثيرًا، وكل واحد منهم معروف بالصلاح والهمة وقوة النفس، فلما حضروا عند نائب السلطنة أكرمهم، وعظّم شأنهم، وأجابهم إلى ما سألوه من مراجعة السلطان في هذه التولية، وإعلامه أنها وقعت غير الموقع، ومُنِع صدر الدِّين
(1)
يعني: ابن الوكيل (ت 716).
(2)
زاد في (ط): «صلاة» والنص صحيح بدونها ..
من الإمامة والخطابة إلى أن يصل الجواب السلطاني بما يعتمده المسلمون.
وأمرَ أن تُكْتَب الكتبُ بذلك، ورَسَم أن يستمرّ في الوظيفة نائبًا للشيخ زين الدِّين على ما كان عليه، فشرع الشيخ أبو بكر الجزري في الإمامة عشاء الآخرة ليلة الخميس، والخطابة القاضي تاج الدِّين [الجَعْبري]، وكانت قد هُيئت الخِلْعَة للخطيب، فحُمِلت ليلة الخميس إلى نائب السَّلْطنة، وتحدَّث الناس مع نائب السلطنة في أمر صدر الدِّين المذكور في سؤاله بإمضاء ما بتوقيعه من المدارس فيها، وذلك بكرة الأحد الثامن والعشرين من الشهر، وهي المدرسة الشامية البرّانية، والشامية الجُوَّانية، ودار الحديث، والعذراوية.
فلما كان يوم الحادي والعشرين من ربيع الآخر وصل البريد ومعه الأجوبة من السلطان بما يعتمدون في أمره حُكْم الشرع الشريف، وأن المسلمين إذا لم يختاروه للخطابة والإمامة فلا يولَّى عليهم، بل يتفقون على من يرونه أهلًا لذلك فيكون هو المُولَّى، وأمْر دار الحديث والشامية يُتْبَع فيه حكم شرط الواقف ولا يُعدل عنه، وفي الكتب: وأننا لا نولِّي إلا لمن هو معدود في المقرّبين وفي العلماء وفيه الأوصاف الجميلة. (2/ 764 - 766).
(سنة 704)
قال: وفيها في يوم الاثنين سادس عِشْري شهر رجب حضر الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية وجماعته بمسجد النارنج جوار المصلى، وحضر معهم من الحَجَّارين، وقطعوا الصخرة التي يزورونها، وذكروا أنها
(1)
كانت سبب
(1)
(ط): «أن هي» !
بنيان المسجد ومجيء النذور، وكان للناس فيها [اعتقادات]
(1)
كثيرة. (2/ 814)
قال: وفيها، في ذي الحجة، توجه الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية إلى الجبليَّة
(2)
، وصُحْبتَه الأميرُ بهاء الدِّين قراقوش. وهم الجرديون والكسروانيون، بسبب الإصلاح، وأن يحضروا إلى الطاعة، وكان قبل سفر الشيخ تقي الدِّين قد توجّه السيد الشريف زين الدِّين ابن عدنان إليهم، فغاب أيامًا وعاد ولم يحصل اتفاق، فعند ذلك جُرّدت العساكر، وجُمعت الرجال من جميع بلاد الشام، ولم تزل تَرِد الجُموع من كل ناحية إلى سَلْخ الشهر، كما سيأتي ذكره في مستهل سنة خمس وسبع مائة إن شاء الله تعالى. (2/ 818 - 819)
(سنة 705)
قال: فلما كان مستهلّ رجب أمروا الناسَ بالصوم لأجل الاستسقاء، وخرج الناسُ يوم الخميس ثالث الشهر إلى ميدان المِزَّة، وحُمِل إلى هناك المنبر، وخرج نائب السلطنة وجميع الأمراء والقضاة والعلماء والفقهاء والقُراء والصوفية وعامة الناس مشاةً إلى هناك على الهيئة المشروعة. وخطب الخطيب شرف الدِّين [الفزاري] خطبةً حسنة، وزادها حُسْنًا بإيراده وفصاحته وإعرابه، وكان جمعًا عظيمًا.
(1)
بياض في المخطوط، وأثبتها المحقق «أقاويل» وهي كذلك في «عقد الجمان» للعيني، والأقرب ما أثبت، ويؤيده ما في «شذرات الذهب»:(6/ 9) قال: «وكان يزورها الناس وينذرون لها النذور، ولهم فيها اعتقاد» .
(2)
طائفة منسوبة إلى جبل عاملة في لبنان.
واصطلح عَقيب الاستسقاء تقيُّ الدِّين ابن تيمية وصدر الدِّين ابن الوكيل، تلاقيا وتسالما وتعاتبا معاتبة لطيفة
(1)
. (2/ 845)
قال: وفي يوم الاثنين ثامن رجب طُلِب القضاة والفقهاء، ومن جُمْلتهم الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية إلى حضرة نائب السلطنة بالقصر الأبلق، فلما اجتمعوا عنده سأل تقيَّ الدِّين عن
(2)
التعيين عن عقيدته، فأملى شيئًا منها، ثم أحضر «عقيدته الواسطية» ، وقُرِئت في المجلس وبُحِثَ فيها، وبقي مواضع أخرى إلى مجلس آخر.
ثم اجتمعوا يوم الجمعة ثاني عشر رجب الفرد، وحضر المجلس أيضًا الشيخ صفيُّ الدِّين الهندي، وبحثوا معه وسألوه عن مواضع خارج العقيدة، وجعلوا الشيخَ صفيَّ الدِّين يتكلم معه، ثم رجعوا عنه، واتفقوا على الشيخ كمال الدِّين ابن الزَّمَلْكاني يُحاقِقُه، ويبحث معه من غير مسامحة ورضوا بذلك، وانفصل الأمر فيما بينهم أنه أشْهَد تقيُّ الدِّين على نفسه الحاضرين أنه شافعي المذهب يعتقد ما يعتقده الإمام الشافعي رضي الله عنه، فرُضِيَ منه بهذا القول، وانصرف كلٌّ منهم إلى منزله، وبعد ذلك حصل من أصحاب الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية كلام هذياني وقالوا: ظهر الحق مع شيخنا تقيّ الدين، فأحضروا أحدًا منهم إلى القاضي جلال الدِّين الشافعي إلى العادلية فصُفِعَ وأُمِر بتعزيره، فشُفِعَ فيه، وكذا فعل الحنفي باثنين آخرين.
(1)
انظر ما سبق (ص 175 - 176) من قيام العلماء وغيرهم ضد تولي ابن الوكيل للخطابة والإمامة وغيرها. وانظر مناظرة وقعت بين ابن تيمية وابن الوكيل في «العقود الدرية» (ص 145 - 167) و «مجموع الفتاوى» : (11/ 135 - 156).
(2)
كذا في (ط).
فلما كان يوم الاثنين ثاني عِشْري رجب الفرد قرأ الجمال المِزِّي المحدِّث فصلًا في الرد على الجهمية من كتاب «أفعال العباد» من تصنيف البخاري، قرأ ذلك تحت النسر
(1)
في المجلس العام المعقود لقراءة «البخاري» ، فغضب بعض الفقهاء الحاضرين وقال: نحن المقصودون بهذا التكفير، وسَعَوا به إلى قاضي القضاة نجم الدِّين ابن صَصْرَى الشافعي، فطلبه ورَسَم بحبسه، فبلغ تقي الدِّين ابن تيمية، فقام وأصحابه خلفه إلى الحبس وأخرجوه منه، فطلع قاضي القضاة إلى عند ملك الأمراء، وطلعَ أيضًا تقيّ الدين، فالتقيا هو والقاضي نجم الدين، واشتطَّ تقي الدِّين على القاضي نجم الدين، [وذكر نائبه] جلال الدين، وأنه آذى أصحابه بسبب غيبة نائب السلطان في الصيد، وجرى أمور يطول شرحها، فعند ذلك رسم نائب السلطنة الأمير جمال الدِّين الأفرم أن ينادى بدمشق بظاهرها بمرسوم سلطاني: من تكلم في العقائد حلَّ ماله ودمه ونُهِبت داره، وكان قصد نائب السلطنة تسكين الفتنة.
فلما كان يوم الثلاثاء سَلْخ رجب جمعوا القضاة والفقهاء، وعُمِل مجلس آخر بالميدان بحضور نائب السلطنة، وتباحثوا في أمر العقيدة كثيرًا، فجرى من صدر الدِّين ابن الوكيل كلام في معنى الحروف وغيره، فأنكر عليه ابن الزَّمَلكاني، فقال كمال الدِّين لقاضي القضاة نجم الدِّين ابن صَصْرَى: ما سمعت ما قال؟ فكأنه تغافل حتى تنكسر الفتنة، فقال كمال الدين: ما جرى على الشافعية قليل كونك تكون رئيسهم إشارة إلى ما ادعاه على صدر الدين، فاعتقد قاضي القضاة نجم الدِّين أن الكلام له، فقال: اشهدوا عليّ
(1)
أي تحت قبة النسر بالجامع الأموي.
أنني عزلت نفسي، وقام من المجلس، فلحقه الأمير ركن الدِّين بيبرس العلائي، وعلاء الدِّين أيدُغْدي شقير، وأعادوه إلى المجلس، وجرى كلام كثير في ذلك.
وبعد ذلك ولَّاه الأمراء الحكم، وحكم القاضي الحنفي بصحة الولاية، وأنفذها المالكي وقبل الولاية بحضور ملك الأمراء، فلما نزل إلى داره لاموه [أصحابه، وخشي على نفسه ورأى أن الولاية لا تصح]، فطلع إلى تربتهم بسفح قاسيون وأقام بها وصَمَّم على العزل، وبقي الأمر متوقفًا، فلما كان بعد أيام رسم ملك الأمراء لنوابه بالمباشرة إلى حيث يرد جواب السلطان.
فأما القاضي جلال الدِّين فباشر، وأما تاج الدِّين الجَعْبري فلم يباشر الحكم، فلما كان ثامن عِشْري شعبان وصل بريديٌّ من مصر وعلى يده كتابان: كتاب لملك الأمراء، وكتاب لقاضي القضاة بعوده إلى ولايته ويقولون في الكتاب:
فرِحْنا باجتماع رأي العلماء على عقيدة الشيخ، فباشر القاضي يوم الخميس مستهل رمضان، وسكنت القضية.
فلما كان يوم الاثنين خامس رمضان وصل من السلطان بريديٌّ يُعرف بالعُمَري إلى دمشق بطلب قاضي القضاة نجم الدِّين ابن صَصْرَى وتقي الدِّين ابن تيمية، ويقولون: تُعرِّفوننا مما وقع في زمن جاغان سنة ثمان وتسعين وست ومئة بسبب عقيدة ابن تيمية وفيه إنكار عليه، وأن تكتبوا لهم صورة العقيدتين الأولى والأخيرة، فطلبوا القاضي جلال الدِّين الحنفي وسألوه عما جرى في أيامه. فقال: نُقِل عنه كلام قاله فطلبناه فأجاب عنه،
وكذلك القاضي جلال الدِّين القزويني، فإنه أحضر العقيدة التي كانت قد أُحضرت في زمان أخيه
(1)
، وجرى ما تقدم ذكره، وتحدَّثوا مع ملك الأمراء في أن يكاتب في أمرهم فأجاب.
فلما كان يوم السبت عاشر رمضان، وصل غلام ملك الأمراء على البريد من مصر، وأخبرَ أنَّ الطلب على ابن تيمية كثير، وأنَّ القاضي
(2)
قد قام في قضيته قيامًا عظيمًا، وأن الأمير ركن الدِّين الجاشنكير معه في هذا الأمر، ونقل أشياءَ كثيرة عن الحنابلة قد وقعت بالديار المصرية، وأن بعضهم قد عُزِّروا، وأن القاضي الحنبلي والمالكي جرى بينهما كلام، فلما سمع ملكُ الأمراء كلامَه انحلَّت عزائمه عن المكاتبة بسببهم، وحضر البريديُّ العُمَري، وقال له: إما أن تسيّرهما معي، وإما أن تكتب جواب المطالعة، فلما كان بكرة يوم الأحد حادي عشر شهر رمضان حضر شمس الدِّين محمد المَهْمَندار إلى تقي الدِّين ابن تيمية وقال له: قد رسم ملك الأمراء أن تسافر غدًا أنت والقاضي، فأجاب بالسمع والطاعة، وراح إلى القاضي وعرّفه، وشرعوا في تجهيز أشغالهما، وسافروا في يوم الاثنين ثاني عشر شهر رمضان، فسافر القاضي خامسة النهار، وتقي الدِّين الثامنة، وفي صحبته أخواه: الشيخ شرف الدِّين عبد الله، وزين الدِّين عبد الرحمن، ومن أصحابه: شرف الدِّين ابن منجّا، وتقيّ الدِّين [أبو حفص بن] شُقَير، وفخر الدِّين وعلاء الدِّين أولاد الصائغ، وشمس الدِّين التّدْمري وغيرهم.
(1)
إمام الدِّين القزويني.
(2)
يعني: القاضي ابن مخلوف المالكي، كما سيأتي.
وفي يوم الجمعة سابع شوال وصل البريد إلى دمشق وأخبر بوصول القاضي نجم الدِّين وتقي الدِّين إلى القاهرة يوم الخميس ثاني عشري رمضان.
وفي يوم الجمعة ثالث عِشْريّه
(1)
عُقِد له مجلس في دار نائب السلطنة بقلعة القاهر، حَضَره القضاة والعلماء والفقهاء والأمراء والأمير ركن الدِّين الجاشنكير عقيب صلاة الجمعة.
فتكلَّم القاضي شمس الدِّين ابن عدلان
(2)
الشافعي وادعى دعوة شرعيَّة على تقي الدِّين ابن تيمية.
فحمد الله تعالى، وأراد أن يتكلم في ذلك، وأن يُدْخِل أمرَ العقيدة في عقيب وعظه.
فقيل له: قد ادّعي عليك بدعوى شرعية أجب عنها.
فأراد أن يعيد التحمُّدات، وأن يذكر الأدلة والحجج، فما مُكِّن، وقيل له: أجب، فتوقف، فأُلِحَّ عليه، وكُرِّر عليه القول مرارًا عديدة.
فقال لهم: عند من هي الدعوى؟
قيل له: عند قاضي القضاة زين الدِّين المالكي.
(1)
(ط): «عشرين» .
(2)
(ط): «عدنان» تحريف. وهو القاضي محمد بن أحمد بن عثمان الكناني المصري، كان مقربًا من الجاشنكير، انظر «أعيان العصر»:(4/ 297 - 299)، و «الدرر الكامنة»:(3/ 333 - 334).
فقال: هو عدوِّي وعدوّ [مذهبي]. وأظنه أساء القول على الحاكم
(1)
.... فطال الأمر، ولم يزدهم على هذا القول ....
(2)
فعند ذلك حكم القاضي المالكي بسحبه
(3)
من المجلس، ورَسَم بحبسه وحبس أخويه شرف الدِّين وزين الدِّين معه، فحبسوهم في برج من أبراج القلعة، فقيل: دخل عليهم بعض غلمان الأمراء ومعه حلاوة، وتردَّد إليه جماعةٌ من الأمراء، فبلغ القاضي، فطلع واجتمع بالأمراء في أمره، وقال: يجب عليه التضييق إذا لم يقبل، وإلا فقد ثبت كفره ووجب قتله، فنقلوه وأخويه إلى الجبِّ بقلعة الجبل ليلة عيد الفطر.
وبعد قيام تقي الدِّين ابن تيمية من المجلس المذكور تكلَّم قاضي القضاة بدر الدِّين ابن جَماعة في مسألة القرآن المجيد وشيء من عقيدة الإمام الشافعي رضي الله عنه، فقيل لقاضي القضاة شمس الدِّين الحنفي السروجي: ما تقول في ذلك؟ فقال: كذا أقول وأعتقد، فقالوا بعده لقاضي القضاة شرف الدِّين الحنبلي: ماذا تقول؟ فتلَجْلَج، فقال له الشيخ شمس الدِّين القروي المالكي: جدِّد إسلامك وإلا ألحقوك به، أنا أحبك وأنصحك، فخجل فلقَّنه قاضي القضاة بدر الدِّين ابن جماعة ما يقول، فقال الذي لقنه، وانفصل المجلس.
(1)
ما بين المعكوفين بياض بالأصل وأكملته من المصادر.
ولم يذكر أحد ممن نقل هذه المناظرة أن شيخ الإسلام أساء القول على أحد، فظنّ المؤلف يبقى ظنًّا!
(2)
هذه النقاط وما قبلها تشير إلى بياضات في الأصل.
(3)
(ط): «بحبسه» ولعله ما أثبت. وفي المصادر «فأقيم من المجلس» .
ووصل كتابٌ للشيخ علاء الدِّين القونوي إلى القاضي جلال الدِّين القزويني يخبر بذلك، وورد عقيب ذلك كتاب من فخر الدِّين المعايكي إلى الشيخ كمال الدِّين ابن الزَّمَلْكاني بذلك، ويخبر أن السلطان رسم بعزل جماعة من متولي دمشق يأتي ذكرهم. (2/ 846 - 853)
وقال: وكان قاضي القضاة عرض الكتب
(1)
على ملك الأمراء، فرسم بقراءتها، وكانوا قد بيَّتوا على جَمْع
(2)
الحنابلة، وجمعوهم في مقصورة الخطابة بالجامع، وبعد الصلاة حضروا القضاة ومعهم الأمير ركن الدِّين العلائي إلى المقصورة، فقُرِئ تقليد القاضي نجم الدِّين باستمراره على القضاء، وقضاء العسكر، ونظر الأوقاف وزيادة المعلوم.
وقرئ بعده الكتاب الذي يتعلق بمخالفة تقي الدِّين ابن تيمية في عقيدته وإلزام القضاة خصوصًا الحنابلة، وفيه الوعيد الشديد والعزل من المناصب والحبس وأخذ المال والروح.
وبعض نُسْخةِ الكتاب:
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي تنزَّه عن الشبيه والنظير، وتعالى عن المثيل، فقال عز وجل:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ} [الشورى: 11]، نحمده على أن ألهمنا العمل بالسنة والكتاب، ودفع في أيامنا أسبابَ الشكّ والارتياب،
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةَ مَنْ يرجو بإخلاصه حُسن العُقبى والمصير، وينزِّه خالقه عن التحيّز في جهة لقوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4].
ونشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، الذي نَهَج سبيل النجاة لمن سلك طريق مرضاته، وأمر بالتفكّر في آلاء الله، ونهى عن التفكّر في ذاته، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين علا بهم منار الإيمان وارتفع، وشيّد بهم من قواعد الدِّين الحنيفي ما شرع، وأخمد بهم كلمة من حاد عن الحق ومال إلى البدع، وبعد:
فإن العقائد الشرعية، وقواعد الإسلام المرعية، وأركان الإيمان العليّة، ومذاهب الدِّين المرضية، هي الأساس الذي يُبنى عليه، والموئل
(1)
الذي يرجع كلُّ أحد إليه، والطريق التي من سلكها فقد فاز فوزًا عظيمًا، ومن زاغ عنها فقد استوجب عذابًا أليمًا، فلهذا يجب أن تنفذ أحكامها، ويؤكد دوامها، وتُصان عقائد هذه الأمة عن الاختلاف).
وكلام كثير من هذا النوع وأشباهه، وقُرئ تقليد الخطيب بعده، وأحضروا بعد القراءة الحنابلةَ إلى عند قاضي القضاة المالكي، وبحضور رفاقه القضاة الشافعي والحنفي وتقي الدِّين الحنبلي، وسئلوا عما يعتقدونه، فقالوا: نحن نعتقد ما يعتقده الإمام الشافعي محمد بن إدريس رضي الله عنه، وهو قوله: آمنت بالله وما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله، وقال كل واحدٍ منهم هذه المقالة، ثم
(1)
(ط): «والمؤمل» والتصحيح مما سيأتي (ص 220).
نهضوا القضاة، فراح الحنبليُّ إلى المنارة الغربية، والمالكي إلى بيته، والشافعي إلى القاضي شمس الدِّين الحريري يتغمّم له بسبب عزله، وذكروا عنه ــ والله أعلم ــ أنه هو سعى في عزله، وشمس الدِّين الحنفي الأذرعي جلس للحكم في مشهد ابن عروة، وهنؤوه الناس بالخِلْعَة. (2/ 855 - 857)
قال: ذكر الأسباب الموجبة لفتنة الشيخ تقي الدِّين والحنابلة
اتفق أن بعضَ أصحابه جاب له في سنة ثلاث وسبع مئة
…
(1)
كل طائفة على مذهبهم.
وفيه أيضًا: أن جميع من في الديار المصرية من قاضٍ وشيخ وفقير وعالم وعامّي وجاهل مُحِطّون على الشيخ تقي الدِّين الحنبلي ما خلا القاضي شمس الدِّين الحنفي فإنه متعصِّب له، وقاضي القضاة بدر الدِّين ابن جماعة ساكت، وما عداهما مطلقون الألسنة في حقِّه.
وحاصل الأمر أنه جرى بالقاهرة في حقِّ الحنابلة من الأذى والإهانة والتنكيل أمر كبير قبل طلب الشيخ تقي الدِّين وبعد وصوله وحبسه، وأُلزموا جميعهم بالرجوع عن العقيدة، وأُكرهوا أن يقولوا: القرآن هو المعنى القائم بالنفس، وأن ما في المصحف عبارة عنه، وأن ما هو موجود في المصاحف ومحفوظ في الصدور ومقروء بالألسنة مخلوق، وأن القديم هو القائم بالنفس، وأُلزموا بنفي مسألة العلو والتصريح بذلك، وأن
(2)
جميع ما ورد من أحاديث الصفات لا يُجْرى على ظاهرها بوجه من الوجوه، وحُكم عليهم إن
(1)
الصفحة [49 ب] من الأصل ممحوّة، فبقي الكلام مبتورًا.
(2)
(ط): «وأن ذلك» خطأ.
لم يقولوا بذلك بالتجسيم، وجرى في حقّهم أذى كثير، وكان قاضيهم شرف الدِّين قليل البضاعة في العلم، فلم يَدْرِ ما يجيب به وتلكَّأ، وأخبروه رفقته الثلاثة أن هذا الذي يُدعى إليه ويُلْزَم به هو الصحيح، فأجاب إلى موافقتهم.
ثم هو ألزمَ جماعةً من أصحابه هذه المقالة وأخذ خطوطَهم.
وكان من تكلم في أمر العقيدة القاضي زين الدِّين المالكي انتصارًا للشيخ نَصْر المَنْبجي، ونكاية في حق رفيقيه شرف الدِّين الحنبلي وشيخ مالكي يعرف بشرف الدِّين القَروي، وساعدهما جماعة من الشافعية وغيرهم. وكانوا قد اتفقوا مع الأمير ركن الدِّين بيبرس المنصوري المعروف بالعُثماني والمتصرفين في الدولة على توهين هذه المقالة التي يعتقدها الحنابلة، وأنها بدعة، وقرروا ذلك معه، بحيث قام ينصرهم أتم قيام، ولم يُمكِنْ أحدًا معارضتُه ولا القيام بما يخالفه، فتم بأن قام في ذلك ما قصده.
وقرأت في بعض ما ورد من الكتاب أنه جرى على الحنابلة ما يعجزُ الإنسان أن يعبّر عنه، وفي بعضه:«ولقد تم على الطائفة الحنبلية شيء لم يجر مثلُه» . (2/ 859 - 860)
قال: وفيها في آخر يوم من شهر رمضان ليلة العيد أحضر الأمير سيف الدِّين سلّار بطبقته بقلعة القاهرة القضاةَ الثلاثةَ الشافعيّ والمالكي والحنفي، ومن الفقهاء: الباجي والجزري والنّمْراوي، وتكلم في إخراج تقي الدِّين ابن تيمية، فاتفقوا على أنه يُشْترط عليه أمور ويُلْزَم بالرجوع عن بعض العقيدة، فأرسلوا إليه من يُحضره ليتكلموا معه في ذلك، فلم يُجِب إلى الحضور، وتكرر الرسول إليه في ذلك ستّ مرات، وصمَّم على عدم الحضور في هذا الوقت،
فطال عليهم المجلس، وانصرفوا عن غير شيء.
وفي ثامن عِشْري ذي الحجة، أخبر نائب السلطنة بدمشق بوصول كتاب من ابن تيمية، وأعْلَم بذلك جماعةً ممن حضر مجلسه، ثم أثنى عليه وقال: ما رأيت مثله، ولا أشجع منه، وذكر ما هو عليه في السجن من التوجّه إلى الله تعالى، وأنه لم يقبل شيئًا من الكُسوة السلطانية ولا من الإدرارات السلطانية، ولا تدنَّس بشيء من ذلك.
وفيها، في يوم الخميس سابع عِشْري ذي الحجة طُلِبَ أخوا الشيخ تقي الدين، وهما شرف الدِّين عبد الله، وزين الدِّين عبد الرحمن إلى مجلس نائب السلطنة الأمير سيف الدِّين سلَّار، وحضر قاضي القضاة زين الدِّين المالكي وجرى بينهم كلام كثير، وأعيدا إلى مواضعهما بعد أن بحث شرف الدِّين مع القاضي وظهر عليه في النقل والمعرفة وخَطَّأه في مواضع ادَّعَى فيها الإجماع.
وفي يوم الجمعة التالي لليوم الأول، أُحْضر شرف الدِّين وحده وحضر القاضي شمس الدِّين ابن عدلان في مجلس نائب السلطنة سيف الدِّين سلار وتكلم معه، فظهر عليه ولكن ليس له مساعد، وقيل: إنه ظهر من نائب السلطنة تعصُّب على الشيخ وإخوته، والله أعلم. (2/ 1125 - 1127).
(سنة 706)
قال: وفيها في أوائل شهر ربيع الأول وصل الأمير حسام الدِّين مهنّا ابن الأمير شرف الدِّين عيسى بن مهنّا إلى دمشق، وتوجَّه إلى القاهرة، فوصلها في تاسع عشر الشهر، واجتمع بالسلطان فأكرمه وخلع عليه وزاد في إكرامه، وخاطب السلطان في أمر الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية، فأجاب سؤاله فيه،
وحضر بنفسه إلى باب السجن إلى الشيخ تقي الدين، فأخرجه يوم الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الأول إلى دار الأمير سيف الدِّين سلَّار بالقلعة، وحضره بعض الفقهاء، وحصل بينهم بحثٌ كثير، وفَوَّتت
(1)
صلاةُ الجمعة بينهم، ثم اجتمعوا إلى المغرب ولم ينفصل الأمر، ثم اجتمعوا بمرسوم السلطان يوم الأحد الخامس والعشرين من الشهر مجموع النهار، وحضر جماعة أكثر من الأولين، وحضر الشيخ نجم الدِّين ابن الرِّفْعَة، وعلاء الدِّين الباجي، وفخر الدِّين ابن بنت أبي سعد، وشمس الدِّين الجزري الخطيب، وعز الدِّين النّمْراوي، وشمس الدِّين ابن عدلان، وصهر المالكي، وجماعة من الفقهاء، ولم يحضر القضاة، وطُلِبوا واعتذروا أنفسهم
(2)
بالمرض، وبعضهم تَبِعَ أصحابَه، وقَبِلَ عذرهم نائب السلطنة ولم يكلِّفهم الحضور بعد أن رسم السلطان بحضورهم، وانفصل المجلس عن خير. وبات الشيخ تقيّ الدِّين عند نائب السلطنة.
وكتب كتابًا بيده إلى دمشق بكرة الاثنين سادس عِشْري الشهر يتضمن خروجه في خير وعزّ، وأنه أقام بدار ابن شُقَير بالقاهرة، وأنّ الأمير سيف الدِّين سلّارًا رَسَم بتأخره عن الأمير حسام الدِّين مُهنَّا أيامًا
(3)
،
(1)
كذا في (ط)، وفي بعض المصادر «وفرَّقت» ، فلعل ما هنا تصحيف.
(2)
كذا في (ط) ولعل صوابها: «بعضهم» كما في المصادر. قال ابن كثير موضحًا سبب اعتذارهم عن الحضور: «لمعرفتهم بما ابن تيمية منطوٍ عليه من العلوم والأدلة، وأن أحدًا من الحاضرين لا يطيقه» . «البداية والنهاية» : (18/ 73 - 76).
(3)
قال ابن كثير: «ليرى الناسُ فضلَه وعلمه، وينتفع الناس به ويشتغلوا عليه» . «البداية والنهاية» : (18/ 74).
ووصل مُهنَّا إلى دمشق يوم الخميس سادس ربيع الآخر وأقام ثلاثة أيام وسافر.
وفي بكرة يوم الخميس عِشْري ربيع الآخر، وصل من الشيخ تقيّ الدِّين كتابٌ مؤرّخ بليلة الجمعة رابع عشر ربيع الآخر يذكر فيه أنه عُقِد له مجلس ثالث بالمدرسة الصالحية بالقاهرة بعد خروج مهنّا
(1)
في يوم الخميس سادس الشهر، وحصل الاتفاق على تغيير ألفاظٍ في العقيدة، وانفصل المجلس على خير كثيرٍ، وأنه في عافيةٍ، وأنّ في تأخُّره فوائد ومصالح. (2/ 1168 - 1169)
قال: وفي العشر الأوسط من شهر شوال اجتمع الشيخ ابن عطاء السَّكَندري
(2)
وشيخ الخانْقاه وجميع
(3)
الصوفية، فكانوا أكثر من خمس مئة، وطلعوا إلى القلعة، فلما وصلوها كان هناك جماعة من أرباب الصنائع والمتاجر فاختلطوا بهم، فصار من المجموع كيفية كبيرة، فلما رأى أرباب الدولة ذلك طُلب من أعيانهم نحو عشرة، وقيل: أيّ شيء مرادكم؟ فقالوا: إن
(1)
(ط): «بعده خروج [غيرها إلى: خرج] منها» ! والصواب ما أثبت من «العقود الدرية» (ص 252) لابن عبد الهادي. ولم يذكر ابن عبد الهادي أنه وقع تغيير ألفاظ في العقيدة.
(2)
(ط): «السكوني» تحريف، فلم ينسبه أحد هذه النِّسبة. ترجمته في «الوافي بالوفيات»:(8/ 57) و «الدرر الكامنة» : (1/ 273 - 275) وغيرها.
وشيخ الخانقاه هو: كريم الدِّين الآملي. والخانقاه هي: خانقاه سعيد السعداء. وانظر خبر صرفه عن المشيخة وما وقع له من أصحابه وأصدقائه «البداية والنهاية» : (18/ 86).
(3)
كذا، ولعلها «وجَمَع» أو «جَمْع من الصوفية» كما سيأتي (ص 651).
تقيَّ الدِّين ابن تيمية يتكلم في حقِّ المشايخ، وقال: إنه لا يُستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم، وسألوا أن يُعقد لهم وله مجلس، فرُدَّ الأمرُ في ذلك إلى عند قاضي القضاة بدر الدِّين ابن جماعة الشافعي، ففوَّضَه إلى القاضي نور الدِّين المالكي الزواوي، فاقتضى الحال تسفيره إلى الشام، فسافر مع البريد، ثم رُدَّ
(1)
وحُبس بحبس الحاكم في ثامن عشر شوال، عامله الله بلطفه. (2/ 1174 - 1175)
قال: وفيها
…
توفي الصاحب الكبير الصدر العالم الكامل الأوحد تاج الدِّين محمد بن الصاحب فخر الدِّين محمد بن الصاحب الكبير الوزير بهاء الدِّين علي بن محمد بن سليم المصري
…
المعروف بابن حِنَّا رحمه الله تعالى
…
وصلى عليه الشيخ أخو المرجاني أولًا، وثاني مرة الشيخ تقيّ الدِّين ابن تيمية، وكانت جنازته مشهودة. (2/ 1183 - 1184)
(سنة 709)
قال: وفيها في سَلْخ صفر سَفَّروا الشيخ تقيَّ الدِّين ابن تيمية من القاهرة إلى الإسكندرية مع أمير مقدّم، ولم يمكَّن أحدٌ من جماعته السفرَ معه، ووصل خبره إلى دمشق بعد عشرة أيام، وكان توجهه من القاهرة ليلة الجمعة، ووصوله إلى الإسكندرية يوم الأحد، دخل من باب الخوخة إلى دار السلطان، ونُقل ليلًا إلى بُرجٍ في شرقيِّ البلد. (2/ 1244)
قال: وفي ثامن شوال، طُلب الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية من الإسكندرية فوصل إلى القاهرة ثامن عَشْرِه واجتمع بالسلطان في يوم الجمعة رابع عِشْريه، وأكرمه وتلقَّاه في مجلس حفل فيه قضاة المصريين والشاميين
(1)
الذي سعى في ردّه هو القاضي ابن مخلوف المالكي. انظر ما سيأتي (ص 651).
والفقهاء، وأصلح بينه وبينهم. ثم سكن القاهرة ونزل بالقرب من مشهد الحسين بن علي رضوان الله عليهم، والناس يترددون إليه والأمراء والجند وطائفة من الفقهاء، ومنهم من يعتذرُ إليه ويتنصَّل مما وقع منه. (2/ 1259)
* * * *
رسالة من الشيخ أحمد بن محمد بن مُرِّي الحنبلي (بعد 728) إلى تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية
(1)
ولا [تنسَوا تقريراتِ] شيخِنا الحاذقِ الناقدِ [لمعا] ني قوله تبارك وتعالى في بيان الحِكم الأربع التي أودعها الله سبحانه في ضمن انكسار عَسْكَرِ الرسول في يوم أُحد، وهي قوله تعالى:{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 140 - 141].
فلا تُهملوا أمرَ الفكرة الصالحةِ، في هذه المعاني الشريفة وغيرها، ولا تجزعوا لما حَصَلَ، فَإنَّ اللهَ حَيٌّ لا يموتُ، وهو المتكفلُ سبحانه بنصرِ الدِّين وأهلِهِ، والمختبر لعبادِهِ فيما يَبْتليهم بِهِ، والخبير بجملةِ مصالحهم، والرؤوف بهم، والهادي لمن يشاء إلى صراط مستقيم، ولا يهلك على الله إلا هالك، والسعيد مَن قام بما عليه إلى حال وفاته. ومن أراد عظيم الأجر التام، ونصيحة الأنام، ونشر علم هذا الإمام، الذي اختطفه من بيننا محتوم الحِمام، ويَخشى دُروس كثيرٍ من علومِهِ المتفرقةِ الفائقةِ، مع تكررِ مرورِ اللَّيالي والأيام، فالطريقُ في حقِّه: هو الاجتهاد العظيم على كتابة مؤلفاته الصغار
(1)
. نشرها محمد حامد الفقي في «مجموعة رسائل علمية» (القاهرة 1368 هـ، ص 147 - 154) بالاعتماد على نسخة بخط الشيخ جمال الدِّين القاسمي منقولة من نسخة منقولة من خط المؤلف، مخرومة من أولها مع محوٍ في أثنائها، استخرجها القاسمي من مجموع بديع، وقام بتصحيحها. ثم قابلناها على أصل القاسمي، فصحّت ولله الحمد. وما كان بين [] فهو بياض في الأصل.
والكبار على جليتها من غيرِ تصرُّفٍ فيها ولا اختصار، ولو وُجِدَ فيها كثيرٌ من التكرار، ومقابلتها وتكثير النُّسَخِ بها وإشاعتها، وجَمْع النظائر والأشباهِ في مكانٍ واحدٍ، واغتنام حياةِ من بقي من أكابر الإخوان، فكأننا جميعًا بِكمال الفَوْتِ وقد حان، ويكفينا ما عند [نا على ما فرطنا] من عظيم الأسفِ.
فلِوَجْهِ الله معشرَ الإخوانِ لا تعاملوا الوقتَ الحاضرَ بما عاملتم به الوقتَ الذي قد [سلف، فإن حياته] رحمه الله ورضي عنه كانت مأمولةً لاستدراك [الفارطات] الفائتات، وتكميل الغايات والنهايات
(1)
، فاغتنموا تحصيل كلِّ مهمةٍ في وقتِها بلا كسل ولا مَلَلٍ، ولا تشاغُلٍ ولا بخل. لأن هذا المهم الكبيرَ
(2)
أحقُّ شيء [يُبْذَل] في تحصيله المالُ الكثير، وقد علمتم مضرةَ التعلل والتسويف، وكون ذلك من أكبر القواطعِ عن مصالح الدنيا والآخرة.
فاحتفظوا بالشيخ أبي عبد الله
(3)
ـ أيده الله ــ وبما عنده من الذخائر والنفائس، وأقيموه لهذا المهم الجليل بأكثر ما تقدرون عليه ولو تألَّمتم أحيانًا من مطالبته؛ لأنه قد بقي في فنه فريدًا، ولا يقوم مقامه غيره من سائر الجماعة على الإطلاق، وكل أحوال الوجود لابد فيها من العوارض والأنكاد، فاحتسبوا مساعدته عند الله تعالى، وانهضوا بمجموع كُلْفته، فإن
(1)
. بعده بياض بقدر كلمتين.
(2)
. في الأصل: «الكثير» .
(3)
. علق عليه القاسمي بقوله: «يعني ابن القيم أجلَّ تلامذة شيخ الإسلام» والصواب أنه أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد المعروف بابن رُشَيِّق المالكي (ت 749)، ناسخ مؤلفات شيخ الإسلام وصاحب كتاب:«مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية» المنسوب خطأً لابن القيم، انظر: المقدمة (ص 60).
الشدائد تزول، والخيرات تغتنم، فاكتبوا ما عنده وليكتب ما عندكم.
وأنا استودع الله دينَه وما عنده، وأوصيه بالصبر أيضًا وبمعاملة اللهِ سبحانه فيما هو فيه، وإن قصَّر الإخوان في حقه
(1)
، وليطلب نصيبَهُ من الله تعالى متكلًا عليه في تحرير
(2)
المضمون، ومُجْمِلًا في الطلب، لأن ما قُسِم له لابد أن [يكون].
وإنَّ مما أحثّ هممكم الصالحة عليه: تحصيل كراريس [«الرد على عقائد] الفلاسفة» فإنه ليس في الوجود بهذا المؤلف نسخة [كاملة] غير النسخة التي بخطي، وكانت في الخرستان
(3)
الشمالي من مدرسة شيخنا، وأخبرني الشيخ شرف الدين
(4)
ــ رحمه الله تعالى ــ أنه أودع المجموع في مكان حريز، وقد شحَّ عليّ بإنفاذ هذه الكراريس وقتَ الذهاب من الشام، ولا قوة إلا بالله، والكراس الرابع منها أخذه أبو عبد الله من يدي وهو عنده، ونسخة الأصل التي بخط الشيخ هي في القطع الكبير، وكانت هناك أيضًا، وقد بقي من آخر نسختي أقل من ورقة، فأوصِلوا ذلك إلى أبي عبد الله، ليُكمل النسخة إلى عند قوله:«فهذا باب، وذاك باب، والله أعلم بالصواب» .
(1)
. توفي ابن رُشيِّق وبقي عليه دَين (كما في البداية والنهاية 14/ 229). وهذا يدل على تقصير الإخوان في حقه، وأنه كان يعاني من شظف العيش ومرارة الحياة بسبب قلة المال لديه. ولذا حثَّ الشيخُ ابن مرّي زملاءه على مساعدته.
(2)
. المطبوع: «رزقه» .
(3)
. الخرستان: الخزانة أو الحجرة الصغيرة. «تكملة المعاجم» (4/ 55).
(4)
. الشيخ شرف الدِّين ــ أخو تقيّ الدِّين ابن تيمية عبدُ الله بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن أبي القاسم بن الخضر بن محمد بن تيمية الحراني. (ت 727 هـ). «المعجم المختص» (ص 121 - 122)، و «شذرات الذهب» (6/ 76 - 77).
وللطواسي نسخة بخط كَيّسٍ، فكملوها، لأنه مؤلَّف لا نظير له، ولا يكسر الفلاسفة مثله.
ومن الله نسأل المعونة على جَمْع شمل هذه المصالح الجليلة بعد شتاتها، ونعوذ بالله من عوارض القواطع وآفاتها، لأن الفَوْتَ صعب، وغاية التفريط رديّة، وانتهاز الفرص من أهم الأمور وأجْمَعها لمصالح الدنيا والآخرة، وما يعقلها إلا العالمون، وسيندم المفرطون في استدراك بقايا هذه الأمور الكاملة والمقصرون، كما ندم المتخيلون بطول حياة الشيخ والمغترون.
وهذه الأمور التي قد أشرت إليها في هذه الأوراق الخفيفة هي أغلى أبواب النصيحة وأسّها فيما أعلم، لأن الذاهب مضى، والوقت سيف فمنتضى، وكل من ذهب بعده من أكابر الإخوانِ ما عنه عوض، والدهر في إدبار، والشرور في زيادة.
وإذا جمعت هذه المؤلفات العزيزة الكثيرة، ونقل من المسوَّدات ما لم يُنْقَلْ، وقُبِلَ رأيُ أبي عبد الله في ذلك؛ لأنه على بصيرة من أمره، وهو أخبر الجماعة بمظان المصالح المفردة التي قد انقطعت مادتها، وقوبل كل ما يكتب مع أصلح الجماعة، على أصلح النّسَخ، أو على نسخة الأصل، وروجع شيخنا الحافظ جمال الدين
(1)
الذي هو بقية الخير لثقته وخبرته وشفقته وتحرُّقه على ظهور هذه المواد الصالحة في الوجود، ولسعة علمه وإحاطته بكثير من مقاصد شيخنا المؤلف. وروجع الشيخان الصالحان، الفاضلان المحققان: شرف
(1)
. الحافظ جمال الدِّين المزي (ت 742 هـ).
الدين القاضي
(1)
وشمس الدِّين بن أبي بكر
(2)
، فإنهما أحذق الجماعة على الإطلاق في المناهج العقلية وغيرها، وأذْكَر للمباحث الأصولية، فيما يشتبه من المقاصد، خوفًا من التصحيف وتغيير بعض المعاني، وروجع غيرهم من أكابر الجماعة أيضًا، كان في ذلك خير كثير، واستدراكٌ كبير، إن شاء الله تعالى.
والشيخ أبو عبد الله يسلمه الله، هو بلا تردد واسطة نظام هذا الأمر التام، فساعِدوه وأزيلوا ضرورتَه، واجمعوا همته، واغتنموا بقية حياته، واقبلوا نصيحتي فيما أتحقّقه من هذا كله، كما كنت أتحقق أن اغتنام أوقات الشيخ وجَمْعها على التأليف والإتقان والمقابلة خيرٌ مِن صَرْفها في مجرَّد المفاكهة اللذيذة والمنادمة، والنفوسُ فرَّطت كثيرًا في ذلك الحال. والله المسؤول بأن يكفيها مضرة كمال الفَوْتِ الذي لا عوض عنه بحال، إنه رؤوف رحيم، جوادٌ كريمٌ.
فإن يسَّر الله تعالى وأعانَ على هذه الأمور العظيمة صارت إنْ شاء اللهُ تعالى مؤلفات شيخنا ذخيرةً صالحةً للإسلام وأهلِهِ، وخزانةً عظيمة لمن يؤلف منها وينقل، وينصر الطريقة السلفية
(3)
على قواعدها ويستخرج ويختصر إلى آخر الدهر إن شاء الله تعالى؛ قال صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الله يغرس في هذا الدِّين غرسًا يستعملهم فيه بطاعة الله» ، وقال:«لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقومَ الساعة» . والله سبحانه يقول في كتابه: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]. وكما انتفع الشيخ بكلام الأئمة قبله
(1)
. القاضي شرف الدِّين أحمد بن الحسن ابن قاضي الجبل (ت 771).
(2)
. شمس الدِّين بن أبي بكر هو ابن القيم (ت 751 هـ).
(3)
. في الأصل: «السليقة» ويحتمل أن تقرأ «السليمة» .
فكذلك ينتفع بكلامه من بعده إن شاء الله تعالى.
فاتبعوا أمر الله، واقصدوا رضى الله بجمع كل ما تقدرون عليه من أنواع المؤلفاتِ الكبار، [وأشتاتِ المسائل] الصِّغار، ومن نسخ الفتاوى المتفرقة، وسائر كلامه الذي قد مُلِئَ، ولله الحمد، من الفوائد والفرائد والشوارد، فأيقظوا الهمم، وابذلوا الأموال الكثيرة في تحصيل هذا المطلب العظيم الذي لا نظير له، فهذا هو الذي يلزمنا من حيث الأسباب، والتمام على رب الأرباب ومسبب الأسباب وفاتح الأبواب، الذي يقيم دينه، وينصر كتابه وسنة نبيه على الدوام، ويثيت من يؤهله لذلك من أنواع الخاص والعام، وكلٌّ مَجزيٌّ في القيامة بعمله، وما ربك بظلامٍ.
وقد علم أن الإمام أحمد بن حنبل كان ينهى في حال حياته عن كتابة كلامه ليجمع القلوب على المادة الأصلية العظمى، ولما توفي استدرك أصحابه ذلك الأمر الكبير، فنقلوا علمه وبينوا مقاصده، وشهروا فوائده، فانتصرت طريقته، واقتفيت آثاره لأجل ذلك، والوجودُ هو على هذه الصفة قديمًا وحديثًا.
فلا تيأسوا من قبول القلوب القريبة والبعيدة لكلام شيخنا، فإنه ولله الحمد مقبول طوعًا وكرهًا، وأين غايات قبول القلوب السليمة لكلماته، وتتبع الهمم النافذة لمباحثه وترجيحاته، ووالله إن شاء الله ليقيمن الله سبحانه لِنَصْرِ هذا الكلام ونشره وتدوينه وتفهمه، واستخراج مقاصده واستحسان عجائبه وغرائبه، رجالًا هم إلى الآن في أصلاب آبائهم
(1)
. وهذه هي سنة الله
(1)
. وقد كان ذلك، ولله الحمد.
الجارية في عباده وبلاده، والذي وقع من هذه الأمور في الكون لا يحصي عدَدَه غير الله تعالى.
ومن المعلوم أن البخاري مع جلالة قدره أُخرِج طريدًا، ثم مات بعد ذلك غريبًا، وعوضه الله سبحانه عن ذلك بما لا خطر في باله، ولا مرّ في خياله، من عكوف الهمم على كتابه، وشدة احتفالها به، وترجيحها له على جميع كتب السنن، وذلك لكمال صحته، وعظمة قدره، وحسن ترتيبه وجمعه، وجميل نية مؤلفه، وغير ذلك من الأسباب.
ونحن نرجو أن يكون لمؤلفات شيخنا أبي العباس من هذه الوراثة
(1)
نصيبٌ كثير إن شاء الله تعالى، [لأنه كان بنى] جملة أموره على الكتاب والسنة، ونصوص أئمة [سلف الأمة. وكان يقصد] تحرير الصحة بكل جهده ويدفع الباطل [بكل ما يقدر عليه]، لا يهاب مخالفَة أحدٍ من الناسِ في نصر هذه الطريقة، [وتبيين هذه] الحقيقة.
وقد عُلِم أن لكتبه من الخصوصية والنفع والصحة، والبسط والتحقيق، والإتقان والكمال، وتسهيل العبارات، وجَمْع أشتات المتفرقات، والنطق في مضايق الأبواب بحقائق فصل الخطاب، ما ليس لأكثر المصنفين، في أبواب مسائل أصول الدين، وغيرها من مسائل المحققين، لأنه كان يجعل النقل الصحيح أصله وعمدته في جميع ما يبني عليه، ثم يعتضد بالعقليات الصحيحة التي توافق ذلك وبغيرها، ويجتهد على دفع كل ما يعارض ذلك من شُبَه المعقولات، ويلتزم حَلَّ كلِّ شبهة كلامية وفلسفية كما قدمتُ الإشارة إلى ذلك، ويلتزم أيضًا الجمع بين صحيح المنقول وصريح المعقول، ويجزم بأن
(1)
. المطبوع زيادة: «الصالحة» .
فرض دليلين قطعيين يتعارضان من المحال إن كانا عقليين أو عقليًّا ونقليًّا، قال: لأن الدليل هو الذي يجب ثبوت مدلوله، فإمَّا أن لا يكونا قطعيين، وإمَّا أن لا يكون مدلولاهما متناقضين. وعلى هذا المقصد الجليل بنى كلامه المتين، وتقاسيمه العجيبة المحيطة المحضة في أول قاعدته الكبيرة الباهرة التي ألفها في [دفع «تعارض] العقل للنقل». فكانت مقاصده وتحقيقاته في هذا [الباب العظيم] عجبًا من عجائب الوجود.
وكان يقول: لا يتصور [أن يتعارض حديثـ]ـان صحيحان قط إلا أن يكون الثاني منهما ناسخًا للأول. قال: والإمام أحمد بن حنبل كان في زمنه يصرح [به، ويلتزم] تحقيقه، وأنا في زمني ألتزم حكم هذه القاعدة [أيضًا]، والنهوض بالجواب عن كل ما يعارضها.
وكان رحمه الله ورضي عنه يذبُّ عن الشريعة ويحمي حوزَة الدِّين بكل ما يقدر عليه، وكان كما عُلم من حاله لا يخاف في هذا الباب لومة لائم، ولا ينثني عما يتحقق عنده، ولم يزل على ذلك إلى أن قضى نَحْبه، ولقي ربه، فقدس الله روحه، ونور ضريحه، ونصر مقاصده، وأيَّد قواعدَه، والله سبحانه يعلم حُسْن قصده، وصحة علومه ورجحان دليله، وهو ناصر الحق وأهله، ولو بعد حين.
وجميع ما وقع من هذه الأمور فيه من الدلالة إن شاء الله على [شمول أمره، وظهور] كلمة هذه العلوم الباهرةِ أكثر مما فيه من الدلالة على خلاف ذلك، ولا قوة إلا بالله، غير أن الأشياء المقدورة، تفتقر إلى أسبابها المعلومَة، ولهذا كان الرسولُ صلى الله عليه وسلم وهو في العريش يوم بدر يجتهد على الاستغاثة
(1)
(1)
. رسمها في الأصل: «الاستعانة» .
بالله التي كانت أكبر أسباب النصرة في ذلك اليوم، بعد أن عرفه الله تعالى ــ قبل ذلك ــ جلية مصارع القوم. ولما التزمه أبو بكر من ورائه قائلًا له:«يا رسول الله، أهكذا مناشدتُك ربَّكَ، فإنه وافٍ لك بما وعدك» ، لم يترك استغاثته بربه، لعلمه أن الأمور المقدورة لابد أن تقع بأسبابها اللازمة لها، المعروفة بها. ومصداق ذلك ما أنزله سبحانه في تقرير هذا الأمر، وتحقيق هذه القاعدة، وهو قوله تعالى:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 9 - 10] لأنه سبحانه بيّن حكم الأسباب المتقدمة والمتأخرة، ورد الأمر إلى حقائق التوحيد، بقوله:{وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وهذا هو نهاية مطالب هذا الباب، واتباع هذه الأحكام الثابتة على هذه الصفة المؤيدة، هو بلا شك أعلى مراتبِ العبودية، وأنفعها وأرفعها في حق مجموع البرية. فأكثروا من استعمال هذا الأمر الجليل، وحسبُنا الله ونعمَ الوكيلُ.
الحمد لله وحده، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله، وسلامه على جميع الصالحين.
* * * *
نِهَايةُ الأرَبِ في فنون الأدبِ
(1)
للعلامة شهاب الدِّين أحمد بن عبد الوهَّاب النُّوَيري (733)
ذكر توجه العساكر الشامية إلى بلاد الكسروان
(2)
وإبادة من بها وتمهيدها
كان أهل جبال الكسروان قد كثروا وطَغَوا واشتدت شوكتهم، وتطرقوا إلى أذى العسكر الناصري عند انهزامه في سنة تسع وتسعين وست مئة، وتراخى الأمر وتمادى وحصل إغفال أمرهم فزاد طُغْيَانُهم وأظهروا الخروج من الطاعة، واغتَرُّوا بِجبالِهِم المنيعة، وجموعهم الكثيرة، وأنه لا يمكن الوصول إليهم، فجُهِّز إليهم الشريف زين الدِّين ابن عدلان، ثم توجه بعده في ذي الحجة سنة أربع وسبع مئة الشيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة، والأمير بهاء الدِّين قراقوش الظاهري، وتحدثا معهم في الرجوع إلى الطاعة فما أجابوا إلى ذلك، فعند ذلك رسم بتجريد العساكر إليهم من كل جهةٍ ومملكةٍ من الممالك الشامية، وتوجه نائب السلطنة الأمير جمال الدِّين آقوش الأفرم من دمشق بسائر الجيوش في يوم الاثنين ثاني المحرم وجمع جمعًا كثيرًا من الرجال، فيقال: إنه اجتمع من الرجالة نحو خمسين ألفًا، وتوجهوا إلى جبال الكسروانيين والجرديين وتوجه الأمير سيف الدِّين أسندَمُر بعسكر الفتوحات من الجهة التي تلي بلاد طرابلس.
وكان قد نُسِب إلى مُبَاطَنَتِهم،
(1)
. (32/ 97 - 118، 33/ 211 - 213، 265 - 266، 276 - 277) نشر دار الكتب المصرية بالقاهرة، ط. الأولى 1998، تحقيق د. فهيم شلتوت.
(2)
. وهي جبال تتصل بسلسلة جبال لبنان، وتسكنها طائفة الدروز.
فكُتِبَ إليه في ذلك، فجرَّدَ العزمَ وأراد أن يفعل في هذا الأمر ما يمحو عنه أثرَ هذه الشناعة التي وقعت، وطلع إلى جبل الكسروان من أصعب مسالكه، واجتمعت عليهم العساكر فقُتِلَ منهم خَلْق كثير، وتبدد شملهم وتمزقوا في البلاد، واستخدم الأمير سيف الدِّين أسندَمُر جماعةً منهم بطرابلس بجامكية وجراية من الأموال الديوانية، وسماهم رجال الكسروان، وأقاموا على ذلك سنين وأقطع بعضهم أجنادًا من حلقة طرابلس، وتفرق بقيتهم في البلاد، واضمحلَّ أمرُهم وخمل ذكرهم، وعاد نائب السلطنة إلى دمشق في رابع عشر صفر من السنة وأقطع جبال الكسروانيين والجرديين لجماعة من الأمراء التركمان وغيرهم، منهم: الأمير علاء الدِّين بن معبد البعلبكِّي، وعز الدِّين خطاب، وسيف الدِّين بُكْتُمُر الحُسامي، وأُعْطُوا الطبلخانات وتوجهوا لعمارة إقطاعهم وحفظ ميناء البحر من جهة بيروت.
وفي هذه السنة
(1)
كانت بدمشق فتنة بين جماعة من الفقراء الأحمدية والشيخ تقي الدِّين ابن تيمية، وذلك أنهم اجتمعوا في يوم السبت تاسع جمادي الأولى عند نائب السلطنة، وحضر الشيخ تقي الدِّين فطلبوا منه أن يسلم إليهم حالهم، وأن تقي الدِّين لا يعارضهم ولا ينكر عليهم، وأرادوا أن يظهروا شيئًا مما يفعلونه فقال لهم الشيخ: إن اتباع الشريعة لا يسع الخروج عنه، ولا يُقَرُّ أحد على خلافه، وهذه البدَع التي تفعلونها من دخول النار وإخراج الزبد من الحلق؛ لها حِيَل ذَكَرَها، وقال: من أراد منكم دخول النار فليغسل جسده في الحمام ثم يدلكه بالخل ثم يدخل بعد ذلك، فإن قدر على الدخول دخلت معه، ولو دخل بعد ذلك لم يرجع إليه، بل هو فعل من أفعال
(1)
. سنة (704).
الدجال، فانكسرت حِدَّتهم وانفصل المجلس على أنهم يخلعون الأطواق الحديد من أعناقهم، وعلى أن من خرج منهم عن الكتاب والسنة قوبل بما يستحقه، وضبط المجلس المذكور وما وقع فيه وما التزم الفقراء الأحمدية الرفاعية به، وصنف الشيخ جزءًا يتعلَّق بهذه الطائفة وأفعالهم.
ذِكْر حادثة الشيخ تقي الدِّين أحمد ابن تيميَّة، وما اتفق لطائفة
الحنابلة، واعتقال تقي الدين، وما كان من خبره
إلى أن أُفْرِج عنه أخيرًا
كانت هذه الحادثة التي نذكرها في سنة خمسٍ وسبع مئة وانتهت في أواخر سنة تسع وسبع مئة، وكان لوقوعها أسباب وموجبات ووقائع اتفقت بالقاهرة ودمشق، وقد رأينا أن نذكر هذه الواقعة ونشرح أسبابها من ابتداء وقوعها إلى انتهائها ولا نقطعها بغيرها، وإن خرجت سنة ودخلت أخرى.
السببُ المحركُ لهذه الواقعة الموجبُ لطلب الشيخ تقي الدِّين المذكور إلى الديار المصرية فقد اطلعت عليه من ابتدائه وهو: أن بعض الطلبة واسمه: عبد الرحمن العينوسي سكن بالمدرسة الناصرية التي تقدم ذكرها بالقاهرة وكنت بها، وبها قاضي القضاة زين الدِّين المالكي وغيره، فاتفق اجتماعي أنا والقاضي شمس الدِّين محمد بن عدلان الكناني القرشي الشافعي بمنزلي بالمدرسة المذكورة في بعض الليالي، وهو أيضًا ساكن بالمدرسة ومعيد بها، فحضر عبد الرحمن المذكور إلينا ومعه فُتيا وقد أجاب الشيخ تقي الدِّين عنها فأخرجها من يده وشرع يذكرُ الشيخَ تقي الدِّين وبَسْط عبارته وعِلْمه، وقال: هذه من جملة فتاويه ولم يُرِد فيما ظهر أذاه وإنما قصد ــ والله أعلم ــ نشر فضيلته، فتناولها القاضي شمس الدِّين ابن عدلان منه
وقرأها فإذا مضمونها
(1)
:
بسم الله الرحمن الرحيم، ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدِّين ــ رضي الله عنهم أجمعين ــ أن يبينوا ما يجب على الإنسان أن يعتقده ويصير به مسلمًا بأوضح عبارة وأبينها، من أن ما في المصاحف هو كلام الله القديم أم هو عبارة عنه لا نفسه؟ وأنه هو حادث أو قديم؟ وأن قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] هو استواء حقيقة أم لا؟ وأن كلام الله عز وجل بحرفٍ وصَوْت أم كلامه صفة قائمة لا تفارق؟ وأن الإنسان إذا أجرى القرآن على ظاهره من غير أن يتأول شيئًا منه ويقول: أؤمن به كما أنزل؛ هل يكفيه ذلك في الاعتقاد أم يجب عليه التأويل؟ وأن السائل رجل متحيِّر لا يعرف شيئًا وسؤاله بجواب لين ليقلد قائله افتونا مأجورين رحمكم الله.
فأجاب الشيخ تقي الدِّين ما صورته:
الحمد لله ربِّ العالمين، الذي يجب على الإنسان اعتقاده في ذلك وغيره ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله واتفق عليه سلف المؤمنين الذين أثنى الله على من اتبعهم وذم من اتبع غير سبيلهم، وهو أن القرآن الذي أنزله الله على محمد عبده ورسوله كلام الله وأنه منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأنه قرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون، وأنه قرآن مجيد في لوح محفوظ، وأنه في أم الكتاب لدى الله تعالى حفيظ، وأنه في الصدور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«استذكروا القرآن فهو أشد تفلُّتًا من صدور الرجال من النعم من عُقلها» ، وقال: «الجوف الذي ليس فيه شيء من القرآن
(1)
. توجد هذه الفتوى في «مجموع فتاوى شيخ الإسلام» (12/ 235 - 245).
كالبيت الخَرِب»، [و] أن ما بين لوحي المصحف الذي كتبه الصحابة كلام الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مَخافةَ أن تناله أيديهم» .
فهذه الجملة تكفي المسلم في هذا الباب، وأمَّا تفصيل ما وقع في ذلك من النزاع فكثير، منه [ما] يكون كِلا الإطلاقَين خطأ، ويكون الحق في التفصيل، ومنه ما يكون مع كل من المتنازعين نوع من الحق ويكون كل منهما ينكر حقَّ صاحبه، وهذا من التفرُّق والاختلاف الذي ذمه الله ونهى عنه؛ فقال:{وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ} [البقرة: 176]، وقال:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105]، وقال:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وقال:{مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ} [البقرة: 213]، فالواجب على المسلم أن يلزم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. وما تنازعت فيه الأمة وتفرَّقت فيه إن أمكنه أن يفصل النزاع بالعلم والعدل وإلا استمسك بالجمل الثابتة بالنص والإجماع، وأعرض عن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، فإن مواقع التفرق والاختلاف عامتها تصدر عن اتباع الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى، وقد بسطت القول من جنس هذه المسائل ببيان ما كان عليه سلف الأمة الذي اتفق عليه العقل والسمع، وبيان ما يدخل في هذا الباب من الاشتراك والاشتباه والغلط في مواضع متعددة، ولكن نذكر هنا جُمْلةً مختصرة بحسب حال السائل،
والواجب أمر العامة بالجمل الثابتة
(1)
بالنص والإجماع، ومَنْعهم من الخوض في التفصيل الذي يُوْقع بينهم الفرقة والاختلاف، فإن الفرقة والاختلاف من أعظم ما نهى الله عنه ورسوله.
والتفصيل المختصر فنقول: من اعتقد أن المِداد الذي في المصحف وأصوات العباد قديمة أزلية؛ فهذا ضال مخطئ مخالف للكتاب والسنة وإجماع السابقين الأولين وسائر علماء المسلمين ولم يقل أحد قطُّ من علماء المسلمين: إن ذلك قديم، لا من أصحاب الإمام أحمد ولا من غيرهم ومن نقلَ قِدَم ذلك عن أحدٍ من علماء أصحاب الإمام أحمد ونحوهم؛ فهو مخطئ في هذا النقل أو متعمد الكذب، بل المنصوص عن الإمام أحمد وعامة أئمة أصحابه تبديع من قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، كما جهَّموا من قال: اللفظ بالقرآن مخلوق، وقد صنف أبو بكر المروذي ــ أخص أصحاب الإمام أحمد به ــ في ذلك رسالةً كبيرة مبسوطة، ونقلها عنه أبو بكر الخلال في «كتاب السنة» الذي جمع فيه كلام الإمام أحمد وغيره من [أئمة] السنة في أبواب الاعتقاد، وكان بعض أهل الحديث إذ ذاك أطلق القولَ بأن «لفظي بالقرآن غير مخلوق» فبلغ ذلك الإمام أحمد فأنكر ذلك إنكارًا شديدًا وبدَّعَ من قال ذلك، وأخبر أن أحدًا من العلماء لم يقل ذلك، فكيف من يزعم أن صوت العبد قديم؟ وأقبح من ذلك من يحكي عن بعض العلماء: أنّ المِداد الذي في المصحف قديم، وجميع أئمة أصحاب الإمام أحمد وغيره أنكروا ذلك، وما علمتُ أنَّ عالمًا نقل ذلك إلا ما بلغنا عن بعض الجهال من الأكراد ونحوهم.
(1)
. في المطبوع: بالحمل على الثابت.
وقد ميَّز الله تعالى في كتابه بين الكلام والمِداد، فقال:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109] فهذا خطأ من هذا الجانب، وكذلك من زعم أن القرآن محفوظ في الصدور، كما أن الله معلوم بالقلوب، وأنه مَتْلُوّ بالألسن، كما أن الله مذكور بالألسن، وأنه مكتوب في المصحف، كما أن الله مكتوب في المصحف، وجعل ثبوت القرآن في الصدور والألسنة والمصاحف مثل ثبوت ذات الله في هذه المواضع، فهذا أيضًا مخطئ في ذلك، فإن الفرق بين ثبوت الأعيان في المصحف وبين ثبوت الكلام فيها بيِّن واضح، فإن الأعيان لها أربع مراتب: مرتبة في الأعيان، ومرتبة في الأذهان، ومرتبة في اللسان، ومرتبة في البنان، فالعلم يطابق العين، واللفظ يطابق العلم، والخط يطابق اللفظ.
فإذا قيل: إن العين في الكتاب كما في قوله: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 52] فقد عُلِم أن الذي في الزبر إنما هو الخط المطابق للفظ المطابق للعلم، فبين الأعيان وبين المصحف مرتبتان وهي اللفظ والخط، وأما الكلام نفسه فليس بينه وبين الصحيفة مرتبة غيرهما، بل نفس الكلام يجعل في الكتاب، وإن كان بين الحرف الملفوظ والحرف المكتوب فرق من وجهٍ
(1)
آخر إلا إذا أريدَ أن الذي في المصحف هو ذكره والخبر عنه، مثل قوله تعالى:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)} [إلى قوله: ]{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 192 - 197]، فالذي في زبر الأولين ليس هو نفس القرآن المنزل على محمد.
(1)
. في الأصل: من غير وجهٍ! والمثبت من «الفتاوى» .
فإن هذا القرآن لم ينزل على أحد قبله ولكن في زبر الأولين صحَّ ذكر القرآن وخبره، كما فيها ذكر محمد وخبره، كما أن أفعال العباد في الزبر كما قال:{وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 52] فيجب الفرق بين كون هذه الأشياء في الزُّبُر وبين كون الكلام نفسه في الزبر، كما قال:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 77 - 78] وقال: {صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)} [البينة: 2 - 3]، فمن قال: إن المِداد قديم؛ فقد أخطأ، ومن قال: ليس في المصحف كلام الله وإنما فيه المِداد الذي هو عبارة عن كلام الله فقد أخطأ، بل القرآن في المصحف، كما أن سائر الكلام في الأوراق كما عليه الأمة مجتمعة، وكما هو في فِطَر المسلمين، فإن كلَّ مرتبة لها حكم يخصها، وليس وجود الكلام من الكتاب كوجود الصفة بالموصوف، مثل [وجود] العلم والحياة بمحلها حتى يقال: إن صفة الله حلَّت بغيره أو فارقته، ولا وجوده فيه كالدليل المحض، مثل وجود العالم الدال على الباري تعالى، حتى يقال: ليس فيه إلا ما هو علامة على كلام الله، بل هو قسم آخر، ومن لم يُعْط كل مرتبة فيما يستعمل فيها أداة الظرف
(1)
حقها، فيفرق بين وجود الجسم في الحيز وفي المكان، ووجود العرض بالجسم، والصورة بالمرآة، ويفرق بين رؤية الشيء بالعين يقظة ورؤيته بالقلب يقظة ومنامًا، ونحو ذلك، وإلا اضطراب عليه الأمر.
وكذلك سؤال السائل عما في المصحف، هل هو حادث أو قديم؟ سؤال مجمل. فإن لفظ «القديم» أولًا [ليس]
(2)
مأثورًا عن السلف، وإنما الذي اتفقوا عليه أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وهو كلام الله حيث تُلى،
(1)
. في الأصل: «أداء الطرق» ! والمثبت من «الفتاوى» .
(2)
. من «الفتاوى» ، وبه يستقيم المعنى.
وحيث كُتِب، وهو قرآن واحد وكلام [واحد] وإن تنوَّعت الصور التي يُتْلَي بها ويكتب من أصوات العباد ومدادهم، فإن الكلام كلام من قاله مبتدئًا، لا كلام من بلغه مؤديًا، فإن سمعنا محدثًا يحدث بقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات» قلنا: هذا كلام رسول الله لفظه ومعانيه، مع عِلْمنا أن الصوت صوت المبلِّغ لا صوت رسول الله، وهكذا كل من بلَّغ كلامَ غيره من نظم ونثر.
ونحن إذا قلنا: هذا كلام الله، لِمَا نسمعه من القارئ من قراءةٍ في المصحف فالإشارة إلى الكلام من حيث هو هو مع قطع النظر عما اقترن به البلاغ من صوت المبلغ ومِداد الكاتب، فمن قال: صوت القارئ ومداد الكاتب كلام الله الذي ليس بمخلوق فقد أخطأ، وهذا الفرق الذي بيَّنه الإمام أحمد لمن سأله وقد قرأ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فقال: هذا كلام الله غير مخلوق؟ فقال: نعم، فنقل السائل عنه أنه قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فدعا به أحمد وزبره زَبْرًا شديدًا وطلب عقوبته وتعزيره وقال: أنا قلت لك: لفظي بالقرآن غير مخلوق؟ فقال: لا ولكن قلت لي لما قرأت: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} هذا كلام الله غير مخلوق، فقال: فلِمَ تنقل عني ما لم أقله؟ ! فبيَّن الإمام أحمد أن القائل إذا قال ــ لما يسمعه من المبلغين والمؤدِّين ــ: هذا كلام الله، فالإشارة إلى الحقيقة التي تكلم بها الله وإن كنا إنما سمعناها ببلاغ المبلغ وحركته وصوته، فإذا أشار إلى شيءٍ من صفات المخلوق لفظه أو صوته أو فعله، وقال: هذا غير مخلوق، فقد ضل وأخطأ، فالواجب أن يقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، والقرآن في المصاحف كما أن سائر الكلام في الصُّحُف، ولا يقال: إن شيئًا من المداد والورق غير مخلوق، بل كل ورق ومِداد في العالم فهو مخلوق، ويقال أيضًا: القرآن الذي في المصحف كلام الله غير مخلوق والقرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله غير مخلوق.
ويَتبيَّن هذا الجوابُ بالكلام على المسألة الثانية وهي قوله: إن كلام الله هل هو بحرف وصوت أم لا؟ فإن إطلاق الجواب في هذه المسألة نفيًا وإثباتًا خطأ، وهي من البدع المولَّدة الحادثة بعد المئة الثالثة لما قال قوم من متكلمة الصفاتية: إنّ كلام الله الذي أنزله على أنبيائه كالتوراة والإنجيل والقرآن، والذي لم ينزله، والكلمات التي كون بها الكائنات والكلمات المشتملة على أمره ونهيه وخبره، ليست إلا مجرد معنى واحد، هو صفة واحدة قامت بالله، إن عبَّر عنها بالعِبْرية كانت التوراة، وإن عبر عنها بالعربية كانت القرآن، وأن الأمر والنهي والخبر صفات لها لا أقسام لها، وأن حروف القرآن مخلوقة خلقها الله تعالى ولم يتكلم بها وليست كلامه؛ إذ كلامه لا يكون بحرف وصوت.
عارضهم آخرون من المثبتة فقالوا: بل القرآن هو الحروف والأصوات، وتوهم قوم أنهم يعنون بالحروف المداد وبالأصوات أصوات العباد، وهذا لم يقله عالم.
والصواب الذي عليه سلف الأمة كالإمام أحمد والبخاري صاحب «الصحيح» في كتاب «خلق أفعال العباد» وغيره وسائر الأئمة قبلهم وبعدهم اتباع النصوص الثابتة وإجماع سلف الأمة، وهو أن القرآن جميعه كلام الله تعالى؛ حروفه ومعانيه ليس شيء من ذلك كلامًا لغيره ولكن أنزله على رسله، وليس القرآن اسمًا لمجرد المعنى ولا لمجرد الحرف، بل لمجموعهما، وكذلك سائر الكلام ليس هو الحروف فقط ولا المعاني فقط، بل مجموعهما، كما أن الإنسان المتكلم الناطق ليس هو مجرد الروح ولا مجرد الجسد، بل مجموعهما، وأن الله تعالى يتكلم بصوت كما جاءت به
الأحاديث الصحاح، وليس ذلك هو أصوات العباد، لا صوت القارئ ولا غيره، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وكما لا يشبه علمه وقدرته وحياته علم المخلوق وقدرته وحياته، فكذلك لا يشبه كلامه كلام المخلوق ولا معانيه تشبه معانيه ولا حروفه تشبه حروفه، ولا صوت الرب يشبه صوت العبد فمن شبَّه اللهَ بخلقه فقد ألحد في أسمائه وآياته، ومن جحد ما وصف به نفسه فقد ألحد في أسمائه وآياته، وقد بينتُ في الجواب المبسوط مراتبَ مذاهب أهل الأرض في ذلك، وأن المتفلسفة تزعم أن كلام الله ليس له وجود إلا في نفس الأنبياء تفيض عليهم المعاني من العقل الفعال فتصير في نفوسهم حروفًا كما أن ملائكة الله عندهم ما يحدث في نفوس الأنبياء من الصور النورانية، وهذا من جنس قول فيلسوف قريش الوليد بن المغيرة:{(24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ} [المدثر: 25] فحقيقة قولهم أن القرآن تصنيف الرسول لكنه كلام شريف صادر عن نفس صافية، وهؤلاء هم الصابئة فنفرت
(1)
منهم الجهمية فقالوا: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم ولا قام به كلام وإنما كلامه ما يخلقه من الهواء أو غيره، فأخذ بعض ذلك قوم من متكلمة الصفات فقالوا: بل نصفه، وهو المعنى كلام الله، ونصفه وهو الحروف ليس كلام الله بل هو خلق من خلقه.
وقد تنازع الصفاتية القائلون بأن القرآن غير مخلوق هل يقال: إنه قديم لم يزل ولا يتعلق بالمشيئة؟ أم يقال يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء؟ على قولين مشهورين في ذلك، وفي السمع والبصر ونحوهما ذكرهما الحارث المحاسبي عن أهل السنة، وذكرهما أبو بكر [عبد العزيز] عن أهل السنة من
(1)
. في «الفتاوى» : فتقربت ..
أصحاب أحمد وغيرهم.
وكذلك النزاع بين أهل الحديث والصوفية وفرق الفقهاء من المالكية والشافعية والحنفية بل وبين فرق المتكلمين والفلاسفة في جنس هذا الباب وليس هذا موضع بسط ذلك الفصل.
وأما سؤاله عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] فهو حق أخبر الله به، وأهل السنة متفقون على ما قاله ربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك بن أنس وغيرهما من الأئمة: أن الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عن الكيف بدعة، فمن زعم أن الله مفتقر إلى عرش يُقلّه أو أنه محصور في سماء تُظلّه أو أنه محصور في شيءٍ من مخلوقاته، أو أنه تحيط به جهة من جهات مصنوعاته؛ فهو مخطئ ضال، ومن قال: إنه ليس على العرش رب، ولا فوق السموات خالق، بل ما هنالك إلا العدم المحض والنفي الصرف؛ فهو معطِّل جاحد لرب العالمين مُضاهٍ لفرعون الذي قال:{يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37] بل أهل السنة والحديث وسلف الأمة متفقون على أنه فوق سماواته على عرشه بائنٌ من مخلوقاته، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، وعلى ذلك نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمة السنة، بل على ذلك جميع المؤمنين من الأولين والآخرين، وأهل السنة وسلف الأمة متفقون على أن من تأوَّل «استوى» بمعنى استولى أو بمعنى آخر ينفي أن يكون الله فوق السموات؛ فهو جهمي ضال مضل.
وأما سؤاله عن إجراء القرآن على ظاهره؛ فإنه إذا آمن بما وصف الله به
نفسه ووصفه به رسوله من غير تحريف ولا تكييف فقد اتبع سبيل المؤمنين. ولفظ الظاهر في عرف المتأخرين قد صار فيه اشتراك؛ فإن أراد بإجرائه على الظاهر الذي هو في خصائص المخلوقين حتى يشبّه الله بخلقه فهذا ضلال، بل يجب القطع بأن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، بل قد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء، يعني أن موعود الله في الجنة من الذهب والحرير والخمر واللبن يخالف حقًّا بقية حقائق هذه الأمور الموجودة في الدنيا، فالله تعالى أبعد عن مشابهة مخلوقاته بما لا تدركه العباد؛ إذ ليست حقيقته كحقيقة شيء منها، وأما إن أراد بإجرائه على الظاهر الذي هو الظاهر في عُرف سلف الأمة بحيث لا يحرف الكَلِم عن مواضعه ولا يُلحد في أسماء الله تعالى، ولا يفسر القرآن والحديث بما يخالف تفسير سلف الأمة وأهل السنة بل يجري ذلك على ما اقتضته النصوص وتطابق عليه دلائل الكتاب والسنة وأجمع عليه سلف الأمة، فهذا مصيب في ذلك وهو الحق، وهذه جملة لا يسع هذا الموضع تفصيلها، والله أعلم
(1)
.
فلما وقف القاضي شمس الدِّين ابن عدلان على هذه الفتيا أنكر منها مواضع، وعرضها على القاضي زين الدِّين المالكي، فقال قاضي القضاة: أحتاج أن يثبت عندي أن هذا خط تقي الدِّين المذكور، فإذا ثبت ذلك رتبت عليه مقتضاه، وانفصل المجلس في تلك الليلة على هذا.
ثم شهد جماعة عند قاضي القضاة أن الجواب المذكور بخط
(1)
. انتهت الفتوى.
تقي الدِّين المذكور، فثبت ذلك عنده، وأشهد على نفسه به في شعبان من السنة، واجتمع قاضي القضاة زين الدِّين بالأمراء وعرَّفهم ما أنكره من فُتياه، فرُسِمَ بطلبه إلى الأبواب السلطانية وتوجه البريد بذلك، فتوقف نائب السلطنة بالشام الأمير جمال الدِّين في إرساله، واتفق وصول الأمير سيف الدِّين الطنقش الجمالي أستاذ دار نائب السلطنة بالشام إلى الأبواب السلطانية في الشهر المذكور في بعض المهمات وملك السلطان مخدومه من أملاكه بالشام أماكن احتاج إلى إثباتها على قاضي القضاة زين الدِّين المالكي فاجتمع بي بسبب ذلك، فدخلت على قاضي القضاة وعرَّفته مكانة سيف الدِّين المذكور ومنزلته من أرباب الدولة، ومحل مخدومه والتمست منه الإذن له في الدخول وإكرامه إذا دخل عليه فأذن له في الدخول، فلما دخل عليه أطَّرَحَه ولم يكترث لدخوله، وكلَّمه بكلام غليظ فكان مما قال له عند دخوله عليه: أنت أستاذ دار جمال الدين؟ قال: نعم، قال: لا بيَّض الله وجهه. وحَمَّله رسالة لمخدومه فقال: قل له عني أنت تعرف كيف كنت، وأنني اشتريتك للسلطان الملك المنصور وكنت على حالٍ من الضرورة في جنديتك وإمرتك ثم خوَّلك الله تعالى من نِعَمه وأفاض عليك منها ما أنت عليه الآن، وألحقكَ بأكابر الملوك ونُعِتَّ بملك الأمراء، ثم أنت تدافع عن رجلٍ طلبته لقيام حق من حقوق الله عليه، والله لئن لم ترسله ليعجلن الله تعالى هلاكك
…
، إلى غير ذلك مما قاله في وقت خروجه، فالتزم الأمير سيف الدِّين الطنقش أنه عند وصوله إلى دمشق لا يبيت ابن تيمية بها، ويرسله إليه.
ثم لم يقنع قاضي القضاة بذلك إلى أن اجتمع بالأمراء، وجدَّد معهم الحديث في أمر تقي الدين، فاقتضى ذلك إرسال الأمير حسام الدِّين لاجين
العمري أحد الحُجَّاب بالأبواب السلطانية إلى دمشق بمثالٍ شريف سلطاني بطلبه، فتوجه ووصل إليها في خامس شهر رمضان.
هذا هو السبب الموجب لطلبه وانحمال قاضي القضاة زين الدِّين المالكي عليه، نقلتُه عن مشاهدةٍ واطلاع.
واتفق في هذه المدة له وقائع بدمشق، نحن نوردها ملخَّصة بمقتضى ما أورده الشيخ شمس الدِّين محمد بن إبراهيم الجزري في «تاريخه»
(1)
ليجمع بين أطراف هذه الحادثة أسبابها بمصر والشام، وهو أنه لما كان في يوم الاثنين ثامن شهر رجب عُقِد مجلس بين يدي نائب السلطنة بدمشق حَضَره القضاة والعلماء والشيخ تقي الدِّين المذكور وسُئل عن عقيدته، فأملى شيئًا منها ثم أحضر عقيدته «الواسطية» وقرئت في المجلس وحصل البحث في مواضع منها، وأُخِّرت مواضع إلى مجلس آخر، ثم اجتمعوا في يوم الجمعة ثاني عشر الشهر، وحصل البحث وسُئل عن مواضع خارجة عن العقيدة، ونُدِب للكلام معه الشيخ صفي الدِّين الهندي، ثم عدل عنه إلى الشيخ كمال الدِّين ابن الزملكاني، فبحث معه من غير مسامحة، فأشهد الشيخ تقي الدِّين على نفسه من حضر المجلس أنه شافعي المذهب يعتقد ما يعتقده الإمام الشافعي، فحصل الرِّضى منه وعنه بهذا القول وانفصل المجلس.
ثم حصل بعد ذلك من بعض أصحاب الشيخ تقي الدِّين كلام وقالوا: ظهر الحقُّ مع شيخنا فأحضر الشيخ كمال الدِّين القزويني نائب قاضي
(1)
. وهو: «تاريخ حوادث الزمان وأنبائه ووفيات الأكابر والأعيان من أبنائه» ــ لم يوجد كاملًا ــ وأثبتنا ما وُجِد منه في محله من هذا الكتاب.
القضاة نجم الدِّين أحدَهم إلى المدرسة العادلية وعزَّره، وفعل قاضي القضاة الحنفي مثل ذلك باثنين من أصحابه، فلما كان يوم الاثنين ثاني عشرين
(1)
الشهر قرأ الشيخ جمال الدِّين المِزِّي فصلًا في الرد على الجهمية من كتاب «أفعال العباد» من كتاب البخاري
(2)
، وكان ذلك بالجامع الأموي تحت النسر في المجلس العام المعقود لقراءة «صحيح البخاري» فغضب بعض الفقهاء الحاضرين، وقال نحن قُصِدنا بهذا التكفير، فبلغ ما قاله قاضي القضاة نجم الدِّين الشافعي فأحضره ورسم باعتقاله، فبلغ ابن تيمية الخبر فقام حافيًا وتبعه أصحابه، وأخرجه من الحبس، فغضب القاضي وتوجَّه إلى نائب السلطنة واجتمع هو وتقي الدِّين فاشتطَّ تقي الدِّين عليه وذكر نائبه جلال الدِّين وأنه آذى أصحابه، فرسم نائب السلطان بإشهار النداء في البلد بالكف عن العقائد والخوض فيها، ومن تكلم في ذلك سفك دمه ونهب ماله.
وأراد بذلك تسكين هذه الفتنة ثم عُقِد مجلس في ثاني يوم، الثلاثاء سلخ رجب بالقصر الأبلق بحضور نائب السلطنة والقضاة والفقهاء وحصل البحث في أمر العقيدة وطال البحث، فوقع من الشيخ صدر الدِّين كلام في معنى الحروف فأنكره الشيخ كمال الدِّين ابن الزملكاني فأنكر صدر الدِّين القول، فقال كمال الدِّين لقاضي القضاة نجم الدِّين بن صَصْرَي: ما سمعتَ ما قال؟ فتغافل عن إجابته لتنكسر الفتنة، فقال ابن الزملكاني: ما جرى على الشافعية قليل إذ صرت رئيسهم، يريدُ بذلك ابنَ الوكيل ــ فيما يزعم ــ فظن قاضي القضاة أنه أراده بكلامه فأشهد عليه أنه عزل نفسه عن القضاء، وقام من
(1)
. كذا، والوجه:«عِشْري» .
(2)
. كذا! وصوابه: للبخاري، وهو كتاب مفرد وليس من «الصحيح» .
المجلس، فرسم نائب السلطنة بعوده، فأدركه الأمير ركن الدِّين بيبرس العلائي الحاجب وغيره من الأمراء وأعادوه إلى المجلس، وجرى كلام كثير ثم ولاه نائب السلطنة القضاء، وحكم قاضي القضاة الحنفي بصحة ولايته ونفذها المالكي، فلما وصل إلى داره انقطع عن الحكم وطالع نائب السلطنة في أمره فعاد الجواب السلطاني باستمراره في القضاء في ثامن عشرين شعبان.
ثم وصل الأمير حسام الدِّين لاجين العمري في خامس شهر رمضان بطلب قاضي القضاة نجم الدِّين وتقي الدِّين ابن تيميَّة، وتضمن المثال السلطاني بأن يطالع بما وقع من أمر تقي الدِّين المذكور في سنة ثمان وتسعين وست مئة بسبب عقيدته، وأن تكتب صورة العقيدتين الأولى والثانية فأراد نائب السلطنة أن يدافع عنه ويكتب في حقه فوصل مملوكه سيف الدِّين الطنقش من الديار المصرية وأخبر باشتداد الحال عليه وقيام الأمير ركن الدِّين بيبرس الجاشنكير وذكر له كلام قاضي القضاة زين الدين، فعند ذلك أمر بإرساله وإرسال قاضي القضاة نجم الدين، فتوجَّها في يوم الاثنين ثاني عشر شهر رمضان فتوجه القاضي نجم الدِّين في الخامسة من النهار وتوجه تقي الدِّين في التاسعة وصحبته جماعة من أصحابه منهم تقي الدِّين بن شقير، وزين الدِّين بن زين الدِّين بن مُنَجَّى، وشمس الدِّين التدمري، وفخر الدِّين وعلاء الدِّين أولاد شرف الدِّين الصايغ، وابن بُخَيْخ، وشرف الدِّين عبد الله أخو الشيخ، وكان وصولهم إلى القاهرة في يوم الخميس ثاني عشري شهر رمضان وعُقِد مجلس بدار النيابة بقلعة الجبل وحضره الأمير ركن الدِّين بيبرس الجاشنكير وغيره من الأمراء والقضاة والعلماء وذلك بعد صلاة الجمعة الثالث والعشرين من الشهر، فادَّعى
القاضي شمس الدِّين محمد ابن عدلان دعوى شرعية على تقي الدِّين في عقيدته عند قاضي القضاة زين الدِّين في المجلس، وطالبه بالجواب فنهض تقي الدِّين قائمًا وقال: الحمد لله، وأرادَ أن يذكرَ خطبة ووعظًا، ويذكر عقيدته في أثناء ذلك، فقيل له: أجب عما ادُّعِيَ عليك به ودَعْ هذا فلا حاجة لنا بما تقول، فأراد أن يعيد القول في الخطبة فمُنِعَ وطُولِبَ بالجواب، فقال: عند من الدعوى عَلَيَّ؟ فقيل عند قاضي القضاة زين الدِّين المالكي، فقال هو عدوي وعدو مذهبي، فلم يرجع إلى قوله، ولما لم يأت بجواب أمر قاضي القضاة زين الدِّين باعتقاله على رد الجواب، فأقيم
من المجلس واعتقل هو وأخواه شرف الدِّين عبد الله وعبد الرحمن وحُبِسُوا في برج، فتردد إليه بعض الناس فاتصل ذلك بقاضي القضاة زين الدِّين فأمر بالتضييق عليه، فنقل إلى الجب في ليلة عيد الفطر وكتب مثال شريف سلطاني وسير إلى دمشق في أمر تقي الدِّين والحنابلة، ونسخته
(1)
:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي تنزه عن الشبيه والنظير، وتعالى عن المثيل، فقال عز وجل:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ} [الشورى: 11] نحمده على أن ألهمنا العملَ بالسنة والكتاب، ورفع في أيامنا أسباب الشك والارتياب، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من يرجو بإخلاصه حسن العقبى والمصير وينزه خالقه عن التحييز في جهة لقوله عز وجل:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4] ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي نهج سبيل النجاة لمن سلك طريق مرضاته، وأمر بالتفكر في
(1)
. هذا المرسوم صاغه فقهاء السلطة، وعلماء البدعة (المأجورون)، ينظر مقدمة الكتاب في الجواب عن هذا المكتوب وأمثاله (ص 44).
آلاء الله، ونهى عن التفكر في ذاته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين علا بهم منار الإيمان وارتفع، وشيد الله بهم من قواعد الدِّين الحنيف ما شرع، وأخمد بهم كلمةَ من حاد عن الحق ومال إلى البدع، وبعد: فإن العقيدة الشرعية وقواعد الإسلام المرعية وأركان الإيمان العَلِيَّة ومذاهب الدِّين المرضية هي الأساس الذي يبنى عليه، والموئل الذي يرجع كل أحد إليه، والطريق الذي من سلكها فقد فاز فوزًا عظيمًا، ومن زاغ عنها فقد استوجب عذابًا أليمًا، فلهذا يجب أن تنفذ أحكامها، ويؤكد دوامها وتصان عقائد هذه الأمة عن الاختلاف، وتُزَان قواعد الأمة بالائتلاف، وتغمد بواتر البدع، ويفرق من فرقها ما اجتمع، وكان التقي ابن تيمية في هذه المدة قد بَسَطَ لسانَ قلمه، ومدَّ عنان كَلِمِه، وتحدث في مسائل الذات والصفات، ونصَّ في كلامه على أمور منكرات، وتكلَّم فيما سكت عنه الصحابة والتابعون، وفاه بما تجنبه السلف الصالحون، وأتى في ذلك بما أنكره أئمة الإسلام، واتفق على خلافه إجماع العلماء والحكام، وشهر من فتاويه في البلاد ما استخف به عقول العوام، وخالف في ذلك علماء عصره، وفقهاء شامه ومصره، وبعث رسائله إلى كل مكان، وسمَّى فتاويه أسماء ما أنزل الله بها من سلطان.
ولما اتصل بنا ذلك وما سلكه مريدوه من هذه المسائل وأظهروه، من هذه الأحوال وأشاعوه، وعلمنا أنه استخف قومَه فأطاعوه، حتى اتصل بنا أنهم صرحوا في حق الله بالحرف والصوت والتجسيم، قمنا في الله تعالى مشفقين من هذا النبأ العظيم، وأنكرنا هذه البدعة، وأنِفْنا أن يشيع عمن تضمه ممالكنا هذه السمعة، وكرهنا ما فاه به المبطلون وتلونا قوله:{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91] فإنه جل جلاله تنزه عن العديل والنظير: {لَا
تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103] وتقدمت مراسمنا باستدعاء ابن تيمية المذكور إلى بابنا عندما سادت فتاويه شامًا ومصرًا، وصرح فيها بألفاظ ما سمعها ذو فهمٍ إلا وتلا:{لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف: 74] ولما وصل إلينا، أمرنا بجمع أولي الحل والعقد، وذوي التحقيق والنقد، وحضر قضاة الإسلام وحكام الأنام، وعلماء الدين، وفقهاء المسلمين، وعُقِد له مجلس شَرْع، في ملأ من الأئمة وجَمْع، فثبت عند ذلك عليه جميع ما نُسِب إليه، بمقتضى خط يده الدال على منكر معتقده، وانفصل ذلك الجمع وهم لعقيدته منكرون، وآخذوه بما شهد به قلمه عليه تالين:{سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19] وبلغنا أنه كان استتيب فيما تقدم، وأخَّره الشرع الشريف لما تعرض لذلك وأقدم، ثم عاد بعد منعه، ولم تدخل تلك النواهي في سمعه، ولما ثبت ذلك في مجلس الحكم العزيز المالكي، حكم الشرع الشريف بأن يسجن هذا المذكور ويُمْنع من التصرف والظهور ومرسومنا هذا يأمر بأن لا يسلك أحد ما سلكه المذكور من هذه المسالك، وينهى عن التشبه به في اعتقاد مثل هذا أو يغدو له في هذا القول متبعًا، ولهذه الألفاظ مستمعًا، أو يسري في التجسيم مسراه، أو أن يفوه بجهة العلو مخصصًا أحدٌ كما فاه، أو يتحدث إنسان في صوت أو حرف، أو يوسع القول في ذات أو
وصف، أو ينطق بتجسيم، أو يحيد عن طريق الحق المستقيم، أو يخرج عن آراء الأئمة، أو ينفرد عن علماء الأمة، أو يحيِّز الله في جهة، أو يتعرَّض إل حيث أو كيف، فليس لمن يعتقد هذا المجموع عندنا إلا السيف، فليقف كل أحد عند هذا الحد ولله الأمر من قبل ومن بعد، وليلزم كل من الحنابلة بالرجوع عما أنكره الأئمة من هذه العقيدة،
أو الخروج من هذه المشتبهات الشديدة، ولزوم ما أمر الله تعالى به من التمسُّك بمذاهب أهل الإيمان الحميدة، فإنه من خرج عن أمر الله تعالى فقد ضل سواء السبيل، وليس له غير السجن الطويل من مستقر ولا مقيل.
رسمنا بأن ينادى في دمشق المحروسة والبلاد الشامية وتلك الجهات بالنهي الشديد والتخويف والتهديد لمن يتبع ابن تيمية في الأمر الذي أوضحناه، ومن تبعه فيه تركناه في مثل مكانه وأحللناه ووضعناه من عيون الأمم كما وضعناه، ومن أصرَّ على الدفاع وأبى إلا الامتناع أمرنا بعزلهم من مدارسهم ومناصبهم وإسقاطهم من مراتبهم، وأن لا يكون لهم في بلادنا حكم ولا قضاء ولا إمامة ولا شهادة ولا ولاية ولا رتبة ولا إقامة فإننا أزلنا دعوة هذا المبتدع من البلاد، وأبطلنا عقيدته التي أضل بها كثيرًا من العباد أو كاد، ولتكتب المحاضر الشرعية على الحنابلة بالرجوع عن ذلك، وتسير إلينا بعد إثباتها على قضاة الممالك، وقد أعذرنا وحذرنا، وأنصفنا حيث أنذرنا، وليقرأ مرسومنا هذا على المنابر، ليكون أبلغ واعظ وزاجر، وأحمد ناهٍ وآمر، والاعتماد على الخط الشريف أعلاه، وكتب في ثامن عشرين شهر رمضان سنة خمس وسبعمائة.
ولما وصل هذا المثال إلى دمشق قُرِئ على المنابر كما رسم فيه وأُشْهِر وأُعْلن، وأما قاضي القضاة نجم الدِّين ابن صصري فإنه عومل بالإكرام وخلع عليه ونزل بدار الحديث الكاملية بقاعة التدريس بها، وأذن له السلطان أن يحكم بالقاهرة فأثبت مكاتيب كثيرة وجلس كتاب الحكم بين يديه، وخرجّت إسجالاته وشهدتُ عليه في بعضها، ثم عاد إلى دمشق على خيل البريد، وكان وصوله إليها في يوم الجمعة سادس ذي القَعْدة. وفي أثناء هذه الحادثة في
غُضُون هذه المدة كان للحنابلة في القاهرة مع قاضي القضاة زين الدِّين المالكي وقائع أُهيْن فيها بعض أعيانهم واعتقل وعزر بعضهم.
وكان ممن تعصب لتقي الدِّين ابن تيمية في هذه الواقعة بالشام قاضي القضاة شمس الدِّين محمد ابن الحريري الحنفي، وأثبتَ محضرًا له مما هو عليه من الخير، وكتبَ في أعلاه بخطه ثلاثة عشر سطرًا يقول في جملتها: إنه منذ ثلاث مئة سنة ما رأى الناس مثله، وأراني قاضي القضاة زين الدِّين المالكي هذا المحضر، وغضب منه وسعى في عزل قاضي القضاة الحنفية بدمشق شمس الدِّين ابن الحريري، فعُزِل وفُوِّض قضاء القضاة الحنفية بدمشق بعده لقاضي القضاة شمس الدِّين محمد ابن إبراهيم الأذرعي الحنفي مدرس المدرسة الشبلية، فوصل تقليده إلى دمشق في ثاني ذي القَعْدة.
وأما تقي الدِّين فإنه استمر في الجبِّ بقلعة الجبل إلى أن وصل الأمير حسام الدِّين مهنا إلى الأبواب السلطانية في شهر ربيع الأول سنة سبع وسبع مئة، فسأل السلطان في أمره وشفع فيه، فأمر بإخراجه فأخرج في يوم الجمعة الثالث والعشرين من الشهر، وأُحْضِر إلى دار النيابة بقلعة الجبل وحصل بحث مع بعض الفقهاء ثم اجتمع جماعة من أعيان العلماء ولم تحضره القضاة وذلك لمرض قاضي القضاة زين الدِّين المالكي، ولم يحضر غيره من القضاة، وحصل البحث وكتب خطه ووقع الإشهاد عليه وكتب بصورة المجلس مكتوب مضمونه:
بسم الله الرحمن الرحيم، شهد من يضع خطه آخره أنه لما عقد مجلس لتقي الدِّين أحمد ابن تيمية الحراني الحنبلي بحضرة المقر الأشرف العالي
المولوي الأميري الكبيري العالمي العادلي السيفي ملك الأمراء سَلَّار الملكي الناصري نائب السلطة المعظمة أسبغ الله ظله، وحضر فيه جماعة من السادة العلماء الفضلاء أهل الفتيا بالديار المصرية بسبب ما نُقِل عنه وَوُجِد بخطه الذي عرف به قبل ذلك من الأمور المتعلقة باعتقاده أن الله تعالى يتكلم بصوت وأن الاستواء على حقيقته وغير ذلك مما هو مخالف لأهل الحق، انتهى المجلس بعد أن جرت فيه مباحث معه ليرجع عن اعتقاده في ذلك إلى أن قال بحضرة شهود: أنا أشعري ورفع كتاب الأشعرية على رأسه وأشهد عليه بما كتب به خطًّا وصورته: الحمد لله، الذي أعتقده أن القرآن معنى قائم بذات الله، وهو صفة من صفات ذاته القديمة الأزلية وهو غير مخلوق وليس بحرف ولا صوت، كتبه: أحمد ابن تيمية، والذي أعتقده من قوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] أنه على ما قاله الجماعة، أنه ليس على حقيقته وظاهره، ولا أعلم كُنْهَ المراد منه بل لا يعلم ذلك إلا الله تعالى. كتبه أحمد ابن تيمية.
والقول في النزول كالقول في الاستواء أقول فيه ما أقول فيه، ولا أعلم كنه المراد به، بل لا يعلم ذلك إلا الله تعالى، وليس على حقيقته وظاهره. كتبه: أحمد ابن تيمية، وذلك في يوم الأحد خامس عشرين شهر ربيع الأول سنة سبع وسبعمائة.
هذا صورة ما كتب به بخطه، وأشْهَد عليه أيضًا أنه تاب إلى الله تعالى مما ينافي هذا الاعتقاد في المسائل الأربع المذكورة بخطه
(1)
، وتلفظ
(1)
. فصَّلنا القول في هذا الرجوع والمكتوب، وبيَّنَّا كذبه واختلاقه في مقدمة الكتاب (ص 44).
بالشهادتين المعظمتين وأشهد عليه أيضًا بالطواعية والاختيار في ذلك، ووقع ذلك كله بقلعة الجبل المحروسة من الديار المصرية حرسها الله تعالى بتاريخ يوم الأحد الخامس والعشرين من شهر ربيع الأول سنة سبع وسبعمائة، وشهد عليه في هذا المحضر جماعة من الأعيان المُفْتين والعدول، وأفرج عنه واستقر بالقاهرة بدار شقير، ثم عُقد له مجلس ثالث بالمدرسة الصالحية بالقاهرة في يوم الخميس سادس عشر شهر ربيع الآخر وكتب بخطه نحو ما تقدم ووقع الإشهاد فيه عليه أيضًا، وسكن الحال مدة ثم اجتمع جماعة من المشايخ والصوفية مع الشيخ تاج الدِّين ابن عطاء الله في نحو خمس مئة نفر وتبعهم جمع كثير من العوام وطلعوا إلى قلعة الجبل في العشر الأوسط من شوال من السنة، واجتمع الشيخ المذكور وأعيان المشايخ بنائب السلطان وقالوا: إن تقي الدِّين يتكلم في حق مشايخ الطريقة وأنه يقول: لا يُسْتغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم فرد الأمر إلى قاضي القضاة بدر الدِّين ابن جماعة الشافعي، واقتضى الحال أن رُسِمَ بتسفيره إلى الشام على خيل البريد فتوجه وكان قاضي القضاة زين الدِّين المالكي في ذلك الوقت في حال شديدة من المرض وقد أشرف على الموت، فبلغه ذلك عقيب إفاقة من غشي كان قد حصل له فأرسل إلى الأمير سيف الدِّين سلَّار وسأله في رده، فأمر برده إلى القاهرة فتوجه البريد وأعاده من مدينة بلبيس فوصل وقاضي القضاة زين الدِّين مغلوب بالمرض، فأرسل إلى نائبه القاضي نور الدِّين الزواوي، فحضر به إلى مجلس قاضي القضاة بدر الدِّين وحررت الدعوى عليه في أمر اعتقاده وما وقع منه، فشهد عليه الشيخ شرف الدِّين ابن الصابوني، وقيل: إن الشيخ
علاء الدِّين القُوْنوي يشهد عليه، فاعتقل بسجن الحاكم بحارة الديلم وذلك في ثامن عشر شوال سنة سبع وسبعمائة، واستمر
به إلى سلخ صفر سنة تسع وسبع مئة، فأُنهيَ عنه أن جماعة يحضرون إليه بالسجن وأنه يَعِظُهم ويتكلَّم في أثناء وعظه بما يشبه ما تقدم من كلامه، فأمر بنقله إلى ثغر الإسكندرية واعتقاله هناك، فجهز إلى الثغر في هذا التاريخ وحبس ببرج شرقي واستمر به إلى أن عادت الدولة الناصرية ثالثًا، فتحدث مع السلطان في يوم السبت ثامن عشر شوال سنة تسع وسبع مئة، فأكرمه السلطان وجمع القضاة وأصلح بينه وبين قاضي القضاة زين الدِّين المالكي فأشرط عليه قاضي القضاة أن يتوب عما تقدم الكلام فيه ويتوب عنه ولا يعود إليه، فقال السلطان: قد تاب وانفصل المجلس على خير، وسكن الشيخ تقي الدِّين بالقاهرة ببعض القاعات، وتردد الناس إليه واستمر إلى أن توجه السلطان إلى الشام في سنة ثنتي عشرة وسبع مئة، فتوجه بِنيَّة الغزاة، وأقام بدمشق إلى أن سطرنا هذه الأحرف في سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وكان له في غضون هذه المدة بدمشق وقائع نذكرها في مواضعها إن شاء الله تعالى، ولنرجع إلى تتمة سياقة الحوادث في سنة خمس وسبعمائة.
ذكر اعتقال الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية
وفي هذه السنة
(1)
ــ في يوم الاثنين السادس من شعبان ــ اعْتُقِل الشيخ تقي الدِّين أحمد ابن تَيْميَّةَ بقلعة دمشق المحروسة، حسب الأمر الشريف السلطاني، واعْتُقِل معه أخوه زين الدِّين عبد الرحمن، ومنع من الفُتْيا واجتماع الناس به.
وسبب ذلك: أنه أفتى أنه لا يجوز زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا قبر
(1)
. سنة 726.
إبراهيم الخليل، ولا غيرهما من قبور الأنبياء والصالحين
(1)
، وتوجه بعض أصحابه وهو الشمس محمد بن أبي بكر إمام المدرسة الجَوْزية
(2)
في هذه السنة لزيارة البيت المقدس، فرقي منبرًا في حرم القدس الشريف، ووعظ الناس وذكر هذه المسألة في أثناء وعظه، وقال: ها أنا من هنا أرجع ولا أزور الخليل، وجاء إلى نابُلُسَ، وعمل مجلس وعظ، وأعاد كلامه، وقال: ولا يزار قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يزار إلا مسجده، فقصد أهل نابلس قتله، فحال بينهم وبينه مُتَوَلِّيها، وكتب أهل القدس وأهل نابلس ودمشق بما وقع منه، فطلبه قاضي القضاة شرف الدِّين المالكي، فتغيب عنه، وبادر بالاجتماع بقاضي القضاة شمس الدِّين محمد بن مسلم الحنبلي قاضي الحنابلة، وتاب عنده، وقبل توبته، وحَقَن دمَه، ولم يُعَزِّره.
فنهض الفقهاء بدمشق عند ذلك، وتكلموا على الشيخ تقي الدين، وكتبوا فتيا تتضمن ما صدر منه، وذكروا هذه المسألة وغيرها، فأفتى العلماء بكفره! ! وعُرِضت الفتيا على نائب السلطنة بالشام، الأمير سيف الدِّين تنكز، فطالع السلطان بذلك، فجلس السلطان في يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من شهر رجب بالميدان الذي هو بذيل قلعة الجبل، وأحضر القضاة والعلماء، وعرض عليهم ما ورد في أمره من دمشق، فأشار قاضي القضاة بدر الدِّين محمد بن جماعة الشافعي باعتقال تقي الدِّين المذكور، فرسم باعتقاله ومنعه من الفتيا، ومنع الناس من الاجتماع به، وأن يُؤَدَّب من هو على
(1)
. لم يمنع الشيخ الزيارة، بل منع شد الرحل، وهذا واضح في جميع كتبه لكل ذي عينين! !
(2)
. هو ابن القيم رحمه الله.
معتقده، وتوجيه البريد بذلك، فوصل إلى دمشق في يوم الاثنين سادس شعبان، فاعتقل، وقرئ المثال السلطاني بعد صلاة الجمعة العاشر من الشهر على السدة بجامع دمشق.
ثم طلب قاضي القُضاة القزويني جماعةً من أصحاب تقي الدِّين في يوم الجمعة الرابع والعشرين من الشهر إلى المدرسة العادلية، وكانوا قد اعْتُقِلوا بسجن الحكم، فادُّعِيَ على العماد إسماعيل
(1)
صهر الشيخ جمال الدِّين المِزِّي أنه قال: إن التوراة والإنجيل لم يُبَدَّلا، وأنهما كما أنزلا، فأنكر، فشهد عليه بذلك، فضرب بالدِّرّة، وأشهر وأطلق.
وادُّعِي على عبد الله الإسكندري، والصلاح الكتبي
(2)
، وغيرهما بأمور صدرت منهم، فثبت ذلك عليهم، فضربوا بالدِّرَّة، وأُشْهِروا في البلد.
وطُلِب الشمسي إمام المدرسة الجوزية، وسئل عما صدر منه في مجلس وعظه بالقدس ونابلس، فأنكر ذلك، فشهد عليه من حضر مجلسيه بما تلفظ ممن كان قد توجه من عدول دمشق لزيارة البيت المقدس، فثبت ذلك عليه فضُرِبَ بالدرة، وأُشْهِر على حمار بدمشق والصالحية، وقُيِّد، واعتُقِل بقلعة دمشق، فلم يزل في الاعتقال إلى يوم الثلاثاء العشرين من ذي الحجة سنة ثمان وعشرين، فأفرج عنه في هذا اليوم، وحضر إلى قاضي القضاة الشافعي، فشرط عليه شروطًا، فالتزمها، وأُطْلِق.
(1)
. هو الإمام ابن كثير، صاحب التفسير.
(2)
. هو ابن شاكر الكتبي المؤرِّخ.
وفيها
(1)
في يوم الاثنين تاسع عشر جمادى الآخرة ورد مرسوم شريف سلطاني إلى دمشق بمنع الشيخ تقي الدِّين أحمد ابن تيمية من الكتابة مطلقًا في التصنيف والفتيا، فأخذ ما عنده من الكتب والأوراق والدواة والأقلام وأُوْدِع ذلك عند متولي قلعة دمشق، فكان عنده إلى مستهل شهر رجب، ثم أرسل المتولي ذلك إلى قاضي القضاة علاء الدين، فجعل الكتب في خزانة المدرسة العادلية، لأنها كانت عارية، وأما الأوراق التي كانت بخطه من تصانيفه فكانت نحو أربع عشرة ربطة، فنظر القضاة والفقهاء فيها، وفُرِّقت بينهم.
وكان سبب ذلك أنه وجد له جواب عما رده عليه قاضي القضاة تقي الدِّين المالكي، فأعلم السلطان بذلك، فاستشار قاضي القضاة، فأشار بذلك، فرسم به، فحينئذ عدل الشيخ عن ذلك إلى تلاوة القرآن.
وفيها
(2)
في الثلث الأخير من ليلة الاثنين المسفر صباحها عن العشرين من ذي القَعْدة كانت وفاة الشيخ العالم الورع تقي الدِّين أحمد ابن الشيخ شهاب الدِّين أبي المحاسن عبد الحليم بن الشيخ مجد الدِّين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني ثم الدمشقي في معتقله بدمشق، ومرض سبعة عشر يومًا، ولما مُنع من الكتابة والتصنيف عكف على تلاوة كتاب الله تعالى، فيقال إنه قرأ ثمانين ختمة، وقرأ من الحادية والثمانين إلى سورة الرحمن، وأكملها أصحابه الذين دخلوا عليه حال غسله وتكفينه، وتولى غسله مع المغسل الشيخ تاج الدِّين
(1)
. سنة 728، وهو في الحبس.
(2)
. سنة 728.
الفارقي، والشيخ شمس الدِّين بن إدريس، وصُلِّيَ عليه في عدة مواضع؛ فصُلِّيَ عليه أولًا بقلعة دمشق وأمَّ الناس في الصلاة عليه الشيخ محمد بن تمَّام الصالحي الحنبلي، ثم حُمِل إلى الجامع الأموي، ووضعت جنازته في أول الساعة الخامسة، وامتلأ الجامع بالناس، وغلقت أسواق المدينة، وصلى عليه بعد صلاة الظهر، ثم حمل وأخرج من باب الفرج، وازدحم الناس حتى تفرَّقوا في أبواب المدينة وصُلِّيَ عليه بعد صلاة الظهر، ثم حمل فخرجوا من باب النصر وباب الفراديس وباب الجابية، وامتلأ سوق الخيل بالناس، وصُلِّي عليه مرة ثالثة وأمَّ الناس في الصلاة عليه أخوه الشيخ زين الدِّين عبد الرحمن، وحُمِل إلى مقبرة الصوفية، فدُفِن قريبًا من وقت العصر لازدحام الناس عليه.
ومولده بحران في يوم الاثنين عاشر شهر ربيع الأول سنة إحدى وستين وست مئة، وقدم مع والده في حال صغره، واشتغل عليه وسمع من جماعة من المشايخ، وكان شيخًا حافظًا مُفْرِط الذكاء، حسن البديهة، وله تصانيف كثيرة منها ما ظهر، ومنها ما لم يظهر، وشهرته بالعلم تغني عن بَسْط القلم فيه، وكان علمه أرجح من عقله
(1)
، وقد قدمنا من أخباره ووقائعه ما يغني عن إعادته، وكانت مدة اعتقاله من يوم الاثنين سادس شعبان سنة ست وعشرين وسبع مئة إلى حين وفاته سنتين وثلاثة أشهر وأربعة عشر يومًا، رحمه الله تعالى.
(1)
. كلمة قالها الجزري، فتلقَّفها من بَعْده، وقد قال الذهبي عن تاريخ ابن الجزري:«وفي تاريخه عجائب وغرائب» اهـ.
انظر: «ذيل تاريخ الإسلام» : (ق/ 102 ب).
ولما مات أُفْرِج عن أخيه الشيخ زين الدِّين عبد الرحمن في يوم الأحد سادس عشرين ذي القَعْدة، وكان قد اعتقل معه، فلما مات كان يخرج في كل يوم إلى تربة أخيه، ويعود عشية النهار يبيت بقلعة دمشق، إلى أن حضر نائب السلطنة من الصيد، فأفرجَ عنه.
* * * *
أجوبة ابن سيِّد النّاس اليَعْمَري عن سؤالات ابن أيبك الدمياطي
(1)
للعلامة أبي الفتح ابن سيِّد النَّاس اليَعْمَرِي (734)
[قال ابن سيِّد الناس، بعد ثنائِه على المزِّي:] وهو الذي حداني على رؤية الشيخ الإمام شيخ الإسلام: تقي الدِّين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية.
فألفيته ممن أدرك من العلم حظًّا، وكاد يستوعب السنن والآثار حفظًا. إنْ تكلَّم في التفسير؛ فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه؛ فهو مُدْرك غايته، أو ذاكر بالحديث؛ فهو صاحب علم وذو روايته، أو حاضر بالنِّحل والملل؛ لم يُر أوسع من نِحْلَتِه في ذلك ولا أرفع من درايته، برز في كل فنٍّ على أبناء جِنسه، ولم تر عين من رآه مثله، ولا رأت عينه مثل نفسه. كان يتكلم في التفسير؛ فيحضر مجلسه الجم الغفير، ويَرِدون من بحر علمه العذب النمير، ويرتعون من ربيع فضله في روضة وغدير، إلى أنْ دبَّ إليه من أهل بلده داء الحسد، وأكبَّ أهل النظر منهم على ما يُنْتقد عليه في حنبليته من أُمور المعتقد، فحفظوا عنه في ذلك كلامًا؛ أوسعوه بسببه ملامًا، وفوَّقوا لتبديعه سِهامًا. وزعموا أنَّه خالف طريقتهم، وفرق فريقهم، فنازعهم ونازعوه، وقاطع بعضهم وقاطعوه، ثم نازع طائفة أخرى ينتسبون من الفقر إلى طريقةٍ، ويزعمون أنهم على أدقِّ باطن منها وأجْلى حقيقة، فكشف تلك الطرائق، وذكر لها ــ على ما زعم ــ بوائق، فآضت إلى الطائفة الأولى من منازعيه،
(1)
. (2/ 221 - 224) تحقيق د/ محمد الراوندي، نشر وزارة الأوقاف بالمغرب، 1410.
واستعانت بذوي الضغن عليه من مقاطعيه، فوصلوا بالأمراء أمره، وأعمل كل منهم في كفره فكره، فرتَّبوا محاضر، وألَّبوا الرويبضة للسّعي بها بين الأكابر، وسعوا لفي نقله إلى حضرة المملكة بالديار المصرية فنُقِل، وأُودع السجن ساعةَ حضوره واعتُقِل، وعقدوا لإراقة دمه مجالس، وحشدوا لذلك قومًا من عُمَّار الزوايا وسكَّان المدارس، من مجامل في المنازعة، مخاتل بالمخادعة، ومن مجاهر بالتكفير مبارز بالمقاطعة، يسومونه ريب المنون، {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص: 69].
وليس المجاهر بكفره بأسوأ حالًا من المخاتل، وقد دبّت إليه عقارب مكره فردّ الله كيد كلٍّ في نحره، ونجاه على حد من اصطفاه والله غالب على أمره.
ثم لم يخل بعد ذلك من فتنة بعد فتنة، ولم ينتقل طول عمره من محنة إلا إلى محنة، إلى أن فوِّض أمره لبعض القضاة فتقلَّد ما تقلَّد من اعتقاله، ولم يزل بمحبسه ذلك إلى حين ذهابه إلى ربه تعالى وانتقاله، وإلى الله ترجع الأمور، وهو المطّلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وكان يومه مشهودًا، ضاقت بجنازته الطريق، وانتابها المسلمون من كلِّ فجٍّ عميق، يتبركون بمشهده يوم يقوم الأشهاد، ويتمسكون بشرجعه
(1)
حتّى كسروا تلك الأعواد! ! وذلك في ليلة العشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بقلعة دمشق المحروسة، وكان مولده بحرَّان في عاشر شهر ربيع الأوَّل من سنة إحدى وستين وست مئة ــ رحمه الله وإيانا ــ.
(1)
. أي: سريره. وهذا التبرُّك محرمٌ شرعًا! وهذا ما بيَّنه شيخ الإسلام في كتبه. انظر: «مجموع الفتاوى» : (26/ 121).
قرأت على الشيخ الإمام حامل راية العلوم، ومدرِك غاية الفهوم؛ تقي الدِّين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رحمه الله بالقاهرة ــ قدِم علينا ــ قلت: أخبركم الشيخ الإمام زين الدِّين أبو العباس أحمد بن عبد الدائم بن نعمة المقدسي.
ح قال أبو الفتح: وأخبرنا الشيخان أبو الفرج عبد اللطيف إجازة، وأخوه أبو العز عبد العزيز سماعًا غير مرة قالوا: أنا أبو الفرج عبد المنعم بن عبد الوهاب بن سعد بن صدقة بن كليب.
قال ابن عبد الدائِم وعبد اللطيف: سماعًا، وقال عبد العزيز: إجازة. قال: أنا أبو القاسم علي بن أحمد بن محمد بن بيان الرزاز قراءة عليه وأنا أسمع، قال: أنا أبو الحسن محمد بن محمد بن مخلد قال: أنا أبو علي إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الصفَّار، ثنا أبو علي الحسن بن عَرَفَة العبدي، ثنا إسماعيل بن عيّاش عن بحير بن سعد الكلاعي عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة الحضرمي عن عقبة بن عامر الجهني قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة» .
رواه أبو داود في الصلاة عن أبي بكر بن أبي شيبة، والترمذي عن ابن عرفة كلاهما عن إسماعيل بن عيَّاش، وقال: حسن غريب. فوقع لنا موافقة عالية للترمذي، وبدلًا لأبي داود.
* * * *
تاريخ حوادث الزمان وأنبائه ووفيات الأكابر والأعيان من أبنائه
(1)
لشمس الدِّين أبي عبد الله محمد بن إبراهيم الجزري القرشي (739)
في يوم الاثنين السادس من شعبان (سنة 726) قدم البريد من مصر إلى دمشق وعلى يده مرسوم سلطاني أن يعتقل الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية، فلما كان بعد صلاة العصر حضر ناصر الدِّين مشد الأوقاف، والأمير بدر الدِّين (أمير مسعود)
(2)
ابن الخطير الحاجب إلى عند الشيخ وعرَّفوه صورة الحال، فأظهر أن في هذا خير كثير
(3)
، وأحضروا له مركوبًا، فركب معهم إلى قلعة دمشق، فأخليت له دار يجري إليها الماء، وكان في جملة المرسوم أن يكون معه ولد أو أخ وخادم يخدمه، وأن يُجرى عليهم كفايتهم، فاختار أخوه زين الدِّين عبد الرحمن المقام معه لخدمته. وكان السبب في ذلك أنه قد أفتى فتيا وذكر فيها (أنه)
(4)
لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث
(5)
مساجد. الحديث المشهور. وأن زيارة قبور الأنبياء عليهم السلام لايشد إليها الرحال كقبر أبونا
(6)
إبراهيم الخليل والنبي عليه السلام وغيرهما من الأنبياء
(1)
. 2/ 111 - 114، 123، 263 - 264، 273، 306 - 310، نشر المكتبة العصرية ــ بيروت 1419، ط. الأولى، تحقيق د. عمر عبد السلام تدمري. والحواشي المثبتة من المحقق.
(2)
. عن الهامش.
(3)
. كذا، والصواب:«خيرًا كثيرًا» .
(4)
. عن الهامش.
(5)
. كذا، والصواب:«ثلاثة» .
(6)
. كذا، والصواب:«أبينا» .
والصالحين صلى الله عليهم أجمعين.
واتفق أن الشمس محمد إمام الجوزية
(1)
سافر إلى القدس الشريف ورَقَا في الحرم على منبر ووعظ، وفي أثناء وعظه ذكر هذه المسألة، وقال: ها أنا هاهنا أرجع ولا أزور الخليل إساءة أدب عليه صلى الله عليه وسلم. وجاء إلى نابلس وعُمِل له مجلس وعظ وذكر المسألة بعينها حتى أنه قال: ولا يزار قبر النبي صلى الله عليه وسلم إلا مسجده، فقاموا
(2)
عليه الناس، فحماه منهم والي نابلس سيف الدِّين بهادر، وكتبوا أهل القدس ونابلس إلى دمشق يعرفوهم
(3)
صورة ما وقع منه، فطلبه القاضي المالكي، فتودد منه وطلع إلى الصالحية إلى القاضي الحنبلي وتاب على يديه وأسلم، فقبل توبته وحكم بإسلامه وحَقْن دمه ولم يعزره لأجل الشيخ. فحينئذ قامت الفقهاء الشافعية والمالكية وكتبوا فتيا في الشيخ تقي الدِّين بن تيمية لكون أنه هو أول من تكلم بهذه المسألة وغيرها، فكتب عليها الشيخ الإمام برهان الدِّين (أبي
(4)
إسحاق إبراهيم بن الشيخ تاج الدِّين عبد الرحمن الفزاري الشافعي)
(5)
نحو أربعين سطرًا بأشياء كثيرة أنه يقولها ويفتي بها، وآخر الكلام أفتى بتكفيره، ووافقه شهاب الدِّين بن جهبل الشافعي وكتب تحت خطه، وكذلك الصدر المالكي، وغيرهم، وحملت الفتيا إلى نائب السلطنة، فأراد أن يُعقد لهم مجلس ويُجمع القضاة
(1)
. انظر عن المدرسة الجوزية: الدارس 2/ 23، ومنادمة الأطلال 227.
(2)
. كذا، والصواب:«فقام» .
(3)
. الصواب: «يعرفونهم» .
(4)
. كذا، والصواب:«أبو» .
(5)
. ما بين القوسين عن الهامش.
والعلماء في ذلك، فرأى أن الأمر يتسع الكلام فيه، ولابد من إعلام السلطان، فأخذ الفتوى وجعلها في المطالعة، وسيرها إلى السلطان، عز نصره، فجمع لها القضاة، ولم يحضر المالكي فإنه كان مريضًا، فلما قرئت عليهم أخذها قاضي القضاة بدر الدِّين بن جماعة وكتب على ظهرها: القائل بهذه المقالة صال مُضِلّ
(1)
مبتدع، ووافق الحنفي والحنبلي، فقال الأمير بهادر لقاضي القضاة بدر الدين: ما ترى في أمره؟ فقال: يُحبس، فإنه من العلماء وقد أفتى، فقال مولانا الناصر، عز نصره: وكذا كان في نفسي أن أفعل به، فكتب إلى نائب السلطنة بما اعتمده من حبسه، وفي (يوم)
(2)
الجمعة عاشر شعبان بعد (صلاة)
(3)
الجمعة قرئ كتاب السلطان على السُّدَّة في حديثه.
وفي يوم الجمعة الرابع والعشرين من شعبان قعد قاضي القضاة جلال الدِّين بعد الصلاة بالمدرسة العادلية
(4)
، وأحضروا جماعة من جماعة تقي الدِّين بن تيمية كانوا معتقلين في حبس الشرع، فادُّعي على العماد إسماعيل صهر جمال الدِّين المزي أنه قال: إن التوراة والإنجيل ما بدلت وإنها بحالها كما أنزلت، وشهدوا عليه، وثبت ذلك في وجهه، فعُزِّر بالمجلس بالدرة، وأخرج طيف به، ونادوا: هذا جزاء من قال إن التوراة والإنجيل ما بدلت، وبعد ذلك سيبوه.
(1)
. في الأصل: «طال مطل» ..
(2)
. عن الهامش.
(3)
. عن الهامش.
(4)
. هي العادلية الكبرى بدمشق. انظر عنها: الدارس 1/ 271، ومنادمة الأطلال (123).
وأحضر عبد الله الإسكندري وادُّعي عليه أنه قال عن مؤذني الجامع: هؤلاء كفرة، أو أنهم كفار بسبب أنهم يقولوا
(1)
في المنارة: ألا يا رسول الله أنت وسيلتي، وشيء
(2)
آخر من هذا الجنس. فذكر أنه اعترف بذلك وبغيره عند قاضي القضاة شمس الدِّين الحنبلي، وأنه أسلم على يده وقبل توبته وحقن دمه، وأبقى على جهاته وزوجتيه، فسيروا إلى الحنبلي يسألوه
(3)
عن ذلك.
وأحضر بعده الصلاح الكتبي
(4)
وادُّعي عليه أنه قال: لا فرق بين حجارة سقاية جيرون
(5)
وحجارة صخرة بيت المقدس، فأنكر فقامت عليه البينة بذلك.
وأحضر بعدهم إمام الجوزية الشمس محمد بن أبي بكر الذي عمل الفتنة من أصلها وادُّعي عليه في المجلسين الذين
(6)
عملهما بالقدس الشريف ونابلس فأنكر، وكان من قطوعه أنه قد سافر جماعة من أهل دمشق كلهم فقهاء وعدول، من جملتهم مدرس الطرخانية الحنفية
(7)
وغيره، فحضروا مجلسه بنابلس، فأنكر، فشهدوا عليه بما قال، وثبت ذلك.
(1)
. كذا، والصواب:«يقولون» .
(2)
. كذا، والصواب:«وشيئًا» .
(3)
. كذا، والصواب:«يسألونه» .
(4)
. هو المؤرخ محمد بن شاكر بن أحمد المتوفى سنة 764 هـ. صاحب: عيون التواريخ، وفوات الوفيات.
(5)
. جيرون، قربة من غوطة دمشق.
(6)
. كذا، والصواب:«اللذين» .
(7)
. انظر عن المدرسة الطرخانية: الدارس 1/ 415، ومنادمة الأطلال 179.
وجاء الحنبلي إلى عند ملك الأمراء وقال: أنا حكمت بإسلامهم وهو مظلومين
(1)
بحبسهم فنازعوه
(2)
القضاة، وجرى أمور يطول شرحها. وأخذوا
(3)
المالكية إمام الجوزية إلى حبسهم، فعاد الحنبلي سيرًا إلى قاضي القضاة جلال الدِّين يسأله أن يتم المسلّم عنده ولا يؤديهم إلى المالكي، فعاد جلال الدِّين عزَّر عبد الله الإسكندري على حمار غير مقلوب، والصلاح الكتبي، وآخر أساء الأدب، وقال: كل من قال عن ابن تيمية شيء
(4)
فهو كاذب وأضربه بمداس، وضربوهم جميعهم بالدرة في قُفِيِّهم على الحمير وردوا إلى الحبس، وأحضر بعدهم إمام الجوزية وعزَّره عنده بالعادلية بالدرة، ثم أركبه حمار وطاوفه
(5)
البلد، وراحوا به إلى الصالحية، وآخر النهار رد إلى الحبس، وأعلموا نائب
(6)
السلطنة بما فعلوه. وبعد ذلك حضر (ناصر الدين)
(7)
مشد الأوقاف تسلَّم إمام الجوزية وودّاه إلى القلعة فحبس المذكور مقيدًا، وسيَّبوا الباقي، وسكنت القضية.
وفي تاسع ذي القعدة قدم نائب السلطنة إلى دمشق من الصيد والقنص، وسير الحاجب بدر الدِّين الخطير إلى الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية إلى الحبس مرتين، ولم يعلم ما جرى.
(1)
. كذا، والصواب:«وهم مظلومون» .
(2)
. كذا، والصواب:«فنازعه» .
(3)
. في الأصل: «وأخذ» .
(4)
. كذا، والصواب:«شيئًا» .
(5)
. كذا، والصواب:«حمارًا وطوّفه» .
(6)
. كُتبت في آخر الصفحة السابقة ثم شطب فوقها.
(7)
. فوق السطر.
وفي يوم الخميس حادي عشر ذي القعدة سير نائب السلطنة للقاضي جمال الدِّين (يوسف)
(1)
بن جملة الشافعي نائب الحكم العزيز، وناصر الدِّين مشد الأوقاف (للشيخ تقي الدِّين بن تيمية)
(2)
وسألوه عما أفتا وما يعتقده فكتب بخطه ثمانين سطرًا بصورة ما أفتى وما يعتقده وغير ذلك، فسيرها ملك الأمراء طي مطالعته للسلطان، عز نصره.
وفي يوم الاثنين تاسع عشر جمادى الآخرة (728) ورد المرسوم السلطاني بمنع الشيخ تقي الدِّين بن تيمية أن يصنف أو يكتب، فحضر إليه من أخذ جميع ما كان عنده من كتاب وورق ومن دواة وأقلام، وتركت عند والي القلعة إلى مستهل رجب سيرها متولي القلعة إلى عند قاضي القضاة علاء الدِّين (القونوي)
(3)
الشافعي، فجعل الكتب في خزانة العادلية لأن أكثرها كانت عند الشيخ عارِية، والرزم التي بخطه وتصنيفه طالعوها حتى يردوا عليه ما قاله خلاف الإجماع.
وكان سبب ذلك أنه رد على قاضي القضاة (تقي الدِّين الإخنائي)
(4)
المالكي بالديار المصرية في كتاب كان قد صنفه في الزيارة، وجرى حديث يطول شرحه وتفصيله، وكان له في ذلك خيرة كبيرة لأنه اشتغل بالصلاة وتلاوة القرآن الكريم إلى حيث مات، رحمه الله تعالى وإيانا
(5)
.
(1)
. عن الهامش.
(2)
. عن الهامش.
(3)
. عن الهامش.
(4)
. عن الهامش.
(5)
. الخبر في: البداية والنهاية 14/ 134.
وفي يوم الأحد سادس عشرين ذي القعدة (728) أفرج عن الشيخ زين الدِّين عبد الرحمن أخو
(1)
الشيخ تقي الدِّين بن تيمية، وكان من بعد موت أخيه كل ليلة يروح يبات في القلعة بسبب غيبة نائب السلطنة في الصيد، لما حضر أفرج عنه.
وفي ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة (سنة 728) تُوفّي الشيخ الإمام، العالم، العامل، العلامة، الزاهد، العابد، الورع، الخاشع، الناسك، القدوة، العارف، المحقق، شيخ الإسلام تقي الدِّين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام العالم المفتي شهاب الدِّين أبي المحاسن عبد الحليم بن الشيخ الإمام شيخ الإسلام مجد الدِّين أبو
(2)
البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني ثم الدمشقي بقلعة دمشق، في القاعة التي كان محبوسًا فيها الثلث الأخير من الليل، وكان له مدة سبع
(3)
عشر يومًا بالحمى. كذا أخبرني أخوه الشيخ زين الدِّين عبد الرحمن، وذكر لي أن من حيث منع من الكتابة والتصنيف (في يوم الاثنين تاسع عشر جمادى الآخرة من هذه السنة)
(4)
قرأ إحدى وثمانين ختمة، وكان قد بقي من الختمة الأخيرة من سورة الرحمن إلى الحمد، فقرأ أصحابه الذين دخلوا إليه ليبصروه قبل تغسيله وإلى حيث فرغ من غسله وتكفينه تمام الختمة المباركة إن شاء الله تعالى.
(1)
. الصواب: «أخي» .
(2)
. الصواب: «أبي» .
(3)
. الصواب: «سبعة» .
(4)
. عن الهامش.
والذي تولى غسله مع المغسل الشيخ الصالح تاج الدِّين (محمود)
(1)
الفارقي، والشيخ شمس الدِّين ابن الرزير خطيب جامع كريم الدين، فغسلوه، وكفنوه، وتقدم في الصلاة عليه الشيخ الصالح محمد بن تمام الصالحي الحنبلي، وصلى عليه جميع من في قلعة دمشق، ثم حمل وأخرج منها إلى جامع دمشق، ووضعت الجنازة أول الخامسة، وقد امتلأ الجامع بالناس، وغلقت جميع أسواق دمشق ولم يبق حانوت مفتوح، إلا أن يكون نصراني
(2)
، لأن اليهود كانوا في عيد المظلة.
وأما دكاكين المراوزة والحريريين والقزازين وجميع أرباب الأنوال والحاكة والصناع، وجميع أرباب الصنائع، وسكان الأحكار ظاهر دمشق، وأهل الصالحية بأجمعهم حضروا إلى الجامع المعمور لأجل الصلاة عليه، وامتلأ الجامع أكثر من يوم الجمعة، لأن أهل الصالحية من أهل الأحكار يصلون يوم الجمعة في جوامعهم، وفي هذا اليوم حضروا إلى الجامع بأجمعهم، ولعل من لا له عادة بالصلاة حضر لأجل الصلاة عليه، وصلى عليه (قاضي القضاة الشيخ علاء الدِّين القونوي الشافعي)
(3)
عقيب صلاة الظهر بالجامع، ثم حضروا
(4)
الأمراء والحجاب والنقباء بالعصي والدبابيس حول نعشه، وحملوه
(5)
الترك من الأمراء والمقدمين على رؤوسهم تبركًا به، والأجناد يضربون الناس، ولولا ذلك لما قدروا يصلوا به إلى قبره من
(1)
. عن الهامش.
(2)
. الصواب: «نصرانيًّا» .
(3)
. عن الهامش.
(4)
. الصواب: «حضر» .
(5)
. الصواب: «حمله» .
كثرة الزحام والتبرك به. وكانت سويقة باب البريد قد أخربوها، فشق على الناس ذلك، وحملوه وخرجوا به من باب الفرج، وبعض الناس من باب الفراديس وباب النصر وباب الجابية من كثرة الناس. وامتد العالم إلى سوق الخيل وامتلأ، فصلى عليه أخوه زين الدِّين عبد الرحمن، ثم حمل من سوق الخيل فمُرَّ به تحت القلعة المحروسة. والله العظيم، لقد رأيت الناس قاعدين على الطريق يمينًا وشمالًا، الرجال والنساء مختلطين كأنهم ينتظرون عبور السلطان، ومنهم من يبكي، ومنهم من يضج ويصيح، ومن يتأسف، ومنهم من يتفرج. فلما وصلت إلى مقبرة الصوفية رأيتها وقد امتلت بالعالم، وقد حفروا قبره إلى جانب أخيه الشيخ شرف الدين. وحضر أخوه زين الدِّين وحوله نُقباءُ يحموه
(1)
من الناس، حتى شاهد القبر قبل وضع أخيه، وتأخرت الجنازة إلى قريب العصر حتى وضع في قبره وألحدوه وطم عليه ولقنوه، وبعد ذلك انصرف الناس أولًا بأول متأسفين عليه.
وكنت من حيث حضرت إلى الجامع المعمور شرعت في قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فقريت
(2)
إلى حيث دفن وانصرفت من عند قبره ألف مرة ومائة مرة وأحد عشر
(3)
مرة، قل هو الله أحد، والمعوذتين، وفاتحة الكتاب، وآية الكرسي، وأهديت ثواب ذلك جميعه إليه، وطلبت له من الله تعالى المغفرة والمفاداة والرضوان، ووصلت إلى بيتي أذان العصر. وبعد انصرافي ذكروا أن بعض الأمراء أحضر خيمة كبيرة نصبت على قبره، وحضر جماعة من القراء
(1)
. الصواب: «يحمونه» .
(2)
. الصواب: «فقرأت» .
(3)
. الصواب: «إحدى عشرة» .
وختموا على قبره. وأنه أحضر لهم مأكول كثيرًا
(1)
من الطعام وغيره، وحضروا بكرة النهار وتُليت ختمات كثيرة عند قبره، وفي الصالحية، وفي بيوت أصحابه، وإهدي ثوابها له، وتردد الناس إلى قبره أيام
(2)
كثيرة. ورأوا له منامات صالحة كثيرة لم أضبطها.
مولده يوم الاثنين عاشر شهر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة بحران، وقدم مع والده إلى دمشق صغيرًا، واشتغل عليه، وسمع منه، ومن الشيخ شمس الدِّين ابن أبي عمر، ومن شمس الدِّين ابن عطاء، ومن شمس الدِّين بن علان، وابن أبي اليسر، وابن عبد، وابن عبد الدائم، وابن البخاري، وابن الواسطي، وابن الصيرفي، وابن المقداد، والهروي، وابن عساكر، وجماعة كثيرة. وأجاز له جماعة، وقرأ بنفسه الكثير، وطلب الحديث، وكتب الطباق، ولازم السماع مدة سنين، واشتغل بالعلوم على والده وغيره، وحصّل في أول وقت ما لا حصّله غيره في سنين كثيرة. وكان عنده ذكاء مفرط، وبديهة حسنة، وعنده طرف جيد من التفسير، والفقه، والأصول، والنحو، واللغة، والخلاف، فكان فيه إمامًا ماهرًا، وأما علوم الحديث فكان يعرف الحديث الصحيح من السقيم، ويذكر رجاله، العدل فيهم والضعيف، وهو في ذلك إمامًا مبرزًا
(3)
. وكان في أكثر العلوم له فيها اليد الطولى. وصنف تصانيف كثيرة في علوم شتَّى. وكان علمه أكثر من عقله
(4)
.
(1)
. الصواب: «كثير» .
(2)
. الصواب: «أيامًا» .
(3)
. الصواب: «إمام مبرز» .
(4)
. سبق التعليق على هذه العبارة (ص 221).
وكان كثير الذكر والصوم والصلاة والعبادة، ومن ذكره كان دائمًا يقول: ياحي ياقيوم، برحمتك أستغيث، لا إله إلا أنت ياذا الجلال والإكرام، ثم يشخص إلى السماء حتى يغيب بكليته. وكان من غرائب الزمان وعجائبه.
عاش سبع وستون
(1)
سنة وثمانية أشهر وتسعة أيام، وخرج من بطن أمه يوم الاثنين وحبس الآن يوم الاثنين سادس شعبان سنة ست وعشرين وسبعمائة، فيكون مدة اعتقاله سنتين وثلاث
(2)
شهور وخمس عشرة
(3)
يومًا، وبينه وبين أخيه الشيخ شرف الدِّين عبد الله سنة وستة أشهر وأربعة أيام، لأنه توفي في الرابع عشر من جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وسبعمائة، رحمهم الله تعالى وإيانا والمسلمين أجمعين.
(شيخ الإسلام، ومفتي الأنام، حافظ وقته، ومحدث زمنه، له اليد العالية في العلوم، صالحًا زاهدًا ورعًا متقشفًا متقيًا
(4)
، قائم بالحق آمر بالمعروف، ناه عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم. [له] الفتاوى المشهورة والتصانيف المذكورة. لم يكن في وقته أحفظ منه، ولا لنقل في التفسير وأقوال العلماء فيه، ولا في الحديث واختلاف الصحابة منه، ولا في الفقه واختلاف الفقهاء منه)
(5)
.
* * * *
(1)
. الصواب: «سبعًا وستين» .
(2)
. الصواب: «وثلاثة» .
(3)
. الصواب: «وخمسة عشر» .
(4)
. الصواب: «صالح زاهد ورع متقشف متق» .
(5)
. ما بين القوسين كُتب على هامش الصفحة 128 من المخطوط.
المُقْتَفِي لتاريخ أبي شامة
(1)
تأليف: علم الدِّين القاسم بن محمد البرزالي (739)
وفي يوم السبت منتصف ربيع الآخر (سنة 699) شرع في نهب الصالحية والعيث والفساد فيه، وكسروا الأبواب وقلعوا الشبابيك وأخذوا بسط الجامع، وحصل لهم في الصالحية شيء كثير من القمح والذخائر والمطعومات والكتب، والتجأ الناس إلى دير الحنابلة من جوانب الصالحية، فاحتاط التتار به يوم الثلاثاء ثامن عشر ربيع الآخر، ودخلوا إليه ونهبوا منه وسبوا، وخرج إليهم في هذا اليوم يوم الثلاثاء شيخ المشايخ المذكور وجماعة
(2)
بين الظهر والعصر، فأدركوا وردوا عنهم وهرب التتار بين أيديهم وتوجهوا إلى قرية المزة فنهبوا وأسروا وتوجهوا إلى داريا فدخل أهلها إلى الجامع فاحتاطوا به ودخلوه ونهبوا وأسروا وقتلوا أيضًا.
وفي يوم الخميس العشرين من شهر ربيع الآخر خرج جماعة منهم الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية إلى ملك التتار وكان نازلًا بتَلّ راهط بالمرج فدخل عليه وأراد أن يشكي إليه ما وقع فلم يمكن من ذلك، وأشار الوزير سعد الدين، ومشير الدولة الرشيد بأن لا يخاطب الملك بشيء من ذلك فانه يحصل لكما، ونحن نتولى إصلاح الأمر، ولكن لابد من إرضاء المغُل فإن
(1)
. القسم الأول من الجزء الثاني من الكتاب، إعداد: يوسف إبراهيم الشيخ عيد الزاملي، رسالة دكتوراه بجامعة أم القرى 1415.
(2)
. على رأس هذه الجماعة شيخ الإسلام تقي الدِّين ابن تيمية، انظر عقد الجمان 4/ 34.
منهم جماعة لم يحصل لهم شيء إلى الآن، وعاد الشيخ تقي الدِّين ومن معه إلى البلد ليلة السبت الثاني والعشرين من شهر ربيع الآخر. (ص 55).
في يوم الخميس ثاني رجب (سنة 699) طلب الأعيان من القضاة والعلماء والرؤساء بأوراق عليها علامة الأمير سيف الدِّين قبجق إلى داره، فحضر جماعة منهم حلفوا للدولة المحمودية بالنصح وعدم المداجاة وغير ذلك، وفي يوم الخميس المذكور توجه الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية إلى مخيم بولاي بسبب الأسرى واستفكاكهم وكان معهم خلق من الأسري فأقام ثلاث ليال. (ص 84).
وفي بكيرة الجمعة المذكورة [السابع عشر من رجب سنة 699] دار الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية بدمشق على ما جدد من الخمارات فبدد الخمور وكسر الجرار وشق الظروف وعزر الخمارين هو وجماعته، ولازم الناس هذه الليالي المبيت على الأسوار وأظهروا عددًا حسنة وتحملًا وكان الشيخ تقي الدِّين وأصحابه يمشون على الناس ويقرأ الشيخ عليهم سور القتال وآيات الجهاد وأحاديث الغزو والرباط والحرس، ويحثهم على ذلك ويحرضهم. ونودي بكرة السبت الثامن عشر من رجب بالأمر بزينة البلد مع ملازمة السور فشرع الناس في الزينة. (ص 88).
واستهل شهر صفر (سنة 700) والأخبار قد وصلت بقصد التتار البلاد، والناس بدمشق مهتمون بأمر الهرب إلى الديار المصرية والكرك وغيرهما، والأراجيف تتبع بعضها بعضًا، والإزعاج وافر، والصدور ضيقة، وغلت الأكرية وبلغ كرى المَحَارَة إلى مصر خمس مائة درهم، وبلغ ثمن الجمل ألف درهم، وثمن الحِمَار خمس مائة درهم، وباع الناس الأمتعة بالثمن
البخس من الحلي والنحاس والقماش، وطاشت الألباب، وتحير الناس، وتفرقت القلوب، وجلس الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية في مكانه بالجامع يوم الاثنين ثاني صفر يفسر آيات الجهاد، ويحض الناس على لقاء العدو، وعلى الغزو والإنفاق في سبيل الله، ويوجه وجوب قتالهم ويقلل عددهم، ويضعف أمرهم، ويوبخ من قَصَد الهرب، ويحضه على إنفاق مقدار ما يخرجه في ذلك الغزو، واستمر يجلس أيامًا متوالية. (ص 122).
واستهل جمادى الأولى (سنة 700) والناس في رجفات وخوف ووجل وشدة، وأرباب المناصب قد ضاقت صدورهم وتمنوا الهرب، وأن يؤذن لهم في ذلك، والناس في خوف من عدم قدوم العسكر والسلطان، ومن لم يتحيل أولًا قام وتحيل وباع ورهن، وقاسى الناس شدة شديدة، ويقولون: أين العسكر وما هذه أحوال من نيته الحضور؟ ! وهؤلاء قد تركوا الشام وإنما يقاتلون عن ديار مصر وما شابه ذلك، وخرج الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية مستهل جمادى الأولى إلى المرج إلى المخيم فاجتمع بنائب السلطنة وسكنه وثبته، وأقام عنده إلى بكرة الأحد ثالث الشهر فودعه وساق على خيل البريد إلى الجيش المصري فما أدركهم إلا بعد دخولهم القاهرة. (ص 131).
وفي بكرة الاثنين الخامس والعشرين من جمادى الأولى وصل كتاب الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية إلى دمشق، متضمنًا أنه دخل القاهرة على البريد في سبعة أيام والثامن، وأن وصوله كان يوم الاثنين حادي عشر جمادى الأولى، وأنه اجتمع بجميع أركان الدولة، وذكر لهم حاجة المسلمين إلى الإعانة والغوث، وحصل بسببه همم علية ونودي بالغزاة وجرد جماعة وقويت العزائم ونزل بالقلعة، وفي ظهر يوم الأربعاء السابع والعشرين من
جمادى الأولى وصل الشيخ تقي الدِّين المذكور إلى دمشق على البريد بعد أن أقام بقلعة القاهرة ثمانية أيام وتكلم مع السلطان والنائب والوزير والأمراء الأكابر أهل الحل والعقد في أمر الجهاد وكسر هذا العدو المخذول وقهره والظفر به وإصلاح أمر الجند وتقوية ضعائفهم، والنظر في أرزاقهم، والعدل في ذلك، وأمرهم بإنفاق فضول أموالهم في هذا الوجه، وتلا عليهم آية الكنز، وقوله تعالى:{مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} الآيات [التوبة: 38]، وكان خروجه من ديار مصر في يوم الثلاثاء التاسع عشر من جمادى الأولى. (ص 134).
وفي جمادى الأولى (سنة 702) وقع بيد نائب السلطنة الأمير جمال الدِّين الأفرم كتاب إليه صورة نصيحة على لسان قطز من مماليك الأمير سيف الدِّين قبجق، وفيه أن الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية، والقاضي شمس الدِّين ابن الحريري يكاتبان قبجق ويختارانه لنيابة الملك ويعملان على الأمر، وأن الصدر كمال الدِّين ابن العطار والشيخ كمال الدِّين ابن الزملكاني يطالعان بأخبار الأمير وأن جماعةً من الأمراء معهم في هذه القضية، وذكروا جماعة من مماليك الأمير وخواصه، وأدخلوهم في ذلك، فلما قرأ الأمير هذا الكتاب وفهمه علم بطلانه وأسرَّه إلى بعض الكتاب وطلب التعريف بمن فعله، فاجتهد في ذلك حتى وقع الخاطر والحدس على فقير يعرف باليعفوري ممن كان نُسب قبل ذلك إلى فضول وتزوير فمُسك، فوجد معه مسوَّدة بالكتاب المذكور بعينه فضرب فأقر على شخص آخر يعرف بأحمد القباري كان أيضًا قد نسب إليه زور ودخول فيما لا يعنيه، فضرب الآخر فاعترف وعين جماعة من الأكابر أشاروا عليهما بذلك، وكان
قصدهم تشويش خاطر الأمير على خواصه والسعي في إهلاك المذكورين في الكتاب، فانجلت القضية للأمير وعرف الآمر فيها معرفة شافية وعزر الفقيرين المذكورين في مستهل جمادى الآخرة، ثم بعد التعزير أمر بتوسيطهما وتعليقهما في اليوم المذكور، وكذلك أيضًا عزر التاج ابن المناديلي الناسخ في التاريخ المذكور وقطعت يمينه وهو الذي كان كتب لهما الكتاب، وخطه معروف. (ص 191 - 192).
وأصبح الناس بدمشق يوم الأحد المذكور (25 شعبان سنة 702) في أمر كبير لقرب العدو وتأخر السلطان وجمهور الجيش، فشرعوا وتحركوا في الجفل، وذكروا أن هذا الجيش الذي قد اجتمع بالمرج ودمشق ليس لهما طاقة بلقاء هذا العدو وإنما سبيلهم أن يتأخروا عنهم مرحلة مرحلة، فاختبط البلد، فلما تعالى النهار اجتمع الأمراء بالميدان وتحالفوا على لقائهم، وشجعوا أنفسهم ونودي بالبلد أن لا يجفل أحد ولا يسافر أحد فسكن الناس وجلس القضاة بالجامع وحلَّفوا جماعة من الفقهاء والعامة على حضور الغزاة، وتوجه الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية إلى جهة العسكر الواصل من حماة فأدركه بالقطيفة
(1)
والمرج فاجتمع بهم وأعلمهم بما اتفق عليه الأمراء بدمشق فوافقوا على ذلك.
وفي يوم الأربعاء الثامن والعشرين من شعبان اختبط الناس كثيرًا وجفل جميع أهل القرى والحواضر، واعتكر الناس بأبواب البلد ودخل كثير من الناس إلى القلعة وامتلأت المنازل والطرق وحصل التنازع في ذلك
(1)
. القطيفة: قرية دون ثنية العقاب للقاصد إلى دمشق في طرف البرية من ناحية حمص، انظر ياقوت: معجم البلدان 4/ 378.
وتشوشت القلوب بسبب أن جماعة من الجيش توجهوا إلى الكسوة
(1)
وناحيتها فتكلم الناس أن هؤلاء يريدون اللحاق بالسلطان وبقية الجيش، وهذا يقتضي ترك البلد ومن فيه وراء ظهورهم وانزعج الناس لذلك، ومن الناس من ذكر أن القصد أن يختاروا موضعًا للوقعة يكون أصلح من المرج فإن فيه حفرًا ومياهًا كثيرة.
وذكروا أن التتار ظلوا بعيدًا حتى ذكروا أنه وصل منهم طائفة إلى القطيفة، ومنهم من يقول: إنهم على قارا، ونزل الجيش بأسره على الجسور قبلي دمشق فسكن الناس بين الظهر والعصر، فلما كان بعد العصر شرع الناس يتحدثون في رحيلهم من هناك، فمن الناس من يقول أنا كنت فيهم وهم ثابتون لا يتغيرون من هناك أصلًا، ومنهم من يقول قد شرع المصريون في الرحيل والشاميون يتبعونهم بلا شك واضطرب الناس، وكان الشيخ تقي الدِّين في البلد، وأما القضاة فكانوا أخرجوا مع الجيش وبات الناس ليلة الخميس، ففي أول الليل رأى الناس نيرانهم وخيمهم، وفي آخره لم يروا لهم أثرًا، فأصبح الناس بكرة الخميس وقد اشتد الأمر واضطرب البلد وغلقت الأبواب وازدحم الناس في القلعة، وهرب من قدر وخرج الشيخ تقي الدِّين بكرة إلى جهتهم ففتح له باب النصر بمشقة وحصل له لوم من الناس لكونه كان من موانع الجفل، وبقي البلد لا متولي فيه والناس رعاع، وغلا السعر حتى بيع الخبز ثلاث أوراق بدرهم وانحصر الناس فلا يجسر أحد على الخروج إلى بستانه ولا مزرعته ولا داره وخرج الشلوح واللصوص إلى البساتين يقطعون الفواكه قبل أوانها، وكذلك الزرع
(1)
. الكسوة: قرية وهي أول منزل تنزل القوافل فيه إذا خرجت من دمشق إلى مصر، انظر ياقوت: معجم البلدان (4/ 461).
والبقول وغير ذلك، والناس في حيرة، وحيل بينهم وبين خبز الجيش وانقطعت الطريق إلى الكسوة في ساعة واحدة، فيرجع هذا وهو مجروح، وآخر وهو مشلح، وظهرت الوحشة على البلد والحواضر. (ص 198 - 199).
وفي يوم الاثنين رابعه وصل الناس من الكسوة ودخل الشيخ تقي الدِّين وأصحابه بكرة النهار والناس يهنئونهم ويدعون لهم، وخرج خلق كثير من البلد إلى مكان الوقعة للفرجة والعيان والمكاسب، ووصل نائب الشام الأمير جمال الدِّين الأفرم والعسكر الشامي وتوجهوا إلى جهة المرج، ونودي أن لا يبيت بالبلد منهم أحد إلا شنق، وذكر أن ذلك للإسراع خلف المنهزمين، ونودي من أراد الغزاة فليخرج إلى
…
(1)
. (ص 202).
وفي ليلة الأحد رابع رجب (سنة 704) أُحْضِر المجاهد إبراهيم القطان صاحب الدلق الكبير إلى الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية فقص شعره المفتل وشاربه المسبل وأظفاره، وأمره بترك الصياح والفحش وأكل ما يغير العقل، وترك لبس الدلق الكبير، وأُخِذَ وفُتِقَ وكان قِطَعًا كثيرة، فيه بسط وعبي.
وفي يوم السبت سابع عشر رجب أُحْضِر الشيخ محمد الخباز البلاسي إلى الشيخ تقي الدِّين أيضًا، فتاب على يده، وأشهد عليه بترك المحرمات واجتنابها، وأنه لا يخالط أهل الذمة ولا يتكلم في تعبير الرؤيا ولا في شيء من العلوم بغير معرفة، وكتب عليه مكتوب شرعي بذلك. (ص 245).
وفي يوم الاثنين السادس والعشرين من رجب (سنة 704) حضر الشيخ
(1)
. كلمة غير واضحة بالأصل.
تقي الدِّين ابن تيمية وجماعة بمسجد النارنج جوار المصلى، وحضر معهم بعض الحجارين وقطعوا الصخرة التي كانت هناك وأزالوها واستراح الناس من زيارة شيء لا أصل له، والاعتقاد فيه بغير طريق شرعي. (ص 246).
توجه الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية إلى الجبلية الجرديين والكسراونيين وصحبته الأمير قراقوش في مستهل ذي الحجة (سنة 704) ثم توجه بعدهم إلى الجهة المذكورة الشريف زين الدِّين ابن عدنان في نصف ذي الحجة. (ص 253).
وفي يوم السبت تاسع جمادى الأولى (705) اجتمع جماعة من الأحمدية الرفاعية عند نائب السلطنة بالقصر، وحضر الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية وطلبوا أن يسلم إليهم حالهم، وأن الشيخ تقي الدِّين لا يعارضهم ولا ينكر عليهم، وأرادوا أن يظهروا شيئًا مما يفعلونه فانتدب لهم الشيخ وتكلم باتباع الشريعة وأنه لا يسع أحدًا الخروج عنها بقول ولا فعل، وذكر أن لهم حيلًا يتحيلون بها في دخول النار وإخراج الزَّبد من الحلوق، وقال لهم: من أراد دخول النار فليغسل جسده في الحمام، ثم يدلكه بالخل ثم يدخل، ولو دخل لا يلتفت إلى ذلك، بل هو نوع من فعل الدجال عندنا، وكانوا جمعًا كبيرًا، وقال الشيخ صالح شيخ المنيبع: نحن أحوالنا تنفق عند التتار ما تنفق قدام الشرع، وانفصل المجلس على أنهم يخلعون الأطواق الحديد، وعلى أن من خرج عن الكتاب والسنة ضربت رقبته، وحفظ هذه الكلمة الحاضرون من الأمراء والأكابر وأعيان الدولة، وكتب الشيخ عقيب هذه الواقعة جزءًا في حال الأحمدية ومبدئهم وأصل طريقتهم، وذكر شيخهم وما في طريقهم من الخير والشر وأوضح الأمر في ذلك. (ص 263 - 264).
وفي يوم الاثنين ثامن رجب (سنة 705) طُلب القضاة والفقهاء وطُلب الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية إلى القصر إلى مجلس نائب السلطنة، فلما اجتمعوا عنده سأل الشيخ تقي الدِّين على التعيين عن العقيدة، فأحضر الشيخ عقيدته «الواسطية» وقرئت في المجلس، وبحث فيها وبقي مواضع أخرت إلى مجلس آخر ثم اجتمعوا يوم الجمعة بعد الصلاة ثاني عشر رجب المذكور، وحضر هذا المجلس أيضًا الشيخ صفي الدِّين الهندي، وبحثوا معه وسألوه عن أشياء ليست في العقيدة، وجعلوا الشيخ صفي الدِّين يتكلم معه ثم اتفقوا على الشيخ كمال الدِّين ابن الزملكاني فحاققه وبحث معه من غير مسامحة ورضوا بذلك عن الشيخ كمال الدِّين وعظموه وأثنوا عليه وعلى بحثه وفضائله، وخرجوا من هناك والأمر قد انفصل، وانصرف الشيخ تقي الدِّين إلى منزله. والذي حمل الأمير على هذا الفعل كتاب ورد عليه من مصر في هذا المعنى، وكان السبب فيه القاضي زين الدِّين المالكي قاضي ديار مصر والشيخ نصر المنبجي، وبعد ذلك عزر بعض القضاة بدمشق لشخص ممن يلوذ بالشيخ تقي الدِّين وطلب جماعة ثم أطلقوا، ووقع هرج في البلد، وكان الأمير نائب السلطنة قد خرج للصيد وغاب نحو جمعة ثم حضر.
وفي يوم الاثنين الثاني والعشرين من رجب قرأ المحدث جمال الدِّين المزي فصلًا في الرد على الجهمية من كتاب «أفعال العباد» تصنيف البخاري، وكانت قراءته لذلك في المجلس المعقود لقراءة الصحيح تحت النسر، فغضب لذلك بعض الفقهاء الحاضرين وقالوا: نحن المقصودون بهذا، ورفعوا الأمر إلى قاضي القضاة الشافعي فطلبه ورسم بحبسه، فبلغ
ذلك الشيخ تقي الدِّين فتألم له وأخرجه من الحبس بنفسه، وخرج إلى القصر فاجتمع هو وقاضي القضاة هناك ورد الشيخ تقي الدِّين عن المزي وأثنى عليه وغضب قاضي القضاة وأعاد المزي إلى حبسه بالقوصية فبقي أيامًا، وذكر الشيخ تقي الدِّين ما وقع في غيبة الأمير في حق بعض أصحابه من الأذى فرسم الأمير فنودي في البلد أنه من تكلم في العقائد حل ماله ودمه ونهبت داره وحانوته، وقصد الأمير تسكين الناس بذلك. (ص 266).
وفي يوم الثلاثاء سابع شعبان عقد للشيخ تقي الدِّين مجلس ثالث بالقصر ورضي الجماعة بالعقيدة، وفي هذا اليوم عزل قاضي القضاة نجم الدِّين ابن صصري نفسه عن الحكم بسبب كلامه سمعه من بعض الحاضرين، وفي السادس والعشرين من شعبان ورد كتاب السلطان إلى قاضي القضاة بإعادته إلى الحكم وفيه: إنا كنا رسمنا بعقد مجلس للشيخ تقي الدِّين وقد بلغنا ما عقد له من المجالس وأنه على مذهب السلف وما قصدنا بذلك إلا برآءة ساحته. (ص 268).
وفي يوم الاثنين خامس رمضان (سنة 705) وصل كتاب السلطان بالكشف عما كان وقع للشيخ تقي الدِّين في ولاية جاغان، وفي ولاية القاضي إمام الدِّين وبإحضاره وإحضار قاضي القضاة إلى الديار المصرية، فطلب نائب السلطنة جماعة من الفقهاء وكتب ما ذكروه مما وقع في أيام جاغان.
وفي يوم الاثنين ثاني عشر رمضان توجه قاضي القضاة والشيخ تقي الدِّين على البريد ودخل الشيخ تقي الدِّين مدينة غزة يوم السبت، وعمل في جامعها مجلسًا، ووصلا معًا إلى القاهرة يوم الخميس الثاني والعشرين من رمضان، وعقد للشيخ تقي الدِّين مجلسًا بالقلعة وأراد أن يتكلم فلم يمكن
من البحث والكلام على عادته، وحبس في برج أيامًا ثم نقل إلى الجب ليلة عيد الفطر هو وأخوه.
وأكرم قاضي القضاة نجم الدِّين وجدد له توقيع وخلع عليه وسافر إلى دمشق فوصلها يوم الجمعة سادس ذي القعدة وقرئ تقليده بمقصورة الخطابة يوم الجمعة ثالث عشر ذي القعدة، وقرئ عقيبه الكتاب الذي وصل معه وفيه مخالفة الشيخ تقي الدِّين في العقيدة وإلزام الناس بذلك خصوصًا أهل مذهبه والوعيد بالعزل والحبس، وفيه أن يُنادى بذلك في البلاد الشامية، وكان قد نودي قبل صلاة الجمعة بالجامع والأسواق، ووصلت الأخبار بكثرة المتعصبين بالديار المصرية على الشيخ تقي الدِّين وأنه حصل أذى كثير للحنابلة، وحبس تقي الدِّين عبد الغني ابن الشيخ شمس الدِّين الحنبلي وألزموا جميعهم بالرجوع عن عقيدتهم في القرآن والصفات وأشار القضاة على رفيقهم قاضي القضاة شرف الدِّين الحراني الحنبلي بموافقة الجماعة، وكان قليل العلم فوافق وألزم جماعة من أهل مذهبه بذلك وأخذ خطوطهم ووقع أمر لم يجر على الحنابلة مثله، وكان ذلك بقيام الأمير ركن الدِّين الجاشنكير في القضية بسعي القاضي المالكي والقروي المالكي وجماعة من الشافعية. (ص 270).
وفي سلخ رمضان (706) أحضر الأمير سيف الدِّين سلار القضاة الثلاثة الشافعي والمالكي والحنفي ومن الفقهاء الباجي والجزري والنمراوي وتكلم في إخراج الشيخ تقي الدِّين من الحبس، فاتفقوا على أنه يشترط عليه أمور ويُلزم بالرجوع عن بعض العقيدة، فأرسلوا إليه من يحضره ليتكلموا معه في ذلك فلم يجب إلى الحضور، وتكرر الرسول إليه في ذلك
ست مرات وصمم على عدم الحضور في هذا الوقت، فطال عليهم المجلس وانصرفوا من غير شيء. (ص 297).
وفي الثامن والعشرين من ذي الحجة وصل الشيخ تاج الدِّين محمود بن عبد الكريم بن محمود الفارقي من الديار المصرية وكان توجه لأجل زيارة الشيخ تقي الدِّين والقيام في نصرته، فأقام مدة ثم رجع والأمر على حاله، وفي هذا اليوم أخبر نائب السلطنة بوصول كتاب إليه من الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية من الجب، وأُعلم بذلك جماعة ممن حضر مجلسه وأثنى عليه، وقال ما رأيت مثله ولا أشجع منه، وذكر ما هو عليه في السجن من التوجه إلى الله تعالى وأنه لا يقبل شيئًا من الكسوة السلطانية، ولا من الإدرار السلطاني، ولا تدنس بشيء من ذلك. (ص 305).
وفي يوم الخميس السابع والعشرين من ذي الحجة طلب أخوا الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية وهما شرف الدِّين عبد الله، وزين الدِّين عبد الرحمن من الحبس إلى مجلس نائب السلطنة، وحضر القاضي زين الدِّين المالكي، وجرى بينهم كلام كثير وأعيدا إلى موضعهما. (ص 306).
واجتمع قاضي القضاة بدر الدِّين بالشيخ تقي الدِّين ابن تيمية في دار الأوحدي بالقلعة بكرة الجمعة رابع عشري صفر (سنة 707) وتفرقا قبل الصلاة وطال بينهما الكلام. (ص 311).
وفي أوائل ربيع الأول وصل الأمير حسام الدِّين مهنا بن عيسى إلى دمشق وتوجه إلى القاهرة، فوصلها في تاسع عشر الشهر المذكور، وحضر بنفسه إلى السجن إلى الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية فأخرجه بعد أن استأذن في ذلك، فخرج يوم الجمعة الثالث والعشرين من الشهر إلى دار نائب السلطنة
بالقلعة، وحضر بعض الفقهاء وحصل بينهم بحث كثير، وفرقت صلاة الجمعة بينهم، ثم اجتمعوا إلى المغرب ولم ينفصل الأمر، ثم اجتمعوا بمرسوم السلطان يوم الأحد الخامس والعشرين من الشهر مجموع النهار، وحضر جماعة أكثر من الأولين، حضر نجم الدِّين ابن الرفعة، وعلاء الدِّين الباجي، وفخر الدِّين ابن بنت أبي سعد، وعز الدِّين النمراوي، وشمس الدِّين ابن عدلان، وصهر المالكي وجماعة من الفقهاء، ولم تحضر القضاة وطُلبوا واعتذر بعضهم بالمرض وبعضهم تبع أصحابه، وقبل عذرهم نائب السلطنة، ولم يكلفهم بالحضور بعد أن رسم السلطان بحضورهم، وانفصل المجلس على خير، وبات الشيخ عند نائب السلطنة، وكتب كتابًا إلى دمشق بكرة الاثنين السادس والعشرين من الشهر يتضمن خروجه، وأنه أقام بدار ابن شقير بالقاهرة، وأن الأمير سيف الدِّين سلار رسم بتأخره عن الأمير مهنا أيامًا ليرى الناس فضله ويحصل لهم الاجتماع به، ووصل مهنا إلى دمشق يوم الخميس سادس شهر ربيع الآخر، وأقام ثلاثة أيام وسافر، ثم عُقد للشيخ تقي الدِّين مجلس ثالث يوم الخميس سادس ربيع الآخر بالمدرسة الصالحية بالقاهرة. (ص 312 - 313).
وفي شوال شكا شيخ الصوفية بالقاهرة كريم الدِّين الآملي وابن عطاء وجماعة نحو الخمس مائة من الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية وكلامه في ابن عربي وغيره إلى الدولة، فردوا الأمر في ذلك إلى الحاكم الشافعي، وعُقد له مجلس وادعى عليه ابن عطاء بأشياء فلم يثبت شيء منها، لكنه اعترف أنه قال لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم استغاثة بمعنى العبادة ولكن يتوسل به، فبعض الحاضرين قال ليس في هذا شيء، ورأى قاضي القضاة بدر الدِّين أن هذه
إساءة أدب وعنفه على ذلك فحضرت رسالة إلى القاضي أن يعمل معه ما تقتضيه الشريعة في ذلك، فقال القاضي: قد قلت له ما يقال لمثله، ثم إن الدولة خيروه بين أشياء وهي الإقامة بدمشق أو الإسكندرية بشروط أو الحبس، فاختار الحبس، فدخل عليه جماعة في السفر إلى دمشق ملتزمًا ما شُرط فأجابهم فأركبوه خيل البريد ليلة الثامن عشر من شوال، ثم أرسل خلفه من الغد بريد آخر فرده، وحضر عند قاضي القضاة بحضور جماعة من الفقهاء فقال له بعضهم: ما ترضى الدولة إلا بالحبس، فقال قاضي القضاة وفيه مصلحة له واستناب شمس الدِّين التونسي المالكي وأذن له أن يحكم عليه بالحبس فامتنع، وقال: ما يثبت عليه شيء، فأذن لنور الدِّين الزواوي المالكي، فتحير، فقال الشيخ: أنا أمضي إلى الحبس وأتبع ما تقتضيه المصلحة فقال نور الدِّين المأذون له في الحكم: فيكون في موضع يصلح لمثله، فقيل له: ما ترضى الدولة إلا بمسمى الحبس، فأرسل إلى حبس القاضي وأجلس في الموضع الذي أجلس فيه القاضي تقي الدِّين ابن بنت الأعز لما حُبِس، وأذن في أن يكون عنده من يخدمه، وكان جميع ذلك بإشارة الشيخ نصر المنبجي ووجاهته في الدولة، واستمر الشيخ في الحبس يُسْتَفتى ويقصده الناس ويزورونه وتأتيه الفتاوى المشكلة من الأمراء وأعيان الناس. (ص 334 - 335).
* * * *
نموذج من قراءة شيخ الإسلام ابن تيمية على شيوخه
مستخرجة من تعليقات البرزالي لسماعاته على مشايخه سنة (680)
(1)
قال البرازلي (225 أ):
وسمعت على ابن الدرجي كتاب «البيوع» لابن أبي عاصم ــ وهو جزءان ــ بإجازته من الصيدلاني عن الحداد عن أبي نعيم عن أحمد بن بندار الشعار عنه بقراءة (تقي الدِّين ابن تيمية) من وقف الضياء بخطه، في يوم الجمعة، ثاني عشر جمادى الأولى بجامع دمشق. كتبه ابن البرزالي.
قال البرزالي (225 ب):
سمعت على ابن الدرجي كتاب «المحبين مع المحبوبين» لأبي نعيم بإجازته من الصيدلاني عن الحداد عن أبي نعيم عن احمد بن بندار الشعار عنه، بقراءة (تقي الدِّين ابن تيمية) من وقف الضياء في يوم الجمعة، خامس جمادى الأولى بجامع دمشق كتبه ابن البرزالي.
قال البرازلي (225 ب):
وسمعتُ في هذا التاريخ (السبت السابع والعشرين من جمادى الأولى) على الشيخ فخر الدِّين علي بن أحمد بن عبد الواحد جزءًا فيه «فوائد
(1)
. (ق/ 225 أ- 234 ب) وهذه القطعة تمثّل السماعات في سنة (680) ــ كما صرح به (ق 231 أ) ــ من شهر جمادى الأولى إلى شعبان فقط. والنسخة بخط البرزالي، وقد أصابتها الرطوبة من جانبها الأعلى فأتت على كثير من الكلمات. فما لم نتمكن من قراءته أو أصابته الرطوبة وضعنا مكانه نقاطًا.
محمد بن عبد الله بن عبد الحكم» بإجازته من اللبان، بإجازته من الشيروي بسماعه من أبي سعيد بن شاذان الصيرفي بسماعه من لفظ الأصم عنه، أوله:«أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم» ، وآخره:«لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وُعِك أبو بكر وبلال» ، وذلك بقراءة (تقي الدِّين ابن تيمية) من نسخته بالسميساطية
…
المسعودي بالجامع المظفّري. كتبه ابن البرزالي
قال البرزالي (226 أ):
وسمعتُ على ابنِ شيبان المجلسَ الأول من «أمالي الضبي» بسماعه من ابن طبرزد، عن الأنماطي عن ابن البغوي عنه من نسختي، بقراءة (تقي الدِّين ابن تيمية) يوم السبت السابع والعشرين من جمادى الأولى بدكانه بالصالحية. كتبه ابن البرزالي.
قال البرزالي (226 ب):
وسمعتُ على ابن شيبان جزءًا فيه أربعة مجالس من «أمالي أبي بكر الخطيب» أملاها بدمشق ــ وهو الجزء الخامس ــ بسماعه من ابن طبرزد عن أبي منصور بن خيرون عنه بقراءة (تقي الدِّين ابن تيمية) يوم السبت السابع والعشرين من جمادى الأولى، بدكانه بسفح قاسيون. كتبه ابن البرزالي.
قال البرزالي (227 أ):
وسمعتُ على ابن علّان الجزء الأول من حديث «أبي حفص الكناني» بسماعه من ابن ملاعب وإجازته من ابن الأخضر وابن صِرْما بسماعهم من الأرموي، عن جابر بن ياسين عنه بقراءة (تقي الدِّين ابن تيمية) في العشر الأوسط من جمادى الأولى بدار الحديث الأشرفية بدمشق. كتبه ابن البرزالي.
قال البرزالي (228 أ):
وسمعت على ابن علَّان الجزء الأول من «فوائد العياد» تخريج البيهقي بإجازته من منصور بن الفُرَاوي بسماعه من جدِّه عنه، بقراءة (تقي الدِّين ابن تيمية) في يوم الجمعة عاشر جمادى الآخرة، بمنزله بدرب البقسماطي بدمشق. كتبه ابن البرزالي.
قال البرزالي (228 أ):
وسمعت عليه (ابن الدرجي) في هذا التاريخ (يوم الجمعة عاشر جمادى الآخرة) والمكان (بجامع دمشق) جزءًا فيه من «عوالي أبي بكر القباب» بإجازته من أبي زرعة عبيد الله بن محمد بن اللّفْتُواني، بسماعه من أبي بكر بن أبي ذر الصالحاني بسماعه من أبي طاهر بن عبد الرحيم عنه، أوله: «لقد هبط يوم مات سعد بن معاذ
…
» وآخره: «من ظلم معاهدًا فأنا حجيجه
…
» من وقف ابن الجوهري بقراءة (تقي الدِّين ابن تيمية). كتبه ابن البرزالي.
قال البرزالي (231 أ):
وسمعت عليه (شمس الدِّين ابن علان) جزءًا فيه «فضائل رجب» لعبد العزيز الكناني، بإجازته من الخشوعي، بسماعه من جمال الإسلام، بسماعه منه، بقراءة (تقي الدِّين ابن تيمية) في يوم الجمعة منتصف شهر رجب بمنزله بدرب البقسماطي بدمشق. كتبه ابن البرزالي.
وقال:
وسمعته عليه بالقراءة والتاريخ والمكان أربعة أحاديث من جزء من
«حديث أبي مسلم الكاتب» ، بإجازته من القاسم بن عساكر، بإجازته من أبي سهل محمد بن إبراهيم بن سعدون الأصبهاني، بسماعه من أبي الفضل عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن الرزاي بسماعه منه، من نسختي، وهي بخط ابن الجوزي. كتبه ابن البرزالي.
وقال البرزالي (231 ب):
وسمعتُ على الشيخ الإمام
…
«القناعة» لأبي بكر بن السني بسماعه من ابن رواحه، وإجازته من ابن الصيقل، بسماعه من
…
أحمد بن موسى بن مردويه، بسماعه من أبي القاسم علي بن عمر بن إسحاق الهمذاني عنه من نسخة وقف ابن ..... بقراءة (الإمام تقي الدِّين ابن تيمية) في يوم الأحد سابع عشر رجب بجامع دمشق. كتبه ابن البرزالي.
وقال البرزالي (231 ب):
وسمعت على ست العرب بنت يحيى بن قايماز الكندية بقراءة (تقي الدِّين ابن تيمية) جزءًا فيه «نسخة خالد بن مرداس السراج» بسماعها من ..... بسماعه من أبي الفتح عبد الله بن محمد بن البيضاوي، عن ابن النقور، عن ابن الجرَّاح الوزير، عن البغوي عنه من نسختي في عشيَّة السبت الثالث والعشرين من رجب بمنزلها بدمشق. كتبه ابن البرزالي.
وقال البرزالي (231 ب):
وسمعتُ عليه (الخطيب بدر الدِّين بن عبد اللطيف بن محمد بن محمد ابن المغيرك خطيب حماة) بقراءة (تقي الدِّين ابن تيميّة) جزءًا فيه
«بغية المرتاد للحديث العالي الصحيح الإسناد» من
…
من «مسند الشافعي» عن ابن ..... عن أبي زُرْعة، وصح ذلك من نسختي يوم الجمعة التاسع والعشرين من رجب بالمدرسة التقوية
(1)
بدمشق. كتبه ابن البرزالي.
وقال البرزالي (231 ب):
وسمعتُ على ست العرب الكندية المجلس الثالث من «أمالي القاضي أبي يعلى بن الفراء» ، بحضورها على الكندي، بسماعه من القاضي أبي بكر الأنصاري وعنه، بقراءة (تقي الدِّين ابن تيمية) في عشية السبت، الثالث والعشرين من رجب بمنزلها بدمشق. كتبه ابن البرزالي.
وقال البرزالي (231 ب):
وسمعت على الشيخ تقي الدِّين ابن مزيز وولده تاج الدِّين أحمد «الأربعين البلدانية» لابن عساكر، بسماع الأول وإجازة الثاني من أبي المظفَّر عبد المنعم بن محمد بن محمد بن حمزة بن أبي المضاء، بسماعه منه.
وبسماع الأول من النفيس محمد بن الحسين بن رواحة، بإجازته منه، بقراءة (تقي الدِّين ابن تيمية) في مجلسين، يوم السبت ويوم الأحد سابع عشر رجب المبارك على المسلمين بجامع دمشق.
وقال (231 ب):
وسمعتُ على الشيخ جمال الدِّين أحمد بن أبي بكر بن سليمان بن الحموي «جزءَ طالوت بن عباد الصيرفي» بسماعه من ابن مندويه عن نصر
(1)
. انظر «الدارس» : 1/ 216. و «خِطط دمشق»: ص/ 112.
البَرْمكي عن ابن النقور عن ابن حبان عن البغوي عنه، بقراءة (تقي الدِّين ابن تيمية) في يوم الجمعة التاسع والعشرين من رجب بجامع دمشق.
وقال (232 أ):
[وسمعت على الشيخ أبي إسحاق] إبراهيم بن إسماعيل بن الدرجي، ونجم الدِّين أبي المعالي عبد العالي بن عبد الملك بن عبد الكافي الربعي كتاب «السنن» عن الإمام الشافعي رضي الله عنه رواية محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عنه، وفيه شيء من روايته عن غيره .... وصح بقراءة (تقي الدِّين ابن تيمية) يوم الجمعة غرة رجب بجامع دمشق.
وقال (234 أ):
وسمعت على الشيخ رشيد الدِّين محمد بن أبي بكر بن محمد بن سليمان العامري كتاب «الأمثال والاستشهادات» لأبي عبد الرحمن السلمي بسماعه من ابن الحرستاني بإجازته من المشايخ الثلاثة: أبي الأسعد، وعبد الرزاق حافِدَيْ أبي القاسم القشيري، وأبي الخير جامع بن أبي نصر بن أبي إسحاق الصوفي بسماعهم من أبي سعيد محمد بن عبد العزيز الصفّار عنه، وذلك بقراءة (الإمام تقي الدِّين ابن تيمية)، من نسخة ابن سونج في يوم الأحد ثاني شعبان بالمدرسة المجاهدية
(1)
بدمشق.
ثم سمعت كتاب «الأمثال والاستشهاد» للسلمي المذكور مرة أخرى في يوم الخميس سادس شعبان بالمدرسة المذكورة على الشيخ كمال الدِّين
(1)
. انظر: «خِطط دمشق» : ص/ 159 - 162 للعُلَبي.
عبد الرحمن بن أحمد بن عباس العاقوسي بحضوره على ابن الحرستاني في الثالثة، بسنده أعلاه، بقراءة (تقي الدِّين ابن تيمية) من نسخة ابن سونج
(1)
.
وقال أيضًا:
وسمعت على كمال الدِّين عبد الرحمن بن أحمد بن عباس العاقوسي جزءًا فيه «منتخب من الجزء الرابع من معجم أبي سعيد بن الأعرابي» بسماعه من أبي نصر محمد بن عبد الله بن الشيرازي بسماعه من الضياء بن أبي الحسين هبة الله بن الحسن بن عساكر بإجازته من الخِلَعي عن ابن النحاس عنه من نسختي وفيه أربعة عشر حديثًا، وذلك بقراءة (تقي الدِّين ابن تيمية) يوم الاثنين ثالث شعبان.
وسمعتُ عليه بالقراءة والتاريخ مجلسًا من «أمالي
…
الثلاثة» وآخره على الأرض، بسماعه من ابن الحرستاني بإجازته في الثانية
…
وعبد المنعم القشيري بن أبي بكر السقافي، والموفق بن سعيد، وأبي بكر السبعي، وأبي نصر الحرضي، ومسعود السجزي بسماعهم من أبي بكر الصيرفي عنه، وذلك بالمدرسة المجاهدية بدمشق.
وقال (234 ب):
وسمعتُ على أم الخير ست العرب بنت يحيى بن قايماز الكندية جميع «المئة المنتقاة» من الجزء الأول والثاني من حديث قتيبة، وهي موافقات سوى الخمسة الأخيرة منها فإنها أبدال، بإجازتها من أبي روح عن الفضيلي عن مُحَلِّم عن الخليل السجزي عن السَّرَّاج عنه بقراءة (تقي الدِّين ابن تيمية)
(1)
. في الأصل: من نسخة ولابن سونج.
يوم الثلاثاء رابع شعبان بمنزلها بدمشق.
(وقبل هذا):
وسمعت على ابن الدرجي أربعة أحاديث من عوالي .....
(1)
في يوم الجمعة الحادي والعشرين من شعبان
…
بقراءة (تقي الدِّين ابن تيمية).
* * * *
(1)
. تآكلت الورقة.
كَنْز الدُّرر وجامِعُ الغُرَر
(1)
لأبي بكر بن عبد الله بن أيْبَك الدَّوادَاري (بعد 736)
ذكر ما جرى لدمشق من الأحوال الناكدة
ولمّا تحقّق الأمر عند أهل دمشق اشتدَّ خوفهم وكثرت الأراجيف واختلفت الأقوال. فمنهم من قال: إنّ غازان مسلم، وإنّ غالب جيوشه كذلك، وإنَّهم لم يتبعوا المسلمين من المنهزمين، وبعد انفصال الوقعة لم يقتلوا أحدًا. وكثرت الأقاويل في ذلك. فلمّا كان يوم السبت رابع اليوم من الوقعة وقعت صيحة عظيمة بالبلد، وخرجت النساء مهتّكات لمّا بلغهم أنّ التتار دخلوا البلد. ولم يكن لذلك ضجّة، وانفرجت في ساعةٍ، لكن بعدما مات في ذلك اليوم على أبواب دمشق جماعة نحو عشرين نفر، منهم شخص يسمّى النجم المحدِّث البغداديّ. وذلك لعظم الازدحام بالأبواب. وكان ليلة السبت قد خرج من البلد جماعة من أعيان الناس وكبار البلد وهم قاضي القضاة إمام الدين، والقاضي جمال الدِّين المالكيّ، وتاج الدِّين بن الشيرازيّ، ووالي البلد ووالي البرّ والمحتسب مع جماعةٍ كبيرةٍ من بياض الناس، وتوجّهوا إلى الديار المصريّة. وفي ليلة الخميس، أحرقوا المحابيس، باب سجن باب الصغير، وخرجوا منه في عِدّة مايتي وخمسين نفر، وتوجّهوا إلى باب الجابية وكسروا الأقفال وفتحوا الباب وخرجوا. وأصبح الناس يوم الأحد لا يدرون ما هم فيه، ولا ماذا يفعلون.
(1)
. (9/ 18 - 349) نشر قسم الدراسات الإسلامية بالمعهد الألماني للآثار بالقاهرة، 1379، تحقيق هانس رُوبرت رويمر.
واجتمع الناس في ذلك اليوم في مشهد عليّ، وتشاوروا في أمر الخروج إلى غازان. فكان ممّن اجتمع ذلك اليوم مَن يُذكر وهم: القاضي بدر الدِّين ابن جماعة، والشيخ زين الدِّين الفارقيّ، والشيخ تقيّ الدِّين ابن التيميّة، وقاضي القضاة نجم الدِّين بن صصري، والصاحب فخر الدِّين بن الشيرجيّ، والقاضي عزّ الدِّين بن الزكيّ، والشيخ وجيه الدِّين بن منجَّى، والصدر عزّ الدِّين بن القلانسيّ، وأمين الدِّين بن شقير الحرّانيّ، والشريف زين الدِّين بن عدنان، والشيخ نجم الدِّين [بن] أبي الطيّب، وناصر الدِّين عبد السلام، والصاحب شهاب الدِّين بن الحنفي، والقاضي شمس الدِّين ابن الحريري، والشيخ الصالح شمس الدِّين قوام النابلسي، وجماعة كبيرة من القراء والفقهاء والعدول، وأجمعوا رأيهم على الخروج إلى غازان. فلما كان نهار الاثنين صلوا صلاة الظهر وتوجهوا إلى الله عز وجل وخرجوا ليتقنوا أمر صلاح البلد. (9/ 18 - 19).
ثم إن التتار طلعوا إلى جبل الصالحية، وفعلوا فيه من الأفعال القبيحة ما يطول شرحه مما تقشعر لهول سماعه الأبدان. فخرج الشيخ تقي الدِّين ابن التيمية إلى عند شيخ الشيوخ وصحبته جماعة من أهل البلد، وشكوا إليه الحال. فخرج إليهم في يوم الثلاثاء وسط النهار. فلما بلغ التتار الذين كانوا بجبل الصالحية مجي شيخ الشيوخ هربوا بعد أن أخربوا جميع مساكنه ونهبوا ساير أمواله وسبوا حريم أهله وأولادهم وبناتهم، وجرت عليهم أمور عظام لا يطاق سماعها، أضربت عن ذكر جميع ذلك. (9/ 28).
وحكى الشيخ علم الدِّين البرزالي، قال: اجتمعتُ يوم الخميس الخامس والعشرين من الشهر بالشيخ تقي الدِّين ابن التيمية، فذكر أنه اجتمع
ببهاء الدِّين قطلوشاه، وذكر له أنه من عظم جنكزخان، ولحية قطلوشاه أجرود ولا شعرةَ بوجهه أصلًا، وأنه كان له في ذلك العهد من العمر اثنتين وخمسين سنة، وأنه ذكر له أن الله عز وجل ختم الرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن جنكزخان جده كان مسلمًا، وكل من خرج من ذريته مسلمين، ومن خرج من طاعته فهو خارجي، وذكر أيضًا اجتماعه بالملك غازان، والوزير سعد الدين، ورشيد الدولة الوزير المتطبب، وكذلك بالشريف قطب الدِّين ناظر الخزانة، والكاتب صدر الدين، والنجيب الكحال اليهودي، وشيخ الشيوخ نظام الدِّين محمود، وأصيل الدِّين بن النصير الطوسي ناظر الأوقاف، وهؤلاء كانوا أعيان دولة الملك غازان، وذكر أيضًا أنه رأى عند قطلوشاه صاحب سيس الملعون، وهو أشقر أزرق كث اللحية ومعه طايفة من الأرمن عليهم الذلة والمسكنة. وكان سفر قطلوشاه ظهر يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من الشهر. وكان سبب اجتماع الشيخ تقي الدِّين بهؤلاء الأسرا، وقال: إنهم يكتبون في جميع فرامينهم بقوة الله وبميثاق الملة المحمدية! وذكر أنه اجتمع بشخص منهم فيه دين وسكون وصلاة حسنة، فسأله: ما السبب في خروجك وقتالك المسلمين وأنت كما أرى منك؟ فقال: أفتانا شيخنا بتخريب الشأم وأخذ أموالهم، لأنهم لا يصلون إلا بالأجرة، ولا يؤذنون إلا لذلك، ولا يتفقهون إلا بمثل ذلك. (9/ 32 - 33).
وفي العشر الأخير من الشهر المذكور
(1)
نزل أيضًا جماعة من القلعة وقتلوا جماعة من التتار وحصلت خبطة عظيمة، ومسك جماعة من الذين كانوا ينسبون إلى المشي مع التتار، وجبيت أيضًا جباية أخرى لبوليه مقدم التتار.
(1)
. جمادى الآخرة، سنة (699).
ودخل الخطيب بدر الدِّين بن جماعة والشيخ ابن التيمية إلى القلعة ومشوا في الصلح بين أرجواش ونواب التتار. فلم يوافق أرجواش ' على ذلك، ولم يزل الأمر كذلك إلى مستهل شهر رجب الفرد.
وفي الثاني من الشهر طلب قبجق أعيان البلد وحلفهم للدولة المحمودية بالنصح وعدم المداجاة.
وفي يوم الخميس توجه الشيخ تقي الدِّين ابن التيمية إلى مخيم بولاي مقدم التتار يسأل في المأسورين، وكانوا خلقًا كثيرًا. وتحدث بولاي في أمر يزيد بن معاوية مع الشيخ، وسأله: هل يجوز لعنته أم لا؟ ففهم الشيخ أن فيه موالاة، فكلمه بما لاق بخاطره بغير شيء يكره. فقال: هؤلاء أهل دمشق هم قتلة الحسين بن علي صلوات الله عليه. فقال له الشيخ: إنه لم يكن من أهل دمشق من حضر قتلة الحسين عليه السلام، وقتل عليه السلام بأرض كربلا من العراق. فقال: صحيح، وكانوا بنو أمية خلفاء الدنيا، وكانوا يحبون سكنى الشام. فقال الشيخ: وماذا يلزم من ذلك في قتلة الحسين، وهذه الشام ما برحت أرضًا مباركة ومحل الأولياء والصلحاء بعد الأنبياء صلوات الله عليهم. ولم يزل به حتى سكن غضبه على أهل الشأم. ثم ذكر للشيخ أن أصله مسلم من أهل خراسان. وجرى بينه وبين الشيخ كلام كثير. (9/ 35 - 36).
ذكر واقعة الشيخ تقي الدِّين ابن التيمية '
وذلك لما كان يوم الاثنين ثامن شهر رجب الفرد من هذه السنة المذكورة، طُلب القضاة والفقهاء والشيخ تقي الدِّين ابن التيمية إلى مجلس الأمير جمال الدِّين الأفرم نايب الشام المحروس بدمشق، وكان اجتماعهم بالقصر الأبلق. ثم سألوا الشيخ تقي الدِّين ابن التيمية عن عقيدته.
فأملى
شيئًا منها. ثم أحضر عقيدته «الواسطية» وقرئت في المجلس المذكور، وبحث فيها وتأخر منها مواضع إلى مجلس آخر. ثم اجتمعوا يوم الجمعة ثامن عشر الشهر المذكور. وحضر المجلس أيضًا صفي الدِّين الهندي. وبحثوا مع الشيخ تقي الدِّين وسألوه عن مواضع خارجًا عن العقيدة. وجعل الشيخ صفي الدِّين يتكلم معه كلامًا كثيرًا. ثم إنهم رجعوا عنه واتفقوا أن كمال الدِّين بن الزملكاني يحاققه من غير مسامحة، ورضوا بذلك الجميع. وانفصل الأمر بينهم أنه أشهد على نفسه الحاضرين أنه شافعي المذهب، يعتقد ما يعتقده الإمام الشافعي رضي الله عنه، ورضوا منه بهذا القول، وانصرفوا على ذلك.
فعند ذلك حصل من أصحاب الشيخ تقي الدِّين كلام كثير وقالوا: ظهر الحق مع شيخنا، فأحضروا واحدًا منهم إلى عند القاضي جلال الدِّين الشافعي في العادلية، فصفعه وأمر بتعزيره، فشفعوا فيه. وكذلك فعل الحنفي بآخر وآخر من أصحاب الشيخ تقي الدين.
ثم لما كان يوم الاثنين ثاني وعشرين الشهر قرأ الجمال المِزِّيُّ المُحَدِّث فصلًا في الرد على الجهمية من كتاب «أفعال العباد» تصنيف البخاري رضي الله عنه، قرأ ذلك في مجلس العام تحت النسر. فغضب بعض الفقهاء الحاضرين وقالوا: ما قرئ هذا الفصل إلا ونحن المقصودون بهذا التكفير، قال: فحملوه إلى قاضي القضاة الشافعي، فرسم بحبسه. فبلغ الشيخ تقي الدِّين ذلك، فقام حافيًا في جماعة من أصحابه، وأخرج المذكور من الاعتقال. فعند ذلك اجتمع القاضي بملك الأمراء، وكذلك الشيخ تقي الدِّين والنقباء عند ملك الأمراء، واشتط تقي الدِّين على القاضي، وذكر نايبه جلال الدِّين وأنه آذى أصحابه
بسبب غيبة نايب السلطان في الصيد. فلما حضر نايب السلطان رسم بطلب كل من أكثر كلامه من الطايفتين، وأمر باعتقالهم، ونودي في البلد بمرسوم سلطاني: من تكلم في العقائد حل ماله ودمه ونهب داره وهتكت عياله. وقصد نايب السلطان بذلك إخماد الفتنة الثايرة.
ثم لما كان سلخ شهر رجب اجتمع القضاة والفقهاء وعقدوا مجلسًا بالميدان بحضور ملك الأمراء وبحثوا في العقيدة. فجرى من الشيخ صدر الدِّين بن الوكيل كلام في معنى الحروف وغيره. فأنكر عليه كمال الدِّين ابن الزملكاني القول في ذلك. ثم قال للقاضي نجم الدِّين بن صصري قاضي القضاة: أما سمعت ما قال؟ فكأن نجم الدِّين تغافل عن ذلك طلبًا لإخماد الشر. فقال كمال الدِّين بن الزملكاني: ما جرى على الشافعية قليل كون أن تكون رئيسها، إشارة على ما كان ادعاه صدر الدِّين بن الوكيل. فظن القاضي نجم الدِّين أن الكلام له، فقال: اشهدوا على أنني قد عزلت نفسي! وقام من المجلس فلحقه الحاجب الأمير ركن الدِّين بيبرس العلائي وعلاء الدِّين أيدغدي بن شقير وأعادوه إلى المجلس. وجرى كلام كثير بعد ذلك يطول شرحه. ثم إن ملك الأمراء ولاه الحكم، وحكم القاضي الحنفي بذلك وصحة الولاية، وأنفذها المالكي وقبل الولاية بحضور ملك الأمراء. فلما عاد إلى داره لاموه أصحابه. وخشى على نفسه ورأى أن الولاية لا تصح، فعاد طلع إلى تربته بسفح قاسيون، فأقام بها وصمم على العزل.
فلما كان بعد ثلاثة أيام رسم ملك الأمراء لنوابه بالمباشرة إلى حيث يرد جواب مولانا السلطان. فأما نايبه جلال الدِّين فإنه باشر الحكم، وأما تاج الدِّين فامتنع.
فلما كان ثامن عشرين شهر شعبان المكرم وصل البريد من الأبواب العالية أعلاها الله تعالى وعلى يده كتابين، كتاب لملك الأمراء وكتاب للقاضي نجم الدِّين بعودته إلى الحكم العزيز. ومضمون الكتاب في فصل منه يقول: قد فرحنا باجتماع رأي العلماء عقيدة الشيخ تقي الدين. فباشر القاضي نجم الدِّين يوم الخميس مستهل شهر رمضان المعظم، وسكنت الفتنة.
فلما كان خامس رمضان، وصل من الأبواب العالية بريد، وهو الأمير حسام الدِّين لاجين العمري يطلب القاضي نجم الدِّين بن صصري والشيخ تقي الدِّين بن التيمية وكمال الدِّين بن الزملكاني. وفي المرسوم الوارد يقول: وتعرفونا ما كان وقع في زمان جاغان في سنة ثمان وتسعين وست ماية بسبب عقيدة ابن التيمية ــ وفيه إنكار عظيم عليه ــ وأن تكتبوا صورة العقيدتين: الأولة والثانية. ــ فعند ذلك طلبوا القاضي جلال الدِّين الحنفي وسألوه عما جرى في أيامه. فقال: نقل إلي عنه كلام، وسألناه فأجاب عنه. وكذلك القاضي جلال الدِّين الشافعي لما طلب أحضر نسخة العقيدة التي كانت أحضرت في زمان أخيه. ثم إنهم تحدثوا مع ملك الأمراء في أن يكاتب بسببهم ويسد هذا الباب، فأجاب إلى ذلك.
فلما كان يوم السبت عاشر رمضان المعظم وصل مملوك ملك الأمراء على البريد المنصور، وأخبر أن الطلب على الشيخ تقي الدِّين حثيث، وأن القاضي زين الدِّين بن مخلوف المالكي قد قام في هذا الأمر قيامًا عظيمًا، وأن الأمير ركن الدِّين بيبرس الجاشنكير معه في هذا الأمر، وأخبر بأشياء كثيرة جرت مما وقع بمصر في حق الحنابلة، وأن بعضهم أُهِين، وأن القاضي
المالكي والحنبلي جرى بينهما كلام كثير. فلما سمع الأمراء ذلك رجع عن المكاتبة بسببهم وأمر بتجهيزهم إلى الأبواب العالية وتوجهوا. فلما كان يوم الجمعة سابع شهر شوال وصل البريد، وأخبر أن كان وصول القاضي نجم الدِّين والشيخ تقي الدِّين إلى الديار المصرية يوم الخميس ثاني وعشرين رمضان المعظم من هذه السنة المذكورة. (9/ 133 - 136).
ذكر ما جرى للشيخ تقي الدِّين بمصر المحروسة
وذلك أنه لما وصل في ذلك التأريخ المذكور، عقد له مجلس في دار النيابة بحضور الأمير سيف الدِّين سلَّار، وأحضروا العلماء والأئمة القضاة الأربعة، وحضر الأمير ركن الدِّين بيبرس. فتكلم القاضي شرف الدِّين بن عدلان الشافعي، وادعى على الشيخ تقي الدِّين دعوى شرعية في أمر عقيدته. فعند ذلك قام الشيخ تقي الدِّين وحمد الله تعالى وأثنى عليه وتلجلج
(1)
. ثم أراد أن يذكر الله ويذكر عقيدته في فصل طويل. فقالوا له: يا شيخ، الذي بتقوله معلوم، ولا حاجة إلى الإطالة، وأنت قد ادعى عليك هذا القاضي بدعوى شرعية، أجيب عنها! فأعاد القول في التحميد وحاد عن الجواب، فلم يمكن في تتمة تحاميده. فقال: عند من هي هذه الدعوى؟ فقالوا: عند القاضي زين الدِّين المالكي، فقال: عدوي وعدو مذهبي، فكرروا عليه القول مرارًا، ولم يزدهم على ذلك شيئًا وطال الأمر. فعند ذلك حكم القاضي المالكي باعتقاله على رد الجواب. فقتال الشيخ:{رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33] فأقاموه من المجلس واعتقل، وسجن أيضًا
(1)
هذه من مفاريد المؤلِّف! وإلا فجميع التراجم لا تذكر إلا ثباتَه وقوَّته.
إخوته في برج من أبراج القلعة.
فبلغ القاضي أن جماعة من الأمراء يترددون إليه وينقلون له المآكل الطيبة. فطلع القاضي واجتمع بالأمير ركن الدِّين في قضيته وقال: هذا يجب عليه التضييق إذا لم يقتل، وإلا فقد ثبت كفره. فنقلوه هو وإخوته ليلة عيد الفطر إلى الجب بالقلعة.
وكان بعد قيام ابن التيمية من المجلس قد تكلم قاضي القضاة بدر الدِّين ابن جماعة ' في مسائل القرآن العظيم وشيء من عقيدة الإمام الشافعي رضي الله عنه. فقيل لقاضي القضاة الحنفي: ما تقول؟ قال: كذا أعتقد. فقيل لقاضي القضاة شرف الدِّين الحنبلي: ما تقول؟ فتلجلج، فقال له الشيخ شمس الدِّين القروي المالكي: قم، جدد إسلامك! وإلا لحقوك بابن التيمية وأنا أحبك وأنصحك، فخجل. فلقنه القاضي بدر الدِّين بن جماعة القول، فقال مثل قوله، وانفصل الحال.
ثم كتب إلى دمشق كتاب يتضمن أن مولانا السلطان ــ خلد الله ملكه ــ قد رسم: أي من اعتقد عقيدة ابن التيمية حل ماله ودمه. وبعد صلاة الجمعة حضروا القضاة جميعهم بمقصورة الخطابة بجامع دمشق ومعهم الأمير ركن الدِّين بيبرس العلائي أمير حاجب الشام يوم ذاك. وجمعوا جميع الحنابلة، وأحضر تقليد قاضي القضاة نجم الدِّين بن صصري باستمراره على القضاء وقضاء العسكر ونظر الأوقاف مع زيادة المعلوم، وقرأه زين الدِّين أبو بكر. وقرئ عقيبه نسخة الكتاب الذي وصل فيما يتعلق بمخالفة عقيدة الشيخ تقي الدِّين ابن التيمية وإلزام الناس بذلك، خصوصًا الحنابلة. فكان ما هذا نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي تنزه عن الشبيه والنظير، وتعالى عن المثيل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ} [الشورى: 11].
نحمده على أن ألهمنا العمل بالسنة والكتاب، ورفع في أيامنا أسباب الشك والارتياب.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من يرجو بإخلاصه حسن العقبى والمصير.
ونُنزِّه الخالق عن التحيير في جهة لقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4].
ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي نهج سبل النجاة لمن سلك طريق مرضاته، وأمر بالتفكر في آلاء الله ونهى عن التفكر في ذاته.
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين علا بهم منار الإيمان وارتفع، وشيد الله بهم قواعد الدِّين الحنيفي ما شرع، فأخمد بهم كلمة من حاد عن الحق ومال إلى البدع.
وبعد: فإن العقائد الشرعية، وقواعد الإسلام المرعية، وأركان الإسلام العلية، ومذاهب الدِّين المضية، هي الأساس الذي يبنى الإيمان عليه، والمؤمل الذي يرجع كل أحد إليه، والطريق التي من سلكها:{فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71]، ومن زاغ عنها فقد استوجب عذابًا أليمًا. فلهذا يجب أن تنفذ أحكامها ويؤكد زمامها، وتصان عقائد هذه الأمة عن
الاختلاف، وتزان قواعد الأمة بالائتلاف، وتخمد ثوائر البدع، ويفرق من قوتها ما جمع.
وكان التقي ابن التيمية في هذه المدة قد سلط لسان قلمه، ومد عنان كلمه، وتحدث في مسائل الذات والصفات، ونص في كلامه على أمور منكرات، وتكلم فيما سكت عنه الصحابة والتابعون، وفاه بما يخفيه السلف الصالحون، وأتى في ذلك بما أنكره أئمة الإسلام، وانعقد على خلافه اجتماع العلماء والحكام، وشهر من فتاويه في البلاد ما استخف به عقول العوام، فخالف في ذلك علماء عصره، وأئمة شأمه ومصره، وبعث رسائله إلى كل مكان، وسمى فتاويه أسماء:{مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [يوسف: 40].
ولما اتصل بنا ذلك، وما سلكوه ومريدوه من هذه المسالك، وأظهروه من هذه الأحوال وأشاعوه، وعلمنا أنه:{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف: 54] حتى اتصل بنا أنهم صرحوا في حق الله بالحرف والصوت والتجسيم، قمنا في الله تعالى مستعظمين لهذا النبإ العظيم. فأنكرنا هذه البدعة، وأنفنا أن نسمع عن من تضمه ممالكنا هذه السمعة. وكرهنا ما فاه به المبطلون، وتلونا قوله:{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 159] فإنه جل جلاله تنزه عن العديل والنظير {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103].
وتقدمت مراسمنا باستدعاء التقي ابن التيمية المذكور إلى أبوابنا عندما شاعت فتاويه شامًا ومصرًا، وصرح فيها بألفاظ ما سمعها ذو فهم إلا وتلا:{لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف: 74].
ولما وصل إلينا، تجمع أولوا الحل والعقد، وذوو التحقيق والنقد، وحضر قضاة الإسلام، وحكام الأنام، وعلماء الدين، وفقهاء المسلمين، وعقد له مجلس شرع، في ملأ من الأئمة والجمع، فثبت عند ذلك عليه، جميع ما نُسِبَ إليه، بمقتضى خط يده، الدال على معتقده، وانفصل ذلك الجمع، وهم لعقيدته منكرون، وآخذوه بما شهد به قلمه عليه:{سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19].
وبلغنا أنه كان قد استتيب فيما تقدم، وأخره الشرع الشريف لما تعرض إلى ذلك وأقدم. ثم عاد بعد ردعه ومنعه، ولم تدخل تلك النواهي في سمعه.
فلما ثبت ذلك في مجلس الحكم العزيز المالكي، حكم الشرع الشريف بأن يسجن هذا المذكور، ويمنع من التصرف والظهور.
ومرسومنا هذا يأمر بأن لا يسلك أحد ما سلكه المذكور من هذه المسالك، وينهى عن التشبه به في اعتقاد مثل ذلك، أو يغدو له في هذا القول متبعًا، أو لهذه الألفاظ مستمعًا، أو يسري في التجسيم مسراه، أو أن يفوه بجهة للعلو، مخصصًا أحدًا كما فاه، أو يتحدث إنسان في صوت أو حرف، أو يوسع القول في ذات أو وصف، أو يطلق لسانه بتجسيم، أو يحيد عن طريق الحق المستقيم، أو يخرج عن رأي الأمة، أو ينفرد عن علماء الأئمة، أو يحيز الله تعالى في جهة، أو يتعرض إلى حيث وكيف، فليس لمن يعتقد هذا المجموع عندنا غير السيف.
فليقف كل أحد عند هذا الحد، فـ {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} ، فليزم كل من الحنابلة بالرجوع عما أنكره الأئمة من هذه العقيدة، والخروج من هذه المشتبهات الشديدة، ولزوم ما أمر الله به من التمسك بمذاهب أهل
الإيمان الحميدة، فإنه من خرج عن أمر الله تعالى فقد ضل سواء السبيل وليس له منا غير السجن الطويل من مقيل.
ومتى أصروا على الامتناع، وأبوا إلا الدفاع، فليس لهم عندنا حكم ولا قضاء ولا إمامة، ولا نسنح لهم في بلادنا بشهادة ولا منصب ولا إقامة، ونأمر بإسقاطهم من مراتبهم، وإخراجهم من مناصبهم. وقد حذرنا وأعذرنا، وأنصفنا حيث أنذرنا.
فليقرأ مرسومنا هذا على المنابر، ليكون أعظم زاجر وأعدل ناه وآمر. وليبلغ للغائب الحاضر.
والخط الشريف أعلاه، حجة بمقتضاه.
وكتب هذا المرسوم عدة نسخ، ونفذ إلى سائر الممالك الإسلامية. وتولى قراءة هذا المرسوم الوارد بدمشق القاضي شمس الدِّين محمد بن شهاب الدِّين محمود الموقع، وبلغ عنه ابن صبيح المؤذن. وأحضروا الحنابلة بعد ذلك، واعترفوا عند قاضي القضاة جمال الدِّين المالكي بأنهم جميعهم يعتقدون ما يعتقده الإمام محمد ابن إدريس الشافعي رضي الله عنه، وهو قوله: آمنت بالله وما جاء عن الله عن من آمن بالله، وآمنت برسول الله وما جاء عن رسول الله عن مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم. (9/ 137 - 143).
ذكر السبب الموجب لهذه الفتن المذكورة
وذلك أن بعض أصحاب الشيخ تقي الدِّين ابن التيمية أحضر للشيخ كتابًا من تصانيف الشيخ محي الدِّين ابن العربي يسمى «فصوص الحكم» وذلك في سنة ثلاث وسبع مئة. فطالعه الشيخ تقي الدين، فرأى فيه مسائل تخالف اعتقاده. فشرع في لعنة ابن العربي وسبَّ أصحابه الذين يعتقدون
اعتقاده. ثم اعتكف الشيخ تقي الدِّين في شهر رمضان وصنف نقيضه وسماه «النصوص على الفصوص» وبين فيه الخطأ الذي ذكره ابن العربي. وبلغه أن شيخ الشيوخ كريم الدِّين شيخ خانقاه سعيد السعداء بالقاهرة المحروسة له اشتغال بمصنفات ابن العربي، وأنه يعظمه تعظيمًا كبيرًا وكذلك الشيخ نصر المنبجي. ثم إن الشيخ تقي الدِّين صنف كتابين فيهما إنكار كثير على تأليف ابن العربي، ولعنه فيهما مصرحًا ولعن من يقول بقوله، وسير الكتاب الواحد للشيخ نصر المنبجي والآخر للشيخ كريم الدين. فلما وقف عليه الشيخ نصر حصل عنده من ذلك أمر عظيم، وتألم له تألمًا بالغًا وحصل له إنكار شديد.
وكان الشيخ نصر كما قد تقدم من الكلام منزلته عند الأمير ركن الدِّين بيبرس الجاشنكير العالية. وأن بيبرس لايقوم ويقعد إلا به في سائر حركاته. وكان سائر الحكام من القضاة والأمراء وأرباب المناصب يترددون إلى عند الشيخ نصر لأجل منزلته عند بيبرس الجاشنكير. فحضر عنده القاضي زين الدِّين بن مخلوف المالكي عقيب وقوف الشيخ نصر على كتاب الشيخ تقي الدين، فأوقف القاضي على الكتاب المذكور. فقال له القاضي: أوقف الأمير ركن الدِّين عليه وقَرِّرْ معه ما أحببت، وأنا معك كيف شئت. وألزم الأمير ركن الدِّين بطلبه إلى الديار المصرية وتسأله عن عقيدته. فقد بلغني أنه أفسد عقول جماعة كبيرة، وهو يقول بالتجسيم، وعندنا من اعتقد هذا الاعتقاد كفر ووجب قتله. فلما حضر الأمير ركن الدِّين بيبرس الجاشنكير عند الشيخ نصر على عادته، أجرى له ذكر ابن التيمية وأمر عقيدته، وأنه أفسد عقول جماعة كبيرة، ومن جملتهم نائب الشام وأكبر الأمراء الشاميين، والمصلحة تقتضي طلبه إلى الأبواب العالية ويطلب منه عقيدته، وتقرأ على
العلماء بالديار المصرية من المذاهب الأربعة، فإن وافقوه وإلا يستتيبوه ويرجعوه ليرجع عن مذهبه واعتقاده سائر من لعب بعقله من الناس أجمعين. ثم ذكر له ذنوبًا أخر حتى حَرَّضَ بيبرس على طلبه.
ثم بعد ذلك جرت فتن للحنابلة بمدينة بلبيس. ثم انتقل الحال إلى القاهرة، وحصل لبعض الحنابلة إهانة واعْتُقِلَ منهم جماعة. وجرت فتن عظيمة بين الأشاعرة والحنابلة بالشام، وكان النائب غائبًا بالصيد. فلما حضر أمر بإصلاح ذات البين، وأقر كل طائفة على حالها. وجرى في القاهرة أيضًا على الحنابلة أمور شنيعة، وألزموهم بالرجوع عن العقيدة وأن يقولوا: إن القرآن العظيم هو المعنى القائم بالنفس، وإن ما في الصحف عبارة عنه، وإن ما هو في الصحف موجود ومحفوظ في الصدور ومقروء بالألسنة مخلوق، وإن القديم هو القائم بالنفس، وألزموا بنفي مسألة العلو والتصريح بذلك، وأن جميع ما ورد من أحاديث الصفات لا يجري على ظاهرها بوجه من الوجوه. وجرى عليهم كل مكروه. وكان القاضي شرف الدِّين الحنبلي قليل البضاعة في العلم، ولم يدري ما يجيب به، وكان أكبر من تحدث فيهم وألزمهم بذلك القاضي زين الدِّين المالكي رحمه الله، انتصارًا للشيخ نصر في ذلك الوقت. وكان القاضي زين الدِّين عالمًا جيدًا وفقيهًا حسنًا رضي الله عنه، يتحدث في المذاهب الأربعة. وكذلك ساعدوه جماعة من الشافعية. فكان هذا سبب أصول الفتن المذكورة، وسيأتي ذكر بقية ما جرى لتقي الدِّين ابن التيمية في سنة ست وسبع مائة إن شاء الله تعالى. (9/ 143 - 145).
ذكر سنة ست وسبع مائة
وفيها في آخر يوم من شهر رمضان المعظم، أحضر الأمير سيف الدِّين
سلّار، الموالي القضاة الثلاثة الشافعي والمالكي والحنفي، ومن الفقهاء الباجي والجزري والنمراوي، وتكلم معهم في إخراج الشيخ تقي الدِّين ابن التيمية، فاتفقوا على أن يُشْتَرط عليه أمور ويلزم بالرجوع عن العقيدة. فأرسلوا إليه من يحضره ليتكلموا معه في ذلك. فلم يجب إلى الحضور، وتكرر إليه الرسول ست دفعات، وهو مصمم على عدم الحضور، وطال عليهم المجلس، فانصرفوا على غير شيء. (9/ 146).
وفيها
(1)
في العشر الأول من شهر ربيع الأول، وصل الأمير حسام الدِّين مهنا بن الأمير شرف الدِّين عيسى بن مهنا إلى الأبواب العالية، واجتمع بالمقام الأعظم السلطاني، وحصل له من الإقبال والإنعام شيء كثير. وخاطب مولانا السلطان في أمر الشيخ تقي الدِّين ابن التيمية، فأنعم مولانا السلطان به بإطلاقه. فتوجه إليه الأمير حسام الدِّين مهنا بنفسه إلى السجن، وأخرجه يوم الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الأول، وأحضر إلى دار النيابة بحضرة الأمير سيف الدِّين سلار وأحضر له بعض الفقهاء، وحصل بينهم كلام كثير وبحث زايد يضيق هذا المجموع عن بعضه، وقربت صلاة الجمعة فافترقوا. ثم اجتمعوا وبحثوا إلى المغرب ولم ينفصل لهم أمر. ثم اجتمعوا يوم الأحد الخامس والعشرين من الشهر، وحضروا جماعة فقهاء أخر، وحضر الشيخ نجم الدِّين بن رفعة، وعلاء الدِّين الباجي، وفخر الدِّين بن أبي سعد، وشمس الدِّين الخطيب الجزري، وعز الدِّين النمراوي، وشمس الدِّين عدلان، وصهر المالكي، وجماعة أخر في تعدادهم طول كثير. ولم تحضر الموالي القضاة، وطلبوهم فاعتذروا. وقبل عذرهم نائب
(1)
سنة سبعٍ وسبع مئة.
السلطان، ولم يكلفهم إلى الحضور. وتباحثوا ذلك اليوم في مجلس الأمير سيف الدِّين سلار، وانفصل المجلس على خير. وبات الشيخ تقي الدِّين عند نائب السلطان، وكتب بيده كتابًا إلى دمشق مضمنًا خروجه من السجن. وأقام بعد ذلك بدار ابن شقير بالقاهرة. ورسم نائب السلطان بتأخيره عن التوجه مع مهنا لمصلحة في ذلك.
وفي يوم الجمعة رابع عشر ربيع الآخر، عقد له مجلس آخر بالمدرسة الصالحية بعد الصلاة. وكان مهنا قد سافر، وبحثوا معه. ووقع الاتفاق على تغيير الألفاظ في العقيدة، وانفصل المجلس على خير. واستقر بعد ذلك بالقاهرة، والناس يجتمعون به ويهرعون إليه، ولم يزل كذلك إلى أن سافر في سنة اثنتي عشرة وسبع مائة. واستقر إلى أن توفي رحمه الله تعالى في تأريخ ما يأتي ذكره. (9/ 150 - 151).
وفيها
(1)
توفي الشيخ تقي الدِّين ابن التيمية، رحمه الله تعالى. (9/ 349).
* * * *
(1)
سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مئة.
رسالة من عبد الله بن حامد أحد علماء الشافعية إلى أبي عبد الله [ابن رُشَيِّق] في الثناء على شيخ الإسلام
(1)
الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
من أصغر العباد عبد الله بن حامد إلى الشيخ الإمام العالم العامل، وقدوة الأفاضل والأماثل، مجمّل المجالس والمحافل، المحامي عن دين الله، والذَّابّ عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعتصم بحبل الله، الشيخ المبجل المكرم أبي عبد الله، أسبغ الله عليه نعمه، وأيَّد بإصابة الصواب لسانه وقلمه، وجمع له بين السعادتين، ورفع درجته في الدارين بمنِّه ورحمته.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أمَّا بعد، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ثم وافاني كتابك وأنا إليك بالأشواق، ولم أّزل مسائلًا ومستخبرًا الصادرَ والوارد عن الأنباء، طاب مسموعها، وسرَّ ما يسرّ منها.
(1)
هي ملحقة بـ «العقود الدرية» : (ص 502 - 507)، ونشرها د/ محمد رشاد سالم في مقدمة «درء التعارض»:(1/ 40 - 43)، وضمنها العلامة الآلوسي كتابه «غاية الأماني» (1/ 387 - 389). ومنها نسخة خطية في مكتبة كوبريلي برقم 1142/ 6 (ق 188 ب- 190 أ). والمكتوب إليه «أبو عبد الله» هو ابن رشيق لا ابن عبد الهادي، فقد طُلِب منه إنفاذ فهرس مؤلفات الشيخ وبعض كتبه، وابن رشيق هو المعروف بذلك. والرسالة ليست ضمن «العقود» بل ملحقة به، فالكتاب ينتهي بصفحة 497، وما بعدها ملحق به من قبل بعض القراء أو النساخ. وانظر «نوادر المخطوطات العربية في مكتبات تركيا»:(1/ 48)، ففيه ذكر رسالة ابن رشيق في الردّ عليها، وهذا يُرجح ما ذكرنا.
وما تأخر كتابي عند هذه المدّة مللًا ولا خللًا بالمودّة، ولا تهاونًا بحقوق الإخاء، حاشا لله أنْ يشوب الأُخوّةَ في الله جفاء، ولا أزال أتعلل بعد وفاة الشيخ الإمام ــ إمام الدنيا رضي الله عنه ــ بالاسترواح إلى أخبار تلامذته وإخوانه وأقاربه وعشيرته والخصيصين به، لما في نفسي من المحبة الضرورية التي لا يدفعها شيءٌ، على الخصوص لمَّا اطلعت على مباحثه واستدلالاته التي تُزلزِل أركان المبطلين، ولا يثبت في ميادينها سفسطة المتفلسفين، ولا يقف في حلباتها أقدام المبتدعين من المتكلِّمين.
وكنت قبل وقوفي على مباحث إمام الدنيا رحمه الله قد طالعت مصنفات المتقدمين، ووقفت على مقالات المتأخرين من أهل الفلسفة ونُظَّار أهل الإسلام؛ فرأيت فيها الزخارف والأباطيل والشكوك التي يأنف المسلم الضعيف في الإسلام أن تخطر بباله، فضلًا عن القوي في الدين؛ فكان يتعب قلبي ويحزنني ما يصير إليه الأعاظم من المقالات السخيفة والآراء الضعيفة، التي لا يعتقد جوازَها آحادُ الأمة، وكنت أفتش على السنة المحضة في مصنفات المتكلمين من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله على الخصوص، لاشتهارهم بالتمسك بمنصوصات إمامهم في أُصول العقائد فلا أجد عندهم ما يكفي، وكنت أراهم يتناقضون إذ يؤصِّلون أُصولًا يلزم فيها ضد ما يعتقدون، أو يعتقدون خلاف مقتضى أدلتهم، فإذا جمعتُ بين أقاويل المعتزلة والأشعرية، وحنابلة بغداد وكرَّامية خراسان أرى أن إجماع هؤلاء المتكلمين في المسألة الواحدة على ما يخالف الدليل العقلي والنقلي، فيسوؤني ذلك، وأظل أحزن حزنًا لا يعلم كنهه إلا الله، حتّى قاسيت من مكابدة هذه الأُمور شيئًا عظيمًا لا أستطيع شرح أيسره، وكنت ألتجئ إلى الله سبحانه وتعالى وأتضرّع إليه، وأهرب إلى ظواهر النصوص، وألقى
المعقولات المتباينة، والتأويلات المصنوعة فتنبو الفطرة عن قبولها، ثم قد تشبثت فطرتي بالحق الصَّريح في أمهات المسائل، غير متجاسرة على التصريح بالمجاهرة قولًا وتصميمًا للعقد عليه، حيث لا أراه مأثورًا عن الأئمة وقدماء السَّلف، إلى أن قدَّر الله سبحانه، وقوع مصنّف
(1)
الشيخ الإمام ــ إمام الدنيا ' ــ في يدي، قبيل واقعته الأخيرة بقليل، فوجدت فيه ما بهرني من موافقة فطرتي لما فيه، وعزو الحقّ إلى أئمة السنة وسلف الأُمة، مع مطابقة المعقول والمنقول! فبهت لذلك سرورًا بالحقّ، وفرحًا بوجود الضَّالّة التي ليس لفقدها عوض، فصارت محبة هذا الرجل رحمه الله محبة ضروريّة، تقصر عن شرح أقلّها العبارات ولو أطنبت، ولما عزمت على المهاجرة إلى لقيه، وصلني خبر اعتقاله، وأصابني لذلك المقيم المقعِد.
ولما حججت سنة ثمان وعشرين وسبعمائة صممت العزم على السفر إلى دمشق لأتوصل إلى ملاقاته، ببذل مهما أمكن من النفس والمال للتفريج عنه، فوافاني خبر وفاته ــ رحمه الله تعالى ــ مع الرجوع إلى العراقِ، قبيل وصولي الكوفة، وجدت عليه ما لا يجده الأخ على شقيقه ــ وأستغفر الله ــ بل ولا الوالد الثّاكِل على ولده، وما دخل في قلبي من الحزن لموت أحدٍ من الولد والأقارب والإخوان كما وجدته عليه ــ رحمه الله تعالى ــ ولا تخيلته قط في نفسي ولا تمثلته في قلبي؛ إلا ويتجدد لي حزن قديمُه كأنه محدث، ووالله ما كتبتها إلا وأدمعي تتساقط عند ذكره أسفًا على فراقه وعدم ملاقاته، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(1)
لعلَّه يقصد «درء تعارض العقل والنقل» ..
وما شرحت هذه النبذة من محبة الشيخ ــ رحمة الله تعالى عليه ــ إلا ليتحقق بعدي عن الملل
(1)
الموهوم، لكن لما سبق الوعد الكريم منكم بإنفاذ فهرست مصنفات الشيخ رضي الله عنه وتأخر ذلك عني، اعتقدت أن الإضراب عن ذلك نوع تقيّة، أو لعذر لا يسعني السؤال عنه، فسكتّ عن الطلب خشية أن يلحق أحدًا ضرر ــ والعياذ بالله ــ بسببي، لما كان قد اشتهر من تلك الأحوال، فإن أنعمتم بشيءٍ من مصنفات الشيخ ــ رحمه الله تعالى ــ كانت لكم الحسنة عند الله تعالى علينا بذلك، فما أشبه كلام هذا الرجل بالتِّبر الخالص المصفى! وقد يقع في كلام غيره من الغش، والشبه المدلس بالتبر ما لا يخفى على طالب الحقّ بحرص وعدم هوى، ولا أزال أتعجّب من المنتسبين إلى حبّ الإنصاف في البحث، المُزْرِين على أهل التقليد؟ المعقولات التي يزعمون أن مستندَهم الأعظمَ الصريحُ منها، كيف يباينون ما أوضحه من الحق وكشف عن قِناعه؟ وقد كان الواجب على الطلبة شدّ الرحال إليه من الآفاق ليرو العجب، وما أشبه حال المباينين له من المنتسبين إلى العلم، الطالبين للحقّ الصريح الذي أعياهم وجدانه بحال قوم ذبحهم العطش والظمأ في بعض المفازات، فحين أشرفوا على التلف لمع لهم شطّ كالفرات أو دجلة أو كالنيل، فعند معاينتهم لذلك اعتقدوه سرابًا لا شرابًا، فولّوا عنه مدبرين، وتقطّعت أعناقهم عطشًا وظمأً! ! فالحكم لله العلي الكبير، وأما إرسال الكتب للمقابلة من إحدى الطرفين ففيه تعسُّف!
(2)
(1)
كذا في نسخة، وفي العقود:«الملك» . ولعلها: «المَلَق» يعني: أنه لا يقصد التملُّق لأحدٍ من أصحاب الشيخ.
(2)
كان في الأصول: «وما أرسلنا الكتب المقابلة من الطرفين» ، وفي العبارة غموض. وبالإصلاح الجديد زال غموضها.
وتمهدون العذر في الإطناب.
فهذا الذي ذكرته في حالي مع الشيخ كالقطرة من بحر، وإن أنعمتم بالسلام على أصحاب الشيخ وأقاربه ــ كبيرهم وصغيرهم ــ كان ذلك مضافًا إلى سابق إنعامكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأنتم في أمان الله ورعايته، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا.
* * * *
لقْطة العَجْلانِ في مُخْتَصَرِ وَفَيَاتِ الأعْيَانِ
(1)
للعلّامة عبد الباقي بن عبد المجيد اليماني (743)
الحافظ تقي الدِّين ابن تيمية، أبو العبّاس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيميّة الحرّاني الدِّمشقي.
شيخ العلوم الإسلامية، وأساس القواعد الدينيَّة، وابن بجدة الأحاديث النَّبويّة، جَمَع من المعقول والمنقول، وردَّ على فلاسفة الحكماء فيما يتعلّق بالمعقول، إذا تكلَّم في مسألةٍ فحدِّث عن البحر ولا حرج، وإذا استمرَّ في معنًى من المعاني لا يكاد سامعه يقول عنه خَرْج، مع فصاحة لسانٍ، وبلاغةٍ ملكت أزِمَّة التِّبيان.
وأمَّا الزّهد في الدّنيا، ورفض زخرفها، فإليه الغاية، وعنده يوجد في هذا الشَّأن النهاية، أجْمَعَ من شاهد معارفه، وتحقّق عوارفه: أنّه نسيج وحده، وفريد وقته في علمه ومجده.
كان له اطلاع على مذاهب الإسلام، وإتقان لمسالك الحلال والحرام، ودراية بالتَّوراة والإنجيل.
وعلى الجملة؛ لم يسمح الزمن له بمثيل، تقصر العبارة عن ذكر صفاته على التَّفصيل، فلذلك جاء لسان العلم بها مسرودَة على طريق الإجمال، ولو شُرع في تفاصيلها لأوْقِرَ منه الأحمال فالأحمال.
ما زال يَسْبِقُ حتَّى قال حاسِدُهُ
…
له طريقٌ إلى العلياءِ مُخْتصرُ
(1)
نسخة الخزانة العامة بالرباط برقم (627/ ق)[ق 106 ب- 107 أ].
خصَّه الله مع هذه المزايا بكرمٍ يستقلّ الدّنيا لوافده ويستنزرُ الكبريت الأحمر لقاصده، مع أمرٍ بالمعروف، وإغاثة للملهوف، واتِّباعٍ لسنن الصَّحابة، واقتفاءٍ لآثار أُولي الإنابة، ما ورث العلم عن كلالة، بل بيتُه لأهِلَّة العلوم هالة.
ونقل الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذَّهبي الدِّمشقي أنَّ مصنَّفاته تُنِيْفُ على خمس مئة مجلَّد.
ولد سنة ستين
(1)
وست مئة بحرَّان، وتوفي سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بدمشق بقلعتها، لأمور جرت بينه وبين علماء عصره وعُقدت له مجالس فيما يتعلَّق بمسائل عديدة أُصولية وفروعيَّة، واستقرّ آخر الأمر على أن يُبنى له في القلعة مكان ويُمنع منه من أراد الوصول إليه، وأقبل بعد ذلك على التَّصنيف والإكثار منه، يُقال: إنَّه وضع تفسيرًا مطوَّلًا أتى فيه بالغريب والعجيب.
ولقد سبقه من قبله الإمام أبو محمد علي بن حزم فيما اتفق له حذو القذَّة بالقذَّة، عفا الله عن الجميع، وغفر لهم، إنَّه وليُّ الإجابة.
* * * *
(1)
الصواب: إحدى وستين.
مختصر طَبَقَاتِ عُلَمَاءِ الحَدِيث
(1)
للعلّامة محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي (744)
ابن تَيْمِيَّة
شيخُنا الإمام الرَّبَّاني، إمام الأئمة، ومُفتي الأُمة، وبحرُ العلوم، سَيِّد الحُفَّاظ، وفارس المعاني والألفاظ، فريدُ العَصْر، وقريع الدَّهر، شيخ الإسلام، قُدْوة الأنام، عَلَّامة الزَّمان، وتَرْجُمان القرآن، عَلَمُ الزُّهَّاد، وأوْحد العُبَّاد، قامعُ المبتدعين، وآخر المُجْتهدين، الشَّيخ تقي الدين؛ أبو العَبَّاس، أحمد بن الشَّيخ الإمام شهاب الدِّين أبي المحاسن عبد الحليم بن الشَّيخ الإمام شيخ الإسلام مجد الدِّين أبي البركات عبد السلام بن أبي محمد عبد الله بن أبي القاسم الخَضِر بن [محمَّد بن الخضر] بن عليّ بن عبد الله الحَرَّاني؛ نزيل دمشق، وصاحب التَّصانيف الَّتي لم يُسْبق إلى مثلها.
قيل: إنَّ جَدَّه محمد بن الخَضِر حَجَّ ــ وله امرأة حامل ــ على درب تَيْماء، فرأى هناك جاريةً طِفْلة قد خرجت من خِبَاءٍ، فلما رجع إلى حَرَّان وجد امرأته قد ولدت بنتًا، فلما رآها قال: يا تَيْمِيَّة، يا تَيْمِيَّة، فلُقِّب بذلك.
وقال ابنُ النَّجَّار: ذُكر لنا أنَّ محمَّدًا هذا كانت أمّه تسمى تَيْمِيَّة، وكانت واعظة، فنسب إليها، وعُرِفَ بها.
ولد شيخنا بِحَرَّان يوم الاثنين عاشر ــ وقيل ثاني عشر ــ ربيع الأوَّل سنة إحدى وستين وست مئة.
(1)
(4/ 279 - 296) نشر مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية 1417. وانظر:«العنوان الصحيح للكتاب» (ص 92) في الكلام على عنوان الكتاب.
وقدم مع والده وأهله إلى دمشق وهو صغير، وكانوا قد خرجوا من حَرَّان مُهَاجِرين بسنن جَوْر التَّتار، فساروا بالليل ومعهم الكتب على عجلة لعدم الدَّواب؛ فكاد العدو يلحقهم، ووقفتِ العجلة، فابتهلوا إلى الله واستغاثوا به فنجوا وسَلِموا، وقدموا دمشق في أثناء سنة سبع وستين فسمعوا من الشيخ زين الدِّين أحمد بن عبد الدائم بن نعمة المقدسي جُزْءَ ابنِ عرفة، وغير ذلك.
ثمَّ سمع شيخنا الكثير من: ابن أبي اليُسْر، والكمال بن عبد، والشَّيخ شمس الدِّين الحَنْبَلي، والقاضي شمس الدِّين بن عطاء الحَنفِي، والشَّيخ جمال الدِّين بن الصَّيْرفي، ومجد الدِّين بن عَسَاكر، والنَّجيب المِقْداد، وابن أبي الخير، وابن علان، وأبي بكر الهَرَوي، والكمال عبد الرحيم، وفخر الدِّين بن البُخَاري، وابن شَيْبَان، والشرف بن القَوَّاس، وزينب بنت مكي، وخَلْق كثير.
وشيوخه الَّذين سمع منهم أزيد من مئتي شيخ.
وسمع «مسند الإمام أحمد» مَرَّات، و «معجم الطَّبَراني الكبير» ، والكتب الكبار، والأجزاء، وعني بالحديث، وقرأ بنفسه الكثير، ولازم السماع مدة سنين، وقرأ «الغيلانيات» في مجلس، ونسخ وانتقى، كَتَبَ الطِّباق والأثبات، وتعلَّم الخَطَّ والحساب في المكتب، واشتغل بالعلوم، وحَفِظ القُرْآن، وأقبل على الفِقْه، وقرأ أيامًا في العربية على ابن عبد القوي
(1)
ثمَّ فهمها، وأخذ يتأمل «كتاب سيبويه» حتَّى فهِمَه، وبرع في النَّحْو، وأقبل على التفسير إقبالًا
(1)
هو محمد بن عبد القوي بن بدران أبو عبد الله المقدسي (ت 699).
كليًّا حتَّى حاز فيه قصب السَّبْق، وأحكم أُصول الفقه، وغير ذلك، هذا كلُّه وهو بَعْدُ ابن بضع عشرة سنة، فانبهر الفُضَلاء من فَرْط ذكائه، وسيلان ذهنه، وقوة حافظته، وسرعة إدراكه.
نشأ في تصوُّنٍ تام، وعفاف وتألُّهٍ، واقتصاد في المَلْبَس والمأكل، ولم يزل على ذلك خلفًا صالحًا سلفيًّا، بَرًّا بوالديه، تقيًّا، ورعًا، عابدًا ناسكًا، صَوَّامًا قَوَّامًا، ذاكرًا لله تعالى في كل أمر وعلى كل حال، رجَّاعًا إلى الله تعالى في سائر الأحوال والقضايا، وقَّافًا عند حدود الله تعالى وأوامره ونواهيه، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، لا تكاد نَفْسُه تشبع من العِلْم، ولا تَرْوى من المطالعة، ولا تَمَلُّ من الاشتغال، ولا تَكِلُّ من البحث، وقلَّ أن يَدْخُلَ في علم من العلوم، في باب من أبوابه إلَّا ويُفتح له من ذلك الباب أبواب، ويستدرك أشياء في ذلك العلم على حُذَّاق أهله.
وكان يحضر المدارس والمحافل في صِغَرِه، فيتكلَّم ويناظر، ويُفْحِمُ الكبار، ويأتي بما يتحيَّر منه أعيانُ البلد في العِلْم، وأفتى وله نحو سبع عشرة سنة، وشَرَع في الجمع والتأليف من ذلك الوقت.
ومات والده ــ وكان من كبار الحنابلة وأئمتهم ــ فدرَّس بعده بوظائفه؛ وله إحدى وعشرون سنة، واشْتَهر أمره، وبَعُدَ صيته في العالم، وأخذ في تفسير الكتاب العزيز أيام الجُمَع على كرسي من حِفْظه، فكان يورد ما يقوله من غير توقُّفٍ ولا تلعثم، وكذا كان يورد الدَّرْس بتُؤَدَةٍ وصوتٍ جَهْوَري فصيح.
وحَجَّ سنة إحدى وتسعين
(1)
وله ثلاثون سنة، ورجع وقد انتهت إليه
(1)
كذا هنا، وفي «البداية والنهاية» و «المقفى»: سنة اثنتين وتسعين.
الإمامة في العِلْم، والعمل، والزُّهْد، والورع، والشجاعة، والكرم، والتَّواضع، والحِلْم، والأناة، والجلالة، والمهابة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مع الصِّدْق والأمانة والعفَّة والصِّيانة، وحُسْن القَصْد والإخلاص، والابتهال إلى الله، وشِدَّة الخوف منه، ودوام المراقبة له، والتمسُّك بالأثر، والدُّعاء إلى الله، وحُسْن الأخلاق، ونفع الخلق والإحسان إليهم.
وكان رحمه الله سيفًا مسلولًا على المخالفين، وشجًى في حُلُوق أهل الأهواء والمبتدعين، وإمامًا قائمًا ببيان الحَقِّ ونُصْرة الدِّين، طَنَّت بذكره الأمصار، وضَنَّت بمثله الأعصار.
وقال شيخنا الحافظ أبو الحَجَّاج: ما رأيتُ مِثْلَه، ولا رأى هو مِثْلَ نَفْسِه، وما رأيت أحدًا أعلم بكتاب الله وسُنَّة رسوله، ولا أتبع لهما منه.
وقال العَلّامة كمال الدِّين بن الزَّمْلَكاني: كان إذا سُئل عن فنٍ من العِلْم ظَنَّ الرَّائي والسَّامع أنَّه لا يعرف غيرَ ذلك الفن، وحَكَمَ أن أحدًا لا يعرفه مِثْله، وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا في مذاهبهم منه ما لم يكونوا عرفوه قبل ذلك، ولا يُعرف أّنَّه ناظر أحدًا فانقطع معه، ولا تكلَّم في عِلْم من العلوم ــ سواء كان من علوم الشرع أو غيرها ــ إلَّا فاق فيه أهلَه والمنسوبين إليه، وكانت له اليد الطُّولى في حُسْن التصنيف، وجودة العبارة، والترتيب والتقسيم والتبيين، ووقعت مسألة فرعية في قسمةٍ جرى فيها اختلافٌ بين المُفتين في العَصْر؛ فكتب فيها مجلَّدة كبيرة، وكذلك وقعت مسألة في حدٍّ من الحدود؛ فكتب فيها أيضًا مُجَلَّدة كبيرة، ولم يخرجْ في كلِّ واحدةٍ عن المسألة، ولا طوَّلَ بتخليط الكلام والدخول في شيءٍ والخروج من شيءٍ، وأتى في كل واحدةٍ بما لم يكن يجري في الأوهام والخواطر،
واجتمعت فيه شروطُ الاجتهاد على وجهها.
وقرأت بخطِّ الشَّيخ كمال الدِّين أيضًا على كتاب «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» لشيخنا: تأليف الشَّيخ الإمام العالم، العلَّامة الأوْحد، الحافظ المُجْتهد، الزَّاهد العابد، القُدْوة، إمام الأئمة، قُدْوة الأُمة، علامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد علماء الدِّين، بركة الإسلام، حُجَّة الأعلام، بُرْهان المتكلمين، قامع المبتدعين، محيي السُّنَّة، ومَنْ عَظُمَتْ به لله علينا المِنَّة، وقامت به على أعدائه الحُجَّة، واستبانت ببركته وهديه المَحَجَّة، تقي الدِّين أبي العَبَّاس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام ابن تيميَّة الحَرَّاني، أعلى الله مناره، وشَيَّد به من الدِّين أركانه.
ماذا يقولُ الواصفونَ له
…
وصِفاته جلَّتْ عن الحَصْرِ
هو حُجّةٌ لله قاهِرَةٌ
…
هُو بيننا أُعجوبةُ الدَّهْرِ
هو آيةٌ في الخَلْقِ ظاهِرَةٌ
…
أنْوارها أرْبَتْ على الفَجْر
وهذا الثَّناء عليه وكان عمره نحو الثَّلاثين سنة، وقد أثنى عليه خَلْقٌ من شيوخه، ومن كبار علماء عَصْره كالشيخ شمس الدِّين ابن أبي عمر، والشيخ تاج الدِّين الفَزَاري، وابن مُنَجَّى، وابن عبد القوي، والقاضي الخُوَيِّي، وابن دقيق العيد، وابن النَّحَّاس، وغيرهم.
وقال الشَّيخ عماد الدِّين الواسطي ــ وكان من الصلحاء العارفين ــ وقد ذكره: هو شيخنا السيِّد الإمام، الأُمة الهمام، محيي السُّنَّة، وقامع البِدْعة، ناصر الحديث، مُفْتي الفِرَق، الفاتق عن الحقائق ومؤصّلها بالأُصول الشرعية للطالب الذائق، الجامع بين الظَّاهر والباطن، فهو يقضي بالحق ظاهرًا وقلبه في العُلَى قاطن، أُنموذج الخلفاء الرَّاشدين، والأئمة المهديين،
الشَّيخ الإمام تقي الدِّين أبو العَبَّاس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام ابن تيميَّة أعاد الله بركته، ورفع إلى مدارج العُلى درجتَه.
ثمَّ قال في أثناء كلامه: واللهِ ثمَّ واللهِ ثمَّ واللهِ لم أرَ تحت أديم السَّماء مِثْلَه عِلْمًا وعملًا وحالًا وخُلُقًا وكرمًا وحِلْمًا في حقِّ نَفْسه، وقيامًا في حَقِّ الله عند انتهاك حرماته.
ثمَّ أطال في الثناء عليه.
وقال الشَّيخ عَلَم الدين
(1)
في «معجم شيوخه» : أحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيميَّة الحَرَّاني الشَّيخ تقي الدِّين أبو العَبَّاس، الإمام المُجْمَع على فَضْله ونُبْله ودينه، قرأ الفِقْه وبَرَعَ فيه، والعربية والأُصول، ومَهَرَ في عِلْمَي التفسير والحديث، وكان إمامًا لا يلحق غُبَاره في كلِّ شيء، وبَلَغ رُتْبة الاجتهاد، واجتمعت فيه شروط المجتهدين. وكان إذا ذكر التفسير أبهت النَّاس من كثرة محفوظه، وحُسْن إيراده، وإعطائه كلَّ قولٍ ما يستحقُّه من التَّرْجيح والتَّضْعيف والإبطال، وخَوْضه في كل عِلْم، كَانَ الحاضرون يقضون منه العَجَب، هذا مع انقطاعه إلى الزُّهد والعِبادة، والاشتغال بالله تعالى، والتجرُّد من أسباب الدُّنيا، ودعاء الخلق إلى الله تعالى، وكان يجلس في صبيحة كلِّ جُمُعة على النَّاس يفسِّر القُرْآن العظيم، فانتفع بمجلسه وبركة دعائه، وطهارة أنفاسه، وصِدْق نيته، وصفاء ظاهره وباطنه، وموافقة قوله لعمله، وأناب إلى الله خَلْقٌ كثير، وجَرَى على طريقة واحدة من اختيار الفقر، والتقلُّل من الدُّنيا، وردِّ ما يفتح به عليه.
(1)
البرزالي.
وقال علم الدِّين في موضع آخر: رأيتُ في إجازة لابن الشَّهْرَزُوري المَوْصِلي خَطَّ الشَّيخ تقي الدِّين، وقد كَتَبَ تحته الشَّيخُ شمس الدِّين الذَّهَبيّ: هذا خَطُّ شيخنا الإمام، شيخ الإسلام، فَرْد الزَّمان، بحر العلوم، تقيِّ الدين. مولده عاشر ربيع الأوَّل سنة إحدى وستين وست مئة، وقرأ القُرْآن والفِقْه، وناظر واستدلَّ وهو دون البلوغ، وبَرَعَ في العلم والتفسير، وأفتى ودرَّس وله نحو العشرين، وصنَّف التَّصانيف، وصار من أكابر العلماء في حياة شيوخه، وله المُصَنَّفات الكبار الَّتي سارت بها الركبان، ولعلَّ تصانيفَه في هذا الوقت تكون أربعة آلاف كُرَّاس وأكثر، وفَسَّر كتاب الله تعالى مدة سنين من صَدْره أيام الجُمَع، وكان يتوقَّد ذكاءً، وسماعاتُه من الحديث كثيرة، وشيوخه أكثر من مئتي شيخ، ومعرفته بالتفسير إليها المُنْتَهى، وحِفْظُه للحديث ورجاله وصِحَّته وسُقمِه فما يُلْحق فيه، وأما نَقْلُه للفِقه ومذاهب الصَّحابة والتابعين ــ فضلًا عن المذاهب الأربعة ــ فليس له فيه نظير، وأما معرفته بالملل والنِّحَل والأصول والكلام فلا أعلم له فيه نظيرًا، ويدري جُمْلَةً صالحة من اللُّغة، وعربيته قويةٌ جِدًّا، ومعرفته بالتَّاريخ والسِّيَر فَعَجَبٌ عجيب، وأما شجاعتُه وجهادُه وإقدامه فأمر يتجاوز الوصفَ ويفوق النَّعتَ، وهو أحد الأجواد الأسخياء الَّذين يُضْرب بهم المَثَل، وفيه زُهْد وقَنَاعةٌ باليسير في المأكل والمَلْبَس.
وقال الذَّهَبيّ في موضع آخر: كَانَ آيةً في الذكاء وسُرْعة الإدراك، رأسًا في مَعْرفة الكتاب والسُّنَّة والاختلاف، بحرًا في النَّقليات، هو في زمانه فريد عَصْره عِلْمًا وزُهْدًا وشجاعةً وسخاءً، وأمرًا بالمعروف، ونهيًا عن المنكر، وكثرة تصانيف.
إلى أن قال: فإنْ ذُكر التفسير فهو حامل لوائه، وإن عُدَّ الفقهاء فهو مجتهدهم المُطْلق، وإن حَضَر الحُفَّاظ نَطَقَ وخَرِسُوا، وسَرَد وأبلسوا، واستغنى وأفلسوا، وإن سمِّي المتكلِّمون فهو فَرْدُهم، وإليه مَرْجعهم، وإن لاح ابنُ سينا يَقْدُم الفلاسفة فَلَّسهم وتيَّسَهُم
(1)
، وهَتَك أستارهم، وكشف عُوَارهم، وله يدٌ طُولى في معرفة العربية والصَّرْف واللُّغة، وهو أعظم من أن تَصِفَه كَلِمي، وينبِّه على شَأوه قلمي، فإنَّ سيرتَه وعلومَه ومعارفَه ومِحَنَه وتنقلاتِه يحتمل أنْ ترصَّع في مجلَّدتين.
وقال في مكان آخر: وله خِبْرَة تامَّة بالرِّجال، وجَرْحهم وتَعْديلهم وطبقاتهم، ومعرفةٍ بفنون الحديث، وبالعالي والنَّازل، وبالصَّحيح والسَّقيم، مع حفظه لمتونه الَّذي انفرد به، فلا يبلغ أحد في العصر رتبته ولا يُقارِبه، وهو عَجَبٌ في استحضاره، واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب السِّتَّة والمُسند بحيث يَصْدُق عليه أن [يقال]:«كلُّ حديثٍ لا يعرفه ابنُ تيميَّة فليس بحديث» ؛ ولكن الإحاطة لله، غير أنَّه يغترف فيه من بحر، وغيره من الأئمة يغترفون من السَّواقي، وأما التفسير فمسلَّم إليه، وله في استحضار الآيات من القُرْآن ــ وقت إقامة الدَّليل بها على المسألة ــ قوةٌ عجيبة، وإذا رآه المقرئ تحيَّر فيه، ولفرط إمامته في التفسير وعَظَمة اطِّلاعه يبيِّنُ خطأ كثيرٍ من أقوال المُفَسِّرين، ويُوهي أقوالًا عديدة، وينصُرُ قولًا واحدًا موافقًا لما دَلَّ عليه القُرْآن والحديث، ويكتب في اليوم والليلة من التفسير، أو من الفِقْه، أو من الأصلين، أو من الرَّدِّ على الفلاسفة والأوائل نحوًا من أربعة كراريس أو أزيد، وما أُبْعِدُ أنَّ تصانيفه إلى الآن تبلُغُ خمس
(1)
أي: أبطل قولهم. انظر «اللسان» .
مئة مجلَّدة، وله في غير مسألةٍ مصنَّفٌ مفرد في مجلَّد.
ثمَّ ذكر بعض مصنفاته وقال: ومنها كتاب في الموافقة بين المعقول والمنقول في مجلَّدتين.
قلتُ: هذا الكتاب ــ وهو كتاب «درء تعارض العقل والنقل» ــ في أربع مجلدات كبار، وبعض النسخ به في أكثر.
ومن مصنَّفاته: كتاب «بيان تَلْبيس الجَهْمية في تأسيس بِدَعهم الكلامية» في ستِّ مجلدات، وبعض النُّسخ به في أكثر، وكتاب «جواب الاعتراضات المِصْرية على الفُتْيا الحَمَوية» في مجلَّدات، وكذلك كتاب «مِنْهاج السُّنَّة النَّبوية في نَقْض كلام [الشِّيَع] والقدرية» ، وكتاب في الرَّد على النَّصَارى سماه «الجواب الصَّحيح لمن بدَّل دين المسيح» ، ومن مصنَّفاته أيضًا كتاب «الاستقامة» في مجلَّدين، وكتاب في محنته بمصر في مجلَّدين، وكتاب «الإيمان» في مجلَّد، وكتاب «تنبيه الرَّجل العاقل على تمويه المجادل في الجدل الباطل» في مجلَّد، وكتاب «الرد على أهل كسروان الرَّافضة» في مجلَّدين، وكتاب في الردِّ على المَنْطق، وكتاب في الوسيلة، وكتاب في الاستغاثة، وكتاب «بيان الدليل على بطلان التحليل» ، وكتاب «الصارم المسلول على شاتم الرسول» ، وكتاب «اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم» ، وكتاب «التحرير في مسألة حفير» ، وكتاب «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» ، وكتاب «السِّياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية» ، وكتاب «تفضيل صالح النَّاس على سائر الأجناس» ، وكتاب «التحفة العراقية في الأعمال القلبية» ، وكتاب «الفرقان بين أولياء الرَّحمن وأولياء الشيطان» ، وكتاب «المسائل الإسكندرية في الرد على الملاحدة والاتحادية» وتُعْرَف بالسَّبْعِينيَّة.
وعدد أسماء مصنَّفاته يحتاج إلى أوراق كثيرة، ولذكرها موضع آخر، وله من المؤلَّفات والفتاوى والقواعد والأجوبة والرسائل والتَّعالِيق ما لا ينحصر ولا ينضبط، ولا أعلم أحدًا من المتقدِّمين ولا من المتَأخِّرين جَمَعَ مثل ما جمع، ولا صنَّف نحو ما صنَّف، ولا قريبًا من ذلك؛ مع أنَّ تصانيفه كَانَ يكْتُبها من حِفْظه، وكتب كثيرًا منها في الحَبْس وليس عنده ما يحتاج إليه ويراجعه من الكتب.
وقال الشَّيخ فتح الدِّين بن سَيِّد النَّاس ــ بعد أنْ ذكر ترجمة شيخنا الحافظ أبي الحَجَّاج الَّتي تقدَّم ذكرها ــ: وهو الَّذي حداني على رُؤية الشَّيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدِّين أبي العَبَّاس أحمد بن عبد الحليم ابن تيميَّة؛ فألفيْتُه ممن أدرك من العلوم حَظًّا، وكاد يستوعب السُّنَن والآثار حِفْظًا، إنْ تكلَّم في التفسير [فهو حامل رأيته، أو أفتى في الفِقْه فهو مدرك غايته، أو ذاكر بالحديث فهو صاحب عِلْمِه وذو روايته، أو حاضر بالنِّحَل والملل لم يُر أوسع من نحلته في ذلك، ولا أرفع من درايته، برز في كل فن على أبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله، ولا رأت عينه مِثْلَ نفسه، كَانَ يتكلَّم في التفسير] فيحضر مجلِسَه الجمُّ الغفير، ويردون من بحر عِلْمه العَذْب النَّمير، ويرتعون من ربيع فَضْله في روْضة وغدير.
إلى أنْ دبَّ إليه مِنْ أهل بلاده داء الحسد، وأكبَّ أهلُ النَّظر منهم على ما يُنْقد عليه من أمور المعتقد، فحفِظُوا عنه في ذلك كلامًا، أوسعوه بسببه ملامًا، وفوَّقُوا لتبديعه سِهامًا، وزعموا أنَّه خالف طريقهم، وفرَّق فريقَهم، فنازعهم ونازعوه، وقاطع بعضَهم وقاطعوه، ثمَّ نازع طائفة أخرى ينتسبون من الفقر إلى طريقة، ويزعمون أنهم على أدقِّ باطن منها وأجلى حقيقة،
فكشف تلك الطرائق، وذكر لها ــ على ما زعم ــ بوائق، فآضَتْ إلى الطَّائفة الأولى من منازعيه، واستعانت بذوي الضِّغْن عليه من مقاطعيه، فوصلوا بالأمراء أمرَه، وأعمل [كلٌّ] منهم في كُفْره فِكْرَه، فرتَّبوا محاضر، وألَّبوا الرُّوَيْبِضَة للسَّعي بها بين الأكابر، وسعوا في نقله إلى حَضْرة المملكة بالدِّيار المِصْرية، فَنُقِلَ وأُودع السِّجْن ساعةَ حُضُوره واعْتُقل، وعقدوا لإراقة دمه مجالس، وحشدوا لذلك قَوْمًا من عُمَّار الزَّوايا وسكان المدارس، من مُجَامل في المُنَازعة مخاتِلٍ في المخادعَة، ومن مُجاهر بالتَّكْفير مبارز بالمقاطعة، يسومونه رَيْبَ المَصنُون {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص: 69].
وليس المجاهر بكفره بأسوأ حالًا من المخاتل، وقد دبَّتْ إليه عقارب مكره، فَرَدَّ الله كيد كلٍّ في نحره، ونجاه على يد من اصْطَفَاه، والله غالب على أمره، ثمَّ لم يَخْلُ بعد ذلك من فتنة بعد فتنة، ولم ينتقل طول عمره من محنة إلّا إلى محنة، إلى أنْ فُوِّض أمره لبعض القُضَاة فتقلَّد ما تقلد من اعتقاله، ولم يزلْ بمحبسه ذلك إلى حين ذهابه إلى رحمة الله تعالى وانتقاله، وإلى الله ترجع الأمور، وهو المطَّلع على خائنة الأعين وما تخفي الصُّدور، وكان يومه مشهودًا، ضاقت بجنازته الطريق، وانتابها المسلمون من كلِّ فَجٍّ عميق، يتبركون بمشهده يوم يقوم الأشهاد، ويتمسكون بشَرْجَعِهِ
(1)
حتَّى كسروا تلك الأعواد! !
ثمَّ ذكر يوم وفاته ومَوْلده، ثمَّ قال: وقرأتُ على الشَّيخ الإمام حامل راية العلوم، ومُدْرك غاية الفهوم، تقي الدِّين أبي العَبَّاس أحمد بن
(1)
. أي سريره. انظر التعليق (ص 233).
عبد الحليم بن عبد السَّلام بن تيميَّة رحمه الله بالقاهرة ــ قدم علينا ــ ثمَّ ذكر حديثًا من جُزْء ابنِ عَرَفة.
قلتُ: أملى شيخنا المسألة المعروفة بالحَمَوية سنةَ ثمانٍ وتسعين في قعدَةٍ بين الظُّهر والعَصْر، وهي جواب سؤال ورد من حماة في الصِّفات، وجرى له بسبب ذلك محنة، ونصره الله وأذلَّ أعداءه، وما حصل له بعد ذلك إلى حين وفاته من الأمور والمِحَن والتنقلات تحتاج إلى عِدَّة مجلَّدات، وذلك كقيامه في نوبة غازان سنة تسع، والتقائه أعباء الأمر بنفسه، واجتماعه بالملك وبنائه خطلوشاه وببُولايَ، وإقدامِه وجُرْأته على المغول، وعظيمِ جهاده، وفَعْلِهِ الخيرَ، من إنفاق الأموال، وإطعام الطَّعام، ودفن المَوْتى، ثمَّ توجهه بعد ذلك بعام إلى الدِّيار المِصْرية، وسوقه على البريد إليها في جُمُعةٍ لما قَدِمَ التَّتار إلى أطراف البلاد، واشتدَّ الأمر بالبلاد الشَّامية، واجتماعه بأركان الدَّوْلة، واستصراخه بهم، وحضِّهم على الجهاد، وإخباره لهم بما أعدَّ الله للمجاهدين من الثواب، وإبدائهم له العذر في رجوعهم، وتعظيمهم له، وتردد الأعيان إلى زيارته، واجتماع ابن دقيق العيد به، وسماعه كلامه، وثنائه عليه الثَّناء العظيم، ثمَّ توجهه بعد أيام إلى دمشق واشتغاله بالاهتمام لجهاد التَّتار، وتحريض الأمراء على ذلك، إلى ورود الخبر بانصرافهم، ثمَّ قيامه في وقعة شَقْحب المشهورة سنة اثنتين وسَبْع مئة، واجتماعه بالخليفة والسُّلْطان، وأرباب الحَلِّ والعقد، وأعيان الأمراء وتحريضه لهم على الجهاد، ومَوْعظته لهم، وما ظهر في هذه الواقعة من كراماته وإجابة دُعَائه، وعظيمِ جهاده، وقوَّة إيمانه، وشدَّة نُصْحه للإسلام، وفرط شجاعته، ثمَّ توجهه بعد ذلك في آخر سنة أربع لقتال الكِسْروانيين وجهادهم، واستئصال
شأفتهم، ثمَّ مناظرته للمخالفين سنةَ خمسٍ في المجالس الَّتي عُقِدَتْ له بحضرة نائب السلطنة الأفرم، وظهوره عليهم بالحُجَّة والبيان، ورجوعهم إلى قوله طائعين ومكرهين، ثمَّ توجهه بعد ذلك في السَّنَة المذكورة إلى الدِّيار المِصْرية صحبة قاضي
الشَّافعية، وعَقْد مجلس له حين وصوله بحضور القُضَاة وأكابر الدَّوْلة، ثمَّ حبسه في الجُبِّ بقلعة الجبل، ومعه أخواه سنةً ونصفًا، ثمَّ خروجه بعد ذلك، وعقد مجالس له ولخصومه وظهوره عليهم، ثمَّ إقرائه للعِلْم وبَثِّه ونَشْره، ثمَّ عقد مجلس له في شَوَّال من سنة سبع لكلامه في الاتِّحادية وطعنه عليهم، ثمَّ الأمر بتسفيره إلى الشَّام على البريد، ثمَّ رَدِّه من مرحلةٍ وسجنه بحَبْس القُضَاة سنةً ونصفًا، وتعليمه أهلَ الحَبْس ما يحتاجون إليه من أمور الدِّين، ثمَّ إخراجه منه، وتوجهه إلى الإسكندرية، وجَعْلِهِ في برج حَسَنٍ منها ثمانية أشهُرٍ يدخل إليه مَنْ شاء، ثمَّ توجهه إلى مِصْر، واجتماعه بالسُّلْطان في مجلس حفل فيه القضاة وأعيان الأمراء، وإكرامه له إكرامًا عظيمًا، ومشاورتِه له في قَتْل بعض أعدائه، وامتناع الشَّيخ من ذلك، وجَعْله كل من آذاه في حِلٍّ ثمَّ سُكْناه بالقاهرة، وعودِهِ إلى نَشْر العِلْم ونفع الخَلْق، وما جرى بعد ذلك من قضيةِ البكري وغيرها، ثمَّ توجهه بعد ذلك إلى الشَّام صحبة الجيش المِصْري قاصدًا للغَزَاة بعد غيبته عن دمشق سَبْع سنين وسبع جُمَع، وتوجهه في طريقه إلى بيت المقدس، ثمَّ ملازمته بعد ذلك بدمشق لنشر العلم، وتصنيف الكتب، وإفتاء الخَلْق، إلى أنْ تكلَّم في مسألة الحَلِف بالطَّلاق، فأشار عليه بعض القُضَاة بتَرْك الإفتاء بها في سنة ثمان عشرة؛ فقبل إشارته، ثمَّ ورد كتاب السُّلْطان بعد أيام بالمَنْع من الفتوى عليها، ثمَّ عاد الشَّيخ إلى الإفتاء بها وقال: لا يَسَعُني كِتْمان العِلْم.
وبقي كذلك مُدَّةً إلى أن حبسوه بالقلعة خمسة أشهر وثمانية عشر يومًا، ثمَّ
أُخرج، ورجع إلى عادته من الأشغال وتعليم العِلْم، ولم يزل كذلك إلى أن ظفروا له بجواب يتعلَّق بمسألة شَدِّ الرِّحال إلى قبور الأنبياء والصَّالحين، كَانَ قد أجاب به من نحو عشرين سنة؛ وكَبُرَتِ القضية، وورد مرسوم السُّلْطان في شعبان من سنة ستٍّ وعشرين بجَعْلِهِ في القَلْعة؛ فأُخليت له قاعة حسنة، وأجري إليها الماء، وأقام فيها ومعه أخوه يخدمه، وأقبل في هذه المُدَّة على العِبادة والتِّلاوة وتصنيف الكتب، والردِّ على المخالفين، وكَتَبَ على تفسير القرآن العظيم جملةً كبيرة تَشْتَمِلُ على نفائسَ جليلة، ونُكَتٍ دقيقة، ومعانٍ لطيفة، وأوضح مواضع كثيرة أشكلت على خَلْقٍ من المفسِّرين، وكَتَب في المسألة الَّتي حبس بسببها مجلَّدات عِدَّة، وظهر بعض ما كتبه واشتهر، وآل الأمر إلى أن مُنِعَ من الكتابة والمطالعة، وأخرجوا ما عنده من الكُتُب، ولم يتركوا عنده دواةً ولا قلمًا ولا ورقة، وكتب عقيب ذلك بفحمٍ يقول: إنَّ إخراج الكتب من عنده من أعظم النِّعَم
(1)
.
وبقي أشهرًا على ذلك، وأقبل على التِّلاوة والعِبادة والتهجُّد حتَّى أتاه اليقين، فلم يفجأ النَّاسَ إلَّا نعيُهُ، وما علموا بمرضه، وكان قد مَرِضَ عشرين يومًا، فتأسَّف الخَلْقُ عليه، وحضر جَمْعٌ كبير، فأُذِنَ لهم في الدخول، وجلس جماعةٌ عِنْدَه قبل الغُسْل، وقرؤوا القرآن، وتبركوا برؤيته وتقبيله، ثمَّ انصرفوا، وحضر جماعةٌ من النِّساء ففعلن مثل ذلك، ثمَّ انصرفن، واقْتُصِرَ على من يغسله ويعين عليه في غُسْله، فلما فُرِغَ من ذلك أُخرج وقد اجتمع النَّاس بالقَلْعة والطريق إلى جامع دمشق، وامتلأ الجامعُ وصحنه والكلّاسة وباب البريد وباب السَّاعات إلى اللَّبَّادين والفوَّارة، وحضرتِ الجَنازةُ في السَّاعة الرابعة من النَّهار أو نحو
(1)
. أي: ليطلع عليها الجميع؛ طلابُه، وأعداؤه، انظر:«العقود» (ص 442).
ذلك، ووُضِعَتْ في الجامع، والجُنْد يحفظونَها من النَّاس من شِدَّةِ الزِّحام، وصُلِّيَ عليه أولًا بالقلعة، تقدَّم في الصَّلاة عليه الشَّيخ محمد بن تَمَّام، ثمَّ صُلِّيَ عليه بجامع دمشق عقيب صلاة الظُّهرِ، وحُمِلَ من باب البريد، واشتد الزِّحام، وألقى النَّاس على نعشه مناديلَهم وعمائمهم للتبرُّك! ! وصار النَّعش على الرؤوس، تارة يتقدَّم وتارة يتأخَّر، وخرج النَّاس من الجامع من أبوابه كلِّها من شِدَّةِ الزِّحام، وكل باب أعظم زحمةً من الآخر، ثمَّ خرج النَّاس من أبواب البلد جميعها من شدة الزِّحام، لكن كَانَ المعظم من الأبواب الأربعة باب الفَرَج الَّذي أُخرجت منه الجنازة، ومن باب الفراديس وباب النَّصْر وباب الجابية، وعَظُمَ الأمر بسوق الخيل، وتقدَّم في الصَّلاة عليه هناك أخوه زين الدِّين، وحُمِلَ إلى مقبرة الصُّوفية؛ فدفن إلى جانب أخيه الإمام شرف الدِّين ــ رحمهما الله ــ، وكان دَفْنُه وقتَ العَصْر أو قبلها بيسير، وغلَّق النَّاس حوانيتَهم، ولم يتخلَّف عن الحضور، إلا نَفَرٌ قليل، أو مَنْ عَجَزَ للزِّحام، وحضرها من الرِّجال والنِّساء أكثر من مئتي ألف، وشرب جماعةٌ الماء
الَّذي فَضَل من غُسْله، واقتسم جماعة بقية السِّدْر الَّذي غُسل به، وقيل إنَّ الطَّاقية الَّتي كانت على رأسه دفع فيها خمسين مئة دِرْهم، وقيل إنَّ الخيط الَّذي فيه الزئبق الَّذي في عنقه لأجل القَمْل دُفع فيه مئة وخمسون دِرْهَمًا، وحصل في الجَنَازة ضجيجٌ وبكاء عظيم، وتضرع كثير، وكان وقتًا مشهودًا، وخُتِمَتْ له ختم كثيرةٌ بالصَّالحية والبلد، وتردد النَّاس إلى قبره أيامًا كثيرة ليلًا ونهارًا، ورؤيت له مناماتٌ كثيرة حَسَنةٌ، ورثاه جماعةٌ بقصائدَ جَمَّةٍ.
وكانت وفاته ليلةَ الاثنين العشرين من ذي القَعْدة سنة ثمانٍ وعشرين وسَبْعِ مئة، رحمه الله ورضي عنه، وأثابه الجَنَّة برحمته.
الإمام الذَّهَبيّ (748)
1 -
الدرة اليتيمية في السيرة التيمية
2 -
ذيل تاريخ الإسلام.
3 -
معجم الشيوخ.
4 -
تذكرة الحفاظ.
5 -
ذيل العِبر.
6 -
دول الإسلام.
7 -
الإعلام بوفيات الأعلام.
8 -
المعين في طبقات المحدثين.
9 -
ذِكْر من يُعتمد قوله في الجرح والتعديل.
10 -
المعجم المختصّ.
11 -
ترجمة مختصرة، نقلها ابن المهندس
نبذة من سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية
(1)
(الدّرة اليتيميّة في السيرة التيميّة)
الحمد لله وحده.
هذه نبذة من سيرة شيخ الإسلام تقيّ الدِّين ابن تيمية رضي الله عنه مما
(2)
ألفه الشيخ الإمام العلّامة الحافظ شمس الدِّين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن
(3)
عثمان الذهبي الشافعي، تغمَّدَهما الله تعالى برحمته ورضوانه. قال:
ابن تيميَّة
تقيُّ الدِّين الإمام
(4)
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية، الإمام الحبر البحر، العَلَم الفرد، شيخ الإسلام، ونادرة العصر، تقي الدِّين أبو العباس أحمد، الحرَّاني الحنبلي، نزيل دمشق.
(1)
نشرتها المستشرقة كاترين بوري مع الترجمة الإنجليزية في مجلة معهد الدراسات الشرقية والإفريقية، المجلد (67)، العدد (3)، (2004 م)، ص 321 - 348.
…
وطبعت ضمن مجموع فيه رسائل لابن تيمية ــ تحقيق حسين عكاشة: (ص 237 - 249)، دار الفاروق الحديثة، ط 1، 1426 هـ. وقابلت النص على نسخة الظاهرية ورمزت لها بـ (ظ) واستفدت من كلتا الطبعتين، ورمزت للأولى (ش) والثانية (م).
(2)
(م): «ما» .
(3)
«أحمد بن» سقطت من (م).
(4)
ضرب عليها في (ظ).
ولد بحرَّان يوم الاثنين عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة، وهاجر والده به وبإخوته إلى الشام عند جور التتار، فسار بالليل بهم وبالكتب على عَجَلةٍ لعدم الدواب، وكاد العدو أن يلحقهم، ووقفت العَجَلة، فابتهل إلى الله واستغاث به؛ فنجوا وسلموا.
وقدموا دمشقَ في أثناء سنة سبع وستين، فسمعوا من الزين بن عبد الدائم «نسخة ابن عَرَفة»
(1)
وغير ذلك. ثم سمع شيخنا الكثير من ابن أبي اليُسْر، والكمال ابن عَبْدٍ
(2)
، والمجد
(3)
ابن عساكر ــ أصحاب الخُشُوعي
(4)
ــ، ومن الجمال يحيى ابن الصيرفي، وأحمد بن أبي الخير سلامة، والقاسم الإربلي، والشيخ شمس الدِّين عبد الرحمن بن أبي عمر، وأبي الغنائم ابن علّان، وخَلْق كثير.
وسمع «مسند أحمد» مرَّات، والكتب الكبار والأجزاء، وعُني بالحديث، ونسَخَ جملةً صالحةً، وتعلَّم الخطَّ والحساب في المكتب، وحفظ
(1)
كذا وقع في (ظ) وفي عدة مصادر كما في «الإكمال» : (7/ 142) و «السير» : (19/ 258)، ويقال له أيضًا:«جزء ابن عَرَفة» مشهور عند المحدثين، وسيأتي بعد قليل، وأن الذهبي سمعه منه.
(2)
ظن ناسخ (ظ) أن «عبد» مضافة إلى شيء بعدها، فترك بياضًا بقدر كلمة، وليس كذلك بل «عبد» بدون إضافة منونة الآخر.
(3)
(م): «والمحدّث» خطأ.
(4)
يعني أن من تقدم هم أصحاب الخشوعي، والخشوعي هو أبو الطاهر بركات بن طاهر المُسْنِد المعمَّر (ت 598).
القرآن، ثم أقبَل على الفقه، وقرأ أيَّامًا في العربية على ابن عبد القوي
(1)
، ثم فهمها، وأخذ يتأمل «كتاب سيبويه» حتى فَهِمه، وبَرَع في النحو.
وأقبل على التفسير إقبالًا كليًّا، حتى حاز فيه قَصَب السَّبْق، وأحْكَم أصول الفقه، وغير ذلك. هذا كله وهو بعدُ ما بلغ ابن بضع عشرة سنة، فانبهر الفضلاء من فَرْط ذكائه، وسيلان ذهنه، وقوة حافظته، وسرعة إدراكه.
ونشأ في تصوّنٍ تامّ، وعفافٍ وتألُّهٍ وتعبُّد، واقتصاد في الملبس والمأكل.
وكان يحضر المدارس والمحافل في صِغَرِه، فيتكلَّم ويُناظر ويُفحم الكبار، ويأتي بما يتحيَّر منه أعيان البلد في العلم؛ فأفتى وله تسع عشرة سنة، بل أقل، وشرع في الجمع والتأليف من ذلك الوقت، وأكبّ على الاشتغال.
ومات والده ــ وكان من كبار الحنابلة وأئمتهم ــ فدرَّس بَعْده بوظائفه وله إحدى وعشرون سنة، واشتهر أمرُه، وبَعُد صِيتُه في العالم. وأخذ في تفسير الكتاب العزيز أيام الجُمَع على كرسيّ من حفظه، وكان يورد المجلس ولا يتلعثم، وكذا كان يورد الدرس بتُؤدَةٍ وصوتٍ جهوري فصيح، فيقول في المجلس أزيد من كراسين أو أقل، ويكتب على الفتوى في الحال عدَّة أوصال بخط سريع إلى غاية التعليق والإغلاق.
قرأت بخط شيخنا العلامة كمال الدِّين عَلَم الشافعية
(2)
في حقِّ ابن
(1)
هو: محمد بن عبد القوي بن بدران أبو عبد الله المقدسي (ت 699). ترجمته في «تاريخ الإسلام» (وفيات 699، ص 447 - 449)، و «الذيل على طبقات الحنابلة»:(4/ 307 - 309).
(2)
هو كمال الدِّين ابن الزملكاني (ت 727).
تيمية: كان إذا سُئل عن فنّ من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم بأن لا يعرفه أحد مثله
(1)
، وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا منه في مذاهبهم أشياء. قال: ولا يُعرف أنه ناظر أحدًا فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم ــ سواء كان من علوم الشرع أو غيرها ــ إلا فاقَ فيه أهلَه. واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها كما يجب
(2)
.
قلت: وله خبرة تامَّة بالرجال وجَرْحهم وتعديلهم وطبقاتهم، ومعرفةٌ بفنون الحديث، وبالعالي والنازل، وبالصحيح والسقيم، مع حفظه لمتونه الذي انفرد به، فلا يبلغ أحدٌ في العصر رتبتَه ولا يُقاربه، وهو عجبٌ في استحضاره واستخراج الحُجَج منه، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة و «المسند» ، بحيث يَصدُق عليه أن يُقال:«كلُّ حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث» ولكنَّ الإحاطة لله، غير أنه يغترف فيه من بحر، وغيره من الأئمة يغترفون من السواقي.
وأما التفسير فمُسَلَّم إليه، وله في استحضاره
(3)
الآياتِ من القرآن ــ وقت إقامة الدليل بها على المسألة ــ قوةٌ عجيبة، وإذا رآه المقرئ تحيّر فيه، ولفَرْط إمامته في التفسير وعظَمَة اطلاعه يبيّن خطأ كثيرٍ من أقوال المفسرين، ويوهّي أقوالًا عديدة، وينصر قولًا واحدًا موافقًا لما دلّ عليه القرآن والحديث.
(1)
العبارة في «العقود» (ص 13): «وحكم أن أحدًا لا يعرفه مثله» .
(2)
«كما يجب» ليست في (ظ).
(3)
كذا (ظ)، وفي «العقود الدرية»:«في استحضار» ، وفي (ش):«لآياتٍ» .
ويكتب في اليوم والليلة من التفسير أو من الفقه أو من الأصلين أو من الردّ على الفلاسفة والأوائل نحوًا من أربعة كراريس أو أزْيد. وما أُبعِد أن تصانيفه إلى الآن تبلغ خمسمائة مجلد، وله في غير مسألة مصنفٌ مفرد في مجلدة؛ كمسألة التحليل، ومسألة حفير، ومسألة من سبَّ الرسول
(1)
، ومسألة «اقتضاء الصراط المستقيم» في ذم البدع، وله مصنَّف في الرَّدّ على ابن المطهَّر الرافضي في ثلاث مجلدات كبار
(2)
، ومصنف في الردّ على تأسيس التقديس للرَّازي في سبع مجلدات
(3)
، وكتاب في الردّ على المنطق
(4)
، وكتاب في الموافقة بين المعقول والمنقول في مجلدين
(5)
، وقد جمع أصحابه من فتاويه نحوًا من ست مجلدات كبار.
(1)
مسألة التحليل ألف فيها كتاب «بيان الدليل على بطلان التحليل» طبع في مجلد كبير. ومسألة حفير، سماه غير واحد:«التحرير في مسألة حفير» ، وقال ابن رجب: إنه مجلد في مسألة من القسمة كتبها اعتراضًا على الخويي في حادثة حكم فيها. وبنحوه قال ابن الزملكاني. ومسألة من سبّ الرسل، سمى كتابه «الصارم المسلول على شاتم الرسول» حُقق في ثلاث مجلدات.
(2)
وهو «منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيع والقدرية» مطبوع في تسعة مجلدات.
(3)
هو كتاب «بيان تلبيس الجهمية في بيان بدعهم الكلامية» طبع الموجود منه في عشرة مجلدات.
(4)
طبع في مجلد بعنوان: «الرد على المنطقيين» بتحقيق الشيخ عبد الصمد شرف الدين.
(5)
قال ابن عبد الهادي في «العقود الدرية» (ص 36 - 37) معلقًا على كلام الذهبي: «هذا الكتاب ــ وهو كتاب «درء تعارض العقل والنقل» ـ في أربع مجلدات كبار، وبعض النسخ به في أكثر من أربع مجلدات، وهو كتاب حافل عظيم المقدار، ردّ الشيخ فيه على الفلاسفة والمتكلمين». وقد طبعته جامعة الإمام بالرياض في أحد عشر مجلدًا بتحقيق الشيخ محمد رشاد سالم.
وله باعٌ طويل في معرفة مذاهب الصحابة والتابعين، وقلّ أن يتكلَّم في مسألة إلا ويذكر فيها مذاهب الأئمة الأربعة، وقد خالف الأربعةَ في مسائل معروفة، وصنَّف فيها، واحتجَّ لها بالكتاب والسنة.
وله مصنف سماه: «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية»
(1)
، وكتاب «رفع الملام عن الأئمة الأعلام»
(2)
.
ولما كان معتقلًا بالإسكندرية
(3)
التَمَس منه صاحب سَبْتة أن يجيز له مروياته، وينصّ
(4)
على أسماء جملةٍ منها، فكتب في عشر ورقات جملةً من ذلك بأسانيدها من حفظه، بحيث يعجز أن يعمل بعضَه أكبرُ محدّثٍ يكون.
وله الآن عدَّة سنين لا يُفتي بمذهب معيَّن، بل بما قامَ الدليلُ عليه عنده، ولقد نصَرَ السنةَ المَحْضة والطريقة السلفية، واحتجَّ لها ببراهين ومقدِّمات وأمور لم يُسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا، وجَسَر هو عليها، حتى قام عليه خلقٌ من علماء مصر والشام قيامًا لا مزيد عليه، وبدّعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابت لا يُداهن ولا يُحابي، بل يقول الحقَّ المُرَّ الذي أداه إليه اجتهادُه، وحِدَّةُ ذهنه، وسَعَة دائرته في السنن والأقوال، مع ما اشتهر منه من الوَرَع، وكمال الفكر، وسرعة الإدراك، والخوف من الله، والتعظيم لحُرمات الله.
(1)
طبعت النسخة الكاملة منه بتحقيقي ضمن مشروع آثار شيخ الإسلام ابن تيمية عام 1429.
(2)
طبع مرارًا مفردًا وضمن «مجموع الفتاوى» : (20/ 231 - 293).
(3)
وذلك في سنة (709 هـ).
(4)
غير محررة في (ظ).
فترى بينه وبينهم حملاتٌ حربية ووقعات شامية ومصرية، وكم من نوبةٍ قد رموه عن قوسٍ واحدة فينجّيه الله؛ فإنه دائم الابتهال، كثير الاستغاثة، قويّ التوكل، ثابت الجأش، له أورادٌ وأذكارٌ يُدْمنها بكيفية وجَمْعِية.
وله من الطرف الآخر مُحِبّون من العلماء والصلحاء، ومن الجُند والأمراء، ومن التجار والكبراء. وسائرُ العامة تحبُّه؛ لأنه مُنْتصب لنفعهم ليلًا ونهارًا، بلسانه وقلمه.
وأما شجاعته؛ فبها تُضرب الأمثال، وببعضها يتشبه أكابر الأبطال، فلقد أقامه الله في نوبة غازان
(1)
، والتقى أعباء الأمر بنفسه، وقام وقعد، وطلع وخرج، واجتمع بالملك مرتين، وبخطلوشاه
(2)
، وببُولاي
(3)
. وكان قَفْجَق
(4)
يتعجَّب من إقدامه وجرأته على المغول.
وله حِدَّة قوية تعتريه في البحث، حتى كأنه ليثٌ حَرِب.
(1)
هو ملك التتار غازان ــ والعامة تقول: قازان ــ محمود بن أرغون، وجدّه الأعلى جنكيزخان، مات بعد معركة شقحب سنة (703) التي مُني فيها بهزيمة منكرة. انظر «أعيان العصر»:(4/ 5 - 18)، و «الدرر الكامنة»:(3/ 212 - 214).
(2)
انظر (ص 166).
(3)
في (ظ): «وببولاءِ» . وبولاي: من قادة التتار الذين حضروا مع غازان لغزو الشام. قال الصفدي: اسمه الصحيح: مولاي، وإنما العامة يحرفونه تهكمًا به وبأمثاله. انظر «أعيان العصر»:(2/ 70 - 71).
(4)
ويقال: قبجق، المنصوري، أصله من المغل، تذبذب في الالتحاق بهم أو بالمسلمين، واستقر أمره على قتال المغول، وكان شجاعًا مقدامًا، (ت 710). انظر «أعيان العصر»:(4/ 61 - 72)، و «الدرر الكامنة»:(3/ 241 - 243).
وهو أكبر من أن يُنبّه مثلي على نعوته؛ فلو حُلِّفْتُ
(1)
بين الركن والمقام لحلفتُ أني ما رأيت بعيني مثله، ولا والله ما رأى هو مثل نفسه في العلم.
وفيه قلَّة مداراة وعدم تؤدة غالبًا، والله يغفر له.
وهو فقير لا مال له، وملبوسه ــ كأحد الفقهاء ــ: فرَّجية، ودَلَق، وعمامة، يكون قيمة ثلاثين درهمًا، ومداس ضعيف الثمن.
وشعره مقصوص، وعليه مهابةٌ، وشيبُه يسير، ولحيته مستديرة، ولونه أبيض حِنْطي اللون، وهو رَبْع القامة، بعيد ما بين المَنْكِبين، كأنَّ عينيه لسانان ناطقان.
ويصلي بالناس صلاةً لا يكون أطول من ركوعها وسجودها. وربما قام لمن يجيء من سفر أو غاب عنه، وإذا جاء فربما يقومون له، والكلُّ عنده سواء؛ فإنه فارغٌ من هذه الرسوم، ولم ينحَنِ لأحدٍ قط، وإنما يُسلِّم ويُصافح ويتبسم، وقد يُعظِّم جليسَه مرة، ويهينه في المحاورة مرات.
ولما صنف «المسألة الحموية» في الصفات سنة ثمان وتسعين تحزبوا له، وآل بهم الأمر إلى أن طافوا بها على قصبة من جهة القاضي الحنفي
(2)
، ونُودي عليه بأن لا يُستفتى، ثم قام بنصره طائفة آخرون، وسلّم الله.
فلما كان في سنة خمس وسبعمائة جاء الأمر من مصر بأن يُسأل عن معتقده، فجُمِعَ له القضاةُ والعلماء بمجلس نائب دمشق الأفرم، فقال: أنا
(1)
(ظ): «طفت» تصحيف.
(2)
هو القاضي جلال الدِّين الحنفي، انظر «تاريخ الإسلام»:(52/ 61) للذهبي. وانظر الخبر مفصلًا في «العقود الدرية» (ص 255).
كنت قد سُئلت عن معتقد السنّة، فأجبتُ عنه في جزء من سنين، وطلبه من داره، فأُحضر وقرأه، فنازعوه في موضعين أو ثلاثةٍ منه، وطال المجلس، فقاموا واجتمعوا مرتين أيضًا لتتمة الجزء، وحاققوه، ثم وقع الاتفاق على أن هذا معتقدٌ سلفيّ جيِّد، وبعضهم قال ذلك كرهًا.
وكان المصريون قد سعوا في أمر الشيخ، وملأوا الأميرَ ركنَ الدِّين الششنكير ــ الذي تسلطن ــ عليه، فطُلِبَ إلى مصر على البريد، فثاني يوم دخوله اجتمع له القضاة والفقهاء بقلعة مصر، وانتصب ابنُ عَدْلان له خصمًا، وادَّعى عليه عند القاضي ابن مخلوف المالكي: أن هذا يقول: إن الله تكلم بالقرآن بحرفٍ وصوت، وإنه تعالى على العرش بذاته، وإن الله يُشار إليه الإشارة الحِسّية، وقال: أطلب عقوبته على ذلك.
فقال القاضي: ما تقول يا فقيه؟ فحمد الله وأثنى عليه.
فقيل له: أسرع، ما أحضرناك لتخطب.
فقال: أُمنع من الثناء على الله؟ !
فقال القاضي: أجِب فقد حمدت الله. فسكت، فألحّ عليه.
فقال: فمَن الحاكمُ فيَّ؟ فأشاروا له إلى القاضي ابن مخلوف.
فقال: أنتَ خصمي فكيف تحكم فيّ؟ ! وغضب وانزعج، وأسكت القاضي.
فأُقيم الشيخ وأخواه، وسُجنوا بالجبّ بقلعة الجبل، وجرت أمور طويلة، وكُتب إلى الشام كتاب سلطاني بالحطِّ عليه، فقُرئ بجامع دمشق، وتألم الناس له.
ثم بقي سنة ونصفًا وأُخرج، وكتب لهم ألفاظًا اقترحوها عليه، وهُدِّد
وتُوعِّد بالقتل إن لم يكتبها
(1)
.
فأقام بمصر يُقرئ العلم ويجتمع خلق عنده، إلى أن تكلَّم في الاتحادية القائلين بوحدة الوجود
(2)
، فتحزَّب عليه صوفية وفقراء، وسعوا فيه، وأنه يتكلم في صفوة الأولياء، فعُمِلَ له محفل، ثم أخرجوه على البريد، ثم ردوه على مرحلة من مصر، ورأوا مصلحتهم في اعتقاله، فسجنوه في حبس القضاة سنة ونصفًا، فجعل أصحابه يدخلون إليه في السرّ، ثم تظاهروا، فأخرجته الدولة على البريد إلى الإسكندرية، وحُبس ببرج منها، وشيع بأنه قُتل، وأنه غرق غير مرةٍ.
فلما عاد السلطان من الكرك، وأباد أضداده، بادر باستحضار الشيخ إلى القاهرة مكرَّمًا، واجتمع به، وحادثه وسارره بحضرة القضاة والكبار، وزاد في إكرامه، ثم نزل وسكن في دار، واجتمع بعد ذلك بالسلطان، ولم يكن الشيخ من رجال الدولة، ولا يسلك معهم تلك النواميس، فلم يعد السلطان يجتمع به. فلما قدم السلطان لكشف العدوّ عن الرحبة جاء الشيخ إلى دمشق سنة اثنتي عشرة.
ثم جرت له أمورٌ ومِحَن ما بين ارتفاع وانخفاض وفتَرَ سوقُه، ودخل في مسائل
(3)
كبار لا تحتملها عقول أبناء زمانه ولا علومهم، كمسألة التكفير في
(1)
انظر في شرح هذه القضية مقدمة كتابنا هذا (ص 44 - 51).
(2)
زاد ابن عبد الهادي في «العقود» (ص 252) نقلًا عن هذه الترجمة: «وهم ابن سبعين وابن عربي والقونوي وأشباههم» .
(3)
(م، ش): «مسالك» .
الحلف في الطلاق، ومسألة أن الطلاق الثلاث لا يقع إلا واحدة، وأن الطلاق في الحيض لا يقع، وصنف في ذلك تواليف لعلّ تبلغ أربعين كراسًا، فمُنع لذلك من الفتيا، وساس نفسَه سياسةً عجيبةً، واستبدَّ برأيه، وعسى أن يكون ذلك كفارة له، فالله يؤيده بروحٍ منه ويوفقه لمراضيه.
وهو الآن يُلقي الدَّرْس، ويُقرئ العلم، ولا يُفتي إلا بلسانه، ويقول: لا يسعني أن أكتمَ العلم. وله إقدام و
(1)
شهامة وقوة نفسٍ توقعه في أمور صعبة، ويدفع الله عنه. وله نظمٌ قليل وسط، ولم يتزوج ولا تسرَّى، ولا له من المعلوم إلا شيء قليل، وأخوه يقوم
(2)
بمصالحه، ولا يطلب منهم غداء ولا عشاء في غالب الوقت.
وما رأيت في العالم أكرم منه، ولا أفرغَ منه عن الدينار والدرهم، بل لا يذكره، ولا أظنه يدور في ذهنه. وفيه مروءةٌ وقيام مع أصحابه، وسَعْي في مصالحهم. وهو لونٌ عجيبٌ، ونبأٌ غريب.
وهذا الذي ذكرتُ من سيرته فعلى الاقتصاد، وإلا فحوله أُناسٌ من الفضلاء يعتقدون فيه وفي علمه وزهده ودينه وقيامه في نصر الإسلام بكل طريقٍ أضعاف ما سُقت. وثَمّ أناس من أضداده يعتقدون فيه وفي علمه، لكن يقولون: فيه طيشٌ وعجَلَةٌ وحدّة ومحبة للرياسة. وثَمّ أناس ــ قد علم الناس قلة خيرهم وكثرة هواهم ــ ينالون منه سبًّا وتكفيرًا، وهم إما متكلمون، أو من
(1)
«إقدام و» ليست في (م).
(2)
في المطبوع «وإخوة تقوم
…
». والعبارة في «تتمة المختصر» : (409 ــ من كتابنا هذا): «وكان أخوه يقوم بمصالحه» . وهي تؤيد ما ما في الأصل الخطي.
صوفية الاتحادية، أو من شيوخ الزَّوْكَرَة
(1)
، أو ممن قد تكلَّم هو فيهم فأقذع وبالغ، فالله يكفيه شرَّ نفسه. وغالبُ حَطِّه على الفضلاء أو المتزهِّدة فبحقّ، وفي بعضه هو مجتهد.
ومذهبُه توسعة العذر للخلق، ولا يُكفّر أحدًا إلا بعد قيام الدليل والحجة عليه، ويقول: هذه المقالة كفرٌ وضلال، وصاحبها مجتهدٌ جاهل لم تقم عليه حجة الله، ولعله رجع عنها أو تاب إلى الله. ويقول: إيمانه ثبت له بيقين فلا نخرجه منه إلا بيقين، أما من عرف الحقَّ وعاندَه وحادَ عنه فكافرٌ ملعون كإبليس، وإلا من الذي يسلم من الخطأ في الأصول والفروع؟ !
ويقول في كبار المتكلِّمين والحكماء: هؤلاء ما عرفوا الإسلام ولا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
ويقول في كثير من أحوال المشايخ: إنها شيطانيةٌ أو نفسانية، فيُنظر في متابعة الشيخ الكتاب والسنة، وفي شمائله وتألُّهه وعلمه، فإن كان كذلك فحاله صحيح وكشفه رحماني، وبعضهم له رئيٌّ من الجن فيخبر بالمغيَّبات ليُغوِيَه، وله في ذلك تصانيف عديدة، وعنده في ذلك حكايات عن هذا الضرب وهذا الضرب، لو جُمع لبلغت مجلدات، وهي من أعجب العجب.
(1)
(ط): «الزركرة» خطأ. والزوكرة هي: التلبيس والخداع، وقد استعملها الذهبي في «السير»:(14/ 314، 21/ 193)، وابن القيم في «طريق الهجرتين»:(2/ 889) وغيرهما. وجاء في كلام لسان الدِّين ابن الخطيب «الزواكرة» ففسرها المقري في «نفح الطيب» : (6/ 12) قال: «الزواكرة لفظ يستعمله المغاربة، ومعناه عندهم المتلبس الذي يظهر النسك والعبادة ويبطن الفسق والفساد» . وانظر «تاج العروس» : (6/ 468)، و «تكملة المعاجم»:(5/ 342).
ولقد عُوفي من الصَّرْع الجنيّ غيرُ واحدٍ بمجرَّد تهديده للجنّي، وجرت له في ذلك ألوانٌ وفصولٌ، ولم يفعل أكثر من أن يتلو آيات، ويقول: إن لم تنقطع عن هذا المصروع أو المصروعة وإلا عملنا معك حكم الشرع، وإلا عملنا معك ما يُرضي الله ورسوله.
وقد سمعتُ منه «جزء ابن عرفة» مراتٍ، وخرّج له المحدِّث أمين الدِّين الواني أربعين حديثًا عن أربعين شيخًا
(1)
.
وقد حجَّ سنة إحدى وتسعين، وقرأ بنفسه
(2)
الكثير من الحديث؛ وقرأ «الغيلانيات»
(3)
في مجلسٍ، ومن مسموعه «معجم الطبراني الأكبر» سمعه من البرهان الدَّرَجي
(4)
بإجازته من أبي جعفر الصيدلاني وغيره.
ثم ظفروا له بمسألة السفر لزيارة قبور النبيين، وأن السفر وشدَّ الرِّحال لذلك منهيٌ عنه؛ لقوله عليه السلام:«لا تُشَدّ الرِّحال إلا إلى ثلاثةِ مساجد»
(5)
مع اعترافه بأن الزيارة بلا شدِّ رحلٍ قُرْبة، فشنَّعوا عليه بها
(1)
مطبوعة ضمن «مجموع الفتاوى» : (8/ 76 - 121).
(2)
في الطبعتين: «لنفسه» . في «مختصر علماء الحديث ــ من كتابنا» (ص 293) كما في الأصل الخطي.
(3)
هي أحد عشر جزءًا مسموعة لأبي طالب محمد بن محمد بن غيلان (ت 440) من حديث أبي بكر محمد بن عبد الله الشافعي (ت 354) من تخريج الدارقطني (ت 385).
(4)
إبراهيم بن إسماعيل أبو إسحاق الدمشقي الحنفي المسند (ت 681). ترجمته في «تاريخ الإسلام» : (51/ 68)، و «البداية والنهاية»:(17/ 586)، و «الجواهر المضية»:(1/ 394).
(5)
أخرجه البخاري (1189)، ومسلم (1397) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
واستفتوا
(1)
عليه، وكتب فيها جماعة بأنه يلزم من منعه شائبة تنقّصٍ للنبوة؛ فيَكفر بذلك، وأفتى عِدَّة بأنه مخطئٌ في ذلك خطأ المجتهدين المغفور لهم، ووافقه جماعة، وكبرت القضية؛ وأُعيد إلى قاعةٍ بالقلعة فبقي بها بضعة وعشرين شهرًا.
وآل الأمر إلى أن مُنع من الكتابة والمطالعة، وما تركوا عنده كراسًا ولا دواةً، وبقي أشهرًا على ذلك؛ فأقبل على التلاوة، وبقي يختم في ثلاثٍ وأكثر، ويتهجَّد ويعبد ربه، حتى أتاه اليقين.
وفَرحتُ له بهذه الخاتمة؛ فإنه كان لا لذَّة عنده توازي كتابة العلم وتأليفه فمنع أطيب غاية
(2)
ــ رحمه الله ــ فلم يفجأ الناس إلا نعيُه، وما علموا بمرضه، فتأسَّف الخلقُ عليه، ودخل إليه أقاربه وخواصّه، وازدحم الخلق على باب القلعة وبالجامع، حتى بقي مثل صلاة الجمعة سواء أو أرجح، فصلى عليه بالقلعة ابن تمَّام
(3)
، وبالجامع الأموي الخطيب، وبظاهر البلد أخوه زين الدين، وكان الجَمْع وافرًا إلى الغاية، شيّعه الخلقُ من أربعةِ أبوابِ البلد، وحُمِل على الرؤوس، وحُزِرَ الخلقُ بستين ألفًا، والنساء اللاتي على الطريق بخمسة عشر ألفًا، وكَثُر البكاءُ والتأسُّف عليه، ودُفِن بمقابر الصوفية إلى جانب أخيه الإمام شرف الدِّين عبد الله.
(1)
(ش): «واستعتوا» ، و (م):«استعدوا» والمثبت من (ظ).
(2)
في (ظ)«عواية» ، ولعله ما أثبت.
(3)
هو: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن تمام التلّي الحنبلي، العالم الصالح القدوة، (ت 741). ترجمته في «المعجم المختص»:(ص 215)، و «ذيل طبقات الحنابلة»:(5/ 99 - 100).
وانتاب الناسُ زيارةَ قبره، ورُئيت له عدة مناماتٍ حسنة، ورثاه جماعة، وكانت وفاته في جوف ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، غفر الله له آمين، وعاش سبعًا وستين سنة وأشهرًا.
وكان أسود الرأس، قليل شيب اللحية، رَبْعةً من الرِّجال، جهوري الصوت، أبيض، أعْين، مقتصدًا في لباسه وعمامته، يقصّ شعره دائمًا، وكان لم يتغير عليه شيء من حواسِّه إلا أن عينه الواحدة نقص نورُها قليلًا.
رحمه الله ورضي عنه، ورضي عنَّا ببركته
(1)
، وغفر لنا بمنّه وكرمه، آمين.
* * * *
(1)
هذا من التبرك الممنوع، ولعله من كاتب النسخة.
ذيل تاريخ الإسلام
(1)
ابن تَيْميَّة
الشَّيخ، الإمام، العالم، المُفسر، الفقيه، المُجتهد، الحافظ، المحدِّث، شيخ الإسلام، نادرة العصر، ذو التَّصانيف الباهرة والذكاء المفرط، تقي الدين، أبو العَبَّاس، أحمد، ابن العالم المفتي شهاب الدِّين عبد الحليم، ابن الإمام شيخ الإسلام مجد الدِّين أبي البركات عبد السَّلام مؤلف «الأحكام» ، ابن عبد الله بن أبي القاسم الحَرَّاني، ابن تَيْميَّة، وهو لقب لجده الأعلى.
مولده في عاشر ربيع الأوَّل، سنة إحدى وستين وست مئة بحرَّان، وتحول به أبوه وأقاربه إلى دمشق في سنة سبع وستين عند جور التَّتار؛ منهزمين في الليل؛ يجرون الذرية والكتب على عجلة؛ فإنَّ العدو ما تركوا في البلد دواب سوى بقر الحرث، وكلَّت البقر من ثقل العجلة، ووقف الفران
(2)
، وخافوا من أن يدركهم العدو، ولجأوا إلى الله، فسارت البقر بالعجلة، ولطف الله تعالى، حتَّى انحازوا إلى حد الإسلام.
فسمع من: ابن عبد الدَّائم، وابن أبي اليُسر، والكمال ابن عبد، وابن أبي الخير، وابن الصيرفي، والشَّيخ شمس الدين، والقاسم الإربلي، وابن علان، وخلق كثير، وأكثر وبالغ.
وقرأ بنفسه على جماعة وانتخب، ونسخ عدة أجزاء، و «سنن أبي داود» ،
(1)
. منه نسختان؛ الأولى بجامعة ليدن بهولندا برقم 320؛ والأخرى بمكتبة تشستربيتي بأيرلندا، ومنها صورة بجامعة الإمام برقم (4100). ويقال: هو ذيل للسِّيَر.
(2)
. كذا في نسخة ليدن، وفي نسخة تشستربيتي غير واضحة.
ونظر في الرجال والعلل. وصار من أئمة النقد، ومن علماء الأثر، مع التدين والنبالة، والذكر، والصيانة.
ثمَّ أقبل على الفقه ودقائقه وقواعده وحججه، والإجماع والاختلاف؛ حتَّى كان يقضى منه العجب إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف، ثمَّ يستدل ويرجح ويجتهد، وحُقَّ له ذلك، فإنَّ شروط الاجتهاد كانت قد اجتمعت فيه؛ فإنني ما رأيت أحدًا أسرع انتزاعًا للآيات الدالة على المسألة الَّتي يوردها منه، ولا أشد استحضارًا لمتون الأحاديث، وعزوها إلى الصحيح أو إلى المسند، أو إلى السنن منه؛ كأن الكتاب والسنن نصب عينيه، وعلى طرف لسانه، بعبارة رشيقة، وعين مفتوحة، وإفحام للمخالف. وكان آية من آيات الله تعالى في التفسير، والتوسع فيه، لعله يبقى في تفسير الآية المجلس والمجلسين.
وأما أصول الديانة، ومعرفتها، ومعرفة أحوال الخوارج والروافض والمعتزلة وأنواع المبتدعة؛ فكان لا يُشق فيه غباره، ولا يلحق شأوه.
هذا مع ما كَانَ عليه من الكرم الَّذي لم أشاهد مثله قط، والشجاعة المفرطة الَّتي يضرب بها المثل، والفراغ عن ملاذِّ النفس من اللباس الجميل، والمأكل الطيب، والراحة الدنيوية.
ولقد سارت بتصانيفه الركبان في فنونٍ من العلم وألوان، لعلَّ تواليفه وفتاويه في الأصول، والفروع، والزهد، والتفسير، والتوكل، والإخلاص، وغير ذلك تبلغ ثلاث مئة مجلد، لا بل أكثر.
وكان قوَّالًا بالحق، نهَّاءً عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، ذا سطوة وإقدام، وعدم مداراة الأغيار. ومن خالطه وعرفه؛ قد ينسبني إلى التقصير في
وصفه، ومن نابذه وخالفه؛ ينسبني إلى التغالي فيه، وليس الأمر كذلك. مع أنني لا أعتقد فيه العصمة، كلا! فإنه مع سعة علمه، وفرط شجاعته، وسيلان ذهنه، وتعظيمه لحرمات الدين، بشرٌ من البشر، تعتريه حدة في البحث، وغضب وشظف للخصم؛ تزرع له عداوة في النفوس، ونفورًا عنه.
وإلا والله فلو لاطف الخصوم، ورفق بهم، ولزم المجاملة وحسن المكالمة؛ لكان كلمة إجماعٍ؛ فإنَّ كبارهم وأئمتهم خاضعون لعلومه وفقهه، معترفون بشفوفه وذكائه، مقرّون بندور خطئه.
لست أعني بعض العلماء الَّذين شعارهم وهجِّيراهم الاستخفاف به، والازدراء بفضله، والمقت له، حتَّى استجهلوه وكفّروه ونالوا منه، من غير أن ينظروا في تصانيفه، ولا فهموا كلامه، ولا لهم حظ تام من التوسع في المعارف، والعالم منهم قد ينصفه ويرد عليه بعلم.
وطريق العقل السكوت عما شجر بين الأقران ــ رحم الله الجميع ــ.
وأنا أقلّ من أن ينبّه على قدره كلمي، أو أن يوضح نبأه قلمي؛ فأصحابه وأعداؤه خاضعون لعلمه، مقرّون بسرعة فهمه، وأنَّه بحر لا ساحل له، وكنز لا نظير له، وأن جُوده حاتمي، وشجاعته خالدية.
ولكن قد يَنْقِمون عليه أخلاقًا وأفعالًا؛ منصفُهم فيها مأجور، ومقتصدهم فيها معذور، وظالمهم فيها مأزور، وغاليهم مغرور، وإلى الله ترجع الأمور. وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك، والكمال للرسل، والحجة في الإجماع. فرحم الله امرأً تكلم في العلماء بعلم، أو صمت بحلم، وأمعن في مضايق أقاويلهم بتؤدة وفهم، ثمَّ استغفر لهم، ووسَّع نطاق المعذرة، وإلّا؛ فهو لا يدري، ولا يدري أنَّه لا يدري.
وإن أنت عذرت كبار الأئمة في معضلاتهم، ولا تعذر ابن تَيْميَّة في مفرداته؛ فقد أقررت على نفسك بالهوى وعدم الإنصاف!
وإن قلت: لا أعذره، لأنَّه كافر، عدو الله تعالى ورسوله! قال لك خلقٌ من أهل العلم والدين: ما علمناه والله إلَّا مؤمنًا محافظًا على الصلاة، والوضوء، وصوم رمضان، معظمًا للشريعة ظاهرًا وباطنًا. لا يؤتى من سوء فهم، بل له الذكاء المفرط، ولا من قلة علم، فإنه بحر زخَّار، بصير بالكتاب والسنة، عديم النظير في ذلك. ولا هو بمتلاعب بالدين؛ فلو كَانَ كذلك؛ لكان أسرع شيء إلى مداهنة خصومه، وموافقتهم، ومنافقتهم.
ولا هو يتفرد بمسائل بالتشهي، ولا يفتي بما اتفق، بل مسائله المفردة يحتج لها بالقرآن أو بالحديث أو بالقياس، ويبرهنها ويناظر عليها، وينقل فيها الخلاف، ويطيل البحث؛ أُسوةَ مَنْ تقدمه من الأئمة، فإن كَانَ قد أخطأ فيها؛ فله أجر المجتهد من العلماء، وإن كَانَ قد أصاب؛ فله أجران.
وإنَّما الذم والمقت لأحد رجلين: رجل أفتى في مسألة بالهوى ولم يُبْدِ حجة، ورجل تكلم في مسألة بلا خميرةٍ من علم ولا توسُّعٍ في نقل؛ فنعوذ بالله من الهوى والجهل.
ولا ريب أنَّه لا اعتبار بذم أعداء العالم؛ فإنَّ الهوى والغضب يحملهم على عدم الإنصاف والقيام عليه. ولا اعتبار بمدح خواصه والغلاة فيه؛ فإنَّ الحب يحملهم على تغطية هناته، بل قد يعدوها محاسن. وإنما العبرة بأهل الورع والتقوى من الطرفين، الَّذين يتكلمون بالقسط، ويقومون لله ولو على أنفسهم وآبائهم.
فهذا الرَّجل لا أرجو على ما قلته فيه دنيا ولا مالًا ولا جاهًا بوجه أصلًا،
مع خبرتي التامة به، ولكن لا يسعني في ديني ولا عقلي أن أكتم محاسنه، وأدفن فضائله، وأبرز ذنوبًا له مغفورة في سعة كرم الله تعالى وصفحه، مغمورة في بحر علمه وجوده، فاللهُ يغفر له، ويرضى عنه، ويرحمنا إذا صرنا إلى ما صار إليه.
مع أني مخالفٌ له في مسائل أصلية وفرعية، قد أبديت آنفًا أنَّ خطأه فيها مغفور، بل قد يثيبه الله تعالى فيها على حسن قصده، وبذل وسعه، والله الموعد. مع أنِّي قد أوذيت لكلامي فيه من أصحابه وأضداده؛ فحسبي الله!
وكان الشَّيخ أبيض، أسود الرأس واللحية، قليل الشيب، شعره إلى شحمة أذنيه، كأن عينيه لسانان ناطقان، رَبْعَة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جهْوَري الصوت، فصيحًا، سريع القراءة. تعتريه حِدَّة، ثمَّ يقهرها بحلم وصفح، وإليه كان المنتهى في فرط الشجاعة، والسماحة، وقوة الذكاء. ولم أرَ مثله في ابتهاله واستغاثته بالله تعالى، وكثرة توجهه. وقد تعبت بين الفريقين: فأنا عند محبه مُقصِّر، وعند عدوه مُسرف مُكثر، كلا والله!
توفي ابن تَيْميَّة إلى رحمة الله تعالى معتقلًا بقلعة دمشق، بقاعةٍ بها، بعد مرضٍ جدَّ أيامًا، في ليلة الاثنين، العشرين من ذي القَعْدة، سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
وصُلِّي عليه بجامع دمشق عقيب الظهر، وامتلأ الجامع بالمصلين كهيئة يوم الجمعة، حتَّى طلع الناس لتشييعه من أربعة أبواب البلد، وأقلُّ ما قيل في عدد من شهده خمسون ألفًا، وقيل أكثر من ذلك، وحُمل على الرؤوس إلى مقابر الصوفية، ودفن إلى جانب أخيه الإمام شرف الدين، رحمهما الله تعالى وإيانا والمسلمين.
معجم الشيوخ
(1)
ابن تَيْميَّة
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن عبد الله بن أبي القاسم ابن تَيْميَّة، شيخنا الإمام تقيّ الدِّين أبو العَبَّاس الحَرَّاني. فريد العصر عِلمًا ومعرفةً وذكاءً وحفظًا وكرمًا وزهدًا، وفرطَ شجاعةٍ وكثرةَ تآليف والله يصلحه ويسدِّده، فلسنا بحمد الله ممن نَغْلُو فيه، ولا نجفو عنه، ما رُئي كاملًا أئمةُ التَّابعين وتابعيهم، فما رأيته إلّا ببطن كتاب.
ولد شيخنا في عاشر ربيع الأوَّل سنة إحدى وستين وست مئة بحرَّان، وتحوَّلوا إلى دمشق سنة سبعٍ وستين. فسمع من ابن عبد الدَّائم وابن أبي اليُسر، وخلق كثير، وعُني بالرِّواية، وسمع الكتب و «المسند» و «المعجم الكبير» . سمعت جُملةً من مصنفاته، وجزء ابن عَرَفة، وغير ذلك.
وكانت وفاته في العشرين من شهر ذي القَعْدة، سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مئة، مسجونًا بقاعة من قلعة دمشق، وشيَّعه أُممٌ لا يُحصون إلى مقبرة الصوفية، ولم يخلف بعده مثله في العلم، ولا من يُقاربه.
* * * *
(1)
. (1/ 56 - 57)، تحقيق د/ محمد الهيلة، نشر مكتبة الصديق، بالطائف، الطبعة الأولى 1408.
تذكرة الحفَّاظ
(1)
ابن تَيْميَّة
الشيخُ الإمام العلّامةُ الحافظُ الناقد المجتهدُ المفسّرُ البارعُ شيخ الإسلام، عَلَم الزُّهَّاد، نادرةُ العصر، تقي الدِّين أبو العَبَّاس أحمد ابن المفتي شهاب الدِّين عبد الحليم ابن الإمام المجتهد شيخ الإسلام مجد الدِّين عبد السَّلام بن عبد الله بن أبي القاسم الحَرَّاني. أحدُ الأعلام.
وُلد في ربيع الأوَّل سنة إحدى وستين وست مئة، وقدم مع أهله سنة سبع، فسمع من ابن عبد الدَّائم، وابن أبي اليُسر، والكمال بن عبد، وابن الصيْرَفي، وابن أبي الخير، وخلق كثير. وعُني بالحديث، ونَسَخَ الأجزاء، ودار على الشّيوخ، وخَرَّجَ، وانتقى، وبرع في الرجالِ وعِلل الحديث وفقهه، وفي علوم الإسلام وعلم الكلام وغير ذلك.
وكان من بحور العلم، ومن الأذكياء المعدودين، والزُّهاد الأفراد، والشُّجعان الكبار، والكرماء الأجواد. أثنى عليه الموافِقُ والمخُالِفُ، وسارت بتصانيفه الركبان، لعلّها ثلاث مئة مجلد.
حدَّث بدمشق، ومصر، والثغر. وقد امتُحن وأُوذِيَ مرّات، وحُبس بقلعة مصر والقاهرة والإسكندرية، وبقلعة دمشق مرّتيْن. وبها توفي في العشرين من ذي القَعْدة سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مئة، في قاعة، معتقلًا. ثمَّ جُهِّز وأُخرج إلى جامع البلد، فشهده أُمم لا يُحْصَوْن، فحُزروا بستين ألفًا. ودُفن إلى جنب
(1)
. 4/ 1496 - 1498، نشر دائرة المعارف العثمانية، تحقيق العلَّامة المعلمي.
أخيه الإمام شرف الدِّين عبد الله، بمقابر الصّوفية، رحمهما الله تعالى.
ورُئيت له منامات حسنة، ورُثي بعدة قصائد. وقد انفرد بفتاوى نيل من عرضه لأجلها، وهي مغمورة في بحر علمه. فالله تعالى يُسامحه ويرضى عنه. فما رَأيتُ مثله. وكل أحدٍ من الأُمّةِ فيؤخذ من قوله ويتُرك. فكان ماذا؟ !
أخبرنا أحمد بن عبد الحليم الحافظ غير مرَّة، ومحمَّد بن أحمد بن عثمان، وابن فَرح، وابن أبي الفتح، وخلق قالوا: أنا أحمد بن عبد الدَّائم، أنا عبد المنعم بن كُليب.
ح وأنبأنا أحمد بن سلامة عن ابن كليب، أنا علي بن بيان، أنا محمد بن محمَّد، أنا إسماعيل ابن الصّفَار، ثنا الحسن بن عَرَفة، ثنا خلف بن خليفة، عن حميد الأعرج، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال لي رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّك لَتَنْظُرُ إلى الطّيْرِ فِي الجَنَّةِ فَتَشْتَهِيه، فَيَخِرُّ بين يَدَيْك مشويًّا» .
* * * *
ذيل العبر
(1)
قال في وفيات 728:
ومات بقلعة دمشق ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة: شيخ الإسلام تقيّ الدِّين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن عبد الله ابن تَيْميَّة الحَرَّاني معتقلًا. ومُنع قبل وفاته بخمسة أشهر من الدَّواة والورق. ومولده في عاشر ربيع الأوَّل يوم الاثنينِ سنة إحدى وستين وستّ مئة بحرّان. سمع من ابن عبد الدائم، وابن أبي اليُسر، وعدة. وبرع في التفسير، والحديث، والاختلاف، والأصليْن، وكان يتوقّد ذكاء.
ومصنفاتُه أكثر من مائتي مجلّد. وله مسائل غريبة، نيل من عرضه لأجلها. وكان رأْسًا في الكرم والشجاعة، قانعًا باليسير، شيّعه نحوٌ من خمسين ألفًا وحُمل على الرؤوس '.
* * * *
دول الإسلام
(2)
وفي ذي القعدة (سنة ثمان وعشرين وسبعماية) توفي بالقلعة شيخ الإسلام تقي الدِّين أحمد بن عبد الحليم ابن تَيْميَّة الحَرَّاني، عن سبع وستين سنة وأشهر، وشيّعه خلقٌ أقل ما حُزروا بستين ألفًا، ولم يخلف بعده من يُقَاربُه في العلم والفضل.
(1)
. (ص 84) نشر دار الكتب العلمية، بيروت 1405.
(2)
. (2/ 237)، تحقيق فهيم شلتوت، ومحمد مصطفى، نشر إدارة إحياء التراث بقطر (1394).
الإعلام بوفيات الأعلام
(1)
وشيخ الوقت تقي الدِّين ابن تيمية في ذي القعدة (سنة 728).
* * * *
المُعِيْن في طبقات المحدِّثين
(2)
(ذكره في الطبقة الأخيرة) فقال:
- الحافظ العلَّامة القُدوة، شيخ الإسلام، تقيّ الدين، أحمد بن الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيميَّة الحرَّاني.
* * * *
ذِكْر مَنْ يُعْتَمد قولُه في الجرح والتعديل
(3)
(ذكره في الطبقة الثانية والعشرين) فقال:
- والحافظ العَلَم، شيخ الإسلام، تقيّ الدين، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الحرَّاني، ابنُ تيميَّة.
* * * *
(1)
. (ص 308)، تحقيق رياض عبد الحميد مراد وعبد الجبار زكار، ط. دار الفكر بدمشق (1412).
(2)
. (ص 322)، دار الصحوة (1407).
(3)
. (ص 72)، تحقيق عبد الفتاح أبو غُدَّة.
المُعْجَمُ المُخْتَصُّ
(1)
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن عبد الله بن أبي القاسم ابن تَيْميَّة، الإمام العلَّامة الحافظ الحُجَّة فريد العصْر بَحْر العلوم تقيّ الدِّين أبو العَبَّاس الحَرَّاني ثمَّ الدِّمشْقي.
وُلد بحرَّان في ربيع الأوَّل سنة إحدى وستين وستمائة.
وقدم دمشق مع والدِهِ المُفْتِي شهاب الدّين، فسمع ابن عبد الدَّائم، وابن أبي اليُسْر، والمجْد بن عساكر، وأكثَرَ عن أصحاب حنبل وابن طبرزد ومَنْ بَعدَهم، ونسخ وقرأ وانتقى، وبرع في علوم الآثار والسُّنَنِ، ودَرَّس وأفْتَى وفسَّر وصَنَّف التَّصانيف البديعة وانفَرَد بمسائل فَنِيلَ من عِرْضِه لأجْلِها، وهو بَشَرٌ له ذُنوبٌ وخطأٌ ومع هذا فوالله ما مَقَلتْ عيني مِثْلَه ولا رأى هو مِثْل نَفْسه. كان إمامًا مُتبَحرًا في علوم الديانة صحيحَ الذّهْن، سريع الإدراك، سَيَّال الفَهْم، كثير المحاسن، موصوفًا بفَرْط الشجاعة والكرم، فارغًا عن شهوات المأكل والملْبَس والجِماع، لا لذَّة له في غير نَشْر العلم وتدْوِينِه والعَمَل بمُقْتَضاه.
ذكره أبو الفتح اليَعْمَري في «جواب سؤالات أبي العَبَّاس ابن الدمياطي الحافظ» فقال: «ألْفَيتُهُ ممن أدْرك من العلوم حَظًّا، وكادَ يَسْتوعِبُ السُّنَن والآثار حِفظًا، إن تَكلَّم في التفسير فهو حامِلُ رايَتِه، أو أفتى في الفقه فهو مُدْرِك غَايَتِه، أو ذاكَرَ بالحديث فهو صاحب عِلْمه وذُو رِوايته، أو حاضَر بالنِّحَل والمِلَل لم يُرَ أوْسَعُ مِن نحْلتِه ولا أرفعُ من درايته، برز في كل فنّ على
(1)
. (ص 25 - 27)، تحقيق د/ محمد الهيلة، نشر مكتبة الصديق، بالطائف، الطبعة الأولى 1408.
أبناء جنسه، لم تَرَ عيني مثلَه ولا رأتْ عينُهُ مثل نَفْسِه».
قلتُ: قد سُجِن غير مرةٍ ليفْتر عن خُصومِه ويُقْصِر عن بَسْطِ لسانِه وقلَمه وهو لا يرجع ولا يَلْوي على نَاصِحٍ إلى أن توفي معتَقَلًا بقلعة دمشق في العشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة.
وشَيَّعَهُ أُمَمٌ لا يُحْصَون إلى مقبرة الصُّوفية، غَفَر الله له ورحِمَهُ، آمين.
حدّثنا أبو العَبَّاس أحمد بن عبد الحليم الحافظ سنة خمس وتسعين، وأنا أحمد بن فَرَح ومحمَّد بن أبي الفتح ومحمَّد بن عبد الوليّ ومحمَّد بن أحمد بن عثمان الإمام، وعلي بن إبراهيم وعبد الحميد بن حَسّان، وإبراهيم بن يحيى، وعلي بن محمد بن غالب، وجبريل الفقيه وعدّةٌ قالوا: أنا ابن عبد الدَّائم، أنبأنا ابن كُليب.
وأنبأني عن ابن كُليْب أحمد بن سلامة، وأحمد بن عبد السَّلام والخَضِر بن حَمُّوية أنَّ عليّ بن بيان أخبرهم قال: أنا محمد بن محمَّد، أنا إسماعيل بن محمَّد، نا ابن عَرَفة، نا المُبَارك بن سعيد الثوري عن موسى الجهني عن مصعب بن ثور عن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيُمنَعُ أحدُكُم أن يُكَبّر في دُبُرِ كلّ صَلاة عشرًا ويُسبّح عشرًا ويَحْمد عشرًا، فذلك في خَمْس صلوات خمسون ومائة بالّلسان وألفٌ وخمسمائة في الميزان، وإذا أوى إلى فِراشه كَبَّر أربعًا وثلاثين وحمِدَ ثلاثًا وثلاثين وسَبَّح ثلاثًا وثلاثين، فتلك مائة بالّلسان وألْفٌ في الميزان. ثمَّ قال: «فأيُّكم يَعْمَلُ في يوم وليلة ألْفَيْن وخمسمائة سَيّئة؟ » .
رواه النَّسائي في «اليوم والليلة» عن زكريا الخَيَّاط عن الحَسَن بن عرفة. فوقع لنا بدَلًا بعلو دَرجتَيْن.
ترجمة مختصرة نقلها ابن المهندس
(1)
قال الذهبي: وفي هذه السنة (سنة ثمان وعشرين وسبعمائة) في ليلة الاثنين العشرين
(2)
من شعبان
(3)
مات الشيخ الإمام العلامة الحافظ الزاهد القدوة، شيخ الإسلام أبو العباس أحمد ابن المفتي شهاب الدِّين عبد الحليم بن شيخ الإسلام مجد الدِّين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم ابن تيمية الحراني ثم الدمشقي= معتَقَلًا بالقلعة.
وغُسّل وكُفّن، فأُخْرِج وقد اجتمع خلق كثير بالطرق، وقد امتلأ الجامع والكلّاسة والحوانيت كيوم الجمعة أو أكثر.
وصلى عليه أوّلًا بالقلعة الشيخ محمد بن تمام، ثم بجامع دمشق بعد الظهر، واشتدّ الزّحام، وألقى الناسُ عليه مناديلَهم للتبرّك، وارتصَّ الناسُ تحت النعش، وشيّعه الخلائق في جُوّا من
(4)
أبواب البلد، ومعظمهم كان من باب الفرَج مع الجنازة. وعظُم الأمر بسوق الخيل، وتقدّم عليه في الصلاة هناك أخوه. وانتشر الناس والنسوان على
(5)
الأسطحة وإلى قِبْلي مقابر الصوفية.
(1)
نقلها ابن المهندس من خط الذهبي على ظهر نسخة خطية من رسالة «الاجتماع والافتراق في الأيمان والطلاق» محفوظة في دارة الملك عبد العزيز بالرياض، الخزانة الملكية رقم (5).
(2)
الأصل: «والعشرين» خطأ.
(3)
كذا، وفي جميع المصادر:«في ذي القعدة» .
(4)
كذا، والذي في المصادر:«من جميع» .
(5)
الأصل: «وعلى» .
فدفن إلى جانب أخيه الشيخ عبد الله.
وحزر النساء بخمسة عشر ألفًا، وأما الرجال فحزروا بستين ألفًا وأكثر إلى مائتي ألف.
وكثر البكاء حوله، وخُتمت له عدة ختم، وتردد الناسُ إلى زيارة قبره أيامًا، ورئيت له منامات صالحة، ورثاه جماعة.
وكان مولده بحرّان عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة. وطلب الحديث وقرأ الكثير.
ووجدتُ بخط الشيخ كمال الدِّين الزملكاني: أنه اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها.
وكان آية في الذكاء وسرعة الإدراك، بحرًا في النقليات، رأسًا في معرفة الكتاب والسنة، هو في زمانه فريد عصره علمًا وزهدًا وشجاعة وسخاء وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، وكثرة [تصانيف] ......
(1)
من مصنفاته. وما رأت عيناي مثله ولا رأى مثل نفسه. وكان ....
رحمه الله ورضي عنه.
نقله
(2)
من خط مصنفه: أحمد بن المهندس المقدسي عفا الله عنه بمنه.
* * * *
(1)
هنا وفي الموضع الثاني عدة كلمات في طرف الورقة غير واضحة.
(2)
مطموس بعض الكلمة، ولعله ما أثبت.
[ق 191] رسالة أرسلها الشيخ قِوام الدِّين عبد الله بن حامد الشافعي من العراق إلى القاضي زين الدِّين ابن سعد الدِّين سعد الله ابن بُخَيْخٍ
(1)
الحراني الحنبلي بالشام المحروس
رحمهم الله تعالى
(2)
هذه نسخةُ رسالةٍ أرسلها الشيخ قوام الدِّين عبد الله بن حامد الشافعي من العراق إلى القاضي زين الدِّين ابن سعد الدِّين سعدِ الله بن بُخَيْخ الحراني الحنبلي بالشام المحروس. فقال:
بسم الله الرحمن الرحيم
قل الحمد لله وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته، وأدام الله تعالى تمكين الحضرة العليّة المولوية العالمية الفاضلية الكامليّة الحاكمية العادلية الأورعيّة الأنزهيّة الربّانية، وأعلى جدّها وأدام ظِلَّها وحَرَس مجدَها، ولا زال جنابها المنيعُ ومجلسُها الرفيعُ قرارَةَ الإيثار والإفضال، ومعدنَ الفضائل، ودارةَ أقمار
(3)
الآمال، ومستقرَّ النّائل، وموطنَ حطّ الرحال المُمَدّ باليُمن والإقبال لرفادة الآمل وإفادة السائل.
ولا برحَ الإسلام وأهل الإسلام راقيًا أعلى ذروة الارتقاء بإمداد العزة
(1)
في الأصل: «نجيحٍ» وهو خطأ، وانظر ضبطه في «توضيح المشتبه»:(2/ 369).
(2)
ولعبد الله بن حامد رسالة أخرى أرسلها لابن رشيق في الثناء على شيخ الإسلام انظرها في كتابنا هذا (ص 285).
(3)
رسمها في الأصل: «اقتمار» .
القعساء والحضرة العلياء من دوام الشّرف والبقاء، ومزيدٌ للرفعة
(1)
والعلاء والبهجة والضياء، ففي ذلك رفعُ المُعاضد وقمع المُعاند، وكيد الأعداء الملحدين، وشدّ اعتلاءِ دعائم الدين، فهو سبحانه سميعُ النداء مُجيب الدعاء.
أما الأشواق إلى مكارم تلك الأخلاق، التي ملأ نشرُها الآفاق، فضلًا عن قُطر العراق؛ فتضيق عن وصف أيسرها العبارةُ، فكيف تُطيق التعبيرَ عن أكثرها الإشارةُ!
والصادرون عن مورد الحضرة [ق 192] العلية الطاهرة الزكية وإن أطنبوا في الوصف فمقصّرون، أو أسهبوا في النعت فمختصرون، ومن الذي يُحصي رمالَ الدهناء أو يعدُّ نجومَ السماء؟ !
وإنما الصادرُ مع عجزه عن العدّ والإحصاء، فغايةُ جهد المقلّ أنه لا يزال رَطْب اللسان بتوفير الثناء، ريّان الجنان بتكثير الولاء، لَهِجًا بنشر المحاسن والإحسان، بهِجًا بمُعاينة عيون الفوائد الملتقطة من تيَّار الفصاحة والبيان، المزرية بعيون فرائد الدُّرر والعِقْيان، المتنافس في أمثالها لِنفاسة القيم والأثمان، فمُلازم المجلس الشريف بفنون
(2)
الفوائد يُتْحَف فيُسْعَد، والمُقْصى عن المستقرّ المنيف مغبون متباعِد كالمُخلَّف المُقْعَد، فياليت السعادة ألمَّت بهذا المتمني المشتاق، فغسلت درن الفراق، وزحزحت شقاء الأشواق بجلسة ساعات التلاق.
(1)
كذا في الأصل، والأنسب:«ومزيدِ الرفعةِ» .
(2)
الأصل: «الفنون» ولعلها ما أثبت.
فإن قيَّض الله سبحانه ذلك على العواقب المحمودة السارَّة والاختيارات المقصودة القارّة، ليلتقط من تلك الفوائد التي هي أنفسُ الفرائد قدرًا وثمنًا، وتَحْتَقِب من تلك الفوائد التي ما بمستفيدٍ عنها غِنى، كان ذلك غاية الغِنى ونهاية المُنى هنا، والله سبحانه على ذلك قدير، ولم يزل بالإجابة جديرًا قَمِنًا.
ثم إنّ الحبَّ في الله من أوثق عُرى الإيمان، ومن أقرب ما يتقرَّب به المتقرِّبون إلى الرحمن، كما قد ثبت ذلك عن أشرف الخلق وصفوة الحق. وهذا النمط وإن كان قد عزَّ في هذه الأعصار، وخَلَت من أهله أكثر القيعان والديار، لكن في الأمة بحمد الله تعالى بقايا، وكما يقال: وفي الزوايا خبايا.
والمحبَّةُ قد تحصل بالخَبَر والسّماع، وليس من شرطها الرؤية والاجتماع، بل معظمها لا يوجد إلا بواسطة التسامع والأخبار، ويتأكَّد بتواتر حُسْن المآثر ومُعاينة الآثار، وليست الأعين تعاين جميع الأعيان المحبوبة، وكيف وهي عن الملك الديّان الآن محجوبة، ثم الملائكة والرسل الكرام على الكلِّ منهم أفضل الصلاة والسلام، وأتباع الرسل من لدن آدم وهلمّ جرًّا إلى هذه الأيام، لهم في القلوب الحبّ الشديد ما لا يحتاج معه إلى شرح أو تعديد.
وإذا كانت المحبَّة ليست الرؤية فيها شرطًا، ولا ينتقصُ عدمها منها قسطًا، فلا غَرْو إذا ادّعى مدّعٍ محبةً في الله ــ إن شاء الله ــ لبعض أولياء الله، وإن لم تَجْمع بينهما المزاورة، ولا انتظمتهما الأيام في سلك المحاورة. لكن مُوجبها نقل المكارم التي تقل في هذا العصر إلا في الأفراد، ولا تكاد توجد فيه إلا في الآحاد.
وإذا أحسّت الأسماعُ ببعض الأفذاذ في بعض البقاع هشَّت النفوسُ إلى لقائه، وتَبشْبَشت القلوبُ طمعًا في ودِّه وإخائه.
ولم تزل مآثر الحضرة العلية ومفاخر السُّدّة
(1)
الأوحديّة يضوع عَرْفُها في الآفاق، وتَفِدُ بها الوفود
(2)
إلى العراق، حتى استجاب القلب لداعي تلك المآثر، وعَقَد عليها الخناصر [ق 193]، وصار في إنهاء ذلك الودِّ الراسخ إلى الحضرة العُلْيا متردِّدًا كالمقدّم فيه رِجْلًا والمؤخّر أخرى، إلى أن استخار الله سبحانه في هذا الإنهاء مجتهدًا، حتى ترجَّح له أن إحاطة العلوم المولوية بهذا المعنى أولى وأحرى، واستقرَّ في النفس أن تأخير هذا الأمر بعد تعرُّف القلوب ضربٌ من الجفاء أو إضراب عما جاء في السنة الغرَّاء:«إذا أحبّ أحدُكم أخاه فليُعْلِمه»
(3)
، كما من السنة: أن من له جارٌ فليكرمه
(4)
.
وأما ما يُحاذَرُ في هذا من النسبة إلى سوء الأدب، لِمَ تهَجَّمَ ببداءة المكاتبة قبل الملاقاة والمصاحبة؟ فهذا مع كونه لا أصل له فهو يُفضي إلى المقاطعات وسدِّ باب المؤاخاة، بل كما أن إفشاء السلام مشروع عند الملاقاة، فقد يُعْتاض عن ذلك بالمكاتبات في الغيبات، وهذا هو عين الواقع،
(1)
الأصل: «الشذه» .
(2)
الأصل: «الفود» .
(3)
أخرجه أحمد (1717)، والترمذي (2392)، وابن حبان (570) وغيرهم من حديث المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه. قال الترمذي:«حسن صحيح غريب» ، وصححه ابن حبان والحاكم. وله شواهد.
(4)
يعني حديث «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره
…
» أخرجه البخاري (6019)، ومسلم (48) من حديث أبي شريح رضي الله عنه.
وما في هذا من منازع.
ثم إن المشتاق إلى لقاء من لا يتمكّن من لقائه ليبدأه بالزيارة والسلام= مضطرٌّ إلى أن يستسعي قِمَم الأقلام
(1)
إذا أعْوَزه سَعْي الأقدام. ومتى قيل: إن في البداءة بالكتاب تكليفَ المكتوب إليه ردًّا للجواب، وليس ذلك كردِّ السلام على المُسَلِّم، إذ تلك كلمة خفيفة لا تَثْقُل على المتكلِّم، وأما المكاتبات فتقتضي أجوبةً قد يكون فيها كُلْفَة ومعاناة.
فيقال: إذا كانت المودّات صحيحات والأفئدة فسيحات ارتفعت التكليفات المستثقلات، فمن تيسّر له ردّ الجواب أنْعمَ ورَدَّ، ولا يُحْمَلُ عدم الردِّ على الإعراض والصدّ، بل أول درجات الإخاء الإعفاء عن تحمُّل الأعباء التي لا ييسرها القضاء، وحَمْل الأفعال والتروك على أحسن المحامل، والعاقل فلا يُخرِج الكمالَ عن فعل الكامل.
وأما المقدمات الرديَّة
(2)
فلازمة للأفئدة الصديّة حاشى الحضرة العليّة! ولو فُرِض أن في هذا الابتداء نوعًا من سوء الأدب، فما خلا عن شوق غَلَب، وقضاء حقٍّ قد وجب، حتى إن الغاصب لا يُلام إذا بادر مبتدئًا بردِّ المغتصَب وإن كان مسيئًا لما اغتصب، فأيّ ملامٍ على مشتاقٍ إلى أهل الحقّ والقائمين به بحسب الإمكان في هذا الزمان، إذا أرسل إلى حضرتهم سلامًا، وابتدأ كلامًا بلا استئذان؟
(1)
الأصل: «الإقدام» تحريف.
(2)
الأصل: «الرذية» .
غير
(1)
أنّ أهل الحقّ قد قلّوا، والطالبُ لهم قلّ بقلَّتهم، ومن وُجِد منهم يُغْتَنَم لقاؤه ويُطْلب إخاؤه، فإن عزّ اللقاء فالدعاء في ظهر الغيب، وانطواء الباطن على موالاتهم ومصافاتهم، ليعلم الله تعالى الإخلاص في موالاة أوليائه المعاصرين، أُسوةً بموالاة السلف الماضين الغابرين.
والمسؤول من الله تعالى أن يُكْثر عِداد الأولياء الأمجاد أهل الجدِّ والاجتهاد، وأصحاب المكافحة والجهاد، المحبين للحق، الناصحين للخلق، الصابرين على أذى الناس، المنتظمين في سلك الحازمين الأكياس.
ولقد منّ الله ــ سبحانه ــ على أهل هذا [ق 194] العصر بنعمةٍ عظيمة ما قَدَر أكثرُهم قَدْرَها، ولا قاموا لله بشكرها، أقامَ لهم عالمًا على رأس هذه المائة وأيّ عالم
(2)
! غالبُ الظنّ أنّ أهل العلم ما عرفوه وحاش لله أن يعرفوه حقيقةَ المعرفة ويَقْلوه.
وهذا المسكين كاتب هذه الأسطر لم يقف على كلامه، ولم يعرف حاله إلّا قُرْبَ اعتقاله، وليت كان قبل ذلك بمدَّة طويلة، وأيّ حيلةٍ بعد فوتِ الحيلة، ولكن في الله الخَلَف، وفي بقائكم السلوان عمن سَلف.
ولما وصل إلى هنا بعضُ مصنّفاته، ووقف على أصول مقالاته، واعتبر قواعدَ تأسيساته في بحوثه ومُناظراته= رأى والله شيئًا بَهَره، وشاهد أمرًا حيّره! ولا كان يعتقد أنَّ مثل هذا البحث والبيان يكون في قوة إنسان! وما
(1)
الأصل: «عن» .
(2)
يقصد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وانظر رسالته إلى أبي عبد الله بن رُشيّق في كتابنا هذا (ص 241).
أشبهه برجل موتور
(1)
يطلبُ الثأر من جميع الفِرَق المخالفة لدين الإسلام، لا يُبالي بكثرة عددهم، ولا يتزعزع أن يتابع مددهم، ولا تهوله كثرة جموعهم، ولا يُتَعْتعه تهديدهم أو تهويلهم مِن تابِعِهم أو متبوعِهم.
إن ناظر المتفلسفين قَمَعهم، وإن عارض
(2)
المتكلمين قطعَهم، وإن جارى المبتدعين بدَّدَهم، وإن كافح المُلْحدين شرّدهم، يجول في ميادين المناظرة والجدال جَوَلان الفرسان الأجلاد الأبطال، ويجري عند المقارعة والنزال فلا يُجارَى في مسابقة ولا نِضال، فهو الفارس الثائر والشجاع الفائر
(3)
، يثأر لدين الله ممن خالفه، وينتصر لكلام الله ممن أحال معناه أو حرّفه. يؤسِّس التأسيسات القويمات، ويمهّد القواعد المستقيمات، لا تُدْحَض له حجة إذا شرع في إقامة الحُجج والبراهين، ولا يعتاصُ عليه حلّ شُبهة إذا سلك المحجَّة في نصر الدين.
يسُلُّ بِدَع المبتدعين من دين المسلمين سلّ الشعرة من العجين، ويستخرج شُبَه الملحدين التي تدِقُّ في أعين الناظرين، وتعضل المناظرين، استخراجَ من جَعلَ حديدَ المغلق من أقفالها، والمقفل من إشكالها، في بنانِه وبيانِه ألينَ من الطين.
قد تقلَّد صماصمَ الأدلة العقلية، واعتقل لهاذمَ البراهين النقليّة، وامتطى
(4)
(1)
الأصل: «موثور» بالثاء.
(2)
الأصل: «أعرض» .
(3)
مطموس آخر الكلمة. فلعلها ما أثبت.
(4)
الأصل: «وامتطاء» .
جوادَ السنن النبوية، واحتمل على عاتقه الألوية المحمدية، واعتزل الألوية الغوية التي تحامي حمية وتقاتل عصبية، يُنادي بأعلى صوته: يا أهل الملة الإسلامية وأصحاب الشِّرْعة المصطفوية، وطلاب السّنة البيضاء النقيّة، من أحْرَقتْ كبدَه منكم الشبهاتُ، وأزاغتْ قلبَه التشكيكاتُ، وأزلَّت قدَمَه الفِرقُ المضلّات، وأضلَّت به في الطُرُق المُهْلكات، فإليّ إليّ، ألا هلمّوا هلمّوا، فإن عندي حلّ ما أشْكَل، وعلاج الدّاء الذي أعْضَل.
هذا دين الله الذي ما عليه غبار، فضلًا عن قتارٍ أو قَتَام. هذا دين الإسلام الممدوح بالتكملة والتمام. هذا هو الدِّين الذي دَرَج عليه السلف الكرام وأئمة الأمصار الأعلام. فإن شككتم في كلامي أو اعتقدتم
(1)
[ق 195] الفَلَّ في حسامي، فهذه الشواهد من عدول المنقول والمعقول، لا مِرية ولا فرية، ولا عَتَمة ولا قَتَمة ولا ظلام، قلِّدوا القرآنَ ولا تقلدوني، واتبعوا نَظَر العِيان إذا اتبعتموني.
ومع ذلك فالناس كحائرين أو جائرين جاحدين إلا ما شاء الله من القليل، كالواحد الواحد من الجيل.
فما لبث إلا أن ناداه داعي الله فلبّاه، فرضي الله عنه وأرضاه، ولكنه خلَّف في القلب مِنْ أسَفِ فُرْقته جمراتٍ وأيّ جمرات، وحسَرات تتبعها حسرات.
وهذا المسكين المحروم من حضرته، المفاجأ فيه بمصيبته، على قلة
(1)
مطموس بعضها.
عدد أيام معرفته، ما مثله إلا كما يقال: ما سَلّم حتى ودّع
(1)
. فهو لا يزالُ يجد الرَّوح والراحة إذا هبّت النسمات الشامية، ومرّت النفحات الدمشقية، ويتسلّى بوجود الأعيان من المصاحبين له والمعاصرين، ويشتاق الإخوان الآخذين عنه المُقلِّين والمُكثرين.
والحضرة العلية ــ ولله الحمد ــ بحرٌ خِضَمّ لا يُدْرك قرارُه، ولا ينتهي إلى ساحله من ظهر له شعاره، قد خُصَّ بالمواهب الجليلة من فنون العلوم والأعطيات الجزيلة التي يعترف بها الخصوم، وله اختصاصٌ عظيم بإمام الدنيا ــ رحمه الله ــ، ومكارمه على المستفيدين والطلبة وإحسانه إليهم يُغني شهرتُه عن الشرح، مع ما سَبَق من الإنعام وتعديد الفضائل والتفضُّلات الموجبة لرسوخ الوداد، مما لا يتسع له كتاب. فجزاكم الله عن الإسلام والمسلمين أفضل الجزاء، وجزاؤه لا يعادله شيءٌ من الأشياء.
وأما ما ذكره
(2)
من حال إمام الدنيا ــ رحمه الله وفسح في مُدَّتكم ــ فما هي إلا قطرة من بحرٍ ينطوي عليه الباطن، والدلائل
(3)
المعرِّفة بحاله كما ينبغي شهادةُ الفطرة قبل الوقوف على بحوثه الأصول التي أصّلها، ونفورُ الباطن جدًّا عن تحريفات النصوص التي توجد في أيدي النُظار، واحتراقُ الباطن على ما جرى في دين الإسلام من التبديل، وشدَّةُ الاعتناء بالوقوف
(1)
ومنه قول علي بن جبلة:
كابد الأهوال في زورته
…
ثم ما سلَّم حتى ودّعا
انظر «زهر الآداب» : (3/ 800).
(2)
كذا، ولعلها:«ما ذكرته» .
(3)
الأصل: «والداء» ولا معنى لها.
على كلام الفرق، ومعاينةُ الاضطراب العظيم في لوازم القواعد التي أسّسوها في أمهات المسائل.
وكانت النفس لا تسمح بالمخالفة لظواهر النصوص، ثم كبار النظَّار المتأخرين من المشاهير يميلون إلى تأويلها، والجمعُ بين تعظيمهم وتعظيم ظواهر النصوص يوقع في العناء العظيم والكرب المقيم.
وفسادُ الطرق الكلامية كانت تشهد الفطرةُ به من حيث الإجمال، والقوَّةُ وحدَها فما كانت تنهض إلى تبيين ذلك من حيث التفصيل، وكانت الفطرة لمعرفتها بصحة قواعد دين الإسلام ورسوخ أساسه، تتيقن أن وراء قواعد المتكلمين أساسات مرضية غير هذه التأسيسات الاصطلاحية، وتفتش الكتب فلا تجد شيئًا مما يقوِّيه على تغيير تلك القواعد المصطلح عليها.
ويدأب هذا المسكين ليلَه ونهارَه ليؤسِّس تأسيسات لا تنخرم
(1)
[ق 196] إذا طُبِّقت على النقليات يجد قوته لا تنهض بذلك تعبيرًا لعدم المسلك الموقف
(2)
، فما كان هناك حيلةٌ إلا الالتجاء إلى الله تعالى، والوقوف مع النصوص ظاهرًا وباطنًا، والقول بقيام الأفعال الاختيارية بصانع العالم ــ جلَّت عظمتُه ــ من حيث الإجمال، ولا كان يجد في فطرته غير هذا.
وأقوال المتكلِّمين في ذلك فمشهورة وطرقهم معروفة، ولم يزل في تعبٍ عظيم من التردّد بين تعظيم المشهورين من رؤساء أرباب النظر، وبين تعظيم
(1)
طمس بعضها.
(2)
كذا العبارة في الأصل. ولعلها: «الموفّق» .
النصوص والفِطَر، والجمعُ بين الضدَّين محالٌ. غير أن من ألطاف الله سبحانه ومواهبه العظيمة: أن الفكر ما كان يفتر عن تدبّر النصوص، وإمعان النظر في معنى الألفاظ، بحيث لا يفوت حرفٌ واحدٌ عند التلاوة من التدبّر لمعناه وطلب الهدى منه.
وكان الصدر يضيق جدًّا عن التأويل، لبعده عن الفِطر والمعروف من اللغة المتداولة بين البشر، وكان القلبُ كالموعود بقواعد صحيحة مستقيمة منقولة ومعقولة غير هذه القواعد التي وقع عليها الاصطلاح، وثِقًا بصحة دين الله، وصحة ما جاءت به الرسل عن الله، وهذا كان في الباطن كالمحقق الذي لا بدَّ من الوقوف عليه وقتًا مّا.
فلما قدّر الله تعالى ما هو شبيهٌ بالفرج بعد الشدة، من مطالعة بعض بحوث إمام الدنيا ــ رحمه الله ــ كان ذلك كضالةٍ لا تخفى على مُنشدها إذا وجدها، وعلى الخصوص إذا كانت من أعزّ ما يطلب، فوالله الذي لا إله غيره ساعةَ الوقوف على ذلك كادَ العقلُ أن يدهَش سرورًا وفرحًا. ومن يطيق أن يُعبِّر عن هذا الحال قلمٌ أو لسان؟ ! وهذا من الأمور التي لا تُعْرف إلّا بالذوق والوجدان، وإلا فلو قيل في هذا المعنى مهما قيل نُسِبَ قائله إلى التقصير أو التكثير.
ومنشد الضالة التي صاحبها خبير بها لا يحتاج واجدها إلى طول تأمل وكثرة تعب في معرفتها بعد الوجدان، فلا يُلام من أحبّ أهل بلدٍ خرج منه هذا الإمام العظيم، فضلًا عن الخصِيصِين به المُنعَّمين.
ولا ينبغي أن يُتعجَّب من إطالة هذا الكتاب وهذا الإطناب، فوالله إن هذا قليل من كثير!
وقلّ أن وقع ذِكْرُ هذا الإمام إلا والعبرات تتقاطر، والدمعات تتحادر، وهذا صار كالمَلَكة الذي لا يستطيع ردّ ما يَرِدُ منه، ولولا الوثوق بالله العظيم، والتسلِّي بمن فُقِد من الرسل وأتباعهم وأتباع أتباعهم وهلمَّ جرًّا، لتقطعت النفسُ على فَقْد مثل هذا في العصر البعيد عن النبوات حسراتٍ، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. والحمد لله رب العالمين.
والله تعالى يمتِّع الإسلامَ وأهل الإسلام بالحضرة العالية ومحبّيها، ويطيل بقاءها، ويُحْسِن العاقبة، ويختم بالخير أعمالها، فهو سبحانه حسبنا ونعم الوكيل.
جميع الإخوان واللائذين بالجناب الكريم يتقدمون إلى من يُبلغهم السلام التام والدعاء الوافر وشدة الأشواق. والجناب الشريف في عناية الله تعالى ورعايته
(1)
.
* * * *
(1)
في (ق 197) عقب الرسالة ما نصه: «عفا الله عنه وأسكنه الجنة برحمته إن شاء الله تعالى إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، وهو نعم المولى ونعم النصير، وصلواته على نبيه البشير النذير محمد وآله وصحبه أجمعين.
وفرغ منه يوم الأحد الثاني من شهر جمادى الأولى من سنة ثمان وخمسين وسبعمائة. غفر الله لمن نظر فيه أو سمعه ودعا لكاتبه بالمغفرة والرحمة آمين».
أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية
(1)
لأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد المعروف بابن رُشَيِّق المغربي (749)
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد؛ فإن جماعة من محبي السنة والعلم سألني أن أذكر له ما ألَّفه الشيخ الإمام العلامة الحافظ، أوحد زمانه، فريد العصر: تقي الدِّين أبو العباس أحمد ابن تيمية رضي الله عنه؛ فذكرت لهم إني أعجز عن حصرها وتَعْدادها، لوجوهٍ أبديتها لبعضهم، وسأذكرها إن شاء الله فيما بعدُ.
فأكثرهم قالوا: لابدَّ من ذكر ما تعرف، وما لا يدرك كله لا يُترك كله؛ فتعينت إجابتهم، وها أنا أذكر ما يسّر الله عليَّ منها، وإن وجد الواقف على ما أكتب زيادة فليُلحقها، والله المستعان.
فمن ذلك ما ألَّفه في تفسير القرآن العزيز غير ما جمعه من أقوال مفسري السلف الذين يذكرون الأسانيد في كتبهم، فكتب على جميع القرآن ما أمكنه من النقول عن السلف وذلك شيء كثير.
وقال لي مرةً: وقفت على نحو خمسة وعشر
(2)
تفسيرًا مسندة.
(1)
. توجد منها نسخة في دار الكتب الظاهرية برقم 11479 (بخط الشيخ طاهر الجزائري)، وأخرى فيها برقم 4675 (بخط جميل العظم). ونشرها صلاح الدِّين المنجد منسوبة إلى ابن القيم، وهو وهم. ونشرته ناقصة، فإنه اعتمد على النسخة الثانية فقط. وسبق الكلام على تحقيق نسبتها لابن رشيق في المقدمة.
(2)
. كذا.
وقال لي مرةً: ربما طالعت على الآية الواحدة نحو مئة تفسير، ثم أسأل الله الفهم وأقول: يا معلم إبراهيم. ويذكر قصة معاذ [3/أ] بن جبل، وقوله لمالك بن يخامر لما بكى عند موته، وقال: أنا لا أبكي على دنيا كنت أصيبها منك، ولكن أبكي على العلم والإيمان اللذين كنت أتعلمهما منك، فقال: إن العلم والإيمان مكانهما، من ابتغاهما وجدهما، فاطلب العلم عند أربعةٍ وسمّاهم، فقال: عند أبي الدرداء، وعبد الله بن مسعود، وسلمان الفارسي، وعبد الله بن سلام، فإن أعياك العلم عند هؤلاء؛ فليس هو في الأرض، فاطلبه من معلّم إبراهيم.
- فكتب الشيخ نقول السلف مجردًا عن الاستدلال، على جميع القرآن.
- وكتب في أوله قطعة كبيرة بالاستدلال.
- ورأيت له سورًا وآيات يفسرها ويقول في بعضها: كتبته للتذكّر، ونحو ذلك.
ثم لما حُبِس في آخر عمره كتبت له: أن يكتب على جميع القرآن مرتبًا على السور، فكتب يقول: إن القرآن فيه ما هو بيِّن في نفسه، وفيه ما بيَّنه المفسرون في غير كتاب؛ ولكن بعض الآيات أشكلت على جماعة من العلماء، فربما يطالع الإنسان عليها عدّة كتب ولا يَبِيْن له تفسيرها، وربما كتب المصنف الواحد في آيةٍ تفسيرًا وتفسير نظيرها بغيره، فقصدت تفسير تلك الآيات بالدليل؛ لأنّه أهم من غيره، وإذا تبين معنى آية تبين معاني نظائرها.
وقال: قد فتح الله عليَّ في هذا الحصن في هذه المدّة من معاني القرآن، ومن أصول العلم بأشياء مات كثير من العلماء [يتمنونها]، وندمت على
تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن، أو نحو هذا، وأرسل شيئًا [3/ب] كثيرًا مما كتب من هذا الجنس، وبقي شيءٌ كثير في سلة الحكم عند الحكّام
(1)
لما أخرجوا كتبه من عنده، وتوفي وهي عندهم إلى هذا الوقت نحو أربع عشرة رِزْمة.
1 -
فمما رأيته من التفسير
- على الاستعاذة والبسملة أوراق.
- قاعدة الفاتحة؛ في الاسماء التي فيها، وفي قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .
* وفي سورة البقرة:
- قطعة كبيرة في تفسير أوّلها.
- وفي تفسير قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [آية: 17] نحو عشرين ورقة.
- وفي قوله: {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [آية: 130] نحو كراسة.
- وفي قوله: {(148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [آية: 149].
- وفي قوله: {أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى} [آية: 196]، نحو عشرين ورقة.
- وفي قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} [آية: 173].
(1)
. علق الشيخ طاهر الجزائري هنا: «ولعلها لم تضع» .
- وفي قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [آية: 233]، نحو ثلاثين ورقة.
- وفي آية الكرسيّ، في موضعين، نحو عشرين ورقة.
- وفي قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [آية: 8]، نحو ثلاثين ورقة.
- وفي قوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [آية: 21]، وتُسمَّى «العبودية» نحو سبعين ورقة.
- وفي آيات الربا، وتكلم فيها على ربا الفضل، نحو ثلاثين ورقة.
* وفي سورة آل عمران:
- في قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آية: 7] ، نحو مجلد.
- وفي قوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آية: 18]، نحو ستين ورقة.
- وفي قوله: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آية: 7].
- وفي قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آية: 146]، نحو عشر ورقات.
* وفي سورة النساء:
- في قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [آية: 79]، نحو مئة ورقة.
- وفي قوله: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} [آية: 86].
- وفي قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [آية: 93].
* وفي سورة المائدة:
- في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [آية: 6]، نحو ثلاثين ورقة.
- وفي تفسير السورة وجميع معانيها، ونحو ذلك، مجلد لطيف.
[4/ب] * وفي سورة الأنعام:
- في قوله: {(75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ} [آية: 76].
- وقوله: {(80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا} [آية: 81].
- وقوله: {قَالَ لَا أُحِبُّ} [آية: 76].
- وقوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [آية: 103].
* وفي سورة الأعراف:
- في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} [آية: 172]، ثلاث قواعد، أكثر من سبعين ورقة.
- وفي قوله: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ} [آية: 88].
- وقوله: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} [آية: 155].
* وفي سورة الأنفال:
- في قوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} [آية: 64].
* وفي سورة براءة:
- في قوله: {رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ} [آية: 6]، فسّرها مرَّات في قواعد متعددة.
- وفي قوله: {عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا} [آية: 4].
-[5/أ] وفي قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [آية: 60].
- وفي قوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [آية: 122].
* وفي سورة يونس عليه السلام:
- في قوله: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} [آية: 66].
وفي قوله: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا} [آية: 98].
* وفي سورة هود عليه السلام:
- في قوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [آية: 1].
- وفي قوله: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} [آية: 17].
- وفي قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [آية: 107، 108]، وتكلم على هذا الاستثناء.
- وفي محبسه الأخير عمل قاعدة في الرد على من قال بفناء الجنة والنار، في نحو عشرين ورقة.
- وفي قوله: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [آية: 118، 119] والكلام على هذه اللام.
* وفي سورة يوسف عليه السلام:
- فسّرها أو أكثرها، وتكلم على معانيها، بمصر في الجُبّ، في نحو مجلدين.
- وفي قوله: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} [آية: 53]، وبين أنه من كلام المرأة.
- وفي قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [آية: 24].
-[5/ب] وقوله: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} [آية: 110].
- وقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [آية: 108].
* وفي سورة الرّعد:
- في قوله: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} [آية: 13].
- وفي قوله: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [آية: 19].
* وفي سورة الحجر:
- في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [آية: 87].
- وفي قوله: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} [آية: 41]، ونظائر هذه الآية كقوله:{(11) إِنَّ عَلَيْنَا} [الليل: 12] وقوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56].
* وفي سورة النحل:
- الآيات الأولى، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [آية: 11]، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [آية: 12] الآيات.
- وفي قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا} [آية: 75].
- وفي قوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ} [آية: 103].
* وفي سورة الأنبياء عليهم السلام:
- في قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ} [آية: 87]، في مجلد لطيف، وهي دعوة ذي النون
(1)
.
-[6/أ] وفي قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آية: 98]، واعتراض ابن الزِّبَعْرى، وجوابه.
* وفي سورة الحج:
- في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} [آية: 52]، وتكلم على لفظ التأويل، في نحو كراسة
(2)
.
- وفي قوله: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ} [آية: 60]، ورقات.
* وفي سورة النور:
- فسر غالبها في مجلد لطيف
(3)
.
- وفي قوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [آية: 30]، خمس ورقات.
(1)
. قال الشيخ الجزائري: «رأيتها» .
(2)
. علق الشيخ الجزائري: «رأيتها في بيروت» .
(3)
. علق الشيخ الجزائري: «طبع في الهند» .
- وفي قوله: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} [آية: 3] في قاعدتين.
* وفي سورة القصص:
- في حمو موسى، هل هو شعيب أم غيره، في كراسة.
- وفي قوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [آية: 78].
- وفي قوله تعالى: {الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي} [آية: 83]، مرتين.
* وفي سورة العنكبوت:
- قوله: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ} [آية: 1، 2].
- وقوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [آية: 45].
- وفي قوله: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [آية: 46].
* [6/ب] وفي سورة لقمان:
- في قوله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [آية: 13].
* وفي سورة {الم (1) تَنْزِيلُ} السجدة:
- {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [آية: 24].
* [7/أ] وفي سورة الأحزاب:
- قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [آية: 9]، وقصة الخندق.
* وفي سورة سبأ:
- {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آية: 25].
* وفي سورة فاطر:
- {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [آية: 32]
(1)
.
- وفي قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} [فاطر: 36].
* وفي سورة غافر:
- قوله: {(14) رَفِيعُ} [آية: 15].
- وفي قوله في آخر السورة: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [آية: 82].
* وفي سورة الشورى:
- قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [آية: 11]، نحو خمسين ورقة.
* وفي سورة الزخرف:
- قوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [آية: 81].
* وفي سورة الدخان وسورة الجاثية:
- {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ} [آية: 32].
- وقوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [آية: 23].
(1)
. علق الشيخ الجزائري: «رأيتها» .
* سورة الحجرات:
- فسّرها في بضعة عشر
(1)
ورقة.
* سورة الذاريات:
- قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [آية: 56]، فسرها مرتين، إحداهما في نحو سبعين ورقة.
* سورة الواقعة:
- قوله: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [آية: 83].
* سورة المجادلة:
- قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ} [آية: 7]، فسرها مرات، وتكلم على المعيَّة في جميع مواردها.
* سورة الممتحنة:
- {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [آية: 10].
* سورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} :
- فسّرها في مجلد لطيف.
* سورة الفجر:
- فسّرها وتكلّم مرات على قوله: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [آية: 7].
(1)
كذا في الأصل.
- وقوله: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [آية: 2]، وبين أنّ له
(1)
عشرين فضيلة.
* [7/ب] سورة: {لَا أُقْسِمُ} :
- فسرها بكمالها، وتكلم على قوله:{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [آية: 10].
* [سورة الشمس]:
- وتكلم على قوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [آية: 8].
* سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} :
- فسّرها، وبين أنها أول سورة أنزلت، وبين أنها تضمنت أُصول الدين، في مجلد لطيف
(2)
.
* سورة: {يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ} :
- فسّرها بكمالها
(3)
.
* سورة {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} :
- فسّرها في نحو ثلاثين ورقة
(4)
.
* سورة {تَبَّتْ} :
- فسّرها في نحو عشر ورقات.
(1)
كذا.
(2)
رمز الشيخ الجزائري بـ (م).
(3)
علق الشيخ الجزائري: وعندي تفسير أولها.
(4)
علق الشيخ الجزائري: «رأتيها» .
* المعوّذتَان:
- فسّرها مرات في نحو خمسين ورقة.
* {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} :
- فسّرها في مجلَّد.
- وتكلم في مجلد لطيف على كونها تعدل ثلث القرآن، وتفضيل القرآن بعضه على بعض.
- وله قواعد في التفسير مجملة، تكلّم فيها على المصنفات، وعلى المفسرين، وما هو متصل وغير متصل، ومن يعتمد عليه ومن لا يعتمد عليه، [8/أ] رأيت منها نحو مجلد كبير.
- وكتب قاعدة كبيرة في هذا المعنى.
- وله جواب في تفسير البغوي والقرطبي والزمخشري؛ أيها أفضل؟
- وله قاعدة في فضائل القرآن.
- وقاعدة في أقسام القرآن.
- وقاعدة في أمثال القرآن.
انتهى ما يتعلق بالكتاب العزيز
(1)
.
(1)
كتب الناسخ العلامة طاهر الجزائري هنا: «وهذا الذي أردنا نقله الآن لغرض، حرر في ليلة 26/ رمضان، سنة 1318، ولله الحمد» .
2 -
ومما صنفه في الأصول مبتدئًا أو مجيبًا لمعترض أو سائل
- كتاب الإيمان. في مجلد.
- كتاب الاستقامة. في مجلدين.
- كتاب جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية. أربع مجلدات.
- كتاب الجواب عما أورده كمال الدِّين الشريشي على كتابه تعارض العقل والنقل.
- كتاب بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية. في ست مجلدات.
- كتاب درء تعارض العقل والنقل. أربع مجلدات.
- منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية. أربع مجلدات.
- الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح. في مجلدين.
- شرح أول المحصل. في مجلد.
- كتاب الرد على أهل كسروان الرافضة. في مجلدين.
- الهلاكونية. وهو جواب سؤال ورد على لسان هلاكو ملك التتار. في مجلد.
- كتاب في الوسيلة. في مجلد.
- كتاب في الرد على البكري في الاستغاثة. في مجلد.
- شرح على أول كتاب الغزنوي في أصول الدين. في مجلد لطيف.
- كتاب في الرد على المنطق. في مجلد كبير.
- شرح عقيدة الأصفهاني. في مجلد.
- شرح مسائل في الأربعين للرازي. في مجلدين.
- المسائل الإسكندريّة. رد فيه على ابن سبعين وغيره. في مجلد.
- كتاب في محنته في مصر. في مجلدين. وتكلم فيه على الكلام النفسي وأبطله من نحو ثمانين وجهًا.
- كتاب الكلام على إرادة الرب وقدرته. نحو مائة ورقة.
3 -
قواعد وفتاوى
- الكيلانية، وهو جواب في مسألة القرآن. في مجلد لطيف.
- قواعد في إثبات المعاد، والرد على ابن سينا في رسالته الأضحوية. نحو مجلد.
- تحقيق الإثبات في الأسماء والصفات: التدمرية. بحث فيها في حقيقة الجمع بين القدر والشرع.
- الفتيا الحموية. ستون ورقة. كتبها بين الظهر والعصر.
- المراكشية. وهي فتيا في الصفات. خمسون ورقة.
- فتيا في مسألة العلو. نحو خمسين ورقة.
- فتيا تتضمن صفات الكمال مما يستحقه الرب سبحانه. نحو ستين ورقة.
- الواسطية. وهي فتيا في عقيدة الفرقة الناجية. نحو ثلاثين ورقة.
- جواب في تعليل مسألة الأفعال. نحو ستين ورقة.
- جواب في مسألة القرآن. وردت من مصر. نحو سبعين ورقة.
- البعلبكية. تكلم فيها على اختلاف الناس في الكلام. نحو عشرين ورقة.
- القادرية. وهي مسألة في القرآن. نحو عشر ورقات.
- جواب مسألة في القرآن؛ هل هو حرف وصوت أم لا. نحو ثلاثين ورقة.
- الأزهرية. بضع وعشرون ورقة.
- البغدادية. وهي مسألة في القرآن.
- مسائل في الشكل والنقط.
- كتاب إبطال قول الفلاسفة بإثبات الجواهر العقلية.
- كتاب إبطال قول الفلاسفة بقدم العالم. في مجلد كبير.
- قاعدة في إبطال قول الفلاسفة أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد.
- قاعدة في القضايا الوهمية.
- قاعدة فيما يتناهى وما لا يتناهى.
- جواب في العزم على المعصية هل يُعاقب العبد عليه. نحو عشرين ورقة.
- قاعدة في أن مخالفة الرسول عليه الصلاة والسلام لا تكون إلا عن ظن واتباع هوى.
- قاعدة في أن الإيمان والتوحيد يشتمل على مصالح الدنيا والآخرة.
- قاعدة في إثبات كرامات الأولياء. عشرين ورقة.
- قاعدة في أن خوارق العادات لاتدلّ على الولاية.
- قاعدة في الصبر والشكر. نحو ستين ورقة.
- قاعدة في الرضا. مجلد لطيف.
- قاعدة في أن كل آية يحتج بها مبتدع ففيها دليل على فساد قوله.
- قاعدة في أن كل دليلٍ عقلي يحتج به مبتدع، فيه دليل على بطلان قوله. مائة ورقة.
- قاعدة في تفضيل صالحي الناس على سائر الأجناس.
- قاعدة في الخلوات، والفرق بين الخلوة الشرعية والبدعية.
- قاعدة في لباس الخرقة والأقطاب ونحوهم.
- الصعيدية. وهي قاعدة تتعلق بالتوبة.
- قاعدة في الفقراء والصوفية أيهم أفضل.
- قاعدة في محبة الله للعبد ومحبة العبد لله. مجلد لطيف.
- التحفة العراقية. نحو ستين ورقة.
- قاعدة في الإخلاص والتوكل. نحو خمسين ورقة.
- قاعدة في الشيوخ الأحمدية. نحو خمسين ورقة.
- قاعدة في تحريم السماع. نحو عشرين ورقة.
- تحريم السماع. في مجلد.
- تعليقه على فتوح الغيب لسيدي عبد القادر الكيلاني.
- قاعدة في شرح أسماء الله الحسنى.
- قاعدة في قوله صلى الله عليه وسلم: «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» .
- قاعدة في الاستغفار وشرحه.
- قاعدة في أن الشريعة والحقيقة متلازمتان.
- قاعدة في الخلة والمحبة وأيهما أفضل. في مجلد.
- قاعدة في العلم المحكم. مجلد.
- قواعد في خلافة الصدِّيق. مجلد.
- رسالة في أمر يزيد هل يُسبُّ أم لا.
- رسالة في الخضر هل مات أو هو حي.
- رسالة في احتجاج الجهمية والنصارى بالكلمة.
- رسالة فيمن عزم على فعل محرم ثم مات.
- رسالة في أن إسماعيل عليه السلام هو الذبيح.
- رسالة في الذوق والوجد الذي يذكره الصوفية.
- رسالة في قوله عليه الصلاة والسلام: «من قال أنا خير من يونس بن مَتَّى فقد كذب» .
- رسالة في الاشتغال بكلام الله وأسمائه وذكره، أيُّ ذلك أفضل.
- رسالة في غض البصر وحفظ الفرج ماذا يُعِيْنُ عليه.
- الإربلية. وهي رسالة في الاستواء والنزول هل هو حقيقة أم لا.
- رسالة في مسألة الزوال واختلاف وقته باختلاف البلدان. في مجلد لطيف.
- رسالة في اللقاء وما ورد فيه في القرآن وغيره. نحو عشرين ورقة.
- رسالة في قرب الرب من عابديه وداعيه. مجلد لطيف.
- رسالة في الاستواء وإبطال قول من تأوَّله بالاستيلاء من نحو عشرين وجهًا.
- كتاب في الشهادتين وما يتبع ذلك. في مجلد.
- رسالة في عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هل هي من الصغائر. وهل يكفر المنازع في تجويز الصغائر عليهم؟ نحو ثلاثين ورقة.
- رسالة في الاستطاعة هل هي مع الفعل أو قبله.
- رسالة في العين والقلب وأحواله.
- رسالة هل كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة نبيًّا، وهل يسمّى من صحبه إذ ذاك صحابيًا.
- رسالة هل كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل الوحي متعبدًا بشرع من قبله من الأنبياء.
- رسالة في كفر فرعون.
- رسالة في ذي الفقار هل كان سيفًا لعلي رضي الله عنه.
- رسالة في وجوب العدل على كل أحد في كل حال.
- رسالة في فضل السلف على الخلف في العلم.
- كتاب في الإيمان هل يزيد وينقص. في مجلد.
- رسالة في حق الله وحق رسوله وحقوق عباده وما وقع في ذلك من التفريط.
- رسالة في أن مبدأ العلم الإلهي عند النبي صلى الله عليه وسلم هو الوحي، وعند أتباعه هو الإيمان.
- رسالة في أن كل حمد وذم للمقالات والأفعال لابُدَّ أن يكون بكتاب الله وسنة رسوله.
- رسالة في عقيدة الأشعرية وعقيدة الماتريدي وغيره من الحنفية. نحو خمسين ورقة.
- الواسطية
(1)
. وهي عقيدة.
- الحوفية. وهي عقيدة أيضًا. نحو عشرين ورقة.
- رسالة في العرش والعالم هل هو كروي الشكل أم لا؟
- رسالة في الخلَّة والإمكان العام.
- شرح رسالة ابن عبدوس في أصول الدين.
(1)
تقدم ذكرها (ص 365).
- قاعدة فيما لكل أمة من الخصائص، وخصائص هذه الأمة.
- قاعدة في الكليّات. مجلد لطيف.
- كتاب في توحيد الفلاسفة على نظم ابن سينا. مجلد لطيف.
- رسالة في جواب محيي الدِّين الأصفهاني. نحو ستين ورقة.
- الفرقان بين
(1)
أولياء الرحمن وأولياء الشيطان. مجلد لطيف.
- رسالة في الفرق بين ما يتأوَّل وما لا يتأوَّل من النصوص. نحو عشرين ورقة.
- قاعدة في الفناء والاصطلام. نحو ثلاثين ورقة.
- قاعدة في العلم والحلم. نحو عشرين ورقة.
- قاعدة في الاقتصاص من المظالم بالدعاء وغيره. مجلد.
- قاعدة في تزكية النفوس. نحو ثلاثين ورقة.
- قاعدة في كلام ابن العريف في التصوّف. كرّاسة.
- قاعدة في حق الله وحق عباده. بضع عشرة ورقة.
- قاعدة في الزهد والورع. نحو ثلاثين ورقة.
- قاعدة في الإيمان والتوحيد، وبيان ضلال من ضل في هذا الأصل.
- قاعدة في أمراض القلوب وشفائها. نحو أربعين ورقة.
(1)
في الأصل: «بيان» .
- قاعدة في السياحة ومعناها في هذه الأمة.
- قاعدة في خلة إبراهيم عليه السلام وأنه الإمام المطلق.
- قاعدة فيمن امتحن في الله وصبر.
- رسالة في المباينة بين الله سبحانه وبين خلقه. نحو أربعين ورقة.
- قاعدة في الصفح الجميل والهجر الجميل والصبر الجميل.
- قاعدة في اقتران الإيمان بالاحتساب.
- رسالة في قوله: «أُمرتُ أن أُخاطب الناس على قدر عقولهم» هل هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
- قاعدة في الرد على أهل الاتحاد. وهي جواب الطوفي. في مجلد لطيف.
- رسالة في أصول الدِّين للعدوية. بقدر أربعين ورقة.
- رسالة في الأصول لأهل جيلان. نحو خمسين ورقة.
- رسالة لأهل قبرص تتضمن قواعد دينية أصولية، بقدر ثلاثين ورقة.
- قاعدة فيما يتعلق بالوسيلة بالنبي صلى الله عليه وسلم، والقيام بحقوقه الواجبة على أمته في كل زمان ومكان، وبيان خصائصه التي امتاز بها على جميع العالمين، وبيان فضل أمته على جميع الأمم.
- قاعدة تتعلق بالصبر المحمود والمذموم.
- قاعدة تتعلق برحمة الله في إرسال محمد صلى الله عليه وسلم، وأن إرساله أجلّ النعم.
- قاعدة في الشكر لله.
- رسالة في حالة الحلّاج، ودفع ما وقع به التحاجّ.
- قاعدة في الْعُمَر المكية وهل الأفضل للمجاور وأهل مكة الاعتمار أو الطواف. نحو أربعين ورقة.
- قاعدة في الكلام على المرشدة
(1)
.
- قاعدة في كلام الجنيد لما سُئل عن التوحيد فقال: «إفراد الحدوث عن القدم» .
- قاعدة في التوكل والإخلاص. نحو أربعين ورقة.
- قاعدة في التسبيح والتحميد والتهليل.
- قاعدة في أن الله تعالى إنما خلق الخلق لعبادته.
- قاعدة في توحيد الشهادة.
- القواعد الخمس.
- قاعدة في القدرية وأنهم ثلاثة أقسام: مجوسية، ومشركية، وإبليسية.
- قاعدة في بيان طريقة القرآن في الدعوة والهداية النبوية وما بينها وبين الطريقة الكلامية والطريقة الصوفية.
- قاعدة في وصية لقمان لابنه.
- قاعدة في تسبيح المخلوقات من الجمادات وغيره هل هو بلسان الحال أم لا.
(1)
في الأصل: «المرشد» .
- قاعدة في السياحة والعزلة، وفي الفقر والتصوُّف. هل هما اسمان شرعيان.
- قاعدة في مشايخ العلم ومشايخ الفقراء أيهم أفضل.
- قاعدة في تعذيب المرء بذنب غيره.
- رسالة في العباس وبلال أيهما أفضل.
- رسالة لأهل تدمر.
- قاعدة في أن جامع الحسنات العدل، والسيئات الظلم. ومراتب الذنوب في الدنيا.
- قاعدة في فضل عشر ذي الحجة. وذكر نحو عشرين فضيلة.
- قاعدة في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإنس والجن.
- قاعدة في رجوع البدع الى شعبة من شعب الكفر.
- قاعدة في الإجماع. وله ثلاثة أقسام.
- رسالة فيمن قال إن بعض المشايخ أحيا ميتًا.
- شرح العمدة. في أربع مجلدات.
- شرح المحرّر.
- الصارم المسلول على شاتم الرسول.
- اقتضاء الصراط المستقيم في الردّ على أصحاب الجحيم.
- التحرير في مسألة الخضر
(1)
. مجلد.
- دفع الملام عن الأئمة الأعلام. مجلد لطيف.
- قاعدة فيما يظن من تعارض النص والإجماع.
4 -
الكتب الفقهية
- قواعد في رجوع المغرور على مَنْ غَرَّه.
- قواعد في السنة والبدعة، وفي أن كل بدعة ضلالة.
- السياسة الشرعية لإصلاح الراعي والرعية.
- رسالة في فضائل الأئمة الأربعة، وما امتاز به كل إمام من الفضيلة.
- قاعدة في مقدار الكفارة في اليمين. نحو خمسين ورقة.
- قاعدة في لفظ الحقيقة والمجاز، والبحث مع الآمدي. نحو ثمانين ورقة.
- رسالة في ذبائح أهل الكتاب.
- رسالة في قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39].
- رسالة في إهداء الثواب للنبي صلى الله عليه وسلم.
- رسالة في قوله: «كما صليت على إبراهيم» وفي أن المشبَّه به أعلى من المشبه.
(1)
كذا في الأصل، والصواب «الحفير» كما في المصادر الأخرى.
- رسالة أجوبة مسائل أصفهان.
- رسالة أجوبة مسائل الأندلس.
- رسالة جواب سؤال الرحبة.
- رسالة أجوبة مسائل الصّلط.
- رسالة في أرض الموات إذا أحياها ثم عادت هل تملك مرة أخرى.
- رسالة في النهي عن أعياد النصارى.
- قواعد في تطهُّر الأرض بالشمس والريح.
- قواعد في مسائل من النذور والضمان.
- قاعدة في المائعات والمياه وأحكامها بنحو ستين ورقة.
- قاعدة في المائعات والميتة إذا وقعت فيها. نحو عشرين ورقة.
- قواعد في الوقف، وشروط الوقف، وفي إبداله بأجود منه، وفي بيعه عند تعذر الانتفاع.
- قاعدة في تفضيل مذهب أحمد، وذكر محاسنه. في مجلد.
- قاعدة في أن جنس فعل المأمور به أفضل من جنس ترك المنهي عنه. في مجلد لطيف.
- قاعدة في طهارة بول ما يؤكل لحمه. نحو سبعين ورقة. من ثلاثين حجة.
- قاعدة في معاهدة الكفار المطلقة والمقيدة.
- قاعدة في دم الشهيد ومداد العلماء.
- قاعدة في وجوب التسمية على الذبائح والصيد.
- قاعدة في أن كل عمل صالح أصله اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
- قاعدة في تفضيل مذهب أهل المدينة. نحو خمسين ورقة.
- قاعدة في نواقض الوضوء.
- قاعدة في الاجتهاد والتقليد.
- قاعدة في الجهاد والترغيب فيه.
- قاعدة في المخطيء في الاجتهاد هل يأثم، وهل المصيب واحد.
- قاعدة فيما يحلُّ وما يحرم من الأطعمة.
- قاعدة في شمول النصوص للأحكام.
- قاعدة في طواف الحائض.
- قاعدة فيما شرعه الله بلفظ العموم، هل يكون مشروعًا بلفظ الخصوص.
- قاعدة في لعب الشطرنج.
- قاعدة في مفطرات الصائم.
- قاعدة في السفر الذي يجوز فيه القصر والفطر.
- قاعدة في الجمع بين الصلاتين.
- قاعدة فيما يُشترط له الطهارة.
- قاعدة في مواقيت الصلاة.
- قاعدة في الكنائس، وما يجوز هدمه منها. في مجلد.
- شمول النصوص في الفرائض.
- قاعدة في تقليد مذهب معين هل يجب على العامي أم لا.
- قاعدة في حلق الرأس هل يجوز في غير النسك.
- قاعدة فيما يحل ويحرم بالنسب والصهر والرضاع.
- قاعدة في الجد، هل يجبر البكر على النكاح.
- قاعدة في الجهر بالبسملة.
- قاعدة في القراءة خلف الإمام.
- قاعدة فيمن بكر وابتكر، وغسل واغتسل.
- قاعدة في ذم الوسواس.
- قاعدة في الأنبذة والمسكرات.
- قاعدة في قوله عليه الصلاة والسلام: «استحللتم فروجهن بكلمة الله» .
- قاعدة في الحسبة.
- قاعدة في المسألة السريجية.
- قاعدة في حل الدور. ومسائل الجبر والمقابلة.
5 -
وله وصايا منها
- وصية لابن المهاجري.
- وصية للتجيبي.
- وصية لأبي القاسم يوسف السبتي.
6 -
وله إجازات منها
- إجازة لأهل سبتة، ذكر فيها مسموعاته.
- إجازة كتبها لبعض أهل تبريز.
- إجازة لأهل غرناطة.
- إجازة لأهل أصبهان.
7 -
وله رسائل تتضمن علومًا
- الرسالة المدنية.
- الرسالة المصرية.
- رسالة كتبها إلى أهل بغداد.
- رسالة إلى أهل البصرة.
- رسالة كتبها إلى القاضي السروجي الحنفي.
- الرسالة العدوية كتبها إلى بيت الشيخ عدي بن مسافر.
- رسالة كتبها إلى بيت الشيخ جاكير.
- رسالة كتبها إلى صاحب قبرص في مصالح تتعلق بالمسلمين.
- رسالة إلى البحرين وملوك العرب.
- رسالة لأهل العراق.
- رسالة إلى ملك مصر.
- رسالة إلى ملك حماة.
- رسالة العرش.
- رسالة تكسير الأحجار.
- رسالة في المسألة الحرفية.
- رسالة في إثبات وجود النفس بعد الموت.
- شرح دعاء أبي بكر رضي الله عنه.
- الدر المنثور في زيارة القبور.
- شرح العقيدة الأصفهانية.
- الفرقان بين الحق والباطل. ستين ورقة.
- رسالة في عرض الأديان عند الموت.
- رسالة في المفاضلة بين الغني الشاكر والفقير الصابر.
تَمَّ كتاب «أسماء مؤلفات الإمام أحمد بن تيمية» رضي الله عنه.
* * * *
فصل
في مبشرات رآها الصالحون للشيخ تقي الدِّين
أحمد ابن تيمية بعد موته إلى رحمة الله
(1)
تُروى عن أبي عبد الله ابن رُشَيّق وغيره
الحمد لله رب العالمين.
قال الله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 62 - 64]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لم يبق بعدي من النبوَّة إلا المُبَشِّرات»
(2)
فقيل: يا رسول الله ما المبشرات؟ قال: «الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرى له» .
أخبرني الشيخ أبو
(3)
عبد الله محمد بن رُشَيِّق المغربي المالكي أن علاء الدِّين بن أيدُغْدي ــ من أصحاب الشيخ تقيّ الدِّين ــ رأى في المنام الشيخَ قبل موته بمدَّة، وأن القيامة قد قامت، والناسُ مجتمعون، ونزل من السماء كهيئة بُقْجَة
(4)
، فقيل: ما هذه؟ فقالوا: هذه براءة ابن تيمية من النار.
(1)
مخطوط ضمن مجموع بالمكتبة المحمودية [2775] ق 123 - 125.
(2)
أخرجه البخاري رقم (6990) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وليس فيه «يراها المؤمن
…
»، وأخرجه أحمد (22767)، والترمذي (2275) بنحوه وفيه اللفظ الأخير. قال الترمذي: حديث حسن.
(3)
الأصل: «أبا» .
(4)
هي الصرة من الملابس وغيرها.
وأخبرني ــ أيضًا ــ أبو عبد الله المذكور: أن سيف الدِّين تقصبا
(1)
مملوك البوبكري ــ وهو ثقة ــ رأى في النوم أن القيامة قد قامت والناسُ في أمر عظيم، وقائل يقول: قد مات عمود الإسلام. فقال لرجل: قد قامت القيامة، فقال: إذا كان قد مات عمود الإسلام أعَجَبٌ قيام الساعة! وسمعته من لفظ المذكور.
وأخبرني أبو عبد الله: أن رجلًا صالحًا رأى الشيخَ في نومه فقال: ما فَعَل الله بك؟ قال: غفر لي ولمن صلى على جنازتي.
وأخبرني ــ أيضًا ــ: أن رجلًا ثقة أخبره أنه رأى الشيخ في نومه فقال: يا سيدي ما أنت مت؟ فقال: وعشت، قال الله تعالى:{بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} وقرأ الآية [آل عمران: 169].
وأخبرني أبو عبد الله: أن رجلًا صالحًا أخبره أنه
…
موت
…
(2)
من غير أن يعلم بموته أن الشيخ في مكان وطيور عظيمة ينزلون من السماء عليه ثم تصعد.
وأخبرني أبو عبد الله: أن رجلًا صالحًا من أهل ميدان الحصا
(3)
[رأى] ليلةَ موت الشيخ أن السماء فيها قناديل عظيمة كثيرة، ولم يكن لها علاقة
(1)
كذا، والذي في كتب التاريخ في رسم هذا الاسم «طقصبا» بالطاء. ولم أجد ترجمة سيف الدِّين هذا.
(2)
كلمات غير واضحة.
(3)
إحدى ميادين دمشق، يبدأ من باب المصلّى حتى الجزماتية. انظر «خطط دمشق»:(ص 443) للعُلَبي.
تمسكها، ثم رأى عمودًا كبيرًا عظيمًا نورًا من الأرض إلى السماء، قد غشي نوره من الأرض إلى السماء وما حوله، فلما أصبح قيل: قد مات الشيخ، فوقع في نفسه أن الرؤيا له، وكانت نصف الليل وقت موته.
وحدثنا ــ أيضًا ــ: أن امرأةً صالحةً رأت أن رجلًا نائمًا في الأرض وقد نزل عليه من السماء نور غشاه وارتفع، وكلما ارتفع قوي النور حتى صعد إلى السماء.
ورأى رجلٌ صالح الشيخَ بعد موته فسأله: ما فعل الله بك؟ وأقسم عليه، فقال: كلّ خير، وعبّر بعبارات فصيحة عن هذه المعاني، وعلى رأسه تاج حرير كهيئة ما يلبسه الأمراء. فقال: هذا حرير وأنت كنت تنهى عنه؟ فقال: ألبسنيه الله تعالى بصبري على الحبس. حدثني به ابن نور الدِّين ابن الصائغ.
رأى رجلٌ صالحٌ ليلةَ موتِ الشيخ أنه في منزل وفيه امرأة جميلة عليها لؤلؤ ونحوه وظَهْرُه إليها، وهناك امرأة عجوز، والشيخ حامل شيئًا وهو طالع به في درج، فسألَ المرأةَ عما معه؟ فقالت: هذا قمحه يريد طحنه يتبلَّغ منه، فمن له قمح طحنه وتبلّغ منه، ومن لا له شيءٌ لا يتبلَّغ بشيء. أو كما قال. حدثني به ثقات.
ورأى رجل ثقة عند أصحابنا كالشيخ شمس الدِّين محمد بن رُزَيز وغيره أن رجلًا نصرانيًّا ذاهبًا
(1)
، فقال له المُسْلِم: إلى أين؟ فقال: إلى المسيح عليه السلام. فقال: أنا أولى به، فذهب معه إليه، فرآه في هيئةٍ حسنة، فقال الرائي في نفسه: لو رأيت نبينا صلى الله عليه وسلم حتى أراه وأرى منزلته عند المسيح
(1)
كذا في الأصل.
عليه السلام. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فقام المسيح عليه السلام وجلس النبي صلى الله عليه وسلم مكانه، وهو في هيئة عظيمة، حسن الوجه حسن الهيئة، فقبَّل المسيحُ عليه السلام يده ورأسه وجلس إلى جانبه، وسأل الرائي: ما معك؟ فقال: رُطَب، فأخذه منه فحثى للمسيح منه. قال: فقلت للنصراني: انظر تعظيم نبيكم لنبينا، فقال: نعم. فبينما هم كذلك إذ جاء طائفة من خلف النبي صلى الله عليه وسلم والشيخ جالس بينهم أو أمامهم، فلما قربوا تقدم الشيخ وقام النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أهلًا وسهلًا يا أحمد، ثم حثى له من الرطب، فبينما هم كذلك إذ جاء طائفة من بين أيديهم فلم يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال الشيخ تقي الدين: يا رسول الله إن هؤلاء من أمتك. فقال: لا، لو كانوا من أمتي كانوا على ما أنت عليه.
حدثني صلاح الدِّين يوسف ابن المرحوم علاء الدِّين ابن أخي الصاحب تقي الدِّين ابن مهاجر التكريتي: أنه رأى الشيخ بعد موته بليلة، وهو واقف على باب مدرسته بالقصَّاعين، وهو بعد وقوفه يتمشّى، فأكبَّ الرائي رأسَه ليقبِّل قدميه، فمنعه من ذلك، وقال له: كيف الشيخ الصالح؟ فقال له: كيف حال من فارقك ورأى هذا اليوم المهول ــ يعني يوم جنازته ــ؟ فقال له الشيخ: أما كان يومًا باهرًا؟ فقال له: يا سيدي ما رئيَ مثله قط، وأجمع أعداؤك ومن يحبك أنهم ما رأوا مثله، فتبسّم ووضع يده على كتفه وهزّه وقال: يا فلان أتعْلَم اليوم الذي كان أبهر منه؟ فقال له: لا والله، فقال: يوم دخول الروح إلى الفردوس، فقال: أرأيت هذا الجم الغفير؟ فقال: نعم، فقال له: أضعاف هؤلاء من الملائكة قدّام الروح بالشمع إلى الفردوس، فحصل له انزعاج لذلك الكلام. ثم قال: لا ينعَّم إلا الروح ولا يعذّب إلا الروح، فانتبه مرعوبًا ثم صاح.
أخبرتنا المرأة الصالحة أم عُمر شَهْلاء بنت إبراهيم بن صالح المقوم: أنها رأت ليلة الخميس ثامن ذي الحجة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة: كأنَّ الشيخ تقي الدِّين أحمد ابن تيمية ببيت المقدس وهو قائم يَعِظ، وأكثر مَن هناك نساء، وأنها سألت أمها ــ وكانت قد ماتت قبل ذلك ــ: من هذا؟ فقالت: يا ابنتي هذا ابن تيمية. قالت: فجئتُ إليه وسألته أن يمدَّ يده على يدي، وكان لها قبل ذلك مدَّة سنين لا تنطبق أصابعها ولا تصل إلى كفّها. قالت فأمرّ يده على يدي، قالت: فاستيقظت وهي صحيحة سالمة. وجاء أولادي على صوتي وأنا أقول: يا أحباب الله يا رجال الله، وأرتنا كفَّها كيف كانت، ورأيتُ كفّها وأصابعها وهي صحيحة، وفتَحَتْهم وطبقتهم
(1)
ونحن ننظر بلا كُلفة.
وهي امرأة من ذوات الأقدار، كلامها يدلّ على أنها ليست ممن يكذب ولا ترتضيه خلقًا، وهيئتها لا تقتضي ذلك، وأثنى عليها جماعة وعلى ديانتها.
وأخبرتنا بذلك في دار بعض الرؤساء بدمشق يوم الأحد الثامن عشر من ذي الحجة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، ويسمع كلامها جماعة وهم:
الشيخ عماد الدِّين إسماعيل بن كثير الشافعي، صِهْر الشيخ جمال الدِّين المِزّي. والشيخ نور الدِّين عليّ بن محمد بن عبد الغفار الشافعي المنتسب إلى أبي مسلم الخراساني. والشيخ زين الدِّين عمر بن قاسم بن محمد بن خالد الحنبلي. وعلاء الدِّين علي بن عبد الله المعروف
(1)
كذا بدلًا من «وفتحتها وطبقتها» .
بابن بدوه. والأمير صلاح الدِّين يوسف بن علي بن يوسف التكريتي. ومحمد بن عباد الشجاعي عفا الله عنه
(1)
.
* * * *
(1)
لعل مقيّد هذه الرؤى هو «محمد بن عباد الشجاعي» بدليل قوله: «عفا الله عنه» .
مسَالِكُ الأبْصَار في مَمَالِكِ الأمْصَار
(1)
للعلَّامة أحمد بن يحيى ابن فضل الله العُمَري (749)
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن عبد الله بن أبي القاسم الحَرَّاني، العلَّامة الحافظ الحجة المجتهد المفسّر، شيخ الإسلام نادرة العصر عَلَمُ الزُهّاد، تقي الدِّين أبو العَبَّاس ابن تَيْميَّة.
هو البحرُ من أيِّ النواحِي جِئتَه، والبدرُ من أيّ الضَّواحِي أتيتَه، جَرَتْ آباؤُه لشَأْوٍ ما قَنِعَ به، ولا وقفَ عنده طليحًا مُريحًا من تَعَبِه، طلبًا لا يَرضَى بِغاية، ولا يُقضَى له بِنهايَة. رَضَعَ ثَدْيَ العلمِ مُنذُ فُطِم، وطَلعَ وجهُ الصباحِ ليُحَاكِيَهُ فَلُطِم، وقَطَعَ الليلَ والنهارَ دائبينِ، واتخذ العلمَ والعملَ صاحبيَنِ، إلى أن أنْسى السلفَ بِهُداه، وأنْأى الخَلَفَ عن بلوغ مَدَاه.
وَثَقَّفَ الله أمرًا باتَ يَكلؤُهُ
…
يَمضِي حُساماه فيه السيفُ والقلمُ
بهمَّةٍ في الثريَّا أثر أخْمَصِها
…
وعَزْمَةٍ ليسَ من عاداتِها السَّأمُ
على أنَّه من بيتٍ نشأتْ منه علماءُ في سالفِ الدُّهُور، ونَسَأتْ منه عُظَماءُ على المشاهير الشُّهور، فأحْيَا معالمَ بيتهِ القديم إذْ دَرَسَ، وجَنَى من فَنَنِه الرَّطيبِ ما غَرَسَ، وأصبحَ في فضله آيةً إلَّا أنَّه آيةُ الحَرَسِ، عَرضَتْ له الكُدَى فزَحْزَحَها، وعارضَتْه البحارُ فضَحْضَحَها، ثمَّ كَانَ أُمَّةً وحدَه، وفردًا حتَّى نزلَ لَحْدَه. أخْمَلَ من القُرَناءِ كلَّ عَظِيم، وأخْمَدَ من أهل الفناءِ كلَّ قديم، ولم يكن منهم إلَّا مَن يُجْفِل عنه إجفالَ الظَّليم، ويَتَضاءلُ لديه تَضاؤُلَ الغَرِيم.
(1)
نسخة أيا صوفيا، المكتبة السليمانية باستانبول برقم 3418 (ص 294 - 306).
مَا كانَ بعضَ الناسِ إلّا مِثْلَما
…
بعضُ الحصَا الياقوتةُ الحمراءُ
جاء في عصرٍ مأهولٍ بالعلماء، مشحونٍ بنجومِ السماء، تَمُوجُ في جانبَيهِ بحورٌ خَضَارِمُ، وتطِيرُ بين خافِقَيهِ نُسُورٌ قَشَاعِمُ، وتُشْرِقُ في أنديتهِ بُدورُ دُجُنَّةٍ، وصدورُ أسِنَّةٍ، وتَثْأرُ جُنُودُ رَعيلٍ، وتَزْأرُ أسودُ غِيْلٍ، إلَّا أنَّ صَبَاحَه طَمَسَ تلك النجوم، وبَحْرهُ طَمَّ على تِلكَ الغُيُوم، ففَاءَتْ سُمْرَتُه على تلك التِّلاعِ، وأطلَّتْ قَسورتُه على تلك السِّبَاعِ، ثُمَّ عُبِّئَتْ له الكتائبُ فحَطَمَ صفوفَها، وخَطَمَ أُنوفَها، وابتلَعَ غَدِيرُهُ المطمئنُّ جَداولَها، واقتلَعَ طَوْدُهُ المُرْجَحِنُّ جَنَادِلَها، وأخمدتْ أنفاسَهم رِيحُه، وأكْمَدَت شَرَاراتِهم مصابِيحُه.
تَقَدَّمَ راكبًا فيهم إمامًا
…
ولولاه لما رَكِبُوا وَراءَا
فجَمعَ أشْتَاتَ المذاهب، وشُتَّاتَ المذاهب، ونَقَلَ عن أئمةِ الإجماعِ فمَنَ سِواهم مذاهبَهمِ المختلفةَ واستَحْضَرَها، ومَثَّل صُوَرَهم الذاهبةَ وأحْضَرها، فلو شعَرَ أبو حنيفةَ بزَمانِه ومَلَكَ أمرَه لأدْنَى عَصْرَهُ إليه مُقترِبًا، أو مالكٌ لأجْرَى وراءَه أشهبَه ولو كَبَا، أو الشَّافعيُّ لقالَ: ليتَ هذا كَانَ للأمِّ وَلَدًا ولَيتَني كنت له أبَا، أو الشيبانيُّ ابنُ حنبلٍ لما لامَ عِذَارَه إذا غَدا منه لفَرْطِ العَجبِ أشْيَبَا، لا بل داودُ الظاهريُ وسِنَان الباطنيُّ لظَنَّا تحقيقَه من مُنتَحَلِه، وابنُ حَزْمٍ والشَّهْرِستانيُّ لحَشَرَ كلٌّ منهما ذِكرَه أمَّةً في نِحَلِه، والحاكمُ النَّيسابوري والحافظ السِّلَفي لأضافَه هذا إلى استدراكِه وهذا إلى رِحَلِه.
تَرِدُ إليه الفتاوى ولا يَردُّها، وتَفِدُ عليه فيُجِيب عليها بأجوبةٍ كأنَّهُ كَانَ قاعدًا لها يُعِدُّهَا.
أبدًا على طَرَفِ اللسانِ جوابُه
…
فكأنَّما هي دَفعةٌ مِن صَيِّبِ
يَغدُو مُسَاجلُه بغُرَّةِ صافحٍ
…
ويَرُوحُ مُعتَرِفًا بذلَّةِ مُذْنِب
ولقد تَضَافَرتْ عليه عُصَبُ الأعداءِ فَأُقْحِمُوا إذْ هَدَرَ فَحْلُه، وأُفْحِمُوا إذْ زَمزَمَ ليَجْنيَ الشهدَ نَحْلُه، ورُفِعَ إلى السلطانِ غيرَ مَا مَرَّةٍ ورُمِيَ بالكبَائِر، وتُرُبِّصَتْ به الدَّوائِرُ، وسُعِيَ به ليُؤْخَذَ بالجَرائِر، وحَسَدَه مَن لم يَنَل سَعْيَه وكثر فَارتَابَ، ونَمَّ وما زادَ على أنَّه اغتابَ.
وأُزْعِجَ من وَطنِه تارةً إلى مِصْرَ ثمَّ إلى الإسكندرية، وتارةً إلى مَحْبِسِ القَلْعَةِ بدمَشْقَ، وفي جميعها يُودَعُ أخْبِئَةَ السُّجونِ، ويُلْدَغُ بِزُبَانَي المَنُونِ، وهو على علمٍ يُسَطِّرُ صُحُفَه، ويَدَّخِرُ تُحَفَه، وما بينه وبين الشيء إلَّا أنْ يُصنِّفَه، ويُقرِّطَ به ولو سَمْعَ امْرئٍ واحدٍ ويُشَنِّفَه، حتَّى تَسْتَهديَ أطرافُ البلادِ طُرَفَه، وتَسْتَطلعَ ثَنايا الأقاليم شُرَفَه، إلى أنْ خَطَفَتْه آخرَ مَرَّةٍ من سِجْنِه عُقَابُ المنَايا، وجَذَبَتْهَا إلى مَهْوَاتِها قرارةُ الرزايَا.
وكَانَ قبلَ مَوتِه قَد مُنِعَ الدَّواةَ والقَلَم، وطُبِع على قلبه منه طابعُ الألَمِ، فكان مبدأ مَرَضِه ومَنْشَأ عَرَضِه، حتَّى نزلَ قِفارَ المقابر، وتركَ فِقَارَ المنابر، فماتَ لا بل حَيِي، وعُرِفَ قَدْرُه لأنَّ مِثلَه ما رُئِي.
وكان يومُ دَفْنِه يَومًا مشهودًا ضاقت به البلدُ وظواهِرُها، وتُذُكِّرتْ به أوائِلُ الرَّزايا وأواخِرُها، ولم يكن أعظم منها مُنذُ مِئِينَ سِنِينَ جنازة رُفِعَتْ على الرِّقَابِ، ووُطِئَتْ في زِحَامِهَا الأعقابُ، وسارَ مرفوعًا على الرُّؤوس، متبوعًا بالنفوس، تَحْدُوهُ العَبَرات، وتَتْبَعُه الزَّفَرات، وتقولُ له الأمم: لا فُقِدت مِن غائب، ولأقلامه النافعةِ: لا أبْعَدَكُنَّ اللهُ مِن شَجَرات.
وكان في مَدَد ما يؤخذ عليه في مقاله ويُنْبَذُ في حُفْرةِ اعتقالِه، لا تَبرُد له غُلَّة
بالجمع بينه وبين خُصَمائه بالمناظرة، والبحثِ حيث العيونُ ناظرة، بل يَبدُر حاكمٌ فيحكمُ باعتقاله، أو يمنعه من الفتوى، أو بأشياءَ من نوعِ هذه البلوى، لا بعد إقامة بيّنةٍ ولا تقدُّمِ دعوى، ولا ظهورِ حجّةٍ بالدليل، ولا وضوح محجَّةٍ للتأميل، وكان يَجد لهذا ما لا يُزَاح فيه ضَرَرُ شَكْوَى، ولا يُطفِئُ ضَرَم عَدْوى.
وكلُّ امرىٍ حازَ المكارمَ محسود
كضَرائرِ الحسناءِ قُلنَ لِوَجْهِها
…
حسَدًا وبُغضًا إنه لَدَميمُ
كل هذا لتبريزه في الفضل حيثُ قصَّرتِ النُّظَراءُ، وتَجْلِيته كالمصباح إذْ أظلمت الآراءُ، وقيامِه في دفع حُجَّةِ التَّتار، واقتحامه، وسيوفُهم تتدفَّقُ لُجَّةَ البِدار، حتَّى جَلَس إلى السلطان محمود غازان حيث تَجِم الأُسْدُ في آجامِها، وتَسقُط القلوبُ في دواخلِ أجسامِها، وتَجِدُ النارُ فتورًا في ضَرَمِها، والسيوفُ فرقًا في قَرَمِها، خوفًا من ذلك السَّبُعِ المغتال، والنمروذِ المختال، والأجل الَّذي لا يُدفَع بحيلةِ مُحتال، فجلس إليه وأومأ بيده إلى صدرِه، وواجَهَه ودرأ في نَحْرِه، وطَلَبَ منه الدُّعَا، فرفعَ يديه ودعَا، دُعاءَ مُنصفٍ أكثرُه عليه، وغازانُ يؤمِّنُ على دعائه وهو مُقبلٌ إليه. ثمَّ كَانَ على هذه المواجهة القبيحة، والمشاتمة الصريحة أعظم في صدرِ غازانَ والمُغَل من كلّ من طلعَ معه إليهم، وهم سلف العلماء في ذلك الصَّدْر، وأهلُ الاستحقاقِ لرِفعةِ القَدْر.
هذا مع ما له من جهادٍ في الله لم يُفزِعْه فيه طلل الوشيج، ولم يُجزِعْه فيه ارتفاع النشيج، مواقفُ حروبٍ باشرَها، وطوائفُ ضُروبٍ عاشَرها، وبَوارِقُ صِفاحٍ كاشَرَها، ومضايقُ رِماح حاشَرَها، وأصناف خُصومٍ لُدٍّ اقتحمَ معها الغمراتِ، وواكلَها مختلفَ الثَّمرات، وقَطَع جِدالَهَا قوِيُّ لسانِه، وجِلادَها
شَبَا سِنانِه، قامَ بها وصابَرها، وبُلِيَ بأصاغِرها وقاسَى أكابرَها، وأهلِ بِدَعٍ قامَ في دِفاعِها، وجَهدَ في حَطِّ يَفَاعِها، ومخالفةِ مِلَلٍ بَيَّنَ لها خطأ التأويلِ، وسَقَمَ التَّعليلِ، وأسكَتَ طَنِينَ الذُّباب في خياشيم رؤوسهم بالأضاليل، حتَّى ناموا في مراقدِ الخضُوع، وقاموا وأرجلُهم تَتساقَطُ للوقوع، بأدِلَّةٍ أقطعَ من السيوف، وأجمعَ من السُّجُوف، وأجلَى من فَلَقِ الصَّباح، وأجلبَ من فِلَقِ الرّماحِ.
إذا وَثَبَتْ في وجهِ خَطْبٍ تمزَّقَتْ
…
على كتفيهِ الدِّرْعُ وانْتَثَر السَّرْدُ
إلَّا أنَّ سابقَ المقدور أوقَعَه في خَلَلِ المَسَائِل، وخَطَل خَطَأٍ لا يأمَنُ فيه مع الإكثارِ قائِلٌ، وأظنُّه ــ واللهُ يَغفِرُ له ــ عُجِّلَتْ له في الدنيا المقاصَّة، وأخذ نَصِيبَه من بلواها عامَّةً وله خاصَّة، وذلك لحطِّه على بعض سلفِ العلماء، وحَلِّه لقواعدَ كثيرةٍ من نواميسِ القدماء، وقِلَّةِ توقيرِه للكُبَراء، وكثرةِ تكفيرِه للفُقراء، وتزييفه لغالبِ الآراء، وتقريبه لجهَلَةِ العوامِّ وأهلِ المِراء، وما أفتَى به آخرًا في مسألتَي الزيارةِ والطلاق، وإذاعتِه لهما حتَّى تكلّم فيهما من لا دينَ له ولا خلاق، فسلّط ذُبالَ الأعداءِ على سَلِيطه، وأطلقَ أيديَ الاعتداءِ في تفريطِه، ولَقَّمَ نارَهم سَعَفَه، وأرَى أقساطَهم سَرَفه، فلم يَزَلْ إلى أن ماتَ عِرْضُه منهوبًا، وعَرْضُه مَوْهُوبًا، وصَفَاتُه تَتصدَّع، ورُفَاتُه لا يتجمَّع، ولعلَّ هذا لخيرٍ أُريدَ به، وأُرِيغَ له لحُسنِ مُنقَلَبه.
وكان تعمُّده
(1)
للخلاف، وتَقصُّدُه بغيرِ طريقِ الأسْلَاف، وتقويتُه للمسائل الضعاف، وتقويضُه عن رؤوسِ السِّعاف، يُغَيّر مكانته من خاطِر
(1)
الأصل: «لتعمده» ولعل الصواب ما أثبتنا بدليل ما سيأتي (ص 635).
السلطان، ويُسَبِّب له التغرُّبَ عن الأوطان، وتُنَفّذُ إليه سِهامَ الألسنةِ الرواشِق، ورِماحَ الطَّعنِ في يدِ كلِّ ماشق، فلهذا لم يَزَلْ مُنغَّصًا عليه طولَ مُدَّتِه، لا تكادُ تَنفرِجُ عنه جوانبُ شِدَّتِه
(1)
.
هذا مع ما جَمعَ من الورع، وإلى ما فيه من العُلَى، وما حازَه بحذافيرِ الوجود في الجود، كانت تأتيه القَناطيرُ المقنطرةُ من الذهب والفضة والخيلِ المُسَوَّمةِ والأنعامِ والحرثِ، فيَهَبُه بأجمعِه، ويَضعُه عند أهل الحاجةِ في موضعِه، لا يأخذ منه شيئًا إلَّا ليهَبه، ولا يَحفظُه إلَّا ليُذْهِبَه كُلَّه في سبيل البرّ، وطريق أهلِ التواضع لا أهلِ الكِبْر. لم يَمِلْ به حُبُّ الشهوات، ولا حُبِّبَ إليه من ثلاثِ الدنيا غير الصلاة.
ولقد نافستْ ملوك جَنكِزْ خان عليه، ووَجَّهَت دسائِسَ رُسُلِها إليه، وبعثَتْ تجدُّ في طلبهِ، فنُوسِيَتْ عليه لأمورٍ أعظمُها خوفُ توتُّبِه، وما زال على هذا ومثلِه إلى أنْ صَرعَه أجلُه، وأتاهُ بَشِيْرُ الجَنَّةِ يَستعجلُه، فانتقل إلى اللهِ والظنُّ به أنَّه لا يُخجِلُه.
وُلِد بحرَّان يومَ الاثنين عاشرَ ربيع الأوَّل سنة إحدى وستين وستمائة، وقَدِم مع والدِه وأهلِه دمشقَ وهو صغير، فسمعَ ابن عبد الدَّائم وطبقتَه، ثمَّ طلبَ بنفسه قراءةً وسماعًا من خلقٍ كثير، وقرأ بنفسه الكتب، وكَتبَ الطباقَ والأثباتَ، ولازمَ السماعَ مدةَ سنين، واشتغل بالعلوم.
وكان من أذكى النَّاس، كثير الحفظ قليل النسيان، قلَّما حفظ شيئًا فنسيه.
(1)
ما سبق من كلام المؤلف، ناتج عن تأثره بما كان عليه أهلُ عصره من معاداةٍ لشيخ الإسلام، واتهامه بما هو منه براء.
وكان إمامًا في التفسير وعلوم القرآن، عارفًا بالفقه واختلاف الفقهاء والأصلينِ والنحو وما يتعلق به، واللغة والمنطق وعلم الهيئة والجَبْر والمقابلة، وعلم الحساب، وعلم أهلِ الكتابين وأهلِ البدع، وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية. وما تكلَّم معه فاضل في فنّ من الفنون إلَّا ظنَّ أنَّ ذلك الفنَّ فنُّه. وكان حُفَظَةً للحديث، مُميّزًا بين صحيحه وسقيمه، عارفًا برجالِه متضلّعًا من ذلك.
وله تصانيف كثيرة وتعاليق مفيدة وفتاويُّ مُشبَعة في الفروع والأصول، كمل منها جملة في الفقه والحديث وردِّ البدع بالكتاب والسنة، مثل: كتاب الصارم المسلول على مُنْتَقِصِ الرسول، وكتاب تبطيل التحليل، وكتاب اقتضاء الصراطِ المستقيم، وكتاب تأسيس التقديس في عشرين مجلدًا، وكتاب الرد على طوائف الشيعة أربع مجلدات، وكتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وكتاب السياسة الشرعية، وكتاب التصوف، وكتاب الكلم الطيب، وكتاب المناسك في الحج. وكان من أعرف النَّاس بالتاريخ، وكثير من مصنَّفاتِه مُسَوَّدة ما بُيِّضَتْ.
وتوفي والدُه وهو شاب، فوُلِّيَ مشيخَةَ الحديث بدار الحديث السكّرية، وحَضَرَ عنده جماعة من الأعيان، فشكروا عِلْمَه، وأثنوا عليه وعلى فضائله وعلومه، حتَّى قال الشَّيخ إبراهيم الرقّي:
الشَّيخ تقي الدِّين يُؤخذ عنه ويُقلَّد في العلوم، فإنْ طال عمره ملأ الأرضَ علمًا، وهو على الحق، ولا بُدَّ ما يُعاديَه النَّاس، فإنه وارثُ علم النُبوَّة.
وقال ابن الزَّمْلَكاني: لقد أُعطِيَ ابنُ تَيْميَّة اليدَ الطولَى في حُسن التصنيفِ وجودةِ العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين، وقد ألانَ الله له العلوم كما ألانَ
لداود الحديدَ. ثمَّ كتب على بعض تصانيف ابن تَيْميَّة من نظمه هذه الأبيات:
ماذا يقول الواصفون له
…
وصفاتُه جَلَّتْ عن الحَصْرِ
هو حُجَّةٌ للهِ قاهرةٌ
…
هو بيننا أعجوبَةُ العَصْرِ
هو آيةٌ في الخلقِ ظاهرةٌ
…
أنوارُها أربتْ على الفَجْر
ثمَّ نَزَغَ الشيطانُ بينَهما، وغَلبتْ على ابن الزَّمْلَكاني أهويتُه، فمالَ عليه مع مَن مال.
ولمَّا سافَر على البريد إلى القاهرة سنة سبعمائة نزلَ عند عمّي الصاحب شرف الدِّين تغمَّده الله برحمته، وحضَّ على الجهاد في سبيل الله، وأغلظَ في القولِ، ورُتِّب له مُرَتَّب في كلِّ يوم وهو دينار ومحفيَّة
(1)
، وجاءته بَقْجَة قماش، فلم يَقبل من ذلك شيئًا.
وقال القاضي أبو الفتح ابن دقيق العيد: لما اجتمعتُ بابن تَيْميَّة رأيتُ رجلًا كلُّ العلوم بينَ عينيه، يأخذ ما يُريد ويَدَعُ ما يريد.
وحَضَر عنده شيخنا العلّامة شيخ النحاة أبو حيَّان وقال: ما رأتْ عينايَ مثلَه، ثمَّ مدحه أبو حيان على البديهة في المجلس بقوله:
لمَّا أتينا تقيَّ الدِّين لاحَ لنا
…
داعٍ إلى اللهِ فردٌ ماله وَزَرُ
على مُحَيَّاهُ من سِيْمَا الأُلى صَحِبُوا
…
خيرَ البريَّةِ نورٌ دونَه القَمَرُ
حَبْرٌ تَسَرْبَلَ منه دَهرُه حِبرًا
…
بَحرٌ تَقَاذَفُ مِن أمواجه الدُّرَرُ
قامَ ابنُ تَيميَّةٍ في نَصْر شِرعَتِنَا
…
مَقامَ سَيِّدِ تَيْمٍ إذْ عَصَتْ مُضَرُ
(1)
كذا بالأصل.
فأظهرَ الحقَّ إذ آثارُهُ دَرَسَتْ
…
وأخمدَ الشَّرَّ إذ طارتْ له الشَّرَرُ
كُنّا نُحدَّث عن حَبْرٍ يجيءُ فهَا
…
أنتَ الإمامُ الذي [قد] كان يُنتظر
قلت: ثمَّ دَارَ بينهما كلامٌ جرى فيه ذكر سيبويه، فتسرَّعَ ابن تَيْميَّة فيه بقولٍ نافرَهُ عليه أبو حيان، وقطعه بسببه، ثمَّ عادَ أكثرَ النَّاس ذَمًّا له، واتخذه له ذنبًا لا يُغفَر.
ولمَّا قَدِمَ غازانُ دمشقَ خرجَ إليه ابن تَيْميَّة في جماعة من صلحاء الدماشقة، منهم القدوة الشَّيخ محمد بن قِوام، فلمَّا دخلوا على غازانَ كَانَ ممّا قال ابن تَيْميَّة للترجمان: قُلْ للقانِ: أنت تزعُم أنك مسلم ومعك قاضٍ وإمامٌ وشيخ ومؤذنون على ما بلغَنا، فغَزوتَنا، وأبوكَ وجَدُّك هُولاكو كانا كافرين وما عَمِلَا الَّذي عملتَ، عَاهَدا فَوَفَيا، وأنتَ عاهدتَ فغدرتَ، وقُلتَ فما وفيتَ. وجرتْ له مع غازان وقطلوشاه وبولاي أمورٌ ونُوبٌ، قام فيها كلها لله، وقال الحق ولم يخشَ إلّا الله.
أخبرنا قاضي القضاةِ أبو العَبَّاس ابن صصري أنهم لمَّا حضروا مجلسَ غازان قُدِّمَ لهم طعامٌ فأكلوا منه إلَّا ابنَ تَيْميَّة، فقيلَ له: لِمَ لا تأكُلُ؟ فقال: كيف آكلُ من طعامكم وكلُّه ممَّا نَهَبتُهم من أغنامِ النَّاس، وطَبختُموه مما قطعتم من أشجار النَّاس. ثمَّ إنَّ غازان طَلبَ منه الدعاءَ، فقال في دعائه: اللهم إن كنتَ تَعلمُ أنَّه إنَّما قاتلَ لتكون كلمةُ اللهِ هي العليا وجهادًا في سبيلك فأن تؤيده وتنصره، وإن كَانَ للملك والدنيا والتكاثر فأن تفعل به وتصنع، يدعو عليه وغازان يؤمّن على دعائه ونحن نجمع ثيابنا خوفًا أنْ يُقتل فيُطَرْطَشَ بدمه. ثمَّ لما خرجنا قلنا له: كدتَ تهلكنا معك ونحن ما نصحبك من هنا، فقال: ولا أنا أصحبكم، فانطلقنا عُصبةً وتأخر في خاصةِ مَنْ معه، فتسامعت
الخوانين والأمراء، فأتوه من كل فج عميق، وصاروا يتلاحقون به ليتبركوا برؤيته، فأما هو فما وصل إلَّا في نحو ثلثمائة فارس في ركابه، وأما نحن فخرج علينا جماعة، فسلحونا، وكان
(1)
لا يسمح لمناظريه في بلوغ مرادهم من ضَرْوِه، ويقول: ما لي وله؟
وكان قاضي القضاة أبو عبد الله ابن الحريري يقول: إن لم يكن ابن تَيْميَّة شيخ الإسلام فمن هو؟ !
ثمَّ بعد ذلك تمكن ابن تَيْميَّة في الشَّام حتَّى صار يَحلِق الرؤوس ويضرب الحدود ويأمر بالقطع والقتل. ثمَّ ظهر الشَّيخ نصر المنبجي واستولى على أرباب الدولة بالقاهرة، وشاع أمره وانتشر، فقيل لابن تَيْميَّة: إنَّه اتّحادي وإنه ينصر مذهب ابن العربي وابن سبعين، فكتب إليه نحو ثلاثمائة سطر يُنكر عليه، فتكلم نصر المنبجي مع قضاة مصر في أمره، وقال: هذا مبتدع، وأخاف على النَّاس من شرّه، فحسَّنَ القضاة للأمراء طلبَه إلى القاهرة، وأن يُعقد له مجلس، فعُقد له مجلس بدمشق، فلم يرضَ نصر المنبجي وقال لابن مخلوف: قل للأمراء: إنَّ هذا يُخشَى على الدولة منه، كما جرى لابن تومرت في بلاد المغرب فطُلِبَ من الأفرم نائب دمشق، فعُقِد له مجلس ثانٍ وثالث، بسبب العقيدة الحموية، ثمَّ سكنت القضية إلى أيام الجاشنكير، فأوهمه الشَّيخ نصر أنَّ ابن تَيْميَّة يُخرِجهم من الملك ويُقيم غيرَهم، فطُلِب إلى الديار المصرية، فمانع نائب الشام، وقال: قد عُقِد له مجلسان بحضرتي وحضرة القضاة والفقهاء، وما ظهر عليه شيء، فقال
(1)
أي: الخان.
الرسول لنائب دمشق: أنا ناصح لك، وقد قيل إنَّه يجمع الناسَ عليك، وعقد لهم بيعة، فجزع من ذلك، وأرسله إلى القاهرة في رمضان سنة خمس وسبعمائة، وكتب معه كتابًا إلى السلطان، وكُتِب معه محضر فيه خطوط جماعة من القضاة وكبار الصلحاء والعلماء بصورة ما جرى في المجلسين، وأنَّه لم يثبت عليه فيهما شيء، ولا مُنِع من الإفتاء، فما التفت إلى شيء من ذلك، وسُجِن بالإسكندرية مدةً ثمَّ عاد إلى دمشق.
وحكي من شجاعته في مواقف الحرب نوبة شَقْحب ونوبة كسروان ما لم يُسمع إلَّا عن صناديد الرجال وأبطالِ اللقاء وأحلاسِ الحرب، تارةً يباشر القتال، وتارةً يُحرّض عليه. وركب البريد إلى مهنّا بن عيسى واستحضره إلى الجهاد، وركب بعدها إلى السلطان واستنفره، وواجه بالكلام الغليظ أمراءه وعسكره، ولما جاء السلطان إلى شَقْحب لاقاه إلى قرن الحرَّة، وجعل يشجّعه ويُثبته، فلما رأى السلطان كثرة التَّتار قال: يا لخالد بن الوليد! ! فقال له: لا تقل هذا، بل قل يا الله، واستغثْ بالله ربِّك، ووحِّده وحدَه تُنْصر، وقل: يا مالكَ يوم الدِّين إياك نعبد وإياك نستعين. ثم ما زال يُقبل تارةً على الخليفة وتارةً على السلطان ويُهدّئُهما ويَربِط جأشهما حتَّى جاءَ نصرُ الله والفتح.
وحُكي أنَّه قال للسلطان: اثبُتْ فأنت منصور، فقال له بعض الأمراء: قل إن شاء الله تعالى، فقال: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا، فكان كما قال.
وحكى أبو حفص عمر بن عليّ بن موسى البزّار البغدادي، قال: حدّثني الشَّيخ المقرئ تقي الدِّين عبد الله بن أحمد بن سعيد قال: مرضتُ بدمشق مرضةً شديدةً، فجاءني ابن تَيْميَّة، فجلس عند رأسي وأنا مُثْقَل بالحمَّى والمرض، فدعا لي، ثمَّ قال: قم، جاءت العافية، فما كَانَ إلَّا أن قام وفارقني،
وإذا بالعافية قد جاءت، وشُفِيتُ لوقتي.
قلت: وكان يجيئه من المال في كل سنة ما لا يكاد يُحصى، فيُنفقه جميعه آلافًا ومئين، لا يلمس منه درهمًا بيده، ولا ينفقه في حاجةٍ له، وكان يعود المرضى، ويُشيّع الجنائز، ويقوم بحقوق النَّاس، ويتألَّف القلوب، ولا ينسب إلى باحثٍ لديه مذهبًا، ولا يحفظ لمتكلِّمٍ عنده زلَّةً، ولا يتشهَّى طعامًا، ولا يمتنع من شيء منه، بل هو مع ما حضر، لا يتجهَّم مَرآه، ولا يتكدَّرُ صفوه، ولا يسأمُ عفوَه.
وآخر أمره أنَّه تكلَّم في مسألتي الزيارة والطلاق، فأُخِذ وسُجِن بقلعةِ دمشق في قاعة، فتوفي بها في العشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، وحضر جمعٌ كبير إلى القلعة، وأُذِن لبعضهم في الدخول، وغُسل وصُلّي عليه بالقلعة، ثمَّ حُمِل على أصابع الرجال إلى جامع دمشق ضَحوةَ النهار، وصُلّي عليه، ودُفن بمقبرة الصوفية، وما وصل إلى قبره إلى وقت العصر، وخرج النَّاس من جميع أبواب البلد، وكانوا خلقًا لا يُحصيهم إلَّا الله تعالى، وحزِر الرجال بستين ألفًا والنساء بخمسة آلاف امرأةٍ، وقيل أكثر من ذلك. ورُئيَتْ له منامات صالحة. ورثاه جماعات من النَّاس بالشام ومصر والعراق والحجاز والعرب من آل فَضلٍ، رحمة الله عليه.
ورثيتُه بقصيدةٍ لي، هي:
أهكذا بالدياجي يُحجب القمر
…
ويُحبس النوءُ حتى يذهبَ المطرُ؟
أهكذا تُمنع الشمسُ المنيرة عن
…
منافع الأرض أحيانًا فتستَتِرُ؟
أهكذا الدهر ليلًا كلّه أبدًا
…
فليس يُعرف في أوقاته سحَر؟
أهكذا السيف لا تَمضِي مضاربُه
…
والسيف في الفتك ما في عزمه خَوَر؟
أهكذا القوس ترمى بالعراء وما
…
تُصمِي الرَّمايا وما في باعها قصر؟
أهكذا يترك البحرُ الخِضمُّ ولا
…
يُلوَى عليه، وفي أصدافه الدرر؟
أهكذا بِتَقِيّ الدِّين قد عَبِثتْ
…
أيدي العِدى وتعدّى نحوَه الضررُ؟
ألابنِ تيميّة تُرمى سهامُ أذًى
…
من الأنام ويُدْمى النابُ والظفُر؟
بذّ السوابقَ ممتدَّ العبادةِ لا
…
ينالُه ملَلٌ فيها ولا ضجر
ولم يكن مثله بعد الصحابة في
…
علم عظيمٍ وزهدٍ ما له خطرُ
طريقَةٌ كان يمشي قبل مشيتِه
…
بها أبو بكرٍ الصدّيقُ أو عمرُ
فردُ المذاهب في أقوال أربعةٍ
…
جاؤوا على أثر السُّبَّاقٍ وابتدروا
لمّا بنَوا قبله عُليا مذاهبهم
…
بنى وعمّر منها مثلَ ما عمَروا
مثل الأئِمّة قد أحيا زمانَهُمُ
…
كأنّه كان فيهم وهو منتَظَر
إن يرفعوهم جميعًا رفع مبتدإٍ
…
فحقُّه الرفع أيضًا إنّه خبرُ
أمثلُه بينكم يُلقَى بمَضيَعةٍ
…
حتّى يطيح له عمدًا دمٌ هدَرُ
يكون وهْوَ أمانيٌّ لغيركُمُ
…
تنوبه منكُمُ الأحداثُ والغِير
والله لو أنّه في غيرِ أرضكمُ
…
لكان منكم على أبوابه زُمَرُ
مثل ابن تيميّةٍ يُنسى بمحبسه
…
حتى يموت ولم يُكحَل به بصر
مثل ابن تيميّة تُرْضى حواسدُه
…
بحبسِه ولكُمْ في حبسِه عذر
مثل ابن تيميّةٍ في السجن معتقَلٌ
…
والسجن كالغمدِ وهو الصارمُ الذكر
مثل ابن تيميّةٍ يُرمى بكلِّ أذًى
…
وليس يُجلى قذًى منه ولا نظَرُ
مثل ابن تيميّةٍ تذوى خمائلُه
…
وليس يُلقط من أفنانِه الزهَر
مثل ابن تيميّةٍ شمسٌ تغيبُ سُدًى
…
وما تَرِقُّ لها الآصال والبُكر
مثل ابن تيميّةٍ يمضي وما عبقت
…
بمسكه العاطِرِ الأردانُ والطُرَرُ
مثل ابن تيميّةٍ يمضي وما نهلَت
…
له سيوفٌ ولا خطيّة سُمر
ولا تجارى له خيلٌ مسوّمَةٌ
…
وجوهُ فرسانها الأوضاحُ والغرَرُ
ولا تَحُفّ به الأبطالُ دائرةً
…
كأنهُم أنجمٌ في وسطها قمَر
ولا تعبّس حربٌ في موافِقِه
…
يومًا ويضحكُ في أرْجائه الظفرُ
حتَى يقوّمَ هذا الدِّين مِن مَيَلٍ
…
ويستقيم على منهاجه البشرُ
بل هكذا السلفُ الأبرارُ ما برِحُوا
…
يُبلى اصطبارهمُ جهدًا وَهُمْ صبُرُ
تأسّ بالأنبياءِ الطُّهر كم بلغَتْ
…
فيهم مضرّةُ أقوام وكم هُجروا
في يوسف في دخول السجن منقَبة
…
لمن يكابدُ ما يلقى ويصطبرُ
ما أُهمِلوا أبدًا بل أمهلوا لمدًى
…
والله يُعقِبُ تأييدًا وينتصِرُ
أيذهبُ المنهلُ الصافي وما نُقعت
…
به الظماءُ وتبْقى الحمأةُ الكدر؟
مضى حميدًا ولم يعلق به وضرٌ
…
وكلّهم وضرٌ في الناس أو وَذَر
طوْدٌ من الحِلم لا يَرقى له قُننٌ
…
كأنّما الطودُ من أحجاره حجرُ
بحرٌ من العلم قد فاضت بقيّتُه
…
فغاضت الأبحرُ العظمى وما شعروا
يا ليت شعريَ هل في الحاسدين له
…
نظيره في جميع القوم إن ذُكِروا
هلْ فيهمُ لحديث المصطفى أحدٌ
…
يميّزُ النقدَ أو يُروى له خبر؟
هل فيهمُ من يضمّ البحث في نظرٍ
…
أو مثله من يضمّ البحثُ والنظرُ؟
هلّا جَمعتُمْ له من قومكم ملأً
…
كفعل فرعَوْنَ مَعْ مُوسى لتعتبروا؟
قولوا لهم: قال هذا فابحثوا مَعه
…
قدّامَنا وانظروا الجهّال إن قدروا
تُلقي الأباطيلَ أسحَارٌ لها دَهَشٌ
…
فيلقفُ الحقُّ ما قالوا وما سحرُوا
فليتهُم مثل ذاك الرهطِ من ملأٍ
…
حتى يكون لكم في شأنهم عِبَر
وليتهم أذعنوا للحقّ مثلهم
…
فآمنوا كلّهم من بعد ما كفرُوا
يا طالما نفروا عنه مجانبةً
…
وليتَهم نفَعوا في الضيم أو نفروا
هل فيهِمُ صادع بالحقّ مِقولُه
…
أو خائض للوغى والحرب تَسْتَعِرُ؟
رمى إلى نحر غازانٍ مواجهةً
…
سِهامَه من دعاءٍ عونُه القدَرُ
بتلِّ راهطَ والأعداءُ قد غلبوا
…
على الشآم وطار الشرّ والشرر
وشَقّ في المرج الأسياف مسلطةٌ
…
طوائفًا كلّها أو بعضُها التتر
هذا وأعداؤه في الدور أشجعهم
…
مثلُ النساء بظلّ الباب مُستتِر
وبعدها كسروانٌ والجبال قد
…
أقام أطوادها والطوْد منفطِر
واستحصد القوم بالأسياف جهدهُمُ
…
وطالما بطلوا طغوى وما بطروا
قالوا: قبرناه، قلنا: إنّ ذا عجبٌ
…
حقًّا أللكوكب الدرّيّ قد قبرُوا؟
وليس يذهبُ معنًى منه متّقدٌ
…
وإنّما تذهبُ الأجسام والصور
لم يَبْكِه ندمًا من لا يصبّ دمًا
…
يجري به ديَمًا تهمي وتنهمِر
لهفي عليك أبا العبّاس كم كرم
…
لمَّا قَضَيتَ قضى من عمره العمرُ
سَقَى ثراك من الوسمِيّ صيّبُه
…
وزانَ مغناك قَطْرٌ كلّه قُطُر
ولا يزال له برقٌ يغازله
…
حلوُ المراشف في أجفانه حور
لِفقدِ مثلِك يا مَن ما له مَثَل
…
تأسى المحاريب والآياتُ والسورُ
يا وارثًا من علوم الأنبياء نُهًى
…
أورثت قلبيَ نارًا وقدُها الفِكَرُ
يا واحدًا لستُ أستَثْنِي به أحدًا
…
من الأنام ولا أُبقِي ولا أذرُ
يا عالمًا بنقول الفقهِ أجمعِها
…
أعنك تُحفظ زلّاتٌ كما ذكروا؟
يا قامعَ البدَع اللاتي تجنّبَها
…
أهلُ الزمان، وهذا البدوُ والحضرُ
ومُرشد الفرقةِ الضلّال نهجَهُم
…
من الطريق فما حارُوا ولا سهروا
الم تكن للنصارى واليهودِ معًا
…
مجادلًا، وهمُ في البحث قد حَصِروا
وكم فتًى جاهلٍ غِرٍّ أبَنتَ له
…
رُشدَ المقال فزال الجهلُ والغرَر
ما أنكروا منك إلّا أنَّهُمْ جَهِلوا
…
عظيم قدرِك لكن ساعدَ القدر
قالوا بأنّك قد أخطأتَ مسألةً
…
وقد يكون، فهلّا منك تُغْتَفَرُ؟
غلَطتَ في الدهرِ أو أخطأتَ واحدة
…
أمَا أجَدتَ إصاباتٍ فتعتذرُ؟
ومَن يكون على التحقيق مجتهدًا
…
له الثوابُ على الحالَين، لا الوزرُ
ألم تكن بأحاديث النبيّ إذا
…
سُئِلتَ تعرِفُ ما تأتي وما تذر؟
حاشاك من شبُهٍ فيها ومن شبهٍ
…
كلاهُما منك لا يبقى له أثرُ
عليك في البحث أن تبدي غوامضَهُ
…
قدّمتَ لله ما قدّمتَ من عملِ
…
وما عليك بهم، ذمّوك أو شكروا
هَل كان مثلُك من يخفى عليه هدًى
…
ومن سَمائك تبدو الأنجمُ الزُّهُرُ
وكيف تحذر من شيءٍ تزلّ به
…
أنت التقيّ فماذا الخوفُ والحذرُ؟
* * * *
تتِمَّةُ المخْتَصَر في أخْبارِ البَشَر
(1)
للعلَّامة عمر بن المظفَّر ابن الوردي (749)
وفيها
(2)
في ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة توفي شيخ الإسلام تقي الدِّين أبو العَبَّاس، أحمد بن المفتي شهاب الدِّين عبد الحليم بن شيخ الإسلام مجد الدِّين أبي البركات عبد السَّلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تَيْميَّة الحَرَّاني الحنبلي معتقلًا بقلعة دمشق، وغُسل وكُفن وأُخرج وصلَّى عليه أولًا بالقلعة الشَّيخ محمد بن تمام، ثمَّ بجامع دمشق بعد الظهر، وأُخرج من باب الفرج، واشتدّ الزحام في سوق الخيل، وتقدّم عليه في الصلاة هناك أخوه، وألقى الناس عليه مناديلهم وعمائمهم للتبرُّك! وتراصّ الناس تحت نعشه، وحُزِرت النساء بخمسة عشر ألفًا، وأما الرجال فقيل: كانوا مئتي ألف. وكَثُر البكاء عليه، وخُتمت له عدة ختم، وتردد الناس إلى زيارة قبره أيامًا، ورئيَتْ له منامات صالحة ورثاه جماعة.
قلت: ورثيته أنا بمرثية على حرف الطاء؛ فشاعت واشتهرت، وطلبها مني الفضلاء والعلماء من البلاد وهي:
عَثَا في عرضه قومٌ سِلاطٌ
…
لهم من نَثْر جوهره التقاطُ
تقي الدِّين أحمد خيرُ حبر
…
خُروق المعضلات به تُخاطُ
توفّي وهو محبوسٌ فريدٌ
…
وليس له إلى الدنيا انبساطُ
(1)
2/ 406 - 413 (نشر دار المعرفة، بيروت، 1389)، و 2/ 285 - 289 (ط. مصر 1285).
(2)
أي في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
ولو حضروه حين قضى لألفوا
…
ملائكةَ النعيمِ به أحاطوا
قضى نحبًا وليس له قرينٌ
…
ولا لنظيره لَفَّ القِماط
فتًى في علمه أضحى فريدًا
…
وحلُّ المشكلات به يُناط
وكان إلى التقى يدعو البرايا
…
وينهى فِرْقةً فسقوا ولاطوا
وكان الجن تَفْرق من سَطَاهُ
…
بوعظٍ للقلوب هو السِّياط
فيا لله ما قد ضمَّ لحدٌ
…
ويا للهِ ما غطَّى البلاط
هم حسدوه لمّا لم ينالوا
…
مناقبه فقد مكروا وشاطوا
وكانوا عن طرائقه كُسالى
…
ولكن في أذاه لهم نشاط
وحَبْسُ الدُّرِّ في الأصداف فخر
…
وعند الشيخ بالسِّجْن اغتباط
بآل الهاشمي له اقتداء
…
فقد ذاقوا المَنُون ولم يُواطوا
نبو تيميةٍ كانوا فبانوا
…
نجوم العلم أدركها انهباط
ولكن يا ندامة حابسيه
…
فشك الشرك كان به يماط
ويا فرح اليهود بما فعلتم
…
فإن الضد يعجبه الخباط
ألم يك فيكم رجلٌ رشيد
…
يرى سَجْن الإمام فيُسْتَشَاط
إمام لا وِلاية كان يرجو
…
ولا وقف عليه ولا رِباط
ولا جاراكُمُ في كسب مالٍ
…
ولم يُعهد له بكم اختلاط
ففيم سجنتموه وغِظْتُمُوه
…
أما لجزا أذيته اشتراط
وسَجْن الشَّيخ لا يرضاه مثلي
…
ففيه لِقَدْر مثلكم انحطاط
أما والله لولا كَتْم سرّي
…
وخوف الشر لانحل الرباط
وكنتُ أقولُ ما عندي ولكن
…
بأهل العلم ما حَسُن اشتطاط
فما أحد إلى الإنصاف يدعو
…
وكلّ في هواه له انخراط
سيظهر قصدكم يا حابسيه
…
وننبئكم إذا نُصِبَ الصِّراط
فها هو مات عنكم واسترحتم
…
فعاطوا ما أردتم أن تُعاطوا
وحلوا واعْقِدوا من غير ردٍّ
…
عليكم وانطوى ذاك البساط
وكنت اجتمعت به ــ رحمه الله تعالى ــ بدمشق سنة خمس عشرة وسبعمائة بمسجده بالقصاعين، وبحثت بين يديه في فقهٍ وتفسيرٍ ونحو، فأعجبه كلامي وقبَّل وجهي وإني لأرجو بركة ذلك، وحكى لي عن واقعته المشهورة في جبل كسروان، وسَهِرت عنده ليلة، فرأيت من فتوّته ومروءَته ومحبَّته لأهل العلم ولا سيما الغرباء منهم أمرًا كثيرًا، وصلَّيت خلفه التراويح في رمضان فرأيت على قراءته خشوعًا، ورأيت على صلاته رِقَّةَ حاشيةٍ تأْخذ بمجامع القلوب.
مولده ــ رحمه الله ورحمنا به
(1)
ــ بحرّان يوم الاثنين عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وست مئة، هاجر والده به وبإخوته إلى الشَّام من جَوْر التتر، وعني الشَّيخ تقي الدِّين بالحديث، ونسخ جملةً، وتعلم الخط والحساب في المكتب، وحفظ القرآن، ثمَّ أقبل على الفقه، وقرأ أيامًا في العربية على ابن عبد القوي، ثمَّ فهمها، وأخذ يتأمَّل كتاب سيبويه حتَّى فهمه، وبرع في النحو، وأقبل على التّفسير إقبالًا كلِّيًّا حتَّى سبق فيه، وأحكم أُصول الفقه، كل هذا وهو ابن بضع عشرة سنة، فانبهر الفضلاء من فرط ذكائه وسيلان ذهنه وقوة حافظته وإدراكه، ونشأ في تصوُّن تامٍّ وعفاف وتعبُّد واقتصاد في الملبس والمأكل.
وكان يحضر المدارس والمحافل في صغره، فيناظر ويفحم الكبار ويأتي
(1)
هذا من التوسل الممنوع.
بما يتحيّرون منه، وأفتى وله أقل من تسع عشرة سنة، وشرع في الجمع والتأليف ومات والده وله إحدى وعشرون سنة، وبعُدَ صيته في العالم فطبَّق ذكره الآفاق وأخذ في تفسير الكتاب العزيز أيام الجُمع على كرسي من حفظه فكان يورد المجلس ولا يتلعثم، وكذلك الدرس بتؤدة وصوت جَهْوري فصيح يقول في المجلس أزيد من كراسين، ويكتب على الفتوى في الحال عدة أُوصال بخط سريع في غاية التعليق والإغلاق.
قال الشَّيخ العلامة كمال الدِّين بن الزَّمْلَكاني علم الشافعية من خطٍّ كَتبَه في حق ابن تَيْميَّة: كَانَ إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنَّه لا يعرف غير ذلك الفن وحكم بأن لا يعرفه أحد مثله، وكانت الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا في مذاهبهم منه أشياء، قال: ولا يعرف أنَّه ناظر أحدًا فانقطع معه ولا تكلم في علم من العلوم سواء كَانَ من علوم الشرع أو غيرها إلَّا فاق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها. انتهى كلامه.
وكانت له خبرة تامَّة بالرجال وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث وبالعالي والنازل والصحيح والسقيم، مع حفظه لمتونه الَّذي انفرد به وهو عجيب في استحضاره واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إلى «الكتب السِّتَّة» و «المسند» بحيث يصدق عليه أن يقال:«كل حديث لا يعرفه ابن تَيْميَّة فليس بحديث» ولكن الإحاطة لله غير أنَّه يغترف فيه من بحر وغيره من الأئمة يغترفون من السّواقي. وأمّا التفسير فسلم إليه، وله في استحضار الآيات للاستدلال قوة عجيبة، ولفرط إمامته في التفسير وعظمة اطّلاعه بيَّن خطأ كثير من أقوال المفسرين، وكان يكتب في اليوم
والليلة من التفسير، أو من الفقه أو من الأصلين أو من الرّدِّ على الفلاسفة والأوائل نحوًا من أربعة كراريس، قال: وما يبعد أنّ تصانيفه إلى الآن تبلغ خمس مئة مجلد.
وله في غير مسألة مصنَّف مفرد كمسألة التحليل وغيرها، وله مصنف في الرد على ابن مطهر العالم الحِلِّي في ثلاث مجلدات كبار، وتصنيف في الرد على «تأْسيس التقديس» للرازي في سبع مجلدات، وكتاب في الرد على المنطق، وكتاب في «الموافقة بين المعقول والمنقول» في مجلدين، وقد جمع أصحابه من فتاويه ست مجلدات كبار. وله باع طويل في معرفة مذاهب الصَّحابة والتابعين قلَّ أنْ يتكلَّم في مسألة إلَّا ويذكر فيها مذاهب الأربعة، وقد خالف الأربعة في مسائل معروفة، وصنف فيها واحتج لها بالكتاب والسنة.
قال القاضي المنشئ شهاب الدِّين أبو العَبَّاس أحمد بن فضل الله في ترجمته: «جلس الشَّيخ إلى السلطان محمود غازان حيث تَجِم الأُسْدُ في آجامِها، وتَسقُط القلوبُ في دواخلِ أجسامِها، وتجِدُ النارُ فتورًا في ضَرَمِها، والسيوفُ فرقًا في قَرَمِها، خوفًا من ذلك السَّبُعِ المغتال، والنمروذِ المختال، والأجل الَّذي لا يُدفَع بحيلةِ مُحتال، فجلس إليه وأومأ بيده إلى صدرِه، وواجَهَه ودرأ في نَحْرِه، وطَلَبَ منه الدُّعَاء، فرفعَ يديه ودعَا دُعاءَ مُنصفٍ أكثرُه عليه، وغازانُ يؤمِّنُ على دعائه.
وله مصنف سماه «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية» وكتاب «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» وبقي عدّة سنين لا يُفتي بمذهب معيَّن بل بما قام الدليل عليه عنده، ولقد نصر السنة المحضة والطريقة السلفية،
واحتج لها ببراهين ومقدمات وأُمور لم يُسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا وجَسَر هو عليها، حتَّى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قيامًا لا مزيد عليه بدّعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي بل يقول الحق المر الَّذي أدى إليه اجتهاده وحدة ذهنه وسعة دائرته في السنن والأقوال، وجرى بينه وبينهم حملات حربية ووقعات شامية ومصرية.
كَانَ معظِّمًا لحرمات الله دائم الابتهال كثير الاستعانة قوي التوكل ثابت الجأش، له أوراد وأذكار يُديمها، وله من الطرف الآخر محبون من العلماء والصلحاء والجند والأُمراء والتجار والكبراء وسائر العامة تحبه، بشجاعته تُضْرب الأمثال وببعضها يتشبه أكابر الأبطال، ولقد أقامه الله في نوبة غازان والتقى أعباء الأمر بنفسه واجتمع بالملك مرتين وبخطلو شاه وبولاي، وكان قبجق يتعجب من إقدامه وجرأته على المغل.
وكتب ابن الزَّمْلَكاني على بعض تصانيف ابن تَيْميَّة هذه الأبيات:
ماذا يقولُ الواصفونَ له
…
وصفاته جلَّت عن الحصر
هو حجَّةٌ لله قاهرةٌ
…
هو بيننا أُعجوبةُ العصرِ
هو آيةٌ في الخلقِ ظاهرةٌ
…
أنوارها أربتْ على الفجر
ولما سافر ابن تَيْميَّة على البريد إلى القاهرة سنة سبع مئة وحضَّ على الجهاد رتب له مرتب في كل يوم وهو دينار وتحفة
(1)
، وجاءته بقجة قماش فلم يقبل من ذلك شيئًا.
(1)
كذا هنا، وقد سبق فيما مضى:«محفية» .
وقال القاضي أبو الفتح بن دقيق العيد: لما اجتمعت بابن تَيْميَّة رأيت رجلًا كل العلوم بين عينيه يأْخذ ما يريد ويدع ما يريد. وحضر عنده شيخ النحاة أبو حيَّان وقال: ما رأت عيناي مثله. وقال فيه على البديهة أبياتًا منها:
قامَ ابن تيميَّة في نصر شِرْعتنا
…
مقام سيِّد تَيْم إذ عَصَتْ مُضَر
فأظهر الحقَّ إذ آثاره دَرَست
…
وأخْمد الشرَّ إذ طارت له الشرر
كنا نُحدَّث عن حَبْرٍ يجيء فها
…
أنت الإمام الذي قد كان يُنْتظر
ولما جاء السلطان إلى شَقْحب والخليفة لاقاهما إلى قرن الحرة، وجعل يثبتهما، فلما رأى السلطان كثرة التَّتار قال: يا خالد بن الوليد! قال: قل: يا مالك يوم الدِّين إياك نعبد وإياك نستعين، وقال للسلطان: اثبت فأنت منصور. فقال له بعض الأمراء: قل: إن شاء الله. فقال: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا. فكان كما قال». انتهى ملخصًا
(1)
.
وهو أكبر من أن ينبه مثلي على نعوته، فلو حلفت بين الركن والمقام لحلفت: أني ما رأيت بعيني مثله ولا رأى هو مثل نفسه في العلم، وكان فيه قلَّة مداراة وعدم تؤدة غالبًا، ولم يكن من رجال الدول ولم يسلك معهم تلك النواميس، وأعان أعداءه على نفسه بدخوله في مسائل كبار لا تحتملها عقول أبناء زماننا ولا علومهم، كمسألة: التكفير في الحلف بالطلاق، ومسألة: أنَّ الطلاق بالثلاث لا يقع إلَّا واحدة، وأنَّ الطلاق في الحيض لا يقع، وساس نفسه سياسة عجيبة فحبس مرات بمصر ودمشق والإسكندرية، وارتفع وانخفض واستبد برأيه وعسى أنْ يكون ذلك كفارة له، وكم وقع في صعب
(1)
أي كلام ابن فضل الله العمري.
بقوة نفسه وخلَّصه الله.
وله نظم وسط، ولم يتزوج ولا تسرَّى ولا كَانَ له من المعلوم إلَّا شيء قليل وكان أخوه يقوم بمصالحه، وكان لا يطلب منهم غداء ولا عشاء غالبًا، وما كانت الدنيا منه على بال. وكان يقول في كثير من أحوال المشايخ إنها شيطانية أو نفسانية فينظر في متابعة الشَّيخ الكتاب والسنة فإن كَانَ كذلك فحاله صحيح وكشفه رحماني غالبًا وما هو بالمعصوم، وله في ذلك عدة تصانيف تبلغ مجلدات، من أعجب العجب، وكم عوفي من «الصراعِ الجنيِّ» إنسانٌ بمجرد تهديده للجني، وجَرَت له في ذلك فصول ولم يفعل أكثر من أن يتلوَ آيات ويقول: إن لم تنقطع عن هذا المصروع وإلّا عملنا معك حكم الشرع وإلّا عملنا معك ما يرضي الله ورسوله، وفي آخر الأمر ظفروا له بمسألة السفر لزيارة قبور النبيين، وأنَّ السفر وشد الرحال لذلك منهي عنه لقوله صلى الله عليه وسلم:«لا تُشَد الرِّحال إلَّا إلى ثلاثة مساجد» . مع اعترافه بأنَّ الزيارة بلا شدِّ رحلٍ قربة، فشنعوا عليه بها، وكتب فيها جماعة بأنه يلزم من منعه شائبة تنقيص للنبوَّة فيكفر بذلك.
وأفتى عدّة بأنه مخطئٌ بذلك خطأ المجتهدين المغفور لهم، ووافقه جماعة وكبرت القضية فأُعيد إلى قاعة بالقلعة فبقي بضعة وعشرين شهرًا، وآل الأمر إلى أن مُنِع من الكتابة والمطالعة، وما تركوا عنده كراسًا ولا دواة، وبقي أشهرًا على ذلك، فأقبل على التلاوة والتهجد والعبادة حتَّى أتاه اليقين فلم يفجأ الناسَ إلَّا نعيُه وما علموا بمرضه، فازدحم الخلق عند باب القلعة وبالجامع زحمة صلاة الجمعة وأرجح، وشيَّعه الخلق من أربعة أبواب البلد وحمل على الرؤوس، وعاش سبعًا وستين سنة وأشهرًا، وكان أسود الرأْس
قليل شيب اللحية، ربْعةً، جَهْوري الصوت أبيض أعْيَن.
قلت: تنقَّص مرة بعض النّاس من ابن تَيْميَّة عند قاضي القضاة كمال الدِّين ابن الزَّمْلَكاني وهو بحلب وأنا حاضر فقال كمال الدين: ومن يكون مثل الشَّيخ تقي الدِّين في زهده وصبره وشجاعته وكرمه وعلومه! ! والله لولا تعرضه للسلف
(1)
لزاحمهم بالمناكب. وهذه نبذة من ترجمة الشيخ مختصرةٌ، أكثرها من «الدرة اليتيمية في السيرة التيمية» للإمام الحافظ شمس الدِّين محمد الذهبي. والله أعلم.
* * * *
(1)
ابن الزملكاني يقصد سَلَفَه فيما ذهب إليه هو! !
برنامج ابن جابر الوادي آشي
(1)
للشيخ شمس الدِّين محمد بن جابر الوادي آشي (749)
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تَيْميَّة.
مفتي الشام، ومحدِّثه، وحافظه، ويركب شواذ الفتاوي
(2)
، ويزعم أنَّه مجتهد مصيب!!
سمع ابن عبد الدَّائم، وابن أبي اليُسر، وابن أبي الخير، وابن عطاء، وفخر الدِّين بن عساكر، وفخر الدِّين بن البخاري، وغيرهم، وله تواليف.
ومولده بحرَّان يوم الاثنين العاشر لربيع الأوَّل عام أحدٍ وستين وست مئة.
* * * *
(1)
(ص 109 - 110) نشر مركز البحث العلمي وإحياء الترات الإسلامي بمكة المكرمة، (1401)، تحقيق د/ محمد الهيلة.
(2)
لم يُفتِ الشيخ بمسألةٍ إلَّا وله فيها سلفٌ. ولم يشذَّ عنهم برأيٍ لا دليل عليه.
سيرة شيخ الإسلام ابن تيميَّة
مِن كتب تلميذه ابن قيِّم الجوزيَّة (751)
1 ــ مكانة الشيخ في العلم، ومواقفه في الإفتاء.
2 ــ أخلاق الشيخ وصفاته وعبادته.
3 ــ مواقفه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
4 ــ الكافية الشافية.