المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌11 - جواب شبهة أخرى: - الجرح والتعديل للقاسمي

[جمال الدين القاسمي]

الفصل: ‌11 - جواب شبهة أخرى:

مبتدع عند المبتدع، وكل يدعي أنه محق وينكر كونه مبتدعًا». اهـ.

وبالجملة فهم مخالفون بنظر غيرهم، وأما عند أنفسهم فغيرهم هو المخالف وهم الموافقون، وحاشا لمؤمن عالم أن يخالف كِتَابًا أَوْ سُنَّةً عَامِدًا مُتَعَمِّدًا، فهم مجتهدون مثابون؛ إذ لم يَأْلُوا جُهْدًا فيما ذهبوا إليه، وإن كنت لا تقول به وترى الحُجَّةَ فيما أنت عليه، على أن ما تسميه أنت نَصًّا هم يرونه ظاهرًا، إذ دعوى نَصِّيَّةَ الشيء ليست بالأمر اليسير، لأن النص هو القاطع في معناه، المفيد لليقين في فحواه، وهذا إنما يكون في محكمات الدين، وأصوله التي لم يختلف فيها الفِرَقُ كُلُّهَا، وأما ما عداه فكلها ظواهر، وقد يراها البعض باجتهاده نَصًّا، وليس اجتهاد مجتهد بقاضٍ على اجتهاد آخر. وعلى من يريد تحقيق هذا أن يراجع مطولات الخلاف، ويطالع مآخذ المجتهدين، ومن أنفع ما ألف في هذا الباب كتاب " رفع الملام عن الأئمة الأعلام " لشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله فإنه جدير لو كان في الصين أَنْ يُرْحَلَ إليه، وَأَنْ يُعَضَّ بِالنَّواجِذِ عَلَيْهِ، فرحم الله من أقام المعاذير للأئمة، وعلم أن سعيهم إنما هو إلى الحق وَالهُدَى، كما أسلفنا وبالله التوفيق.

‌11 - جَوَابُ شُبْهَةٍ أُخْرَى:

يزعم بعضهم بأنه: يحتمل أن يكون الراوي تحمل عن

ص: 26

المُبَدَّعِ قبل تمذهبه بذلك المذهب، وهذا جهل بمذاهب الرواة، ومشارب الرجال، فإن كل من أَلَّفَ في نقد الرجال لم يذكر في المشاهير منهم أنه كان على مذهب كذا، أو أن الحافظ الفلاني تَحَمَّلَ عن فلان قبل تمذهبه بمذهب كذا، ومثل هذا إنما يؤخذ عن النقلة الأثبات كالمصنفين في أحوال الرجال، ولا يمكن الاجتهاد فيه بحال من الأحوال، ولذا تراهم يقولون في ترجمة الراوي: كَانَ خَارِجِيًّا. ونحو ذلك قولاً واحدًا. وحبذا أن يكون ما ذكره مأثورًا عن إمام مُؤَرِّخٍ مشهور، وأما القول بالاحتمال، فإذا فُتح أَوْرَثَ الاضمحلال، لكل ما يُعَوَّلُ عليه في الاستدلال، ومثل ذلك ما يقال: يحتمل أن يكون روى عنه وهو غير عالم بما هو عليه من فساد العقيدة! فهذا يزيد عما قَدَّمْنَا من الجهل بمذاهب الرُوَّاةِ تجهيل أئمة الحديث، ووصمهم بما هم بَرَآءٌ من الغباوة والبلاهة، وأنهم يتحملون عمن لا يعرفون مذهبه ولا مشربه، وأنهم كَحَاطِبِ لَيْلٍ، نعوذ بالله من ذلك، وأي عاقل يَجْرُؤُ على مثل ذلك في البخاري صاحب " التاريخ " في الرجال؟ بل من دونه من أرباب السنن وغيرهم ممن تكلم في الجرح والتعديل، وَمَيَّزَ بين صحيح الحديث وضعيفه، لثقة رجاله أو ضعفهم، وهل يعقل في صحاح، وسنن، ومسانيد، وموطآت، عليها مدار أدلة الأحكام، وَحُجَجِ الفروع، صنفت على الأسانيد المنوعة والمكررة بالأسماء وَالكُنَى

ص: 27

والألقاب - أن يكون جامعوها لا يدرون مشرب رجالها ولا ما يتحملونه - مع أن العَامِّيَّ وَالأُمِّيَّ نراه إذا خدم عَالِمًا لا يخفى عليه مشربه ومذهبه ورأيه وفكره، فكيف بعالم مؤلف، لا بل بإمام مجتهد يستنبط الأحكام من الأحاديث ويترجم عليها، ويزاحم من تقدمه من الأئمة في التخريج وَالرَدِّ والاستدراك والتفريع والتأصيل؟ ألا يدري مذهب رجال إسناده ونحلتهم، وهم عمدته في الاستدلال، وركنه في الاحتجاج؟؟ بلى! ثم بلى! وهو أجلى من أن يبرهن عليه، أو يرد على من كابر فيه، ولقد كان علم الجرح والتعديل، ومعرفة طبقات الرجال وتراجمهم من أوئل ما يدريه طلاب الحديث وَمُرِيدُو التحمل عن الحفاظ، ولكن من أين يدري أبناء هذا الجيل، ما كان عليه السلف من فنون التحصيل، وقد اندرست تلك العلوم، ولم يبق منها ولا الرسوم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وأما قول بعضهم: فكيف يستدل بإخراج الشيخين على عدم جواز المعاداة مع قيام هذه الاحتمالات؟ وكيف يسوغ للإنسان أن يتمسك بالمحتمل الذي لا تقوم به حُجَّة؟ فقد علمت سقوط هذه الاحتمالات،وأنها أشبه بالأوهام والخيالات، والتلاعب في الحقائق الواضحات، والمحتمل الذي تقوم به حُجَّةٌ هو الذي يتطرق إليه احتمال معقول، أو تأويل مقبول، جارٍ على قوانين التأويلات، والأوجه المعروفة في نظائره.

ص: 28