الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما احتمال في مقابلة حقيقة ثابتة، وأمر واضح، فلا يقال له احتمال، وإنما هو تلاعب وهوس خيال، يقول أئمة الجرح والتعديل في كتبهم عن رَاوٍ - مِمَّنْ خَرَّجَ له الشيخان أو أحدهما -: إِنَّهُ شِيعِيٌّ، أَوْ خَارِجِيٌّ، أَوْ قَدَرِيٌّ، أَوْ مُرْجِئٌ، ثم يأتي من يريد أن ينقض هذا بالاحتمال، وهو لم يضرب في هذا الفن بسهم، ولا يمكن أن يُرْجَعَ إليه في رأي ولا علم، كيف لا وقد اجتمعوا على الرجوع إلى أئمة الفن في هذا الباب، لأنه أمر لم يبق فيه مجال ولا نظر ولا احتمال، وهذا من البديهيات الغنية عن الحُجَّةِ والبرهان.
12 - رَفْعُ وَهْمٍ فِي عِبَارَةٍ لِلْبُخَارِيِّ:
وأما زعم أن قول البخاري في " جزء رفع اليدين ": «كَانَ زَائِدَةُ (1) لَا يُحَدِّثُ إِلَاّ أَهْلَ السُنَّةِ اقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ» يخالف ما استنبطناه - فعجيب جِدًّا لأنه لا شاهد فيه، ولا يناسب بحثنا حتى يخالفه، لأن زائدة رحمه الله كان يمتنع عن تحديث غير أَهْلِ السُنَّةِ، أي إسماعهم الحديث وإقرائهم إياه - وذلك في التلاميذ منهم والمبتدئين في طلب الحديث الذين يبغون التلقي والسماع، وقد انْتَمُوا إلى غير مذهب أَهْلِ السُنَّةِ، فكان زائدة يتجافى تحديثهم اقتداء بمن رآه من سلفه كذلك، ولا منازعة في الوجدانيات ولا يكلف المرء ما لا يطيقه، فمن كانت نفسه
(1) [زَائِدَةُ بنُ قُدَامَةَ أَبُو الصَّلْتِ الثَّقَفِيُّ: الإِمَامُ، الثَّبْتُ، الحَافِظُ، أَبُو الصَّلْتِ الثَّقَفِيُّ، الكُوْفِيُّ. حَدَّثَ عَنْ: زِيَادِ بنِ عِلَاقَةَ، وَعَاصِمِ بنِ أَبِي النَّجُوْدِ، وَسِمَاكِ بنِ حَرْبٍ، وَأَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيْعِيِّ، وَشَبِيْبِ بنِ غَرْقَدَةَ، وَأَبِي طُوَالَةَ، وَأَبِي الزِّنَادِ، وَمَنْصُوْرِ بنِ المُعْتَمِرِ، وَحُصَيْنٍ، وَبَيَانِ بنِ بِشْرٍ، وَإِسْمَاعِيْلَ السُّدِّيِّ، وَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، وَعَاصِمِ بنِ كُلَيْبٍ، وَالمُخْتَارِ بنِ فُلْفُلٍ، وَمُوْسَى بنِ أَبِي عَائِشَةَ، وَعَطَاءِ بنِ السَّائِبِ، وَعَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَقِيْلٍ، وَخَلْقٍ كَثِيْرٍ.
وَعَنْهُ: ابْنُ المُبَارَكِ، وَأَبُو أُسَامَةَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ مَهْدِيٍّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَيَحْيَى بنُ أَبِي بُكَيْرٍ، وَمُصْعَبُ بنُ المِقْدَامِ، وَمُعَاوِيَةُ بنُ عَمْرٍو الأَزْدِيُّ، وَحُسَيْنُ بنُ عَلِيٍّ الجُعْفِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَمُحَمَّدُ بنُ سَابِقٍ، وَخَلَفُ بنُ تَمِيْمٍ، وَطَلْقُ بنُ غَنَّامٍ، وَأَبُو الوَلِيْدِ الطَّيَالِسِيُّ، وَأَحْمَدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ يُوْنُسَ، وَخَلْقٌ سِوَاهُم.
قَالَ عُثْمَانُ بنُ زَائِدَة الرَّازِيُّ: قَدِمتُ الكُوْفَةَ قَدْمَةً، فَقُلْتُ لِسُفْيَانَ: مَنْ تَرَى أَنْ أَسْمَعَ مِنْهُ؟ قَالَ: عَلَيْكَ بِزَائِدَةَ بنِ قُدَامَةَ، وَسُفْيَانَ بنِ عُيَيْنَةَ.
انظر: " سير أعلام النبلاء " للذهبي، تحقيق مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط: 7/ 375، ترجمة رقم 139، الطبعة الثالثة: 1405 هـ / 1985 م، نشر مؤسسة الرسالة].
لا تحب إسماع من كان كذلك، فله الخيرة ولا جناح عليه في ترك الإسماع، لا سيما لتلاميذ لم يَتَأَهَّلُوا بَعْدُ للنظر والوقوف على التحقيق، فمثلهم إنما يكون مُقَلِّدًا لَا مُجْتَهِدًا، وأما حفاظ شيوخ، ذَوُو علم ورسوخ، أوتوا من العلم والفضل ما أَهَّلَهُمْ للتحمل عنهم، والاستفادة من علمهم، بحيث طارت شهرتهم، وتفوقوا على غيرهم، فلا دخل لكلام زَائِدَةَ فيهم، ولا يشملهم مشربه، وهكذا نحن نقول: لا ينبغي لأستاذ أن يشرح صدره لتلاميذ أغرار، انتحلوا غير ما يراه الحق بدون نظر أو فكر، بل تقليدًا أو اتباعًا لكل ناعق.
وأما من بلغ مرتبة الرسوخ والإفادة، وكان على جانب عظيم من العلم، وانتحل ما انتحل عن اجتهاد ونظر، فلا يرتاب أحد في العناية بالأخذ عنه، والتلقي منه، كما فعل الأئمة أمثال البخاري، وأشياخه، فكلام زَائِدَةَ مِنْ وَادٍ، وما نقوله من وَادٍ آخر. وهكذا يقال فيمن حكى عنهم من المرجئة من أهل بلخ، وأما قوله: ولقد رأينا غير واحد من أهل العلم يستتيبون أهل الخلاف، وإلَاّ أخرجوهم من مجالسهم، فهو يعني به من ذكرناه من التلاميذ لقوله:
«وَإِلَاّ أَخْرَجُوهُمْ» ، وهل يخرج إلَاّ المتعلم الضعيف في العلم والفهم، المتطفل على ما ليس له بأهل؟ وشتان بين من يخرج من مجلس الحديث من أهل الخلاف وبين من يرحل إليه وَيَتَحَمَّلُ عنه منهم - كرجال
الشيخين وغيرهما من هؤلاء، ولو أطرد الابتعاد عن هؤلاء أو إبعادهم لما تلقى عنهم أمثال الشيخين، وَخَلَّدَ أَسْمَاءَهُمْ وَمَرْوِيَّهُمْ في أصح الكتب بعد التنزيل الكريم، وقد يكون مُرَادُ البخاري بِأَهْلِ الخِلَافِ أَهْلَ الرَّأْيِ جُمُودًا وَتَقْلِيدًا المُؤْثِرِينَ آراء الفقهاء على صحيح السُنَّةِ، لأنَّ كتابه المذكور وهو " جزء رفع اليدين " في مناقشة أهل الرأي وَحَجِّهِمْ بصحيح السُنَّةِ على رأيهم. وقد تجافى أرباب الصحاح الرواية عن أهل الرأي (1)، فلا تكاد تجد اسْمًا لهم في سند من كتب الصحاح أو المسانيد أو السنن، وإنْ كنت أعدّ ذلك في البعض تعصبًا، إذ يرى المُنْصِفُ عند هذا البعض من العلم والفقه ما يجدر أَنْ يَتَحَمَّلَ عنه، ويستفاد من عقله وعلمه، ولكن لكل دولة من دول العلم سلطة وعصبة ذات عصبية، تسعى في القضاء على من لا يوافقها ولا يقلدها في
(1) كالإمام أبي يوسف والإمام محمد بن الحسن فقد فقد لينهما أهل الحديث - كما ترى في " ميزان الاعتدال " - ولعمري لم ينصفوهما وهما البحران الزاخران، وآثارهما تشهد بِسَعَةِ عِلْمِهِمَا وَتَبَحُّرِهِمَا، بل بتقدُّمهما على كثير من الحفاظ. وناهيك كتاب " الخراج " لأبي يوسف و " موطأ " الإمام محمد. نعم كان ولع جامعي السُنَّةِ بمن طوف البلاد، واشتهر بالحفظ، والتخصص بعلم السُنَّةِ وجمعها، وعلماء الرأي لم يشتهروا بذلك لا سيما وقد أشيع عنهم أنهم يُحَكِّمُونَ الرَّأْيَ فِي الأثر، وإنْ كان لهم مرويات مسندة معروفة، رضي الله عن الجميع، وحشرنا وإياهم مع الذين أنعم الله عليهم.
جميع مآتيها، وتستعمل في سبيل ذلك كل ما قدر لها من مستطاعها كما عرف ذلك من سبر طبقات دول العلم، ومظاهر ما أوتيته من سلطان وقوة، ولقد وجد لبعض المُحَدِّثِينَ تراجم لأئمة أهل الرأي يخجل المرء من قراءتها فضلاً عن تدوينها، وما السبب إلا تخالف المشرب على توهم التخالف، ورفض النظر في المآخذ والمدارك، التي قد يكون معهم الحق في الذهاب إليها، فإن الحق يستحيل أَنْ يكون وَقْفًا على فئة مُعَيَّنَةٍ دون غيرها، وَالمُنْصِفُ من دَقَّقَ في المدارك غاية التدقيق ثم حكم بَعْدُ.
ومما نعده تَعَصُّبًا ما حكام الإمام البخاري في " جزء رفع اليدين " المذكور من إخراج أهل الخلاف من مجالس الحديث حتى يُسْتَتَابُوا، وحمل قاضي مكة سليمان بن حرب على الحَجْرِ على بعض علماء الرأي من الفتوى، وما ذلك إِلَاّ من سلطة دولة الأَثَرِيِّينَ وَقْتَئِذٍ، وقيامهم بالتشديد ضد غيرهم، وَنَبْذِ التسامح الذي كان عليه الصحابة والتابعون في أنْ يفتي كُلٌّ بما يراه بعد بذل جهده في المسألة دون تعنيف أو اضطهاد - لَا جَرَمَ أَنَّ سُنَّةَ كل قوم - آنسوا من أنفسهم قوة وسلطانًا أنْ يستعملوا لِبَثِّ مذهبهم ونشره هيمنة الحاكم وسيطرته، ولا سيما إذا كان منهم وعلى شاكلتهم وهو مستبد في علمه وما يمضيه فحدث هناك ولا حرج. انظر إلى القدرية لما دالت لهم دولة
العلم أيام المأمون ماذا جرى منهم مع من لم يقل بمشربهم ولم يستجب لدعوتهم، فقد ضربت أئمة وأهينوا وسجنوا الأعوام وَأُوذُوا مِمَّا دَوَّنَهُ التاريخ وأحصاه على هؤلاء المُتَعَصِّبِينَ، وكان نقطة سوداء في تاريخ حياتهم، وإنْ كانوا يزعمون مقاومة الحشو والجمود، وتنوير الأذهان بعلوم الأوائل مِمَّا أخذوا بتعريبه، وجهدوا في نشره، إِلَاّ أنَّ الغُلُوَّ كان رائدهم، والبطش قائدهم، ولكن هي السكرة، التي يذهب معها صحيح الفكرة، (أعني سكرة الدولة والغلبة، والسلطة والقوة)، فما من دولة إِلَاّ ونقم عليها شيء من ذلك، كما يدريه من سَبَرَ أخبار الدول وفلسفة حياتهم، ومظهر آرائهم وآمالهم.
وكذلك قُُلْ عن الفتنة التي فَرَّ من أجلها إمام الحرمين من العراق إلى الحجاز حينما دالت دولة الحنفية، وثارت عصبيتهم على الشافعية والأشعرية. قال التاج السبكي في " طبقاته " (1) في ترجمة الإمام أبي سهل الشافعي:«إنه لما بلغ من سمو المقام أن أرسل إليه السلطان الخِلْعَ وظهر له القبول عند الخاص والعام، حسده الأكابر وخاصموه، فكان يخصمهم ويتسلط عليهم» . (قال): «فبدا له خصوم واستظهروا له بالسلطان عليه وعلى أصحابه» ، (قال): «وصارت الأشعرية مقصودين بالإهانة والمنع عن الوعظ
(1) في ترجمة محمد بن هبة الله بن محمد بن الحسين الإمام الكبير أبو سهل: جـ 3 ص 85 و 86.
والتدريس، وعزلوا من خطابة الجامع»، (قال):«وتبع من الحنفية طائفة أشربوا في قلوبهم الاعتزال والتشيع، فخيلوا إلى أولي الأمر الإزراء بمذهب الشافعي عمومًا، وبالأشعرية خصوصًا» ، (قال):«وهذه هي الفتنة التي طار شررها، وطال ضررها، وعظم خطبها، وقام في سَبِّ أَهْلِ السُنَّةِ خطيبها، فإن هذا الأمر أدى إلى التصريح بلعن أَهْلِ السُنَّةِ في الجُمَعِ، وتوظيف سبهم على المنابر، وصار لأبي الحسن الأشعري بها أسوة بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، واستعلى أولئك في المجامع، فقام أبو سهل في نَصْرِ السُنَّةِ قِيَامًا مُؤَزَّرًا، وتردد إلى المعسكر في ذلك ولم يفد، وجاء الأمر من قِبل السلطان (طغرلبك) بالقبض على الرئيس الفراتي، والأستاذ أبي القاسم القشيري، وإمام الحرمين، وأبي سهل بن الموفق، ونفيهم ومنعهم عن المحافل، وكان أبو سهل غائبًا في بعض النواحي، فلما قرأ الكتاب بنفيهم أغرى بهم الغاغة والأوباش، فأخذوا بالأستاذ أبي القاسم القشيري والفراتي يَجُرُّونَهُمَا وَيَسْتَخِفُّونَ بِهِمَا، وَحُبِسَا بالقهندر. وأما إمام الحرمين فإنه كان أحس بالأمر فاختفى وخرج على طريق كرمان إلى الحجاز، وبقيا في السجن متفرقين أكثر من شهر» (1).
وفي " شرح الإقناع "(2) قال ابن عقيل: «رأيت الناس لا
(1)[" طبقات الشافعية الكبرى " تاج الدين السبكي (المتوفى: سَنَةَ 771 هـ)، تحقيق الدكتور محمود محمد الطناحي والدكتور عبد الفتاح محمد الحلو، 4/ 209، الطبعة الثانية 1413هـ، هجر للطباعة والنشر والتوزيع].
(2)
ص 1309 من مطولات كتب الحنابلة في الفروع.