المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌15 - حملة الأعلام المحققين على المتفقهة المكفرين: - الجرح والتعديل للقاسمي

[جمال الدين القاسمي]

الفصل: ‌15 - حملة الأعلام المحققين على المتفقهة المكفرين:

من شأن الجاهلين لا العالمين، والمهوسين لا المعتدلين. اهـ. مع تلخيص وزيادة.

ولا يخفى أن الأصل في هذا الباب قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) وقوله سبحانه: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (2) وقوله - جَلَّ ذِكْرُهُ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (3) ولا تنس ما أسلفنا عن السلف في تفسيرها.

‌15 - حَمْلَةُ الأَعْلَامِ المُحَقِّقِينَ عَلَى المُتَفَقِّهَةِ المُكَفِّرِينَ:

لما استفحل الرمي بالتكفير والتضليل لخيار العلماء في منتصف قرون الألف الأولى من الهجرة ضَجَّتْ عقلاء الفقهاء، وَصَوَّبَتْ سهام الرُدُودِ في وجوه زاعمي ذلك، حَتَّى قَالَتْ الحَنَفِيَّةُ - عَلَيْهِمْ الرَّحْمَةُ - مَا مَعْنَاهُ:«لَوْ أَمْكَنَ أَنْ يُكَفَّرَ المَرْءُ فِي أَمْرٍ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ وَجْهًا، وَمِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ لَا يُكَفَّرُ، يُرَجَّحُ عَدَمُ التَّكْفِيرِ عَلَى التَّكْفِيرِ لِخَطَرِهِ فِي الدِّينِ» .

ولم يشتد الرمي بالتكفير والإرهاق لأجله والإرجاف به في عصر من العصور مثل القرن الثامن للهجرة. ومن سَبَرَ تاريخ

(1)[سورة العنكبوت، الآية: 46].

(2)

[سورة البقرة، الآية: 83].

(3)

[سورة الحجرات، الآية: 11].

ص: 39

الحافظ ابن حجر المُسَمَّى بـ " الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة " أخذه من ذلك المقيم المقعد، إذ يرى أنَّ العالم الجليل الذي هو زينة عصره وتاج دهره، كان لا يأمن على نفسه من الإفك عليه، والسعاية به فيما يكفرُه ويُحِلُّ دَمَهُ، حتى صار يخشى على نفسه من أخذت منه السن، وأقعده الهرم، وأفلجته الشيخوخة، ولا مِنْ رَاحِمٍ أَوْ مُنْصِفٍ - كما تقرأ ذلك في ترجمة علاء الدين العطار تلميذ الإمام النووي، وأنه مع زمانته، وكونه صار حِلْس بيته، يتأبط دَائِمًا وثيقة أحد القضاة بصحة إيمانه وبراءته من كل ما يُكَفِّرُهُ، ولقد أريقت دماءٌ مُحَرَّمَةٌ، وعذبت أبرياء بالسجون والنفي والإهانات باسم الدين، وروعت شيوخ وشبان أَعْوَامًا وسنين، حتى عَجَّ لسان حالها وقالها بالدعاء إلى فاطر الأرض والسموات، بكشف هذه الغمم والظلمات، ولم يزل سبحانه يملي لها ويستدرجها في غَيِّهَا، ولم تحسب للأيام ما خُبِّئَ لَهَا فِي طَيِّهَا، إِلَى أَنْ امْتَلأَ إِنَاؤُهَا، وحان حصدها وإفناؤها، فأخذها الله وهي ظالمة جائرة، ودارت على دولتها الدائرة، وَمَحَقَ اللهُ بفضله تلك الدولة المجنونة الجاهلة، وأورثها للدولة الصالحة العاقلة، فَأَمَّنَتْ النَّاسَ على أنفسها ودمائها، وذهبت عصبة الجمود بزبدها وغثائها.

سيقول بعض الناس مِمَّنْ تَغُرُّهُ القُشُورُ، ولم تقف مداركه على لباب روح العصور: إنَّ تلك الدماء المراقة والأرواح المُهْدَرَةِ، لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهَا إِلَاّ بِالبَيِّنَةِ

ص: 40

والشهود، التي بمثلها تقام الحدود، وهل بعد ذلك من ملام أو جحود؟ يقول ويجهل أو يتجاهل أن التعصب يحمل على الأخذ بالظنة، أو الإيقاع بالشبهة، وأن المتطوعة بالشهادة قد يحملهم على اختلاقها ظنُّ الأجر بنصرة الدين بقتل هؤلاء المساكين، لا سيما إذا دُفِعُوا بِتَشْوِيقِ المُتَصَوْلِحِينَ وَالمُتَمَفْقِرِينَ (1)، وَالحَشْوِيَّةِ البَكَّائِينَ، احْتِيَالاً وَقَنْصًا لِلْمُغَفَّلِينَ.

ولقد استفيض عن كثير من هؤلاء الضالين المضلين الإغراء بقتل الداعين إلى الكِتَابِ وَالسُنَّةِ، والمجاهدين في الإصلاح العاملين، على أن قاعدة المحققين هي عدم البَتِّ في أمر تاريخي إلا بعد تعرفه من أطرافه، ومراجعة عدة أسفار للوقوف على كنهه وحقيقته، والإشراف على غثه وسمينه، ووزنه بميزان العقول السليمة، والقواعد الاجتماعية المعقولة، كما أشار إليه الإمام ابن خلدون في " مقدمته ".

نحن لم نصِم أعمال أولئك بالظلم والجور والبغي إلَاّ لما فضح نبذًا منها الإمام زين الدين ابن الوردي الشهير صاحب " البهجة "، و" اللامية "، و" الديوان "، و " المقامات " فقد شفى بالحقيقة الأوام، وأوضح عن مكر أولئك بالتمويه والإيهام في مقالة بديعة

(1) المتمفقر: كالمتمسكن مُدَّعِي الفقر أي التصوف وليس من أهله.

ص: 41

أنشأها في القاضي الرباحي المالكي (1) سماها " الحرقة للخرقة ". ولا بأس بنقل جمل منها تأييدًا لما قلناه، قال رضي الله عنه:

«أما بعد، حمدًا لله الذي لا يحمد على المكاره سواه، والصلاة والسلام على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم الذي خاف مقام ربه وعصم من اتباع هواه، وعلى آله وصحبه الذين بذل كل منهم في صون الأمة قواه، وسلمت صدورهم من فساد النيات، وإنما لكل امرئ ما نواه، فإن نصيحة أولي الأمر تلزم، والتنبيه على مصالح العباد قبل حلول الفساد أحزم، والمتكلم لله تعالى مأجور، والظالم ممقوت مهجور، وتحسين الكلام لدفع الضرر عن الإسلام عبادة، والنثر والنظم لِلْذَّبِّ عن أهل الإسلام من باب الحسنى وزيادة، وجرحة الحاكم الأعراض بالأغراض صعبة؛ إذ نص الحديث النبوي: أن حرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة، ومخرق خرقته مذموم، ولحم العلماء مسموم،" وهذه رسالة " أخلصت فيها النية، وقصدت بها النصيحة للرعاة والرعية، أودعتها من جوهر فكري كل ثمين، وناديت بها على هزيل ظلم أبناء جنسي

(1) راجعها في ص 190 من المجموعة الأدبية التي طبعت في مطبعة الجوائب عام 1300 هـ، مشتملة على " لامية العرب " و " شرحها " و" شرح المقصورة الدريدية " و " ديوان ابن الوردي "، و " ديوان الخشاب ورسائله ".

ص: 42

مناداة اللحم السمين، لكن جنبتها فحش القول، إذ لست من أهله، وخلدتها في ديوان الدهر شاهدة على المسيء بفعله، ورجوت بها الثواب، نصرة للمظلوم، وغيرة على حَمَلَةِ العُلُومِ، وسميتها:" الحرقة للخرقة " فقلت: اعلموا يا ولاة الأمر، ويا ذوي الكرم الغمر، أبقاكم الله بمصر (1) لْلأُمَّةِ، ووفقكم لدفع الإصر وبراءة الذمة، أن حلب قد نزعت للزبدة، ووقعت من ولاية التاجر الرباحي في خسر وشدة، قاضٍ سلب الهجوع وسكب الدموع، وأخاف السرب، وَكَدَّرَ الشُرْبَ، بجراءته التي طمت وطمت، وَعَمَايَتِهِ التي عمت وغمت، وفتنته التي بلغت الفراقد، وأسهرت ألف راقد، ووقاحته التي أدهشت الألباب، وأخافت النطف في الأصلاب، فكم لطخ من زاهد، وكم أسقط من شاهد، وكم رعب بريًّا، وكم قرب جريًّا، وكم سعى في تكفير سليم، وكم عاقب بعذاب أليم، وكم قلب ذائب، بنائبة توسط بها عند النائب، فامتنعت الأمراء عن الشفاعة، وظنوا هم والنائب أن هذا امتثال لأمر الشرع وطاعة:

يَا حَامِلَ النَّائِبَ فِي حُكْمِهِ *

*

* أَنْ يَقْتُلَ النَّفْسَ التِي حُرِّمَتْ

غَشَشْتَهُ وَاللهِ فِي دِينِهِ *

*

* بُشْرَاكَ بِالنَّارِ التِي أُضْرِمَتْ

(1) كانت مصر في عهد المؤلف وهو القرن الثامن عاصمة دولة المماليك.

ص: 43

(إلى أن قال الزين ابن الوردي): ثم إنه فسق مفتيًا في الدين، وفضح خطيبًا على رؤوس المسلمين، ثم قال: يحب إثبات الردة والكفر كحب الدنانير الصفر.

حاكم يصدر منه *

*

* خلف كل الناس حفر

يتمنى كفر شخص *

*

* والرضا بالكفر كفر

(ثم قال): إذا وقع عنده عالم فقد وقع بين مخالب الأسود، وأنياب الأفاعي السود:

أدركوا العلم وصونوا أهله *

*

* من جهول حاد عن تبجيله

إنما يعرف قدر العلم من *

*

* سهرت عيناه في تحصيله

ثم قال: ما أقدره على السفير، وما أسهل عليه التفسيق والتكفير، كم دعى إلى بابلة فما ارتاح إلى الباب، ونراه حيران لعدم الرقة، فإذا قيل له: فلان قد كفر، طاب، يحبس على الردة بمجرد الدعوى، ويقوي شوكته على أهل التقوى، قد ذلل الفقهاء والأخيار، وجرأ عليهم السفهاء والأغيار:

يحبس في الردة من *

*

* شاء بغير شاهد

لا كان من قاضٍ حكى الـ *

*

* ـفقاع جد بادر

ص: 44

أراح الله من تعرضه، وصان عراض الأعراض من تعرضه، يقصد بذلك أهل الدين، والقراء المجودين:

جَرَحْتَ الأَبْرِيَاءَ فَأَنْتَ قَاضٍ *

*

* عَلَى الأَعْرَاضِ بِالأَغْرَاضِ ضَارِي

أَلَمْ تَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ عَادِلٌ *

*

* (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ)

هذا بعض ما جاء في رسالة الإمام ابن الوردي التي هي أشبه بمقامة بديعية، وكلها حقائق صادقة ناطقة بما كان عليه تعصب قضاة ذلك الوقت، ولا سيما المالكية منهم، ولقد كان قضاة المذاهب يحيلون الأمر في التعزير والتأديب إلى القاضي المالكي لما اشتهر في الفقه المالكي من مضاعفة النكال، وشدة التأديب في باب التعزير؛ إذ بسط للقاضي يده فيه بسطًا لم يوجد في مذهب غيره، فلذا كان محبو الانتقام والتشفي يعمدون إلى إحالة القضية إلى القاضي المالكي لما يعلمون ما وراء قضائه، مِمَّا فصل بعضه الإمام ابن الوردي كما قرأت، على أن الأمر في التعصب لم يقف عند القاضي المالكي وحده لنتعصب ضده، وإنما كان هو الأقوى تعصبًا والأشد تصلبًا، وإلا فإن مظهر ذاك العصر كان التعصب لجميعهم، فقد حكى الشيخ الشعراني رحمه الله تعالى في مقدمة " طبقاته الكبرى " المسماة بـ " لواقح الأنوار "

ص: 45

ما مثاله: وقد أخبرني شيخنا الشيخ أمين الدين إمام جامع الغمري بمصر المحروسة أن شخصًا وقع في عبارة موهمة للتكفير، فأفتى علماء مصر بتكفيره، فلما أرادوا قتله قال السلطان جقمق: هل بقي أحد من العلماء لم يحضر؟ فقالوا: نعم، الشيخ جلال الدين المحلي شارح " المنهاج "، فأرسل وراءه فحضر، فوجد الرجل في الحديد بين يدي السلطان، فقال الشيخ: ما لهذا؟ قالوا: كفر، فقال: ما مستند من أفتى بتكفيره، فبادر الشيخ صالح البلقيني من مشاهير الشافعية، وقال: قد أفتى والدي شيخ الإسلام الشيخ سراج الدين في مثل ذلك بالتكفير، فقال الشيخ جلال الدين رضي الله عنه: يا ولدي أتريد أنْ تقتل رَجُلاً مُسْلِمًا مُوَحِّدًا يحب الله ورسوله بفتوى أبيك؟ حلوا عنه الحديد، فجردوه، وأخذه الشيخ جلال الدين بيده وخرج والسلطان ينظر، فما تجرأ أحد يتبعه - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ -.

وقد عُدَّ الشعراني من الأعلام الذين أكفرهم الجامدون المتعصبون ما يقرب من الثلاثين، فمنهم القاضي عياض، اتهموه بأنه يهودي؛ لملازمته بيته للتأليف نهار السبت، وذكر أن المهدي قتله.

ومنهم الإمام الغزالي كَفَّرَهُ قضاة المغرب وأحرقوا كتبه، ومنهم التاج السبكي رموه بالكفر مِرَارًا، وسجن أربعة أشهر (1)، وكل هذا إنما كان بزعم المُتَعَصِّبِينَ بشهادات

(1) ذكر السُبكي محنته هذه في آخر منظومة له في الفقه، عندي الكراسة الأخيرة منها.

ص: 46

وأقضية وفتاوى، ولكن سرعان ما فضحهم التاريخ وكشف عوارهم، كما حكاه الشعراني وغيره، والحمد لله الذي جعل الباطل زَهُوقًا.

وهكذا يمر بتواريخ تلك القرون ما لا يحصى من حوادث من أقيمت عليهم الفتن، واتهموا بما اتهموا به، مع أن الحدود تدرأ بالشبهات، ونعني بالحدود ما نص عليه في الكتاب العزيز وَالسُنَّةِ الغَرَّاءَ، فإذا كانت في تلك المكانة وقد شرع فيها محاولة درئها بالشبهات، فكيف بحدود لا سند لها إلا بالاجتهاد، وليس لها أصل قاطع، ولا نص محكم، فلا ريب أنها أولى بالدرء، وأجدر بالدفع، ولا يدري المرء ما الذي حملهم على نسيان هذه الموعظة حتى عكسوا القضية، وأصبحوا يكبرون الصغير، ويعظمون الحقير، ويهولون الأمور، ويدعون بالويل والثبور، مِمَّا لا يقومون بعشره للمنكرات المجمع عليها، والكبائر التي يُجَاهَرُ بِهَا، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

ولما تشددت القضاة المالكية في هذا الباب، أصبحوا هدفًا لأولي الألباب، حتى قال الإمام ابن الوردي في ذاك القاضي المتقدم الرباحي: إن المالكية بدمشق كتبوا إليه: «يا مغلوب، لقد بغضت مذهب مالك إلى القلوب، وقطعت المذاهب الأربعة عليه بالخطأ، وزالت بهجته عند الناس

ص: 47

وانكشف الغطا

إلخ».

والسبب في ذلك ما ابتدعه الملك الظاهر برقوق من توظيف قضاة أربعة على المذاهب الأربعة مِمَّا لم يعهد قبله في دولة من الدول، حتى نشأ من ذلك ما نقمه عليه الأعلام، وعدوه من التفرقة في الإسلام، قال التاج السبكي في " طبقاته "(1)، في ترجمة قاضي القضاة بالديار المصرية تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز الشافعي المُتَوَفَّى سَنَةَ 566، ما مثاله: وفي أيامه جدد الملك الظاهر القضاة الثلاثة في القاهرة، ثم تبعتها دمشق وكان الأمر متمحضًا للشافعية، فلا يعرف أن غيرهم حكم في الديار المصرية منذ وليها أبو زرعة محمد بن عثمان الدمشقي في سَنَةَ 284 إلى زمان الظاهر إلا أن يكون نائب يستنيبه بعض قضاة الشافعية في جزئية خاصة، وكذا دمشق لم يَلِهَا بعد أبي زرعة المشار إليه إلا شافعي غير التلاشا عوني التركي، الذي وليها يويمات وأراد أن يجدد في جامع بني أمية إِمَامًا حَنَفِيًّا، فأغلق أهل دمشق الجامع، وعزل القاضي (2). (قال السبكي)

(1) جـ 5 ص 134.

(2)

تأمل هذا التعصب واسترجع وحوقل، أين غاب عنهم فضل سائر الأئمة [المَتْبُوعِينَ] الأربعة وغيرهم، وكيف نسوا أن الناس عيال عليهم، تستمد من بركة فقههم واستنباطهم وتأصيلهم وتفريعهم؟ ما أجمد قَوْمًا يزعمون أنهم تَعَبَّدُوا بمذهب واحد، أو اتباع إمام واحد، أَوَ مَا عَلِمُوا أَنَّ كُلَّهُمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ مُلْتَمِسٌ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى إِنَّمَا تَعَبَّدَ النَّاسَ بِتَنْزِيلِهِ الكَرِيمِ وَهَدْيِ نَبِيِّهِ المَعْصُومِ.

ص: 48

واستمر جامع بني أمية في يد الشافعية، كما كان في زمن الشافعي رضي الله عنه، قال: ولم يكن يلي قضاء الشام والخطابة والإمامة بجامع بني أمية إلا من يكون على مذهب الأوزاعي إلى أن انتشر مذهب الشافعي، فصار لا يلي ذلك إلا الشافعية. (ثم قال السبكي): وقد حكي أن الملك الظاهر رؤي في النوم فقيل: ما فعل الله بك؟ قال: عذبني عذابًا شديدًا بجعل القضاة أربعة، وقال: فرقت كلمة المسلمين. اهـ.

ولا يخفى على ذي بصيرة ما حصل من تفرق الكلمة، وتعدد الأمراء واضطراب الآراء، وقد قال أبو شامة لما حكى ضم القضاة، أنه ما يعتقد أن هذا وقع قط. قال السبكي: وصدق فلم يقع هذا في وقت من الأوقات، قال: وبه حصلت تعصبات المذاهب، والفتن بين الفقهاء، فإنه يؤيد ما قدمناه من اتخاذ هذه آلة للفتن والتشفي من المخالفين، حتى أدال الله من تلك الدولة للسلطان سليم خان، فنسخ كل ذلك، وقصر الأمر على قاضٍ حنفي واحد، ولا ريب أن هذا كان من النعم الكبيرة، إذ قمعت به فتن خطيرة، وحسمت به شرور وفيرة، نعم لم يزل في الأمر حاجة إلى الكمال، وهو سعي أولي الحل والعقد بعقد مؤتمر علمي من كبار فقهاء المذاهب المعروفة، وتأليف مجلة تستمد من فقه سائر الأئمة الأربعة وغيرهم مِمَّا فيه

ص: 49

رحمة ويسر، ومشي مع المصالح والمنافع، ودفع المضار في أبواب المعاملات، فبذلك تظهر محاسن الدين في الأقضية والأحكام، ويعرف أنه دين المدنية في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة وساعة القيام، وإن اليوم الذي تتحقق فيه هذه الأمنية لهو أسعد الأيام، والمستعان بالله ذي الجلال والإكرام. اهـ.

ص: 50