الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحَقُّ فَإِنَّهُ مَأْجُوْرٌ عَلَىَ كُلِّ حَالٍ: إِنْ أَصَابَ الْحَقَّ فَأَجْرَانَ، وَإِنْ أَخْطَأَ فَأَجْرٌ وَاحِدٌ». قَالَ:«وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِيْ لَيْلَىَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْشَّافِعِيِ وَسُفْيَانَ الْثَّوْرِيِّ وَدَاوُدُ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْ جَمِيْعِهِمْ -، وَهُوَ قَوْلُ كُلِّ مِنْ عَرَفْنَا لَهُ قَوْلاً فِيْ هَذِهِ المَسْأَلَةِ مِنْ الصََّحَابَةِ رضي الله عنهم، لَا نَعْلَمُ مِنْهُمْ فِيْ ذَلِكَ خِلَافًا أَصْلاً» . اهـ ـ كلامه.
فأين هذا من التَسَرُّعِ في التفسيق، وتقليد من قاله من المتأخرين المقلدين، الذين ليسوا بأئمة متبوعين، ولا قولهم حُجَّةً في الدين، ولا استندوا إلى دليل أو برهان {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (1).
9 - خَطَرُ النَّبْزِ بِالفِسْقِ وَمَعْنَى الفِسْقِ:
إنَّ النَّبْزَ بالفسق ليس بالأمر السهل، لأنَّ الفسق كثيرًا ما جاء في القرآن الكريم مقابلاً للإيمان - كآية:{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} (2) وأمثالها، ولذا قيل بأن عطف قوله تعالى {وَالْفُسُوقَ} على قوله {الْكُفْرَ} عطف تفسير - في آية:{وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ} (3) وإن احتمل أَنْ يكون غيره إشارة إلى نوع آخر، إلَاّ أَنَّ النظائر والأشباه في موارده في التنزيل تدل على أنه عطف تفسير، وَهَبْ أنه كان غير الكفر فهو شيء قريب منه، ونوع أنزل منه بدرجة، وناهيك به.
(1)[سورة البقرة، الآية: 111]، [سورة النمل، الآية: 64].
(2)
[سورة السجدة، الآية: 18].
(3)
[سورة الحجرات، الآية: 7].
فَسَقَ فُسُوقًا مِنْ بَابِ قَعَدَ خَرَجَ عَنْ الطَّاعَةِ وَالاسْمُ الْفِسْقُ وَيَفْسِقُ بِالْكَسْرِ لُغَةٌ حَكَاهَا الْأَخْفَشُ فَهُوَ فَاسِقٌ وَالْجَمْعُ فُسَّاقٌ وَفَسَقَةٌ
وإليك ما قاله فيه أئمة اللغة وفلاسفتها. ققال الجوهري في " الصَحَاحِ ": «فَسَقَ الرَّجُلُ فَجَرَ، وَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَيْ: خَرَجَ» .
وفي " المصباح ": «فَسَقَ فُسُوقًا: خَرَجَ عَنِ الطَّاعَةِ، خَرَجَ عَنْ الطَّاعَةِ وَالاسْمُ الْفِسْقُ
…
، وَيُقَالُ أَصْلُهُ خُرُوجُ الشَّيْءِ مِنْ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ الْفَسَادِ. يُقَالُ: فَسَقَتْ الرُّطَبَةُ إذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرِهَا».
وفي " القاموس ": «الفِسْقُ، بالكسرِ: التَّرْكُ لأَمْرِ اللهِ تعالى، والعِصْيانُ، والخُرُوجُ عَنْ طََرِيقِِ الحَقِّ، أَوِ الفُجُورِ، كَالفُسُوقِِ» .
وقال الإمام الراغب الأصفهاني في " مفرداته ": «فَسَقَ فُلَانٌ: خَرَجَ عَنْ حَجْرِ الْشَّرْعِ، وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَسَقَ الرَّطْبُ: إِذَا خَرَجَ عَنْ قِشْرِهِ. وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ الْكُفْرِ» . (قَالَ): «وَالفِسْقُ يَقَعُ بِالقَلْيِلِ مِنَ الذُّنُوبِ وَبِالكَثِيرِ، لَكِنْ تُعُورِفَ فِيْمَا كَانَ كَثِيرًا، وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ الْفَاسِقَ لِمَنْ الْتَزَمَ حُكْمَ الشَّرْعِ وَأَقَرَّ بِهِ، ثُمَّ أَخَلَّ بِجَمِيعِ أَحْكَامِهِ أَوْ بِبَعْضِهِ. وَإِذَا قِيَلَ لِلْكَافِرِ الأَصْلِيِّ فَاسِقٌ - فَلأَنَّهُ أَخَلَّ بِحُكْمِ مَا أَلْزَمَهُ الْعَقْلُ وَاقْتَضَتْهُ الفِطْرَةُ» . (إِلَىَ أَنْ قَالَ): «[فَالفَاسِقُ] أَعَمُّ مِنَ الكَافِرِ» . اهـ.
وقال الإمام محمد بن مُرتضى اليماني في كتابه " إيثار الحق " في (فَصْلٌ فِيْ الْفِسْقِ) مَا نَصُّهُ: «وَأَمَّا الْعُرْفُ المُتَأَخِّرُ: فَالَفِسْقُ يَخْتَصُّ بِالكَبِيرَةِ مِنَ المَعَاصِي مِمَّا لَيْسَ بِكُفْرٍ، وَالفَاسِقُ يَخْتَصُّ بمُرْتَكِبِهَا» . اهـ.
فأنت ترى من هذا كله أَنَّ الفسق مدلوله الكبائر والمعاصي
العظائم لأنه دائر بين الكفر وما يقرب منه، وإذا كان هذا مدلوله الشرعي، ومعناه العرفي، فكيف يجوز أَنْ يوصف به عالم ثَبْتٌ ثِقَةٌ من ذوي الألباب وأولي الاجتهاد لِمُجَرَّدِ أنه أداه اجتهاده إلى رأي يخالف غيره مع أنه لم يقصد إلا الحق، ولم يتوخَّ إلا ما رآه الأَوْفَقَ، إذ لم يَأْلُ جُهْدًا في اهتمامه بما يراه الصَّوَابَ، وَإِنْ كان في نظر غيره على خلاف ذلك، إذ هذا من لوازم المسائل النظرية، ومتى عُهِدَ أن يُفَسَّقَ المُخَالِفَ فِيهَا أَوْ يُضَلَّلَ، لا جرم أنه بدعة قبيحة، وجناية في الدين كبيرة.
وقد قال كثير من أئمة التفسير في قوله تعالى: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} (1) هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ لِلْرَّجُلِ: يَا فَاسِقُ. رواه ابن جرير عن مجاهد وعكرمة. وقال قتادة: «يَقُولُ تَعَالَى: لَا تَقُلْ لأَخِيكَ المُسْلِمَ: ذَاكَ فَاسِقٌ، ذَاكَ مُنَافِقٌ، نَهَى اللهُ المُسْلِمَ عَنْ ذَلِكَ وَقَدَّمَ فِيهِ» (2). وقال ابن زيد: «هُوَ تَسْمِيَتُهُ بِالأَعْمَالِ السَيِّئَةِ بَعْدَ الإِسْلَامِ، زَانٍ فَاسِقٌ» (ثم قال ابن جرير): «وَالتَّنَابُزُ بِالأَلْقَابِ هُوَ دُعَاءُ المَرْءِ صَاحِبَهُ بِمَا يَكْرَهُهُ مِنْ اسْمٍ أَوْ صِفَةٍ، وَعَمَّ اللهُ بِنَهْيِهِ ذَلِكَ وَلَمْ يُخَصِّصْ بِهِ بَعْضَ الأَلْقَابِ دُونَ بَعْضٍ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لأَحَدِ المُسْلِمِينَ أَنْ يَنْبَزَ أَخَاهُ بِاسْمٍ يَكْرَهُهُ، أَوْ صِفَةٍ يَكْرَهُهَا» . (ثم قال): «وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (3) أَيْ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْ نَبْزِهِ أَخَاهُ بِمَا نَهَى اللهُ عَنْ نَبْزِهِ مِنَ الأَلْقَابِ، أَوْ لَمْزِهِ إِيَّاهُ أَوْ سُخْرِيَّتِهِ مِنْهُ، فَأُولَئِكَ هُمُ الذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
(1)[سورة الحجرات، الآية: 11].
(2)
[" جامع البيان في تأويل القرآن " لابن جرير الطبري: تحقيق أحمد محمد شاكر: 22/ 301، الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000 م، مؤسسة الرسالة].
(3)
[سورة الحجرات، الآية: 11].
فأكسبوها عقاب الله بركوبهم ما نهاهم عنه. ولما لم يكن عند من يرمي أخاه بالفسق إلا الظن. جاء النهي عن سوء الظن إثر تلك الآية في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} (1) ولما كان الرمي بالفسق مدعاة لتفرق القلوب، وإثارة الشحناء على عكس حكمة الله تعالى في خلقه الخلق للتعارف والتآلف، جاء ذلك على إثر ما تقدم بقوله سبحانه:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (2). فليتدبر المُتَّقِي هذه الآيات الكريمة وليقف عند أوامرها وزواجرها، وليعتبر وليستعبر.
قال السيد الطباطبائي في " المفاتيح "(3): «الفسق أن يتحقق بفعل المعصية المخصوصة مع العلم بكونها معصية، أما مع عدمه، بل مع اعتقاد أنه طاعة، بل من أمهات الطاعات فلا. والأمر في المخالف للحق كذلك؛ لأنه لا يعتقد المعصية، بل يزعم أن اعتقاده من أهم الطاعات سواء كان اعتقاده صادرًا عن نظر أو تقليد، ومع ذلك لا يتحقق الفسق، وإنما يتفق ذلك ممن
(1)[سورة الحجرات، الآية: 12].
(2)
[سورة الحجرات، الآية: 13].
(3)
في النقل عن هذا السيد الإمامي الكبير رحمه الله حُجَّة على متعصبة الإمامية في تفسيقهم مخالفهم أيضاً.
يعاند الحق مع علمه به، وهذا لا يكاد يَتَّفِقُ، وإن تَوَهَّمَهُ من لا علم له. اهـ.
فترى من العجب بعد ما ذكرناه أن يُوسَمَ بالفسق من لا يحل وَسْمُهُ بِهِ؛ لأن معناه لا ينطبق عليه بوجه ما، على أنه ورد تسمية رُوَّاةِ الحديث خلفاء فيما رواه الطبراني والخطيب وابن النجار وغيرهم عن عَلِيٍّ مرفوعًا «اللَّهُمَّ ارْحَمْ خُلَفائِي الذِينَ يَأتُونَ مِنْ بَعْدِي، يَرْوُونَ أحادِيثي وسُنَّتِي ويُعَلِّمُونَها النَّاسَ» .
إذا علمت هذا فماذا يقال في هؤلاء المُفَسِّقِينَ؟ أجهلوا المعنى العُرْفِيَّ للفسق، أم تجاهلوا؟ أم اجتهدوا فأداهم اجتهادهم أم قَلَّدُوا؟ لا غَرْوَ أنهم جهلوا وَقَلَّدُوا، ويا ليتهم قَلَّدُوا إِمَامًا مَتْبُوعًا، بل قَلَّدُوا أواخر المقلدة الجامدة المتعصبة. ولو نظروا في تراجم الرجال، وتدبروا سيرة كثير من أولئك المُبَدَّعِينَ الأبطال، لعلموا أن رميهم بالفسق يكاد أن يهتز له العرش. خذ لك مَثَلاً من شيوخ المعتزلة عمرو بن عبيد، وانظر في ترجمته إلى زهده وتقواه. قال الذهبي في " الميزان ": «وقد كان المنصور الخليفة العباسي الشهير يخضع لزهد عمرو وعبادته يقول شعرًا:
[كُلُّكُم يَمْشِي رُوَيْد] *
…
*
…
* كُلُّكُم يَطْلُبُ صَيْد
غَيْرَ عَمْرِو بن عُبَيْد
وذكر ابن قتيبة في " المعارف " أن المنصور رَثَى عمرو بن عبيد فقال شِعْرًا:
صَلَّى الإِلَهُ عَلَيْكَ مِنْ مُتَوَسِّدٍ *
…
*
…
* قَبْرًا مَرَرْتُ بِهِ عَلَى مَرَّانِ
قَبْرًا تَضَمَّنَ مُؤْمِنًا مُتَحَنِّفًا *
…
*
…
* صَدَقَ الإِلَهُ وَدَانَ بِالْقُرْآنِ
فَلَوْ أَنَّ الدَّهْرَ أَبْقَى صَالِحًا *
…
*
…
* أَبْقَى لَنَا حَقًّا أَبَا عُثْمَانَ
هذا هو التوثيق - أعني توثيق الملوك - لأن كلام الملوك ملوك الكلام. وما غمز به فكله - إن أنصفت - من عَصَبِيَّةِ التَمَذْهُبِ، والجمود في التعصب.
نحن لا نقول هذا تَحَزُّبًا للمعتزلة أو لغيرهم معاذ الله فإنا في الرأي مستقلون، ولسنا بمقلدين ولا متحزبين، ولكن هو الحق والإنصاف، وما قولك في قوم يرون مرتكب الكبيرة كَافِرًا أَوْ مُخَلَّدًا في النار؟ أليس في هذا نهاية التعظيم للدين، وغاية الابتعاد عن المعاصي، والإشعار بامتلاء القلب من خشية الله بما يزع عن الكذب والافتراء؟ بلى! وألف بلى! فَأَنَّى يَسْتَجِيزُ عاقل بعد ذلك تفسيقهم وهم على ما رأيت من التمسك بدين الله، والتصلب في المحافظة على حدوده؟ فتدبر وأنصف، على أن خبر الفاسق مرغوب عنه في نظر العقل، ساقط الاحتجاج به في أصول الشرع، ولذا أمرنا بأن نَتَبَيَّنَهُ ولا نلوي عليه بادئ بَدْءٍ، فكيف يحكم صاحبه فِي السُنَّةِ والأحكام؟
قال الإمام الحُجَّة مسلم في " مقدمة صحيحه " في باب وجوب
الرواية عن الثقات، وترك الكَذَّابِينَ، والتحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مثاله: اعلم وفقك اللهُ أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها، وثقات الناقلين لها من المُتَّهَمِينَ - أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه، والستارة في ناقليه، وأن يبقي منها ما كان عن أهل التُّهَمِ وَالمُعَانِدِينَ من أهل البدع (1) (قال): والدليل على أن الذي قلنا من هذا هو اللازم دون ما خالفه قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (2)، وقال:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (3)، قال: فدل بما ذكرنا من هذه الآي أن خبر الفاسق ساقط غير مقبول، وأن شهادة غير العدل مردودة. والخبر إن فارق معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه، فقد يجتمعان في أعظم معانيها - إذ كان خبر الفاسق غير مقبول عند أهل العلم، كما أن شهادته مردودة عند جميعهم. ثم روي
(1) من هنا يعلم أنَّ رواة " الصحيحين " المتكلم فيهم لا يوصفون الابتداع - لأنَّ مسلماً رحمه الله أوجب أنْ لا يروي عن مبتدع، فبالأولى البخاري - لأنَّ شرطه أدق، ولذلك قلت في عنوان المقالة (المبدعون) أعلاماً بأنَّ خصومهم لَقَّبُوهُمْ بِالمُبْتَدِعَةِ، وإلَاّ فهم مجتهدون والمجتهد وإنْ أخطأ لا يوصف بالابتداع - كما أسلفناه، ونبسطه الآن. اهـ منه.
(2)
[سورة الحجرات، الآية: 6].
(3)
[سورة الطلاق، الآية: 2].
عن سلام قال: بلغ أيوب أني آتي عَمْرًا (1)، فأقبل عَلَيَّ يَوْمًا فقال: أرأيت رجلاً لا تأمنه على دينه، فكيف تأمنه على الحديث. فدل ذلك على أن من ائتمنه الشيخان على الحديث، فقد ائتمنوه على الدين، ومن ائتمن على الدين فليس فاسقًا ولا مبتدعًا.
فهل بعد هذا يجوز غمز بعض من روى لهم الشيخان من
(1) هو عمرو بن عبيد المتقدم وكلام أيوب فيه من كلام المعاصرين بعضهم في بعض وهو مطروح كما نَبَّهَ عليه ابن عبد البر في كتاب " جامع بيان العلم ".
أولئك الأعلام المُبَدِّعِينَ؟ لَا جَرَمَ أنه لأمر ما عُنِيَ البخاري ومسلم بالتخريج عنهم، وأخذ السُنَّةَ منهم، وتبليغها لِلأُمَّةِ، وجعلها حُجَّةً بينه وبين رَبِّهِ، وما ذاك إلا إجلالاً لفضلهم، وإنصافًا لقدرهم.
انظر كيف يتحمل مثل البخاري عن أعلام الشيعة، والمعتزلة، والمرجئة، والخوارج، ويجعل حديثهم حُجَّةً، وَمَرْوِيُّهُمْ سُنَّةً، ويفخر بذكر أسمائهم في أسانيده ويخلد لهم أجمل الذكر، في أشرف مُصَنَّفٍ. انظر هذا وقابل بينه وبين جمود المتأخرين، ورميهم علماء الفرق بالفسق والابتداع والضلال، وَهَجْرِهِمْ لِعُلُومِهِمْ، وَصَدِّ النَّاسِ عَنْهُمْ، حتى فات الناس - وَا أَسَفًا - عِلْمٌ جَمٌّ، وخير كثير، ولئن دُوِّنَ مَا دُوِّنَ من معارفهم، فما بقي من فوائدهم في خزائن صدورهم مِمَّا كان يستثار بالأخذ عنهم، وينال بمجالسهم - أوسع وأوفر، أفليس في جمود هؤلاء على ما ذكر عقوق لسلفهم الصالح؟ بلى! وما يضرون إلا أنفسهم لو كانوا يشعرون، بما ذكرناه استبان لك الخطأ في نبز رُوَّاةِ الصحيح بالفسق والابتداع، وأنه تعصب يجب التنبيه له والحذر منه. نحن إنما نصدع بهذا - تَفَقُّهًا مِنْ مَشْرَبِ البخاري ومذهبه، وموافقة له في رأيه الذي لا شك في أنه الصواب الذي تدعو إليه الأُخُوَّةُ الإيمانية، والإنصاف مع كل رَاوٍ مجتهد من هذه الأُمَّةِ لا يروم إلا الحَقَّ، ولا يسعى
إلا إليه، ولا يتحمل الأذى والاضطهاد إلا لأجله - إذ لم يصب من رأيه وما دعا إليه لا دنيا، وَلَا جَاهًا، وَلَا مُلكًا، فأي دليل أدل على حسن نيته من هذا؟
وبالجملة فتسمية المُتَفَقِّهَةِ بَعْضَ الرُوَّاةِ فَسَقَةً جَهْلٌ بما قاله الأُصُولِيُّونَ من أنَّ الفاسق مردود الشهادة والرواية (1) ومن قبل الشيخان وغيرهما خبره وحكموه في السُنَّةِ، وأخذوا عنه، فهل يكون فاسقًا؟ على أن إجماعهم على تلقي " الصحيحين " بالقبول موجب لتعديل رُوَّاتِهِمَا جَمِيعًا؛ لأنَّ التلقي بالقبول فرع صحة الحديث، وهو إنما يكون من صحة سنده، وهو من عدالة رجاله وتوثيقهم. ولذا قالوا فيمن خَرَّجَ له الشيخان:«جَازَ القَنْطَرَةَ» . بمعنى أنه لا يلتفت إلى ما غُمِزَ فيه. وبالجملة فمشرب المُحَدِّثِينَ في التسامح وَنَبْذِ التَّعَصُّبِ هو الذي تقتضيه الأصول، وتقبله العقول، وَمَا أُحْدِثَ مِنَ النَّبْزِ بِالفُسُوقِ للبعض فلا سند له - لأن دعوى فسق الإنسان إنما يكون بإتيانه ما فَسَّقَهُ الشارع به، ونص عليه كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ نَصًّا قَاطِعًا لا يحتمل التأويل وأما مسائل الاجتهاد فلا يصح ذلك فيها بوجه من الوجوه.
والحاصل أن لا تفسيق ولا تضليل، مع الاجتهاد والتأويل،
(1)" المستصفى ": جـ 1 ص 158.
وإن كان ليس كل اجتهاد صَوَابًا، ولا كل تأويل مقبولاً، ولكن كلامنا في ذات المجتهد والمأول.
فمن لم يَأْلُ جُهْدًا فلا ملام عليه ولا كلام، لا بل يُتَحَمَّلُ منه الدين، ويُتلقى عنه الهَدْيَ النَّبَوِيَّ، ويحكم في السُنَّةِ، على هذا جرى البخاري ومسلم وغيرهما من أقطاب الحديث والأثر، وهو الصواب، بلا ارتياب. وقد نقل الغزالي في " المستصفى " (1) عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ:«تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الأَهْوَاءِ إلَاّ الْخَطَّابِيَّةَ مِنْ الرَّافِضَةِ لأَنَّهُمْ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ بِالزُّورِ لِمُوَافِقِيهِمْ فِي الْمَذْهَبِ» (ثم قال): «وَيَدُلُّ [أَيْضًا] عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ قَبُولُ الصَّحَابَةِ قَوْلَ الْخَوَارِجِ فِي الأَخْبَارِ وَالشَّهَادَةِ وَكَانُوا فَسَقَةً مُتَأَوِّلِينَ، وَعَلَى قَبُولِ ذَلِكَ دَرَجَ التَّابِعُونَ لأَنَّهُمْ مُتَوَرِّعُونَ عَنْ الكَذِبِ جَاهِلُونَ بِالْفِسْقِ» . اهـ.
فترى من هذا أن الصحابة قبلوا خبرهم، وما ضَرَّهُمْ تسمية الفقهاء لهم بالفسقة، لأنه فسق بمعنى مخالفة غيرهم، وهذا الإطلاق اصطلاحي للفقهاء، وربما رجع الخلاف - في تسمية أولئك فُسَّاقًا - لَفْظِيًّا، وإلَاّ فيستحيل إرادة الفسق الحقيقي المانع للشهادة والرواية - كما قدمنا - ومعلوم أنه لا يكون
(1) جـ 1 ص 160.