المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل: تفسيرهم لتجسم كلمة الله بالمسيح وأنه اتحاد بريء من الاختلاط ونحوه والجواب عن ذلك] - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية - جـ ٤

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[فَصْلٌ: تَفْسِيرُهُمْ لِتَجَسُّمِ كَلِمَةِ اللَّهِ بِالْمَسِيحِ وَأَنَّهُ اتِّحَادٌ بَرِيءٌ مِنَ الِاخْتِلَاطِ وَنَحْوِهِ وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ]

- ‌[فَصْلٌ: نَقْضُ دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ أَثْبَتَ فِي الْمَسِيحِ اللَّاهُوتَ وَالنَّاسُوتَ]

- ‌[فَصْلٌ: نَقْضُ دَعْوَاهُمْ بِوُرُودِ تَسْمِيَةِ الْمَسِيحِ خَالِقًا فِي الْقُرْآنِ]

- ‌[فَصْلٌ: بَيَانُ الْمَعْنَى الصَّحِيحِ لِتَشْبِيهِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عِيسَى بِآدَمَ وَرَدُّ تَفْسِيرِهِمْ لِذَلِكَ]

- ‌[فَصْلٌ: بَيَانُ اضْطِرَابِ كَلَامِ النَّصَارَى وَتَفَرُّقِهِمْ فِي بَابِ طَبِيعَةِ الْمَسِيحِ]

- ‌[فَصْلٌ: مُوَاصَلَةُ الرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى بِمَا قَالَهُ الْحَسَنُ بْنُ أَيُّوبَ ثُمَّ بِكَلَامِ ابْنِ الْبِطْرِيقِ]

- ‌[فَصْلٌ: مُتَابَعَةُ حِكَايَةِ كَلَامِ ابْنِ الْبِطْرِيقِ عَنِ النَّصَارَى وَمُنَاقَشَتُهُ فِي ذَلِكَ]

- ‌[فَصْلٌ: مُتَابَعَةُ حِكَايَةِ كَلَامِ ابْنِ الْبِطْرِيقِ عَنِ النَّصَارَى وَمُنَاقَشَتُهُ فِي ذَلِكَ]

- ‌[فَصْلٌ: مُتَابَعَةُ حِكَايَةِ كَلَامِ ابْنِ الْبِطْرِيقِ عَنِ النَّصَارَى وَمُنَاقَشَتِهِ فِي ذَلِكَ]

- ‌[فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَى تَشْبِيهِ النَّصَارَى حُلُولَ كَلِمَةِ اللَّهِ فِي النَّاسُوتِ بِالْكِتَابَةِ فِي الْقِرْطَاسِ]

- ‌[فَصْلٌ: مُتَابَعَةٌ لِكَلَامِ ابْنِ الْبِطْرِيقِ وَالرَّدِّ عَلَيْهِ]

- ‌[فَصْلٌ: بَيَانُ أَنَّ عَامَّةَ دِينِ النَّصَارَى لَيْسَ مَأْخُوذًا عَنِ الْمَسِيحِ]

- ‌[فَصْلٌ: بَيَانُ أَنَّ كُلَّ مَا نَقَلَهُ الْمُؤَلِّفُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَيُّوبَ وَابْنِ الْبِطْرِيقِ إِنَّمَا هُوَ رَدٌّ عَلَى أَنَّ فِي الْمَسِيحِ طَبِيعَتَيْنِ]

- ‌[فَصْلٌ: الْجَوَابُ عَنْ شُبْهَةِ النَّصَارَى فِي إِقْرَارِ الْمُسْلِمِينَ فِي الصِّفَاتِ وَأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّشْبِيهَ وَالتَّجْسِيمَ]

الفصل: ‌[فصل: تفسيرهم لتجسم كلمة الله بالمسيح وأنه اتحاد بريء من الاختلاط ونحوه والجواب عن ذلك]

[فَصْلٌ: تَفْسِيرُهُمْ لِتَجَسُّمِ كَلِمَةِ اللَّهِ بِالْمَسِيحِ وَأَنَّهُ اتِّحَادٌ بَرِيءٌ مِنَ الِاخْتِلَاطِ وَنَحْوِهِ وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ]

قَالُوا: وَأَمَّا تَجَسُّمُ كَلِمَةِ اللَّهِ الْخَالِقَةِ الَّتِي بِهَا خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَتَجَسُّدُهَا بِإِنْسَانٍ مَخْلُوقٍ، وَهُوَ الَّذِي أُخِذَ مِنْ مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْمُصْطَفَاةِ، الَّتِي فُضِّلَتْ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ وَاتَّحَدَتِ الْكَلِمَةُ بِهِ اتِّحَادًا بَرِيًّا مِنَ اخْتِلَاطٍ أَوْ تَغَيُّرٍ أَوِ اسْتِحَالَةٍ، وَخَاطَبَ النَّاسَ كَمَا خَاطَبَ اللَّهُ مُوسَى النَّبِيَّ مِنَ الْعَوْسَجَةِ، فَفَعَلَ الْمُعْجِزَ بِلَاهُوتِهِ، وَأَظْهَرَ الْعَجْزَ بِنَاسُوتِهِ، وَالْفِعْلَانِ هُمَا مِنَ الْمَسِيحِ الْوَاحِدِ

وَالْجَوَابُ: إِنَّ فِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ وَالْكُفْرِ وَالتَّنَاقُضِ أُمُورًا كَثِيرَةً، وَذَلِكَ يَظْهَرُ بِوُجُوهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُمْ: كَلِمَةُ اللَّهِ الْخَالِقَةُ الَّتِي بِهَا خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ، فَإِنَّ الْخَالِقَ هُوَ الْإِلَهُ الْخَالِقُ، وَهُوَ خَلَقَ الْأَشْيَاءَ بِكَلَامِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: كُنْ، فَالْخَالِقُ لَمْ يَخْلُقْ بِهِ الْأَشْيَاءَ، بَلْ هُوَ خَلَقَهَا، وَالْكَلَامُ الَّذِي بِهِ خُلِقَتِ الْأَشْيَاءُ لَيْسَ هُوَ الْخَالِقَ لَهَا، بَلْ خَلَقَ الْخَالِقُ الْأَشْيَاءَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَبَيْنَ مَا بِهِ خَلْقُ الْخَالِقِ مَعْقُولٌ.

وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا الْخَالِقَ هُوَ الَّذِيْ بِهِ خُلِقَتِ الْمَخْلُوقَاتُ، فَجَعَلُوا الْكَلِمَةَ هِيَ الْخَالِقَ، وَجَعَلُوا الْمَخْلُوقَاتِ خُلِقَتْ بِهَا.

ص: 5

وَإِيضَاحُ هَذَا أَنَّ الْكَلِمَةَ إِنْ كَانَتْ مُجَرَّدَ الصِّفَةِ، فَإِنَّ الصِّفَةَ لَيْسَتْ خَالِقَةً، وَإِنْ كَانَتِ الصِّفَةُ مَعَ الْمَوْصُوفِ فَهَذَا هُوَ الْخَالِقُ، لَيْسَ هَذَا هُوَ الْمَخْلُوقَ بِهِ

وَالثَّانِيْ: قَوْلُهُمْ: تَجَسُّدُهَا بِإِنْسَانٍ مَخْلُوقٍ وَقَوْلُهُمْ: تَجَسُّمُ كَلِمَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ تَجَسَّمَتْ وَتَجَسَّدَتْ يَقْتَضِي أَنَّ الْكَلِمَةَ صَارَتْ جَسَدًا وَجِسْمًا بِالْإِنْسَانِ الْمَخْلُوقِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي انْقِلَابَهَا جَسَدًا وَجِسْمًا، وَهَذَا يَقْتَضِي اسْتِحَالَتَهَا وَتَغَيُّرَهَا، وَهُمْ قَالُوا: اتِّحَادًا بَرِيًّا مِنْ تَغَيُّرٍ وَاسْتِحَالَةٍ.

الثَّالِثُ: قَوْلُهُمْ: اتَّحَدَتِ الْكَلِمَةُ بِهِ اتِّحَادًا بَرِيًّا مِنِ اخْتِلَاطٍ أَوْ تَغَيُّرٍ أَوِ اسْتِحَالَةٍ، كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ أَيْضًا، فَإِنَّ الِاتِّحَادَ يُصَيِّرُ الِاثْنَيْنِ وَاحِدًا، فَيُقَالُ قَبْلَ الِاتِّحَادِ: كَانَ اللَّاهُوتُ جَوْهَرًا وَالنَّاسُوتُ جَوْهَرًا آخَرَ.

وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: كَانَ هَذَا شَيْئًا وَهَذَا شَيْئًا، أَوْ هَذَا عَيْنًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا، وَهَذَا عَيْنًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا، فَبَعْدَ الِاتِّحَادِ إِمَّا أَنْ يَكُونَا اثْنَيْنِ كَمَا كَانَا أَوْ صَارَ الِاثْنَانِ وَاحِدًا، فَإِنْ كَانَا اثْنَيْنِ كَمَا كَانَا فَلَا اتِّحَادَ، بَلْ هُمَا مُتَعَدِّدَانِ كَمَا كَانَا مُتَعَدِّدَيْنِ، وَإِنْ كَانَا قَدْ صَارَا شَيْئًا وَاحِدًا، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْوَاحِدُ هُوَ أَحَدَهُمَا، فَالْآخَرُ قَدْ عُدِمَ وَهَذَا عَدَمٌ لِأَحَدِهِمَا لَا اتِّحَادُهُ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي صَارَ وَاحِدًا لَيْسَ هُوَ أَحَدَهُمَا، فَلَا بُدَّ مِنْ تَغْيِيرِهِمَا وَاسْتِحَالَتِهِمَا، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَا بَعْدَ الِاتِّحَادِ اثْنَيْنِ بَاقِيَيْنِ بِصِفَاتِهِمَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ اتِّحَادٌ.

فَإِذَا قِيلَ: اتَّحَدَ اتِّحَادًا بَرِيًّا مِنِ اخْتِلَاطٍ أَوْ تَغَيُّرٍ أَوِ اسْتِحَالَةٍ، كَانَ

ص: 6

هَذَا كَلَامًا مُتَنَاقِضًا، يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ التَّمَدُّدِ وَالْمُبَايَنَةِ، لَا مَعَ الِاتِّحَادِ، يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا اتَّحَدَ الْمَاءُ وَاللَّبَنُ، أَوِ الْمَاءُ وَالْخَمْرُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ كَانَ الْحَاصِلُ مِنِ اتِّحَادِهِمَا شَيْئًا ثَالِثًا لَيْسَ مَاءً مَحْضًا وَلَا لَبَنًا مَحْضًا، بَلْ هُوَ نَوْعٌ ثَالِثٌ، وَكُلٌّ مِنَ الْمَاءِ وَاللَّبَنِ قَدِ اسْتَحَالَ وَتَغَيَّرَ وَاخْتَلَطَ، وَأَمَّا اتِّحَادٌ بِدُونِ ذَلِكَ فَغَيْرُ مَعْقُولٍ.

وَلِهَذَا عَظُمَ اضْطِرَابُ النَّصَارَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَكَثُرَ اخْتِلَافُهُمْ، وَصَارَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَرُدُّ عَلَى الْآخَرِ مَا يَقُولُهُ وَيَقُولُ هُوَ قَوْلًا يَكُونُ مَرْدُودًا، فَكَانَتْ أَقْوَالُهُمْ كُلُّهَا بَاطِلَةً مَرْدُودَةً، إِذْ كَانُوا قَدِ اشْتَرَكُوا فِي أَصْلٍ فَاسِدٍ يَسْتَلْزِمُ أَحَدَ أُمُورٍ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ، فَأَيُّ شَيْءٍ أُخِذَ مِنْ تِلْكَ اللَّوَازِمِ كَانَ بَاطِلًا، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا فَيَأْخُذُ هَذَا بَعْضَ اللَّوَازِمِ فَيَرُدُّهُ الْآخَرُ، وَيَأْخُذُ الْآخَرُ لَازِمًا آخَرَ فَيَرُدُّهُ الْآخَرُ.

وَهَذَا شَأْنُ جَمِيعِ الْمَقَالَاتِ الْبَاطِلَةِ، إِذَا اشْتَرَكَ فِيهَا طَائِفَةٌ لَزِمَهَا لَوَازِمُ بَاطِلَةٌ، وَفَسَادُ اللَّازِمِ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْمَلْزُومِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَحَقَّقَ الْمَلْزُومُ تَحَقَّقَ اللَّازِمُ، وَإِذَا انْتَفَى اللَّازِمُ انْتَفَى الْمَلْزُومُ.

وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِالْوَجْهِ الرَّابِعِ: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: كَثِيرٌ مِنَ النَّصَارَى يَقُولُ: إِنَّهُمَا بَعْدَ الِاتِّحَادِ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ، وَطَبِيعَةٌ وَاحِدَةٌ، وَمَشِيئَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ يُضَافُ إِلَى الْيَعْقُوبِيَّةِ.

وَيَقُولُونَ: إِنَّ اللَّاهُوتَ وَالنَّاسُوتَ اخْتَلَطَا وَامْتَزَجَا، كَمَا يَخْتَلِطُ الْمَاءُ وَاللَّبَنُ، وَالْمَاءُ وَالْخَمْرُ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ حَقِيقَةُ الِاتِّحَادِ، لَا يُعْقَلُ

ص: 7

الِاتِّحَادُ إِلَّا هَكَذَا، لَكِنَّ فَسَادَهُ ظَاهِرٌ لِعُقُولِ النَّاسِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا لَازِمًا لِقَوْلٍ النَّصَارَى وَفَسَادُهُ ظَاهِرًا، كَانَ فَسَادُ اللَّازِمِ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْمَلْزُومِ، فَإِنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الَّذِي كَانَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَبُولُ وَيَتَغَوَّطُ، وَالَّذِي ضُرِبَ وَبُصِقَ فِي وَجْهِهِ وَوُضِعَ الشَّوْكُ عَلَى رَأْسِهِ هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

وَنَفْسُ تَصَوُّرِ هَذَا الْقَوْلِ مِمَّا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِبُطْلَانِهِ وَتَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ قَائِلَهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى:

{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} [مريم: 88](88){لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} [مريم: 89](89){تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 90](90){أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم: 91](91){وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92](92){إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93](93){لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} [مريم: 94](94){وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 95] الْوَجْهُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُمْ: وَخَاطَبَ النَّاسَ كَمَا خَاطَبَ اللَّهُ مُوسَى مِنَ الْعَوْسَجَةِ، يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ كَلَّمَهُمْ الْمَسِيحُ مِمَنْ آمَنَ بِهِ وَكَفَرَ بِهِ، بِمَنْزِلَةِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ تَكْلِيمًا.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَكْلِيمَ اللَّهِ لِمُوسَى عليه الصلاة والسلام، مِمَّا فَضَّلَهُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ النَّبِيِّينَ، فَإِنْ كَانَ آحَادُ النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ آحَادِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الرُّسُلِ.

ص: 8

الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنْ خِطَابَ اللَّهِ لِأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ أَفْضَلُ مِنْ خِطَابِهِ لِمَنْ لَيْسَ بِنَبِيٍّ وَلَا رَسُولٍ، وَالْمَسِيحُ عليه السلام لَمْ يُكَلِّمْ عَامَّةَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، بَلْ لَمْ يُكَلِّمْ إِلَّا نَاسًا مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بِهِ.

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْ رُسُلِ اللَّهِ، وَلَكِنَّ النَّصَارَى يَزْعُمُونَ أَنَّ الْحَوَارِيِّينَ رُسُلُ اللَّهِ، وَهَذَا بَاطِلٌ، وَلَوْ سُلِّمَ فَلَمْ يُكَلِّمْ إِلَّا اثْنَيْ عَشَرَ رَسُولًا، وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ قَبْلَهُ رُسُلًا كَثِيرِينَ، وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيْثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ عِدَّتَهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ.

وَقَدْ قَالَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: 36] وَقَالَ تَعَالَى:

{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24]

وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْمُسْنَدِ، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ عز وجل» وَهَذِهِ

ص: 9

السَبْعُونَ سَوَاءً كَانَتْ هِيَ الَّتِي هَدَاهَا أَوْ هِيَ الْجَمِيعَ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الرُّسُلِ، وَلَمْ يُكَلِّمِ اللَّهُ أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ بَشَرٍ حَلَّ فِيهِ، فَلَوْ كَانَ الْمُكَلِّمُ لِلنَّاسِ فِي عِيسَى هُوَ اللَّهَ، لَكَانَ تَكْلِيمُ اللَّهِ لِلَّذِينِ كَلَّمَهُمْ عِيسَى مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ أَكْمَلَ مِنْ تَكْلِيمِهِ رُسُلَ اللَّهِ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ.

الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّ النَّاسُوتَ نَاسُوتَ الْمَسِيحِ هُوَ مِنْ جِنْسِ سَائِرِ النَّوَاسِيتِ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرَى اللَّهَ فِي الدُّنْيَا كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ مُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَرَاهُ كَانَ أَنْ لَا يَسْتَطِيعَ الِاتِّصَالَ بِهِ وَمَمَاسَّتَهُ، فَضْلًا عَنِ الِاتِّحَادِ بِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى.

الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّ اللَّهَ لَمَّا كَلَّمَ مُوسَى عليه السلام مِنَ الشَّجَرَةِ، كَانَ الْكَلَامُ الْمَسْمُوعُ مُخَالِفًا لِمَا يُسْمَعُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، وَلِهَذَا لَمْ تُطِقْ بَنُو إِسْرَائِيْلَ سَمَاعَ ذَلِكَ الصَّوْتِ، بَلْ قَالُوا لِمُوسَى: صِفْ لَنَا ذَلِكَ، وَهَذَا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ.

ص: 10

كَمَا رَوَى الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فِيمَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ:" لَمَّا سَمِعَ مُوسَى كَلَامَ اللَّهِ قَالَ: يَا رَبِّ هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي أَسْمَعُ هُوَ كَلَامُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا مُوسَى، هُوَ كَلَامِي، وَإِنَّمَا كَلَّمْتُكَ بِقُوَّةِ عَشَرَةِ آلَافِ لِسَانٍ، وَلِي قُوَّةُ الْأَلْسُنِ كُلِّهَا، وَأَنَا أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَلَّمْتُكَ عَلَى قَدْرِ مَا يُطِيقُ بَدَنُكَ، وَلَوْ كَلَّمْتُكَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا لَمِتَّ، فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ قَالُوا لَهُ: صِفْ لَنَا كَلَامَ رَبِّكَ. فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَهَلْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَصِفَهُ لَكُمْ؟ قَالُوا: فَشَبِّهْهُ لَنَا. قَالَ: هَلْ سَمِعْتُمْ أَصْوَاتَ الصَّوَاعِقِ الَّتِي تُقْبِلُ فِي أَحْلَى حَلَاوَةٍ سَمِعْتُمُوهَا، فَكَأَنَّهُ مِثْلُهُ ".

وَأَمَّا الْمَسِيحُ عليه السلام فَكَانَ كُلُّ أَحَدٍ يَسْمَعُ صَوْتَهُ

ص: 11

كَصَوْتِ سَائِرِ النَّاسِ لَمْ يَتَمَيَّزْ عَنْهُمْ بِمَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونُوا سَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ.

الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنَّ الْجِنِّيَّ إِذَا حَلَّ فِي الْإِنْسِيِّ كَمَا يَحِلُّ فِي الْمَصْرُوعِ وَيَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِهِ، فَإِنَّهُ يَتَغَيَّرُ الْكَلَامُ، وَيَعْرِفُ الْحَاضِرُونَ أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ الْإِنْسِيِّ مَعَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِ الْإِنْسِيِّ، وَحَرَكَةِ أَعْضَائِهِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ الصَّوْتَ حَصَلَ بِحَرَكَةِ بَدَنِ الْإِنْسِيِّ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ قَدْ تَغَيَّرَ تَغَيُّرًا خَالَفَ بِهِ الْمَعْهُودَ مِنْ كَلَامِ الْإِنْسِيِّ، وَالْإِنْسَانُ الَّذِي حَلَّ فِيهِ الْجِنِّيُّ يَغِيبُ عَنْهُ عَقْلُهُ وَلَا يَشْعُرُ بِمَا تَكَلَّمَ الْجِنِّيُّ عَلَى لِسَانِهِ، فَرَبُّ الْعَالَمِينَ سبحانه وتعالى لَوْ حَلَّ فِي بَشَرٍ وَاتَّحَدَ بِهِ وَتَكَلَّمَ بِكَلَامِهِ، وَكَانَ الْكَلَامُ الْمَسْمُوعُ كَلَامَ اللَّهِ الْمَسْمُوعَ مِنْهُ، لَكَانَ يَظْهَرُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْمَعْهُودِ مِنْ كَلَامِ الْإِنْسِيِّ مَا هُوَ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، وَكَانَ يَتَغَيَّرُ حَالُ الْإِنْسِيِّ غَايَةَ التَّغَيُّرِ، فَإِنَّ الرَّبَّ عز وجل لَمَّا تَجَلَّى لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا، فَإِذَا كَانَ الْبَدَنُ الْإِنْسِيُّ لَا يَثْبُتُ لِتَجَلِّيهِ لِلْجَبَلِ، فَكَيْفَ يَثْبُتُ لِحُلُولِهِ فِيهِ وَتَكَلُّمِهِ عَلَى لِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ فِي الْبَدَنِ؟

وَقَدْ كَانَ الْوَحْيُ وَالْمَلَائِكَةُ إِذَا نَزَلَتْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فِي بَاطِنِهِمْ يَظْهَرُ التَّغَيُّرُ فِي أَبْدَانِهِمْ، فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ ثَقُلَ حَتَّى يَبْرُكَ بِهِ الْبَعِيرُ، وَإِنْ كَانَ فَخِذُهُ عَلَى أَحَدٍ ثَقُلَ حَتَّى كَادَ يَرُضُّهُ.

ص: 12

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ " أَنْ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ قَالَ: أَحْيَانًا يَأْتِينِي فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا» ".

وَمُوسَى عليه السلام لَمَّا سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ مَقَتَ الْآدَمِيِّينَ، لِمَا وَقَرَ فِي سَمْعِهِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَكَانَ النُّورُ يَظْهَرُ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى كَانَ

ص: 13

يَتَبَرْقَعُ، وَالْمَسِيحُ عِنْدَ النَّصَارَى قَدِ اتَّحَدَ بِهِ اللَّاهُوتُ مِنْ حِينِ عَلِقَتْ بِهِ مَرْيَمُ، وَلَمْ يَزَلْ مُتَّحِدًا بِهِ وَهُوَ حَمْلٌ فِي بَطْنِهَا، يَعْظُمُ اتِّحَادُهُ بِهِ كُلَّمَا كَبِرَ، ثُمَّ كَذَلِكَ كَانَ مُتَّحِدًا بِهِ وَهُوَ صَبِيٌّ إِلَى أَنْ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ وَقَعَدَ عَنْ يَمِينِ أَبِيهِ وَهُوَ مُتَّحِدٌ بِهِ عِنْدَهُمْ، وَاللَّاهُوتُ وَالنَّاسُوتُ جَمِيعًا، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ بَدَنُ الْمَسِيْحِ تَغَيُّرًا يُنَاسِبُ ذَلِكَ، وَلَا ظَهَرَ مِنَ الْأَنْوَارِ مَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ، بَلْ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمَسِيْحَ قَبْلَ أَنْ يُعَمِّدَهُ (يُوحَنَّا) وَيَرَى شِبْهَ الْحَمَامَةِ نَازِلًا عَلَيْهِ، لَمْ يُظْهِرِ الْآيَاتِ، بَلْ كَانَ كَآحَادِ النَّاسِ، وَأَوَّلُ مَا ظَهَرَ مِنَ الْآيَاتِ قَلْبُ الْمَاءِ خَمْرًا.

وَمُوسَى عليه السلام بِمُجَرَّدِ مَا سَمِعَ الْكَلَامَ ظَهَرَ عَلَيْهِ النُّورُ، وَأَيْنَ سَمْعُ الْكَلَامِ مِنَ الِاتِّحَادِ بِهِ؟

وَمُوسَى لَمَّا سَمِعَ الْكَلَامَ وَكَلَّمَهُ اللَّهُ مِنَ الشَّجَرَةِ نَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ وَظَهَرَ لَهُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ مَا يُنَاسِبُ تَكْلِيمَ اللَّهِ عز وجل.

وَالرَّبُّ دَائِمًا عِنْدَ النَّصَارَى مُتَّحِدٌ بِبَدَنِ الْمَسِيحِ، وَلَمْ يُظْهِرْ مِنْ آيَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْعَظْمَةِ إِلَّا مَا يُظْهِرُ أَكْثَرَ مِنْهُ لِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ.

الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: أَنَّ الْمُخَاطِبَ لِلنَّاسِ إِنْ كَانَ هُوَ مَجْمُوعَ اللَّاهُوتِ وَالنَّاسُوتِ فَكَلَامُهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مَرْبُوبٌ يَدْعُو وَيَسْأَلُ، وَالْمَجْمُوعُ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ يَسْأَلُ اللَّهَ وَيَعْبُدُهُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ اللَّاهُوتَ وَحْدَهُ

ص: 14

كَمَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُهُمْ هَذَا، فَهُوَ أَبْعَدُ وَأَبْعَدُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ النَّاسُوتَ وَحْدَهُ فَلَمْ يَكُنِ اللَّاهُوتُ مُخَاطِبًا لِلنَّاسِ وَلَمْ يُكَلِّمِ اللَّهُ النَّاسَ مِنَ النَّاسُوتِ كَمَا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى مِنَ الشَّجَرَةِ.

وَأَيْضًا فَلَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ حَقِيقَةِ كَلَامِ النَّاسُوتِ وَكَلَامِ اللَّاهُوتِ.

وَكَلَامُ الْمَسِيحِ الصَّرِيحُ فِي أَنَّهُ مَخْلُوقٌ كَثِيرٌ وَهُمْ يُقِرُّونَ بِهِ، لَكِنْ يَقُولُونَ ذَلِكَ كَلَامُ النَّاسُوتِ. فَيُقَالُ لَهُمْ حِينَئِذٍ: فَالْمُخَاطِبُ لِلنَّاسِ هُوَ النَّاسُوتُ دُونَ اللَّاهُوتِ، وَأَنْتُمْ قُلْتُمْ: إِنَّ اللَّهَ خَاطَبَ الْخَلْقَ مِنْ بَدَنِ الْمَسِيحِ كَمَا خَاطَبَ مُوسَى مِنَ الشَّجَرَةِ.

وَالْخِطَابُ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى مِنَ الشَّجَرَةِ هُوَ كُلُّهُ كَلَامُ اللَّاهُوتِ، وَالْكَلَامُ الَّذِي كَانَ يُسْمَعُ مِنَ الْمَسِيحِ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يَخْتَصُّ بِاللَّاهُوتِ، بَلْ عَامَّتُهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ كَلَامُ النَّاسُوتِ.

الْوَجْهُ الْحَادِي عَشَرَ: أَنَّ اللَّهَ لَمَّا كَلَّمَ مُوسَى مِنَ الشَّجَرَةِ، كَانَ

ص: 15

الْكَلَامُ كَلَامَ اللَّهِ وَحْدَهُ، لَمْ يَكُنْ لِلشَّجَرَةِ كَلَامٌ أَصْلًا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمَثَلُ مُطَابِقًا، كَانَ الَّذِي يُكَلِّمُ النَّاسَ مِنْ نَاسُوتِ الْمَسِيحِ هُوَ اللَّاهُوتَ وَحْدَهُ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي الْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِ مِنَ النُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّاسُوتَ كَانَ هُوَ الْمُتَكَلِّمَ، مِمَّا يُبَيِّنُ الْفَرْقَ الْوَاضِحَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا.

الْوَجْهُ الثَّانِي عَشَرَ: أَنَّ الَّذِي نَادَى مُوسَى مِنَ الشَّجَرَةِ لَمْ يَتَكَلَّمْ إِلَّا بِكَلَامِ الرُّبُوبِيَّةِ فَقَالَ:

{إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30]

{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي - إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى - فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه: 14 - 16] .

وَسَائِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ كُلُّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَمَّا الْمُتَكَلِّمُ عَلَى لِسَان الْمَسِيحِ فَلَمْ يَقُلْ كَلِمَةً مِنْ هَذَا أَصْلًا، بَلْ كَانَ فِي كَلَامِهِ مِنَ الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ رَسُولٌ، وَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مُحْتَاجٌ، وَأَنَّهُ ابْنُ الْبَشَرِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُنَاقِضُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَلَامَ الْمُنَادِي لِمُوسَى مِنَ الشَّجَرَةِ، فَمَنْ سَوَّى بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، كَانَ قَدْ سَوَّى بَيْنَ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَبَيْنَ إِنْسَانٍ مِنَ

ص: 16

الْآدَمِيِّينَ، وَهُوَ أَضَلُّ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ:

{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ - إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97 - 98] .

فَإِنَّ أُولَئِكَ جَعَلُوهُمْ أَنْدَادًا لِلَّهِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ، وَهَؤُلَاءِ الضُّلَّالُ جَعَلُوا هَذَا الْإِنْسَانَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى مِنَ الشَّجَرَةِ، وَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الَّذِي كَلَّمَ الْعِبَادَ هُوَ ذَاكَ الَّذِي نَادَى مُوسَى مِنَ الشَّجَرَةِ

الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنْ يُقَالَ: مَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ وَأَكْبَرُ مِنْ رُسُلِهِ بِمَا لَا يُقَدِّرُ الْمَخْلُوقُ قَدْرَهُ، فَلَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي كَلَّمَ الْخَلْقَ عَلَى لِسَانِ الْمَسِيحِ، وَكَانَ الْحَوَارِيُّونَ رُسُلَهُ الَّذِينَ سَمِعُوا كَلَامَهُ مِنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، لَكَانَ الْحَوَارِيُّونَ إِمَّا مِثْلُ مُوسَى وَإِمَّا أَعْظَمُ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَسِيحَ نَفْسَهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ آيَاتٌ مِثْلَ آيَاتِ مُوسَى، فَضْلًا عَنِ الْحَوَارِيِّينَ، فَإِنَّ أَعْظَمَ آيَاتِ الْمَسِيحِ عليه السلام إِحْيَاءُ الْمَوْتَى، وَهَذِهِ الْآيَةُ قَدْ شَارَكَهُ فِيهَا غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ كَإِلْيَاسَ وَغَيْرِهِ.

وَأَهْلُ الْكِتَابِ عِنْدَهُمْ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّ غَيْرَ الْمَسِيحِ أَحْيَا اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ الْمَوْتَى، وَمُوسَى بْنُ عِمْرَانَ مِنْ جُمْلَةِ آيَاتِهِ الْعَصَا الَّتِي انْقَلَبَتْ فَصَارَتْ ثُعْبَانًا مُبِينًا حَتَّى بَلَعَتِ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ الَّتِي لِلسَّحَرَةِ، وَكَانَ غَيْرَ مَرَّةٍ يُلْقِيهَا فَتَصِيرُ ثُعْبَانًا ثُمَّ يُمْسِكُهَا فَتَعُودُ عَصًا.

ص: 17

وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ آيَةٌ لَمْ تَكُنْ لِغَيْرِهِ، وَهِيَ أَعْظَمُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَانَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ، فَإِذَا عَاشَ فَقَدْ عَادَ إِلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأَوَّلِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُحْيِي الْمَوْتَى بِإِقَامَتِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ، وَقَدْ أَحْيَا غَيْرَ وَاحِدٍ مِنَ الْمَوْتَى فِي الدُّنْيَا

وَأَمَّا انْقِلَابُ خَشَبَةٍ تَصِيرُ حَيَوَانًا ثُمَّ تَعُودُ خَشَبَةً مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَتَبْتَلِعُ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ، فَهَذَا أَعْجَبُ مِنْ حَيَاةِ الْمَيِّتِ

وَأَيْضًا فَاللَّهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَحْيَا مِنَ الْمَوْتَى عَلَى يَدِ مُوسَى وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَعْظَمَ مِمَنْ أَحْيَاهُمْ عَلَى يَدِ الْمَسِيحِ، قَالَ تَعَالَى:

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ - ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 55 - 56]

. وَقَالَ تَعَالَى:

{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة: 73]

وَقَالَ تَعَالَى:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة: 243] .

ص: 18

وَأَيْضًا فَمُوسَى عليه الصلاة والسلام كَانَ يُخْرِجُ يَدَهُ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ إِبْرَاءِ أَثَرِ الْبَرَصِ الَّذِي فَعَلَهُ الْمَسِيحُ عليه السلام فَإِنَّ الْبَرَصَ مَرَضٌ مُعْتَادٌ، وَإِنَّمَا الْعَجَبُ الْإِبْرَاءُ مِنْهُ، وَأَمَّا بَيَاضُ الْيَدِ مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ ثُمَّ عَوْدُهَا إِلَى حَالِهَا الْأَوَّلِ، فَفِيهِ أَمْرَانِ عَجِيبَانِ لَا يُعْرَفُ لَهُمَا نَظِيرٌ.

وَأَيْضًا فَمُوسَى فَلَقَ اللَّهُ لَهُ الْبَحْرَ حَتَّى عَبَرَ فِيهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَغَرِقَ فِيهِ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ، وَهَذَا أَمْرٌ بَاهِرٌ فِيهِ مِنْ عَظَمَةِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِنْ إِهْلَاكِ اللَّهِ لِعَدُوِّ مُوسَى مَا لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ لِلْمَسِيحِ.

وَأَيْضًا فَمُوسَى كَانَ اللَّهُ يُطْعِمُهُمْ عَلَى يَدِهِ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى مَعَ كَثْرَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَيُفَجِّرُ لَهُمْ بِضَرْبِهِ لِلْحَجَرِ كُلَّ يَوْمٍ اثْنَيْ عَشَرَ عَيْنًا يَكْفِيهِمْ.

وَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ إِنْزَالِ الْمَسِيحِ عليه السلام لِلْمَائِدَةِ، وَمِنْ قَلْبِ الْمَاءِ خَمْرًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُحْكَى عَنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.

وَكَانَ لِمُوسَى فِي عَدُوِّهِ مِنَ الْقُمَّلِ وَالضَّفَادِعِ وَالدَّمِ وَسَائِرِ الْآيَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ لِلْمَسِيحِ، فَلَوْ كَانَ الْحَوَارِيُّونَ رُسُلًا قَدْ كَلَّمَهُمُ اللَّهُ مِثْلَ مَا كَلَّمَ مُوسَى مِنَ الشَّجَرَةِ كَانُوا مِثْلَ مُوسَى، فَكَيْفَ وَالْمَسِيحُ نَفْسُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ آيَاتٌ مِثْلَ آيَاتِ مُوسَى، وَلَوْ كَانَ الْمَسِيحُ هُوَ اللَّاهُوتُ

ص: 19

الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى لَكَانَ يُظْهِرُ مِنْ قُدْرَتِهِ أَعْظَمُ مِمَّا أَظْهَرَهُ عَلَى يَدِ مُوسَى، فَإِنَّهُ لَمْ يَحُلَّ فِي بَدَنِ مُوسَى، وَلَا كَانَ اللَّاهُوتُ يُكَلِّمُ الْخَلْقَ مِنْ مُوسَى، كَمَا يَزْعُمُهُ هَؤُلَاءِ فِي الْمَسِيحِ، وَمَعَ هَذِهِ فَالْآيَاتُ الَّتِي أَيَّدَ بِهَا عَبْدَهُ مُوسَى، تِلْكَ الْآيَاتُ الْعَظِيمَةُ، فَكَيْفَ تَكُونُ آيَاتُهُ إِذَا كَانَ هُوَ نَفْسَهُ الَّذِي قَدْ حَلَّ فِي بَدَنِ الْمَسِيحِ، وَهُوَ الَّذِي يُخَاطِبُ النَّاسَ عَلَى لِسَانِ الْمَسِيحِ؟

الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ خَاطَبَ النَّاسَ فِي الْمَسِيحِ، كَمَا خَاطَبَ مُوسَى النَّبِيَّ مِنَ الْعَوْسَجَةِ مَنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلِ، فَإِنَّ اللَّهَ بِاتِّفَاقِ الْأُمَمِ كُلِّهَا لَمْ يَحُلَّ فِي الشَّجَرَةِ، وَلَمْ يَتَّحِدْ بِهَا، كَمَا يَزْعُمُونَ هُمْ أَنَّهُ حَلَّ بِالْمَسِيحِ وَاتَّحَدَ بِهِ، فَإِنَّهُ عِنْدَهُمْ حَلَّ بِبَاطِنِ الْمَسِيحِ، بَلْ وَبِظَاهِرِهِ، وَاتَّحَدَ بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَالرَّبُّ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ فِي بَاطِنِ الشَّجَرَةِ، وَلَا حَلَّ فِيهَا، وَلَا اتَّحَدَ بِهَا، وَقَوْلُ اللَّهِ إِنَّهُ كَلَّمَهُ مِنْهَا وَنَادَاهُ مِنْهَا كَقَوْلِهِ أَنَّهُ: نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ وَذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِهِ:

{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى - إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} [النازعات: 15 - 16] .

وَفِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ

ص: 20

الرَّبَّ تَعَالَى حَلَّ فِي بَاطِنِ الْوَادِي الْمُقَدَّسِ، أَوِ الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ، أَوِ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، وَلَا أَنَّهُ اتَّحَدَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا صَارَ هُوَ وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ جَوْهَرًا وَاحِدًا، وَلَا شَخْصًا وَاحِدًا، كَمَا يَقُولُ بَعْضُ النَّصَارَى: إِنَّ اللَّاهُوتَ وَالنَّاسُوتَ صَارَا جَوْهَرًا وَاحِدًا، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: صَارَا شَخْصًا وَاحِدًا، بَلْ وَلَا قَالَ أَحَدٌ: أَنَّهُ حَلَّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَحُلُولِ الْمَاءِ فِي اللَّبَنِ، أَوِ النَّارِ فِي الْحَدِيدِ، كَمَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ: إِنَّ اللَّاهُوتَ حَلَّ فِي النَّاسُوتِ. كَذَلِكَ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ قَالَ شَيْئًا مِنَ الْمَقَالَاتِ الَّتِي لَا تَدُلُّ عَلَيْهَا الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ، وَلَا تُعْلَمُ بِالْعَقْلِ، لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ حُجَّةً، إِذْ لَا يُحْتَجُّ إِلَّا بِنَقْلٍ ثَابِتٍ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ بِمَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ.

الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّ الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى وَنَادَاهُ هُوَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَتَكْلِيمُهُ لَهُ مِنَ الشَّجَرَةِ مِنْ جِنْسِ مَا أَخْبَرَ بِنُزُولِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَنُزُولِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِحِسَابِ الْخَلْقِ، وَالْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

وَأَمَّا حُلُولُهُ فِي الْبَشَرِ أَوِ اتِّحَادُهُ بِهِ فَيَمْتَنِعُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ عَقْلًا وَسَمْعًا، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ بِهِ نَبِيٌّ.

وَمَا تَقُولُهُ النَّصَارَى فِي غَايَةِ التَّنَاقُضِ، فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَسِيحَ

ص: 21

هُوَ الْكَلِمَةُ وَهُوَ الْخَالِقُ، لِأَنَّ الْكَلِمَةَ وَالذَّاتَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، فَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ، ثُمَّ يَقُولُونَ: الْمُتَّحِدُ بِالْمَسِيحِ هُوَ الْكَلِمَةُ دُونَ الذَّاتِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْأَبَ، وَيَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ: إِنَّهُ لَمْ يَتَبَعَّضْ وَلَمْ يَتَجَزَّأْ.

وَمَعْلُومٌ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي هِيَ الصِّفَةُ لَا يُمْكِنُ مُفَارَقَتُهَا لِلْمَوْصُوفِ، فَلَا تَتَّحِدُ وَتَحُلُّ دُونَ الْمَوْصُوفِ، لَا سِيَّمَا وَالْمُتَّحِدُ الْحَالُّ عِنْدَهُمْ هُوَ الْخَالِقُ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَبُ، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ: الْمُتَّحِدُ الْحَالُّ هُوَ الْأَبُ، بَلْ هُوَ الِابْنُ، وَإِذَا قَالُوا: إِنَّ الِابْنَ هُوَ الْمُتَّحِدُ الْحَالُّ دُونَ الْأَبِ، فَالْمُتَّحِدُ لَيْسَ هُوَ الَّذِي مَا اتَّحَدَ، وَالِابْنُ اتَّحَدَ وَالْأَبُ مَا اتَّحَدَ.

وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْمُتَّحِدَ اتَّخَذَ عِيسَى حِجَابًا احْتَجَبَ بِهِ، وَمَسْكَنًا يَسْكُنُ فِيهِ، خَاطَبَ النَّاسَ فِيهِ، وَيَقُولُونَ فِي ذَلِكَ: إِنَّهُ اتَّحَدَ بِهِ الْأَبُ لَمْ يَحْتَجِبْ بِهِ وَلَمْ يُسْكُنْ فِيهِ وَلَمْ يَتَّحِدْ بِهِ، فَلَزِمَ قَطْعًا أَنْ يَكُونَ مِنْهُ شَيْءٌ اتَّحَدَ وَمِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يَتَّحِدْ، فَالْأَبُ لَمْ يَتَّحِدْ، وَالِابْنُ اتَّحَدَ، وَهَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُمْ لَمْ يَتَبَعَّضْ، وَيُبْطِلُ تَمْثِيلَهُمْ بِالْمُخَاطَبِ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَإِنَّ ذَاكَ هُوَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَيْسَ هُوَ الِابْنُ دُونَ الْأَبِ، مَعَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْفُرُوقِ الْكَثِيرَةِ الْمُبَيِّنَةِ الَّتِي تُبَيِّنُ بُطْلَانَ تَمْثِيلِ هَذَا بِهَذَا.

الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ: أَنَّ الرَّبَّ عز وجل إِذَا تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ

ص: 22

بِكَلَامِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَلَوْ كَانَ فِي الْمَسِيحِ اللَّاهُوتُ الَّذِي أَرْسَلَ مُوسَى وَغَيْرَهَ، لَمْ يَخْضَعْ لِمُوسَى وَلِتَوْرَاتِهِ، وَيَذْكُرُ أَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ لِيُكْمِلَهَا لَا لِيَنْقُضَهَا، وَلَا كَانَ يَقُومُ بِشَرَائِعِهَا، فَإِنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ لَوْ كَانَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَمْ يَفْعَلْ مِثْلَ ذَلِكَ، فَكَيْفَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ؟

وَإِذَا قَالَتِ النَّصَارَى: فَعَلَ ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ خَوْفًا أَنْ يُكَذِّبُوهُ، كَانَ عُذْرُهُمْ أَقْبَحُ مِنْ ذَنْبِهِمْ، فَرَبُّ الْعَالَمِينَ مِمَنْ يَخَافُ سبحانه وتعالى؟ ! .

وَمُوسَى لَمَّا كَانَ فِرْعَوْنُ يُكَذِّبُهُ كَانَ يُظْهِرُ مِنَ الْآيَاتِ يُذِلُّ بِهَا فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ مَعَ عُتُوِّهِ وَعُتُوِّ قَوْمِهِ، وَلَمْ تَكُنْ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَعْتَى مَنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، فَلَوْ كَانَ هُوَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، كَانَ مَا يُؤَيِّدُ بِهِ نَفْسَهُ مِنَ الْآيَاتِ أَعْظَمَ مِمَّا يُؤَيِّدُ بِهِ عَبْدَهُ مُوسَى.

وَمِنْ عَجَائِبِ النَّصَارَى أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ فِيهِ الْإِلَهِيَّةَ مَعَ ادِّعَائِهِمْ فِيهِ غَايَةَ الْعَجْزِ حَتَّى صُلِبَ.

وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَيَقُولُونَ: هُوَ رَسُولٌ مُؤَيَّدٌ، لَمْ يُصْلَبْ، وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي رُسُلِهِ، فَإِنَّهُ يُؤَيِّدُهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، كَمَا نَصَرَ نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدًا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ فَإِذَا

ص: 23

كَانَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا مَغْلُوبًا، فَكَيْفَ يَكُونُ رَبًّا مَغْلُوبًا مَصْلُوبًا؟ ! .

الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ: قَوْلُهُمْ فَعَلَ الْمُعْجِزَاتِ بِلَاهُوتِهِ، وَأَظْهَرَ الْعَجْزَ بِنَاسُوتِهِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ فَعَلَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدِ الْمَسِيحِ عليه السلام وَلَمْ يَكُنْ مُتَّحِدًا بِشَيْءٍ مِنَ الْبَشَرِ، فَأَيُّ ضَرُورَةٍ لَهُ إِلَى أَنْ يَتَّحِدَ بِالْبَشَرِ إِذَا فَعَلَ مُعْجِزَاتٍ دُونَ ذَلِكَ؟ !

الْوَجْهُ الثَّامِنَ عَشَرَ: أَنَّ الْمَسِيحَ ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ مُعْجِزَاتٌ كَمَا ظَهَرَ لِسَائِرِ الْمُرْسَلِينَ، وَمُعْجِزَاتُ بَعْضِهِمْ أَعْظَمُ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ، وَمَعَ هَذَا فَلَمْ تَكُنِ الْمُعْجِزَاتُ دَلِيلًا عَلَى اتِّحَادِ اللَّاهُوتِ بِالنَّبِيِّ الَّذِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ، فَعُلِمَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى يَدَيْهِ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ.

الْوَجْهُ التَّاسِعَ عَشَرَ: أَنَّ اللَّاهُوتَ إِنْ كَانَ مُتَّحِدًا بِالنَّاسُوتِ لَمْ يَتَمَيَّزْ فِعْلُهُ عَنْ فِعْلِ النَّاسُوتِ، فَإِنَّهُمَا إِذَا صَارَا شَيْئًا وَاحِدًا كَانَ كُلُّ مَا فَعَلَهُ مِنْ عَجْزٍ وَمُعْجِزٍ هُوَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ، كَالْأَمْثَالِ الَّتِي يَضْرِبُونَهَا لِلَّهِ سبحانه وتعالى فَإِنَّهُمْ يُمَثِّلُونَ ذَلِكَ بِالنَّارِ مَعَ الْحَدِيدِ، وَالْمَاءِ مَعَ اللَّبَنِ وَالْخَمْرِ.

ص: 24

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَدِيدَةَ إِذَا أُدْخِلَتِ النَّارَ حَتَّى صَارَتْ بَيْضَاءَ كَالنَّارِ الْبَيْضَاءِ فَفِعْلُهَا فِعْلٌ وَاحِدٌ، لَيْسَ لَهَا فِعْلَانِ مُتَمَيِّزَانِ: أَحَدُهُمَا بِالْحَدِيدِ، وَالْآخَرُ بِالنَّارِ، بَلْ فِيهَا قُوَّةُ الْحَدِيدِ وَقُوَّةُ النَّارِ، بَلْ فِيهَا قُوَّةٌ ثَالِثَةٌ لَيْسَتْ قُوَّةَ الْحَدِيدِ وَلَا قُوَّةَ النَّارِ، إِذْ لَيْسَتْ حَدِيدًا مَحْضًا وَلَا نَارًا مَحْضًا.

وَكَذَلِكَ الْمَاءُ إِذَا اخْتَلَطَ بِاللَّبَنِ وَالْخَمْرِ، فَالْمُتَّحِدُ مِنْهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ، فِعْلُهُ فِعْلٌ وَاحِدٌ، مِنْهُ مَا لَيْسَ مَاءً مَحْضًا وَلَا لَبَنًا مَحْضًا، لَا يَقُولُ عَاقِلٌ: إِنَّ لَهُ فِعْلَيْنِ يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ، فِعْلٌ بِكَوْنِهِ لَبَنًا مَحْضًا، وَفِعْلٌ بِكَوْنِهِ مَاءً مَحْضًا، فَقَوْلُهُمْ بِالِاتِّحَادِ يُوجِبُ اسْتِحَالَةَ اللَّاهُوتِ بِالنَّاسُوتِ، وَأَنْ يَصِيرَ فِعْلُ الْمُتَّحِدِ شَيْئًا وَاحِدًا.

وَإِنْ كَانَ اللَّاهُوتُ لَمْ يَتَّحِدْ بِهِ فَهُمَا اثْنَانِ شَخْصَانِ وَجَوْهَرَانِ وَطَبِيعَتَانِ وَمَشِيئَتَانِ، وَلَيْسَ هَذَا دِينُ النَّصَارَى مَعَ أَنَّ حُلُولَ الرَّبِّ عز وجل فِي الْبَشَرِ مُمْتَنِعٌ، كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضُوعٍ آخَرَ.

وَكَذَلِكَ إِذَا مَثَّلُوهُ بِالنَّفْسِ مَعَ الْبَدَنِ، فَإِنَّ النَّفْسَ تَتَغَيَّرُ صِفَاتُهَا بِمُفَارَقَةِ الْبَدَنِ، وَكَذَلِكَ الْبَدَنُ تَتَغَيَّرُ صِفَاتُهُ بِمُفَارَقَةِ الرُّوحِ لَهُ.

وَالْإِنْسَانُ الَّذِي نُفِخَتْ فِيهِ الرُّوحُ فَصَارَتْ بَدَنًا فِيهِ الرُّوحُ هُوَ

ص: 25

نَوْعٌ ثَالِثٌ لَيْسَ فِيهِ بَدَنٌ مَحْضٌ، وَرُوحٌ مَحْضٌ، حَتَّى يُقَالَ: إِنَّهُ يَفْعَلُ كَذَا بِبَدَنِهِ، وَكَذَا بِنَفْسِهِ، بَلْ أَفْعَالُهُ تَشْتَرِكُ فِيهَا الرُّوحُ، فَهُوَ إِذَا أَكَلَ وَشَرِبَ، فَالرُّوحُ تَتَلَذَّذُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَبِهَا صَارَ آكِلًا شَارِبًا، وَإِلَّا فَالْبَدَنُ الْمَيِّتُ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ، وَإِذَا نَظَرَ وَاسْتَدَلَّ وَسَمِعَ وَرَأَى وَتَعَلَّمَ، فَالنَّفْسُ فَعَلَتْ ذَلِكَ بِالْبَدَنِ، وَالْبَدَنُ يَظْهَرُ فِيهِ ذَلِكَ، وَالرُّوحُ وَحْدَهَا لَا تَفْعَلُ ذَلِكَ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ فِعْلَ اللَّاهُوتِ بَعْدَ الِاتِّحَادِ كَفِعْلِهِ قَبْلَهُ، وَكَذَلِكَ فِعْلُ النَّاسُوتِ، وَهَذَا يُنَاقِضُ الِاتِّحَادَ.

وَالْقَوْلُ بِهَذَا مَعَ الِاتِّحَادِ فِي غَايَةِ التَّنَاقُضِ وَالْفَسَادِ، وَلَا يُعْقَلُ نَظِيرُ هَذَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ، وَنَفْسُ الْمُتَكَلِّمِ بِهَذَا مَنِ النَّصَارَى لَا يَتَصَوَّرُ مَا يَقُولُ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُمَثِّلَهُ بِشَيْءٍ مَعْقُولٍ.

ص: 26