المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل: بيان أن كل ما نقله المؤلف عن الحسن بن أيوب وابن البطريق إنما هو رد على أن في المسيح طبيعتين] - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية - جـ ٤

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[فَصْلٌ: تَفْسِيرُهُمْ لِتَجَسُّمِ كَلِمَةِ اللَّهِ بِالْمَسِيحِ وَأَنَّهُ اتِّحَادٌ بَرِيءٌ مِنَ الِاخْتِلَاطِ وَنَحْوِهِ وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ]

- ‌[فَصْلٌ: نَقْضُ دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ أَثْبَتَ فِي الْمَسِيحِ اللَّاهُوتَ وَالنَّاسُوتَ]

- ‌[فَصْلٌ: نَقْضُ دَعْوَاهُمْ بِوُرُودِ تَسْمِيَةِ الْمَسِيحِ خَالِقًا فِي الْقُرْآنِ]

- ‌[فَصْلٌ: بَيَانُ الْمَعْنَى الصَّحِيحِ لِتَشْبِيهِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عِيسَى بِآدَمَ وَرَدُّ تَفْسِيرِهِمْ لِذَلِكَ]

- ‌[فَصْلٌ: بَيَانُ اضْطِرَابِ كَلَامِ النَّصَارَى وَتَفَرُّقِهِمْ فِي بَابِ طَبِيعَةِ الْمَسِيحِ]

- ‌[فَصْلٌ: مُوَاصَلَةُ الرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى بِمَا قَالَهُ الْحَسَنُ بْنُ أَيُّوبَ ثُمَّ بِكَلَامِ ابْنِ الْبِطْرِيقِ]

- ‌[فَصْلٌ: مُتَابَعَةُ حِكَايَةِ كَلَامِ ابْنِ الْبِطْرِيقِ عَنِ النَّصَارَى وَمُنَاقَشَتُهُ فِي ذَلِكَ]

- ‌[فَصْلٌ: مُتَابَعَةُ حِكَايَةِ كَلَامِ ابْنِ الْبِطْرِيقِ عَنِ النَّصَارَى وَمُنَاقَشَتُهُ فِي ذَلِكَ]

- ‌[فَصْلٌ: مُتَابَعَةُ حِكَايَةِ كَلَامِ ابْنِ الْبِطْرِيقِ عَنِ النَّصَارَى وَمُنَاقَشَتِهِ فِي ذَلِكَ]

- ‌[فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَى تَشْبِيهِ النَّصَارَى حُلُولَ كَلِمَةِ اللَّهِ فِي النَّاسُوتِ بِالْكِتَابَةِ فِي الْقِرْطَاسِ]

- ‌[فَصْلٌ: مُتَابَعَةٌ لِكَلَامِ ابْنِ الْبِطْرِيقِ وَالرَّدِّ عَلَيْهِ]

- ‌[فَصْلٌ: بَيَانُ أَنَّ عَامَّةَ دِينِ النَّصَارَى لَيْسَ مَأْخُوذًا عَنِ الْمَسِيحِ]

- ‌[فَصْلٌ: بَيَانُ أَنَّ كُلَّ مَا نَقَلَهُ الْمُؤَلِّفُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَيُّوبَ وَابْنِ الْبِطْرِيقِ إِنَّمَا هُوَ رَدٌّ عَلَى أَنَّ فِي الْمَسِيحِ طَبِيعَتَيْنِ]

- ‌[فَصْلٌ: الْجَوَابُ عَنْ شُبْهَةِ النَّصَارَى فِي إِقْرَارِ الْمُسْلِمِينَ فِي الصِّفَاتِ وَأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّشْبِيهَ وَالتَّجْسِيمَ]

الفصل: ‌[فصل: بيان أن كل ما نقله المؤلف عن الحسن بن أيوب وابن البطريق إنما هو رد على أن في المسيح طبيعتين]

[فَصْلٌ: بَيَانُ أَنَّ كُلَّ مَا نَقَلَهُ الْمُؤَلِّفُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَيُّوبَ وَابْنِ الْبِطْرِيقِ إِنَّمَا هُوَ رَدٌّ عَلَى أَنَّ فِي الْمَسِيحِ طَبِيعَتَيْنِ]

وَقَدْ حَصَلَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: (وَعَلَى هَذَا الْمِثَالِ نَقُولُ: فِي السَّيِّدِ الْمَسِيحِ طَبِيعَتَانِ: طَبِيعَةٌ لَاهُوتِيَّةٌ الَّتِي هِيَ طَبِيعَةُ كَلِمَةِ اللَّهِ وَرُوحِهِ، وَطَبِيعَةٌ نَاسُوتِيَّةٌ الَّتِي أُخِذَتْ مِنْ مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ وَاتَّحَدَتْ بِهِ) .

وَعُرِفَ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ مِنْ أَقْوَالِ النَّصَارَى، وَأَنَّ لَهُمْ أَقْوَالًا أُخَرَ تُنَاقِضُ هَذَا.

وَكُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ يُكَفِّرُ الْآخَرَ، إِذْ كَانُوا لَيْسُوا عَلَى مَقَالَةٍ تَلَقَّوْهَا عَنِ الْمَسِيحِ وَالْحَوَارِيِّينَ، بَلْ هِيَ مَقَالَاتٌ ابْتَدَعَهَا مَنِ ابْتَدَعَهَا مِنْهُمْ، فَضَلُّوا بِهَا وَأَضَلُّوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]

فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ أَضَلُّوا مِنْ قَبْلِ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

ص: 384

وَالنَّصَارَى أُمَّةٌ يَلْزَمُهُمُ الضَّلَالُ الَّذِي أَصْلُهُ الْجَهْلُ.

وَلَا يُوجَدُ قَطُّ مَنْ هُوَ نَصْرَانِيٌّ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، إِلَّا وَهُوَ ضَالٌّ جَاهِلٌ بِمَعْبُودِهِ وَبِأَصْلِ دِينِهِ، لَا يَعْرِفُ مَنْ يَعْبُدُ وَلَا بِمَاذَا يَعْبُدُ، مَعَ اجْتِهَادِ مَنْ يَجْتَهِدُ مِنْهُمْ فِي الْعِبَادَةِ وَالزُّهْدِ، وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.

ثُمَّ يُقَالُ عَلَى هَؤُلَاءِ: قَوْلُهُمْ: (طَبِيعَتَانِ) وَيَقُولُونَ أَيْضًا: (لَهُ مَشِيئَتَانِ) وَيَقُولُونَ أَيْضًا: (إِنَّهُ شَخْصٌ لَمْ يَزِدْ عَدَدُهُ) فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: (إِنَّهُمَا اتَّحَدَا) كَمَا ذَكَرُوهُ فِي كِتَابِهِمْ هَذَا، لَا يَقُولُونَ بِشَخْصَيْنِ ; لِئَلَّا يَلْزَمَهُمُ الْقَوْلُ بِأَرْبَعَةِ أَقَانِيمَ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: (هُمَا جَوْهَرَانِ)، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ:(جَوْهَرٌ وَاحِدٌ) .

فَإِنْ قَالُوا: (هُوَ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ) ، صَارَ قَوْلُهُمْ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْيَعْقُوبِيَّةِ، لَا سِيَّمَا وَهُمْ يَقُولُونَ:(إِنَّ مَرْيَمَ وَلَدَتِ اللَّاهُوتَ وَالنَّاسُوتَ، وَإِنَّ الْمَسِيحَ اسْمٌ يَجْمَعُ اللَّاهُوتَ وَالنَّاسُوتَ، وَهُوَ إِلَهٌ تَامٌّ، وَإِنْسَانٌ تَامٌّ) .

فَإِذَا كَانَ جَوْهَرًا وَاحِدًا، لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ اللَّاهُوتُ قَدِ اسْتَحَالَ وَتَغَيَّرَ، وَكَذَلِكَ النَّاسُوتُ، فَإِنَّ الِاثْنَيْنِ إِذَا صَارَا شَيْئًا وَاحِدًا، فَذَلِكَ الشَّيْءُ الثَّالِثُ لَيْسَ هُوَ إِنْسَانًا مَحْضًا، وَلَا إِلَهًا مَحْضًا، بَلِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ الْإِنْسَانِيَّةُ وَالْإِلَهِيَّةُ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ الْإِنْسَانُ وَالْإِلَهُ اثْنَيْنِ

ص: 385

مُتَبَايِنَيْنِ، وَهُمَا فِي اصْطِلَاحِهِمْ جَوْهَرَانِ، فَإِذَا صَارَ الْجَوْهَرَانِ جَوْهَرًا وَاحِدًا لَا جَوْهَرَيْنِ، فَقَدْ لَزِمَ ضَرُورَةً أَنْ يَكُونَ هَذَا الثَّالِثُ لَيْسَ هُوَ إِلَهًا مَحْضًا، وَلَا إِنْسَانًا مَحْضًا، وَلَا جَوْهَرَانِ إِنْسَانًا وَإِلَهًا، فَإِنَّ هَذَيْنِ جَوْهَرَانِ لَا جَوْهَرٌ وَاحِدٌ، بَلْ هُوَ شَيْءٌ ثَالِثٌ اخْتَلَطَ وَامْتَزَجَ وَاسْتَحَالَ مِنْ هَذَا وَهَذَا، فَتَبَدَّلَتْ حَقِيقَةُ اللَّاهُوتِ وَحَقِيقَةُ النَّاسُوتِ، حَتَّى صَارَ هَذَا الْجَوْهَرُ الثَّالِثُ الَّذِي لَيْسَ لَاهُوتًا مَحْضًا، وَلَا نَاسُوتًا مَحْضًا - كَسَائِرِ مَا يُعْرَفُ مِنَ الِاتِّحَادِ.

فَإِنَّ كُلَّ اثْنَيْنِ اتَّحَدَا فَصَارَا جَوْهَرًا وَاحِدًا، فَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنَ الِاسْتِحَالَةِ، كَمَا فِي اتِّحَادِ الْمَاءِ وَاللَّبَنِ وَالْخَمْرِ وَسَائِرِ مَا يَخْتَلِطُ بِالْمَاءِ، بِخِلَافِ الْمَاءِ وَالزَّيْتِ، فَإِنَّهُمَا جَوْهَرَانِ كَمَا كَانَا، لَكِنَّ الزَّيْتَ لَاصِقٌ بِالْمَاءِ وَطَفَا عَلَيْهِ لَمْ يَتَّحِدْ بِهِ، وَمِثْلُ اخْتِلَاطِ النَّارِ وَالْحَدِيدِ، فَإِنَّ الْحَدِيدَ اسْتَحَالَ عَمَّا كَانَ، وَلِهَذَا إِذَا بَرُدَ عَادَ إِلَى مَا كَانَ، وَهَكَذَا اتِّحَادُ الْهَوَاءِ مَعَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ، حَتَّى يَصِيرَ بُخَارًا أَوْ غُبَارًا وَأَمْثَالَ ذَلِكَ.

وَفِي الْجُمْلَةِ، فَجَمِيعُ مَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ مِنَ الِاتِّحَادِ إِذَا صَارَ الِاثْنَانِ وَاحِدًا وَارْتَفَعَتِ الثَّنَوِيَّةُ، فَلَا بُدَّ مِنِ اسْتِحَالَةِ الِاثْنَيْنِ.

وَإِذَا قِيلَ: فِيهِ طَبِيعَةُ الِاثْنَيْنِ وَمَشِيئَةُ الِاثْنَيْنِ، كَمَا فِي الْمَاءِ وَاللَّبَنِ قُوَّةُ الْمَاءِ وَقُوَّةُ اللَّبَنِ.

قِيلَ: لَا بُدَّ - مَعَ ذَلِكَ - أَنْ تَتَغَيَّرَ كُلُّ قُوَّةٍ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ

ص: 386

فَتَنْكَسِرُ الْأُخْرَى، كَمَا يُعْرَفُ فِي سَائِرِ صُوَرِ الِاتِّحَادِ؛ إِذَا اتَّحَدَ هَذَا مَعَ هَذَا كَسَرَ كُلٌّ مِنْهُمَا قُوَّةَ الْآخَرِ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ.

كَمَا إِذَا اتَّحَدَ الْمَاءُ الْبَارِدُ بِالْمَاءِ الْحَارِّ، انْكَسَرَتْ قُوَّةُ الْحَرِّ وَقُوَّةُ الْبَرْدِ عَمَّا كَانَتْ، فَيَبْقَى الْمُتَّحِدُ مَرْتَبَةً مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ الْبَرْدِ الْمَحْضِ وَالْحَرِّ الْمَحْضِ.

وَكَذَلِكَ الْمَاءُ وَاللَّبَنُ وَسَائِرُ صُوَرِ الِاتِّحَادِ.

وَعَلَى هَذَا، فَيَجِبُ إِذَا اتَّحَدَ أَنْ تَتَغَيَّرَ قُوَّةُ اللَّاهُوتِ وَطَبِيعَتُهُ وَمَشِيئَتُهُ عَمَّا كَانَتْ، وَتَنْكَسِرُ قُوَّةُ النَّاسُوتِ وَطَبِيعَتُهُ وَمَشِيئَتُهُ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَيَبْقَى هَذَا الْمُتَّحِدُ مُمْتَزِجًا مِنْ لَاهُوتٍ وَنَاسُوتٍ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ نَقْصَ اللَّاهُوتِ عَمَّا كَانَ، وَبُطْلَانَ كَمَالِهِ، كَمَا أَنَّهُ يُوجِبُ مِنْ كَمَالِ النَّاسُوتِ مَا لَمْ يَكُنْ.

فَكُلُّ مَا يَصِفُونَ بِهِ النَّاسُوتَ مِنِ اتِّحَادِ اللَّاهُوتِ بِهِ، فَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ مِنْ نَقْصِ اللَّاهُوتِ وَسَلْبِ كَمَالِهِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ وَبُطْلَانِ صِفَاتِهِ التَّامَّةِ - بِحَسَبِ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ النَّاسُوتِ بِحُكْمِ الِاتِّحَادِ، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ اللَّاهُوتُ كَمَا كَانَ، فَلَا اتِّحَادَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، بَلِ النَّاسُوتُ كَمَا كَانَ.

ثُمَّ هُمَا اثْنَانِ لَمْ يَتَّحِدْ أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ، وَلَا صَارَا شَيْئًا وَاحِدًا.

وَأَيْضًا فَمَعَ كَوْنِ الْجَوْهَرِ وَاحِدًا، يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَشِيئَتُهُ وَاحِدَةً وَطَبِيعَتُهُ وَاحِدَةً، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَشِيئَتَيْنِ، لَكَانَ مَحَلَّ إِحْدَى الْمَشِيئَتَيْنِ، إِنْ كَانَ هُوَ مَحَلُّ الْأُخْرَى مَعَ تَضَادِّ مُوجَبِ الْمَشِيئَتَيْنِ، لَزِمَ اجْتِمَاعُ

ص: 387

الضِّدَّيْنِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ.

فَإِنَّ الْإِرَادَةَ النَّاسُوتِيَّةَ تَطْلُبُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ، وَأَنْ تَعْبُدَ وَتَصُومَ وَتُصَلِّي.

وَاللَّاهُوتِيَّةُ، تُوجِبُ امْتِنَاعَهُ مِنْ إِرَادَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ.

وَإِرَادَتُهُ أَنْ يَخْلُقَ وَيَرْزُقَ وَيُدَبِّرَ الْعَالَمَ. وَالنَّاسُوتِيَّةُ تَمْتَنِعُ مِنْ هَذِهِ الْإِرَادَةِ.

فَإِذَا قَامَتِ الْإِرَادَتَانِ وَالْكَرَاهَتَانِ بِمَحَلٍّ وَاحِدٍ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْجَوْهَرُ الْمَوْصُوفُ بِهَذَا وَهَذَا مُرِيدًا لِلشَّيْءِ مُمْتَنِعًا مِنْ إِرَادَتِهِ غَيْرَ مُرِيدٍ لَهُ كَارِهًا لِلشَّيْءِ غَيْرَ كَارِهٍ لَهُ، وَذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ.

وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقُومَ بِالْمَوْصُوفِ الْوَاحِدِ إِرَادَتَانِ جَازِمَتَانِ بِالشَّيْءِ وَنَقِيضِهِ، أَوْ كَرَاهَتَانِ جَازِمَتَانِ لِلشَّيْءِ أَوْ نَقِيضِهِ، وَالْفِعْلُ لَا يَقَعُ إِلَّا بِإِرَادَةٍ جَازِمَةٍ مَعَ الْقُدْرَةِ، فَاللَّاهُوتُ مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَمَتَى شَاءَ شَيْئًا مَشِيئَةً جَازِمَةً، فَإِنَّهُ عَلَى مَا شَاءَ قَادِرٌ.

وَالنَّاسُوتُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ خَصَائِصِ الْبَشَرِيَّةِ حَتَّى يُرِيدَ ذَلِكَ إِرَادَةً جَازِمَةً.

وَالنَّاسُوتُ يَمْتَنِعُ أَنْ يُرِيدَ إِرَادَةَ اللَّاهُوتِ وَيَكْرَهَ ذَلِكَ، فَيَصِيرَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ مُرِيدًا لِلشَّيْءِ إِرَادَةً جَازِمَةً، قَادِرًا عَلَيْهِ لَيْسَ مُرِيدًا لَهُ إِرَادَةً جَازِمَةً، بَلْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ.

ص: 388

وَيَلْزَمُ أَيْضًا إِذَا كَانَا جَوْهَرًا وَاحِدًا وَقَدْ وُلِدَ، وَصُفِعَ وَضُرِبَ وَصُلِبَ وَمَاتَ وَتَأَلَّمَ، أَنْ يَكُونَ نَفْسُ اللَّاهُوتِ ضُرِبَ وَصُلِبَ وَمَاتَ وَتَأَلَّمَ، كَمَا تَقُولُهُ الْيَعْقُوبِيَّةُ، وَهَذَا لَازِمٌ لِجَمِيعِ النَّصَارَى وَهُوَ مُوجَبُ عَقِيدَةِ إِيمَانِهِمْ.

فَإِنْ قَالُوا: بَلْ هُمَا جَوْهَرَانِ مَعَ كَوْنِهِمَا عِنْدَهُمْ شَخْصًا وَاحِدًا لَا تَعَدُّدَ فِيهِ، كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنَ الْمَلَكِيَّةِ، كَانَ هَذَا كَلَامًا مُتَنَاقِضًا، فَإِنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ الَّذِي لَا تَعَدُّدَ فِيهِ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ، وَلِهَذَا حُدَّ بِأَنَّهُ جِسْمٌ.

وَإِنْ شَبَّهُوا ذَلِكَ بِالنَّفْسِ مَعَ الْجَسَدِ لَزِمَهُمُ الْمَحْدُودُ.

فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَمَا يُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُ شَخْصٌ وَاحِدٌ، يُقَالُ: إِنَّهُ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ بِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الِاتِّحَادِ، وَلِهَذَا يُحَدُّ بِأَنَّهُ جِسْمٌ حَسَّاسٌ تَامٌّ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ نَاطِقٌ، هَذَا يَتَنَاوَلُ جَسَدَهُ وَرُوحَهُ، وَلِلنَّفْسِ وَالْبَدَنِ مَشِيئَةٌ وَاحِدَةٌ.

وَمَتَى شَاءَ الْإِنْسَانُ الْفِعْلَ مَشِيئَةً جَازِمَةً مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ فَعَلَهُ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ جَوْهَرٌ آخَرُ لَهُ مَشِيئَةٌ غَيْرَ مَشِيئَتِهِ.

فَإِذَا شَبَّهُوا اتِّحَادَ اللَّاهُوتِ بِالنَّاسُوتِ بِهَذَا، لَزِمَهُمْ أَنْ يَكُونَا جَوْهَرًا وَاحِدًا وَمَشِيئَةً وَاحِدَةً، وَهَذَا قَوْلُ الْيَعْقُوبِيَّةِ.

وَلِهَذَا تَأْلَمُ النَّفْسُ بِمَا يَحْدُثُ فِي الْجَسَدِ مِنَ الْآلَامِ، وَيَتَأَلَّمُ

ص: 389

الْجِسْمُ الَّذِي هُوَ الْقَلْبُ الصَّنَوْبَرِيُّ، بِمَا يَحْدُثُ فِي النَّفْسِ مِنَ الْآلَامِ.

فَإِذَا تَأَلَّمَتِ النَّفْسُ، تَأَلَّمَ قَلْبُ الْجَسَدِ وَغَيْرُ قَلْبِ الْجَسَدِ، وَكَذَلِكَ إِذَا تَأَلَّمَ الْجَسَدُ وَإِذَا صُفِعَ الْجَسَدُ، وَصُلِبَ وَبُصِقَ فِي وَجْهِهِ، وَوُضِعَ الشَّوْكُ عَلَيْهِ، وَتَأَلَّمَ وَمَاتَ، كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ حَالًّا بِالنَّفْسِ وَنَالَهَا مِنْهُ إِهَانَةُ الصَّفْعِ وَأَلَمُ النَّزْعِ مَا يَنَالُهَا، كَمَا يُسَلِّمُونَ لِلَّهِ أَنَّهُ حَلَّ بِنَفْسِ الْمَسِيحِ وَبَدَنِهِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَتَنَازَعُونَ أَنَّ الْإِلَهَ حَلَّ بِبَدَنِ الْمَسِيحِ وَنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَتَنَازَعُونَ فِي اللَّاهُوتِ، مَعَ أَنَّ النَّفْسَ مُفَارِقَةٌ لِلْبَدَنِ بِالْمَوْتِ.

وَاللَّاهُوتُ عِنْدَهُمْ لَمْ يُفَارِقِ النَّاسُوتَ بِالْمَوْتِ، بَلْ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ.

وَالْمَسِيحُ الَّذِي هُوَ إِلَهٌ تَامٌّ وَإِنْسَانٌ تَامٌّ يَقْعُدُ عَنْ يَمِينِ أَبِيهِ، وَكَذَلِكَ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

وَأَيْضًا فَالْبَدَنُ إِذَا كَانَتْ فِيهِ النَّفْسُ، تَتَغَيَّرُ صِفَاتُهُ وَأَحْكَامُهُ، وَتَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُ بِاجْتِمَاعِهَا وَافْتِرَاقِهَا، وَالنَّفْسُ إِذَا كَانَتْ فِي الْبَدَنِ تَخْتَلِفُ صِفَاتُهَا وَأَحْكَامُهَا.

فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ نَاسُوتُ الْمَسِيحِ مُخَالِفًا فِي الصِّفَاتِ وَالْأَحْكَامِ لِسَائِرِ النَّوَاسِيتِ، وَأَنْ يَكُونَ اللَّاهُوتُ لَمَّا اتَّحَدَ بِهِ تَغَيَّرَتْ صِفَاتُهُ وَأَحْكَامُهُ، وَهَذَا هُوَ الِاسْتِحَالَةُ وَالتَّغَيُّرُ وَالتَّبَدُّلُ لِلصِّفَاتِ، مَعَ أَنَّ نَاسُوتَ

ص: 390

الْمَسِيحِ كَانَ مِنْ جِنْسِ نَوَاسِيتِ الْبَشَرِ، لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِثْلُهُ عَلَى غَيْرِهِ، بَلْ ظَهَرَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ أَكْثَرُ مِمَّا ظَهَرَ عَلَيْهِ.

وَبِالْجُمْلَةِ، فَأَيُّ مَثَلٍ ضَرَبُوهُ لِلِاتِّحَادِ، كَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ وَظَهَرَ بِهِ فَسَادُ قَوْلِهِمْ.

وَإِنْ قَالُوا: هَذَا أَمْرٌ لَا يُعْقَلُ، بَلْ هُوَ فَوْقَ الْعُقُولِ، كَانَ الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يَعْلَمُ الْعَقْلُ بُطْلَانَهُ وَامْتِنَاعَهُ، وَبَيْنَ مَا يَعْجِزُ الْعَقْلُ عَنْ تَصَوُّرِهِ وَمَعْرِفَتِهِ.

فَالْأَوَّلُ: مِنْ مُحَالَاتِ الْعُقُولِ، وَالثَّانِي مِنْ مُحَارَاتِ الْعُقُولِ، وَالرُّسُلُ يُخْبِرُونَ بِالثَّانِي.

وَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَلَا يَقُولُهُ إِلَّا كَاذِبٌ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَقُولَ هَذَا، لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْجِسْمَ الْوَاحِدَ يَكُونُ أَبْيَضَ أَسْوَدَ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّهُ بِعَيْنِهِ يَكُونُ فِي مَكَانَيْنِ، وَإِنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ يَكُونُ مَوْجُودًا مَعْدُومًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا يَعْلَمُ الْعَقْلُ امْتِنَاعَهُ.

وَقَوْلُ النَّصَارَى مِمَّا يُعْلَمُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّهُ بَاطِلٌ، لَيْسَ هُوَ مِمَّا يَعْجِزُ عَنْ تَصَوُّرِهِ.

يُوَضِّحُ هَذَا، أَنَّهُ لَوْ قَالَ قَائِلٌ فِي مَرْيَمَ أُمِّ الْمَسِيحِ:(امْرَأَةُ اللَّهِ وَزَوْجَتُهُ) ، وَأَنَّهُ نَكَحَهَا نِكَاحًا عَقْلِيًّا، كَمَا يَقُولُونَ: إِنَّ الْمَسِيحَ وَلَدُهُ وِلَادَةً عَقْلِيَّةً، لَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَوْلُ أَفْسَدَ فِي الْعَقْلِ مِنْ قَوْلِهِمْ فِي الْمَسِيحِ، كَمَا

ص: 391

قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَهُمْ يُكَفِّرُونَ مِنْ يَقُولُ ذَلِكَ، وَيَحْتَجُّونَ بِالْعَقْلِ عَلَى فَسَادِهِ.

وَإِذَا قَالَ: (هَذَا فَوْقَ الْعَقْلِ) لَمْ يَقْبَلُوهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِهِمُ احْتَجَّتْ عَلَى الْأُخْرَى بِالْعَقْلِ، وَإِذَا قَالُوا:(قَوْلُنَا فَوْقَ الْعَقْلِ) لَمْ يَقْبَلُوا هَذَا الْجَوَابَ.

فَإِنْ كَانَ هَذَا جَوَابًا صَحِيحًا، فَيَجِبُ أَنْ لَا يُبْحَثَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْإِلَهِيَّاتِ بِالْعَقْلِ، بَلْ يَقُولُ كُلُّ مُبْطِلٍ مَا شَاءَ مِنَ الْبَاطِلِ، وَيَقُولُ: كَلَامِي فَوْقَ الْعَقْلِ، كَمَا يَقُولُ أَصْحَابُ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ وَالْوَحْدَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ وُجُودَ الْخَالِقِ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا فَوْقَ الْعَقْلِ، وَإِنَّهُ يُعْلَمُ بِالذَّوْقِ لَا بِالسَّمْعِ وَلَا بِالْعَقْلِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: مَا يَعْجِزُ الْعَقْلُ عَنْ تَصَوُّرِهِ إِذَا أَخْبَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ عليهم السلام قُبِلَ مِنْهُمْ ; لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَا يَعْجِزُ غَيْرُهُمْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ.

وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ لَمْ يَقُلِ الْأَنْبِيَاءُ شَيْئًا مِنْهَا، بَلْ نَفْسُ فِرَقِ النَّصَارَى قَالُوهَا بِآرَائِهِمْ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمُ اسْتَنْبَطُوهَا مِنْ بَعْضِ أَلْفَاظِ الْكُتُبِ.

فَيُقَالُ لِمَنْ قَالَهَا مِنْهُمْ: أَنْتَ تَتَصَوَّرُ مَا تَقُولُ، أَمْ لَا تَتَصَوَّرُهُ وَتَفْهَمُهُ وَتَعْقِلُهُ؟

ص: 392

فَإِنْ قَالَ: لَا أَتَصَوَّرُ مَا أَقُولُ وَلَا أَفْقَهُهُ وَلَا أَعْقِلُهُ، قِيلَ لَهُ: فَقَدْ قُلْتَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُ، وَقَفَوْتَ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ.

وَمِنْ أَعْظَمِ الْقَبَائِحِ الْمُحَرَّمَةِ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ، أَنْ يَقُولَ الْإِنْسَانُ بِرَأْيِهِ عَلَى اللَّهِ قَوْلًا لَا يَتَصَوَّرُهُ وَلَا يَفْهَمُهُ.

وَجَمِيعُ الْعُقَلَاءِ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَنْ قَالَ قَوْلًا وَهُوَ لَا يَتَصَوَّرُهُ وَلَا يَفْقَهُهُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ مِنْهُ، وَإِنَّ قَوْلَهُ مِنَ الْبَاطِلِ الْمَذْمُومِ.

وَإِنْ قَالَ قَائِلُهُمْ: إِنِّي أَفْقَهُ مَا أَقُولُ وَأَتَصَوَّرُهُ وَأَعْقِلُهُ، قِيلَ لَهُ: بَيِّنْهُ لِغَيْرِكَ حَتَّى يَفْقَهَهُ وَيَعْقِلَهُ وَيَتَصَوَّرَهُ، وَلَا تَقُلْ هُوَ فَوْقَ الْعَقْلِ، بَلْ هُوَ قَوْلٌ قَدْ عَقِلْتَهُ وَفَقِهْتَهُ، وَهَذَا تَقْسِيمٌ لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهُ.

فَإِنَّهُمْ إِنْ كَانُوا يَفْقَهُونَ مَا يَقُولُونَ وَيَعْقِلُونَهُ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَعْقُولًا.

وَإِنْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَهُ وَلَا يَعْقِلُونَهُ، لَزِمَ أَنَّهُمْ قَالُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَفْقَهُونَهُ وَلَا يَعْقِلُونَهُ قَوْلًا بِرَأْيِهِمْ وَعَقْلِهِمْ، لَا نَقْلًا لِأَلْفَاظِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ مَنْ نَقَلَ أَلْفَاظَ الْأَنْبِيَاءِ الثَّابِتَةَ عَنْهُمْ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَفْقَهَ وَيَعْقِلَ مَا يَقُولُ.

وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم « (نَضَّرَ اللَّهُ امْرَءًا سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ) » . فَقَدْ يَحْفَظُ الرَّجُلُ كَلَامًا فَيُبَلِّغُهُ غَيْرَهُ وَهُوَ لَا يَفْقَهُ مَعْنَاهُ وَلَا يَعْقِلَهُ.

ص: 393

فَمَنْ نَقَلَ لَفْظَ التَّوْرَاةِ أَوِ الْإِنْجِيلِ أَوِ الْقُرْآنِ أَوْ أَلْفَاظَ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، لَمْ نُطَالِبْهُ بِبَيَانِ مَعْنَاهُ.

بِخِلَافِ مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ فَهِمَ مَا قَالَهُ الْأَنْبِيَاءُ، وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى، فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ: إِنْ كُنْتَ فَهِمْتَ مَا قَالُوهُ، فَهُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ عَبَّرُوا عَنْهُ بِعِبَارَةٍ وَعَبَّرْتَ عَنْهُ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى كَالتُّرْجُمَانِ، فَهَذَا يَعْقِلُ مَا يَقُولُ وَيَفْقَهُهُ.

وَإِنْ قَالَ: إِنِّي لَمْ أَفْهَمْ كَلَامَهُمْ، أَوْ لَمْ أَفْهَمْ مَا قُلْتُهُ، فَقَدِ اعْتَرَفَ بِجَهْلِهِ وَضَلَالِهِ، وَأَنَّهُ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَفْهَمُوا كَلَامَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام وَلَمْ يَفْقَهُوا مَا قَالُوهُ هُمْ.

فَلَوْ قَالُوا: لَمْ نَفْهَمْ كَلَامَ الْأَنْبِيَاءِ وَسَكَتُوا، لَكَانُوا أُسْوَةَ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْجُهَّالِ بِمَعَانِي كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ.

وَأَمَّا إِذَا وَضَعُوا عِبَارَةً وَكَلَامًا ابْتَدَعُوهُ، وَأَمَرُوا النَّاسَ بِاعْتِقَادِهِ، وَقَالُوا: هَذَا هُوَ الْإِيمَانُ وَالتَّوْحِيدُ، وَقَالُوا: إِنَّا مَعَ هَذَا لَا نَتَصَوَّرُ مَا قُلْنَاهُ وَلَا نَفْقَهُهُ وَلَا نَعْقِلُهُ، فَهَؤُلَاءِ مِنَ الَّذِينَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ، وَيَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى كُتُبِ اللَّهِ وَأَنْبِيَاءِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، بَلْ يَقُولُونَ الْكَذِبَ الْمُفْتَرَى وَالْكُفْرَ الْوَاضِحَ، وَيَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ: إِنَّا لَا نَعْقِلُهُ، وَهَذَا حَالُ النَّصَارَى بِلَا رَيْبٍ.

وَهَذَا الْمَوْضِعُ غَلِطَ فِيهِ طَائِفَتَانِ مِنَ النَّاسِ: غَالِيَةٌ غَلَتْ فِي

ص: 394

الْمَعْقُولَاتِ حَتَّى جَعَلَتْ مَا لَيْسَ مَعْقُولًا مِنَ الْمَعْقُولِ، وَقَدَّمَتْهُ عَلَى الْحِسِّ وَنُصُوصِ الرَّسُولِ.

وَطَائِفَةٌ جَفَتْ عَنْهُ، فَرَدَّتِ الْمَعْقُولَاتِ الصَّرِيحَةَ وَقَدَّمَتْ عَلَيْهَا مَا ظَنَّتْهُ مِنَ السَّمْعِيَّاتِ وَالْحِسِّيَّاتِ.

وَهَكَذَا النَّاسُ فِي السَّمْعِيَّاتِ نَوْعَانِ، وَكَذَلِكَ هُمْ فِي الْحِسِّيَّاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ نَوْعَانِ.

فَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْحَقَّ لَا يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا، بَلْ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا.

بِخِلَافِ الْبَاطِلِ، فَإِنَّهُ مُخْتَلِفٌ مُتَنَاقِضٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمُخَالِفِينَ لِلرُّسُلِ:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات: 7]

وَإِنَّ مَا عُلِمَ بِمَعْقُولٍ صَرِيحٍ، لَا يُخَالِفُهُ قَطُّ، لَا خَبَرٌ صَحِيحٌ وَلَا حِسٌّ صَحِيحٌ.

وَكَذَلِكَ مَا عُلِمَ بِالسَّمْعِ الصَّحِيحِ، لَا يُعَارِضُهُ عَقْلٌ وَلَا حِسٌّ.

وَكَذَلِكَ مَا عُلِمَ بِالْحِسِّ الصَّحِيحِ، لَا يُنَاقِضُهُ خَبَرٌ وَلَا مَعْقُولٌ.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا، الْكَلَامُ مَعَ مَنْ يُعَارِضُ الْمَعْقُولَاتِ بِسَمْعٍ أَوْ حِسٍّ.

فَنَقُولُ: لَفْظُ (الْمَعْقُولِ) يُرَادُ بِهِ الْمَعْقُولُ الصَّرِيحُ الَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ بِفِطَرِهِمُ الَّتِي فُطِرُوا عَلَيْهَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَلَقَّاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ،

ص: 395

كَمَا يَعْلَمُونَ تَمَاثُلَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَاخْتِلَافِ الْمُخْتَلِفَيْنِ - أَعْنِي اخْتِلَافَ التَّنَوُّعِ، لَا اخْتِلَافَ التَّضَادِّ وَالتَّبَايُنِ - فَإِنَّ لَفْظَ (الِاخْتِلَافِ) يُرَادُ بِهِ هَذَا وَهَذَا.

وَهَذِهِ الْمَعْقُولَاتُ فِي الْعِلْمِيَّاتِ وَالْعَمَلِيَّاتِ، هِيَ الَّتِي ذَمَّ اللَّهُ مَنْ خَالَفَهَا بِقَوْلِهِ:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10] وَقَوْلِهِ: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج: 46]

وَأَمَّا مَا يُسَمِّيهِ بَعْضُ النَّاسِ (مَعْقُولَاتٍ) وَيُخَالِفُهُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ، مِثْلَ الْقَوْلِ بِتَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ وَبَقَاءِ الْأَعْرَاضِ، وَأَنَّ الْأَجْسَامَ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْقِسْمَةَ، أَوْ مِنَ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ، وَأَنَّ مَا لَا يَتَنَاهَى مِنَ الْأُمُورِ الْمُتَعَاقِبَةِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ إِمَّا فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، أَوْ فِي الْمَاضِي فَقَطْ، أَوْ أَنَّ الْكُلِّيَّاتِ مَوْجُودَةٌ فِي الْخَارِجِ جَوَاهِرَ قَائِمَةً بِأَنْفُسِهَا، أَوْ أَنَّ لَنَا دَهْرًا أَوْ مَادَّةً هِيَ جَوْهَرٌ عَقْلِيٌّ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، أَوْ أَنَّهُ يُمْكِنُ وُجُودُ جَوْهَرٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ لَا يُشَارُ إِلَيْهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَعُدُّهُ مَنْ يَعُدُّهُ مِنَ النُّظَّارِ أَنَّهُ عَقْلِيَّاتٌ

ص: 396

وَيُنَازِعُهُمْ فِيهِ آخَرُونَ.

فَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْعَقْلِيَّاتُ الَّتِي لَا يَجِبُ لِأَجْلِهَا رَدُّ الْحِسِّ وَالسَّمْعِ، وَتُبْنَى عَلَيْهَا عُلُومُ بَنِي آدَمَ، بَلْ الْمَعْقُولَاتُ الصَّحِيحَةُ الدَّقِيقَةُ الْخَفِيَّةُ، تُرَدُّ إِلَى مَعْقُولَاتٍ بَدِيهِيَّةٍ أَوَّلِيَّةٍ، بِخِلَافِ الْعَقْلِيَّاتِ الصَّرِيحَةِ، مِثْلَ كَوْنِ الْجِسْمِ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ فِي مَكَانَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مَعًا، فَإِنَّ هَذَا مَعْلُومٌ بِفِطْرَةِ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا.

فَإِذَا جَاءَ فِي الْحِسِّ أَوِ الْخَبَرِ الصَّحِيحِ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ يُخَالِفُ ذَلِكَ، مِثْلَ أَنْ يُرَى الشَّخْصُ الْوَاحِدُ فِي عَرَفَاتَ وَهُوَ فِي بَلَدِهِ لَمْ يَبْرَحْ، أَوْ يُرَى قَاعِدًا فِي مَكَانِهِ وَهُوَ فِي مَكَانٍ آخَرَ، أَوْ يُرَى أَنَّهُ أَغَاثَ مَنِ اسْتَغَاثَ بِهِ، أَوْ جَاءَ طَائِرًا فِي الْهَوَاءِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ فِي مَكَانِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْهُ، فَهَذَا إِنَّمَا هُوَ جِنِّيٌّ تَصَوَّرَ بِصُورَةِ ذَلِكَ الشَّخْصِ، لَيْسَ هُوَ نَفْسُهُ، فَهَذَا يُشْبِهُهُ لَيْسَ هُوَ إِيَّاهُ.

وَالْحِسِّيَّاتُ إِنْ لَمْ يُمَيَّزْ بَيْنَهَا بِالْعَقْلِ، وَإِلَّا فَالْحِسُّ يَغْلَطُ كَثِيرًا، فَكَذَلِكَ مَنِ ادَّعَى فِيمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْمُكَاشَفَةِ وَالْمُخَاطَبَةِ أَمْرًا يُخَالِفُ صَرِيحَ الْعَقْلِ يُعْلَمُ أَنَّهُ غَالِطٌ فِيهِ، كَمَنْ قَالَ مِنَ الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ: (إِنِّي أَشْهَدُ بِبَاطِنِي وُجُودًا مُطْلَقًا مُجَرَّدًا عَنِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ،

ص: 397

لَا اخْتِصَاصَ فِيهِ وَلَا قَيْدَ الْبَتَّةَ) فَلَا يُتَنَازَعُ فِي هَذَا، كَمَا قَدْ يُنَازِعَهُ بَعْضُ النَّاسِ.

لَكِنْ يُقَالُ لَهُ: مَنْ أَيْنَ لَكَ أَنَّ هَذَا هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ فَإِنَّ كَوْنَ مَا شَهِدْتَهُ بِقَلْبِكَ هُوَ اللَّهُ، أَمْرٌ لَا يُدْرَكُ بِحِسِّ الْقَلْبِ، وَإِذَا ادَّعَيْتَ أَنَّهُ حَصَلَ لَكَ فِي الْكَشْفِ مَا يُنَاقِضُ صَرِيحَ الْعَقْلِ، عُلِمَ أَنَّكَ غَالِطٌ، كَمَا قَالَ شَيْخُ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ التِّلْمِسَانِيُّ:

يَا صَاحِبِي أَنْتَ تَنْهَانِي وَتَأْمُرُنِي

وَالْوَجْدُ أَصْدَقُ نَهَّاءٍ وَأَمَّارِ

فَإِنْ أُطِعْكَ وَأَعْصِ الْوَجْدَ عُدْتُ عَمًى

عَنِ الْعِيَانِ إِلَى أَوْهَامِ أَخْبَارِ

وَعَيْنُ مَا أَنْتَ تَدْعُونِي إِلَيْهِ إِذَا

حَقَّقْتَ فِيهِ تَرَاهُ النَّهْيَ يَا جَارِ

فَيُقَالُ لَهُ: وَجْدُكَ وَذَوْقُكَ لَمْ يُفِدْكَ إِلَّا شُهُودَ وُجُودٍ مُطْلَقٍ بَسِيطٍ، لَكِنْ مِنْ أَيْنَ لَكَ أَنَّ هَذَا هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ بَلْ مِنْ أَيْنَ لَكَ أَنَّ هَذَا ثَابِتٌ فِي الْخَارِجِ عَنْ نَفْسِكَ كُلِّيًّا مُطْلَقًا مُجَرَّدًا؟ بَلْ إِنَّمَا تَشْهَدُهُ كُلِّيًّا مُطْلَقًا مُجَرَّدًا فِي نَفْسِكَ.

وَلَسْتَ تَعْلَمُ بِحِسٍّ وَلَا عَقْلٍ وَلَا خَبَرٍ أَنَّ هَذَا هُوَ فِي الْخَارِجِ.

كَمَا أَنَّ النَّائِمَ إِذَا شَهِدَ حِسُّهُ الْبَاطِنُ أَشْيَاءَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ يَقِينٌ أَنَّ هَذَا فِي الْخَارِجِ.

فَإِذَا عَادَ إِلَيْهِ عَقْلُهُ عَلِمَ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي خَيَالِهِ فِي الْمَنَامِ.

ص: 398

وَكَذَلِكَ السَّكْرَانُ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ يَضْعُفُ عَقْلُهُ، فَهَذَا يَشْهَدُ بِحِسِّهِ الْبَاطِنِ أَوِ الظَّاهِرِ أَشْيَاءَ، وَقَدْ ضَعُفَ عَقْلُهُ عَنْ كُنْهِ ذَلِكَ لَمَّا وَرَدَ عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَابَ إِلَيْهِ عَقْلُهُ، عَلِمَ أَنَّ مَا شَهِدَهُ كَانَ فِي نَفْسِهِ وَخَيَالِهِ، لَا فِي الْخَارِجِ عَنْ ذَلِكَ.

فَكُلُّ مَنْ أَخْبَرَ بِمَا يُخَالِفُ صَحِيحَ الْمَنْقُولِ أَوْ صَرِيحَ الْمَعْقُولِ يُعْلَمُ أَنَّهُ وَقَعَ لَهُ غَلَطٌ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِيمَا يَشْهَدُهُ فِي الْحِسِّ الْبَاطِنِ أَوِ الظَّاهِرِ، لَكِنَّ الْغَلَطَ وَقَعَ فِي ظَنِّهِ الْفَاسِدِ الْمُخَالِفِ لِصَرِيحِ الْعَقْلِ لَا فِي مُجَرَّدِ الْحِسِّ، فَإِنَّ الْحِسَّ لَيْسَ فِيهِ عِلْمٌ بِنَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ.

فَمَنْ رَأَى شَخْصًا، فَلَيْسَ فِي الْحِسِّ إِلَّا رُؤْيَتُهُ.

وَأَمَّا كَوْنُهُ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا، فَهَذَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ عَقْلٍ يُمَيِّزُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، وَلِهَذَا كَانَ الصَّغِيرُ وَالْمَجْنُونُ وَالْبَهِيمُ وَالسَّكْرَانُ وَالنَّائِمُ وَنَحْوُهُمْ - لَهُمْ حِسٌّ، وَلَكِنْ لِعَدَمِ الْعَقْلِ لَا يُمَيِّزُونَ أَنَّ هَذَا الْمَشْهُودَ هُوَ كَذَا أَمْ كَذَا، بَلْ قَدْ يَظُنُّونَ ظُنُونًا غَيْرَ مُطَابِقَةٍ.

قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ

ص: 399

لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39] .

فَالظَّمْآنُ يَرَى أَنَّ مَا ظَنَّهُ مَاءً، وَلَمْ يَكُنْ مَاءً لِاشْتِبَاهِهِ بِالْمَاءِ، وَالْحِسُّ لَمْ يَغْلَطْ، لَكِنْ غَلِطَ عَقْلُهُ.

وَالْأَنْبِيَاءُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ - مَعْصُومُونَ، لَا يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، وَلَا يَنْقُلُونَ عَنْهُ إِلَّا الصِّدْقَ.

فَمَنِ ادَّعَى فِي أَخْبَارِهِمْ مَا يُنَاقِضُ صَرِيحَ الْمَعْقُولِ، كَانَ كَاذِبًا، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْقُولُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ، أَوْ ذَلِكَ الْمَنْقُولُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ.

فَمَا عُلِمَ يَقِينًا أَنَّهُمْ أَخْبَرُوا بِهِ، يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي الْعَقْلِ مَا يُنَاقِضُهُ.

وَمَا عُلِمَ يَقِينًا أَنَّ الْعَقْلَ حَكَمَ بِهِ، يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي أَخْبَارِهِمْ مَا يُنَاقِضُهُ.

وَقَوْلُ أَهْلِ الِاتِّحَادِ مِنَ النَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ - سَوَاءٌ ادَّعَوْا الِاتِّحَادَ الْعَامَّ أَوِ الْخَاصَّ - قَدْ عُلِمَ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ بُطْلَانُهُ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، بَلِ الْأَنْبِيَاءُ عليهم السلام قَدْ يُخْبِرُونَ بِمَا يَعْجِزُ الْعَقْلُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، لَا بِمَا يَعْلَمُ الْعَقْلُ بُطْلَانَهُ، فَيُخْبِرُونَ بِمُحَارَاتِ الْعُقُولِ لَا بِمُحَالَاتِ الْعُقُولِ.

وَمَنْ سِوَى الْأَنْبِيَاءِ لَيْسَ مَعْصُومًا، فَقَدْ يَغْلَطُ وَيَحْصُلُ لَهُ فِي كَشْفِهِ وَحِسِّهِ وَذَوْقِهِ وَشُهُودِهِ أُمُورٌ يَظُنُّ فِيهَا ظُنُونًا كَاذِبَةً.

ص: 400

فَإِذَا أَخْبَرَ مِثْلُ هَذَا بِشَيْءِ - عُلِمَ بُطْلَانُهُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ - عُلِمَ أَنَّهُ غَالِطٌ.

وَإِذَا أَخْبَرَ غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ بِمَا يَعْجِزُ عَقْلُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا وَلَا كَاذِبًا، بَلْ لَا نَحْكُمُ بِصِدْقِهِ وَلَا كَذِبِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ غَالِطًا وَاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ مَا يَعْجِزُ غَيْرُهُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ.

وَإِذَا قَالَ الْقَوْلَ الْمَعْلُومَ فَسَادُهُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ مَنْ لَيْسَ بِنَبِيٍّ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا فَوْقَ الْعَقْلِ، أَوْ هَذَا وَرَاءَ طَوْرِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، أَوْ هَذَا لَا نَعْرِفُهُ إِنْ لَمْ نَتْرُكِ الْعَقْلَ وَالنَّقْلَ، أَوْ قَالَ:

هُمُ مَعْشَرٌ حَلُّوا النِّظَامَ وَأَحْرَقُوا ال

سِّيَاجَ فَلَا فَرْضٌ لَدَيْهِمْ وَلَا نَفْلُ

مَجَانِينُ إِلَّا أَنَّ سِرَّ جُنُونِهِمْ

عَزِيزٌ عَلَى أَبْوَابِهِ يَسْجُدُ الْعَقْلُ

قِيلَ: وَهَذَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَهُ نَبِيٌّ، أَوْ يَنْقُلَهُ صَادِقٌ عَنْ نَبِيٍّ، فَإِنَّ أَقْوَالَ الْأَنْبِيَاءِ لَا تُنَاقِضُ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ، فَكَيْفَ يُقْبَلُ هَذَا مِمَّنْ لَيْسَ بِنَبِيٍّ؟

وَإِنْ قَالَ كَمَا يَقُولُهُ النَّصَارَى أَوْ غَيْرُهُمْ: إِنَّ هَذَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ فَهِمْنَاهُ مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ.

قِيلَ لَهُمْ: الْكَلَامُ فِي مَعَانِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي نَطَقَتْ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ شَيْءٌ، وَالْكَلَامُ الَّذِي فَهِمْتُمُوهُ عَنْهُمْ شَيْءٌ آخَرُ.

ص: 401

وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ أَنْتُمْ أَوْ غَيْرُكُمْ، فَهِمْتُمُوهُ مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ لَيْسَ مُخَالِفًا لِصَرِيحِ الْعَقْلِ، لَمْ نَجْزِمْ بِأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ يَتَصَوَّرُ مَا قَالَ، بَلْ قَدْ يَكُونُ فَهِمَ مِنْ كَلَامِهِمْ مَا لَمْ يُرِيدُوهُ.

فَكَيْفَ إِذَا كَانَ هُوَ نَفْسُهُ لَمْ يَتَصَوَّرْ مَا قَالَ؟ بَلْ هُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ لَهُ، وَهُوَ لَا يَفْهَمُهُ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الَّذِي قَالَهُ مَعْلُومَ الْفَسَادِ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ؟

فَهَذِهِ ثَلَاثُ مُقَدِّمَاتٍ لَوْ فَهِمَهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي فَهِمْتُ كَلَامَهُ، لَمْ يَكُنْ فَهْمُهُ حُجَّةً.

فَكَيْفَ إِذَا قَالَ: إِنِّي لَمْ أَفْهَمْهُ، وَإِنَّ هَذَا فَوْقَ طَوْرِ الْعَقْلِ؟

وَلَوْ قَالَ هَذَا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ حُجَّةً، وَلَمْ يَجِبْ تَصْدِيقُهُ مِنْ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَنَوْا بِكَلَامِهِمُ الْمَعْنَى الَّذِي اعْتَرَفَ أَنَّهُ فَوْقَ طَوْرِ الْعَقْلِ، فَكَيْفَ إِذَا عُرِفَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى بَاطِلٌ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَهُ عَاقِلٌ لَا نَبِيٌّ وَلَا غَيْرُ نَبِيٍّ؟

ص: 402