المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل: الجواب عن شبهة النصارى في إقرار المسلمين في الصفات وأنه لا يقتضي التشبيه والتجسيم] - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية - جـ ٤

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[فَصْلٌ: تَفْسِيرُهُمْ لِتَجَسُّمِ كَلِمَةِ اللَّهِ بِالْمَسِيحِ وَأَنَّهُ اتِّحَادٌ بَرِيءٌ مِنَ الِاخْتِلَاطِ وَنَحْوِهِ وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ]

- ‌[فَصْلٌ: نَقْضُ دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ أَثْبَتَ فِي الْمَسِيحِ اللَّاهُوتَ وَالنَّاسُوتَ]

- ‌[فَصْلٌ: نَقْضُ دَعْوَاهُمْ بِوُرُودِ تَسْمِيَةِ الْمَسِيحِ خَالِقًا فِي الْقُرْآنِ]

- ‌[فَصْلٌ: بَيَانُ الْمَعْنَى الصَّحِيحِ لِتَشْبِيهِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عِيسَى بِآدَمَ وَرَدُّ تَفْسِيرِهِمْ لِذَلِكَ]

- ‌[فَصْلٌ: بَيَانُ اضْطِرَابِ كَلَامِ النَّصَارَى وَتَفَرُّقِهِمْ فِي بَابِ طَبِيعَةِ الْمَسِيحِ]

- ‌[فَصْلٌ: مُوَاصَلَةُ الرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى بِمَا قَالَهُ الْحَسَنُ بْنُ أَيُّوبَ ثُمَّ بِكَلَامِ ابْنِ الْبِطْرِيقِ]

- ‌[فَصْلٌ: مُتَابَعَةُ حِكَايَةِ كَلَامِ ابْنِ الْبِطْرِيقِ عَنِ النَّصَارَى وَمُنَاقَشَتُهُ فِي ذَلِكَ]

- ‌[فَصْلٌ: مُتَابَعَةُ حِكَايَةِ كَلَامِ ابْنِ الْبِطْرِيقِ عَنِ النَّصَارَى وَمُنَاقَشَتُهُ فِي ذَلِكَ]

- ‌[فَصْلٌ: مُتَابَعَةُ حِكَايَةِ كَلَامِ ابْنِ الْبِطْرِيقِ عَنِ النَّصَارَى وَمُنَاقَشَتِهِ فِي ذَلِكَ]

- ‌[فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَى تَشْبِيهِ النَّصَارَى حُلُولَ كَلِمَةِ اللَّهِ فِي النَّاسُوتِ بِالْكِتَابَةِ فِي الْقِرْطَاسِ]

- ‌[فَصْلٌ: مُتَابَعَةٌ لِكَلَامِ ابْنِ الْبِطْرِيقِ وَالرَّدِّ عَلَيْهِ]

- ‌[فَصْلٌ: بَيَانُ أَنَّ عَامَّةَ دِينِ النَّصَارَى لَيْسَ مَأْخُوذًا عَنِ الْمَسِيحِ]

- ‌[فَصْلٌ: بَيَانُ أَنَّ كُلَّ مَا نَقَلَهُ الْمُؤَلِّفُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَيُّوبَ وَابْنِ الْبِطْرِيقِ إِنَّمَا هُوَ رَدٌّ عَلَى أَنَّ فِي الْمَسِيحِ طَبِيعَتَيْنِ]

- ‌[فَصْلٌ: الْجَوَابُ عَنْ شُبْهَةِ النَّصَارَى فِي إِقْرَارِ الْمُسْلِمِينَ فِي الصِّفَاتِ وَأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّشْبِيهَ وَالتَّجْسِيمَ]

الفصل: ‌[فصل: الجواب عن شبهة النصارى في إقرار المسلمين في الصفات وأنه لا يقتضي التشبيه والتجسيم]

[فَصْلٌ: الْجَوَابُ عَنْ شُبْهَةِ النَّصَارَى فِي إِقْرَارِ الْمُسْلِمِينَ فِي الصِّفَاتِ وَأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّشْبِيهَ وَالتَّجْسِيمَ]

قَالَ الْحَاكِي عَنْهُمْ: فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَنَا: إِذَا كَانَ اعْتِقَادُكُمْ فِي الْبَارِي - تَعَالَى - أَنَّهُ وَاحِدٌ، فَمَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ تَقُولُوا: أَبٌ وَابْنٌ وَرُوحُ قُدُسٍ، فَتُوهِمُونَ السَّامِعِينَ أَنَّكُمْ تَعْتَقِدُونَ فِي اللَّهِ ثَلَاثَةَ أَشْخَاصٍ مُرَكَّبَةٍ، أَوْ ثَلَاثَةَ آلِهَةٍ، أَوْ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، وَأَنَّ لَهُ ابْنًا، وَيَظُنُّ مَنْ لَا يَعْرِفُ اعْتِقَادَكُمْ أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ بِذَلِكَ ابْنَ الْمُبَاضَعَةِ وَالتَّنَاسُلِ، فَتُطْرِقُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ تُهْمَةً أَنْتُمْ مِنْهَا بَرِيئُونَ؟

قَالُوا: وَهُمْ أَيْضًا، لَمَّا كَانَ اعْتِقَادُهُمْ فِي الْبَارِي جَلَّتْ عَظَمَتُهُ أَنَّهُ غَيْرُ ذِي جِسْمٍ، وَغَيْرُ ذِي جَوَارِحَ وَأَعْضَاءٍ، وَغَيْرُ مَحْصُورٍ فِي مَكَانٍ، فَمَا حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ لَهُ عَيْنَيْنِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَيَدَيْنِ يَبْسُطُهُمَا، وَسَاقًا، وَوَجْهًا يُوَلِّيهِ إِلَى كُلِّ مَكَانٍ، وَجَنْبًا، وَأَنَّهُ يَأْتِي فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، فَيُوهِمُونَ السَّامِعِينَ أَنَّ اللَّهَ ذُو جِسْمٍ وَذُو أَعْضَاءٍ وَجَوَارِحَ، وَأَنَّهُ يَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، فَيَظُنُّ مَنْ لَا يَعْرِفُ اعْتِقَادَهُمْ أَنَّهُمْ يُجَسِّمُونَ الْبَارِيَ، حَتَّى إِنَّ قَوْمًا مِنْهُمُ اعْتَقَدُوا ذَلِكَ وَاتَّخَذُوهُ مَذْهَبًا، وَمَنْ لَمْ يَتَحَقَّقِ اعْتِقَادَهُمْ يَتَّهِمُهُمْ بِمَا هُمْ بَرِيئُونَ مِنْهُ.

ص: 403

قَالَ: فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْعِلَّةَ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا، أَنَّ اللَّهَ لَهُ عَيْنَانِ وَيَدَانِ وَوَجْهٌ وَسَاقٌ وَجَنْبٌ، وَأَنَّهُ يَأْتِي فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، فَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ نَطَقَ بِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَكُلُّ مَنْ يَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَيَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ لَهُ عَيْنَانِ وَيَدَانِ وَوَجْهٌ وَجَنْبٌ وَجَوَارِحُ وَأَعْضَاءٌ، وَأَنَّ ذَاتَهُ تَنْتَقِلُ، فَهُمْ يَلْعَنُونَهُ وَيُكَفِّرُونَهُ، فَإِذَا كَفَّرُوا مَنْ يَعْتَقِدُ هَذَا، فَلَيْسَ لِمُخَالِفِيهِمْ أَنْ يُلْزِمُوهُمْ هَذَا بَعْدَ أَنْ لَا يَعْتَقِدُوهُ.

قَالُوا: وَكَذَلِكَ نَحْنُ أَيْضًا النَّصَارَى، الْعِلَّةُ فِي قَوْلِنَا: إِنَّ اللَّهَ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ: أَبٌ، وَابْنٌ، وَرُوحُ قُدُسٍ، أَنَّ الْإِنْجِيلَ نَطَقَ بِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَقَانِيمِ: غَيْرُ الْأَشْخَاصِ الْمُرَكَّبَةِ وَالْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي الشِّرْكَ وَالتَّكْثِيرَ، وَبِالْأَبِ وَالِابْنِ غَيْرُ أُبُوَّةِ وَبُنُوَّةِ نِكَاحٍ أَوْ تَنَاسُلٍ، أَوْ جِمَاعٍ أَوْ مُبَاضَعَةٍ.

وَكُلُّ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الثَّلَاثَةَ أَقَانِيمَ ثَلَاثَةُ آلِهَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، أَوْ ثَلَاثَةُ آلِهَةٍ مُتَّفِقَةٍ، أَوْ ثَلَاثَةُ أَجْسَامٍ مُؤَلَّفَةٍ، أَوْ ثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ مُتَفَرِّقَةٍ، أَوْ ثَلَاثَةُ أَشْخَاصٍ مُرَكَّبَةٍ، أَوْ أَعْرَاضٌ، أَوْ قُوًى، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ وَالتَّكْثِيرَ وَالتَّبْعِيضَ وَالتَّشْبِيهَ، أَوْ بُنُوَّةُ نِكَاحٍ، أَوْ تَنَاسُلٍ، أَوْ مُبَاضَعَةٍ، أَوْ جِمَاعٍ، أَوْ وِلَادَةُ زَوْجَةٍ، أَوْ مِنْ بَعْضِ الْأَجْسَامِ، أَوْ مِنْ بَعْضِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ مِنْ بَعْضِ الْمَخْلُوقِينَ، فَنَحْنُ نَلْعَنُهُ وَنُكَفِّرُهُ وَنُجَرِّمُهُ.

وَإِذَا لَعَنَّا أَوْ كَفَّرْنَا مَنْ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ، فَلَيْسَ لِمُخَالِفِينَا أَنْ يُلْزِمُونَا بَعْدَ أَنْ لَا نَعْتَقِدَهُ، وَإِنْ أَلْزَمُونَا الشِّرْكَ وَالتَّشْبِيهَ لِأَجْلِ قَوْلِنَا: أَبٌ وَابْنٌ وَرُوحُ

ص: 404

قُدُسٍ ; لِأَنَّ ظَاهِرَ ذَلِكَ يَقْتَضِي التَّكْثِيرَ وَالتَّشْبِيهَ، أَلْزَمْنَاهُمْ أَيْضًا - نَحْنُ - التَّجْسِيمَ وَالتَّشْبِيهَ لِقَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ لَهُ عَيْنَانِ وَيَدَانِ وَوَجْهٌ وَسَاقٌ وَجَنْبٌ، وَأَنَّ ذَاتَهُ تَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَأَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مِنْ بَعْدِ أَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ التَّجْسِيمَ وَالتَّشْبِيهَ.

وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ: مَنْ آمَنَ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَقَالَ مَا قَالُوهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ لِلَفْظِهِ وَلَا مَعْنَاهُ، فَهَذَا لَا إِنْكَارَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَنِ ابْتَدَعَ أَقْوَالًا لَمْ تَقُلْهَا الرُّسُلُ، بَلْ هِيَ تُخَالِفُ مَا قَالُوهُ، وَحَرَّفَ مَا قَالُوهُ، إِمَّا لَفْظًا وَمَعْنًى، وَإِمَّا مَعْنًى فَقَطْ، فَهَذَا يَسْتَحِقُّ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الطَّوَائِفِ.

وَأَصْلُ دِينِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ يَصِفُونَ اللَّهَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كُتُبِهِ، وَبِمَا وَصَفَتْهُ بِهِ رُسُلُهُ، مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ، بَلْ يُثْبِتُونَ لَهُ - تَعَالَى - مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ، وَيَنْفُونَ عَنْهُ مَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَيَتَّبِعُونَ فِي ذَلِكَ أَقْوَالَ رُسُلِهِ، وَيَجْتَنِبُونَ مَا خَالَفَ أَقْوَالَ الرُّسُلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180] أَيْ عَمَّا يَصِفُهُ الْكُفَّارُ الْمُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ. {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 181]

ص: 405

لِسَلَامَةِ مَا قَالُوهُ مِنَ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ. {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45] .

فَالرُّسُلُ وَصَفُوا اللَّهَ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَنَزَّهُوهُ عَنِ النَّقَائِصِ الْمُنَاقِضَةِ لِلْكَمَالِ، وَنَزَّهُوهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَأَثْبَتُوا لَهُ صِفَاتِ الْكَمَالِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ، وَنَفَوْا عَنْهُ التَّمْثِيلَ، فَأَتَوْا بِإِثْبَاتٍ مُفَصَّلٍ وَنَفْيٍ مُجْمَلٍ.

فَمَنْ نَفَى عَنْهُ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ مِنَ الصِّفَاتِ، كَانَ مُعَطِّلًا، وَمَنْ جَعَلَهَا مِثْلَ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، كَانَ مُمَثِّلًا، وَالْمُعَطِّلُ يَعْبُدُ عَدَمًا، وَالْمُمَثِّلِ يَعْبُدُ صَنَمًا.

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] وَهُوَ رَدٌّ عَلَى الْمُمَثِّلَةِ، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وَهُوَ رَدٌّ عَلَى الْمُعَطِّلَةِ.

ص: 406

فَوَصَفَتْهُ الرُّسُلُ بِأَنَّهُ حَيٌّ مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَوْتِ، عَلِيمٌ مُنَزَّهٌ عَنْ الْجَهْلِ، قَدِيرٌ قَوِيٌّ عَزِيزٌ مُنَزَّهٌ عَنِ الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ وَالذُّلِّ وَاللُّغُوبِ، سُمَيْعٌ بَصِيرٌ مُنَزَّهٌ عَنْ الصَّمِّ وَالْعَمَى، غَنِيٌّ مُنَزَّهٌ عَنِ الْفَقْرِ، جَوَادٌ مُنَزَّهٌ عَنِ الْبُخْلِ، حَكِيمٌ حَلِيمٌ مُنَزَّهٌ عَنِ السَّفَهِ، صَادِقٌ مُنَزَّهٌ عَنِ الْكَذِبِ، إِلَى سَائِرِ صِفَاتِ الْكَمَالِ، مِثْلَ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ وَدُودٌ رَحِيمٌ لَطِيفٌ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ - اللَّهُ الصَّمَدُ - لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ - وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1 - 4] .

فَالصَّمَدُ، اسْمٌ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنَفْيَ النَّقَائِصِ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْكَامِلُ فِي عِلْمِهِ، الْقَدِيرُ الْكَامِلُ فِي قُدْرَتِهِ، الْحَكِيمُ الْكَامِلُ فِي حِكْمَتِهِ.

وَلَنَا مُصَنَّفٌ مَبْسُوطٌ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَآخَرُ فِي بَيَانِ أَنَّهَا تُعَادِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، وَذَكَرْنَا كَلَامَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي مَعْنَى " الصَّمَدِ " وَأَنَّ عَامَّةَ مَا قَالُوهُ حَقٌّ، كَقَوْلِ مَنْ قَالَ

ص: 407

مِنْهُمْ: (إِنَّ الصَّمَدَ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ) وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ: (إِنَّهُ السَّيِّدُ الَّذِي انْتَهَى سُؤْدُدُهُ) كَمَا قِيلَ: (إِنَّهُ الْمُسْتَغْنِي عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ) وَكَمَا قِيلَ: (إِنَّهُ الْعَلِيمُ الْكَامِلُ فِي عِلْمِهِ، وَالْقَدِيرُ الْكَامِلُ فِي قُدْرَتِهِ) إِلَى سَائِرِ صِفَاتِ الْكَمَالِ.

وَذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ، أَنَّهُ أَحَدٌ لَيْسَ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، فَنَفَى بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ لَهُ كُفُوًا، وَبَيَّنَ أَنَّهُ أَحَدٌ لَا نَظِيرَ لَهُ.

وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] وَقَالَ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] وَقَالَ: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل: 74] وَقَالَ: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22]

وَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مِنْ إِثْبَاتِ صِفَاتِ اللَّهِ، فَقَدْ وَرَدَ فِي التَّوْرَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ كُتِبَ اللَّهِ مِثْلُ ذَلِكَ.

فَهُوَ أَمْرٌ اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الرُّسُلُ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ فِي ذَلِكَ كَالْمُسْلِمِينَ.

ص: 408

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَهُمْ فِي أَمَانَتِهِمْ لَمْ يَقُولُوا مَا قَالَهُ الْمَسِيحُ وَالْأَنْبِيَاءُ، بَلِ ابْتَدَعُوا اعْتِقَادًا لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ، فَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ لَا الْمَسِيحِ وَلَا غَيْرِهِ ذِكْرُ أَقَانِيمَ لِلَّهِ، لَا ثَلَاثَةٍ وَلَا أَكْثَرَ، وَلَا إِثْبَاتُ ثَلَاثِ صِفَاتٍ، وَلَا تَسْمِيَةُ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ ابْنًا لِلَّهِ وَلَا رَبًّا، وَلَا تَسْمِيَةُ حَيَاتِهِ رُوحًا، وَلَا أَنَّ لِلَّهِ ابْنًا هُوَ إِلَهٌ حَقٌّ مِنْ إِلَهٍ حَقٍّ، مِنْ جَوْهَرِ أَبِيهِ، وَأَنَّهُ خَالِقٌ كَمَا أَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِأَنْوَاعٍ مِنَ الْكُفْرِ، لَمْ تُنْقَلْ عَنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ.

فَقَالُوا فِي شَرِيعَةِ إِيمَانِهِمْ: نُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْأَبِ، مَالِكِ كُلِّ شَيْءٍ، صَانِعِ مَا يُرَى وَمَا لَايُرَى، وَهَذَا حَقٌّ.

ثُمَّ قَالُوا: وَبِالرَّبِّ الْوَاحِدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ اللَّهِ الْوَاحِدِ، بِكْرِ الْخَلَايِقِ كُلِّهَا، مَوْلُودٌ لَيْسَ بِمَصْنُوعٍ، إِلَهٌ حَقٌّ مِنْ إِلَهٍ حَقٍّ، مِنْ جَوْهَرِ أَبِيهِ، نُورٌ مِنْ نُورٍ، مُسَاوٍ لِلْأَبِ فِي الْجَوْهَرِ الَّذِي بِيَدِهِ أُتْقِنَتِ الْعَوَالِمُ وَخُلِقَ كُلُّ شَيْءٍ، الَّذِي مِنْ أَجْلِنَا - مَعْشَرَ النَّاسِ - وَمِنْ أَجْلِ خَلَاصِنَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، وَتَجَسَّدَ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ، وَمِنْ مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ، وَصَارَ إِنْسَانًا، وَحُبِلَ بِهِ وَوُلِدَ مِنْ مَرْيَمَ الْبَتُولِ، وَتَأَلَّمَ وَصُلِبَ وَدُفِنَ، وَقَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ، وَصَعِدَ إِلَى

ص: 409

السَّمَاءِ، وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ أَبِيهِ وَهُوَ مُسْتَعِدٌّ لِلْمَجِيءِ تَارَةً أُخْرَى لِلْقَضَاءِ بَيْنَ الْأَمْوَاتِ وَالْأَحْيَاءِ.

وَنُؤْمِنُ بِرُوحِ الْقُدُسِ الْمُحْيِي، وَرُوحِ الْحَقِّ الْمُنْبَثِقِ مِنْ أَبِيهِ، أَوْ الَّذِي خَرَجَ مِنْ أَبِيهِ رُوحِ مُحْيِيهِ.

فَأَيْنَ فِي كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ أَوْ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ يُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُ أُقْنُومٌ، وَإِنَّهُ حَقٌّ مِنْ إِلَهٍ حَقٍّ، مِنْ جَوْهَرِ أَبِيهِ، وَإِنَّهُ مُسَاوٍ لِلَّهِ فِي الْجَوْهَرِ، وَإِنَّهُ خَالِقٌ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، وَإِنَّهُ قَعَدَ عَنْ يَمِينِ اللَّهِ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَإِنَّهُ الَّذِي يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟

وَأَيْنَ فِي كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّ لِلَّهِ وَلَدًا قَدِيمًا أَزَلِيًّا؟

وَمَنِ الَّذِي سَمَّى كَلَامَ اللَّهِ أَوْ عِلْمَهُ أَوْ حِكْمَتَهُ - مَوْلُودًا لَهُ أَوِ ابْنًا لَهُ، أَوْ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِهِ مَوْلُودًا لَهُ أَوِ ابْنًا لَهُ؟

وَمَنِ الَّذِي قَالَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ: إِنَّهُ مَوْلُودٌ، وَهُوَ - مَعَ ذَلِكَ - قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ؟

وَأَيْنَ فِي كَلَامِهِمْ أَنَّ لِلَّهِ أُقْنُومًا ثَالِثًا هُوَ حَيَاتُهُ، وَيُسَمَّى بِرُوحِ الْقُدُسِ، وَأَنَّهُ أَيْضًا رَبٌّ حَيٌّ مُحْيٍ.

فَلَوْ كَانَ النَّصَارَى آمَنُوا بِنُصُوصِ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا آمَنَ الْمُؤْمِنُونَ،

ص: 410

لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ مَلَامٌ.

وَمَنِ اعْتَرَضَ عَلَى نُصُوصِ الْأَنْبِيَاءِ، كَانَ لِفَسَادِ فَهْمِهِ وَنَقَصِ مَعْرِفَتِهِ.

وَلَكِنَّهُمُ ابْتَدَعُوا أَقْوَالًا وَعَقَائِدَ لَيْسَتْ مَنْصُوصَةً عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام وَفِيهَا كُفْرٌ ظَاهِرٌ وَتَنَاقُضٌ بَيِّنٌ.

فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهَا مَعْنًى صَحِيحًا، لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَبْتَدِعَ كَلَامًا لَمْ يَأْتِ بِهِ نَبِيٌّ يَدُلُّ عَلَى الْكُفْرِ الْمُتَنَاقِضِ الَّذِي يُخَالِفُ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ، وَيَقُولُ: إِنِّي أَرَدْتُ بِهِ مَعْنًى صَحِيحًا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَفْظُهُ دَالًّا عَلَى ذَلِكَ، فَكَيْفَ وَالْمُرَادُ الَّذِي يُفَسِّرُونَ بِهِ كَلَامَهُمْ فَاسِدٌ مُتَنَاقِضٌ كَمَا تَقَدَّمَ؟

فَهُمُ ابْتَدَعُوا أَقْوَالًا مُنْكَرَةً وَفَسَّرُوهَا بِتَفْسِيرٍ مُنْكَرٍ، فَكَانَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَجْهَيْنِ، وَهُمْ - فِي ذَلِكَ - نَظِيرُ بَعْضِ مَلَاحِدَةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ إِلَهِيَّةَ بَعْضِ أَهْلِ الْبَيْتِ، أَوْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ، وَيَصِفُونَ اللَّهَ بِصِفَاتٍ لَمْ يَنْطِقْ بِهَا كِتَابٌ، وَهَؤُلَاءِ مُلْحِدُونَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ.

بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا قَالَتِ الْأَنْبِيَاءُ، وَلَمْ يَبْتَدِعُوا أَقْوَالًا لَمْ يَأْتِ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ، وَجَعَلُوهَا أَصْلَ دِينِهِمْ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ كَذِبٌ ظَاهِرٌ عَلَيْهِمْ.

فَهَذَا النَّظْمُ الَّذِي ذَكَرُوهُ لَيْسَ هُوَ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا فِي الْحَدِيثِ،

ص: 411

وَلَا يُعْرَفُ عَالِمٌ مَشْهُورٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا طَائِفَةٌ مَشْهُورَةٌ مِنْ طَوَائِفِهِمْ، يُطْلِقُونَ الْعِبَارَةَ الَّتِي حَكَوْهَا عَنِ الْمُسْلِمِينَ، حَيْثُ قَالُوا عَنْهُمْ:(إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ لِلَّهِ عَيْنَيْنِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَيَدَيْنِ يَبْسُطُهُمَا، وَسَاقًا وَوَجْهًا يُوَلِّيهِ إِلَى كُلِّ مَكَانٍ، وَجَنْبًا) .

وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ رَكَّبُوا مِنْ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ بِسُوءِ تَصَرُّفِهِمْ وَفَهْمِهِمْ، تَرْكِيبًا زَعَمُوا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يُطْلِقُونَهُ.

وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ، فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَالَ فِي كِتَابِهِ:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64]

وَالْيَهُودُ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) أَنَّهُ بَخِيلٌ، فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ جَوَّادٌ لَا يَبْخَلُ، فَأَخْبَرَ أَنَّ يَدَيْهِ مَبْسُوطَتَانِ، كَمَا قَالَ:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29]

فَبَسْطُ الْيَدَيْنِ الْمُرَادُ بِهِ الْجَوَادُ وَالْعَطَاءُ، لَيْسَ الْمُرَادُ مَا تَوَهَّمُوهُ مِنْ بَسْطٍ مُجَرَّدٍ.

وَلَمَّا كَانَ الْعَطَاءُ بِالْيَدِ يَكُونُ بِبَسْطِهَا، صَارَ مِنَ الْمَعْرُوفِ فِي اللُّغَةِ التَّعْبِيرُ بِبَسْطِ الْيَدِ عَنِ الْعَطَاءِ.

ص: 412

فَلَمَّا قَالَتِ الْيَهُودُ: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) وَأَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّهُ بَخِيلٌ، كَذَّبَهُمُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ جَوَّادٌ مَاجِدٌ.

وَإِثْبَاتُ الْيَدَيْنِ لَهُ مَوْجُودٌ فِي التَّوْرَاةِ وَسَائِرِ النُّبُوَّاتِ، كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ.

فَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا شَيْءٌ يُخَالِفُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَلَا مَا يُنَاقِضُ الْعَقْلَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]

فَأَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ آدَمَ بِيَدَيْهِ، وَجَاءَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ تُوَافِقُ ذَلِكَ.

وَأَمَّا لَفْظُ (الْعَيْنَيْنِ) ، فَلَيْسَ هُوَ فِي الْقُرْآنِ، وَلَكِنْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ.

وَذَكَرَ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ لِلَّهِ عَيْنَيْنِ.

وَلَكِنَّ الَّذِي جَاءَ فِي الْقُرْآنِ: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي - وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: 39 - 37] ،

ص: 413

{وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 13] .

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: (لَهُ وَجْهٌ يُوَلِّيهِ إِلَى كُلِّ مَكَانٍ) فَلَيْسَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ وَلَكِنْ فِي الْقُرْآنِ: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26] وَقَوْلُهُ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88] وَقَوْلُهُ: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]

وَهَذَا قَدْ قَالَ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ: فَثَمَّ قِبْلَةُ اللَّهِ ; أَيْ فَثَمَّ جِهَةُ اللَّهِ، وَالْجِهَةُ كَالْوَعْدِ وَالْعِدَةِ، وَالْوَزْنِ وَالزِّنَةِ.

وَالْمُرَادُ بِوَجْهِ اللَّهِ وَجِهَةِ اللَّهِ - الْوَجْهُ، وَالْجِهَةُ وَالْوِجْهَةُ الَّذِي لِلَّهِ يُسْتَقْبَلُ فِي الصَّلَاةِ، كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 115] ثُمَّ قَالَ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]

كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142]

ص: 414

فَإِذَا كَانَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148] وَقَوْلُهُ: (مُوَلِّيهَا) ; أَيْ مُتَوَلِّيهَا أَوْ مُسْتَقْبِلُهَا، فَهَذَا كَقَوْلِهِ:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] أَيْ فَأَيْنَمَا تَسْتَقْبِلُوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى صِفَةِ اللَّهِ، لَكِنْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ثَمَّ وَجْهٌ لِلَّهِ، وَأَنَّ الْعِبَادَ أَيْنَمَا يُوَلُّونَ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، فَهُمُ الَّذِينَ يُوَلُّونَ وَيَسْتَقْبِلُونَ، لَا أَنَّهُ هُوَ يُوَلِّي وَجْهَهُ إِلَى كُلِّ مَكَانٍ، فَهَذَا تَحْرِيفٌ مِنْهُمْ لِلَفْظِ الْقُرْآنِ عَنْ مَعْنَاهُ وَكَذِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.

وَمَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ مُحِيطٌ بِالْعَالَمِ كُلِّهِ، كَمَا قَدْ بَسَطْتُ هَذِهِ الْأُمُورَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

إِذِ الْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ ضَلَالِ هَؤُلَاءِ فِي دِينِهِمْ فِيمَا ابْتَدَعُوا مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّثْلِيثِ وَالِاتِّحَادِ، دُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنِ اللَّهِ تبارك وتعالى.

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: (وَجَنْبٌ) فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ عَالِمٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا طَائِفَةٌ مَشْهُورَةٌ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ، أَثْبَتُوا لِلَّهِ جَنْبًا نَظِيرَ جَنْبِ الْإِنْسَانِ، وَهَذَا اللَّفْظُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ:{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56]

فَلَيْسَ فِي مُجَرَّدِ الْإِضَافَةِ مَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ الْمُضَافُ إِلَى اللَّهِ

ص: 415

صِفَةً لَهُ، بَلْ قَدْ يُضَافُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَعْيَانِ الْمَخْلُوقَةِ وَصِفَاتِهَا الْقَائِمَةِ بِهَا مَا لَيْسَ بِصِفَةٍ لَهُ بِاتِّفَاقِ الْخَلْقِ، كَقَوْلِهِ:(بَيْتُ اللَّهِ) وَ (نَاقَةَ اللَّهِ) وَ (عِبَادَ اللَّهِ) بَلْ وَكَذَلِكَ (رُوحُ اللَّهِ) عِنْدَ سَلَفِ الْمُسْلِمِينَ وَأَئِمَّتِهِمْ وَجُمْهُورِهِمْ.

وَلَكِنْ إِذَا أُضِيفَ إِلَيْهِ مَا هُوَ صِفَةٌ لَهُ وَلَيْسَ بِصِفَةٍ لِغَيْرِهِ، مِثْلَ كَلَامِ اللَّهِ وَعِلْمِ اللَّهِ، وَيَدِ اللَّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَانَ صِفَةً لَهُ.

وَفِي الْقُرْآنِ مَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْجَنْبِ مَا هُوَ نَظِيرُ جَنْبِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّهُ قَالَ: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56]

وَالتَّفْرِيطُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ عز وجل.

وَالْإِنْسَانُ إِذَا قَالَ: فُلَانٌ قَدْ فَرَّطَ فِي جَنْبِ فُلَانٍ أَوْ جَانِبِهِ، لَا يُرِيدُ بِهِ أَنَّ التَّفْرِيطَ وَقَعَ فِي شَيْءٍ مِنْ نَفْسِ ذَلِكَ الشَّخْصِ، بَلْ يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ فَرَّطَ فِي جِهَتِهِ وَفِي حَقِّهِ.

فَإِذَا كَانَ هَذَا اللَّفْظُ إِذَا أُضِيفَ إِلَى الْمَخْلُوقِ لَا يَكُونُ ظَاهِرَهُ أَنَّ التَّفْرِيطَ فِي نَفْسِ جَنْبِ الْإِنْسَانِ الْمُتَّصِلِ بِأَضْلَاعِهِ، بَلْ ذَلِكَ التَّفْرِيطُ لَمْ يُلَاصِقْهُ، فَكَيْفَ يُظَنُّ أَنَّ ظَاهِرَهُ فِي حَقِّ اللَّهِ - أَنَّ التَّفْرِيطَ كَانَ فِي ذَاتِهِ؟

وَجَنْبُ الشَّيْءِ وَجَانِبُهُ، قَدْ يُرَادُ بِهِ مُنْتَهَاهُ وَحَدُّهُ، وَيُسَمَّى جَنْبُ الْإِنْسَانِ جَنْبًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، قَالَ تَعَالَى:

ص: 416

{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16] وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191]

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: « (صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ، فَعَلَى جَنْبٍ) »

وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْإِضَافَةَ هُنَا تَتَضَمَّنُ صِفَةَ اللَّهِ، كَانَ الْكَلَامُ فِي هَذَا كَالْكَلَامِ فِي سَائِرِ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ تَعَالَى مِنَ الصِّفَاتِ، وَفِي التَّوْرَاةِ مِنْ ذَلِكَ نَظِيرُ مَا فِي الْقُرْآنِ.

وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِالْوَجْهِ الثَّالِثِ: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ مَا فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ وَصْفِ اللَّهِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي يُسَمِّيهَا بَعْضُ النَّاسِ تَجْسِيمًا، هُوَ مِثْلُ مَا فِي التَّوْرَاةِ وَسَائِرِ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهَذَا الَّذِي فِي التَّوْرَاةِ وَكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ لَيْسَ مِمَّا أَحْدَثَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ.

ص: 417

وَلَوْ كَانُوا هُمُ ابْتَدَعُوا ذَلِكَ، وَوَصَفُوا الْخَالِقَ بِمَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مِنَ التَّجْسِيمِ، لَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَمَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا ذَمَّهُمْ عَلَى مَا وَصَفُوهُ بِهِ مِنَ النَّقَائِصِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181] وَقَوْلِهِ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38]

فَنَفَى عَنْهُ اللُّغُوبَ الَّذِي يُظَنُّ فِي لَفْظِ الِاسْتِرَاحَةِ الَّذِي فِي التَّوْرَاةِ، فَإِنَّ فِيهَا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَالَمَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَرَاحَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ، فَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ تَعِبَ فَاسْتَرَاحَ.

ثُمَّ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذَا اللَّفْظَ حَرَّفُوا مَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ، وَهَذَا لَفْظُ التَّوْرَاةِ الْمُنَزَّلَةِ. قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ

ص: 418

وَغَيْرُهُ وَقَالُوا مَعْنَاهُ: ثُمَّ تَرَكَ الْخَلْقَ، فَعُبِّرَ عَنْ ذَلِكَ بِلَفْظِ اسْتَرَاحَ.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ حَرَّفُوا لَفْظَهُ، كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَقَالُوا: لَيْسَ هَذَا لَفْظُ التَّوْرَاةِ الْمُنَزَّلَةِ، وَأَمَّا مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ، فَلَمْ يُنْكِرِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، بَلْ كَانَ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ إِذَا ذَكَرُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ يُقِرُّهُمْ عَلَيْهِ وَيُصَدِّقُهُمْ عَلَيْهِ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، «أَنَّ حَبْرًا مِنَ الْيَهُودِ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ عز وجل يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ،

ص: 419

وَالْأَرْضَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ) . قَالَ: فَضَحَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ، ثُمَّ قَرَأَ:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] الْآيَةَ» .

وَفِي التَّوْرَاةِ: " إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ بِإِصْبَعِهِ ".

وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ النُّصُوصِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبِمَا يَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَخْبَارِ الرَّسُولِ بِنَظِيرِ ذَلِكَ وَتَرْكِ إِنْكَارِهِ لِمَا فِي التَّوْرَاةِ، وَتَصْدِيقِهِ عَلَى مَا كَانُوا يَذْكُرُونَهُ مِنْ ذَلِكَ - لَمْ يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ مُخْتَصِّينَ بِذِكْرِ مَا سَمَّوْهُ تَجْسِيمًا، بَلْ يَلْزَمُ أَهْلَ الْكِتَابِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ ذَلِكَ نَظِيرُ مَا يَلْزَمُ الْمُسْلِمِينَ.

ص: 420

وَقَدِ افْتَرَقَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي ذَلِكَ كَمَا افْتَرَقَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ، مِنْهُمُ الْغَالِي فِي النَّفْيِ وَالتَّعْطِيلِ، وَمِنْهُمُ الْغَالِي فِي التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ.

وَالْمُسْلِمُونَ أَئِمَّتُهُمْ وَجُمْهُورُهُمْ مُقْتَصِدُونَ بَيْنَ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ، وَكَذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ قَدْ جَاءَتْ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، التَّوْرَاةِ وَغَيْرِهَا، كَمَا جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ اخْتِصَاصٌ.

وَلَمْ يَجُزْ لِلنَّصَارَى أَنْ يَجْعَلُوا ذَلِكَ نَظِيرَ مَا اخْتَصُّوا بِهِ مِنَ التَّثْلِيثِ وَالِاتِّحَادِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ.

وَهَذِهِ الصِّفَاتُ قَدْ اشْتَرَكَ فِيهَا أَهْلُ الْمِلَلِ الثَّلَاثِ ; لِأَنَّ التَّثْلِيثَ وَالِاتِّحَادَ لَيْسَ مَنْصُوصًا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام وَهَذِهِ الصِّفَاتُ مَنْصُوصَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ تَشْبِيهُ هَذَا بِهَذَا؟

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُمْ: (فَيُوهِمُونَ السَّامِعِينَ أَنَّ اللَّهَ ذُو جِسْمٍ وَأَعْضَاءٍ وَجَوَارِحَ) - كَلَامٌ بَاطِلٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سَمَّى نَفْسَهُ وَصِفَاتَهُ بِأَسْمَاءٍ، وَسَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ وَصِفَاتِ عِبَادِهِ بِأَسْمَاءٍ هِيَ فِي حَقِّهِمْ نَظِيرُ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ فِي حَقِّهِ سبحانه وتعالى.

فَسَمَّى نَفْسَهُ حَيًّا، كَقَوْلِهِ:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] الْآيَةَ.

ص: 421

{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58] وَسَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ حَيًّا، كَقَوْلِهِ:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الأنعام: 95]

مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْحَيُّ كَالْحَيِّ، وَسَمَّى نَفْسَهُ عَلِيمًا، كَقَوْلِهِ:{إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 83] .

وَسَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ عَلِيمًا، كَقَوْلِهِ:{وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 28]

مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْعَلِيمُ كَالْعَلِيمِ.

وَسَمَّى نَفْسَهُ حَلِيمًا، بِقَوْلِهِ:{وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة: 263] وَسَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ حَلِيمًا، بِقَوْلِهِ:{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101]

ص: 422

وَسَمَّى نَفْسَهُ رَءُوفًا رَحِيمًا، بِقَوْلِهِ:{إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143] .

وَسَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ رَءُوفًا رَحِيمًا، بِقَوْلِهِ:{بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]

وَلَيْسَ الرَّءُوفُ كَالرَّءُوفِ، وَلَا الرَّحِيمُ كَالرَّحِيمِ.

وَكَذَلِكَ سَمَّى نَفْسَهُ مَلِكًا جَبَّارًا مُتَكَبِّرًا عَزِيزًا، وَسَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ مَلِكًا، وَبَعْضَهُمْ عَزِيزًا، وَبَعْضَهُمْ جَبَّارًا مُتَكَبِّرًا، وَلَيْسَ هُوَ فِي ذَلِكَ مُمَاثِلًا لِخَلْقِهِ.

وَكَذَلِكَ سَمَّى بَعْضَ صِفَاتِهِ عِلْمًا وَقُوَّةً وَأَيْدًا، وَقُدْرَةً وَرَحْمَةً وَغَضَبًا، وَرِضًى وَيَدًا وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَسَمَّى بَعْضَ صِفَاتِ عِبَادِهِ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ عِلْمُهُ كَعِلْمِهِمْ، وَلَا قُدْرَتُهُ كَقُدْرَتِهِمْ، وَلَا رَحْمَتُهُ وَغَضَبُهُ كَرَحْمَتِهِمْ وَغَضَبِهِمْ، وَلَا يَدُهُ كَأَيْدِيهِمْ.

وَكَذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ مِنِ اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ، وَمَجِيئِهِ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، لَيْسَ اسْتِوَاؤُهُ كَاسْتِوَائِهِمْ، وَلَا مَجِيئُهُ كَمَجِيئِهِمْ.

وَهَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي تُضَافُ إِلَى الْخَالِقِ تَارَةً وَإِلَى الْمَخْلُوقِ أُخْرَى، تُذْكَرُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

تَارَةً تُقَيَّدُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْخَالِقِ أَوْ بِإِضَافَتِهِ إِلَيْهَا، كَقَوْلِهِ

ص: 423

- تَعَالَى -: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 255] الْآيَةَ. {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ} [الذاريات: 58]

وَتَارَةً تَتَقَيَّدُ بِالْمَخْلُوقِ كَقَوْلِهِ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18] .

وَتَارَةً تُطْلَقُ مُجَرَّدَةً.

فَإِذَا قُيِّدَتْ بِالْخَالِقِ، لَمْ تَدُلَّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ.

فَإِذَا قِيلَ: عِلْمُ اللَّهِ وَقُدْرَتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَمَجِيئُهُ وَيَدُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، كَانَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ تُوجِبُ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الرَّبُّ الْخَالِقُ، وَتَمْنَعُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمَخْلُوقُ.

وَكَذَلِكَ إِذَا قِيلَ: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28] كَانَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ تُوجِبُ مَا يَخْتَصُّ بِالْعَبْدِ وَتَمْنَعُ أَنْ يَدْخُلَ فِي ذَلِكَ مَا يَخْتَصُّ بِالرَّبِّ عز وجل.

وَإِذَا جُرِّدَ اللَّفْظُ عَنِ الْقُيُودِ فَذُكِرَ بِوَصْفِ الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ، تَنَاوَلَ الْأَمْرَيْنِ كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُطْلَقُ عَلَى الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ.

وَهَذِهِ لِلنَّاسِ فِيهَا أَقْوَالٌ.

ص: 424

قِيلَ: إِنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي الْخَالِقِ، مَجَازٌ فِي الْمَخْلُوقِ، كَقَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ النَّاشِئِ.

وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ كَقَوْلِ غُلَاةِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ.

وَقِيلَ: حَقِيقَةٌ فِيهِمَا، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.

ثُمَّ قِيلَ: هِيَ مُشْتَرَكَةٌ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا، وَقِيلَ: مُتَوَاطِئَةٌ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.

ثُمَّ مَنْ جَعَلَ الْمُشَكِّكَةَ نَوْعًا مِنَ الْمُتَوَاطِئَةِ لَمْ يَمْتَنِعْ - عِنْدَهُ - إِذَا قِيلَ: مُشَكِّكَةٌ، أَنْ تَكُونَ مُتَوَاطِئَةً، وَمَنْ جَعَلَ ذَلِكَ نَوْعًا آخَرَ جَعَلَهَا مُشَكِّكَةً لَا مُتَوَاطِئَةً.

وَهَذَا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ، فَإِنَّ الْمُتَوَاطِئَةَ التَّوَاطُؤَ الْعَامَّ، يَدْخُلُ فِيهَا الْمُشَكِّكَةُ.

إِذِ الْمُرَادُ بِالْمُشَكِّكَةِ، مَا يَتَفَاضَلُ مَعَانِيهَا فِي مَوَارِدِهَا، كَلَفْظِ الْأَبْيَضِ الَّذِي يُقَالُ عَلَى الْبَيَاضِ الشَّدِيدِ، كَبَيَاضِ الثَّلْجِ، وَالْخَفِيفِ كَبَيَاضِ الْعَاجِ، وَالشَّدِيدُ أَوْلَى بِهِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُسَمَّى الْبَيَاضِ فِي اللُّغَةِ لَا يَخْتَصُّ بِالشَّدِيدِ دُونَ الْخَفِيفِ، فَكَانَ اللَّفْظُ دَالًّا عَلَى مَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْعَامُّ الْكُلِّيُّ، وَهُوَ مُتَوَاطِئٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَهُوَ بِاعْتِبَارِ التَّفَاضُلِ يُسَمَّى مُشَكِّكًا.

وَأَمَّا إِذَا أُرِيدَ بِالتَّوَاطُؤِ، مَا تَسْتَوِي مَعَانِيهِ، كَانَتِ الْمُشَكِّكَةُ نَوْعًا آخَرَ.

ص: 425

لَكِنَّ تَخْصِيصَ لَفْظِ الْمُتَوَاطِئَةِ بِهَذَا عُرْفٌ حَادِثٌ، وَهُوَ خَطَأٌ أَيْضًا.

فَإِنَّ عَامَّةَ الْمَعَانِي الْعَامَّةِ تَتَفَاضَلُ، وَالتَّمَاثُلُ فِيهَا فِي جَمِيعِ مَوَارِدِهَا، بِحَيْثُ لَا تَتَفَاضَلُ فِي شَيْءٍ مِنْ مَوَارِدِهَا، إِمَّا قَلِيلٍ وَإِمَّا مَعْدُومٍ.

فَلَوْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ مُتَوَاطِئَةً بَلْ مُشَكِّكَةً، كَانَ عَامَّةُ الْأَسْمَاءِ الْكُلِّيَّةِ غَيْرَ مُتَوَاطِئَةٍ، وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى إِذَا أَضَافَ إِلَى نَفْسِهِ مَا أَضَافَهُ إِضَافَةً يَخْتَصُّ بِهَا، وَتَمْنَعُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ، وَقَدْ قَالَ مَعَ ذَلِكَ: إِنَّهُ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وَإِنَّهُ (لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَمِيٌّ، كَانَ مَنْ فَهِمَ مِنْ هَذِهِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمَخْلُوقُ - قَدْ أُتِيَ مِنْ سُوءِ فَهْمِهِ وَنَقْصِ عَقْلِهِ، لَا مِنْ قُصُورٍ فِي بَيَانِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ صِفَةٍ وَصِفَةٍ.

فَمَنْ فَهِمَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمَخْلُوقُ مِنْ أَنَّهُ عَرَضٌ مُحْدَثٌ بِاضْطِرَارٍ أَوِ اكْتِسَابٍ، فَمِنْ نَفْسِهِ أُتِيَ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِنَا: عِلْمُ اللَّهِ - مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.

وَكَذَلِكَ مَنْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] الْآيَةَ. {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]

مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمَخْلُوقُ مِنْ جَوَارِحِهِ وَأَعْضَائِهِ، فَمِنْ نَفْسِهِ أُتِيَ،

ص: 426

فَلَيْسَ فِي ظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمَخْلُوقُ كَمَا فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ.

وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] . مَنْ فَهِمَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَخْتَصُّ بِالْمَخْلُوقِ، كَمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ:{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28]

فَمِنْ نَفْسِهِ أُتِيَ، فَإِنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى اسْتِوَاءٍ يُضَافُ إِلَى اللَّهِ عز وجل كَمَا يَدُلُّ فِي تِلْكَ الْآيَةِ عَلَى اسْتِوَاءٍ يُضَافُ إِلَى الْعَبْدِ.

وَإِذَا كَانَ الْمُسْتَوِي لَيْسَ مُمَاثِلًا لِلْمُسْتَوِي، لَمْ يَكُنِ الِاسْتِوَاءُ مُمَاثِلًا لِلِاسْتِوَاءِ.

فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ فَقِيرًا إِلَى مَا اسْتَوَى عَلَيْهِ، يَحْتَاجُ إِلَى حَمْلِهِ.

وَكَانَ الرَّبُّ عز وجل غَنِيًّا عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَالْعَرْشُ وَمَا سِوَاهُ فَقِيرًا إِلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي يَحْمِلُ الْعَرْشَ وَحَمَلَةَ الْعَرْشِ، لَمْ يَلْزَمْ إِذَا كَانَ الْفَقِيرُ مُحْتَاجًا إِلَى مَا اسْتَوَى عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ وَكُلُّ شَيْءٍ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ - مُحْتَاجًا إِلَى مَا اسْتَوَى عَلَيْهِ.

وَلَيْسَ فِي ظَاهِرِ كَلَامِ اللَّهِ عز وجل مَا يَدُلُّ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمَخْلُوقُ مِنْ حَاجَةٍ إِلَى حَامِلٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، بَلْ تَوَهُّمُ هَذَا مِنْ سُوءِ الْفَهْمِ، لَا مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ.

ص: 427

لَكِنْ إِذَا تَخَيَّلَ الْمُتَخَيِّلُ فِي نَفْسِهِ أَنَّ اللَّهَ مِثْلُهُ، تَخَيَّلَ أَنْ يَكُونَ اسْتِوَاؤُهُ كَاسْتِوَائِهِ، وَإِذَا عَرَفَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ، عَلِمَ أَنَّ اسْتِوَاءَهُ لَيْسَ كَاسْتِوَائِهِ، وَمَجِيئَهُ كَمَجِيئِهِ، كَمَا أَنَّ عِلْمَهُ وَقُدْرَتَهُ وَرِضَاهُ وَغَضَبَهُ، لَيْسَ كَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ.

وَمَا بَيْنَ الْأَسْمَاءِ مِنَ الْمَعْنَى الْعَامِّ الْكُلِّيِّ كَمَا بَيْنَ قَوْلِنَا: حَيٌّ وَحَيٌّ، وَعَالِمٌ وَعَالِمٌ. وَهَذَا الْمَعْنَى الْعَامُّ الْكُلِّيُّ الْمُشْتَرَكُ لَا يُوجَدُ عَامًّا كُلِّيًّا مُشْتَرَكًا إِلَّا فِي الْعِلْمِ وَالذِّهْنِ، وَإِلَّا فَالَّذِي فِي الْخَارِجِ أَمْرٌ يَخْتَصُّ بِالْمَوْصُوفِ.

فَصِفَاتُ الرَّبِّ عز وجل مُخْتَصَّةٌ بِهِ، وَصِفَاتُ الْمَخْلُوقِ مُخْتَصَّةٌ بِهِ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا اشْتِرَاكٌ وَلَا بَيْنَ مَخْلُوقٍ وَمَخْلُوقٍ.

الْوَجْهُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُمْ: (لَمَّا كَانَ اعْتِقَادُهُمْ فِي الْبَارِي جَلَّتْ قُدْرَتُهُ أَنَّهُ غَيْرُ ذِي جِسْمٍ) اسْتِعْمَالٌ مِنْهُمْ لِلَفْظِ الْجِسْمِ فِي الْقَدْرِ وَالْغِلَظِ، لَا فِي ذِي الْقَدْرِ وَالْغِلَظِ، وَهَذَا أَحَدُ مَوْرِدَيِ اسْتِعْمَالِهِ، وَهُوَ الْأَشْهَرُ فِي لُغَةِ الْعَامَّةِ، فَيَقُولُونَ: هَذَا الثَّوْبُ لَهُ جِسْمٌ، وَهَذَا لَيْسَ لَهُ جِسْمٌ ; أَيْ هَذَا لَهُ غِلَظٌ وَكَثَافَةٌ دُونَ هَذَا.

وَلَكِنَّ النُّظَّارَ أَكْثَرُ مَا يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ الْجِسْمِ فِي نَفْسِ ذِي الْقَدْرِ، فَيَقُولُونَ لِلْقَائِمِ بِنَفْسِهِ ذِي الْقَدْرِ: إِنَّهُ جِسْمٌ.

وَهَذَا اللَّفْظُ لَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي كَلَامِ النُّظَّارِ، تَفَرَّقُوا فِي مَعَانِيهِ لُغَةً وَعَقْلًا وَشَرْعًا، تَفَرُّقًا ضَلَّ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْجَسَدُ.

ص: 428

قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، كَالْأَصْمَعِيِّ وَأَبِي زَيْدٍ وَغَيْرِهِمَا: الْجِسْمُ هُوَ الْجَسَدُ.

وَهَذَا إِنَّمَا يَسْتَعْمِلُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ فِيمَا كَانَ غَلِيظًا كَثِيفًا، فَلَا يُسَمُّونَ الْهَوَاءَ جِسْمًا وَلَا جَسَدًا، وَيُسَمُّونَ بَدَنَ الْإِنْسَانِ جَسَدًا.

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْجِسْمَ يُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْجَسَدِ، وَيُرَادُ بِهِ قَدْرُ الْجَسَدِ وَغِلَظُهُ، قَالَ تَعَالَى:{وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: 247] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4]

وَقَدْ يُرَادُ بِهِ هَذَا وَهَذَا.

ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ النَّظَرِ اسْتَعْمَلُوا لَفْظَ " الْجَسَدِ " فِي أَعَمَّ مِنْ مَعْنَاهُ فِي

ص: 429

اللُّغَةِ، كَمَا فَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي لَفْظِ " الْجَوْهَرِ " وَلَفْظِ " الْعَرَضِ " وَلَفْظِ " الْوُجُودِ " وَلَفْظِ " الذَّاتِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ.

فَاسْتَعْمَلُوا لَفْظَ " الْجِسْمِ " فِيمَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ وَتُمْكِنُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ الْحِسِّيَّةُ الْمُخْتَلِفَةُ.

ثُمَّ تَنَازَعُوا نِزَاعًا عَقْلِيًّا فِيمَا يُشَارُ إِلَيْهِ، كَالْهَوَاءِ وَالنَّارِ وَالتُّرَابِ وَالْمَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، هَلْ هُوَ مُرَكَّبٌ مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْقِسْمَةَ، أَوْ مِنَ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ، أَوْ لَيْسَ مُرَكَّبًا لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا، عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

فَمَنِ اعْتَرَفَ أَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ هَذَا أَوْ هَذَا، يَلْزَمُهُ - إِذَا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ جِسْمٌ - أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُرَكَّبًا مِنْ هَذَا أَوْ هَذَا.

وَلِهَذَا قَالُوا: إِنَّ هَذَا بَاطِلٌ وَأَوْجَبُوا - عَلَى أَصْلِهِمْ - نَفْيَ مُسَمَّى هَذَا الِاسْمِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ.

وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَيْسَ مُرَكَّبًا لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا، قَالَ: يَلْزَمُنِي إِذَا قُلْتُ: هُوَ جِسْمٌ أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا.

فَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ لَفَظَ " الْجِسْمِ "، وَأَرَادَ بِهِ الْقَائِمَ بِنَفْسِهِ أَوِ الْمَوْجُودَ، كَمَا أَطْلَقَ هَؤُلَاءِ لَفْظَ الْجَوْهَرِ، وَقَالُوا: أَرَدْنَا بِالْجَوْهَرِ الْقَائِمَ بِنَفْسِهِ. وَكَمَا قَالَ هَؤُلَاءِ: لَيْسَ فِي الْوُجُودِ إِلَّا جَوْهَرٌ أَوْ عَرَضٌ.

فَإِنَّ الْوُجُودَ إِمَّا قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ الْجَوْهَرُ، أَوْ بِغَيْرِهِ، وَهُوَ الْعَرَضُ، وَالْجَوْهَرُ أَشْرَفُ الْقِسْمَيْنِ.

ص: 430

وَقَالَ الْآخَرُونَ: لَيْسَ فِي الْوُجُودِ إِلَّا قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ الْجِسْمُ أَوْ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ، وَهُوَ الْعَرَضُ، وَالْجِسْمُ أَشْرَفُ الْقِسْمَيْنِ. وَقَالَ: فَمَا سَمَّاهُ أُولَئِكَ جَوْهَرًا، سَمَّاهُ أُولَئِكَ جِسْمًا، وَكِلَاهُمَا لَيْسَتْ تَسْمِيَتُهُ لُغَوِيَّةً وَلَا شَرْعِيَّةً.

وَإِذَا قَالَ هَؤُلَاءِ: هُوَ جَوْهَرٌ لَا كَالْجَوَاهِرِ، كَمَا يُقَالُ: هُوَ شَيْءٌ لَا كَالْأَشْيَاءِ.

قَالَ أُولَئِكَ: هُوَ جِسْمٌ لَا كَالْأَجْسَامِ، كَمَا يُقَالُ: هُوَ شَيْءٌ لَا كَالْأَشْيَاءِ.

وَإِذَا قَالَ هَؤُلَاءِ: الْجَوْهَرُ يَنْقَسِمُ إِلَى كَثِيفٍ وَلَطِيفٍ، قَالَ أُولَئِكَ: وَالْجِسْمُ يَنْقَسِمُ إِلَى لَطِيفٍ وَكَثِيفٍ.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا، أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَزَّهُوهُ عَمَّا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مِنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقِينَ، وَسَمَّوْهُ جِسْمًا - نِزَاعُهُمْ مَعَ النُّفَاةِ قَدْ يَكُونُ لَفْظِيًّا، كَنِزَاعِ النَّصَارَى فِي لَفْظِ " الْجَوْهَرِ "، وَقَدْ يَكُونُ عَقْلِيًّا، كَنِزَاعِهِمْ فِي الْمُشَارِ إِلَيْهِ، هَلْ هُوَ مُرَكَّبٌ مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ، أَوْ مِنَ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ، أَوْ لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا.

وَمَنْ قَالَ مِنَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ جِسْمٌ، فَيَقُولُ: إِنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ، أَوْ مِنَ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ، فَهَؤُلَاءِ مَذْمُومُونَ لَفْظًا وَمَعْنًى عِنْدَ

ص: 431

جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ النَّصَارَى وَغَيْرُهُمْ يَعْجِزُونَ عَنِ الرَّدِّ عَلَى هَؤُلَاءِ، إِذْ كَانَ مَا يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِي تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ خَصَائِصِ الْأَجْسَامِ طُرُقًا ضَعِيفَةً لَا تَثْبُتُ عَلَى الْمِعْيَارِ الْعَقْلِيِّ، كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.

بِخِلَافِ مَنْ كَانَ نِزَاعُهُ لَفْظِيًّا، فَهَذَا يُذَمُّ إِمَّا لُغَةً وَإِمَّا لُغَةً وَشَرْعًا ; لِكَوْنِهِ أَطْلَقَ لَفْظًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ الشَّرْعُ، أَوِ اسْتَعْمَلَهُ فِي خِلَافِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، كَمَا قَدْ يُذَمُّ النَّافِي لِمِثْلِ ذَلِكَ لُغَةً وَشَرْعًا، إِذَا كَانَ مَعْنَاهُ صَحِيحًا.

وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ النُّفَاةِ أَوِ الْمُثْبِتَةِ نَفَى حَقًّا أَوْ أَثْبَتَ بَاطِلًا، فَهَذَا مَذْمُومٌ ذَمًّا مَعْنَوِيًّا شَرْعًا وَعَقْلًا.

وَأَمَّا الشَّرْعُ، فَالرُّسُلُ وَأَتْبَاعُهُمْ الَّذِينَ مِنْ أُمَّةِ مُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، لَمْ يَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ جِسْمٌ، وَلَا إِنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ، وَلَا إِنَّهُ جَوْهَرٌ، وَلَا إِنَّهُ لَيْسَ بِجَوْهَرٍ.

لَكِنَّ النِّزَاعَ اللُّغَوِيَّ وَالْعَقْلِيَّ وَالشَّرْعِيَّ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ، هُوَ مِمَّا أُحْدِثَ فِي الْمِلَلِ الثَّلَاثِ بَعْدَ انْقِرَاضِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ.

وَالَّذِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الرُّسُلُ وَأَتْبَاعُهُمْ، مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَالتَّوْرَاةُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَلَا تُمَثَّلُ صِفَاتُهُ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، مَعَ إِثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ مِنَ الصِّفَاتِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي صِفَاتِهِ مَا لَيْسَ مِنْهَا، وَيَخْرُجُ مِنْهَا مَا هُوَ دَاخِلٌ فِيهَا.

ص: 432

إِذَا تَبَيَّنَ هَذَا، فَالْمُسْلِمُونَ لَمَّا كَانَ اعْتِقَادُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - مَوْصُوفٌ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَكَانَ مَا أَثْبَتُوهُ لَهُ مِنَ الصِّفَاتِ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ مَلَامٌ ; لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا مَا أَثْبَتَهُ الرُّسُلُ، وَنَفَوْا مَا نَفَتْهُ الرُّسُلُ، فَكَانَ فِي هَذَا النَّفْيِ مَا يَنْفِي الْوَهْمَ الْبَاطِلَ.

بِخِلَافِ مَنْ أَثْبَتَ أُمُورًا لَمْ تَأْتِ بِهَا الرُّسُلُ، وَضَمَّ إِلَيْهَا مَا يُؤَكِّدُ الْمَعْنَى الْبَاطِلَ لَا مَا يَنْفِيهِ، وَكَانَ مِمَّا نَفَوْا عَنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ مُرَكِّبٍ مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ، وَلَا مِنَ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ.

أَمَّا عَلَى أَحَدِ قَوْلَيِ النُّظَّارِ بَلْ أَظْهَرِهِمَا، فَإِنَّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الْقَائِمَةِ بِأَنْفُسِهَا، لَيْسَ مُرَكَّبًا لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا.

فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَحَقُّ بِتَنْزِيهِهِ عَنْ مِثْلِ هَذَا، إِذْ كُلُّ نَقْصٍ نُفِيَ عَنِ الْمَخْلُوقِ، فَالْخَالِقُ أَحَقُّ بِتَنْزِيهِهِ مِنْهُ.

وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ، فَتَارَةً يَقُولُونَ: لِأَنَّ الْمُرَكَّبَ مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ يُمْكِنُ افْتِرَاقُ أَجْزَائِهِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى -، وَتَارَةً يَقُولُونَ: لِأَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إِلَى أَجْزَائِهِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّ اللَّهِ

ص: 433

- تَعَالَى -، إِذْ جُزْؤُهُ غَيْرُهُ، وَالْمُفْتَقِرُ إِلَى غَيْرِهِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ قَدِيمًا أَزَلِيًّا، كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.

ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا يُطْلِقُ مِنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ إِلَّا الْأَلْفَاظَ الشَّرْعِيَّةَ، فَكَمَا لَا يَقُولُ: هُوَ جِسْمٌ وَجَوْهَرٌ، لَا يَقُولُ: لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جَوْهَرٍ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يُطْلِقُ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ، وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يَنْفِيهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُهَا.

وَكُلٌّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ قَدْ يُدْخِلُ فِي ذَلِكَ مَا يُوَافِقُ الشَّرْعَ، وَقَدْ يُدْخِلُ فِي ذَلِكَ مَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ.

وَكُلٌّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ يَدَّعِي النَّظَرَ الْعَقْلِيَّ أَوِ اللُّغَوِيَّ، وَرُبَّمَا اعْتَصَمَ بَعْضُهُمْ بِمَا يَظُنُّهُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا.

وَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَعْتَصِمُونَ فِي ذَلِكَ بِشَرْعٍ، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ شَرْعٌ، وَإِنَّمَا يَتَكَلَّفُونَ تَغْيِيرَ اللُّغَةِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا الرَّسُولُ، ثُمَّ يَحْمِلُونَ أَلْفَاظَهُ عَلَى مَا ابْتَدَعُوهُ مِنَ اللُّغَةِ، كَمَا فَعَلَتْهُ النَّصَارَى فِي حَمْلِ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى مَا ابْتَدَعُوهُ مِنَ اللُّغَةِ.

فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُسَمُّوا عِلْمَ اللَّهِ وَحَيَاتَهُ ابْنًا، وَرُوحَ قُدْسٍ، وَلَا رَبًّا، فَسَمَّى النَّصَارَى عِلْمَهُ وَحَيَاتَهُ ابْنًا، وَرُوحَ قُدُسٍ، وَرَبًّا، ثُمَّ حَمَلُوا كَلَامَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى ذَلِكَ.

كَذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ كَانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَهُمُ الْجَهْمِيَّةَ، أَحْدَثُوا تَسْمِيَةَ الْوَاحِدِ وَالْأَحَدِ وَنَحْوِهُمَا لِمَا لَا يُشَارُ إِلَيْهِ وَيُمَيِّزُ الْحِسُّ مِنْهُ

ص: 434

شَيْئًا عَنْ شَيْءٍ، وَهَذَا خِلَافُ اللُّغَةِ، فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يُسَمُّونَ بِالْوَاحِدِ وَالْوَحِيدِ وَالْأَحَدِ فِي النَّفْيِ لِمَا يُشَارُ إِلَيْهِ وَيُمَيِّزُ الْحِسُّ مِنْهُ شَيْئًا مِنْ شَيْءٍ، قَالَ تَعَالَى:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11] فَسَمَّى الْإِنْسَانَ وَحِيدًا، وَقَالَ تَعَالَى:{وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] فَسَمَّى الْمَرْأَةَ وَاحِدَةً، {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} [القمر: 50] وَقَالَ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] فَسَمَّى الْمُسْتَجِيرَ وَهُوَ الْإِنْسَانُ أَحَدًا.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] فَنَفَى أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ كُفُوًا لَهُ.

ص: 435

فَلَوْ كَانَ مَا يُشَارُ إِلَيْهِ لَا يُسَمَّى أَحَدًا، لَمْ يَكُنْ قَدْ نَزَّهَهُ عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ لَهُ، فَإِنَّ الْمَشْهُودَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا يُشَارُ إِلَيْهَا، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي أَحَدٍ، لَمْ يَكُنْ قَدْ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ مُمَاثَلَتِهَا.

فَهَؤُلَاءِ لَمَّا أَحْدَثُوا أَنَّ مُسَمَّى الْأَحَدِ وَالْوَاحِدِ لَا يَكُونُ مُشَارًا إِلَيْهِ، قَالُوا: وَالرَّبُّ قَدْ سَمَّى نَفْسَهُ أَحَدًا وَوَاحِدًا، فَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ مُشَارًا إِلَيْهِ.

وَلُغَةُ الرَّسُولِ الَّتِي خَاطَبَ بِهَا النَّاسَ لَمْ تَكُنْ مُوَافِقَةً لِمَا ابْتَدَعُوهُ مِنَ اللُّغَةِ.

وَكَذَلِكَ الَّذِينَ قَالُوا: " هُوَ جِسْمٌ " غَيَّرُوا اللُّغَةَ، وَجَعَلُوا الْجِسْمَ اسْمًا لِمَا يُشَارُ إِلَيْهِ، أَوْ لِكُلِّ مَوْجُودٍ، وَلِكُلِّ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ.

ثُمَّ قَالُوا: هُوَ مَوْجُودٌ، أَوْ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، أَوْ مُشَارٌ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ جِسْمًا

وَلَا يُوجَدُ فِي اللُّغَةِ اسْمُ الْجِسْمِ، لَا لِهَذَا، وَلَا لِهَذَا، وَلَا لِهَذَا.

وَقَالُوا: لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ مُشَارًا إِلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ، وَلَا مِنَ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ.

وَقَالَ أُولَئِكَ: بَلْ يَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ مُرَكَّبٍ، يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ جِسْمًا، فَيَلْزَمُ أَنْ يُسَمَّى جِسْمًا، إِذَا قُلْنَا: هُوَ مُشَارٌ إِلَيْهِ، أَوْ يُرَى بِالْأَبْصَارِ، أَوْ مُتَّصِفًا بِصِفَاتٍ تَقُومُ بِهِ.

وَلَيْسَ مَا ذَكَرُوهُ عَنِ اللُّغَةِ بِمُسْتَقِيمٍ، فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا يَعْنُونَ بِالْجِسْمِ الْمُرَكَّبَ، بَلِ الْجِسْمُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْجَسَدُ، وَلَا يُسَمُّونَ الْهَوَاءَ جِسْمًا.

ص: 436

إِذَا تَبَيَّنَ هَذَا، فَتَمْثِيلُ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى بَاطِلٌ، عَلَى قَوْلِ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ.

فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْجِسْمُ - فِي اللُّغَةِ - هُوَ الْمُرَكَّبُ، وَاللَّهُ لَيْسَ بِمُرَكَّبٍ، فَلَيْسَ بِجِسْمٍ. لَا يَقُولُونَ بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ وَجْهٌ يُوَلِّيهِ إِلَى كُلِّ مَكَانٍ، وَجَنْبٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ.

وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِمُرَكَّبٍ، وَسَمَّاهُ جِسْمًا، بِمَعْنَى أَنَّهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، أَوْ لَمْ يُسَمِّهِ جِسْمًا، لَا يَقُولُ بِذَلِكَ أَيْضًا، وَمَنْ حَكَى عَنْهُ يُثْبِتْ لَهُ خَصَائِصَ الْأَجْسَامِ الْمُرَكَّبَةِ، فَهَؤُلَاءِ إِنْ أَطْلَقُوا مَا نَفَاهُ، فَلَا حُجَّةَ لِلنَّصَارَى عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يُطْلِقُوهُ، فَحُجَّتُهُمْ أَبْعَدُ.

فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ حُجَّةٌ عَلَى أَفْسَدِ النَّاسِ قَوْلًا فِي التَّجْسِيمِ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ.

الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنْ يُقَالَ لِهَؤُلَاءِ النَّصَارَى: إِمَّا أَن تَعْنُوا بِلَفْظِ الْجِسْمِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ وَهُوَ الْجَسَدُ، وَإِمَّا أَنْ تَعْنُوا بِهِ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيَّ عِنْدَ أَهْلِ الْكَلَامِ، كَالْمُشَارِ إِلَيْهِ مَثَلًا.

فَإِنْ عَنَيْتُمُ الْأَوَّلَ، لَمْ يَلْزَمْ مِنْ نَفْيِ ذَلِكَ نَفْيُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الصِّفَاتِ لَا سِيَّمَا وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: إِنَّهُ جَوْهَرٌ، وَقَسَّمْتُمُ الْجَوْهَرَ إِلَى لَطِيفٍ وَكَثِيفٍ.

فَإِذَا كَانَ الْكَثِيفُ هُوَ الْجِسْمُ، وَاللَّطِيفُ جَوْهَرٌ لَيْسَ بِجِسْمٍ، لَمْ يَمْتَنِعْ عَلَى مِثْلِ هَذَا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَا يُنَاسِبُهُ مِنَ الصِّفَاتِ كَالْمَلَائِكَةِ،

ص: 437

فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَمْتَنِعُ وَصْفُهَا بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَجْسَامًا عَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ، بَلْ هِيَ جَوَاهِرُ رُوحَانِيَّةٌ، وَكَذَلِكَ رُوحُ الْإِنْسَانِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ، لَا يَمْتَنِعُ وَصْفُهَا بِمَا يُنَاسِبُهَا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ لَيْسَتْ بِجِسْمٍ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ.

فَتَبَيَّنَ أَنَّ نَفْيَ مُسَمَّى الْجِسْمِ اللُّغَوِيِّ عَنِ الشَّيْءِ، لَا يَمْتَنِعُ اتِّصَافُهُ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الصِّفَاتِ وَأَمْثَالِهَا.

وَإِنْ عَنَيْتُمْ بِالْجِسْمِ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ أَوِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، لَمْ يَمْتَنِعْ - عِنْدَكُمْ - أَنْ يَكُونَ جِسْمًا، فَإِنَّكُمْ سَمَّيْتُمُوهُ جَوْهَرًا، وَعَنَيْتُمُ الْقَائِمَ بِنَفْسِهِ.

فَإِنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ كُلَّ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ يُشَارُ إِلَيْهِ، كَانَ أَيْضًا مُشَارًا إِلَيْهِ.

وَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ لَا يُشَارُ إِلَيْهِ، كَانَ جَوْهَرًا وَجِسْمًا عِنْدَ مَنْ يُفَسِّرُ الْجِسْمَ بِالْقَائِمِ بِنَفْسِهِ، وَمَنْ فَسَّرَهُ بِالْمُشَارِ إِلَيْهِ لَمْ يُسَمَّ عِنْدَهُ جِسْمًا، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَلَى - أَصْلِكُمْ - لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُسَمَّى جِسْمًا مَعَ تَسْمِيَتِكُمْ لَهُ جَوْهَرًا، إِلَّا إِذَا ثَبَتَ أَنَّ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ مَا هُوَ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ لَا يُشَارُ إِلَيْهِ، وَهَذَا لَمْ يُقِيمُوا عَلَيْهِ دَلِيلًا، وَلَيْسَ هَذَا قَوْلَ أَهْلِ الْمِلَلِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ، وَقَلِيلٌ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَافَقُوهُمْ.

ثُمَّ يُقَالُ لَكُمْ: أَنْتُمْ قُلْتُمْ: إِنَّهُ حَيٌّ نَاطِقٌ، وَلَهُ حَيَاةٌ وَنُطْقٌ، بَلْ زِدْتُمْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى جَعَلْتُمُوهُ أَقَانِيمَ ثَلَاثَةً.

ص: 438

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَيَاةَ وَالنُّطْقَ لَا تُعْقَلُ إِلَّا صِفَةً قَائِمَةً بِمَوْصُوفٍ، وَلَا يُعْلَمُ مَوْصُوفٌ بِالْحَيَاةِ وَالنُّطْقِ إِلَّا مَا هُوَ مُشَارٌ إِلَيْهِ، بَلْ مَا هُوَ جِسْمٌ كَالْإِنْسَانِ.

فَإِنْ جَازَ لَكُمْ أَنْ تُثْبِتُوا هَذِهِ الْأَعْرَاضَ فِي غَيْرِ جِسْمٍ، جَازَ لِغَيْرِكُمْ أَنْ يُثْبِتَ الْمَجِيءَ وَالْيَدَ وَنَحْوَ ذَلِكَ لِغَيْرِ الْجِسْمِ.

وَإِنْ قُلْتُمْ: هَذَا لَا يُعْقَلُ إِلَّا لِجِسْمٍ، قِيلَ لَكُمْ: وَذَلِكَ لَا يُعْقَلُ إِلَّا لِجِسْمٍ، فَإِنْ رَجَعْتُمْ إِلَى الشَّاهِدِ، كَانَ حُجَّةً عَلَيْكُمْ، وَإِنْ جَازَ لَكُمْ أَنْ تُثْبِتُوا فِي الْغَائِبِ حُكْمًا عَلَى خِلَافِ الشَّاهِدِ، جَازَ لِغَيْرِكُمْ، وَحِينَئِذٍ فَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ مَا نَفَاهُ الْمُسْلِمُونَ وَأَثْبَتُّمُوهُ، لَوْ كَانَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَنْهُمْ مِنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ حَقًّا عَلَى وَجْهِهِ، فَكَيْفَ وَقَدْ وَقَعَ التَّحْرِيفُ فِي الطَّرَفَيْنِ؟

الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ: غَايَةُ مَقْصُودِكُمْ أَنْ تَقُولُوا: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا أَطْلَقُوا أَلْفَاظًا ظَاهِرُهَا كُفْرٌ عِنْدَهُمْ، لِمَجِيءِ النَّصِّ بِهَا، وَهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ ظَاهِرَ مَدْلُولِهَا، كَذَلِكَ نَحْنُ أَطْلَقْنَا هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الَّتِي ظَاهِرُهَا كُفْرٌ، لِمَجِيءِ النَّصِّ بِهَا، وَنَحْنُ لَا نَعْتَقِدُ مَدْلُولَهَا.

فَيُقَالُ لَكُمْ: أَوَّلًا: إِنَّ مَا أَطْلَقَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ نُصُوصِ الصِّفَاتِ أَطْلَقْتُمُوهُ أَنْتُمْ، كَمَا وَرَدَتْ بِهِ التَّوْرَاةُ، فَهَذَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ، وَمَا اخْتَصَصْتُمْ بِهِ مِنَ التَّثْلِيثِ، وَالِاتِّحَادِ لَمْ يَشْرَكُوكُمْ فِيهِ.

ثُمَّ يُقَالُ ثَانِيًا: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَطْلَقُوا أَلْفَاظَ النُّصُوصِ، وَأَنْتُمْ أَطْلَقْتُمْ أَلْفَاظًا لَمْ يَرِدْ بِهَا نَصٌّ.

ص: 439

وَالْمُسْلِمُونَ قَرَنُوا تِلْكَ الْأَلْفَاظَ بِمَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ مِنْ نَفْيِ التَّمْثِيلِ.

وَأَنْتُمْ لَمْ تَقْرِنُوا بِأَلْفَاظِكُمْ مَا يَنْفِي مَا أَثْبَتُّمُوهُ مِنَ التَّثْلِيثِ وَالِاتِّحَادِ.

وَالْمُسْلِمُونَ لَمْ يَعْتَقِدُوا مَعْنًى بَاطِلًا.

وَأَنْتُمُ اعْتَقَدْتُمْ مِنَ التَّثْلِيثِ فِي الْأَقَانِيمِ وَالِاتِّحَادِ مَا هُوَ مَعْنًى بَاطِلٌ.

وَالْمُسْلِمُونَ لَمْ يُسَمُّوا صِفَاتِ اللَّهِ بِأَسْمَاءٍ أَحْدَثُوا تَسْمِيَةَ الصِّفَاتِ بِهَا وَحَمَلُوا كَلَامَ الرُّسُلِ عَلَيْهَا.

وَأَنْتُمْ أَحْدَثْتُمْ لِصِفَاتِ اللَّهِ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهُ أَنْتُمْ بِهَا لَمْ تَسْمَعْهُ الرُّسُلُ، وَحَمَلْتُمْ كَلَامَ الرُّسُلِ عَلَيْهَا.

وَالْمُسْلِمُونَ لَمْ يَعْدِلُوا عَنِ النُّصُوصِ الْكَثِيرَةِ الْمُحْكَمَةِ الْبَيِّنَةِ الْوَاضِحَةِ إِلَى أَلْفَاظٍ قَلِيلَةٍ مُتَشَابِهَةٍ.

وَأَنْتُمْ عَدَلْتُمْ عَنْ هَذَا إِلَى هَذَا.

وَالْمُسْلِمُونَ لَمْ يَضَعُوا لَهُمْ شَرِيعَةَ اعْتِقَادٍ غَيْرِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ.

وَأَنْتُمْ وَضَعْتُمْ شَرِيعَةَ اعْتِقَادٍ غَيْرِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ.

وَالْمُسْلِمُونَ لَمْ يَقُولُوا قَوْلًا لَا يُعْقَلُ.

وَأَنْتُمْ قُلْتُمْ قَوْلًا لَا يُعْقَلُ.

وَالْمُسْلِمُونَ لَمْ يَتَنَاقَضُوا، فَيَجْعَلُوا الْإِلَهَ وَاحِدًا وَيَجْعَلُونَهُ

ص: 440

اثْنَيْنِ، بَلْ ثَلَاثَةً، وَأَنْتُمْ تَنَاقَضْتُمْ.

فَهَذِهِ الْفُرُوقُ وَغَيْرُهَا مِمَّا يُبَيِّنُ فَسَادَ تَشْبِيهِكُمْ أَنْفُسَكُمْ بِالْمُسْلِمِينَ.

الْوَجْهُ الثَّامِنُ: قَوْلُكُمْ: وَكَذَلِكَ - نَحْنُ النَّصَارَى - الْعِلَّةُ فِي قَوْلِنَا: (إِنَّ اللَّهَ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ، أَبٍ، وَابْنٍ، وَرُوحِ قُدُسٍ، أَنَّ الْإِنْجِيلَ نَطَقَ بِهِ.

فَيُقَالُ لَكُمْ: هَذَا بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْطِقْ لَا الْإِنْجِيلُ وَلَا شَيْءٌ مِنَ النُّبُوَّاتِ بِأَنَّ اللَّهَ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ، وَلَا خَصَّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الرَّبَّ بِثَلَاثِ صِفَاتٍ دُونَ غَيْرِهَا، وَلَا قَالَ الْمَسِيحُ وَلَا غَيْرُهُ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْأَبُ وَالِابْنُ وَرُوحُ الْقُدُسِ، وَلَا إِنَّ لَهُ أُقْنُومًا هُوَ الِابْنُ، وَأُقْنُومًا هُوَ رُوحُ الْقُدُسِ، وَلَا قَالَ: إِنَّ الِابْنَ كَلِمَتُهُ أَوْ عِلْمُهُ أَوْ حِكْمَتُهُ أَوْ نُطْقُهُ، وَإِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ حَيَاتُهُ، وَلَا سَمَّى شَيْئًا مِنْ صِفَاتِهِ ابْنًا وَلَا وَلَدًا، وَلَا قَالَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ إِنَّهُ مَوْلُودٌ، وَلَا جَعَلَ الْقَدِيمَ الْأَزَلِيَّ مَوْلُودًا، وَلَا قَالَ لَا عَنْ قَدِيمٍ وَلَا مَخْلُوقٍ، إِنَّهُ إِلَهٌ حَقٌّ مِنْ إِلَهٍ حَقٍّ، وَلَا قَالَ عَنْ صِفَاتِ اللَّهِ إِنَّهَا آلِهَةٌ، وَإِنَّ الْكَلِمَةَ إِلَهٌ وَالرُّوحَ إِلَهٌ، وَلَا قَالَ إِنَّ اللَّهَ اتَّحَدَ لَا بِذَاتِهِ وَلَا بِصِفَاتِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْبَشَرِ، بَلْ هَذَا كُلُّهُ مِمَّا ابْتَدَعْتُمُوهُ وَخَرَجْتُمْ بِهِ عَنِ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ، فَخَالَفْتُمُ الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ وَالْعُقُولَ الصَّرِيحَةَ، وَكُنْتُمْ مِمَّنْ قِيلَ فِيهِمْ:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]

ص: 441

فَإِنَّكُمْ أَنْتُمْ الَّذِينَ سَمَّيْتُمْ نُطْقَ اللَّهِ ابْنًا، وَقُلْتُمْ: سَمَّيْنَاهُ ابْنًا ; لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنْهُ كَمَا يَتَوَلَّدُ الْكَلَامُ مِنَ الْعَقْلِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَيْضًا أَنْ تُسَمُّوا حَيَاتَهُ ابْنًا ; لِأَنَّهَا مُنْبَثِقَةٌ مِنْهُ وَمُتَوَلِّدَةٌ عَنْهُ أَيْضًا، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ عِلْمِ الرَّبِّ وَحَيَاتِهِ.

فَعِلْمُهُ لَازِمٌ لَهُ وَحَيَاتُهُ لَازِمَةٌ لَهُ، فَلِمَاذَا جَعَلْتُمْ هَذَا ابْنًا دُونَ هَذَا.

وَقُلْتُمْ: إِنَّهُ مَوْلُودٌ مِنَ اللَّهِ، وَإِنَّهُ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ، وَأَنْتُمْ تَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يُسَمِّ عِلْمَ اللَّهِ وَلَا كَلَامَهُ وَلَا حِكْمَتَهُ مَوْلُودًا مِنْهُ.

وَالَّذِي يَعْقِلُهُ الْخَلْقُ فِي الْمَوْلُودِ الَّذِي يُولَدُ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا يَتَوَلَّدُ الْعِلْمُ وَالْكَلَامُ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ، أَنَّهُ حَادِثٌ فِيهِ أَوْ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ، لَا يُعْقَلُ أَنَّهُ قَائِمٌ بِهِ، وَأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْهُ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ.

ثُمَّ قُلْتُمْ فِي أَمَانَتِكُمْ، إِنَّهُ تَجَسَّمَ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ، أَوْ مِنْهُ وَمِنْ مَرْيَمَ.

وَهُوَ إِنَّمَا تَجَسَّمَ عِنْدَكُمْ مِنَ الْكَلِمَةِ الَّتِي سَمَّيْتُمُوهَا الِابْنَ دُونَ رُوحِ الْقُدُسِ.

وَإِنْ كَانَ تَجَسَّمَ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ، فَيَكُونُ هُوَ رُوحُ الْقُدُسِ لَا يَكُونُ هُوَ الْكَلِمَةُ الَّتِي هِيَ الِابْنُ.

ثُمَّ تَقُولُونَ: هُوَ كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحُهُ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ أُقْنُومَيْنِ، أُقْنُومَ الْكَلِمَةِ وَأُقْنُومَ الرُّوحِ، وَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَكُمْ أُقْنُومٌ وَاحِدٌ.

ص: 442

فَهَذَا تَنَاقُضٌ وَحَيْرَةٌ، تَجْعَلُونَهُ الِابْنَ الَّذِي هُوَ الْكَلِمَةُ، وَهُوَ أُقْنُومُ الْكَلِمَةِ فَقَطْ

وَتَقُولُونَ: تَجَسَّمَ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ، وَلَا تَقُولُونَ: إِنَّهُ تَجَسَّمَ مِنَ الْكَلِمَةِ.

وَتَقُولُونَ: هُوَ كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحُهُ، وَالْكَلِمَةُ وَالرُّوحُ أُقْنُومَانِ.

وَلَا تَقُولُونَ: إِنَّهُ أُقْنُومَانِ، بَلْ أُقْنُومٌ وَاحِدٌ.

وَتَقُولُونَ: إِنَّهُ خَالِقُ الْعَالَمِ، وَالْخَالِقُ هُوَ الْأَبُ وَتَقُولُونَ: لَيْسَ هُوَ الْأَبُ، وَتَقُولُونَ: إِلَهٌ حَقٌّ مِنْ إِلَهٍ حَقٍّ، وَتَقُولُونَ: إِلَهٌ وَاحِدٌ سَاوَى الْأَبَ فِي الْجَوْهَرِ.

وَتَقُولُونَ: لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَكَيْفَ تُشَبِّهُونَ أَنْفُسَكُمْ بِمَنِ اتَّبَعَ نُصُوصَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَمْ يُحَرِّفْهَا؟

وَغَايَةُ مَا عِنْدَكُمْ مَا وُجِدَ فِي إِنْجِيلِ " مَتَّى " دُونَ سَائِرِ الْأَنَاجِيلِ مِنْ أَنَّ الْمَسِيحَ عليه السلام قَالَ: (عَمِّدُوا النَّاسَ بِاسْمِ الْأَبِ وَالِابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ) .

وَأَنْتُمْ قَدْ عَرَفْتُمْ فِي كَلَامِ الْمَسِيحِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِالِابْنِ صِفَةَ اللَّهِ، لَا كَلَامَهُ وَلَا عِلْمَهُ وَلَا حِكْمَتَهُ.

وَلَا يُرِيدُونَ بِالِابْنِ: إِلَهٌ حَقٌّ مِنْ إِلَهٍ حَقٍّ، وَلَا مَوْلُودٌ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ،

ص: 443

بَلْ يُرِيدُونَ بِهِ وَلِيَّهُ، وَهُوَ نَاسُوتٌ لَا لَاهُوتٌ، كَيَعْقُوبَ وَالْحَوَارِيِّينَ.

وَلَا يُرِيدُونَ بِرُوحِ الْقُدُسِ نَفْسَ حَيَاةِ اللَّهِ، وَلَا يُرِيدُونَ بِهِ أَنَّهُ رَبٌّ حَيٌّ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهَا الْمَلَكَ أَوْ مَا يُنَزِّلُهُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ أَنْبِيَائِهِ وَأَصْفِيَائِهِ مِنَ الْهُدَى وَالتَّأْيِيدِ وَنَحْوَ ذَلِكَ.

فَرُوحُ الْقُدُسِ يَكُونُ عِنْدَكُمْ وَعِنْدَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ، كَمَا كَانَتْ فِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ وَكَانَتْ فِي الْحَوَارِيِّينَ.

فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ لَفْظَ الِابْنِ وُجِدَ فِي كَلَامِ الْمَسِيحِ مُسْتَعْمَلًا تَارَةً فِي كَلِمَةِ اللَّهِ، وَتَارَةً فِي وَلِيِّهِ النَّاسُوتِ، وَرُوحَ الْقُدُسِ مُسْتَعْمَلًا تَارَةً فِي حَيَاتِهِ، وَتَارَةً فِيمَا يُنْزِلُهُ عَلَى قُلُوبِ أَنْبِيَائِهِ - كَانَ جَزْمُكُمْ بِأَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ هُنَا صِفَاتِ اللَّهِ جَزْمًا بَاطِلًا.

فَمَا وُصِفَ بِهِ الْمَسِيحُ مِنْ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، وَمِنْ أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ فِيهِ - قَدْ وُصِفَ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ.

فَإِنْ كَانَ الِابْنُ وَرُوحُ الْقُدُسِ صِفَتَيْنِ لِلَّهِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ الْمَسِيحِ لَاهُوتًا وَنَاسُوتًا كَالْمَسِيحِ، إِذِ الَّذِي حَلَّ فِي الْمَسِيحِ حَلَّ فِي غَيْرِهِ.

ثُمَّ جَزْمُكُمْ بِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ أَقَانِيمُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ صِفَاتٌ ذَاتِيَّةٌ أَوْ جَوْهَرِيَّةٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ إِلَّا هَذِهِ الثَّلَاثَةَ، ثُمَّ تَفَرَّقْتُمْ فِي الثَّلَاثَةِ، هَلِ الْمُرَادُ بِالْأَقَانِيمِ الْوُجُودُ وَالْعِلْمُ وَالْحَيَاةُ، أَوِ الْحِكْمَةُ وَالْكَلَامُ، أَوِ النُّطْقُ

ص: 444

بَدَلَ لَفْظِ الْعِلْمِ، أَوِ الْمُرَادُ الْوُجُودُ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ، بَدَلَ الْحَيَاةِ، أَوِ الْمُرَادُ الْوُجُودُ وَالْحَيَاةُ وَالْقُدْرَةُ، أَوِ الْمُرَادُ الْوُجُودُ مَعَ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ؟ إِلَى أَقْوَالٍ أُخْرَى يَطُولُ أَمْرُهَا.

فَيَا لَيْتَ شِعْرِي، مَا الَّذِي أَرَادَ الْمَسِيحُ بِلَفْظِ الْأَبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي اخْتَلَفْتُمْ فِيهَا، لَوْ كَانَ مُرَادُهُ مَا ادَّعَيْتُمُوهُ مِنَ الْأَقَانِيمِ؟

وَالْأَقَانِيمُ - لَفْظًا وَمَعْنًى - لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، بَلْ قِيلَ فِيهَا: إِنَّهَا لَفْظَةٌ رُومِيَّةٌ، يُفَسِّرُونَهَا تَارَةً بِالْأَصْلِ، وَتَارَةً بِالشَّخْصِ، وَتَارَةً بِالذَّاتِ مَعَ الصِّفَةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا تَارَةً بِالْخَاصَّةِ، وَتَارَةً بِالصِّفَةِ.

فَهَلَّا تَرَكْتُمْ كَلَامَ الْمَسِيحِ عَلَى حَالِهِ، وَلَمْ تُحَرِّفُوهُ هَذِهِ التَّحْرِيفَاتِ.

وَلَقَدْ أَحْسَنَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ إِذْ قَالَ: لَوْ سَأَلْتَ نَصْرَانِيًّا وَابْنَهُ وَابْنَ ابْنِهِ عَمَّا يَعْتَقِدُونَهُ، لِأَخْبَرَكَ كُلُّ وَاحِدٍ بِعَقِيدَةٍ تُخَالِفُ عَقِيدَةَ الْآخَرِ، إِذْ كَانَ أَصْلُ اعْتِقَادِهِمْ جَهْلًا وَضَلَالًا، لَيْسَ مَعَهُمْ عِلْمٌ لَا نَقْلٌ وَلَا عَقْلٌ، فَهُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج: 8]

وَلَيْسَ مَعَهُمْ بِمَا اعْتَقَدُوهُ مِنَ التَّثْلِيثِ وَالِاتِّحَادِ عِلْمٌ، بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ فَضْلًا عَمَّا هُوَ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ عِلْمٌ يَهْتَدُونَ بِهِ، فَلَيْسُوا

ص: 445

بِمُهْتَدِينَ فَضْلًا عَمَّا هُوَ أَخَصُّ مِنَ الْهُدَى وَهُوَ " كِتَابٌ مُنِيرٌ " فَلَيْسَ مَعَهُمْ بِهِ كِتَابٌ مُنِيرٌ.

وَلَوْ تَكَلَّمْتُمْ بِهَذَا الْكَلَامِ، وَقُلْتُمْ: لَا نَفْهَمُ مَعْنَاهُ أَوْ ظَاهِرُهُ بَاطِلٌ، وَلَهُ تَأْوِيلٌ مَقْبُولٌ، كَمَا حَكَيْتُمُوهُ عَمَّنْ تَشَبَّهْتُمْ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنَّهُ يَقُولُهُ فِي الصِّفَاتِ - لَكَانَ هَذَا أَقْرَبَ إِلَى الْقِيَاسِ.

فَكَيْفَ وَالْأَمْرُ بِعَكْسِ مَا ذَكَرْتُمْ؟

وَذَلِكَ يَتَبَيَّنُ بِالْوَجْهِ التَّاسِعِ: وَهُوَ أَنَّكُمْ إِنَّمَا ضَلَلْتُمْ بِعُدُولِكُمْ عَنْ صَرِيحِ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَظَاهِرِهِ، إِلَى مَا تَأَوَّلْتُمُوهُ عَلَيْهِ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا لَفْظُهُ، لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا، فَعَدَلْتُمْ عَنِ الْمُحْكَمِ وَاتَّبَعْتُمُ الْمُتَشَابِهَ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ.

فَلَوْ تَمَسَّكْتُمْ بِظَاهِرِ هَذَا الْكَلَامِ، لَمْ تَضِلُّوا، فَإِنَّ الِابْنَ ظَاهِرُهُ فِي كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ، لَا يُرَادُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، بَلْ يُرَادُ بِهِ وَلِيُّهُ وَحَبِيبُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَرُوحُ الْقُدُسِ يُرَادُ بِهِ صِفَتُهُ، بَلْ يُرَادُ بِهِ وَحْيُهُ وَمَلَكُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَعَدَلْتُمْ عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَمَفْهُومِهِ إِلَى مَعْنًى لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ الْبَتَّةَ، فَكَيْفَ تَدَّعُونَ أَنَّكُمُ اتَّبَعْتُمْ نُصُوصَ الْأَنْبِيَاءِ؟

الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: أَنَّكُمْ بَالَغْتُمْ فِي ذَمِّ الْمَسِيحِ وَإِنْجِيلِهِ، كَمَا بَالَغْتُمْ فِي سَبِّ اللَّهِ وَشَتْمِهِ، وَإِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ ذَمٌّ، فَلَمْ تَرْضَوْا أَنْ تَجْعَلُوا ظَاهِرَ كَلَامِ الْمَسِيحِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ حَتَّى جَعَلْتُمْ ظَاهِرَهُ كُفْرًا لَا تَرْضَوْنَهُ، مِثْلَ ثَلَاثَةِ آلِهَةٍ مُتَّفِقَةٍ أَوْ مُتَفَرِّقَةٍ، أَوْ ثَلَاثَةِ أَجْسَامٍ مُؤَلَّفَةٍ، أَوْ ثَلَاثَةِ أَجْزَاءٍ مُفَرَّقَةٍ، أَوْ ثَلَاثَةِ أَشْخَاصٍ مُرَكَّبَةٍ.

فَهَذَا وَنَحْوُهُ هُوَ الَّذِي ادَّعَيْتُمْ أَنَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمَسِيحِ عليه السلام.

ص: 446

وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهَذَا الظَّاهِرِ، بَلْ تُكَفِّرُونَ قَائِلَهُ، كَمَا يُكَفِّرُ الْمُسْلِمُونَ مَنْ يَقُولُ بِالظَّاهِرِ الَّذِي هُوَ التَّجْسِيمُ وَالتَّمْثِيلُ.

وَهَذَا مَا يَتَضَمَّنُ أَنَّ كَلَامَ الْمَسِيحِ ظَاهِرٌ فِي إِثْبَاتِ ثَلَاثَةِ آلِهَةٍ، وَثَلَاثَةِ أَشْخَاصٍ مُؤَلَّفَةٍ، وَثَلَاثَةِ أَجْزَاءٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَثَلَاثَةِ أَشْخَاصٍ مُرَكَّبَةٍ.

كَمَا زَعَمْتُمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ التَّجْسِيمُ، وَأَنَّكُمْ عَدَلْتُمْ عَنْ هَذَا الظَّاهِرِ إِلَى إِثْبَاتِ الْأَقَانِيمِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي جَعَلْتُمْ فِيهَا كَلِمَةَ اللَّهِ هِيَ ابْنُهُ، وَهُوَ جَوْهَرٌ خَالِقٌ يُسَاوِيهِ فِي الْجَوْهَرِ، وَأَنَّ الْمَسِيحَ هُوَ هَذَا الِابْنُ الْمُسَاوِي لِلْأَبِ فِي الْجَوْهَرِ خَالِقُ الْعَالَمِينَ، وَدَيَّانُ يَوْمِ الدِّينِ وَالْجَالِسُ فَوْقَ الْعَرْشِ عَنْ يَمِينِ الرَّبِّ، وَأَنَّهُ إِلَهٌ حَقٌّ مِنْ إِلَهٍ حَقٍّ، وَالرُّوحُ أَيْضًا إِلَهٌ ثَالِثٌ، وَالْآلِهَةُ الثَّلَاثَةُ إِلَهٌ وَاحِدٌ.

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ فِيهِ مِنْ عَيْبِ الْمَسِيحِ وَذَمِّهِ مَا يَنْتَصِرُ اللَّهُ بِهِ لِلْمَسِيحِ، وَمِمَّنِ افْتَرَى عَلَيْهِ مِنْكُمْ وَمِنْ غَيْرِكُمْ.

فَإِنَّ الْمَسِيحَ عليه السلام عَلَى قَوْلِكُمْ - لَمْ يُفْصِحْ لَكُمْ بِأَمَانَةٍ تَعْتَقِدُونَهَا، وَلَا بِتَوْحِيدٍ تَعْرِفُونَ بِهِ رَبَّكُمْ عز وجل، بَلْ تَكَلَّمَ بِمَا ظَاهِرُهُ إِثْبَاتُ ثَلَاثَةِ آلِهَةٍ، وَثَلَاثَةِ أَجْسَامٍ مُرَكَّبَةٍ، وَثَلَاثَةِ أَجْزَاءٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَأَنَّكُمْ أَنْتُمْ أَصْلَحْتُمْ ذَلِكَ حَتَّى جَعَلْتُمُوهُ ثَلَاثَةَ أَقَانِيمَ، وَوَضَعْتُمْ تِلْكَ الْأَمَانَةَ الْمُخَالِفَةَ لِعُقُولِ ذَوِي الْعُقُولِ، وَلِكُلِّ كِتَابٍ جَاءَ بِهِ رَسُولٌ، مَعَ أَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يَنْطِقْ بِتَثْلِيثٍ قَطُّ، وَلَا بِاتِّحَادٍ، وَلَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.

وَعَمَّدْتُمْ عَلَى مَا نَقَلَهُ " مَتَّى " عَنْهُ دُونَ الثَّلَاثَةِ أَنَّهُ قَالَ: (عَمِّدُوا النَّاسَ بِاسْمِ الْأَبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ) .

ص: 447

وَهَذَا الْكَلَامُ ظَاهِرٌ، بَلْ نَصُّهُ حُجَّةٌ عَلَى خِلَافِ قَوْلِكُمْ، وَأَنَّهُ أَرَادَ بِالِابْنِ نَفْسَهُ، وَهُوَ النَّاسُوتُ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ صِفَةَ اللَّهِ، وَأَرَادَ بِرُوحِ الْقُدُسِ مَا أَيَّدَهُ اللَّهُ بِهِ، أَوْ رُوحَ الْقُدُسِ الَّذِي نَفَخَ فِي أُمِّهِ حَتَّى حَبِلَتْ بِهِ، لَمْ يُرِدْ بِهِ صِفَةَ اللَّهِ - تَعَالَى -.

فَتَأَوَّلْتُمْ كَلَامَهُ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِ، تَأْوِيلًا يُخَالِفُ صَرِيحَ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحَ الْمَنْقُولِ، فَكَيْفَ تَدَّعُونَ أَنَّكُمْ تَمَسَّكْتُمْ بِظَاهِرِ كَلَامِهِ؟

وَلَمَّا كَانَ قَوْلُ النَّصَارَى فِي التَّثْلِيثِ مُتَنَاقِضًا فِي نَفْسِهِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، صَارَ مُجَرَّدُ تَصَوُّرِهِ التَّامِّ كَافِيًا فِي الْعِلْمِ بِفَسَادِهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى دَلِيلٍ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَدِلَّةُ تَظْهَرُ بِفَسَادِهِ.

وَلِهَذَا سَلَكَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْكَلَامِ مَعَهُمْ هَذَا الْمَسْلَكَ، وَهُوَ أَنَّ مُجَرَّدَ تَصَوُّرِ مَذْهَبِهِمْ كَافٍ فِي الْعِلْمِ بِفَسَادِهِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ.

وَقَالُوا: إِنَّ النَّصَارَى نَاقَضَتْ فِي اللَّفْظِ وَأَحَالَتْ فِي الْمَعْنَى، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَدَ مَا يَدَّعُونَ انْتِحَالَهُ لِتَنَاقُضِهِ.

وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الثَّلَاثَةَ وَاحِدٌ، وَالْوَاحِدَ ثَلَاثَةٌ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ اعْتِقَادُهُ ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَقِدَ الْمُعْتَقِدُ فِي شَيْءٍ أَنَّهُ ثَلَاثَةٌ، مَعَ اعْتِقَادِهِ فِيهِ أَنَّهُ وَاحِدٌ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مُتَضَادٌّ.

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَلَيْسَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّهُ ثَلَاثَةٌ، أَوْ أَنَّهُ وَاحِدٌ.

وَلَيْسَ يَحْتَاجُ أَنْ يُعْرَفَ بِدَلِيلٍ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنِ ادَّعَى أَنَّ الْوَاحِدَ ثَلَاثَةٌ، وَأَنَّ الثَّلَاثَةَ وَاحِدٌ ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْقَلُ.

ص: 448

وَهُوَ كَمَنِ ادَّعَى فِي الشَّيْءِ أَنَّهُ مَوْجُودٌ مَعْدُومٌ، أَوْ قَدِيمٌ مُحْدَثٌ، أَوْ فِي الْجِسْمِ أَنَّهُ قَائِمٌ قَاعِدٌ، مُتَحَرِّكٌ سَاكِنٌ.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَتَنَاقُضُهُ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُحْتَاجَ فِيهِ إِلَى دَلَالَةٍ.

وَإِذَا قَالَ النَّصَارَى: إِنَّهُ أَحَدِيُّ الذَّاتِ ثُلَاثِيُّ الصِّفَاتِ.

قِيلَ: لَوِ اقْتَصَرْتُمْ عَلَى قَوْلِكُمْ: إِنَّهُ وَاحِدٌ لَهُ صِفَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ، لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ يُنْكِرُونَ تَخْصِيصَ الصِّفَاتِ بِثَلَاثٍ، فَإِنَّ هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ:

مِنْهَا: أَنَّ الْأَبَ عِنْدَكُمْ هُوَ الْجَوْهَرُ لَيْسَ هُوَ صِفَةٌ، فَلَا يَكُونُ لَهُ صِفَةٌ إِلَّا الْحَيَاةَ وَالْعِلْمَ، فَيَكُونُ جَوْهَرًا وَاحِدًا لَهُ أُقْنُومَانِ، وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمْ ثَلَاثَةَ أَقَانِيمَ.

وَمِنْهَا: أَنَّ صِفَاتِ الرَّبِّ لَا تَنْحَصِرُ فِي الْعِلْمِ وَالْحَيَاةِ، بَلْ هُوَ مَوْصُوفٌ بِالْقُدْرَةِ وَغَيْرِهَا.

وَمِنْهَا: أَنَّكُمْ تَارَةً تُفَسِّرُونِ رُوحَ الْقُدُسِ بِالْحَيَاةِ، وَتَارَةً بِالْقُدْرَةِ، وَتَارَةً بِالْوُجُودِ.

وَتُفَسِّرُونَ الْكَلِمَةَ تَارَةً بِالْعِلْمِ، وَتَارَةً بِالْحِكْمَةِ، وَتَارَةً بِالْكَلَامِ.

فَبُطْلَانُ قَوْلِكُمْ فِي إِثْبَاتِ ثَلَاثِ صِفَاتٍ، كَثِيرٌ وَأَنْتُمْ مَعَ هَذَا تَجْعَلُونَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا إِلَهًا. فَتَجْعَلُونَ الْحَيَاةَ إِلَهًا، وَالْعِلْمَ إِلَهًا، وَهَذَا بَاطِلٌ.

وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُثْبِتِ الصِّفَاتِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَيَرُدُّونَ عَلَيْكُمْ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِذَا قِيلَ: أَلَسْتُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ الْأَبْعَاضَ

ص: 449

الْكَثِيرَةَ تَكُونُ إِنْسَانًا وَاحِدًا، وَالْآحَادَ الْكَثِيرَةَ عَشَرَةً وَاحِدَةً، وَالْأَجْسَامَ الْكَثِيرَةَ دَارًا وَاحِدَةً وَمَدِينَةً وَاحِدَةً، وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى مِمَّا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى، وَأَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى.

فَكَيْفَ عِبْتُمْ ذَلِكَ مِنَ النَّصَارَى؟ وَلِمَ أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ جَوْهَرًا وَاحِدًا؟

قِيلَ: إِنَّ قَوْلَنَا: إِنْسَانٌ وَاحِدٌ، وَدَارٌ وَاحِدَةٌ، وَعَشَرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى، أَسْمَاءٌ تُنْبِئُ عَنِ الْجُمَلِ لَا عَنْ آحَادٍ.

وَإِذَا قُلْنَا: إِنْسَانٌ وَاحِدٌ، فَكَأَنَّا قُلْنَا: جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَكَذَلِكَ إِذَا قُلْنَا: عَشَرَةٌ وَاحِدَةٌ، لَا أَنَّا نُثْبِتُهُ وَاحِدًا فِي الْحَقِيقَةِ.

كَيْفَ وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ أَبْعَاضَ الْإِنْسَانِ مُتَغَايِرَةٌ، فَكُلُّ بَعْضٍ مِنْهَا غَيْرُ سَائِرِهَا، وَكَذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَشَرَةِ غَيْرُ سَائِرِهَا؟

فَنَحْنُ وَإِنْ قُلْنَا: إِنْسَانٌ وَاحِدٌ، فَلَسْنَا نُثْبِتُهُ شَيْئًا وَاحِدًا فِي نَفْسِهِ، وَلَوْ أَثْبَتْنَا ذَلِكَ، لَتَنَاقَضْنَا مُنَاقَضَةَ النَّصَارَى، وَإِنَّمَا قُلْنَا: هِيَ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ قَالَتِ النَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ، لَمْ تَتَنَاقَضْ، حَتَّى يَزْعُمُوا أَنَّهَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ جُمْلَةً وَاحِدَةً.

فَيَكُونُ مُرَادُهُمْ فِي ذَلِكَ بِوَصْفِهِمُ الْأَقَانِيمَ الثَّلَاثَةَ، بِأَنَّهَا جَوْهَرٌ وَاحِدٌ مِمَّا نُرِيدُ بِقَوْلِنَا: الْأَبْعَاضُ الْكَثِيرَةُ - أَنَّهُ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ.

فَيَكُونُ وَصْفُهُمْ لَهَا بِأَنَّهَا جَوْهَرٌ، إِنَّمَا يُنْبِئُ أَنَّهَا جُمْلَةً، وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ، وَلَا يَعْتَقِدُونَهُ وَلَا يَجْعَلُونَ لَهُ مَعْنًى ; لِأَنَّهُمْ لَا يُعْطُونَ

ص: 450

حَقِيقَةَ التَّثْلِيثِ، فَيُثْبِتُونَ الْأَقَانِيمَ الثَّلَاثَةَ مُتَغَايِرَةً، وَلَا حَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ، فَيُثْبِتُونَ الْقَدِيمَ وَاحِدًا لَيْسَ بِاثْنَيْنِ وَلَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَا قَالُوهُ هُوَ شَيْءٌ لَا يُعْقَلُ، وَلَا يَصْلُحُ اعْتِقَادُهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُعَارَضُوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِكُلِّ حَالٍ.

فَيُقَالُ لَهُمْ: إِذَا جَازَ عِنْدَكُمْ أَنْ تَكُونَ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ جَوْهَرًا وَاحِدًا، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ثَلَاثَةُ آلِهَةٍ جَوْهَرًا وَاحِدًا، وَثَلَاثَةُ فَاعِلِينَ جَوْهَرًا وَاحِدًا، وَثَلَاثَةُ أَغْيَارٍ جَوْهَرًا وَاحِدًا، وَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ جَوْهَرًا وَاحِدًا، وَثَلَاثَةُ قَادِرِينَ جَوْهَرًا وَاحِدًا، وَكُلُّ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ جَوْهَرًا وَاحِدًا، وَكُلُّ مَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى مِنَ الْمُعَارَضَةِ؟ فَلَا يَجِدُونَ فَصْلًا.

الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّ غُلَاةَ الْمُجَسِّمَةِ الَّذِينَ يُكَفِّرُهُمُ الْمُسْلِمُونَ أَحْسَنُ حَالًا مِنْكُمْ شَرْعًا وَعَقْلًا، وَهُمْ أَقَلُّ مُخَالَفَةً لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ مِنْكُمْ.

فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ خَيْرًا مِنْكُمْ، فَكَيْفَ تُشَبِّهُونَ أَنْفُسَكُمْ بِمَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَا يَقُولُونَ لَا بِتَمْثِيلٍ وَلَا بِتَعْطِيلٍ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَسَائِرَ كُتُبِ اللَّهِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَأْثُورٌ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِ نُصُوصٌ كَثِيرَةٌ صَرِيحَةٌ ظَاهِرَةٌ وَاضِحَةٌ فِي وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَهُوَ مُسَمًّى فِيهَا بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، مَوْصُوفٌ بِالصِّفَاتِ الْعُلَى، وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ لَهُ، لَيْسَ فِيهِ

ص: 451

تَثْلِيثٌ وَلَا اتِّحَادُ الْخَالِقِ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، لَا الْمَسِيحِ وَلَا غَيْرِهِ.

وَفِيهَا أَلْفَاظٌ قَلِيلَةٌ مُشْكِلَةٌ مُتَشَابِهَةٌ، وَهِيَ - مَعَ ذَلِكَ - لَا تَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ التَّثْلِيثِ وَالِاتِّحَادِ، لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا، وَلَكِنَّ بَعْضَهَا يَحْتَمِلُ بَعْضَ مَا قُلْتُمْ، وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ يَحْتَمِلُ جَمِيعَ مَا قُلْتُمْ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا فِيهِ أَوْ نَصًّا، بَلْ بَعْضُهَا يَحْتَمِلُ بَعْضَ قَوْلِكُمْ.

فَأَخَذْتُمْ ذَلِكَ الْمُحْتَمَلِ وَضَمَمْتُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ الصَّرِيحِ وَالتَّنَاقُضِ الْقَبِيحِ مَا صَيَّرْتُمُوهُ أَمَانَةً لَكُمْ ; (أَيْ عَقِيدَةَ إِيمَانٍ لَكُمْ) .

وَلَوْ كَانَتْ كُلُّهَا تَحْتَمِلُ جَمِيعَ مَا قُلْتُمْ، لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنِ النَّصِّ وَالظَّاهِرِ إِلَى الْمُحْتَمَلِ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهَا ظَاهِرًا فِيمَا قُلْتُمْ، لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنِ النُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ إِلَى الظَّاهِرِ الْمُحْتَمَلِ.

وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ فِيهَا نُصُوصًا صَرِيحَةً قَدْ عَارَضَتْهَا نُصُوصٌ أُخْرَىَ صَرِيحَةٌ، لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَنْظُرُوا بِنُورِ اللَّهِ الَّذِي أَيَّدَ بِهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يُوَافِقُ صَرِيحَ الْمَعْقُولِ وَسَائِرَ كُتُبِ اللَّهِ، وَذَلِكَ النَّصُّ الْآخَرُ إِنْ فَهِمُوا تَفْسِيرَهُ، وَإِلَّا فَوَّضُوا مَعْنَاهُ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - إِنْ كَانَ ثَابِتًا عَنِ الْأَنْبِيَاءِ.

وَهَؤُلَاءِ عَدَلُوا عَمَّا يُعْلَمُ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ، وَعَمَّا يُعْلَمُ بِنُصُوصِ

ص: 452

الْأَنْبِيَاءِ الْكَثِيرَةِ، إِلَى مَا يَحْتَمِلُهُ بَعْضُ الْأَلْفَاظِ لِمُوَافَقَتِهِ لِهَوَاهُمْ، فَلَمْ يَتَّبِعُوا:{إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23]

وَأَمَّا كُفَّارُ الْمُجَسِّمَةِ، فَهَؤُلَاءِ أَعْذَرُ وَأَقَلُّ كُفْرًا مِنَ النَّصَارَى، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ كَمَا يَقُولُهُ مَعَهُمُ النُّفَاةُ: إِنَّ ظَوَاهِرَ جَمِيعِ الْكُتُبِ هُوَ التَّجْسِيمُ.

فَفِي التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي ظَاهِرُهَا التَّجْسِيمُ مَا لَا يُحْصَى.

وَلَيْسَ فِيهَا نَصٌّ بِمَا يَقُولُهُ النُّفَاةُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِدَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجِهِ، وَلَا مُتَّصِلٌ بِهِ وَلَا مُنْفَصِلٌ عَنْهُ، وَلَا هُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَلَا يُشَارُ إِلَيْهِ، وَلَا يَصَعَدُ إِلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَا يَنْزِلُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَقْرُبُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَدْنُو مِنْ شَيْءٍ، وَلَا يَدْنُو إِلَيْهِ شَيْءٌ، إِلَى نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ النَّفْيِ الَّذِي يَقُولُهُ نُفَاةُ الصِّفَاتِ.

فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ لَا التَّوْرَاةِ وَلَا الْإِنْجِيلِ وَلَا الزَّبُورِ وَلَا الْقُرْآنِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النُّبُوَّاتِ - مِنْ هَذَا حَرْفٌ وَاحِدٌ، وَكُلُّهَا مَمْلُوءَةٌ مِمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ: إِنَّهُ تَجْسِيمٌ.

فَيَقُولُ هَؤُلَاءِ: نَحْنُ اتَّبَعْنَا نُصُوصَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَمْ نَعْدِلْ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَلَمْ نَجِدْ فِي نُصُوصِهِمْ نَصًّا مُحْكَمًا صَرِيحًا بِالنَّفْيِ الَّذِي يَقُولُهُ نُفَاةُ الصِّفَاتِ.

ص: 453

وَوَجَدْنَا نُصُوصَهُمْ كُلَّهَا بِالْإِثْبَاتِ الَّذِي يَقُولُونَ: إِنَّهُ تَجْسِيمٌ.

فَكَانَ عَلَى قَوْلِنَا وَقَوْلِهِمْ نُصُوصُ الْأَنْبِيَاءِ ظَاهِرَةً فِي التَّجْسِيمِ، وَلَيْسَ لَهُمْ نَصٌّ يُنَاقِضُ ذَلِكَ، فَاتَّبَعْنَا نُصُوصَهُمْ، وَكُلُّ مَنْ عَارَضَ إِثْبَاتَ الصِّفَاتِ، لَمْ يُعَارِضْهَا بِنُصُوصٍ صَرِيحَةٍ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ، لَكِنْ بِحُجَجٍ عَقْلِيَّةٍ.

فَيَقُولُ هَؤُلَاءِ: إِنَّ النَّصَارَى خَالَفُوا صَرِيحَ الْمَعْقُولِ، وَصَرِيحَ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ، وَاتَّبَعُوا قَلِيلًا مِنْ مُتَشَابِهِ كَلَامِهِمْ، وَنَحْنُ اتَّبَعْنَا نُصُوصَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَمْ نُخَالِفْ شَيْئًا مِنْ صَرِيحِ نُصُوصِهِمْ، وَلَكِنْ مُخَالِفُنَا يَقُولُ: إِنَّا خَالَفْنَا الْعَقْلَ.

وَنَحْنُ نُنَازِعُهُ فِي ذَلِكَ، وَنَدَّعِي أَنَّ الْعَقْلَ مَعَنَا لَا عَلَيْنَا، وَأَنَّ مَا يَدَّعِيهِ مِنَ الْمَعْقُولَاتِ الَّتِي تُعَارِضُ كَلَامَ الْأَنْبِيَاءِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ.

أَوْ يَقُولُونَ: نَحْنُ وَالنَّصَارَى مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّا لَا نُعَارِضُ كَلَامَ الْأَنْبِيَاءِ بِالشُّبَهِ الْعَقْلِيَّةِ، لَكِنْ نَحْنُ اتَّبَعْنَا كَلَامَهُمْ الْمُحْكَمَ الظَّاهِرَ الْكَثِيرَ، الَّذِينَ لَا مُخَالِفَ لَهُ مِنْ كَلَامِهِمْ.

وَهُمْ خَالَفُوا كَلَامَهُمُ الْكَثِيرَ الْمُحْكَمَ، وَاتَّبَعُوا قَلِيلًا مِنَ الْمُتَشَابِهِ.

وَيَقُولُ الْغُلَاةُ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُكَفِّرُهُمْ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَجُمْهُورُهُمْ الَّذِي يَحْكِي عَنْهُمْ: أَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إِلَى الْأَرْضِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، فَيُعَانِقُ الْمُشَاةَ وَيُصَافِحُ الرُّكْبَانَ، وَأَنَّهُ يَتَمَشَّى فِي الْأَرْضِ، يَكُونُ مَوْطِئُ أَقْدَامِهِ مُرُوجًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ.

لَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ بِأَعْجَبَ مِنْ قَوْلِ النَّصَارَى الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ هُوَ الْمَسِيحُ، وَأَنَّ اللَّاهُوتَ وَالنَّاسُوتَ اتَّحَدَا.

ص: 454

فَنَحْنُ نَقُولُ أَيْضًا: إِنَّهُ حَلَّ فِي بَعْضِ الْأَجْسَادِ الْمَخْلُوقَةِ، كَمَا يَقُولُهُ النَّصَارَى.

أَوْ نَقُولُ: إِنَّهُ تَجَسَّدَ كَمَا تَتَجَسَّدُ الْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ، وَهَذَا أَقْرَبُ مِنْ قَوْلِ النَّصَارَى: إِنَّهُ اتَّحَدَ بِجِسْمِ الْمَسِيحِ.

فَإِنَّا قَدْ عَهِدْنَا اللَّطَائِفَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ تَتَصَوَّرُ فِي صُورَةٍ بَشَرِيَّةٍ، وَلَمْ نَعْهَدْ مَلَكًا صَارَ هُوَ وَالْبَشَرُ شَيْئًا وَاحِدًا.

فَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَّحِدَ الْمَلَكُ بِالْبَشَرِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَتَّحِدَ رَبُّ الْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ بِالْبَشَرِ؟

قَالُوا: وَقَدْ يَحُلُّ الْجِنِّيُّ فِي بَدَنِ الْإِنْسِيِّ وَيَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِهِ، إِلَّا أَنَّهُمَا جَوْهَرَانِ وَمَشِيئَتَانِ وَطَبِيعَتَانِ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا اتِّحَادٌ، لَكِنَّهُ دَخَلَ فِيهِ وَتَكَلَّمَ عَلَى لِسَانِهِ.

وَالنَّصَارَى يَقُولُونَ: إِنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ اتَّحَدَ بِالْبَشَرِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: جَوْهَرٌ وَاحِدٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: شَخْصٌ وَاحِدٌ وَأُقْنُومٌ وَاحِدٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَشِيئَةٌ وَاحِدَةٌ، فَلَابُدَّ لِكُلٍّ مِنْهُمْ مِنْ نَوْعِ اتِّحَادٍ، وَهَذَا أَبْعَدُ مِنْ حُلُولِ الْجِنِّيِّ فِي الْإِنْسِيِّ، فَإِذَا كَانَ مَا يَقُولُونَهُ مُمْتَنِعًا فِي الْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ، فَكَيْفَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ؟

ص: 455

وَمِنْ غُلَاةِ الْمُجَسِّمَةِ الْيَهُودِ، مَنْ يُحْكَىعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:(إِنَّ اللَّهَ بَكَى عَلَى الطُّوفَانِ حَتَّى رَمِدَ وَعَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَأَنَّهُ نَدِمَ حَتَّى عَضَّ يَدَهُ وَجَرَى مِنْهُ الدَّمُ) ، وَهَذَا كُفْرٌ وَاضِحٌ صَرِيحٌ، وَلَكِنْ يَقُولُونَ: قَوْلُنَا خَيْرٌ مِنْ قَوْلِ النَّصَارَى، فَإِنَّ النَّصَارَى يَقُولُونَ: (إِنَّهُ أُخِذَ وَضُرِبَ بِالسِّيَاطِ وَبُصِقَ فِي وَجْهِهِ، وَوُضِعَ الشَّوْكُ عَلَى رَأْسِهِ كَالتَّاجِ، وَصُلِبَ بَيْنَ لِصَّيْنِ، وَفُعِلَ بِهِ مِنْ أَقْبَحِ مَا يُفْعَلُ بِاللُّصُوصِ قُطَّاعِ الطُّرُقِ.

وَقَدْ صَرَّحَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِأَنَّ هَذَا فِعْلٌ بِاللَّاهُوتِ وَالنَّاسُوتِ جَمِيعًا.

وَشَرِيعَةُ إِيمَانِهِمْ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ لَازِمٌ لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ مَعَ الْقَوْلِ بِالِاتِّحَادِ الَّذِي لَا بُدَّ لِطَوَائِفِهِمُ الثَّلَاثَةِ مِنْهُ، يَمْتَنِعُ أَنْ تَحُلَّ هَذِهِ الْعُقُوبَاتُ فِي هَذَا دُونَ ذَاكَ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَحُلَّ فِي النَّاسُوتِ دُونَ اللَّاهُوتِ، فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ إِذَا كَانَ اثْنَيْنِ، وَمَنْ قَالَ بِالِاتِّحَادِ، امْتَنَعَ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ اثْنَانِ.

وَفِي الْجُمْلَةِ، فَالنَّصَارَى الْمُثَلِّثَةُ، إِمَّا أَنْ يُصَرِّحُوا بِالِاتِّحَادِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَالْيَعْقُوبِيَّةِ، وَهَؤُلَاءِ يُصَرِّحُونَ بِأَنَّ الْآلَآمَ حَلَّتْ بِاللَّاهُوتِ.

وَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا بِالِاتِّحَادِ مِنْ وَجْهٍ كَقَوْلِ الْمَلَكِيَّةِ: إِنَّهُمَا شَخْصٌ

ص: 456

وَاحِدٌ، وَقَوْلُ النُّسْطُورِيَّةِ: هُمَا مَشِيئَةٌ وَاحِدَةٌ.

وَحِينَئِذٍ فَمَا قَالُوهُ مِنَ التَّعَدُّدِ الَّذِي يُوجِبُ الْمُبَايَنَةَ، وَأَنَّهُ لَا يَتَّصِفُ أَحَدُهُمَا بِمَا يَتَّصِفُ بِهِ الْآخَرُ، وَلَا يَحُلُّ بِهِ مَا حَلَّ بِهِ، فَيَكُونُ مُتَنَاقِضًا لِهَذَا.

فَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِمْ أَنْ يَتَنَاقَضُوا فِي الِاتِّحَادِ، كَمَا تَنَاقَضُوا فِي التَّثْلِيثِ، وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ خِيَارِ هَؤُلَاءِ يَتَكَلَّمُونَ بِالْكُفْرِ وَبِمَا يُنَاقِضُهُ، وَبِالتَّوْحِيدِ وَبِمَا يُنَاقِضُهُ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ بِنَفْسِهِ مِنْ نَدَمٍ وَبُكَاءٍ وَحُزْنٍ، هُوَ دُونَ مَا يَفْعَلُهُ أَعْدَاؤُهُ بِهِ مِنْ ضَرْبٍ وَصَفْعٍ وَجَعْلِ الشَّوْكِ عَلَى رَأْسِهِ، وَصَلْبِهِ بَيْنَ لِصَّيْنِ، وَأَنَّ اسْتِغَاثَتَهُ بِمَنْ يُخَلِّصُهُ مِنْ ذَلِكَ أَشَدُّ نَقْصًا مِنْ نَدَمِهِ وَحُزْنِهِ.

وَإِنْ قَالُوا: فَعَلَ هَذَا حَتَّى يُعَلِّمَ عِبَادَهُ التَّشَبُّهَ بِهِ - أَمْكَنَ أُولَئِكَ الْمُجَسِّمَةَ الْكَفَرَةَ أَنْ يَقُولُوا: بَكَى وَنَدِمَ وَعَضَّ يَدَهُ نَدَمًا حَتَّى جَرَى الدَّمُ، حَتَّى يُعَلِّمَ عِبَادَهُ التَّوْبَةَ مِنَ الذُّنُوبِ.

فَفِي الْجُمْلَةِ، مَا قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ قَوْلًا فِي اللَّهِ، إِلَّا وَقَوْلُ النَّصَارَى أَقْبَحُ مِنْهُ.

وَلِهَذَا، كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رضي الله عنه يَقُولُ: لَا تَرْحَمُوهُمْ، فَلَقَدْ سَبُّوا اللَّهَ مَسَبَّةً مَا سَبَّهُ إِيَّاهَا أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ، وَلِهَذَا يُعَظِّمُ اللَّهُ فِرْيَتَهُمْ

ص: 457

عَلَى اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ أَشَدَّ مِنْ تَعْظِيمِ افْتِرَاءِ غَيْرِهِمْ كَقَوْلِهِ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا - لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا - تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا - أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا - وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا - إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا - لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا - وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 88 - 95] .

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:( «يَقُولُ اللَّهُ عز وجل كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ، وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ» ) .

وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( «قَالَ اللَّهُ عز وجل: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ، فَزَعَمَ أَنِّي لَا أَقْدِرُ أَنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لِي وَلَدٌ، فَسُبْحَانِي أَنْ أَتَّخِذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا» ) .

ص: 458

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «مَا أَحَدٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ عز وجل إِنَّهُ يُشْرَكُ بِهِ وَيُجْعَلُ لَهُ نِدٌّ وَهُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ» .)

الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْتَقِدُ فِي التَّجْسِيمِ مَا يَعْتَقِدُ، يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ كَمَا يَقُولُهُ النَّصَارَى، فَإِنَّ النَّصَارَى عَمَدُوا إِلَى مَا هُوَ جَسَدٌ مِنْ جِنْسِ سَائِرِ أَجْسَادِ بَنِي آدَمَ، قَالُوا: إِنَّهُ إِلَهٌ تَامٌّ وَإِنْسَانٌ تَامٌّ، وَلَيْسَ فِيهِ مِنَ الْإِلَهِيَّةِ شَيْءٌ، فَمَا بَقِيَ مَعَ هَذَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُعْتَقَدَ فِي نَظَائِرِهِ مَا يُعْتَقَدُ فِيهِ.

فَلَوْ قَالَ الْقَائِلُ: إِنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ كَانَ هُوَ اللَّهُ، لَمْ يَكُنْ هَذَا أَبْعَدَ مِنْ قَوْلِ النَّصَارَى، فَإِنَّ مُعْجِزَاتِ مُوسَى كَانَتْ أَعْظَمَ وَانْتِصَارَهُ عَلَى عَدْوِهِ أَظْهَرَ، وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ إِلَهًا لِهَارُونَ وَلِفِرْعَوْنَ.

فَإِذَا قِيلَ فِيهِ مَا قَالُوهُ فِي الْمَسِيحِ: إِنَّهُ أَظْهَرَ الْمُعْجِزَ بِلَاهُوتِهِ، وَأَظْهَرَ الْعُبُودِيَّةَ بِنَاسُوتِهِ، لَمْ يَكُنْ بُطْلَانُ هَذَا أَظْهَرَ مِنْ بُطْلَانِ قَوْلِ النَّصَارَى، بَلْ مَتَى جَوَّزُوا اتِّحَادَ اللَّاهُوتِ بِالنَّاسُوتِ، لَمْ يُمْكِنْهُمْ دَفْعُ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ يُدَّعَى فِيهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ خَاصٍّ، بَلْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ حَلَّ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْقَدَادِيسِ، لَمْ يُمْكِنْهُمْ نَفْيُ ذَلِكَ.

وَإِذَا قَالُوا: لَمْ يُخْبِرْ بِذَلِكَ أَحَدٌ، وَلَمْ يُبَشِّرْ بِهِ نَبِيٌّ، أَوْ هَذَا غَيْرُ مَعْلُومٍ.

ص: 459

قِيلَ لَهُمْ: غَايَةُ هَذَا كُلِّهِ، أَنَّكُمْ لَا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقُمْ عِنْدَكُمْ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَعَدَمُ الْعِلْمِ لَيْسَ عِلْمًا بِالْعَدَمِ، فَعَدَمُ عِلْمِكُمْ وَعَدَمُ عِلْمِ غَيْرِكُمْ بِالشَّيْءِ، لَيْسَ عِلْمًا بِعَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ.

وَكَذَلِكَ عَدَمُ الدَّلِيلِ الْمُعَيَّنِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِذَا عُدِمَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ عَدَمُ الْخَالِقِ، فَلَا يَجُوزُ نَفْيُ الشَّيْءِ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الدَّلِيلِ مُسْتَلْزِمًا لِعَدَمِهِ، كَالْأُمُورِ الَّتِي تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ عَلَى نَقْلِهَا، إِذَا لَمْ يُنْقَلْ عُلِمَ انْتِفَاؤُهَا.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّكُمْ - مَعَ الْعَدَمِ - يُمْكِنُكُمُ النَّفْيُ الْعَامُّ عَنْ غَيْرِ الْمَسِيحِ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الدَّلِيلِ عَدَمُ الْمَدْلُولِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لَا سِيَّمَا وَهُوَ كَانَ مُتَّحِدًا بِالْمَسِيحِ عِنْدَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَمَعَ هَذَا فَكَانَ يُخْفِي نَفْسَهُ وَلَا يُظْهِرُ إِلَّا الْعُبُودِيَّةَ.

فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: هَكَذَا كَانَ مُتَّحِدًا بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَلَكِنْ أَخْفَى نَفْسَهُ لِحِكْمَةٍ لَهُ فِي ذَلِكَ، أَوْ أَظْهَرَ عَلَى نَفْسِهِ بَعْضَ خَوَاصِّ عِبَادِهِ، أَوْ أَظْهَرَ لِطَائِفَةٍ لَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا خَبَرُهُمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ، لَمْ يُمْكِنْ مَعَ تَصْدِيقِ النَّصَارَى فِيمَا يَدَّعُونَهُ الْجَزْمُ بِكَذِبِ هَؤُلَاءِ، بَلْ مَنْ جَوَّزَ قَوْلَ النَّصَارَى، جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ مُتَّحِدًا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَجْسَامِ، فَيَجْعَلُ كَثِيرًا مِنَ الْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ هِيَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، إِذْ كَانَتْ لَيْسَ هُوَ مُتَّحِدًا بِهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.

ص: 460

فَإِذَا اعْتَقَدُوا الِاتِّحَادَ فِيهَا، كَمَا اعْتَقَدَتْهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ، لَمْ يَكُنْ ثَمَّ إِلَهٌ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا ذَلِكَ الْجِسْمَ النَّاسُوتِيَّ الْمَخْلُوقَ.

لَكِنْ ظَنَّ الضَّالُّ أَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، كَمَا ظَنَّ عُبَّادُ الْعِجْلِ أَنَّ الْعِجْلَ إِلَهُ مُوسَى. فَإِذَا جَازَ أَنْ يَتَّحِدَ الرَّبُّ عز وجل بِبَعْضِ الْأَجْسَامِ، لَمْ يُنْكَرْ عَلَى أَصْحَابِ الْعِجْلِ إِذَا جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ رَبُّ الْعَالَمِينَ اتَّحَدَ بِالْعِجْلِ، وَقَدْ رَأَوْا مِنْهُ نَوْعَ خَرْقِ عَادَةٍ. فَلَيْسَ لِلنَّصَارَى أَنْ يُنْكِرُوا عَلَى عُبَّادِ الْعِجْلِ وَلَا عُبَّادِ شَيْءٍ مِنَ الْأَصْنَامِ إِذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ عز وجل حَلَّ فِيهَا عِنْدَهُمْ إِنْ لَمْ يُقِيمُوا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الرَّبَّ لَمْ يَحُلَّ فِي ذَلِكَ.

فَإِذَا قِيلَ: إِنَّ مُوسَى عليه السلام أَنْكَرَ عَلَى عُبَّادِ الْعِجْلِ.

قِيلَ: نَعَمْ. وَمُوسَى يُنْكِرُ عَلَى كُلِّ مَنْ عَبَدَ شَيْئًا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، حَتَّى لَوْ عَبَدَ أَحَدٌ الشَّجَرَةَ الَّتِي كَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْهَا لَأَنْكَرَ عَلَيْهِ، فَإِنْكَارُهُ عَلَى النَّصَارَى أَعْظَمُ.

وَمُوسَى عليه السلام لَمْ يَقُلْ قَطُّ: إِنَّ اللَّهَ يَتَّحِدُ بِشَيْءٍ مَعَ الْمَخْلُوقَاتِ وَيَحُلُّ فِيهِ، بَلْ أَخْبَرَ مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ عز وجل بِمَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ.

فَفِي التَّوْرَاةِ مِنْ نَهْيِهِ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَى اللَّهِ وَمِنْ تَعْظِيمِ أَمْرِهِ وَعُقُوبَةِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ، وَبِمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ عز وجل مَا يُنَاقِضُ قَوْلَ النَّصَارَى.

ص: 461

وَلِهَذَا كَانَ مَنْ تَدَبَّرَ التَّوْرَاةَ وَغَيْرَهَا مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام مِنَ النَّصَارَى، تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ دِينَهُمْ يُنَاقِضُ دِينَ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ، وَأَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّثْلِيثِ وَالِاتِّحَادِ وَالشِّرْكِ، لَمْ يُبْعَثْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام.

وَمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ دُعَاءِ الْمَخْلُوقِينَ كَالْمَلَائِكَةِ، أَوْ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ الَّذِينَ مَاتُوا، مِثْلَ دُعَائِهِمْ مَرْيَمَ وَغَيْرِهَا، وَطَلَبِهِمْ مِنَ الْأَمْوَاتِ الشَّفَاعَةَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ - لَمْ يُبْعَثْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَكَيْفَ وَقَدْ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ لِيَكُونَ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَصْحَابِهَا، وَيَدْعُونَ تِلْكَ الصُّوَرَ؟

وَإِنْ قَصَدُوا دُعَاءَ أَصْحَابِهَا، فَهُمْ إِذَا صَرَّحُوا بِدُعَاءِ أَصْحَابِهَا وَطَلَبُوا مِنْهُمُ الشَّفَاعَةَ وَهُمْ مَوْتَى وَغَائِبُونَ، كَانُوا مُشْرِكِينَ.

فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الدُّعَاءُ فِي الظَّاهِرِ لِتَمَاثِيلِهِمُ الْمُصَوَّرَةِ، وَهَذَا مِمَّا يَعْتَرِفُ حُذَّاقُ عُلَمَائِهِمْ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِدِينِ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ.

وَلِهَذَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ تَنَازُعٌ فِي اتِّخَاذِ الصُّوَرِ فِي الْكَنَائِسِ لَمَّا ابْتَدَعَهُ بَعْضُهُمْ، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي أَخْبَارِهِمْ، وَلَمْ يَأْتِ مَنِ ابْتَدَعَ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ.

وَالْمُجَسِّمَةُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ، وَأَنَّهُ عَظِيمٌ جِدًّا، لَا يَقُولُونَ: إِنَّهُ مُتَّحِدٌ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ، وَلَا يَحُلُّ فِيهَا. فَمَنْ

ص: 462

قَالَ بِاتِّحَادِهِ وَحُلُولِهِ فِيهَا، كَانَ قَوْلُهُ شَرًّا مِنْ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْمُجَسِّمَةِ.

كَمَا أَنَّ الْمُتَفَلْسِفَةَ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِأَنَّ الْأَفْلَاكَ أَجْسَامٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ وَاجِبَةٌ بِنَفْسِهَا أَوَّلُهَا عِلَّةٌ تَتَشَبَّهُ بِهَا كَمَا يَقُولُهُ " أَرِسْطُو " وَذَوُوهُ، أَوْ يُثْبِتُونَ لَهَا عِلَّةً فَاعِلَةً، لَمْ تَزَلْ مُقَارِنَةً لَهَا، كَمَا يَقُولُهُ " ابْنُ سِينَا " وَأَمْثَالُهُ.

وَهَؤُلَاءِ قَوْلُهُمْ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ خَالِقًا خَلَقَهَا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ.

وَلَوْ قَالَ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ: إِنَّ ذَلِكَ جِسْمٌ فَغَايَتُهُ أَنْ يُثْبِتَ جِسْمًا قَدِيمًا أَزَلِيًّا مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ

فَمَنْ أَثْبَتَ جِسْمًا قَدِيمًا أَزَلِيًّا لَيْسَ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، كَانَ قَوْلُهُ شَرًّا مِنْ قَوْلِ هَذَا.

فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُجَسِّمَةَ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ جِسْمًا قَدِيمًا أَزَلِيًّا وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ عَالِمًا بِكُلِّ شَيْءٍ قَادِرًا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مَعَ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ تَحُلُّهُ الْحَوَادِثُ وَتَقُومُ بِهِ الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ - خَيْرٌ مِنْ قَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَفْلَاكَ أَجْسَامٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ وَاجِبَةُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهَا، كَمَا يَقُولُهُ " أَرِسْطُو " وَذَوُوهُ، وَخَيْرٌ مِنَ النَّصَارَى أَيْضًا.

الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ: قَوْلُهُمْ: مَنْ قَالَ: ثَلَاثَةُ آلِهَةٍ مُخْتَلِفَةٍ أَوْ مُتَّفِقَةٍ، أَوْ ثَلَاثَةُ أَشْخَاصٍ مُرَكَّبَةٍ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ وَالتَّكْثِيرَ وَالتَّبْعِيضَ وَالتَّشْبِيهَ - فَنَحْنُ نَلْعَنُهُ وَنُكَفِّرُهُ.

فَيُقَالُ لَهُمْ: وَأَنْتُمْ أَيْضًا تَلْعَنُونَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَسِيحَ لَيْسَ هُوَ إِلَهٌ حَقٌّ مِنْ إِلَهٍ حَقٍّ، وَلَا هُوَ مُسَاوِي الْأَبِ فِي الْجَوْهَرِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ

ص: 463

لَيْسَ بِخَالِقٍ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِجَالِسٍ عَنْ يَمِينِ أَبِيهِ، وَمَنْ قَالَ أَيْضًا: إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ لَيْسَ بِرَبٍّ حَقٍّ مُحْيٍ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ ثَلَاثَةَ أَقَانِيمَ.

وَتَلْعَنُونَ أَيْضًا مَعَ قَوْلِكُمْ إِنَّهُ الْخَالِقُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ الْأَبُ، وَالْأَبُ هُوَ الْخَالِقُ، فَتَلْعَنُونَ مَنْ قَالَ: هُوَ الْأَبُ الْخَالِقُ، وَمَنْ قَالَ: لَيْسَ هُوَ الْخَالِقُ، فَتَجْمَعُونَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ.

فَتَلْعَنُونَ مَنْ جَرَّدَ التَّوْحِيدَ بِلَا شِرْكٍ وَلَا تَثْلِيثٍ، وَمَنْ أَثْبَتَ التَّثْلِيثَ مَعَ انْفِصَالِ كُلِّ وَاحِدٍ عَنِ الْآخَرِ، وَتَجْمَعُونَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ.

فَمَنْ أَثْبَتَ أَحَدَهُمَا مُنْفَكًّا عَنِ الْآخَرِ لَعَنْتُمُوهُ، كَمَنْ قَالَ: عِنْدِي وَاحِدٌ ثَلَاثَةٌ.

فَمَنْ قَالَ: هُوَ وَاحِدٌ لَيْسَ بِثَلَاثَةٍ - كَذَّبَهُ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ ثَلَاثَةٌ لَيْسَ وَاحِدًا - كَذَّبَهُ.

وَمَنْ قَالَ: عِنْدِي شَيْءٌ مَوْجُودٌ مَعْدُومٌ، فَمَنْ قَالَ: هُوَ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِمَعْدُومٍ - كَذَّبَهُ، وَمَنْ قَالَ: مَعْدُومٌ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ - كَذَّبَهُ.

وَمَنْ قَالَ: عِنْدِي شَيْءٌ هُوَ حَيٌّ مَيِّتٌ، هُوَ عَالِمٌ جَاهِلٌ، هُوَ قَادِرٌ عَاجِزٌ، فَمَنْ قَالَ: هُوَ حَيٌّ لَيْسَ بِمَيِّتٍ - كَذَّبَهُ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ مَيِّتٌ لَيْسَ بِحَيٍّ - كَذَّبَهُ.

فَهَكَذَا أَنْتُمْ تَجْمَعُونَ بَيْنَ قَوْلَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ، أَحَدُهُمَا حَقٌّ وَالْآخَرُ بَاطِلٌ.

فَمَنْ قَالَ الْحَقَّ وَنَفَى الْبَاطِلَ لَعَنْتُمُوهُ، وَمَنْ قَالَ الْبَاطِلَ وَنَفَى

ص: 464

الْحَقَّ لَعَنْتُمُوهُ.

وَأَنْتُمْ تُشْبِهُونَ الْمَلَاحِدَةَ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ الَّذِينَ يَسْلُبُونَ عَنْهُ النَّقِيضَيْنِ، أَوْ يَمْتَنِعُونَ عَنْ إِثْبَاتِ أَحَدِ النَّقِيضَيْنِ، فَيَقُولُونَ: لَا نَقُولُ هُوَ حَيٌّ وَلَا لَيْسَ بِحَيٍّ، وَلَا هُوَ عَالِمٌ وَلَا لَيْسَ بِعَالِمٍ، وَلَا قَادِرٌ وَلَا لَيْسَ بِقَادِرٍ.

بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا نَقُولُ: هُوَ مَوْجُودٌ وَلَا مَعْدُومٌ، وَلَا نَقُولُ هُوَ شَيْءٌ وَلَا نَقُولُ لَيْسَ بِشَيْءٍ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَيْسَ بِحَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ، وَلَا عَالِمٍ وَلَا جَاهِلٍ، وَلَا قَادِرٍ وَلَا عَاجِزٍ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا نُطْلِقُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا.

فَيُقَالُ لَهُمْ: رَفْعُ النَّقِيضَيْنِ كَجَمْعِ النَّقِيضَيْنِ، وَالِامْتِنَاعُ عَنْ إِثْبَاتِ أَحَدِ النَّقِيضَيْنِ، كَالِامْتِنَاعِ عَنْ نَفْيِ أَحَدِ النَّقِيضَيْنِ.

وَكَذَلِكَ مَنْ وَصَفَهُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، ثُمَّ وَصَفَهُ بِصِفَاتٍ تَسْتَلْزِمُ عَدَمَهُ، فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ.

وَكُلُّ قَوْلٍ يَتَضَمَّنُ جَمْعَ النَّقِيضَيْنِ وَإِثْبَاتَ الشَّيْءِ وَنَفْيَهُ، أَوْ رَفْعَ النَّقِيضَيْنِ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ - فَهُوَ بَاطِلٌ.

وَالنَّصَارَى فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ أَبْلَغِ النَّاسِ تَنَاقُضًا يَقُولُونَ الشَّيْءَ وَيَقُولُونَ بِمَا يُنَاقِضُهُ، وَيَلْعَنُونَ مَنْ قَالَ هَذَا وَمَنْ قَالَ هَذَا.

وَأَيْضًا فَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ تَلْعَنُ الْأُخْرَى، فَإِنَّ أَهْلَ الْأَمَانَةِ تَلْعَنُ الْأَرْيُوسِيَّةَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ طَوَائِفَ النَّصَارَى، وَهُمْ يَلْعَنُونَكُمْ وَكُلٌّ مِنْ فِرَقِكُمْ

ص: 465

الثَّلَاثَةِ، النُّسْطُورِيَّةِ، وَالْيَعْقُوبِيَّةِ، وَالْمَلَكِيَّةِ، تَلْعَنُ الطَّائِفَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ.

فَأَنْتُمْ وَالْيَعْقُوبِيَّةُ تَلْعَنُونَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ مَرْيَمَ لَمْ تَلِدْ إِلَهًا، وَيَقُولُونَ: إِنَّ مَرْيَمَ وَلَدَتْ إِنْسَانًا تَامًّا إِلَهًا تَامًّا.

وَأَنْتُمُ والنُّسْطُورِيَّةُ تَلْعَنُونَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمَا جَوْهَرٌ وَاحِدٌ بِمَشِيئَةٍ وَاحِدَةٍ وَطَبِيعَةٍ وَاحِدَةٍ.

وَمَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّاهُوتَ تَأَلَّمَ مَعَ قَوْلِكُمْ: إِنَّ اللَّاهُوتَ مَوْلُودٌ مِنْ مَرْيَمَ، وَمَعَ قَوْلِكُمُ: الْمَسِيحُ الَّذِي وَلَدَتْهُ مَرْيَمُ مَاتَ وَصُلِبَ، وَفِي أَقْوَالِكُمْ مِنَ الْعَجَائِبِ الْمُتَنَاقِضَةِ الَّتِي تُوجِبُ أَنَّكُمْ مَلْعُونُونَ، مَا يَطُولُ وَصْفُهُ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ لَاعِنٌ مَلْعُونٌ، فَلَعْنُكُمْ مَنْ قَالَ بِهَذِهِ الْمَقَالَاتِ، لَا يُوجِبُ أَنَّكُمْ عَلَى الْحَقِّ، بَلْ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَلْعُونِينَ عِنْدَكُمْ كَطَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِكُمْ. وَالنَّصَارَى طَوَائِفُ كَثِيرُونَ مُخْتَلِفُونَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا.

وَالطَّوَائِفُ الثَّلَاثَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي الْأَزْمَانِ الْمُتَأَخِّرَةِ مِنْهُمْ - بَعْضُ طَوَائِفِهِمْ، وَإِلَّا فَهُمْ طَوَائِفُ كَثِيرُونَ مُخْتَلِفُونَ فِي التَّثْلِيثِ وَالِاتِّحَادِ.

وَتَجِدُ كُلَّ صِنْفٍ مِنْهُمْ أَوْ غَيْرِهِمْ فِي مَقَالَاتِهِمْ يَحْكِي أَقْوَالًا غَيْرَ الْأَقْوَالِ الَّتِي حَكَاهَا الْآخَرُونَ.

وَمِنْ أَجَلِّ مَنْ جَمَعَ أَخْبَارَهُمْ عِنْدَهُمْ، سَعِيدُ بْنُ الْبِطْرِيقِ بَتْرَكُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ دَوْلَةِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ بَحَثَ لَهُمْ بَحْثًا اسْتَقْصَى فِيهِ - بِزَعْمِهِ - نَصْرَ مَذْهَبِهِمْ، وَهُوَ مَلَكِيٌّ، وَقَدْ ذَكَرْتُ

ص: 466

كَلَامَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

وَفِيهِمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ مَرْيَمَ زَوْجَةُ اللَّهِ، وَفِيهِمْ مَنْ يَجْعَلُهَا إِلَهًا آخَرَ كَالْمَسِيحِ.

وَفِيهِمْ مَنْ يُثْبِتُ أَنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ اللَّهِ، الْوِلَادَةَ الْمَعْقُولَةَ الْمَعْرُوفَةَ مِنَ الْحَيَوَانِ.

وَالْأَمَانَةُ الَّتِي جَعَلُوهَا عَقِيدَتَهُمْ وَأَصْلَ إِيمَانِهِمْ فِي زَمَنِ " قُسْطَنْطِينَ " بَعْدَ الْمَسِيحِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، هِيَ وَغَيْرُهَا مِنْ أَقْوَالِهِمْ الظَّاهِرَةِ تَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ الْمُنْكَرَةِ الْقَبِيحَةِ دَلَالَةً بَيِّنَةً.

لَكِنْ عُلَمَاؤُهُمْ يَتَأَوَّلُونَهَا بِتَأْوِيلَاتٍ تُنَاقِضُ مَدْلُولَهَا، مَعَ فَسَادِ تِلْكَ الْمَعَانِي الَّتِي يَحْمِلُونَهَا عَلَيْهَا عَقْلًا وَشَرْعًا.

وَلَيْسَتْ تِلْكَ أَلْفَاظَ الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى يُقَالَ: حُكْمُهُمْ فِي ذَلِكَ حُكْمُ سَائِرِ الطَّوَائِفِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ، الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا يَرَوْنَهُ مُتَشَابِهًا مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ تَكَلَّمُوا بِمَا لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ، أَوْ إِنَّهُمْ خَاطَبُوا الْجُمْهُورَ بِمَا أَرَادُوا بِهِ تَفْهِيمَهُمْ أُمُورًا يَنْتَفِعُونَ بِهَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذِبًا بَاطِلًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.

فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مِنَ الضَّلَالِ وَالْجَهْلِ مَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي أَلْفَاظِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي لَهَا حُرْمَةُ النُّبُوَّةِ.

ص: 467

بِخِلَافِ النَّصَارَى فَإِنَّهُمْ وَضَعُوا عَقِيدَةً وَشَرِيعَةً، لَيْسَتْ أَلْفَاظُهَا مَنْقُولَةً عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ.

الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ: قَوْلُهُمْ: وَيُرَادُ بِالْأَبِ وَالِابْنِ غَيْرُ أُبُوَّةِ وَبُنُوَّةِ نِكَاحٍ، وَمَنْ أَرَادَ وِلَادَةَ زَوْجَةٍ لَعَنَّاهُ.

فَيُقَالُ: لَفَظُ الْوِلَادَةِ الْمَعْرُوفَةِ، إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ أَصْلَيْنِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِانْفِصَالِ جُزْءٍ مِنَ الْأَصْلَيْنِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِحُدُوثِ الْمَوْلُودِ سَوَاءٌ أُرِيدَ وِلَادَةُ الْحَيَوَانِ أَوْ غَيْرُهَا، كَمَا تَتَوَلَّدُ النَّارُ مِنْ بَيْنِ الزِّنَادَيْنِ، فَإِذَا قُدِحَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، خَرَجَ مِنْهُمَا جُزْءٌ لَطِيفٌ، فَاسْتَحَالَ نَارًا، ثُمَّ سَقَطَ عَلَى الْحِرَاقِ.

وَقَدْ تَوَسَّعَ بَعْضُ النَّاسِ فِي الْوِلَادَةِ حَتَّى عَبَّرَ بِهِ عَمَّا يَحْدُثُ عَنِ الشَّيْءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِانْفِصَالِ جُزْءٍ مِنْهُ، كَتَوَلُّدِ الشُّعَاعِ عَنِ النَّارِ وَالشَّمْسِ وَغَيْرِهَا ; لِأَنَّ هَذَا يَحْدُثُ بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا مَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنَ الشَّمْسِ وَالنَّارِ، وَالثَّانِي الْمَحَلُّ الْقَابِلُ لَهُ الَّذِي يَنْعَكِسُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْجِرْمُ الْمُقَابِلُ لَهُ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الشُّعَاعُ.

فَأَمَّا مَا يَحْدُثُ عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَلَا يُعْرَفُ أَنَّهُ يُسَمَّى وِلَادَةً إِنْ قُدِّرَ وُجُودُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَا يُعْرَفُ مَا يَلْزَمُ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ أَنَّهُ يُسَمَّى وَلَدًا.

فَأَمَّا مَا يَقُومُ بِالْمَوْصُوفِ مِنْ صِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ لَهُ، فَهَذَا أَبْعَدُ

ص: 468

شَيْءٍ عَنْ أَنْ يُسَمَّى هَذَا الْمَلْزُومُ وِلَادَةً، بَلْ لَا تَكُونُ الْوِلَادَةُ إِلَّا عَنْ أَصْلَيْنِ.

وَكُلُّ مَنْ قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ وَلَدًا، لَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ صَاحِبَةٌ بِأَيِّ وَجْهٍ فَسَّرَ الْوِلَادَةَ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ حَادِثٌ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ - بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 100 - 101] . فَاسْتَفْهَمَ تَعَالَى اسْتِفْهَامَ إِنْكَارٍ، لِيُبَيِّنَ امْتِنَاعَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، إِذْ لَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ، فَإِنَّ الْوَلَدَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ أَصْلَيْنِ، وَهَذَا مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُتَفَطَّنَ لَهُ، فَإِنَّ جَعْلَ مَا يَلْزَمُ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ مُتَوَلِّدًا عَنْهُ لَا يُعْرَفُ، لَا سِيَّمَا صِفَاتُهُ الْقَائِمَةُ بِهِ اللَّازِمَةُ لَهُ، كَعِلْمِهِ وَحَيَاتِهِ، لَا سِيَّمَا الصِّفَاتُ الْقَدِيمَةُ الْأَزَلِيَّةُ اللَّازِمَةُ لِذَاتِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مَوْصُوفًا بِهَا، فَإِنَّ صِفَاتَ الْعَبْدِ اللَّازِمَةَ لَهُ، كَحَيَاتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَيْسَتْ مُتَوَلِّدَةً عَنْهُ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ.

وَلَا يَقُولُ عَاقِلٌ يَعْقِلُ مَا يَقُولُ: إِنَّ لَوْنَ السَّمَاءِ وَقَدْرَهَا مُتَوَلِّدٌ عَنْهَا، وَلَا إِنَّ قَدْرَ الشَّمْسِ وَضَوْءَهَا الْقَائِمَ بِهَا اللَّازِمَ لَهَا مُتَوَلِّدٌ عَنْهَا، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ: إِنَّ حَرَارَةَ النَّارِ وَضَوْءَهَا الْقَائِمَ بِهَا مُتَوَلِّدٌ عَنْهَا.

ص: 469

وَإِنَّمَا يُقَالُ: إِنْ قِيلَ فِيمَا لَيْسَ بِقَائِمٍ بِهَا، بَلْ قَائِمٌ بِغَيْرِهَا، أَوْ فِيمَا هُوَ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، كَالشُّعَاعِ الْقَائِمِ بِالْأَرْضِ وَالْحِيطَانِ، وَهَذَا لَيْسَ بِقَائِمٍ بِهَا، بَلْ قَائِمٌ بِغَيْرِهَا، هُوَ حَادِثٌ مُتَوَلِّدٌ عَنْ أَصْلَيْنِ لَا عَنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ.

فَأَمَّا صِفَاتُ الْمَخْلُوقِ الْقَائِمَةُ بِهِ اللَّازِمَةُ لَهُ، فَلَا يَقُولُ أَحَدٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ: إِنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ عَنْهُ.

وَالنَّصَارَى يَزْعُمُونَ أَنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ الَّتِي يُفَسِّرُونَهَا بِعِلْمِهِ أَوْ حِكْمَتِهِ، وَرُوحَ الْقُدُسِ الَّتِي يُفَسِّرُونَهَا بِحَيَاتِهِ وَقُدْرَتِهِ - هِيَ صِفَةٌ لَهُ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ، لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مَوْصُوفًا بِهَا.

وَيَقُولُونَ - مَعَ ذَلِكَ -: إِنَّ الْكَلِمَةَ هِيَ مَوْلُودَةٌ مِنْهُ، فَيَجْعَلُونَ عِلْمَهُ الْقَدِيمَ الْأَزَلِيَّ مُتَوَلِّدًا عَنْهُ، وَلَا يَجْعَلُونَ حَيَاتَهُ الْقَدِيمَةَ الْأَزَلِيَّةَ مُتَوَلِّدَةً عَنْهُ.

وَقَدْ أَصَابُوا فِي أَنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا حَيَاتَهُ مُتَوَلِّدَةً عَنْهُ، لَكِنْ ظَهَرَ بِذَلِكَ بَعْضُ مُنَاقَضَاتِهِمْ وَضَلَالِهِمْ، فَإِنَّهُ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَتْ صِفَةُ الْمَوْصُوفِ الْقَدِيمَةُ اللَّازِمَةُ لِذَاتِهِ يُقَالُ: إِنَّهَا ابْنُهُ وَوَلَدُهُ وَمُتَوَلِّدٌ عَنْهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَتَكُونُ حَيَاتُهُ أَيْضًا ابْنَهُ وَوَلَدَهُ وَمُتَوَلِّدًا عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَلَا يَكُونُ عِلْمُهُ ابْنَهُ وَلَا وَلَدَهُ وَلَا مُتَوَلِّدًا عَنْهُ.

وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ الْمُنْفَصِلَةَ عَنْهُ الْقَائِمَةَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّدِيقَيْنِ، يَقُولُونَ إِنَّهَا وَلَدُهُ وَلَا إِنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ عَنْهُ، بَلْ يَخُصُّونَ

ص: 470

ذَلِكَ بِالْكَلِمَةِ، فَلَا يَنْقُلُونَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُ سَمَّى شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ ابْنًا وَلَا وَلَدًا، وَلَا قَالَ: إِنَّ عِلْمَ اللَّهِ أَوْ كَلَامَهُ أَوْ حِكْمَتَهُ وَلَدُهُ أَوِ ابْنُهُ، أَوْ هُوَ مُتَوَلِّدٌ عَنْهُ.

فَعُلِمَ أَنَّ الْقَوْمَ فِي غَايَةِ التَّنَاقُضِ فِي الْمَعَانِي وَالْأَلْفَاظِ، وَأَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لِلْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ كُلِّهَا، وَلِمَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ مِنَ الْمَعْقُولَاتِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا نَوَامِيسَ عَقْلِيَّةً، وَمُخَالِفُونَ لِجَمِيعِ لُغَاتِ الْآدَمِيِّينَ، وَهَذَا مِمَّا يَظْهَرُ بِهِ فَسَادُ تَمْثِيلِهِمْ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: تَوَلَّدَتِ الْكَلِمَةُ عَنْهُ، كَمَا تُوَلَّدُ الْكَلِمَةُ وَالْحِكْمَةُ فِينَا عَنِ الْعَقْلِ.

فَيُقَالُ لَهُمْ: لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ سَمَّوْا ذَلِكَ تَوَلُّدًا، فَمَا يَتَوَلَّدُ فِينَا حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَحُدُوثُهُ يَتَسَبَّبُ مِنْ فِعْلِنَا وَقُدْرَتِنَا وَمَشِيئَتِنَا.

فَأَمَّا صِفَاتُنَا اللَّازِمَةُ لَنَا، الَّتِي لَا اخْتِيَارَ لَنَا فِي اتِّصَافِنَا بِهَا، وَلَمْ نَزَلْ مُتَّصِفِينَ بِهَا، فَلَا يَقُولُ عَاقِلٌ: إِنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ فِينَا وَعَنَّا.

وَأَنْتُمْ تَجْعَلُونَ صِفَةَ اللَّهِ الْقَدِيمَةَ اللَّازِمَةَ لَهُ الَّتِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مُتَّصِفًا بِهَا، مُتَوَلِّدَةً عَنْهُ.

فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ التَّوَلُّدِ الْعَقْلِيِّ أَمْرٌ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ، لَمْ يَكُنْ لَكُمْ أَنْ تَجْعَلُوا عِلْمَ اللَّهِ وَحِكْمَتَهُ الَّتِي فَسَّرْتُمْ بِهَا كَلِمَتَهُ ابْنًا لَهُ وَمَوْلُودًا مِنْهُ، لَمْ يَزَلْ مَوْلُودًا مِنْهُ ; لِأَنَّ هَذَا بَاطِلٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَلُغَةً.

أَمَّا الْعَقْلُ، فَإِنَّ صِفَةَ الْمَوْصُوفِ اللَّازِمَةَ لَهُ - وَإِنْ كَانَ مَخْلُوقًا -

ص: 471

لَيْسَتْ مُتَوَلِّدَةً عَنْهُ، فَكَيْفَ الصِّفَةُ الْقَدِيمَةُ لِلْمَوْصُوفِ الْقَدِيمِ؟

وَلَوْ جَازَ هَذَا، جَازَ أَنْ يُجْعَلَ مَا كَانَ لَازِمًا لِغَيْرِهِ وَلَدًا لَهُ وَمَوْلُودًا مِنْهُ، فَيُجْعَلُ كَيْفِيَّاتُ الْأَشْيَاءِ وَكِمِّيَّاتُهَا مُتَوَلِّدَةً عَنْهَا وَأَمْثَالِهَا.

وَيُقَالُ: إِنَّ طُولَ الْجِسْمِ وَعَرْضَهُ وَعُمْقَهُ مُتَوَلِّدٌ عَنْهُ، وَإِنَّ حَيَاةَ الْحَيِّ مُتَوَلِّدَةٌ عَنْهُ، وَإِنَّ الْقُوَى وَالطَّبَايِعَ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مُتَوَلِّدَةٌ عَنْهَا.

وَأَمَّا الشَّرْعُ، فَإِنَّ هَذَا لَوْ كَانَ مُتَوَلِّدًا وَهُوَ فِي بَعْضِ اللُّغَاتِ يُسَمَّى وَلَدًا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى ذَلِكَ كَلَامُ الْأَنْبِيَاءِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي لُغَتِهِمْ يُسَمَّى وَلَدًا.

وَكُلُّ مَنْ نَظَرَ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ، لَمْ يَجِدْ أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يُسَمِّي عِلْمَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ وَحَيَاتَهُ وَلَدًا لَهُ، وَلَا ابْنًا لَهُ، وَلَا قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ يَتَوَلَّدُ عَنْهُ.

فَقَوْلُهُمْ عَنِ الْمَسِيحِ: عَمِّدُوا النَّاسَ بِاسْمِ الْأَبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ: إِنَّهُ أَرَادَ بِالِابْنِ كَلِمَةَ اللَّهِ الْقَدِيمَةَ الْأَزَلِيَّةَ، وَإِنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ مِنْهُ، وَإِنَّهُ أَرَادَ بِرُوحِ الْقُدُسِ حَيَاةَ اللَّهِ الْقَدِيمَةَ الْأَزَلِيَّةَ - كَذِبٌ مَحْضٌ عَلَى الْمَسِيحِ عليه السلام لَا يُوجَدُ قَطُّ فِي كَلَامِهِ وَلَا كَلَامِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُمْ سَمَّوْا عِلْمَ اللَّهِ وَحِكْمَتَهُ، وَلَا شَيْئًا مِنْ صِفَاتِهِ الْقَائِمَةِ بِهِ ابْنًا، وَلَا سَمَّوْا حَيَاتَهُ رُوحَ الْقُدُسِ.

وَأَمَّا اللُّغَةُ، فَإِنَّ هَذَا التَّعْبِيرَ الَّذِي ذَكَرُوا - وَهُوَ تَسْمِيَةُ صِفَاتِ

ص: 472

الْمَوْصُوفِ اللَّازِمَةِ لَهُ وَلَدًا وَابْنًا وَمُتَوَلِّدًا - لَا يُعْرَفُ فِي لُغَاتِ بَنِي آدَمَ الْمَعْرُوفَةِ.

وَقَدْ يَتَبَنَّى الرَّجُلُ وَلَدَ غَيْرِهِ فَيَتَّخِذُهُ وَلَدًا وَيَجْعَلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَوَلِّدًا عَنْهُ، كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، وَلِهَذَا نَزَّهَ اللَّهُ - تَعَالَى - نَفْسَهُ عَنِ الْوِلَادَةِ وَعَنِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ فَقَالَ تَعَالَى:{أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الصافات: 151] وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ - بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 100 - 101] . وَقَالَ تَعَالَى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 3]

وَأَمَّا اتِّخَاذُ الْوَلَدِ، فَفِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء: 111] وَقَوْلِهِ تَعَالَى:

ص: 473

{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ - بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 116 - 117] . وَقَوْلِهِ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ - لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ - يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ - وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 26 - 29] . وَقَوْلُهُ: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91] وَقَوْلِهِ: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الزمر: 4]

وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَذْكُرُونَ أَنَّ فِي كُتُبِهِمْ تَسْمِيَةَ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ابْنًا، وَتَسْمِيَةَ اللَّهِ أَبًا، وَتَسْمِيَةَ الْمُصْطَفَيْنَ أَبْنَاءً، وَهَذَا إِذَا كَانَ ثَابِتًا عَنِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَعْنُونَ بِهِ إِلَّا مَعْنًى صَحِيحًا

وَاللَّفْظُ قَدْ يَكُونُ لَهُ فِي لُغَةٍ مَعْنًى، وَلَهُ فِي لُغَةٍ أُخْرَى مَعْنًى غَيْرُ ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْوَلَدِ وَالِابْنِ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ مَخْلُوقًا مَرْبُوبًا عَبْدًا لِلَّهِ عز وجل.

ص: 474

وَأَمَّا تَسْمِيَةُ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ ابْنًا أَوْ وَلَدًا، فَهَذَا لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا الْأُمَمِ أَهْلِ اللُّغَاتِ سِوَى مُبْتَدَعَةِ النَّصَارَى. وَلَمْ يَبْقَ لِلتَّوَلُّدِ إِلَّا مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْهُ جُزْءٌ، وَالثَّانِي: أَنْ يَحْدُثَ عَنْهُ شَيْءٌ، إِمَّا بِاخْتِيَارِهِ، وَإِمَّا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَقُدْرَتِهِ، كَحُدُوثِ الشُّعَاعِ عَنِ النَّارِ وَالشَّمْسِ.

وَكُلٌّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ أَصْلَيْنِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا، لَا يَكُونَ مِنْ صِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ لَهُ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَتَوَلَّدَ عَنْهُ شَيْءٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَصْلٌ آخَرُ يَتَوَلَّدُ عَنْهُمَا.

وَالتَّوَلُّدُ عَنْهُ بِغَيْرِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، مُمْتَنِعٌ عِنْدَ أَهْلِ الْمِلَلِ، الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَسَائِرِ الْأُمَمِ، سِوَى طَائِفَةٍ مِنَ الْمُتَفَلْسِفَةِ يَقُولُونَ: إِنَّهُ مُوجِبٌ بِذَاتِهِ مُسْتَلْزِمًا لِمَا يَصْدُرُ عَنْهُ، فَهَؤُلَاءِ قَوْلُهُمْ يُنَاسِبُ هَذَا التَّوَلُّدَ.

وَالنَّصَارَى تُكَفِّرُ هَؤُلَاءِ، لَكِنْ قَدْ ضَاهَوْهُمْ فِي الْقَوْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30] .

وَهَذَا قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ عَنْ شَخْصٍ يُقَالُ لَهُ فِنْحَاصُ بْنُ عَازُورَا وَأَتْبَاعِهِ.

ص: 475

قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ: وَالصَّدُوقِيَّةُ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ نُسِبُوا إِلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ صَدُوقٌ، وَهُمْ يَقُولُونَ - مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْيَهُودِ -: إِنَّ الْعُزَيْرَ ابْنُ اللَّهِ، وَكَانُوا بِجِهَةِ الْيَمَنِ.

وَلَكِنِ الْمُتَفَلْسِفَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِصُدُورِ الْعُقُولِ وَالْأَفْلَاكِ عَنْهُ، وَإِنْ سُمِّيَ ذَلِكَ تَوَلُّدًا، فَهُمْ يَجْعَلُونَ وَلَدَهُ مُنْفَصِلًا عَنْهُ، لَكِنْ يُثْبِتُونَ وَلَدًا قَدِيمًا أَزَلِيًّا صَدَرَ عَنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَيَجْعَلُونَ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ مُتَوَلِّدًا عَنْهُ.

وَسَائِرُ الطَّوَائِفِ الَّذِينَ أَثْبَتُوا لِلَّهِ وَلَدًا، جَعَلُوهُ حَادِثًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ.

فَأَمَّا جَعْلُ صِفَتِهِ الْقَائِمَةِ بِهِ وَلَدًا لَهُ وَمَوْلُودًا، فَهَذَا لَا يُعْرَفُ عَنْ غَيْرِ النَّصَارَى، فَإِذَا أَثْبَتُوا لَهُ وَلَدًا وَابْنًا غَيْرَ مَخْلُوقٍ، وَالصِّفَةُ الْقَائِمَةُ بِهِ اللَّازِمَةُ لَهُ، لَمْ تَتَوَلَّدْ عَنْهُ وَلَا تُسَمَّى ابْنًا وَلَا وَلَدًا عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ - تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ إِمَّا جُزْءًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ، وَإِمَّا مَعْلُولًا لَهُ صَادِرًا عَنْهُ بِغَيْرِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَأَيَّ الْقَوْلَيْنِ قَالُوهُ فَهُمْ فِيهِ كُفَّارٌ مُضَاهِئُونَ لِقَوْلِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ.

ص: 476

وَبَعْضُ عُلَمَائِهِمْ، وَإِنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ، لَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وَيُشَبِّهُونَهُ بِالشُّعَاعِ مِنَ الشَّمْسِ، وَيَقُولُونَ عَنِ الرُّوحِ: هُوَ مُنْبَثِقٌ مِنَ اللَّهِ خَارِجٌ مِنْهُ.

وَهَذَا كُلُّهُ يُنَاسِبُ الْوِلَادَةَ الَّتِي هِيَ خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْهُ، أَوْ حُدُوثُ شَيْءٍ عَنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَلَا بُدَّ لَهُ - مَعَ ذَلِكَ - مِنْ مَحَلٍّ يَقُومُ بِهِ، فَإِنَّ الشُّعَاعَ لَا يَقُومُ إِلَّا بِالْأَرْضِ.

وَالْأَمْرُ الْمُنْبَثِقُ الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِهِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَوْهَرًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ، أَوْ صِفَةً قَائِمَةً بِغَيْرِهَا.

فَإِنْ كَانَ جَوْهَرًا، فَقَدِ انْفَصَلَ مِنَ الرَّبِّ جُزْءٌ.

وَإِنْ كَانَ عَرَضًا، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَحَلٍّ، فَيَكُونَ مُتَوَلِّدًا عَنْ أَصْلَيْنِ.

وَتَشْبِيهُهُمْ بِتَوَلُّدِ الْكَلَامِ عَنِ الْعَقْلِ تَشْبِيهٌ بَاطِلٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِقُدْرَةِ الْإِنْسَانِ وَمَشِيئَتِهِ، وَهُوَ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ.

هَذَا إِذَا عُرِفَ أَنَّ مَا يَقُومُ بِقَلْبِ الْإِنْسَانِ مِنْ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ، يُقَالُ: إِنَّهُ يَتَوَلَّدُ عَنْهُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ ابْنُهُ، مَعَ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي اللُّغَاتِ، وَلَوْ كَانَ مَعْرُوفًا فِي لُغَةِ بَعْضِ الْأُمَمِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ كَلَامُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فِي لُغَتِهِمْ.

وَأَمَّا مَا يَدَّعُونَهُ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْكَلِمَةَ لَازِمَةٌ لِذَاتِ اللَّهِ أَزَلًا وَأَبَدًا، وَهِيَ مَوْلُودَةٌ مِنْهُ، مَعَ أَنَّهَا غَيْرُ مَصْنُوعَةٍ، فَهَذَا كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ.

ص: 477

فَإِنَّ الْمُتَوَلِّدَ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَتَوَلَّدُ إِلَّا عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ، وَأَمَّا الشَّيْءُ الْوَاحِدُ فَلَا يَتَوَلَّدُ عَنْهُ وَحْدَهُ شَيْءٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ مَا تَوَلَّدَ عَنْ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ حَادِثًا، وَأَمَّا الصِّفَةُ الْقَدِيمَةُ اللَّازِمَةُ لِذَاتِ الرَّبِّ فَلَيْسَتْ مَوْلُودَةً لَهُ، وَلَا مُتَوَلِّدَةً عَنْهُ، بَلْ هِيَ قَائِمَةٌ بِهِ لَازِمَةٌ لِذَاتِهِ.

وَأَيْضًا، فَإِنَّ الْمَوْلُودَ اسْمُ مَفْعُولٍ، يُقَالُ: وَلَدَهُ يَلِدُهُ فَهُوَ مَوْلُودٌ، وَهَذَا لَا يُقَالُ إِلَّا فِي الْحَادِثِ الْمُتَجَدِّدِ، فَإِنَّهُ مَفْعُولُ فِعْلِ الْوَالِدِ.

وَالْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ لَا يَكُونُ مَفْعُولًا مَوْلُودًا.

وَأَيْضًا فَتَسْمِيَةُ الصِّفَةِ الْقَدِيمَةِ الْأَزَلِيَّةِ مَوْلُودًا وَابْنًا، لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام.

فَهَبْ أَنَّ هَذَا مِمَّا يَسُوغُ لَنَا فِي اللُّغَةِ أَنْ نَقُولَهُ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنَّ نُحْدِثَ لُغَةً غَيْرَ لُغَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَنَحْمِلَ كَلَامَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ هَذَا كَذِبٌ عَلَيْهِمْ.

وَهَكَذَا تَفْعَلُ النَّصَارَى وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ أَهْلِ التَّحْرِيفِ بِكَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ، يُحْدِثُونَ لَهُمْ لُغَةً مُخَالِفَةً لِلُغَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَحْمِلُونَ كَلَامَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِ.

مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَخْبَرُوا بِأَنَّ اللَّهَ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَكَفَّرُوا مَنْ أَثْبَتَ إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ، وَأَمَرُوا بِالتَّوْحِيدِ وَدَعَوْا إِلَيْهِ، وَحَرَّمُوا الشِّرْكَ وَكَفَّرُوا أَهْلَهُ، وَأَخْبَرُوا أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ أَحَدٌ، وَكَانَ مُرَادُهُمْ بِذَلِكَ تَوْحِيدُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ

ص: 478

يُعْبَدَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إِلَّا هُوَ، لَيْسَ مَقْصُودُهُمْ بِذَلِكَ نَفْيَ صِفَاتِهِ.

فَلَمْ يَقْصِدُوا بِلَفْظِ " الْأَحَدِ وَالْوَاحِدِ " أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا شَيْءٌ مِنَ الصِّفَاتِ.

فَجَاءَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ، فَفَسَّرُوا لَفْظَ اسْمِ " الْوَاحِدِ وَالْأَحَدِ " بِمَا جَعَلُوهُ اصْطِلَاحًا لَهُمْ، فَقَالُوا: الْوَاحِدُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ تَرْكِيبٌ وَلَا يَنْقَسِمُ، وَلَوْ كَانَ لَهُ صِفَاتٌ لَكَانَ مُرَكَّبًا، وَلَوْ قَامَتْ بِهِ الصِّفَاتُ لَكَانَ جِسْمًا، وَالْجِسْمُ مُرَكَّبٌ مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ، أَوْ مِنَ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ، فَلَا يَكُونُ أَحَدًا وَلَا وَاحِدًا.

فَيُقَالُ: هَذَا الَّذِي قَالُوهُ، لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ صَحِيحٌ فِي الْعَقْلِ وَاللُّغَةِ، فَلَيْسَ هُوَ لُغَةَ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي خَاطَبُوا بِهَا الْخَلْقَ، فَكَيْفَ إِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْوَاحِدُ مِنْ لُغَةِ أَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ؟

بَلْ جَمِيعُ الْأُمَمِ تُسَمِّي مَا قَامَ بِهِ الصِّفَاتُ وَاحِدًا، بَلْ يُسَمُّونَهُ وَحِيدًا، وَقَدْ يُسَمُّونَهُ فِي غَيْرِ الْإِثْبَاتِ أَحَدًا، كَقَوْلِهِ:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] وَقَوْلِهِ: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11] وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.

ص: 479

وَأَمَّا الْبَحْثُ الْعَقْلِيُّ فِي هَذَا، فَقَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ مَا يُسَمِّيهِ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ تَرْكِيبًا، كَقَوْلِهِمْ: إِنَّ الشَّيْءَ مُرَكَّبٌ مِنْ وُجُودٍ وَمَاهِيَّةٍ، وَقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْأَنْوَاعَ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْأَجْنَاسِ وَالْفُصُولِ، هُوَ بَاطِلٌ عِنْدَ جَمِيعِ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ.

وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ إِلَّا ذَاتٌ مُتَّصِفَةٌ بِصِفَاتٍ، لَيْسَ فِي الْخَارِجِ وُجُودُ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ، وَمَاهِيَّةٌ أُخْرَى غَيْرَ هَذَا الشَّيْءِ الْمَوْجُودِ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ مَثَلًا.

وَلَكِنْ قَدْ يُعْنَى بِلَفْظِ " مَاهِيَّةٍ " مَا يُتَصَوَّرُ فِي الْأَذْهَانِ، وَبِالْوُجُودِ مَا يُوجَدُ فِي الْأَعْيَانِ، وَحِينَئِذٍ فَهَذِهِ الْمَاهِيَّةُ غَيْرُ هَذَا الْمَوْجُودِ، وَحِينَئِذٍ فَيُقَالُ: هَذِهِ الْمَاهِيَّةُ غَيْرُ هَذَا الْوُجُودِ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْإِنْسَانَ الْمَوْجُودَ فِي الْخَارِجِ مُرَكَّبٌ مِنَ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الْمَوْجُودَ هُوَ ذَاتٌ مُتَّصِفَةٌ بِصِفَاتٍ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ.

وَلَكِنْ يُتَصَوَّرُ فِي الذِّهْنِ مَا هُوَ مُرَكَّبٌ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّاطِقِ، كَمَا يُتَصَوَّرُ مَا هُوَ مُرَكَّبٌ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالضَّاحِكِ، وَهَذَا تَرْكِيبٌ ذِهْنِيٌّ لَا تَرْكِيبٌ فِي الْخَارِجِ، وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا جَعَلُوهُ مِنَ الصِّفَاتِ دَاخِلًا فِي الْمَاهِيَّةِ، وَمَا جَعَلُوهُ خَارِجًا عَنْهَا لَازِمًا لَهَا، وَمَا هُوَ مَجْمُوعُ أَجْزَاءِ الْمَاهِيَّةِ، يَرْجِعُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ إِلَى مَا هُوَ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِالتَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ وَالْمُطَابَقَةِ.

ص: 480

وَمِنْ ذَلِكَ تَرْكِيبُ الْجِسْمِ مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ، أَوْ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ.

وَأَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ يُنْكِرُونَ تَرْكِيبَ الْجِسْمِ مِنْ هَذَا وَهَذَا، كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا، أَنَّ كَلَامَ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ إِلَّا عَلَى لُغَتِهِمْ الَّتِي مِنْ عَادَتِهِمْ أَنْ يُخَاطِبُوا بِهَا النَّاسَ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْدَثَ لُغَةٌ غَيْرُ لُغَتِهِمْ، وَيُحْمَلَ كَلَامُهُمْ عَلَيْهَا.

بَلْ إِذَا كَانَ لِبَعْضِ النَّاسِ - عَادَةٌ وَلُغَةٌ - يُخَاطِبُ بِهَا أَصْحَابَهُ، وَقُدِّرَ أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَمِّلَ ذَلِكَ، لُغَةَ النَّبِيِّ، وَيَحْمِلَ كَلَامَ النَّبِيِّ عَلَى ذَلِكَ.

وَمِنْ هَذَا إِخْبَارُ الْأَنْبِيَاءِ بِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ وَيَتَكَلَّمُ وَيُنَادِي وَيُنَاجِي، وَأَنَّهُ قَالَ كَذَا وَتَكَلَّمَ بِكَذَا، وَنَادَى مُوسَى وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَالْمَعْرُوفُ فِي لُغَتِهِمْ وَلُغَةِ سَائِرِ الْأُمَمِ، أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ، وَإِنْ كَانَ مُتَكَلِّمًا بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، لَا يُعْرَفُ فِي لُغَتِهِمْ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَنْ أَحْدَثَ كَلَامًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ، وَلَا أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ بِدُونِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ.

فَلَيْسَ لِأَحَدٍ - إِذَا جَعَلَ اسْمَ الْمُتَكَلِّمِ لِمَنْ يُحْدِثُ كَلَامًا بَائِنًا عَنْهُ، أَوْ مَنْ قَامَ بِهِ بِدُونِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ - أَنْ يَحْمِلَ كَلَامَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى هَذَا.

بَلِ الْمُتَكَلِّمُ - عِنْدَ الْإِطْلَاقِ - مَنْ تَكَلَّمَ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، مَعَ قِيَامِ الْكَلَامِ بِهِ.

ص: 481

وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي لُغَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَسَائِرِ الْأُمَمِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَنَظَائِرُ هَذَا مُتَعَدِّدَةٌ.

فَمَنْ فَسَّرَ كَلَامَ الْأَنْبِيَاءِ بِغَيْرِ لُغَتِهِمُ الْمَعْرُوفَةِ، فَهُمْ مِمَّنْ بَدَّلَ كَلَامَهُمْ وَحَرَّفَهُ، وَالنَّصَارَى مِنْ هَؤُلَاءِ.

وَكَذَلِكَ اسْمُ الْعَادِلِ وَالظَّالِمِ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْعَادِلَ مَنْ قَامَ بِهِ الْعَدْلُ وَفَعَلَ الْعَدْلَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ.

وَالظَّالِمُ مَنْ قَامَ بِهِ الظُّلْمُ، وَفَعَلَهُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، لَا يُسَمُّونَ مَنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ الظُّلْمُ، وَلَكِنْ قَامَ بِغَيْرِهِ، لِكَوْنِ قَدْ جَعَلَ ذَلِكَ فَاعِلًا لَهُ، وَلَا يُسَمُّونَ مَنْ لَمْ يَفْعَلِ الظُّلْمَ - وَلَكِنْ فَعَلَهُ غَيْرُهُ فِيهِ - ظَالِمًا.

فَمَنْ جَعَلَ الظَّالِمَ وَالْكَافِرَ وَالْفَاسِقَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ فَعَلَهُ غَيْرُهُ فِيهِ، أَوْ جَعَلَ الظَّالِمَ مَنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ ظُلْمٌ فَعَلَهُ، وَلَكِنْ جَعَلَ غَيْرَهُ مُتَّصِفًا بِهِ ظَالِمًا - فَقَدْ خَرَجَ عَنِ الْمَعْرُوفِ مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ.

وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُحْدَثَ وَالْحَادِثَ فِي لُغَةِ جَمِيعِ الْأُمَمِ، لَا يُسَمَّى بِهِ إِلَّا مَا كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَالْمَخْلُوقُ أَبْلَغُ مِنَ الْمُحْدَثِ وَالْحَادِثِ

فَلَيْسَ لِأَحَدٍ - إِذَا أَحْدَثَ اصْطِلَاحًا سَمَّى بِهِ الْقَدِيمَ الْأَزَلِيَّ الَّذِي لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا، وَلَكِنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ مَعْلُولٌ لِغَيْرِهِ، فَسَمَّاهُ مُحْدَثًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ - أَنْ يَقُولَ: أَنَا أَحْمِلُ كَلَامَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِي أَخْبَرُوا بِهِ، أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ

ص: 482

وَمَا بَيْنَهُمَا مَخْلُوقٌ أَوْ مَصْنُوعٌ أَوْ مَعْقُولٌ أَوْ مُحْدَثٌ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ - عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمْ بِذَلِكَ أَنَّهُ مَعْلُولٌ، مَعَ كَوْنِهِ قَدِيمًا أَزَلِيًّا لَمْ يَزَلْ.

وَأَمَّا لَفْظُ " الْقَدِيمِ " فَهُوَ فِي اللُّغَةِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي خَاطَبَنَا بِهَا الْأَنْبِيَاءُ، يُرَادُ بِهِ مَا كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى غَيْرِهِ تَقَدُّمًا زَمَانِيًّا، سَوَاءٌ سَبَقَهُ عَدَمٌ أَوْ لَمْ يَسْبِقْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] وَقَالَ تَعَالَى: {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: 95] وَقَالَ " الْخَلِيلُ ": {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75]

فَلِهَذَا كَانَ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ الَّذِي لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا، وَلَمْ يَسْبِقْهُ عَدَمٌ - أَحَقَّ بِاسْمِ الْقَدِيمِ مِنْ غَيْرِهِ.

وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْعَلَ الْقَدِيمَ وَالْمُتَقَدِّمَ اسْمًا لِمَا قَارَنَ غَيْرَهُ فِي الزَّمَانِ لِزَعْمِهِ أَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ بِالْعِلَّةِ، وَيَقُولُ: إِنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى غَيْرِهِ وَسَابِقٌ لَهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَإِنَّ ذَلِكَ الْمَعْلُولَ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، ثُمَّ يَحْمِلُ مَا جَاءَ مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ وَعُمُومِ الْخَلْق عَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ لَوْ كَانَ حَقًّا، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَاطِلًا.

ص: 483

وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّقَدُّمِ وَالسَّبْقِ وَالتَّأَخُّرِ بِغَيْرِ الزَّمَانِ، أَمْرٌ غَيْرُ مَوْجُودٍ وَلَا مَعْقُولٍ وَلَا يُعْرَفُ فِي الْوُجُودِ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا، وَكَانَ عِلَّةً فَاعِلَةً لَهُ إِلَّا وَهُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ سَابِقٌ لَهُ، لَيْسَ مُقَارِنًا لَهُ فِي الزَّمَانِ أَلْبَتَّةَ، بَلْ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ تَقَدُّمًا زَمَانِيًّا.

وَكُلُّ مَنْ يُعْرَفُ أَنَّهُ سَبَبٌ أَوْ عِلَّةٌ فَاعِلَةٌ، فَإِنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى مُسَبِّبِهِ وَمَعْلُولِهِ، لَكِنْ قَدْ يَكُونُ مُتَّصِلًا بِهِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا زَمَانٌ آخَرُ.

فَيُقَالُ: لَيْسَ هَذَا مُتَأَخِّرًا عَنْ هَذَا ; أَيْ هُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَصْلٌ.

وَيُقَالُ: لَيْسَ ذَلِكَ مُتَقَدِّمًا عَلَى هَذَا ; أَيْ لَيْسَ بَيْنَهُمَا زَمَانٌ، بَلْ هُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ، إِذْ قَدْ يُرَادُ بِلَفْظِ التَّقَدُّمِ هَذَا، كَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:( «الْجِنَازَةُ مَتْبُوعَةٌ، وَلَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ، لَيْسَ مِنْهَا مَنْ تَقَدَّمَهَا» ) ; أَيْ مَنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَهَا، حَتَّى لَمْ يَكُنْ قَرِيبًا مِنْهَا، لَمْ يَكُنْ تَابِعًا لَهَا، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ:( «الرَّاكِبُ خَلْفَ الْجِنَازَةِ، وَالْمَاشِي أَمَامَهَا وَوَرَاءَهَا، وَعَنْ يَمِينِهَا وَيَسَارِهَا، قَرِيبًا مِنْهَا» ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ أَبْيَنُ حَدِيثٍ

ص: 484

رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 40] أَيْ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا انْفِصَالٌ، بَلْ كُلٌ مِنْهُمَا مُتَّصِلٌ بِالْآخَرِ.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَعْرِفَةَ اللُّغَةِ الَّتِي خَاطَبَنَا بِهَا الْأَنْبِيَاءُ وَحُمِلَ كَلَامُهُمْ عَلَيْهَا - أَمْرٌ وَاجِبٌ مُتَعَيِّنٌ، وَمَنْ سَلَكَ غَيْرَ هَذَا الْمَسْلَكِ، فَقَدْ حَرَّفَ كَلَامَهُمْ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَكَذَبَ عَلَيْهِمْ وَافْتَرَى.

وَمِثْلُ هَذَا التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ قَدِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ فِيهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ، وَأَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ حُرِّفَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ حَرَّفَهُ أَهْلُ الْإِلْحَادِ وَالْبِدَعِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.

فَأَهْلُ الْكِتَابِ نَقَلُوا عَنِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا بِلَفْظِ الْأَبِ وَالِابْنِ وَمُرَادُهُمْ - عِنْدَهُمْ - بِالْأَبِ: الرَّبُّ، وَبِالِابْنِ: الْمُصْطَفَى الْمُخْتَارُ الْمَحْبُوبُ.

وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُمْ سَمَّوْا شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ ابْنًا، وَلَا قَالُوا عَنْ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ: إِنَّهُ تَوَلَّدَ عَنْهُ، وَلَا إِنَّهُ مَوْلُودٌ لَهُ.

فَإِذَا وُجِدَ فِي كَلَامِ الْمَسِيحِ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: (عَمِّدُوا النَّاسَ بِاسْمِ الْأَبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ) ثُمَّ فَسَّرُوا الِابْنَ بِصِفَةِ اللَّهِ

ص: 485

الْقَدِيمَةِ الْأَزَلِيَّةِ، كَانَ هَذَا كَذِبًا بَيِّنًا عَلَى الْمَسِيحِ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ فِي لُغَتِهِ أَنَّ لَفْظَ الِابْنِ يُرَادُ بِهِ صِفَةُ اللَّهِ الْقَدِيمَةُ الْأَزَلِيَّةُ.

وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّ حَيَاةَ اللَّهِ تُسَمَّى رُوحَ الْقُدُسِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِرُوحِ الْقُدُسِ مَا يُنْزِلُهُ اللَّهُ تبارك وتعالى عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَيُؤَيِّدُهُمْ، كَانَ تَفْسِيرُ قَوْلِ الْمَسِيحِ:" رُوحُ الْقُدُسِ ": إِنَّهُ أَرَادَ حَيَاةَ اللَّهِ - كَذِبًا عَلَى الْمَسِيحِ.

وَهَذَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ أَفْسَدُ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الْمُتَفَلْسِفَةِ: إِنَّ الْعُقُولَ وَالنُّفُوسَ وَالْأَفْلَاكَ مَعْلُولَةٌ لَهُ مُتَوَلِّدَةٌ عَنْهُ، لَازِمَةٌ لَهُ أَزَلًا وَأَبَدًا، وَإِنْ كَانَ هَذَا أَيْضًا بَاطِلًا فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ، كَمَا هُوَ كُفْرٌ بِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ لَا يَصْدُرُ شَيْءٌ عَنْ فَاعِلِ الْأَشْيَاءِ بَعْدَ شَيْءٍ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ مُقَارِنًا لِلْفَاعِلِ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ، وَلَا يَكُونُ التَّوَلُّدُ إِلَّا عَنْ أَصْلَيْنِ.

وَالْوَاحِدُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ الَّذِي لَيْسَ لَهُ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ، لَا وُجُودَ لَهُ، وَلَوْ كَانَ لَهُ وُجُودٌ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ وَحْدَهُ شَيْءٌ، كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ.

وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ، أَنَّ خَوَاصَّ النَّصَارَى وَعُلَمَاءَهُمْ - مَعَ تَجْوِيزِهِمْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ اللَّهِ - يَلْزَمُهُمْ أَنْ تَكُونَ مَرْيَمُ صَاحِبَةَ اللَّهِ وَامْرَأَتَهُ، كَمَا قَالَ ذَلِكَ مَنْ يَغْلُو مِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ مَرْيَمَ إِلَهًا مَعَ اللَّهِ، كَمَا جَعَلَ الْمَسِيحَ إِلَهًا.

فَإِنْ قَالُوا بِذَلِكَ، جَعَلُوا لِلَّهِ صَاحِبَةً وَوَلَدًا، وَجَعَلُوا الْمَسِيحَ ابْنَ

ص: 486

مَرْيَمَ وَأُمَّهُ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ مَنْ فَعَلَهُ مِنْهُمْ.

فَإِنَّهُمْ يَعْبُدُونَ مَرْيَمَ وَيَدْعُونَهَا بِمَا يَدْعُونَ بِهِ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - وَالْمَسِيحَ، وَيَجْعَلُونَهَا إِلَهًا كَمَا يَجْعَلُونَ الْمَسِيحَ إِلَهًا، فَيَقُولُونَ: يَا وَالِدَةَ الْإِلَهِ، اغْفِرِي لَنَا وَارْحَمِينَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَيَطْلُبُونَ مِنْهَا مَا يَطْلُبُونَهُ مِنَ اللَّهِ عز وجل.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ عَنْ مَرْيَمَ: إِنَّهَا صَاحِبَةُ اللَّهِ سبحانه وتعالى.

وَبَيَانُ لُزُومِ ذَلِكَ أَنَّ الْمَسِيحَ - عِنْدَهُمْ - إِنْسَانٌ تَامٌّ وَإِلَهٌ تَامٌّ، نَاسُوتٌ وَلَاهُوتٌ، فَنَاسُوتُهُ مِنْ مَرْيَمَ، وَلَاهُوتُهُ الْكَلِمَةُ الْقَدِيمَةُ الْأَزَلِيَّةُ، وَهِيَ الْخَالِقُ عِنْدَهُمْ.

فَالْمَسِيحُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ، نَاسُوتٍ وَلَاهُوتٍ، فَإِذَا كَانَ الْأَبُ هُوَ اللَّهُ - عِنْدَهُمْ - وَالْكَلِمَةُ الْمَوْلُودَةُ عَنِ الْأَبِ ابْنَ اللَّهِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّاهُوتَ لَمَّا الْتَحَمَ بِالنَّاسُوتِ لِيَصِيرَ مِنْهُمَا الْمَسِيحُ ازْدَوَجَ بِهِ وَقَارَنَهُ، وَهَذَا مَعْنَى الزَّوْجِيَّةِ.

فَكَمَا أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْوِلَادَةَ عَقْلِيَّةٌ لَا حِسِّيَّةٌ، فَكَذَلِكَ الِازْدِوَاجُ وَالنِّكَاحُ عَقْلِيٌّ لَا حِسِّيٌّ، فَإِنَّ اللَّاهُوتَ - عَلَى قَوْلِهِمُ - ازْدَوَجَ بِنَاسُوتِ مَرْيَمَ وَنَكَحَهَا نِكَاحًا عَقْلِيًّا، وَخُلِقَ الْمَسِيحُ مِنْ هَذَا وَهَذَا.

وَهُمْ يَقُولُونَ فِي الْأَمَانَةِ: إِنَّ الْمَسِيحَ تَجَسَّدَ مِنْ مَرْيَمَ وَمِنْ رُوحِ الْقُدُسِ.

فَإِنْ فَسَّرُوا رُوحَ الْقُدُسِ بِجِبْرِيلَ - كَمَا يَقُولُهُ الْمُسْلِمُونَ - فَهُوَ

ص: 487

الْحَقُّ، وَبَطَلَ قَوْلُهُمْ لَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: رُوحُ الْقُدُسِ هُوَ الْأُقْنُومُ الثَّالِثُ، كَمَا يَقُولُونَ فِي الْكَلِمَةِ وَهُوَ اللَّاهُوتُ عِنْدَهُمْ.

فَهُمْ قَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ تَجَسَّدَ مِنَ النَّاسُوتِ وَاللَّاهُوتِ، فَيَلْزَمُهُمْ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الْمَسِيحُ هُوَ الِابْنُ، وَهُوَ رُوحُ الْقُدُسِ، فَيَكُونَ أُقْنُومَيْنِ، لَا أُقْنُومًا وَاحِدًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَنَاقُضُهُمْ فِي هَذَا.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا، أَنَّهُمْ إِذَا قَالُوا: إِنَّ الرَّبَّ أَوْ بَعْضَ صِفَاتِهِ اتَّحَدَ بِمَا خَلَقَ مِنْ مَرْيَمَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ اتِّصَالٌ بِمَرْيَمَ قَبْلَ اتِّصَالِهِ بِمَا خَلَقَ مِنْهَا، وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى النِّكَاحِ وَالِازْدِوَاجِ.

وَعِنْدَ جُمْهُورِ النَّصَارَى أَنَّ مَرْيَمَ وَلَدَتِ اللَّاهُوتَ كَمَا وَلَدَتِ النَّاسُوتَ، وَهِيَ أُمُّ اللَّاهُوتِ، وَيَقُولُونَ فِي دُعَائِهِمْ: يَا وَالِدَةَ الْإِلَهِ.

وَاللَّاهُوتُ الَّذِي وَلَدَتْهُ مَرْيَمُ هُوَ - عِنْدَهُمْ - رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَاللَّاهُوتُ اتَّحَدَ بِالنَّاسُوتِ عِنْدَهُمْ، مِنْ حِينِ خَلْقِ النَّاسُوتِ فِي بَطْنِ مَرْيَمَ، لَمْ يَحْدُثْ بَعْدَ الْوِلَادَةِ.

فَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ عِنْدَهُمْ أُمٌّ وَلَدَتْهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَإِمْكَانُ أَنْ يَكُونَ لَهُ صَاحِبَةٌ وَزَوْجَةٌ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُحِيلُهُ الْعَقْلُ وَالشَّرْعُ إِلَّا وَهُوَ لِكَوْنِهَا أُمًّا لِلَّاهُوتِ أَشَدَّ إِحَالَةً.

فَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ لِلَّاهُوتِ أُمٌّ وَالْأُمُّ أَصْلٌ، فَلَأَنْ يَكُونَ لَهُ صَاحِبَةٌ هِيَ زَوْجَةٌ وَنَظِيرٌ - أَقْرَبُ وَأَوْلَى، فَإِنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ وَلَدَ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَهُوَ الْمُتَفَرِّعُ الْمُتَوَلِّدُ عَنْهُ، أَنْقَصُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ مِنْ نَظِيرِهِ.

فَإِذَا قَالُوا: إِنَّ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَدًا اتَّحَدَ بِالنَّاسُوتِ هُوَ نَظِيرُهُ الْمُسَاوِي لَهُ فِي الْجَوْهَرِ، وَقَالُوا: إِنَّ النَّاسُوتَ أُمُّ هَذَا الْمَسِيحِ الَّذِي

ص: 488

هُوَ اللَّهُ وَهُوَ ابْنُ اللَّهِ، وَقَالُوا: إِنَّ النَّاسُوتَ مَرْيَمَ، وَلَدَ اللَّاهُوتَ، كَمَا وُلِدَ النَّاسُوتُ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا عَيْبًا يُنَزَّهُ الرَّبُّ عَنْهُ، فَلَأَنْ يَجْعَلُوا لَهُ أُمَّ هَذَا الْوَلَدِ الَّذِي حَبِلَتْ بِهِ وَاتَّحَدَ بِهِ اللَّاهُوتُ وَهُوَ مِنْهَا، وَوَلَدَتِ اللَّاهُوتَ - صَاحِبَةً وَزَوْجَةً لِلْأَبِ، أَوْلَى وَأَحْرَى، وَإِلَّا فَكَيْفَ تَلِدُ ابْنَهُ الَّذِي هُوَ اللَّاهُوتُ وَلَا تَكُونُ صَاحِبَتَهُ وَامْرَأَتَهُ؟

وَهُمْ يَقُولُونَ: نَحْنُ سَمَّيْنَا عِلْمَهُ مَوْلُودًا عَنْهُ ; لِكَوْنِهِ تَوَلَّدَ عَنْهُ تَوَلُّدَ الْكَلِمَةِ عَنِ الْعَقْلِ، وَهَذَا الْوَلَدُ اتَّحَدَ بِالنَّاسُوتِ فَسَمَّيْنَا الْمَجْمُوعَ وَلَدًا.

وَبِهَذَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ كَوْنِ الْمَسِيحِ ابْنًا وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يُسَمَّى ابْنًا.

فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ أَبْنَاءٌ بِالْوَضْعِ، وَالْمَسِيحُ ابْنٌ بِالطَّبْعِ ; أَيْ أُولَئِكَ سُمُّوا أَبْنَاءً بِمَشِيئَةِ الرَّبِّ وَقُدْرَتِهِ ; لِأَنَّهُ اصْطَفَاهُمْ، وَالْكَلِمَةُ الَّتِي جَعَلُوهَا مُتَّحِدَةً بِالْمَسِيحِ، هِيَ عِنْدَهُمْ مُتَوَلِّدَةٌ عَنِ اللَّهِ تَوَلُّدًا قَدِيمًا أَزَلِيًّا، لَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَلِهَذَا قَالُوا: مَوْلُودٌ غَيْرُ مَصْنُوعٍ، فَإِنَّ الْقَدِيمَ الْأَزَلِيَّ - مَعَ كَوْنِهِ قَائِمًا بِذَاتِهِ - لَا يَكُونُ مَصْنُوعًا عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ، وَلَا الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ.

فَإِذَا كَانَتِ الْكَلِمَةُ اتَّحَدَتْ بِالْمَسِيحِ الْمَخْلُوقِ مِنْ مَرْيَمَ وَالْتَحَمَتْ بِهِ، فَإِذَا قِيلَ - مَعَ ذَلِكَ -: إِنَّ الْقَدِيمَ مَسَّ الْمُحْدَثِ أَوْ لَاصَقَهُ أَوْ بَاشَرَهُ، كَانَ أَيْسَرَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ.

وَالْمَسِيحُ وُلِدَ وِلَادَةً حَادِثَةً عِنْدَهُمْ، غَيْرَ الْوِلَادَةِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي لِلْكَلِمَةِ، فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مَرْيَمُ قَدْ صَارَتْ زَوْجَةً وَامْرَأَةً، بَلْ نُكِحَتْ نِكَاحًا

ص: 489

حَادِثًا يُنَاسِبُ تِلْكَ الْوِلَادَةِ الْمُحْدَثَةِ، قَالَ تَعَالَى:{أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101] وَلِهَذَا كَانَ الْحُلُولُ أَسْهَلَ مِنَ الِاتِّحَادِ.

فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ حَلَّ فِي جَسَدِ الْمَسِيحِ وَمَاسَّهُ وَبَاشَرَهُ، كَمَا يَحُلُّ الْمَاءُ فِي اللَّبَنِ، كَانَ أَهْوَنَ مِمَّنْ يَقُولُ: إِنَّهُ اتَّحَدَ بِهِ وَالْتَحَمَ بِهِ.

فَإِذَا قِيلَ: إِنَّ مَرْيَمَ امْرَأَةُ الْقَدِيمِ وَصَاحِبَتُهُ وَزَوْجَتُهُ، كَانَ مَا فِي هَذَا مِنْ إِثْبَاتِ مُبَاشَرَتِهِ لَهَا وَمُمَاسَّتِهِ لَهَا وَاتِّصَالِهِ بِهَا.

وَمَهْمَا قُدِّرَ مِنَ اتِّصَالِ الزَّوْجِ بِزَوْجَتِهِ، أَهْوَنُ مِمَّا قَالُوهُ مِنَ اتِّحَادِ الْقَدِيمِ بِالْمُحْدَثِ، وَمَصِيرِهِ إِيَّاهُ، إِمَّا جَوْهَرًا وَاحِدًا، وَإِمَّا شَخْصًا وَاحِدًا، وَإِمَّا مَشِيئَةً وَاحِدَةً.

وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ النِّكَاحَ الْحِسِّيَّ أَسْهَلُ مِنَ الْوِلَادَةِ الْحِسِّيَّةِ.

فَالذَّكَرُ مِنَ الْحَيَوَانِ إِذَا نَكَحَ الْأُنْثَى، فَإِنَّمَا مَسُّ الذَّكَرِ لِلْأُنْثَى، لَمْ تَصِرِ الْأُنْثَى مُتَوَلِّدَةً عَنْهُ. فَإِذَا جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ لِلرَّبِّ الْقَدِيمِ الْأَزَلِيِّ مَا يَتَوَلَّدُ عَنْهُ وَيَتَّحِدُ بِهِ، وَهُوَ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ، فَلَأَنْ يَكُونَ لَهُ مَا يَمَسُّهُ أَوْلَى وَأَحْرَى.

ص: 490

وَإِذَا قَالُوا: إِنَّ الْمَسِيحَ إِنَّمَا كَانَ ابْنًا ; لِأَنَّ الْكَلِمَةَ الْقَدِيمَةَ الَّتِي هِيَ ابْنٌ، اتَّحَدَتْ بِهِ قَبْلُ، فَقَدْ يُسَمَّى النَّاسُوتُ الَّذِي اتَّحَدَ بِهِ الْقَدِيمُ ابْنًا عِنْدَكُمْ، بِاسْمِ الْقَدِيمِ وَجَعَلْتُمُوهُ إِلَهًا خَالِقًا، فَمَا الْمَانِعُ مِنْ جَعْلِ أُمِّ ذَلِكَ النَّاسُوتِ الَّذِي جَعَلْتُمُوهُ ابْنَ اللَّهِ، صَاحِبَةً لِلَّهِ وَزَوْجَةً، بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْقَدِيمَ الْأَزَلِيَّ حَصَلَ مِنْهُ وَمِنْهَا مَا هُوَ ابْنُ الْقَدِيمِ الْأَزَلِيِّ؟

الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنْ يُقَالَ: لَفْظُ الِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ، قَدْ جَاءَ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَسِيحِ - عِنْدَكُمْ - حَتَّى الْحَوَارِيِّينَ عِنْدَكُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمَسِيحَ قَالَ لَهُمْ: (إِنَّ اللَّهَ أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلَهِي وَإِلَهُكُمْ)، وَيَقُولُونَ: إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ تَحُلُّ فِيهِمْ.

وَفِيمَا عِنْدَكُمْ مِنَ التَّوْرَاةِ أَنَّ الرَّبَّ قَالَ لِمُوسَى: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ، فَقُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ الرَّبُّ: إِسْرَائِيلُ ابْنِي بِكْرِي، أَرْسِلْهُ يَعْبُدْنِي، فَإِنْ أَبَيْتَ أَنْ تُرْسِلَ ابْنِي بِكْرِي، قَتَلْتُ ابْنَكَ بِكْرَكَ. فَلَمَّا لَمْ يُرْسِلْ فِرْعَوْنُ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا قَالَ اللَّهُ، قَتَلَ اللَّهُ أَبْكَارَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مِنْ بِكْرِ فِرْعَوْنَ الْجَالِسِ عَلَى السَّرِيرِ، إِلَى الْأَوَّلِ مِنْ أَوْلَادِ الْآدَمِيِّينَ، إِلَى وَلَدِ الْحَيَوَانِ إِلَيْهِمْ.)

فَهَذِهِ التَّوْرَاةُ تُسَمِّي بَنِي إِسْرَائِيلَ كُلَّهُمْ أَبْنَاءَ اللَّهِ وَأَبْكَارَهُ، وَتُسَمِّي

ص: 491

أَبْنَاءَ أَهْلِ مِصْرَ أَبْنَاءَ فِرْعَوْنَ، فَتُوُسِّعَ بِتَسْمِيَةِ سِخَالِ الْحَيَوَانِ أَوْلَادَ الْمَالِكِ لِلْحَيَوَانِ.

وَفِي مَزَامِيرِ دَاوُدَ يَقُولُ: (أَنْتَ ابْنِي، سَلْنِي أُعْطِكَ) . وَفِي الْإِنْجِيلِ يَقُولُ عَنِ الْمَسِيحِ: (أَنَا ذَاهِبٌ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ، وَإِلَهِي وَإِلَهِكُمْ)، وَقَالَ:(إِذَا صَلَّيْتُمْ فَقُولُوا: يَا أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاءِ، قُدُّوسٌ اسْمُكَ، افْعَلْ بِنَا كَذَا وَكَذَا) .

وَيَقُولُونَ عَنِ الْقِدِّيسِينَ: إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ يَحُلُّ فِيهِمْ، وَكَذَلِكَ حَلَّتْ فِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، بَلْ عِنْدَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ يَحُلُّ فِي الصَّدِيقَيْنِ كُلِّهِمْ.

ص: 492

فَإِنْ كَانَ الِابْنُ وَرُوحُ الْقُدُسِ، يَقْتَضِي اتِّحَادَ اللَّاهُوتِ بِالنَّاسُوتِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ لَاهُوتًا وَنَاسُوتًا، وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ، فَيَكُونَ النَّبِيُّ لَاهُوتًا وَنَاسُوتًا ; لِأَنَّهُ قَدْ سُمِّيَ عِنْدَكُمُ ابْنَ اللَّهِ، وَنَطَقَتْ فِيهِ رُوحُ الْقُدُسِ، لَا سِيَّمَا وَأَنْتُمْ قُلْتُمْ فِي الْأَمَانَةِ: إِنَّهُ رُوحٌ مُمَجَّدٌ مَسْجُودٌ لَهُ، نَاطِقٌ فِي الْأَنْبِيَاءِ.

فَإِنْ كَانَ هَذَا يُوجِبُ حُلُولَ اللَّاهُوتِ فِي النَّاسُوتِ أَوِ اتِّحَادَهُ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ الْمَسِيحِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، بَلْ وَالْحَوَارِيِّينَ، بَلْ وَأَبْنَاءِ إِسْرَائِيلَ - لَاهُوتًا وَنَاسُوتًا، إِذْ كَانَ الَّذِي جَعَلْتُمُوهُ اللَّاهُوتَ حَلَّ بِغَيْرِ الْمَسِيحِ وَاتَّحَدَ بِهِ، أَوْ سَكَنَ فِيهِ، أَوِ احْتَجَبَ بِهِ، أَوْ مَا قُلْتُمْ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي اسْتَدْلَلْتُمْ بِهَا عَلَى أَنَّ اللَّاهُوتَ حَلَّ فِي الْمَسِيحِ، كَلَفْظِ الِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ - مَوْجُودٌ عِنْدَكُمْ فِي غَيْرِ حَقِّ الْمَسِيحِ.

وَالْمُعْجِزَاتُ الَّتِي احْتَجَجْتُمْ بِهَا لِلْمَسِيحِ، قَدْ وُجِدَتْ لِغَيْرِ الْمَسِيحِ.

وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْمَسِيحَ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضِ أُولَئِكَ، فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَسِيحَ عليه السلام أَفْضَلُ مِنْ جُمْهُورِ الْأَنْبِيَاءِ، أَفْضَلُ مِنْ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَصْحَابِ النُّبُوَّاتِ الْمَوْجُودَةِ عِنْدَكُمْ، وَأَفْضَلُ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ.

لَكِنَّ مَزِيدَ الْفَضْلِ يَقْتَضِي الْفَضِيلَةَ فِي النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةَ، كَفَضِيلَةِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَمُحَمَّدٍ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ -، وَذَلِكَ

ص: 493

لَا يَقْتَضِي خُرُوجَهُ عَنْ جِنْسِ الرُّسُلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة: 75] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ - لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ - مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة: 72 - 75] .

وَجِمَاعُ هَذَا الْجَوَابِ: أَنَّ مَا يُوصَفُ بِهِ الْمَسِيحُ عِنْدَهُمْ مِنْ كَوْنِهِ ابْنَ اللَّهِ، وَكَوْنِ اللَّهِ حَلَّ فِيهِ، أَوْ ظَهَرَ أَوْ سَكَنَ، وَكَوْنِ رُوحِ الْقُدُسِ أَوْ رُوحِ اللَّهِ حَلَّتْ فِيهِ، وَكَوْنِهِ مَسِيحًا - كُلُّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ عِنْدَهُمْ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَسِيحِ.

فَلَيْسَ لِلْمَسِيحِ اخْتِصَاصٌ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ اخْتِصَاصُهُ بِلَفْظِ الْكَلِمَةِ، وَكَوْنُهُ تَجَسَّدَ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي خَصَّهُ بِهِ الْقُرْآنُ، فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ:

ص: 494

{إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] .

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: « (مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرَوْحٌ مِنْهُ - أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ عَمَلٍ) » فَهَذَا الَّذِي خَصَّهُ بِهِ الْقُرْآنُ، هُوَ الَّذِي خَصَّتْهُ الْكُتُبُ الْمُتَقَدِّمَةُ، إِذْ كَانَ الْقُرْآنُ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ.

وَأَمَّا سَائِرُ مَا يُوصَفُ بِهِ وَيَدَّعُونَ اخْتِصَاصَهُ بِهِ مِنْ كَوْنِهِ ابْنًا لِلَّهِ وَكَوْنِهِ مَسِيحًا، فَغَيْرُهُ أَيْضًا فِي كُتُبِ اللَّهِ يُسَمَّى ابْنًا لِلَّهِ وَمَسِيحًا، وَلِذَلِكَ مَا يُذْكَرُ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَحْتَجُّونَ بِهَا عَلَى الْحُلُولِ، مِثْلَ كَوْنِ الرَّبِّ ظَهَرَ فِيهِ أَوْ حَلَّ أَوْ سَكَنَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ مَوْجُودَةٌ عِنْدَهُمْ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَسِيحِ بِخِلَافِ لَفْظِ الِاتِّحَادِ، فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ عِنْدَهُمْ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ لَا فِي حَقِّ الْمَسِيحِ وَلَا غَيْرِهِ، كَمَا لَا يُوجَدُ عِنْدَهُمْ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ لَفْظُ

ص: 495

" الْأَقَانِيمِ " وَلَا لَفْظُ " التَّثْلِيثِ " وَلَا " اللَّاهُوتُ " وَ " النَّاسُوتُ " وَلَا تَسْمِيَةُ اللَّهِ جَوْهَرًا، بَلْ هَذَا كُلُّهُ مِمَّا ابْتَدَعُوهُ، كَمَا ابْتَدَعُوا أَيْضًا تَسْمِيَةَ صِفَاتِ اللَّهِ ابْنًا وَرُوحَ الْقُدُسِ، فَهُمُ ابْتَدَعُوا أَلْفَاظًا لَمْ يَنْطِقْ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ، أَثْبَتُوا لَهَا مَعَانِيَ وَابْتَدَعُوا اسْتِعْمَالَ أَلْفَاظِ الْأَنْبِيَاءِ فِي غَيْرِ مُرَادِهِمْ، وَحَمَلُوا مُرَادَهُمْ عَلَيْهَا.

وَالْأَلْفَاظُ الْمُتَشَابِهَةُ الَّتِي يَحْتَجُّونَ بِهَا عَلَى اتِّحَادِ اللَّاهُوتِ بِالنَّاسُوتِ مَوْجُودَةٌ - عِنْدَهُمْ - فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَسِيحِ.

فَلَيْسَ لِلْمَسِيحِ خَاصَّةٌ فِي كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ، تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ اللَّهُ أَوِ ابْنُ اللَّهِ، وَتِلْكَ الْأَلْفَاظُ قَدْ عُرِفَ - بِاتِّفَاقِهِمْ وَاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ -، أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا حُلُولُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَعْرِفَتُهُ وَهُدَاهُ وَنُورُهُ وَمِثَالُهُ الْعِلْمِيُّ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَدْ تَقَدَّمَ.

وَمَنْ قَالَ مِنْ ضُلَّالِ الْمُسْلِمِينَ: (إِنَّ الرَّبَّ يَتَّحِدُ أَوْ يَحُلُّ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَإِنَّ هَذَا مِنَ السِّرِّ الَّذِي لَا يُبَاحُ بِهِ، فَقَوْلُهُ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنَ الْمَشَايِخِ وَالْمُدَّعِينَ لِلْمَعْرِفَةِ وَالتَّحْقِيقِ وَالتَّوْحِيدِ، فَيَجْعَلُونَ تَوْحِيدَ الْعَارِفِينَ أَنْ يَصِيرَ الْمُوَحِّدُ هُوَ الْمُوَحَّدُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يَحُلُّ فِي قَلْبِ الْعَارِفِ وَيَتَكَلَّمُ بِلِسَانِهِ، كَمَا يَتَكَلَّمُ الْجِنِّيُّ عَلَى لِسَانِ الْمَصْرُوعِ، وَيَقُولُ الْأَوَّلُ:

مَا وَحَّدَ الْوَاحِدَ مِنْ وَاحِدٍ

إِذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ

ص: 496

تَوْحِيدُ مَنْ يَنْطِقُ عَنْ نَعْتِهِ

عَارِيَةٌ أَبْطَلَهَا الْوَاحِدُ

تَوْحِيدُهُ إِيَّاهُ تَوْحِيدُهُ

وَنَعْتُ مَنْ يَنْعَتُهُ لَاحِدُ

وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ الَّذِي بَاحَ بِهِ الْحَلَّاجُ وَغَيْرُهُ، وَهَذَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْأَسْرَارِ الَّتِي يَكْتُمُهَا الْعَارِفُونَ، فَلَا يَبُوحُونَ بِهَا إِلَّا لِخَوَاصِّهِمْ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّمَا قُتِلَ الْحَلَّاجُ ; لِأَنَّهُ بَاحَ بِهَذَا السِّرِّ وَيُنْشِدُونَ:

مَنْ بَاحَ بِالسِّرِّ كَانَ الْقَتْلُ شِيمَتَهُ

بَيْنَ الرِّجَالِ وَلَمْ يُؤْخَذْ لَهُ ثَارُ

وَأَمْثَالَ ذَلِكَ.

وَهَؤُلَاءِ فِي دَعْوَاهُمُ الِاتِّحَادَ وَالْحُلُولَ بِغَيْرِ الْمَسِيحِ، شَرٌّ مِنَ النَّصَارَى.

فَإِنَّ الْمَسِيحَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ - أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ مَنْ لَيْسَ بِنَبِيٍّ، بَلْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ جَمَاهِيرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ.

فَإِذَا كَانَ مَنِ ادَّعَى أَنَّ اللَّاهُوتَ اتَّحَدَ بِهِ كَافِرًا، فَكَيْفَ بِمَنِ ادَّعَى ذَلِكَ فِيمَنْ هُوَ دُونَهُ؟

وَهَذَا الِاتِّحَادُ الْخَاصُّ غَيْرُ الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ الْعَامِّ لِقَوْلِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّهُ حَالٌّ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، أَوْ مُتَّحِدٌ بِكُلِّ شَيْءٍ.

ص: 497

وَغُلَاةُ هَؤُلَاءِ وَمُحَقِّقُوهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ عَيْنُ الْوُجُودِ، وَالْوُجُودُ وَاحِدٌ.

فَيَجْعَلُونَ الْوُجُودَ الْخَالِقَ الْقَدِيمَ الْوَاجِبَ، هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْمَخْلُوقِ الْمُحْدَثِ الْمُمْكِنِ.

وَهَؤُلَاءِ مِثْلُ ابْنِ عَرَبِيٍّ الطَّائِيِّ، وَصَاحِبِهِ الصَّدْرِ الْقُونَوِيِّ، وَصَاحِبِهِ الْعَفِيفِ التِّلْمِسَانِيِّ، وَابْنِ سَبْعِينَ، وَصَاحِبِهِ الشُّشْتَرِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ الْبِلْيَانِيِّ وَعَامِرٍ الْبَصْرِيِّ وَطَوَائِفَ غَيْرِ هَؤُلَاءِ.

وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّ النَّصَارَى إِنَّمَا كَفَرُوا لِأَنَّهُمْ خَصُّوا ذَلِكَ بِالْمَسِيحِ.

ص: 498

وَحَقِيقَةُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ هُوَ جَحْدُ الْخَالِقَ وَتَعْطِيلُهُ، كَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ:{وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] وَقَالَ: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]

فَإِنَّ فِرْعَوْنَ مَا كَانَ يُنْكِرُ هَذَا الْوُجُودَ الْمَشْهُودَ، لَكِنْ يُنْكِرُ أَنَّ لَهُ صَانِعًا مُبَايِنًا لَهُ خَلَقَهُ، وَهَؤُلَاءِ مُوَافِقُونَ لِفِرْعَوْنَ فِي ذَلِكَ.

لَكِنَّ فِرْعَوْنَ أَظْهَرَ الْجُحُودَ وَالْإِنْكَارَ، فَلَمْ يَقُلِ " الْوُجُودُ الْمَخْلُوقُ هُوَ الْخَالِقُ ".

وَهَؤُلَاءِ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يُقِرُّونَ بِالْخَالِقِ، وَأَنَّ الْوُجُودَ الْمَخْلُوقَ هُوَ الْخَالِقُ، وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي آخِرِ هَذَا الْكِتَابِ.

وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ شِعْرٌ نَظَمُوا قَصَائِدَ عَلَى مَذْهَبِهِمْ، كَابْنِ الْفَارِضِ فِي قَصِيدَتِهِ الْمُسَمَّاةِ " بِنَظْمِ السُّلُوكِ " حَيْثُ يَقُولُ:

لَهَا صَلَوَاتِي بِالْمَقَامِ أُقِيمُهَا

وَأَشْهَدُ فِيهَا أَنَّهَا لِي صَلَّتِ

كِلَانَا مُصَلٍّ وَاحِدٌ سَاجِدٌ إِلَى

حَقِيقَتِهِ بِالْجَمْعِ فِي كُلِّ سَجْدَةِ

ص: 499

وَمَا كَانَ لِي صَلَّى سِوَايَ وَلَمْ تَكُنْ

صَلَاتِي لِغَيْرِي فِي أَدَا كُلِّ رَكْعَةِ

إِلَى أَنْ قَالَ:

وَمَا زِلْتُ إِيَّاهَا وَإِيَّايَ لَمْ تَزَلْ

وَلَا فَرْقَ بَلْ ذَاتِي لِذَاتِي أَحَبَّتِ

وَقَوْلُهُ:

إِلَيَّ رَسُولًا كُنْتُ مِنِّيَ مُرْسَلًا

وَذَاتِي بِآيَاتِي عَلَيَّ اسْتَدَلَّتِ

فَإِنْ دُعِيَتْ كُنْتُ الْمُجِيبَ وَإِنْ أَكُنْ

مُنَادًى أَجَابَتْ مَنْ دَعَانِي وَلَبَّتِ

وَقَدْ رُفِعَتْ يَاءُ الْمُخَاطَبِ بَيْنَنَا

وَفِي رَفْعِهَا عَنْ فُرْقَةِ الْفَرْقِ رِفْعَتِي

إِلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ.

وَكَذَلِكَ ابْنُ إِسْرَائِيلَ فِي شِعْرِهِ قِطْعَةٌ مِنْ هَذَا كَقَوْلِهِ:

وَمَا أَنْتَ غَيْرَ الْكَوْنِ بَلْ أَنْتَ عَيْنُهُ

وَيَفْهَمُ هَذَا السِّرَّ مَنْ هُوَ ذَائِقُ

وَالتِّلْمِسَانِيُّ الْمُلَقَّبُ بِالْعَفِيفِ، كَانَ مِنْ أَفْجَرِ النَّاسِ، وَكَانَ أَحَذَقَ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ.

وَلَمَّا قُرِئَ عَلَيْهِ كِتَابُ " فُصُوصُ الْحِكَمِ " لِابْنِ عَرَبِيٍّ قِيلَ لَهُ: هَذَا الْكَلَامُ يُخَالِفُ الْقُرْآنَ، قَالَ: الْقُرْآنُ كُلُّهُ شِرْكٌ، وَإِنَّمَا التَّوْحِيدُ فِي كَلَامِنَا.

ص: 500

فَقِيلَ لَهُ: إِذَا كَانَ الْوُجُودُ وَاحِدًا، فَلِمَاذَا تَحْرُمُ عَلَيَّ أُمِّي وَتُبَاحُ لِي امْرَأَتِي؟

فَقَالَ: الْجَمِيعُ عِنْدَنَا حَلَالٌ، وَلَكِنْ هَؤُلَاءِ الْمَحْجُوبُونَ قَالُوا: حَرَامٌ، فَقُلْنَا: حَرَامٌ عَلَيْكُمْ.

وَكَلَامُ هَؤُلَاءِ كُلُّهُ مُتَنَاقِضٌ يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا.

فَإِنَّ قَوْلَهُ: (هَؤُلَاءِ الْمَحْجُوبُونَ) وَقَوْلَهُ: (قُلْنَا حَرَامٌ عَلَيْكُمْ) ، يَقْتَضِي الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَحْجُوبِينَ، وَبَيْنَ الْمُخَاطَبِ وَالْمُخَاطِبِ، وَهَذَا يُنَاقِضُ وَحْدَةَ الْوُجُودِ.

وَإِذَا قَالُوا: (هَذِهِ مَظَاهِرُ لِلْحَقِّ وَمَجَالٍ) فَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ غَيْرَ الْمُظْهَرِ، وَالْمُجَلَّى غَيْرَ الْمُتَجَلِّي، فَقَدْ ثَبَتَ التَّعَدُّدُ، وَأَنَّ فِي الْوُجُودِ اثْنَيْنِ ظَاهِرًا وَمَظْهَرًا، وَإِنْ جَعَلُوهُمَا وَاحِدًا، فَقَدْ بَطَلَ جَوَابُهُمْ.

ص: 501