المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل: بيان اضطراب كلام النصارى وتفرقهم في باب طبيعة المسيح] - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية - جـ ٤

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[فَصْلٌ: تَفْسِيرُهُمْ لِتَجَسُّمِ كَلِمَةِ اللَّهِ بِالْمَسِيحِ وَأَنَّهُ اتِّحَادٌ بَرِيءٌ مِنَ الِاخْتِلَاطِ وَنَحْوِهِ وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ]

- ‌[فَصْلٌ: نَقْضُ دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ أَثْبَتَ فِي الْمَسِيحِ اللَّاهُوتَ وَالنَّاسُوتَ]

- ‌[فَصْلٌ: نَقْضُ دَعْوَاهُمْ بِوُرُودِ تَسْمِيَةِ الْمَسِيحِ خَالِقًا فِي الْقُرْآنِ]

- ‌[فَصْلٌ: بَيَانُ الْمَعْنَى الصَّحِيحِ لِتَشْبِيهِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عِيسَى بِآدَمَ وَرَدُّ تَفْسِيرِهِمْ لِذَلِكَ]

- ‌[فَصْلٌ: بَيَانُ اضْطِرَابِ كَلَامِ النَّصَارَى وَتَفَرُّقِهِمْ فِي بَابِ طَبِيعَةِ الْمَسِيحِ]

- ‌[فَصْلٌ: مُوَاصَلَةُ الرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى بِمَا قَالَهُ الْحَسَنُ بْنُ أَيُّوبَ ثُمَّ بِكَلَامِ ابْنِ الْبِطْرِيقِ]

- ‌[فَصْلٌ: مُتَابَعَةُ حِكَايَةِ كَلَامِ ابْنِ الْبِطْرِيقِ عَنِ النَّصَارَى وَمُنَاقَشَتُهُ فِي ذَلِكَ]

- ‌[فَصْلٌ: مُتَابَعَةُ حِكَايَةِ كَلَامِ ابْنِ الْبِطْرِيقِ عَنِ النَّصَارَى وَمُنَاقَشَتُهُ فِي ذَلِكَ]

- ‌[فَصْلٌ: مُتَابَعَةُ حِكَايَةِ كَلَامِ ابْنِ الْبِطْرِيقِ عَنِ النَّصَارَى وَمُنَاقَشَتِهِ فِي ذَلِكَ]

- ‌[فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَى تَشْبِيهِ النَّصَارَى حُلُولَ كَلِمَةِ اللَّهِ فِي النَّاسُوتِ بِالْكِتَابَةِ فِي الْقِرْطَاسِ]

- ‌[فَصْلٌ: مُتَابَعَةٌ لِكَلَامِ ابْنِ الْبِطْرِيقِ وَالرَّدِّ عَلَيْهِ]

- ‌[فَصْلٌ: بَيَانُ أَنَّ عَامَّةَ دِينِ النَّصَارَى لَيْسَ مَأْخُوذًا عَنِ الْمَسِيحِ]

- ‌[فَصْلٌ: بَيَانُ أَنَّ كُلَّ مَا نَقَلَهُ الْمُؤَلِّفُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَيُّوبَ وَابْنِ الْبِطْرِيقِ إِنَّمَا هُوَ رَدٌّ عَلَى أَنَّ فِي الْمَسِيحِ طَبِيعَتَيْنِ]

- ‌[فَصْلٌ: الْجَوَابُ عَنْ شُبْهَةِ النَّصَارَى فِي إِقْرَارِ الْمُسْلِمِينَ فِي الصِّفَاتِ وَأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّشْبِيهَ وَالتَّجْسِيمَ]

الفصل: ‌[فصل: بيان اضطراب كلام النصارى وتفرقهم في باب طبيعة المسيح]

[فَصْلٌ: بَيَانُ اضْطِرَابِ كَلَامِ النَّصَارَى وَتَفَرُّقِهِمْ فِي بَابِ طَبِيعَةِ الْمَسِيحِ]

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: وَعَلَى هَذَا الْمِثَالِ نَقُولُ: فِي السَّيِّدِ الْمَسِيحِ طَبِيعَتَانِ:

طَبِيعَةٌ لَاهُوتِيَّةٌ: الَّتِي هِيَ طَبِيعَةُ كَلِمَةِ اللَّهِ وَرُوحِهِ.

وَطَبِيعَةٌ نَاسُوتِيَّةٌ: الَّتِي أُخِذَتْ مِنْ مَرْيَمَ الْعَذْرَاءَ وَاتَّحَدَتْ بِهِ.

فَيُقَالُ لَهُمْ: كَلَامُ النَّصَارَى فِي هَذَا الْبَابِ مُضْطَرِبٌ مُخْتَلِفٌ مُتَنَاقِضٌ، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلٌ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَلَا قَوْلٌ مَعْقُولٌ، وَلَا قَوْلٌ دَلَّ عَلَيْهِ كِتَابٌ، بَلْ هُمْ فِيهِ فِرَقٌ وَطَوَائِفُ كُلُّ فِرْقَةٍ تُكَفِّرُ الْأُخْرَى، كَالْيَعْقُوبِيَّةِ وَالْمَلِكَانِيَّةِ وَالنَّسْطُورِيَّةِ، وَنَقْلُ الْأَقْوَالِ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ مُضْطَرِبَةٌ، كَثِيرَةُ الِاخْتِلَافِ.

وَلِهَذَا يُقَالُ: لَوِ اجْتَمَعَ عَشْرَةُ نَصَارَى لَتَفَرَّقُوا عَلَى أَحَدَ عَشَرَ قَوْلًا، وَذَلِكَ أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ اعْتِقَادِهِمْ مِنَ التَّثْلِيثِ وَالِاتِّحَادِ، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي أَمَانَتِهِمْ، لَمْ يَنْطِقْ بِهِ شَيْءٌ مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا يُوجَدُ لَا فِي كَلَامِ

ص: 76

الْمَسِيحِ وَلَا الْحَوَارِيِّينَ وَلَا أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَكِنَّ عِنْدَهُمْ فِي الْكُتُبِ أَلْفَاظًا مُتَشَابِهَةً وَأَلْفَاظًا مُحْكَمَةً يَتَنَازَعُونَ فِي فَهْمِهَا، ثُمَّ الْقَائِلُونَ مِنْهُمْ بِالْأَمَانَةِ وَهُمْ عَامَّةُ النَّصَارَى الْيَوْمَ مِنَ الْمَلِكَانِيَّةِ وَالنَّسْطُورِيَّةِ وَالْيَعْقُوبِيَّةِ مُخْتَلِفُونَ فِي تَفْسِيرِهَا، وَنَفْسُ قَوْلِهِمْ مُتَنَاقِضٌ يَمْتَنِعُ تَصَوُّرَهُ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ.

فَلِهَذَا صَارَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَقُولُ مَا يَظُنُّ أَنَّهُ أَقْرَبُ مِنْ غَيْرِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُرَاعِي لَفْظَ أَمَانَتِهِمْ وَإِنْ صَرَّحَ بِالْكُفْرِ الَّذِي يَظْهَرُ فَسَادُهُ لِكُلِّ أَحَدٍ كَالْيَعْقُوبِيَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتُرُ بَعْضَ ذَلِكَ كَالنَّسْطُورِيَّةِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ وَهُمُ الْمَلِكَانِيَّةُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، وَلَمَّا ابْتَدَعُوا مَا ابْتَدَعُوا مِنَ التَّثْلِيثِ وَالْحُلُولِ، كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُخَالِفُهُمْ فِي ذَلِكَ.

وَقَدْ يُوجَدُ نَقْلُ النَّاسِ لِمَقَالَاتِهِمْ مُخْتَلِفًا، وَذَلِكَ بِحَسَبِ قَوْلِ الطَّائِفَةِ الَّتِي يَنْقُلُ ذَلِكَ النَّاقِلُ قَوْلَهَا، وَالْقَوْلُ الَّذِي يَحْكِيهِ كَثِيرٌ مِنْ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ يُوجَدُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَلَى خِلَافِهِ، كَمَا نَقَلُوا عَنْهُمْ مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْمَعَالِي وَصَاحِبُهُ أَبُو الْقَاسِمِ

ص: 77

الْأَنْصَارِيُّ، وَغَيْرُهُمَا: أَنَّ الْقَدِيمَ وَاحِدٌ بِالْجَوْهَرِ، ثَلَاثَةٌ بِالْأُقْنُومِ، وَأَنَّهُمْ يَعْنُونَ بِالْأُقْنُومِ: الْوُجُودَ وَالْحَيَاةَ وَالْعِلْمَ.

وَنَقَلُوا عَنْهُمْ: أَنَّ الْحَيَاةَ وَالْعِلْمَ لَيْسَا بِوَصْفَيْنِ زَائِدَيْنِ عَلَى الذَّاتِ مَوْجُودَيْنِ، بَلْ هُمَا صِفَتَانِ نَفْسِيَّتَانِ لِلْجَوْهَرِ، قَالُوا: وَلَوْ مُثِّلَ مَذْهَبِهِمْ بِمِثَالٍ لَقِيلَ: إِنَّ الْأَقَانِيمَ عِنْدَهُمْ تُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْأَحْوَالِ وَالصِّفَاتِ النَّفْسِيَّةِ عِنْدَ مُثْبِتِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ سَوَادِيَّةَ اللَّوْنِ وَلَوْنِيَّتَهُ صِفَتَانِ نَفْسِيَّتَانِ لِلْعَرَضِ، قَالَ: وَرُبَّمَا يُعَبِّرُونَ عَنِ الْأَقَانِيمِ بِالْأَبِ وَرُوحِ الْقُدُسِ، فَيَعْنُونَ بِالْأَبِ الْوُجُودَ، وَبِالِابْنِ الْمَسِيحَ وَالْكَلِمَةَ، وَرُبَّمَا سَمَّوُا الْعِلْمَ

ص: 78

كَلِمَةً، وَالْكَلِمَةَ عِلْمًا، وَيُعَبِّرُونَ عَنِ الْحَيَاةِ بِالرُّوحِ، قَالَ: وَلَا يُرِيدُونَ بِالْكَلِمَةِ الْكَلَامَ، فَإِنَّ الْكَلَامَ عِنْدَهُمْ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ، وَلَا يُسَمُّونَ الْعِلْمَ قَبْلَ تَدَرُّعِهِ بِالْمَسِيحِ وَاتِّحَادِهِ بِهِ ابْنًا، بَلِ الْمَسِيحُ عِنْدَهُمْ مَعَ مَا تَدَرَّعَ بِهِ ابْنٌ، قَالُوا: وَمِنْ مَذْهَبِهِمْ أَنَّ الْكَلِمَةَ اتَّحَدَتْ بِالْمَسِيحِ وَتَدَرَّعَتْ بِالنَّاسُوتِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الِاتِّحَادِ فَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِالِاخْتِلَاطِ وَالِامْتِزَاجِ، وَهَذَا مَذْهَبُ طَوَائِفَ مِنَ الْيَعْقُوبِيَّةِ وَالنَّسْطُورِيَّةِ وَالْمَلِكَانِيَّةِ، قَالُوا: إِنَّ الْكَلِمَةَ خَالَطَتْ جَسَدَ الْمَسِيحِ وَمَازَجَتْهُ كَمَا مَازَجَ الْخَمْرُ الْمَاءَ أَوِ اللَّبَنَ، قَالُوا: وَهَذَا مَذْهَبُ الرُّومِ وَمُعْظَمُهُمُ الْمَلِكَانِيَّةُ، قَالُوا: فَمَازَجَتِ الْكَلِمَةُ جَسَدَ الْمَسِيحِ فَصَارَتْ شَيْئًا وَاحِدًا وَصَارَتِ الْكَثْرَةُ قِلَّةً.

وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَعَاقِبَةِ إِلَى أَنَّ الْكَلِمَةَ انْقَلَبَتْ لَحْمًا وَدَمًا، وَقَالُوا: وَصَارَتْ شِرْذِمَةٌ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاتِّحَادِ ظُهُورُ اللَّاهُوتِ عَلَى النَّاسُوتِ كَظُهُورِ الصُّورَةِ فِي الْمِرْآةِ، وَالنَّقْشِ فِي الْخَاتَمِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: ظُهُورُ اللَّاهُوتِ عَلَى النَّاسُوتِ كَاسْتِوَاءِ الْإِلَهِ عَلَى الْعَرْشِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الطَّوَائِفِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاتِّحَادِ الْحُلُولُ. قَالُوا: وَقَدِ اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي الْجَوْهَرِ وَالْأَقَانِيمِ

ص: 79

فَذَهَبَتِ الْيَعْقُوبِيَّةُ وَالنَّسْطُورِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجَوْهَرَ لَيْسَ بِغَيْرِ الْأَقَانِيمِ.

وَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ هِيَ، وَصَرَّحَتِ الْمَلَكَانِيَّةُ بِأَنَّهُ غَيْرُ الْأَقَانِيمِ، وَآخَرُونَ قَالُوا: هُوَ الْأَقَانِيمُ.

قَالُوا: وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَذَهَبَتِ الرُّومُ إِلَى التَّصْرِيحِ بِإِثْبَاتِ ثَلَاثَةِ آلِهَةٍ، وَامْتَنَعَتِ الْيَعْقُوبِيَّةُ وَالنَّسْطُورِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ فِي وَجْهٍ وَالْتَزَمُوهُ مِنْ وَجْهٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْكَلِمَةُ إِلَهٌ وَالرُّوحُ إِلَهٌ وَالْأَبُ إِلَهٌ، وَالثَّلَاثَةُ الْأَقَانِيمُ الَّتِي كُلُّ أُقْنُومٍ إِلَهٌ، إِلَهٌ وَاحِدٌ.

قَالُوا: وَذَهَبَتْ شِرْذِمَةٌ مِنَ النَّصَارَى إِلَى أَنَّ عِيسَى كَانَ ابْنًا لِلَّهِ عَلَى جِهَةِ الْكَرَامَةِ، فَكَمَا اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، كَذَلِكَ اتَّخَذَ عِيسَى ابْنًا.

قَالُوا: وَهَؤُلَاءِ يُقَالُ لَهُمُ: الْأَرِيُوسِيَّةُ. فَهَذَا نَقْلُ طَائِفَةٍ مِنْ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا قَوْلٌ لِمَنْ قَالَهُ مِنَ النَّصَارَى، وَفِيهِ مَا هُوَ مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ أَمَانَتِهِمْ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُهُمْ، مِثْلَ قَوْلِهِ: إِنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَ الْعِلْمَ قَبْلَ تَدَرُّعِهِ بِالْمَسِيحِ ابْنًا، بَلِ الْمَسِيحُ مَعَ مَا تَدَرَّعَ بِهِ ابْنٌ، فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ مَا عَلَيْهِ فِرَقُ النَّصَارَى مِنَ الْمَلِكَانِيَّةِ وَالْيَعْقُوبِيَّةِ وَالنَّسْطُورِيَّةِ، وَخِلَافُ مَا تَضَمَّنَتْهُ أَمَانَتُهُمْ، إِذْ صَرَّحُوا فِيهَا بِأَنَّ الْكَلِمَةَ ابْنٌ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ مَوْلُودٌ قَبْلَ الدُّهُورِ، وَهَذَا صِفَةُ اللَّاهُوتِ عِنْدَهُمْ، وَفِيهَا أَشْيَاءُ يَقُولُهَا بَعْضُ النَّصَارَى لَا كُلُّهُمْ، وَكَذَلِكَ نَقْلُهُمْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ بِالْكَلِمَةِ الْكَلَامَ، فَإِنَّ الْكَلَامَ عِنْدَهُمْ صِفَةُ فِعْلٍ، وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ وَمِنَ

ص: 80

الْيَهُودِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَيُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ مَخْلُوقٌ.

وَنَقَلَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْهُمْ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الزَّاغُونِيِّ عَنْهُمْ مَا يُوَافِقُ هَذَا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَقَالُوا: اتَّفَقَتْ طَوَائِفُ النَّصَارَى عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِجِسْمٍ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ، وَأَنْ كُلَّ وَاحِدٌ مِنَ الْأَقَانِيمِ جَوْهَرٌ خَاصٌّ يَجْمَعُهَا الْجَوْهَرُ الْعَامُّ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْأَقَانِيمَ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْأُقْنُومِيَّةِ، مُتَّفِقَةٌ فِي الْجَوْهَرِيَّةِ.

وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَتْ مُخْتَلِفَةً فِي الْأُقْنُومِيَّةِ، بَلْ مُتَغَايِرَةً، وَقَالَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ: إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا لَا هُوَ الْآخَرُ، وَلَا هُوَ غَيْرُهُ، وَلَيْسَتْ مُتَغَايِرَةً وَلَا مُخْتَلِفَةً، وَزَعَمُوا أَنَّ الْجَوْهَرَ لَيْسَ هُوَ غَيْرَهَا إِلَّا مَا ذُكِرَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْمَلِكَانِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْأَقَانِيمَ هِيَ الْجَوْهَرُ غَيْرُ الْأَقَانِيمِ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْجَوْهَرَ هُوَ الْأَبُ، وَالْأَقَانِيمُ الْحَيَاةُ، وَهِيَ رُوحُ الْقُدُسِ، وَالْقُدْرَةُ، وَالْعِلْمُ، وَأَنَّ اللَّهَ اتَّحَدَ بِأَحَدِ الْأَقَانِيمِ الَّذِي هُوَ الِابْنُ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَكَانَ مَسِيحًا عِنْدَ الِاتِّحَادِ، لَاهُوتًا وَنَاسُوتًا، حُمِلَ، وَوُلِدَ، وَنَشَأَ، وَقُتِلَ، وَصُلِبَ، وَدُفِنَ.

ص: 81

وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فَقَالَتِ النَّسْطُورِيَّةُ: إِنَّ الْمَسِيحَ جَوْهَرَانِ أُقْنُومَانِ قَدِيمٌ وَمُحَدَثٌ، وَأَنَّ اتِّحَادَهُ إِنَّمَا هُوَ بِالْمَشِيئَةِ، وَأَنَّ مَشِيئَتَهُمَا وَاحِدَةٌ وَإِنْ كَانَا جَوْهَرَيْنِ.

وَقَالَتِ الْيَعْقُوبِيَّةُ: لَمَّا اتَّحَدَا صَارَ الْجَوْهَرَانِ الْجَوْهَرُ الْقَدِيمُ وَالْجَوْهَرُ الْمُحْدَثُ جَوْهَرًا وَاحِدًا.

وَاخْتَلَفُوا هَاهُنَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْجَوْهَرُ الْمُحْدَثُ صَارَ قَدِيمًا، وَزَعَمَ آخَرُونَ أَنَّهُمَا لَمَّا اتَّحَدَا صَارَا جَوْهَرًا وَاحِدًا قَدِيمًا مِنْ وَجْهٍ مُحْدَثًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.

وَقَالَتِ الْمَلِكَانِيَّةُ: إِنَّ الْمَسِيحَ جَوْهَرَانِ أُقْنُومٌ وَاحِدٌ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أُقْنُومَانِ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ، وَقَالَتِ الْأَرِيُوسِيَّةُ: إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا أَقَانِيمَ لَهُ، وَأَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يُصْلَبْ وَلَمْ يَقْتُلْ، وَأَنَّهُ نَبِيٌّ، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: الْمَسِيحُ لَيْسَ بِابْنِ اللَّهِ، وَحَكَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ عَلَى التَّسْمِيَةِ وَالتَّقْرِيبِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي الْكَلِمَةِ الْمُلْقَاةِ إِلَى مَرْيَمَ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: إِنَّ الْكَلِمَةَ حَلَّتْ فِي مَرْيَمَ حُلُولَ الْمُمَازَجَةِ، كَمَا يَحُلُّ الْمَاءُ فِي اللَّبَنِ فَيُمَازِجُهُ وَيُخَالِطُهُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: إِنَّهَا حَلَّتْ فِي مَرْيَمَ مِنْ غَيْرِ مُمَازَجَةٍ، كَمَا أَنَّ شَخْصَ الْإِنْسَانِ يَحُلُّ فِي الْمِرْآةِ وَفِي الْأَجْسَامِ الصَّقِيلَةِ مِنْ غَيْرِ مُمَازَجَةٍ.

ص: 82

وَزَعَمَتْ طَائِفَةٌ مِنَ النَّصَارَى أَنَّ النَّاسُوتَ مَعَ اللَّاهُوتِ كَمَثَلِ الْخَاتَمِ مَعَ الشَّمْعِ، يُؤَثِّرُ فِيهِ بِالنَّقْشِ، ثُمَّ لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا أَثَرُهُ.

قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الزَّاغُونِيِّ وَمَنْ مَعَهُ: وَاخْتَلَفَتِ النَّصَارَى فِي الْأَقَانِيمِ فَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ: هِيَ جَوَاهِرٌ، وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ خَوَاصٌّ، وَقَالَ قَوْمٌ هِيَ صِفَاتٌ، وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ أَشْخَاصٌ، وَالْأَبُ عِنْدَهُمُ الْجَوْهَرُ الْجَامِعُ لِلْأَقَانِيمِ، وَالِابْنُ هُوَ الْكَلِمَةُ الَّتِي اتَّحَدَتْ عِنْدَ مَبْدَأِ الْمَسِيحِ، وَالرُّوحُ هِيَ الْحَيَاةُ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى أَنَّ الِاتِّحَادَ صِفَةُ فِعْلٍ وَلَيْسَ بِصِفَةِ ذَاتٍ.

قَالُوا: وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُمْ فِي الِاتِّحَادِ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا، فَزَعَمَ قَوْمٌ مِنْهُمْ أَنَّ الِاتِّحَادَ هُوَ أَنَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي هِيَ الِابْنُ حَلَّتْ جَسَدَ الْمَسِيحِ وَقِيلَ: هَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ.

وَزَعَمَ قَوْمٌ مِنْهُمْ أَنَّ الِاتِّحَادَ: هُوَ الِاخْتِلَاطُ وَالِامْتِزَاجُ، وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْيَعْقُوبِيَّةِ: هُوَ أَنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ قَدِ انْقَلَبَتْ لَحْمًا وَدَمًا بِالِاخْتِلَاطِ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْيَعْقُوبِيَّةِ وَالنَّسْطُورِيَّةِ: الِاتِّحَادُ هُوَ أَنَّ الْكَلِمَةَ وَالنَّاسُوتَ اخْتَلَطَا وَامْتَزَجَا كَاخْتِلَاطِ الْمَاءِ بِالْخَمْرِ وَامْتِزَاجِهِمَا، وَكَذَلِكَ الْخَمْرِ بِاللَّبَنِ.

وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ: الِاتِّحَادُ هُوَ أَنَّ الْكَلِمَةَ وَالنَّاسُوتَ اتَّحَدَا فَصَارَا هَيْكَلًا وَاحِدًا.

ص: 83

وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ: الِاتِّحَادُ مِثْلَ ظُهُورِ صُورَةِ الْإِنْسَانِ فِي الْمِرْآةِ، وَكَظُهُورِ الطَّابَعِ فِي الْمَطْبُوعِ، مِثْلَ الْخَاتَمِ فِي الشَّمْعِ، وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ: الْكَلِمَةُ اتَّحَدَتْ بِجَسَدِ الْمَسِيحِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا حَلَّتْهُ مِنْ غَيْرِ مُمَاسَّةٍ وَلَا مُمَازَجَةٍ، كَمَا نَقُولُ: اللَّهُ فِي السَّمَاءِ عَلَى الْعَرْشِ مِنْ غَيْرِ مُمَاسَّةٍ وَلَا مُمَازَجَةٍ، وَكَمَا نَقُولُ: إِنَّ الْعَقْلَ جَوْهَرٌ حَالٌّ فِي النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ مُخَالَطَةٍ لِلنَّفْسِ وَلَا مُمَاسَّةٍ لَهَا. وَقَالَتِ الْمَلِكَانِيَّةُ: الِاتِّحَادُ أَنَّ الِاثْنَيْنِ صَارَا وَاحِدًا وَصَارَتِ الْكَثْرَةُ قِلَّةً.

وَهَذَا الَّذِي نَقَلَهُ عَنْهُمْ أَبُو الْحَسَنِ الزَّاغُونِيُّ هُوَ نَحْوُ مَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ الْقَاضِيَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُمَا، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدُ بْنُ حَزْمٍ: النَّصَارَى فِرَقٌ مِنْهُمْ أَصْحَابُ أَرِيُوسَ، وَكَانَ قِسِّيسًا بِالْأَسْكَنْدَرِيَّةِ، وَمِنْ قَوْلِهِ: التَّوْحِيدُ الْمُجَرَّدُ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدٌ

ص: 84

مَخْلُوقٌ، وَأَنَّهُ كَلِمَةُ اللَّهِ الَّتِي بِهَا خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَكَانَ فِي زَمَنِ " قُسْطَنْطِينَ " الْأَوَّلِ بَانِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَأَوَّلُ مَنْ تَنَصَّرَ مِنْ مَلُوكِ الرُّومِ، وَكَانَ عَلَى مَذْهَبِ أَرِيُوسَ هَذَا.

قَالَ: وَمِنْهُمْ أَصْحَابُ بُولُسَ الشِمْشَاطِيِّ، وَكَانَ بَطْرِيَارِكًا بِأَنْطَاكِيَةَ قَبْلَ ظُهُورِ النَّصْرَانِيَّةِ وَكَانَ قَوْلُهُ بِالتَّوْحِيدِ الْمُجَرَّدِ الصَّحِيحِ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ كَأَحَدِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام خَلَقَهُ اللَّهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ مَرْيَمَ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ، وَأَنَّهُ إِنْسَانٌ لَا إِلَهِيَّةَ فِيهِ الْبَتَّةَ، وَكَانَ يَقُولُ: لَا أَدْرِي مَا الْكَلِمَةُ وَلَا الرُّوحُ الْقُدُسِ، قَالَ: وَكَانَ مِنْهُمْ أَصْحَابُ مَقْدِنْيُوسَ، كَانَ بَطْرِيَارِكًا بَالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ بَعْدَ ظُهُورِ النَّصْرَانِيَّةِ أَيَّامَ قُسْطَنْطِينَ بْنِ قُسْطَنْطِينَ بَانِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَكَانَ هَذَا الْمَلِكُ أَرِيُوسِيًّا كَأَبِيهِ، وَكَانَ مِنْ قَوْلِ مَقْدُونِيُوسَ هَذَا التَّوْحِيدُ الْمُجَرَّدُ وَأَنَّ عِيسَى عليه السلام عَبْدٌ مَخْلُوقٌ إِنْسَانٌ نَبِيٌّ رَسُولٌ كَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام، وَأَنَّ عِيسَى هُوَ رُوحُ الْقُدُسِ وَكَلِمَةُ اللَّهِ، وَأَنَّ رُوحَ

ص: 85

الْقُدُسِ وَالْكَلِمَةَ مَخْلُوقَانِ، خَلَقَ اللَّهُ كُلَّ ذَلِكَ، قَالَ: وَكَانَ مِنْهُمُ الْبَرْبَرَانِيَّةُ، وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ عِيسَى وَأُمَّهُ إِلَهَانِ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ: وَهَذِهِ الْفِرَقُ قَدْ بَادَتْ، وَعُمْدَتُهُمُ الْيَوْمَ ثَلَاثُ فِرَقٍ، وَأَعْظَمُهَا فِرَقُ الْمَلِكَانِيَّةِ، وَهِيَ مَذْهَبُ جَمِيعِ مُلُوكِ النَّصَارَى حَيْثُ كَانُوا حَاشَا الْحَبَشَةَ وَالنُّوبَةَ وَمَذْهَبُ عَامَّةِ أَهْلِ كُلِّ مَمْلَكَةِ النَّصَارَى حَاشَا النُّوبَةَ وَالْحَبَشَةَ وَهُوَ مَذْهَبُ جَمِيعِ نَصَارَى أَفْرِيقِيَّةَ وَصِقِلِّيَّةَ

ص: 86

وَالْأَنْدَلُسِ وَجُمْهُورِ الشَّامِ، وَقَوْلُهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَبٌ، وَابْنٌ، وَرُوحُ الْقُدُسِ، كُلُّهَا لَمْ تَزَلْ، وَأَنَّ عِيسَى إِلَهٌ تَامٌّ كُلُّهُ وَإِنْسَانٌ تَامٌّ لَيْسَ أَحَدُهُمَا غَيْرَ الْآخَرِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ مِنْهُ هُوَ الَّذِي صُلِبَ وَقُتِلَ، وَأَنَّ الْإِلَهَ مِنْهُ لَمْ يَنَلْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ مَرْيَمَ وَلَدَتِ الْإِلَهَ وَالْإِنْسَانَ، وَأَنَّهُمَا مَعًا شَيْءٌ وَاحِدٌ ابْنُ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ كُفْرِهِمْ.

وَقَالَتِ النَّسْطُورِيَّةُ مِثْلَ ذَلِكَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، إِلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ مَرْيَمَ لَمْ تَلِدِ الْإِلَهَ، وَإِنَّمَا وَلَدَتِ الْإِنْسَانَ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَلِدِ الْإِنْسَانَ، وَإِنَّمَا وَلَدَ الْإِلَهَ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ كُفْرِهِمْ، وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ غَالِبَةٌ عَلَى الْمَوْصِلِ وَالْعِرَاقِ وَفَارِسَ وَخُرَاسَانَ، وَهُمْ مَنْسُوبُونَ إِلَى نَسْطُورَ، وَكَانَ بَطْرِيَارِكًا بَالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ.

وَقَالَتِ الْيَعْقُوبِيَّةُ: إِنَّ الْمَسِيحَ هُوَ اللَّهُ نَفْسُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ عَظِيمِ كُفْرِهِمْ مَاتَ وَصُلِبَ وَقُتِلَ، وَأَنَّ الْعَالَمَ بَقِيَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَا

ص: 87

مُدَبِّرٍ، وَالْفَلَكَ بِلَا مُدَبِّرٍ، ثُمَّ قَامَ وَرَجَعَ كَمَا كَانَ، وَاللَّهُ تَعَالَى عَادَ مُحْدَثًا، وَالْمُحْدَثُ عَادَ قَدِيمًا، وَاللَّهُ تَعَالَى كَانَ فِي بَطْنِ مَرْيَمَ مَحْمُولًا بِهِ، وَهُمْ فِي أَعْمَالِ مِصْرَ وَجَمِيعِ النُّوبَةِ وَجَمِيعِ الْحَبَشَةِ، وَمُلُوكُ الْأُمَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ.

قُلْتُ: وَمِنْ أَخْبَرِ النَّاسِ بِمَقَالَاتِهِمْ مَنْ كَانَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، وَأَسْلَمَ عَلَى بَصِيرَةٍ بَعْدَ الْخِبْرَةِ بِكُتُبِهِمْ وَمَقَالَاتِهِمْ، كَالْحَسَنِ بْنِ أَيُّوبَ الَّذِي كَتَبَ رِسَالَةً إِلَى أَخِيهِ عَلِيٍّ بْنِ أَيُّوبَ يَذْكُرُ فِيهَا سَبَبَ إِسْلَامِهِ وَيَذْكُرُ الْأَدِلَّةَ عَلَى بُطْلَانِ دِينِ النَّصَارَى وَصِحَّةِ دِينِ الْإِسْلَامِ، قَالَ فِي رِسَالَتِهِ إِلَى أَخِيهِ لَمَّا كَتَبَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنْ سَبَبِ إِسْلَامِهِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ خُطْبَتَهُ: " ثُمَّ أُعْلِمُكَ أَرْشَدَكَ اللَّهُ أَنَّ ابْتِدَاءَ أَمْرِي فِي الشَّكِّ الَّذِي دَخَلَنِي فِيمَا كُنْتُ عَلَيْهِ وَالِاسْتِبْشَاعِ بِالْقَوْلِ بِهِ مِنْ أَكْثَرَ

ص: 88

مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً لِمَا كُنْت أَقِفُ عَلَيْهِ فِي الْمَقَالَةِ مِنْ فَسَاد التَّوْحِيد لِلَّهِ عز وجل بِمَا أُدْخِلَ فِيهِ مِنَ الْقَوْلِ بِالثَّلَاثَةِ الْأَقَانِيمِ وَغَيْرِهَا مِمَّا تَضَمَّنَتْهُ شَرِيعَةُ النَّصَارَى، وَوَضْعِ الِاحْتِجَاجَاتِ الَّتِي لَا تَزْكُو وَلَا تَثْبُتُ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ، وَكُنْتُ إِذَا تَبَحَّرْتُهُ وَأَجَلْتُ الْفِكْرَ فِيهِ، بَانَ لِي عَوَارُهُ، وَنَفَرَتْ نَفْسِي مِنْ قَبُولِهِ، وَإِذَا فَكَّرْتُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي مَنَّ اللَّهِ عَلَيَّ بِهِ، وَجَدْتُ أُصُولَهُ ثَابِتَةً وَفُرُوعَهُ مُسْتَقِيمَةً وَشَرَائِعَهُ جَمِيلَةً.

وَأَصْلُ ذَلِكَ مَا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ أَحَدٌ مِمَنْ عَرَفَ اللَّهَ عز وجل مِنْكُمْ وَمِنْ غَيْرِكُمْ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ الْحَيِّ الْقَيُّومِ السَّمِيعِ الْبَصِيرِ الْوَاحِدِ الْفَرْدِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْجَوَادِ الْعَدْلِ إِلَهِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَإِلَهِ مُوسَى وَعِيسَى وَسَائِرِ النَّبِيِّينَ وَالْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، الَّذِي لَا ابْتِدَاءَ لَهُ وَلَا انْتِهَاءَ، وَلَا ضِدَّ وَلَا نِدَّ، وَلَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا، الَّذِي خَلَقَ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لَا مِنْ شَيْءٍ وَلَا عَلَى مِثَالٍ، بَلْ كَيْفَ شَاءَ وَبِأَنْ قَالَ لَهَا:" كَوْنِي " فَكَانَتْ عَلَى مَا قَدَّرَ وَأَرَادَ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ الَّذِي لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ، وَهُوَ الْغَالِبُ فَلَا يُغْلَبُ، وَالْجَوَادُ فَلَا يَبْخَلُ، لَا يَفُوتُهُ مَطْلُوبٌ، وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19] ، وَمَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا، وَكُلُّ مَذْكُورٍ أَوْ مَوْهُومٍ هُوَ مِنْهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِهِ، وَكُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ، ثُمَّ نُؤْمِنُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ ; لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ

ص: 89

الْمُشْرِكُونَ، وَنُؤْمِنُ بِمُوسَى وَعِيسَى وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَنُؤْمِنُ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنْبِيَائِهِ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَأَنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَأَنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ، ذَلِكَ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.

قَالَ: وَكَانَ يَحْمِلُنِي إِلْفُ دِينِي وَطُولُ الْمُدَّةِ وَالْعَهْدِ عَلَيْهِ وَالِاجْتِمَاعُ مَعَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَقَارِبِ وَالْإِخْوَانِ وَالْجِيرَانِ وَأَهْلِ الْمَوَدَّاتِ عَلَى التَّسْوِيفِ بِالْعَزْمِ، وَالتَّلَبُّثِ عَلَى إِبْرَامِ الْأَمْرِ، وَيَعْرِضُ مَعَ ذَلِكَ الْفِكْرُ فِي إِمْعَانِ النَّظَرِ وَالِازْدِيَادِ فِي الْبَصِيرَةِ، فَلَمْ أَدَعْ كِتَابًا مِنْ كُتُبِ أَنْبِيَاءِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْقُرْآنِ إِلَّا نَظَرْتُ فِيهِ وَتَصَفَّحْتُهُ، وَلَا شَيْئًا مِنْ مَقَالَاتِ النَّصْرَانِيَّةِ إِلَّا تَأَمَّلْتُهُ، فَلَمَّا لَمْ أَجِدْ لِلْحَقِّ مَدْفَعًا، وَلَا لِلشَّكِّ فِيهِ مَوْضِعًا، وَلَا لِلْأَنَاةِ وَالتَّلَبُّثِ وَجْهًا، خَرَجْتُ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ عز وجل بِنَفْسِي هَارِبًا بِدِينِي عَنْ نِعْمَةٍ وَأَهْلِ مُسْتَقَرٍّ وَمَحَلٍّ وَعِزٍّ وَمُتَصَرِّفٍ فِي عَمَلٍ، فَأَظْهَرْتُ مَا أَظْهَرْتُهُ عَنْ نِيَّةٍ صَحِيحَةٍ، وَسَرِيرَةٍ صَادِقَةٍ، وَيَقِينٍ ثَابِتٍ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ، لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ،

ص: 90

وَإِيَّاهُ تَعَالَى نَسْأَلُ أَنْ لَا يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا، وَأَنْ يَهَبَ لَنَا مِنْهُ رَحْمَةً، إِنَّهُ هُوَ الْوَهَّابُ.

قَالَ: وَلَمَّا نَظَرْتُ فِي مَقَالَاتِ النَّصَارَى وَجَدْتُ صِنْفًا مِنْهُمْ يُعْرَفُونَ بِالْأَرِيُوسِيَّةِ يُجَرِّدُونَ تَوْحِيدَ اللَّهِ وَيَعْتَرِفُونَ بِعُبُودِيَّةِ الْمَسِيحِ عليه السلام وَلَا يَقُولُونَ فِيهِ شَيْئًا مِمَّا يَقُولُهُ النَّصَارَى مِنْ رُبُوبِيَّةٍ وَلَا بُنُوَّةٍ خَاصَّةٍ وَلَا غَيْرِهِمَا، وَهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ مُقِرُّونَ بِمَا جَاءَ بِهِ تَلَامِيذُهُ وَالْحَامِلُونَ عَنْهُ، فَكَانَتْ هَذِهِ الطَّبَقَةُ قَرِيبَةً مِنَ الْحَقِّ مُخَالِفَةً لِبَعْضِهِ فِي جُحُودِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَدَفْعِ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

قَالَ: ثُمَّ وَجَدْتُ مِنْهُمْ صِنْفًا يُعْرَفُونَ بِالْيَعْقُوبِيَّةِ، يَقُولُونَ: إِنَّ الْمَسِيحَ طَبِيعَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ طَبِيعَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا طَبِيعَةُ النَّاسُوتِ وَالْأُخْرَى طَبِيعَةُ اللَّاهُوتِ، وَأَنَّ هَاتَيْنِ الطَّبِيعَتَيْنِ تَرَكَّبَتَا كَمَا تَرَكَّبَتِ النَّفْسُ مَعَ الْبَدَنِ فَصَارَتَا إِنْسَانًا وَاحِدًا وَجَوْهَرًا وَاحِدًا وَشَخْصًا وَاحِدًا، وَأَنَّ هَذِهِ الطَّبِيعَةَ الْوَاحِدَةَ وَالشَّخْصَ الْوَاحِدَ هُوَ الْمَسِيحُ، وَهُوَ إِلَهٌ كُلُّهُ وَإِنْسَانٌ كُلُّهُ، وَهُوَ شَخْصٌ وَاحِدٌ وَطَبِيعَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ طَبِيعَتَيْنِ.

وَقَالُوا: إِنَّ مَرْيَمَ وَلَدَتِ اللَّهَ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ، وَإِنَّ اللَّهَ مَاتَ وَتَأَلَّمَ وَصُلِبَ مُتَجَسِّدًا، وَدُفِنَ وَقَامَ مِنْ بَيْنِ الْأَمْوَاتِ وَصَعِدَ إِلَى

ص: 91

السَّمَاءِ، فَجَاءُوا مِنَ الْقَوْلِ بِمَا لَوْ عُرِضَ عَلَى السَّمَاءِ لَانْفَطَرَتْ، أَوْ عَلَى الْأَرْضِ لَانْشَقَّتْ، أَوْ عَلَى الْجِبَالِ لَانْهَدَّتْ، فَلَمْ يَكُنْ لِمُحَاجَّةِ هَؤُلَاءِ وَجْهٌ، إِذْ كَانَ كُفْرُهُمْ بِمَا صَرَّحُوا بِهِ أَوْضَحَ مِنْ أَنْ يَقَعَ فِيهِ الشَّكُّ، وَكَانَ غَيْرُهُمْ مِنَ النَّصَارَى كَالْمَالِكَانِيَّةِ وَالنَّسْطُورِيَّةِ يَشْهَدُونَ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ.

قَالَ: ثُمَّ نَظَرْتُ فِي قَوْلِ الْمَلِكَانِيَّةِ وَهُمُ الرُّومُ وَهُمْ أَكْثَرُ النَّصَارَى فَوَجَدْتُهُمْ قَالُوا: إِنَّ الِابْنَ الْأَزَلِيَّ الَّذِي هُوَ اللَّهُ الْكَلِمَةُ تَجَسَّدَ مِنْ مَرْيَمَ تَجَسُّدًا كَامِلًا كَسَائِرِ أَجْسَادِ النَّاسِ، وَرَكَّبَ فِي ذَلِكَ الْجَسَدِ نَفْسًا كَامِلَةً بِالْعَقْلِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ كَسَائِرِ أَنْفُسِ النَّاسِ، وَأَنَّهُ صَارَ إِنْسَانًا بِالنَّفْسِ وَالْجَسَدِ اللَّذَيْنِ هُمَا مِنْ جَوْهَرِ النَّاسِ، وَإِلَهًا بِجَوْهَرِ اللَّاهُوتِ كَمِثْلِ أَبِيهِ لَمْ يَزَلْ، وَهُوَ إِنْسَانٌ بِجَوْهَرِ النَّاسُوتِ مِثْلَ إِبْرَاهِيمَ وَدَاوُدَ، وَهُوَ شَخْصٌ وَاحِدٌ لَمْ يَزِدْ عَدَدُهُ وَثَبَتَ لَهُ جَوْهَرُ اللَّاهُوتِ كَمَا لَمْ يَزَلْ يَصِحُّ لَهُ جَوْهَرُ النَّاسُوتِ الَّذِي لَبِسَهُ مِنْ مَرْيَمَ، وَهُوَ شَخْصٌ وَاحِدٌ لَمْ يَزِدْ عَدَدُهُ وَطَبِيعَتَانِ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّبِيعَتَيْنِ مَشِيئَةٌ كَامِلَةٌ، فَلَهُ بِلَاهُوتِهِ مَشِيئَةٌ مِثْلَ الْأَبِ وَالرُّوحِ، وَلَهُ بِنَاسُوتِهِ مَشِيئَةٌ مِثْلَ مَشِيئَةِ إِبْرَاهِيمَ وَدَاوُدَ.

وَقَالُوا: إِنَّ مَرْيَمَ وَلَدَتْ إِلَهًا، وَأَنْ الْمَسِيحَ وَهُوَ اسْمٌ يَجْمَعُ

ص: 92

اللَّاهُوتَ وَالنَّاسُوتَ، مَاتَ، وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَمُتْ، وَالَّذِي وَلَدَتْ مَرْيَمُ قَدْ مَاتَ بِجَوْهَرِ نَاسُوتِهِ (فَهُوَ إِلَهٌ تَامٌّ بِجَوْهَرِ لَاهُوتِهِ، وَإِنْسَانٌ تَامٌّ بِجَوْهَرِ نَاسُوتِهِ، وَلَهُ مَشِيئَةُ اللَّاهُوتِ وَمَشِيئَةُ النَّاسُوتِ، وَهُوَ شَخْصٌ وَاحِدٌ لَا نَقُولُ شَخْصَانِ لِئَلَّا يَلْزَمَنَا الْقَوْلُ بِأَرْبَعَةِ أَقَانِيمَ.

قَالَ: فَهَؤُلَاءِ أَتَوْا مِنْ ذَلِكَ بِمِثْلِ مَا أَتَتْ بِهِ الْيَعْقُوبِيَّةُ فِي وِلَادَةِ مَرْيَمَ اللَّهَ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ، وَقَالُوا: إِنَّ الْمَسِيحَ وَهُوَ اسْمٌ لَا تَشُكُّ جَمَاعَةُ النَّصَارَى أَنَّهُ وَاقِعٌ عَلَى اللَّاهُوتِ وَالنَّاسُوتِ مَاتَ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَمُتْ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَيِّتًا لَمْ يَمُتْ، وَقَائِمًا قَاعِدًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ؟ وَهَلْ بَيْنَ الْمَقَالَتَيْنِ فَرْقٌ إِلَّا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الطَّبَائِعِ؟

قَالَ: ثُمَّ نَظَرْتُ فِي قَوْلِ النَّسْطُورِيَّةِ فَوَجَدْتُهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْمَسِيحَ شَخْصَانِ وَطَبِيعَتَانِ لَهُمَا مَشِيئَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَنَّ طَبِيعَةَ اللَّاهُوتِ الَّتِي لِلْمَسِيحِ غَيْرُ طَبِيعَةِ نَاسُوتِهِ، وَأَنَّ طَبِيعَةَ اللَّاهُوتِ لَمَّا تَوَحَّدَتْ بِالنَّاسُوتِ بِشَخْصِهَا

ص: 93

الْكَلِمَةُ الَّتِي صَارَتِ الطَّبِيعَتَانِ بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ، وَاللَّاهُوتُ لَا يَقْبَلُ زِيَادَةً وَلَا نُقْصَانَ، وَلَا يَمْتَزِجُ بِشَيْءٍ، وَالنَّاسُوتُ يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ، فَكَانَ الْمَسِيحُ بِتِلْكَ إِلَهًا وَإِنْسَانًا، فَهُوَ إِلَهٌ بِجَوْهَرِ اللَّاهُوتِ الَّذِي لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، وَهُوَ إِنْسَانٌ بِجَوْهَرِ النَّاسُوتِ الْقَابِلِ لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ.

وَقَالُوا: إِنَّ مَرْيَمَ وَلَدَتِ الْمَسِيحَ بِنَاسُوتِهِ، وَإِنَّ اللَّاهُوتَ لَمْ يُفَارِقْهُ قَطُّ مُنْذُ تَوَحَّدَتْ بِنَاسُوتِهِ.

وَقَالَ: فَوَجَدْنَا الْيَعْقُوبِيَّةَ قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ مَرْيَمَ وَلَدَتِ اللَّهَ، تَعَالَى عَمَّا يَصِفُهُ الْمُبْطِلُونَ وَيَقُولُهُ الْعَادِلُونَ، وَأَنَّهُ تَأَلَّمَ وَصُلِبَ وَمَاتَ، وَقَامَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ بَيْنِ الْمَوْتَى، وَهَذَا الْكُفْرُ الَّذِي تَشْهَدُ بِهِ عَلَيْهِمْ سَائِرُ مِلَلِ النَّصَارَى وَغَيْرُهِمْ، وَوَجَدْنَا الْمَلِكَانِيَّةَ قَدْ حَادُوا عَنْ هَذَا التَّصْرِيحِ إِلَى مَا هُوَ دُونَهُ فِي الظَّاهِرِ، فَقَالُوا: إِنَّ الْمَسِيحَ شَخْصٌ وَاحِدٌ وَطَبِيعَتَانِ، فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّبِيعَتَيْنِ مَشِيئَةٌ، فَلَهُ بِلَاهُوتِهِ مَشِيئَةٌ مِثْلُ الْأَبِ وَالرُّوحِ، وَلَهُ بِنَاسُوتِهِ مَشِيئَةٌ كَمَشِيئَةِ إِبْرَاهِيمَ وَدَاوُدَ. وَأَوْهَمُوا الْوَاقِفَ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنَّهُمْ بِمَا اخْتَرَعُوهُ مِنْ هَذَا الِاخْتِيَارِ قَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ اللَّاهُوتِ وَالنَّاسُوتِ، ثُمَّ عَادُوا إِلَى قَوْلِ الْيَعْقُوبِيَّةِ، فَقَالُوا: إِنَّ مَرْيَمَ وَلَدَتْ إِلَهًا وَأَنَّ الْمَسِيحَ وَهُوَ اسْمٌ يَجْمَعُ اللَّاهُوتَ وَالنَّاسُوتَ عِنْدَ جَمَاعَتِهِمْ لَا يَشُكُّونَ فِي ذَلِكَ، مَاتَ بِالْجَسَدِ وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَمُتْ، وَالَّذِي قَدْ وَلَدَتْهُ مَرْيَمُ قَدْ مَاتَ بِجَوْهَرِ نَاسُوتِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَيِّتٌ لَمْ يَمُتْ؟ وَهَلْ بَيْنَ الْمَقَالَتَيْنِ إِلَّا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الطَّبَائِعِ فَرْقٌ؟

ص: 94

وَإِذَا كَانُوا قَدِ اعْتَرَفُوا بِأَنَّ مَرْيَمَ وَلَدَتِ اللَّهَ، وَأَنَّ الَّذِي وَلَدَتْهُ مَرْيَمُ وَهُوَ الْمَسِيحُ الِاسْمُ الْجَامِعُ لِلْجَوْهَرَيْنِ، لِلَّاهُوتِ وَالنَّاسُوتِ قَدْ مَاتَ، فَهَلْ وَقَعَتِ الْوِلَادَةُ وَالْمَوْتُ وَسَائِرُ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَحْكِي النَّصَارَى أَنَّهَا فُعِلَتْ بِالْمَسِيحِ إِلَّا عَلَيْهِمَا؟

فَكَيْفَ يَصِحُّ لِذِي عَقْلٍ عِبَادَةُ مَوْلُودٍ مِنِ امْرَأَةٍ بَشَرِيَّةٍ قَدْ مَاتَ وَنَالَتْهُ الْعِلَلُ وَالْآفَاتُ؟

قُلْتُ: وَمِمَّا يُوَضِّحُ تَنَاقُضَهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمَسِيحِ وَهُوَ اللَّاهُوتُ وَالنَّاسُوتُ شَخْصٌ وَاحِدٌ وَأُقْنُومٌ وَاحِدٌ مَعَ قَوْلِهِمْ أَنَّهُمَا جَوْهَرَانِ بِطَبِيعَتَيْنِ وَمَشِيئَتَيْنِ فَيُثْبِتُونَ لِلْجَوْهَرَيْنِ أُقْنُومًا وَاحِدًا، وَيَقُولُونَ: هُوَ شَخْصٌ وَاحِدٌ، ثُمَّ يَقُولُونَ: إِنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَأُقْنُومٌ وَاحِدٌ، وَجَوْهَرٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ، فَيَثْبُتُونَ لِلْجَوْهَرِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَةَ أَقَانِيمَ، وَلِلْجَوْهَرَيْنِ الْمُتَّحِدَيْنِ أُقْنُومًا وَاحِدًا، مَعَ أَنَّ مَشِيئَةَ الْأَقَانِيمِ الثَّلَاثَةِ عِنْدَهُمْ وَاحِدَةٌ، وَالنَّاسُوتُ وَاللَّاهُوتُ يُثْبِتُونَ لَهُمَا مَشِيئَتَيْنِ وَطَبِيعَتَيْنِ، وَمَعَ هَذَا هُمَا عِنْدَهُمْ شَخْصٌ وَاحِدٌ، أُقْنُومٌ وَاحِدٌ، وَهَذَا يَقْتَضِي غَايَةَ التَّنَاقُضِ سَوَاءٌ فَسَّرُوا الْأُقْنُومَ بِالصِّفَةِ، أَوِ الشَّخْصِ، أَوِ الذَّاتِ مَعَ الصِّفَةِ، أَوْ أَيِّ شَيْءٍ قَالُوهُ.

وَهُوَ يُبَيِّنُ أَنَّ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِهَذَا الْكَلَامِ مَا تَصَوَّرُوا مَا قَالُوهُ،

ص: 95

بَلْ كَانُوا ضُلَّالًا جُهَّالًا، بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ الْأَنْبِيَاءُ فَإِنَّهُ حَقٌّ، فَلِهَذَا لَا يُوجَدُ عَنِ الْمَسِيحِ وَلَا غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَا يُوَافِقُ قَوْلَهُمْ فِي التَّثْلِيثِ وَالْأَقَانِيمِ وَالِاتِّحَادِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا ابْتَدَعُوهُ بِغَيْرِ سَمْعٍ وَعَقْلٍ، بَلْ أَلْقَوْا أَقْوَالًا مُخَالِفَةً لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ.

ثُمَّ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَيُّوبَ: ثُمَّ وَجَدْنَا النَّصَارَى الْمَعْرُوفِينَ بِالنَّسْطُورِيَّةِ قَدْ خَالَفُوا الْيَعْقُوبِيَّةَ وَالْمَلِكَانِيَّةَ فِي قَوْلِهِمْ بِشَخْصَيْنِ لَهُمَا مَشِيئَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَنَّ الطَّبِيعَتَيْنِ اتَّحَدَتَا فَصَارَتَا بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ عَادُوا إِلَى شَبِيهِ قَوْلِهِمْ فِي أَنَّ مَرْيَمَ وَلَدَتِ الْمَسِيحَ، فَإِذَا كَانَتْ وَلَدَتِ الْمَسِيحَ فَقَدْ لَزِمَهُمْ وَوَجَبَ عَلَيْهِمُ الْإِقْرَارُ بِأَنَّهَا وَلَدَتْ هَذَا اللَّاهُوتَ وَالنَّاسُوتَ الْمُتَّحِدَيْنِ.

وَقَدْ رَجَعَ الْمَعْنَى إِلَى قَوْلِ الْيَعْقُوبِيَّةِ، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَارُوا لِذَلِكَ أَلْفَاظًا زَوَّقُوهَا وَقَدَرُوا بِهَا التَّمْوِيِهَ عَلَى السَّامِعِ، وَلَمْ يُصَرِّحُوا بِالْقَوْلِ كَتَصْرِيحِ الْيَعْقُوبِيَّةِ ; لِأَنَّ الْمُتَّحِدَ بِالشَّيْءِ هُوَ الْمُمَازِجُ لَهُ وَالْمُجْتَمِعُ مَعَهُ حَتَّى صَارَ مَازِجُهُ وَهُوَ شَيْئًا وَاحِدًا، ثُمَّ أَكَّدُوا الْقَوْلَ بِإِقْرَارِهِمْ أَنَّ النَّاسُوتَ مُنْذُ اتَّحَدَ بِاللَّاهُوتِ لَمْ يُفَارِقْهُ، فَمَا لَمْ يُفَارِقِ الشَّيْءَ هَلْ هُوَ إِلَّا يَجْرِي مَجْرَاهُ فِي سَائِرِ مُتَفَرَّقَاتِهِ مِنْ ضُرٍّ وَنَفْعٍ، وَخَيْرٍ وَشَرٍّ، وَحَاجَةٍ وَغِنًى؟

قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ مَرْيَمَ وَلَدَتِ الْمَسِيحَ بِنَاسُوُتِهِ فَهَذِهِ أُغْلُوطَةٌ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يُولَدُ وَلَدٌ مُتَحِدٍّ بِشَيْءٍ آخَرَ مُجَامِعٌ لَهُ دُونَ ذَلِكَ الشَّيْءِ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ ذَاكَ وَهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ لَمْ يُفَارِقْهُ قَطُّ؟ وَهَلْ يَصِحُّ

ص: 96

هَذَا عِنْدَ أَهْلِ النَّظَرِ؟ أَوَلَيْسَ الْحُكْمُ عِنْدَ كُلِّ نَاظِرٍ وَمِنْ كُلِّ ذِي عَقْلٍ يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الْوِلَادَةُ وَاقِعَةً عَلَى اللَّاهُوتِ وَالنَّاسُوتِ مَعًا؟ بِمَعْنَى الِاتِّحَادِ وَبِمَعْنَى الِاسْمِ الْجَامِعِ لِلَاهُوتِ وَالنَّاسُوتِ وَهُوَ الْمَسِيحُ، وَكَذَلِكَ الْحَمْلُ بِهِمَا جَمِيعًا، وَأَنْ يَكُونَ الْبَطْنُ قَدْ حَوَاهُمَا؟

قَالَ: فَإِنْ لَجُّوا فِي الْبَاطِلِ وَدَافَعُوا عَنْ قَبِيحِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَمَالُوا إِلَى تَحْسِينِهَا بِالتَّمْوِيهَاتِ الْمُشَكِّكَةِ لِمَنْ قَصَرَتْ مَعْرِفَتُهُ، فَنَحْنُ نُقِيمُ عَلَيْهِمْ شَاهِدًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ لَا يُمْكِنُهُمْ دَفْعُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ شَرِيعَةَ إِيمَانِهِمُ الَّتِي أَلَّفَهَا لَهُمْ رُؤَسَاؤُهُمْ مِنَ الْبَطَارِكَةِ وَالْمَطَارِنَةِ وَالْأَسَاقِفَةِ وَالْأَحْبَارِ فِي دِينِهِمْ وَذَوِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ بِحَضْرَةِ الْمَلِكِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمْ مِنْ آفَاقِ الْأَرْضِ بِمَدِينَةِ " قُسْطَنْطِينِيَّةَ " وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَجُلًا، يَصِفُونَ أَنَّهُمْ نَطَقُوا بِهَا بِرُوحِ الْقُدُسِ، وَهِيَ الَّتِي لَمْ تَخْتَلِفْ جَمَاعَتُهُمْ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمَقَالَاتِ فِيهَا، وَلَا يَتِمُّ لَهُمْ قُرْبَانٌ إِلَّا بِهَا عَلَى هَذَا النَّسَقِ الَّذِي نُبَيِّنُهُ: نُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْأَبِ، مَالِكِ كُلِّ شَيْءٍ، صَانِعِ مَا يُرَى وَمَا لَا يُرَى، وَبِالرَّبِّ الْوَاحِدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ اللَّهِ الْوَاحِدِ، بِكْرِ الْخَلَائِقِ كُلِّهَا، وَلَيْسَ بِمَصْنُوعٍ، إِلَهٌ حَقٌّ مِنْ إِلَهٍ حَقٍّ، مِنْ جَوْهَرِ أَبِيهِ، الَّذِي بِيَدِهِ أُتْقِنَتِ الْعَوَالِمُ، وَخُلِقَ كُلُّ شَيْءٍ، الَّذِي مِنْ أَجْلِنَا مَعْشَرَ الْبَشَرِ، وَمِنْ

ص: 97

أَجْلِ خَلَاصِنَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، وَتَجَسَّدَ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ، وَصَارَ إِنْسَانًا، وَحُبِلَ بِهِ وَوُلِدَ مِنْ مَرْيَمَ الْبَتُولِ، وَتَأَلَّمَ وَصُلِبَ أَيَّامَ قِيطُوسَ بْنِ بِيلَاطُوسَ، وَدُفِنَ، وَقَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ، وَصَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ، وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ أَبِيهِ، وَهُوَ مُسْتَعِدٌّ لِلْمَجِيءِ تَارَةً أُخْرَى لِلْقَضَاءِ بَيْنَ الْأَمْوَاتِ وَالْأَحْيَاءِ، وَنُؤْمِنُ بِرُوحِ الْقُدُسِ الْوَاحِدِ رُوحِ الْحَقِّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ أَبِيهِ رُوحٌ، وَمَجِيئُهُ، وَبِمَعْمُودِيَّةٍ وَاحِدَةٍ لِغُفْرَانِ الْخَطَايَا، وَبِجَمَاعَةٍ وَاحِدَةٍ قِدِّيسِيَّةٍ سَلِيخِيَّةٍ جَاثِلِيقِيَّةٍ، وَبِقِيَامَةِ أَبْدَانِنَا، وَبِالْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ إِلَى أَبَدِ الْآبِدِينَ.

قَالَ: فَهَذِهِ الشَّرِيعَةُ يَجْتَمِعُ عَلَى الْإِيمَانِ بِهَا، وَبَذْلِ الْمُهَجِ فِيهَا، وَإِخْرَاجِ الْأَنْفُسِ دُونَهَا جَمَاهِيرُهُمْ مِنَ الْمَلِكَانِيَّةِ وَالْيَعْقُوبِيَّةِ وَالنَّسْطُورِيَّةِ.

وَقَدِ اعْتَرَفُوا فِيهَا جَمِيعًا بِأَنَّ الرَّبَّ الْمَسِيحَ الَّذِي هَذِهِ صِفَتُهُ عَلَى مَا اقْتَصَصْنَاهُ مِنْهَا الْإِلَهُ الْحَقُّ مِنَ الْإِلَهِ الْحَقِّ، نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَتَجَسَّدَ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ، وَصَارَ إِنْسَانًا وَحُبِلَ بِهِ وَوُلِدَ مِنْ مَرْيَمَ الْبَتُولِ وَتَأَلَّمَ وَصُلِبَ.

ص: 98

قَالَ: فَهَلْ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ شُبْهَةٌ أَوْ عَلَقَةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا الْعَنِتُ الْمُدَافِعُ عَنِ الْحُجَّةِ؟ فَتَدَبَّرُوا هَذَا الْقَوْلَ يَا مَعْشَرَ النَّصَارَى، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدٌ مِنْكُمْ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ، وَلَا أَنْ يَدْفَعَ مَا صَرَّحَ بِهِ، فَإِنَّكُمْ إِنْ قُلْتُمْ: إِنَّ الْمَقْتُولَ الْمَصْلُوبَ هُوَ اللَّهُ، فَمَرْيَمُ عَلَى قَوْلِكُمْ وَلَدَتِ اللَّهَ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ، وَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّهُ إِنْسَانٌ فَمَرْيَمُ وَلَدَتْ إِنْسَانًا، وَفِي ذَلِكَ أَجْمَعَ بُطْلَانُ شَرِيعَةِ إِيمَانِكُمْ، فَاخْتَارُوا أَيَّ الْقَوْلَيْنِ شِئْتُمْ، فَإِنَّ فِيهِ نَقْضَ الدِّينِ.

قَالَ: وَقَدْ يَجِبُ عَلَى ذَوِي الْعُقُولِ أَنْ تَزْجُرَهُمْ عُقُولُهُمْ عَنْ عِبَادَةِ إِلَهٍ وَلَدَتْهُ مَرْيَمُ، وَهِيَ امْرَأَةٌ آدَمِيَّةٌ، ثُمَّ مَكَثَ عَلَى الْأَرْضِ ثَلَاثِينَ سَنَةً تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْآدَمِيِّينَ مِنْ غِذَاءٍ وَتَرْبِيَةٍ، وَصِحَّةٍ وَسَقَمٍ، وَخَوْفٍ وَأَمْنٍ، وَتَعَلُّمٍ وَتَعْلِيمٍ، لَا يَتَهَيَّأُ لَكُمْ أَنْ تَدَّعُوا أَنَّهُ كَانَ مِنْهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ مِنْ أَسْبَابِ اللَّاهُوتِيَّةِ شَيْءٌ، وَلَا لَهُ مِنْ أَحْوَالِ الْآدَمِيِّينَ كُلِّهَا مِنْ حَاجَتِهِمْ وَضَرُورَاتِهِمْ وَهُمُومِهِمْ وَمِحَنِهِمْ وَتَصَرُّفَاتِهِمْ مَخْرَجٌ، ثُمَّ أَحْدَثَ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ مَا أَحْدَثَهُ مِنْ إِظْهَارِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالنُّبُوَّاتِ وَالْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ الْمُعْجِزَةِ بِقُوَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِثْلُهَا وَمَا هُوَ أَعْلَى مِنْهَا، فَكَانَتْ مُدَّتُهُ فِي ذَلِكَ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ، ثُمَّ انْقَضَى أَمْرُهُ بِمَا يَصِفُونَ أَنَّهُ انْقَضَى بِهِ وَيَنْسُبُونَهُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْسٍ وَضَرْبٍ وَقَذْفٍ، وَصَلْبٍ وَقَتْلٍ، فَهَلْ تَقْبَلُ الْعُقُولَ مَا يَقُولُونَ مِنْ

ص: 99

أَنَّ إِلَهًا نَالَ عِبَادُهُ مِنْهُ، مِثْلَ مَا تَذْكُرُونَ أَنَّهُ نِيلَ مِنْهُ؟

فَإِنْ تَأَوَّلْتُمْ أَنَّ ذَلِكَ حَلَّ بِالْجِسْمِ، وَلَيْسَ بِالْقِيَاسِ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ لِمَا شَرَحْنَاهُ مِنْ مَعْنَى اتِّحَادِ اللَّاهُوتِ بِهِ، أَفَلَيْسَ قَدْ وَقَعَ بِجِسْمٍ تَوَحَّدَتِ اللَّاهُوتِيَّةُ بِهِ، وَحَلَّتِ الرُّوحُ فِيهِ، وَقَدْ أَنْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى مَا تَزْعُمُونَ وَتَصِفُونَ لِخَلَاصِ الْخَلْقِ، وَفَوَّضَ إِلَيْهِ الْقَضَاءَ بَيْنَ الْعِبَادِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ لِلْحِسَابِ، وَقَدْ وَجَدْنَاكُمْ تُؤْثِرُونَ أَخْبَارًا فِي قَوْمٍ عَرَضُوا التَّوَابِيتَ فِيهَا شُهَدَاءُ لَكُمْ بِأَنَّ الْأَيْدِيَ الَّتِي بُسِطَتْ إِلَيْهَا جَفَّتْ، أَوْ هَلْ نَالَ أَحَدًا مِنَ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ وَالْغَمِّ وَالْقَلَقِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ فِي إِزَالَةِ مَا حَلَّ بِهِ، مِثْلَ مَا يُحْكَى فِي الْإِنْجِيلِ أَنَّهُ نَالَهُ، وَوَجَدْنَا الْكُتُبَ تُنْبِئُ بِأَنَّهُ نِيلَ مِنْ جُورْجِيسَ أَحَدِ مِنْ كَانَ عَلَى دِينِ الْمَسِيحِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ بِالْقَتْلِ وَالْحَرْقِ وَالنَّشْرِ بِالْمَنَاشِيرِ مَا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ فِي أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ، وَنَالَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ تَلَامِذَتِهِ أَيْضًا عَذَابٌ شَدِيدٌ.

وَقِيلَ: لَمَّا كَانَ الْمُلُوكُ الْمُحَارِبُونَ لَهُمْ يَسُومُونَهُمْ إِيَّاهُ مِنَ الرُّجُوعِ عَنْ أَدْيَانِهِمْ إِلَى الْكُفْرِ الَّذِي كَانَ أُولَئِكَ الْمُلُوكُ عَلَيْهِ فَصَبَرُوا عَلَى ذَلِكَ وَاحْتَسَبُوا أَنْفُسَهُمْ، فَلَمْ يَهْرُبُوا مِنَ الْمَوْتِ، وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُمُ الْهَرَبُ مِنْ

ص: 100

بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَالِاسْتِتَارُ وَإِخْفَاءُ أَشْخَاصِهِمْ، وَمَا أَظْهَرُوا فِي حَالٍ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ جَزَعًا وَلَا هَلَعًا، وَهُمْ بَعْضُ الْآدَمِيِّينَ التَّابِعِينَ لَهُ، لِأَنَّهُ خُفِّفَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَنَالُونَ بِهِ بِتَأْيِيدِ اللَّهِ عز وجل إِيَّاهُمْ.

قَالَ: ثُمَّ نَقُولُ قَوْلًا آخَرَ: قَدْ نَسْتَدِلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ مِنْ سُقْمِهَا بِأَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ، لَا يَقَعُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا شَكٌّ وَلَا طَعْنٌ، وَلَا زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانُ، وَهِيَ أَصْلُ أَمْرِ الْمَسِيحِ عِنْدَكُمْ:

فَأَوَّلُهَا الْبُشْرَى الَّتِي أَتَى بِهَا جِبْرِيلُ عليه السلام

وَالثَّانِيَةُ: قَوْلُ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمَسِيحُ بِأَنَّهُ لَمْ تَقُمِ النِّسَاءُ عَنْ مِثْلِهِ.

وَالثَّالِثَةُ: النِّدَاءُ الْمَسْمُوعُ مِنَ السَّمَاءِ.

وَالرَّابِعَةُ: قَوْلُ الْمَسِيحِ عَنْ نَفْسِهِ حِينَ سَأَلَهُ يَحْيَى عَنْ شَأْنِهِ.

وَالَّذِي قَالَ جِبْرِيلُ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي إِنْجِيلِكُمْ لِمَرْيَمَ حِينَ بَشَّرَهَا: (السَّلَامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا الْمُمْتَلِئَةُ نِعَمًا، رَبُّنَا مَعَكِ أَيَّتُهَا الْمُبَارَكَةُ فِي النِّسَاءِ. فَلَمَّا رَأَتْهُ مَرْيَمُ ذُعِرَتْ مِنْهُ، فَقَالَ: لَا تَرْهَبِي يَا مَرْيَمُ فَقَدْ فُزْتِ بِنِعْمَةٍ مِنْ رَبِّكِ، فَهَا أَنْتَ تَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّيهِ يَسُوعَ وَيَكُونُ كَبِيرًا، وَيُسَمَّى ابْنُ اللَّهِ الْعَلِيِّ، وَيُعْطِيهِ اللَّهُ الرَّبُّ كُرْسِيَّ أَبِيهِ

ص: 101

دَاوُدَ، وَيَكُونُ مَلِكًا عَلَى آلِ يَعْقُوبَ إِلَى الْأَبَدِ. فَقَالَتْ مَرْيَمُ: أَنَّى يَكُونُ لِي ذَلِكَ وَلَمْ يَمْسَسْنِي رَجُلٌ؟ قَالَ لَهَا الْمَلَكُ: إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ يَأْتِيكِ، أَوْ قَالَ: يَحِلُّ فِيكِ، وَقُوَّةَ الْعَلِيِّ تُحْبِلُكِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ يَكُونُ الَّذِي يُولَدُ مِنْكِ قِدِّيسًا، وَيُسَمَّى ابْنُ اللَّهِ الْعَلِيِّ) .

قَالَ: فَلَمْ نَرَ الْمَلَكَ قَالَ لَهَا: إِنَّ الَّذِي تَلِدِينَ هُوَ خَالِقُكِ، وَهُوَ الرَّبُّ كَمَا سَمَّيْتُمُوهُ، بَلْ أَزَالَ الشَّكَّ فِي ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ الرَّبَّ يُعْطِيِهِ كُرْسِيَّ أَبِيهِ دَاوُدَ، وَيَصْطَفِيِهِ وَيُكْرِمُهُ، وَأَنَّ دَاوُدَ النَّبِيَّ أَبُوهُ، وَأَنَّهُ يُسَمَّى ابْنُ اللَّهِ، وَمَا قَالَ أَيْضًا:(أَنَّهُ يَكُونُ مَلِكًا عَلَى الْأَرْضِ) وَإِنَّمَا جُعِلَ لَهُ الْمُلْكُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَطْ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مَنْ يُسَمَّى بِابْنِ اللَّهِ كَثِيرٌ لَا يُحْصَوْنَ، فَمِنْ ذَلِكَ إِقْرَارُكُمْ بِأَنَّكُمْ جَمِيعًا أَبْنَاءُ اللَّهِ

ص: 102

بِالْمَحَبَّةِ، وَقَوْلُ الْمَسِيحِ:(أَبِي وَأَبِيكُمْ، وَإِلَهِي وَإِلَهِكُمْ) ، فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْإِنْجِيلِ، ثُمَّ تَسْمِيَةُ اللَّهِ يَعْقُوبَ وَغَيْرَهُ بَنِيهِ خُصُوصًا، فَالسَّبِيلُ فِي الْمَسِيحِ إِذَا لَمْ تُلْحِقُوهُ فِي هَذَا الِاسْمِ بِالْجُمْهُورِ أَنْ يَجْرِيَ فِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ مَجْرَى الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ اخْتُصُّوا بِهَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَبْرَارِ، وَنِسْبَةُ الْمَلَكِ إِيَّاهُ إِلَى أَبِيهِ دَاوُدَ تُحَقِّقُ أَنَّ أَبَاهُ دَاوُدَ، وَأَنَّ التَّسْمِيَةَ الْأُولَى عَلَى جِهَةِ الِاصْطِفَاءِ وَالْمَحَبَّةِ، وَأَنَّ حُلُولَ الرُّوحِ عَلَيْهِ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي قَالَهَا " مَتَّى " التِّلْمِيذُ لِلشَّعْبِ عَنِ الْمَسِيحِ فِي الْإِنْجِيلِ:(لَسْتُمْ أَنْتُمْ مُتَكَلِّمِينَ، بَلْ رُوحُ اللَّهِ تَأْتِيكُمْ تَتَكَلَّمُ فِيكُمْ) .

فَأَخْبَرَ أَنَّ الرُّوحَ تَحِلُّ فِي الْقَوْمِ أَجْمَعِينَ وَتَتَكَلَّمُ فِيهِمْ، وَقَالَ الْمَلَكُ فِي بِشَارَتِهِ لِمَرْيَمَ بِالْمَسِيحِ عليه السلام: إِنَّهُ يَكُونُ مَلِكًا عَلَى آلِ يَعْقُوبَ. فَخَصَّ آلَ يَعْقُوبَ بِتَمَلُّكِهِ عَلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُ يَكُونُ إِلَهًا لِلْخَلَائِقِ، وَمَعْنَى قَوْلِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ

ص: 103

لِمَرْيَمَ 74: (رَبُّنَا مَعَكِ) مِثْلُ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ عز وجل لِمُوسَى وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ: (إِنِّي مَعَكُمْ) فَقَدْ قَالَ لِيُوشَعَ بْنِ نُونَ: (إِنِّي أَكُونُ مَعَكَ، كَمَا كُنْتُ مَعَ مُوسَى عَبْدِي) فَقَوْلُ النَّصَارَى كُلِّهُمْ فِي مَجَارِي لُغَتِهِمْ وَمَعَانِي أَلْفَاظِهِمْ أَنَّ اللَّهَ عز وجل وَرُوحَ الْقُدُسِ مَعَ كُلِّ خَطِيبٍ وَرَاهِبٍ وَفَاضِلٍ فِي دِينِهِ عَلَى هَذِهِ السَّبِيلِ.

قَالَ: وَأَمَّا النِّدَاءُ الَّذِي سَمِعَهُ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا مِنَ السَّمَاءِ فِي الْمَسِيحِ، وَشَهَادَةُ يَحْيَى لَهُ، فَإِنَّ " مَتَّى " قَالَ فِي إِنْجِيلِهِ:(إِنَّ الْمَسِيحَ عليه السلام لَمَّا خَرَجَ مِنَ الْأُرْدُنِّ تَفَتَّحَتْ لَهُ السَّمَاءُ، فَنَظَرَ يَحْيَى إِلَى رُوحِ الْقُدُسِ قَدْ نَزَلَتْ عَلَى الْمَسِيحِ كَهَيْئَةِ حَمَامَةٍ، وَسَمِعَ نِدَاءً مِنَ السَّمَاءِ: إِنَّ هَذَا ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي اصْطَفَيْتُهُ) .

ص: 104

فَقَدْ عَلِمْنَا وَعَلِمْتُمْ أَنَّ الْمُصْطَفَى مَفْعُولٌ، وَالْمَفْعُولُ مَخْلُوقٌ، وَلَيْسَ يَسْتَنْكِفُ الْمَسِيحُ عليه السلام مِنْ الِاعْتِرَافِ بِذَلِكَ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِذَلِكَ فِي كُلِّ كَلَامِهِ، وَمَا زَالَ يَقُولُ:(إِلَهِي وَإِلَهِكُمْ وَأَبِي وَأَبِيكُمْ) وَكُلَّمَا يُصَحِّحُ بِهِ أَنَّهُ عَبْدٌ مُرْسَلٌ مَرْبُوبٌ مَبْعُوثٌ مَأْمُورٌ يُؤَدِّي مَا سَمِعَ، وَيَفْعَلُ مَا حُدَّ لَهُ، وَنَحْنُ نَشْرَحُ هَذَا فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ وَجَدْنَا الْمَسِيحَ عليه السلام احْتَاجَ إِلَى تَكْمِيلِ أَمْرِهِ بِمَعْمُودِيَّةِ يَحْيَى لَهُ، فَسَارَ إِلَيْهِ لِذَلِكَ وَسَأَلَهُ إِيَّاهُ، فَلَيْسَ مَرْتَبَةُ الْمَقْصُودِ بِدُونِ مَرْتَبَةِ الْقَاصِدِ الرَّاغِبِ، وَقَالَ " لُوقَا " التِّلْمِيذُ فِي إِنْجِيلِهِ:(إِنَّ يَحْيَى الْمَعْمِدَانِيَّ أَرْسَلَ إِلَى الْمَسِيحِ بَعْدَ أَنْ عَمَّدَهُ وَسَأَلَهُ: أَنْتَ ذَلِكَ الَّذِي تَجِيءُ، أَوْ نَتَوَقَّعُ غَيْرَكَ؟) فَكَانَ جَوَابَ الْمَسِيحِ

ص: 105

لِرُسُلِهِ: (أَنِ ارْجِعُوا فَأَخْبِرُوهُ بِمَا تَرَوْنَ مِنْ عُمْيَانٍ يُبْصِرُونَ، وَزُمْنٍ يَنْهَضُونَ، وَصُمٍّ يَسْمَعُونَ، فَطُوبَى لِمَنْ لَمْ يَغْتَرَّ بِي، أَوْ يَذِلَّ فِي أَمْرِي) .

قَالَ: فَوَجَدْنَا يَحْيَى مَعَ مَحَلِّهِ وَجَلَالَةِ قَدْرِهِ عِنْدَ اللَّهِ عز وجل ثُمَّ مَا شَهِدَ بِهِ لِلْمَسِيحِ لَهُ مِنْ أَنَّهُ مَا قَامَتِ النِّسَاءُ عَنْ مِثْلِهِ، قَدْ شَكَّ فِيهِ، فَاحْتَاجَ إِلَى أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ شَأْنِهِ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ مِنْ جَوَابِ الْمَسِيحِ لَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا تَصِفُونَ مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ، وَلَا قَالَ: إِنِّي خَالِقُكَ وَخَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، كَمَا فِي شَرِيعَةِ إِيمَانِكُمْ، بَلْ حَذَّرَ الْغَلَطَ فِي أَمْرِهِ وَالِاغْتِرَارَ، وَلَا كَانَ مِنْ قَوْلِهِ أَكْثَرُ مِمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ أَظْهَرَ بِنُبُوَّتِهِ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي سَبَقَ إِلَى مِثْلِهَا أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ.

قَالَ: وَلَا رَأَيْنَا يَحْيَى زَادَ فِي وَضْعِهِ إِيَّاهُ لَمَّا قَرَّظَهُ وَأَعْلَا ذِكْرَهُ مَعَ تَشَكُّكِهِ فِي أَمْرِهِ وَحَاجَتِهِ إِلَى مَسْأَلَتِهِ عَنْ حَالِهِ عَلَى أَنْ قَالَ: (هُوَ أَقْوَى مِنِّي، وَأَنِّي لَا أَسْتَحِقُّ أَنْ أَحُلَّ مَعْقِدَ خُفِّهِ) وَلَمْ يَقِلْ إِنَّهُ

ص: 106

خَالِقِي، وَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ الْخَيِّرُ فِيمَنْ هُوَ دُونَهُ مِثْلَ الَّذِي قَالَ يَحْيَى فِيهِ تَوَاضُعًا لِلَّهِ وَخُشُوعًا، كَمَا قَالَ الْمَسِيحُ فِي يَحْيَى:(إِنَّهُ مَا قَامَتِ النِّسَاءُ عَنْ مِثْلِهِ) .

قَالَ: فَتَرَكْتُمْ مَا أَتَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَالنُّبُوَّاتُ فِي الْمَسِيحِ وَهُوَ أَصْلُكُمُ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ بِنَاؤُكُمْ، وَجَعَلْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ شَرِيعَةً غَيْرَهَا، وَمَثَلُ الَّذِينَ عَقَدُوا هَذِهِ الشَّرِيعَةَ لَكُمْ مَثَلُ مَنْ آمَنَ بِنُبُوَّةِ رَجُلٍ يَنْتَفِي مِنَ النُّبُوَّةِ، لِأَنَّ الْمَسِيحَ عليه السلام يَقُولُ: إِنَّهُ مَرْبُوبٌ مَبْعُوثٌ، وَيَقُولُ جِبْرِيلُ: إِنَّهُ مَكْرَمٌ مُصْطَفًى، وَأَنَّ أَبَاهُ دَاوُدَ، وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ مَلِكًا عَلَى آلِ يَعْقُوبَ، وَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَيَشْهَدُ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا عَلَى مِثْلِهِ، وَتَقُولُونَ: بَلْ هُوَ خَالِقٌ أَزَلِيٌّ إِلَّا أَنَّهُ يَسْتُرُ نَفْسَهُ، وَيَقُولُ: الْمَسِيحُ وَغَيْرُهُ مِمَنْ سَمَّيْنَا أَنَّهُ مُعْطًى وَأَنَّ اللَّهَ مُعْطِيِهِ، وَتَقُولُونَ: بَلْ رَازِقُ النِّعَمِ وَوَاهِبُهَا، وَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ، وَتَقُولُونَ: بَلْ هُوَ الَّذِي نَزَلَ لِخَلَاصِنَا، وَتَعْتَقِدُونَ سَبَبَ نُزُولِهِ مِنَ السَّمَاءِ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَكُمْ، وَيَحْتَمِلَ الْخَطِيئَةَ، وَيَرْبِطَ الشَّيْطَانَ! فَقَدْ وَجَدْنَا الْخَلَاصَ

ص: 107

لَمْ يَقَعْ، وَالْخَطِيئَةَ قَائِمَةً لَمْ تَزَلْ، وَالشَّيْطَانَ أَعْتَى مَا كَانَ لَمْ يُرْبَطْ، بَلْ سَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَلَى مَا تَقُولُونَ، فَحَصَرَهُ فِي الْجَبَلِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يَمْتَحِنُهُ، وَقَالَ لَهُ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ مَعَهُ: (إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللَّهِ فَقُلْ لِهَذِهِ الصُّخُورِ تَصِيرُ خُبْزًا، فَقَالَ لَهُ الْمَسِيحُ مُجِيبًا لَهُ: إِنَّهُ مَكْتُوبٌ أَنَّ حَيَاةَ الْإِنْسَانِ لَا تَكُونُ بِالْخُبْزِ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنَ اللَّهِ. ثُمَّ سَاقَهُ الشَّيْطَانُ إِلَى مَدِينَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَقَامَهُ عَلَى قَرْنَةِ الْهَيْكَلِ، وَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللَّهِ فَارْمِ بِنَفْسِكَ مِنْ هَاهُنَا، فَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُوَكَّلُ بِكَ، لِئَلَّا تَعْثَرَ رِجْلُكَ بِالْحَجَرِ. قَالَ يَسُوعُ: وَمَكْتُوبٌ أَيْضًا: لَا تُجَرِّبِ الرَّبَّ إِلَهَكَ. ثُمَّ سَاقَهُ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمْلَكَاتِ الدُّنْيَا وَزَخَارِفَهَا، وَقَالَ لَهُ: إِنْ خَرَرْتَ عَلَى وَجْهِكَ سَاجِدًا لِي جَعَلْتُ هَذَا الَّذِي تَرَى كُلَّهُ لَكَ. قَالَ لَهُ الْمَسِيحُ: اغْرُبْ أَيُّهَا الشَّيْطَانُ، فَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ: اسْجُدْ لِلرَّبِّ إِلَهِكَ، وَلَا تَعْبُدْ شَيْئًا سِوَاهُ. ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ عز وجل مَلَكًا اقْتَلَعَ الْعَدُوَّ مِنْ مَكَانِهِ وَرَمَى بِهِ فِي الْبَحْرِ، وَأَطْلَقَ السَّبِيلَ لِلْمَسِيحِ.

ص: 108

وَقَالَ: أَفَلَا يَعْلَمُ مَنْ كَانَ فِي عَقْلِهِ أَدْنَى مُسْكَةٍ، أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَا يَكُونُ مِنْ شَيْطَانٍ إِلَى إِلَهٍ، وَلَوْ كَانَ إِلَهًا لَأَزَالَهُ عَنْ نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ الْمَلَكُ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ، وَلَمَا قَالَ:(أُمِرْنَا أَنْ لَا نُجَرِّبَ اللَّهَ، وَأَنْ نَسْجُدَ لِلرَّبِّ، وَلَا نَعْبُدَ شَيْئًا سِوَاهُ) . وَكَيْفَ لَمْ يَرْبُطِ الشَّيْطَانَ عَنْ نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْبُطَ عَنْ أُمَّتِهِ؟ قَالَ: فَهَذِهِ أُمُورٌ إِذَا تَأَمَّلَهَا الْمُتَأَمِّلُ قُبِّحَتْ جِدًّا، وَكَثُرَ اخْتِلَافُهَا، وَاشْتَدَّ تَنَاقُضُهَا وَاضْطِرَابُهَا.

قَالَ: وَمِمَّا يُعْجَبُ مِنْهُ أَنَّكُمْ تَعْتَقِدُونَ أَنَّ الِابْنَ الْأَزَلِيَّ اتَّحَدَ بِالْمَسِيحِ فَصَارَا بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يُفَارِقْهُ قَطُّ مُنْذُ اتَّحَدَ بِهِ، وَمَكَثَ عَلَى ذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ أَقَامَ مَوْلُودًا وَتَغَذَّى بِاللَّبَنِ، وَمَرْبُوبًا صَبِيًّا مُغَذًّى بِالْأَغْذِيَةِ إِلَى أَنْ بَلَغَ ثَلَاثِينَ سَنَةً لَا يَظْهَرُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ آلَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَلَا أَمْرٌ يُوجِبُ هَذَا الْمَحَلَّ، وَلَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نُظَرَائِهِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ فَرْقٌ، وَلَا سَطَعَ مِنْهُ نُورٌ، وَلَا ظَهَرَتْ لَهُ سَكِينَةٌ، وَلَا حَفَّتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِالتَّهْلِيلِ، وَلَا أَلَمَّ بِهِ الشَّعَثُ بَعْدَ ذَلِكَ فَوْقَ مَا كَانَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، فَقَدْ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى مِنَ الْعَوْسَجَةِ كَيْفَ شَاءَ فَأَشْرَقَ مَا حَوْلَهَا نُورًا، وَكَلَّمَهُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ فَاضْطَرَبَتْ فِي الْجَبَلِ النِّيرَانُ، وَالْتَبَسَ وَجْهَهُ النُّورُ السَّاطِعُ حَتَّى كَانَ يَتَبَرْقَعُ إِذَا جَلَسَ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ النَّظَرَ إِلَيْهِ، ثُمَّ سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ عز وجل لَمَّا قَرُبَ

ص: 109

مِنْهُ فَقَالَ: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ. قَالَ: لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ، فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقَا فَلَمَّا أَفَاقَ) مِنْ صَعْقَتِهِ اسْتَغْفَرَ رَبَّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ، وَتَجَلَّى مَجْدُ اللَّهِ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَرَأَوْا حَوْلَ مَجْدِهِ رَبْوَاتِ الْمَلَائِكَةِ.

وَقَالَ دَاوُدَ: (يَا رَبِّ إِنَّكَ حَيْثُ عَبَرْتَ بِبِلَادِ سِنِينَ تَزَلْزَلَتِ الْأَرْضُ مِنْكَ وَانْفَطَرَتْ مِنْ هَيْبَتِكَ) . وَقَالَ أَيْضًا كَالْمُخَاطِبِ لِلْبَحْرِ وَالْجِبَالِ وَالْمُتَعَجِّبِ مِنْهَا: (مَا لَكَ أَيُّهَا الْبَحْرُ هَارِبًا، وَأَنْتَ يَا نَهْرُ الْأُرْدُنِّ لِمَ وَلَّيْتَ رَاجِعًا، وَمَا لَكِ أَيَّتُهَا الْجِبَالُ تَنْفِرِينَ كَالْأَبَابِيلِ، وَمَالَكُنَّ أَيَّتُهَا الشَّوَامِخُ وَالْهَضَبَاتُ تَنْزُو نَزْوَ الشِّيَاءِ) . ثُمَّ قَالَ كَالْمُجِيبِ عَنْهُمْ: (مِنْ قُدَّامِ الرَّبِّ تَزَلْزَلَتِ الْبِقَاعُ) .

قَالَ: فَإِنْ كَانَ الْمَسِيحُ هُوَ الْأَزَلِيُّ الْخَالِقُ أَوْ كَانَ مُتَّحِدًا بِهِ، فَكَيْفَ لَمْ تَرْجُفْ بَيْنَ يَدَيْهِ الْجِبَالُ وَلَمْ تَتَصَرَّفْ عَنْ مَشِيئَتِهِ الْأَنْهَارُ وَالْبِحَارُ؟ أَوْ كَيْفَ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ آيَاتٌ بَاهِرَاتٌ أَجَلُّ مِنْ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ مِثْلَ الْمَشْيِ عَلَى مُتُونِ الْهَوَاءِ، وَالِاضْطِجَاعِ عَلَى أَكْتَافِ الرِّيَاحِ، وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنِ

ص: 110

الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَإِحْرَاقِ مَنْ قَرُبَ مِنْهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَالْجِنِّ، كَمَا أَحْرَقَ إِيلِيَا مَنْ قَرُبَ مِنْهُ مِنْ جُنْدِ أُحَابَ الْمَلِكِ، وَيَمْنَعُ الْآدَمِيِّينَ مِنْ نَفْسِهِ، وَمَا فَعَلُوا عَلَى زَعْمِكُمْ بِجِسْمِهِ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهُ خَالِقُهُمْ أَوْ أَنَّهُ هَيْكَلُ الْخَالِقِ؟

قَالَ: وَوَجَدْنَاكُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ الِابْنَ إِنَّمَا يُسَمَّى ابْنُ اللَّهِ وَكَلَامُهُ، لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنَ الْأَبِ وَظَهَرَ مِنْهُ، فَلَمْ نَقِفْ عَلَى مَعْنَى ذَلِكَ، لِأَنَّ شَرِيعَةَ إِيمَانِكُمْ تَقُولُ: إِنَّ الرُّوحَ أَيْضًا تَخْرُجُ مِنَ الْأَبِ، فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُونَ فَالرُّوحُ أَيْضًا ابْنٌ، لِأَنَّهَا تَخْرُجُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَّا فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟

قَالَ: وَلَمْ نَفْهَمْ أَيْضًا قَوْلَكُمْ: إِنَّ الِابْنَ تَجَسَّدَ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ، وَأَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ سَاقَهُ إِلَى الْبَرِّ لِيَمْتَحِنَهُ الشَّيْطَانُ، فَمَا كَانَتْ حَاجَةُ الِابْنِ إِلَى أَنْ تَكُونَ الرُّوحُ وَهِيَ فِي قَوْلِكُمْ مِثْلُهُ تُدَبِّرُهُ وَتُغَيِّرُهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، أَوَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ الْغَيْرَ السَّابِقَ الْمُدَبِّرَ فَاعِلٌ، وَالْمَسْبُوقَ

ص: 111

الْمُدَبَّرَ مَفْعُولٌ بِهِ، فَالِابْنُ إِذَنْ دُونَ الرُّوحِ وَلَيْسَ مِثْلَهُ، لِأَنَّ الْأَزَلِيَّ لَا يَنْفَكُّ مِنَ الْأَزَلِيِّ وَهُوَ مِثْلُهُ.

قَالَ: وَإِنْ كَانَ الْمَسِيحُ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ، كَمَا قَالَ جِبْرِيلُ الْمَلَكُ لِأُمِّهِ مَرْيَمَ، فَلِمَ سَمَّيْتُمُوهُ كَلِمَةَ اللَّهِ وَابْنَهُ، وَلَمْ تُسَمُّوهُ رُوحَهُ، فَإِنَّمَا قَالَ لَهَا الْمَلَكُ: إِنَّ الَّذِي تَلِدِينَ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ. وَالرُّوحُ غَيْرُ الِابْنِ، وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا لَمَا قَالَتِ الشَّرِيعَةُ إِنَّهُ تَجَسَّدَ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ، وَإِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ سَاقَهُ إِلَى الْبَرِّ، وَإِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَزَلَ عَلَيْهِ، وَلِمَ تُثَلِّثُونَ بِهِ فِي إِيمَانِكُمْ فَتَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِالْأَبِ وَالِابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ؟

قَالَ: وَوَجَدْنَاكُمْ تَقُولُونَ أَيَّتُهَا النَّسْطُورِيَّةُ: إِنَّ لِلَّهِ عِلْمًا وَحِكْمَةً هُمَا الِابْنُ، وَحَيَاةً هِيَ الرُّوحُ قَدِيمَيْنِ، وَلِعِلْمِهِ وَحَيَاتِهِ ذَاتٌ كَذَاتِ اللَّهِ، وَذَلِكَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ لَهُ عِلْمٌ وَحَيَاةٌ، وَلِحَيَاتِهِ الَّتِي هِيَ رُوحُهُ عِلْمٌ وَحَيَاةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ الْأَبَ لَمَّا رَأَى اسْتِيلَاءَ الْعَدُوِّ عَلَى خَلْقِهِ وَنُكُولِ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ مُنَاوَأَتِهِ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ ابْنَهُ الْفَرْدَ وَحَبِيبَهُ وَجَعَلَهُ فِدَاءً وَوَفَاءً لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَأَنَّ ابْنَهُ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَتَجَسَّدَ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ وَصَارَ إِنْسَانًا، ثُمَّ وُلِدَ وَنَشَأَ وَعَاشَ ثَلَاثِينَ سَنَةً يَتَقَلَّبُ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ، يُصَلِّي

ص: 112

فِي كَنَائِسِهِمْ، وَيَسْتَنُّ بِسُنَنِهِمْ، لَا يَدَّعِي دِينًا غَيْرَ دِينِهِمْ، وَلَا يَنْتَحِلُ رِسَالَةً وَلَا نُبُوَّةً وَلَا بُنُوَّةً حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ تِلْكَ السُّنُونَ. أَظْهَرَ الدَّعْوَةَ وَجَاءَ بِالْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ وَالْبَرَاهِينِ الْمَشْهُورَةِ، فَأَنْكَرَتْهُ الْيَهُودُ وَقَتَلَتْهُ وَصَلَبَتْهُ، ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ.

وَصَدَّقْتُمْ بِشَرِيعَةِ الْإِيمَانِ وَكَفَّرْتُمْ مَنْ خَالَفَهَا، ثُمَّ لَمْ تَلْبَثُوا أَنْ خَلَعْتُمُوهَا وَانْسَلَخْتُمْ مِنْهَا وَقُلْتُمْ: إِنَّ الْمَسِيحَ جَوْهَرَانِ وَأُقْنُومَانِ، جَوْهَرٌ قَدِيمٌ وَجَوْهَرٌ حَدِيثٌ، وَلِكُلِّ جَوْهَرٍ أُقْنُومٌ عَلَى حِيَالِهِ، وَإِنَّ اللَّهَ جَوْهَرٌ قَدِيمٌ يَقُومُ بِمَعْنَيَيْنِ، فَهُوَ وَاحِدٌ يَقُومُ بِثَلَاثَةِ مَعَانٍ، وَثَلَاثَةٌ لَهَا مَعْنًى وَاحِدٌ، كَالشَّمْسِ الَّتِي هِيَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَلَهَا ثَلَاثَةُ مَعَانٍ: الْقُرْصُ وَالْحَرُّ وَالنُّورُ. فَالْمَسِيحُ هُوَ اللَّهُ، وَهُوَ مَبْعُوثٌ غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ يُعْبَدُ.

فَكَانَ مَعْنَى قَوْلِكُمْ هَذَا: أَنَّ الْمَسِيحَ مَوْلُودٌ لَكِنَّهُ لَيْسَ مَفْعُولًا بِهِ، وَهُوَ مَبْعُوثٌ مُرْسَلٌ لَكِنَّكُمْ تَسْتَحْيُونَ أَنْ تُسَمُّوهُ رَسُولًا، إِذْ كُنْتُمْ لَا تُفَرِّقُونَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَأَقْبَلْتُمْ عَلَى الْمَلِكَانِيَّةِ وَالْيَعْقُوبِيَّةِ بِالتَّكْفِيرِ وَاللَّعْنِ لِقَوْلِهِمْ إِنَّ اللَّهَ وَالْمَسِيحَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، ثُمَّ لَمْ تَلْبَثُوا أَنْ قَدَّمْتُمُ الْمَسِيحَ عَلَى اللَّهِ تبارك وتعالى وَبَدَأْتُمْ بِهِ فِي التَّمْجِيدِ، وَرَفَعْتُمْ إِلَيْهِ تَهَالِيلَكُمْ وَرَغَائِبَكُمْ فِي أَوْقَاتِ الْقَرَابِينِ خَاصَّةً، وَهِيَ أَجَلُّ صَلَوَاتِكُمْ وَأَفْضَلُ مَحَافِلِكُمْ عِنْدَكُمْ، فَإِنَّهُ يَقُومُ الْإِمَامُ مِنْكُمْ عَلَى الْمَذْبَحِ مِنْ مَذَابِحِكُمْ

ص: 113

وَأَهْلُهُ مَرْعُوبُونَ فَتَتَوَقَّعُونَ نُزُولَ رُوحِ الْقُدُسِ، بِزَعْمِكُمْ مِنَ السَّمَاءِ بِدُعَائِهِ.

فَيَفْتَحُ دُعَاءَهُ وَيَقُولُ: (لِيَتِمَّ عَلَيْنَا وَعَلَيْكُمْ نِعْمَةُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَمَحَبَّةُ اللَّهِ الْأَبِ، وَمُشَارَكَةُ رُوحُ الْقُدُسِ إِلَى دَهْرِ الدَّاهِرِينَ) . ثُمَّ يَخْتِمُ صَلَاتَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِالشِّرْكِ، وَتَصْغِيرٌ لِعَظَمَةِ اللَّهِ وَعِزَّتِهِ أَنْ جَعَلْتُمُ النِّعَمَ وَالْمَوَاهِبَ لِمَنْ هُوَ دُونَهُ، وَهُوَ مُعْطًى وَمُخَوَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَى قَوْلِكُمْ، وَجَعَلْتُمْ لِلَّهِ بَعْدَ الْمَسِيحِ مَحَبَّةً وَلِرُوحِهِ مُشَارَكَةً.

قَالَ: وَوَجَدْنَاكُمْ قَدْ عِبْتُمْ عَلَى الْيَعْقُوبِيَّةِ قَوْلَهُمْ: إِنَّ مَرْيَمَ وَلَدَتِ اللَّهَ، عَزَّ اللَّهُ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ، وَفِي شَرِيعَةِ الْإِيمَانِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا الْمُجْتَمَعِ عَلَيْهَا أَنَّ الْمَسِيحَ إِلَهٌ حَقٌّ، وَأَنَّهُ وُلِدَ مِنْ مَرْيَمَ، فَمَا مَعْنَى الْمُنَافَرَةِ، وَمَا الْفَرْقُ، وَمَا تُنْكِرُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمَقْتُولَ الْمَصْلُوبَ هُوَ اللَّهُ عَزَّ اللَّهُ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ؟

وَشَرِيعَةُ إِيمَانِكُمْ تَقُولُ: نُؤْمِنُ بِالرَّبِّ الْمَسِيحِ الَّذِي مِنْ خَبَرِهِ وَحَالِهِ الَّذِي وُلِدَ مِنْ مَرْيَمَ وَتَأَلَّمَ وَصُلِبَ عَلَى عَهْدِ الْمَلِكِ " بِيلَاطِيسَ "

ص: 114

النَّبَطِيِّ، وَدُفِنَ وَقَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، أَلَيْسَ هَذَا إِقْرَارًا بِمِثْلِ قَوْلِهِمْ؟ فَتَدَبَّرُوا هَذَا الْقَوْلَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ.

فَإِنَّكُمْ إِنْ قُلْتُمْ: إِنَّ الْمَقْتُولَ الْمَصْلُوبَ هُوَ اللَّهُ، فَإِنَّ مَرْيَمَ عِنْدَكُمْ وَلَدَتِ اللَّهَ.

وَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّهُ إِنْسَانٌ فَإِنَّ مَرْيَمَ وَلَدَتْ إِنْسَانًا، وَبَطَلَتِ الشَّرِيعَةُ، فَأَيُّ الْقَوْلَيْنِ اخْتَرْتُمُوهُ فَفِيهِ نَقْضُ دِينِكُمْ، ثُمَّ عِبْتُمْ عَلَى الْمَلِكَانِيَّةِ قَوْلَهُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ لِلْمَسِيحِ إِلَّا أُقْنُومًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ صَارَ مَعَ الْأَزَلِيِّ الْخَالِقِ شَيْئًا وَاحِدًا لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَقُلْتُمْ بِأَنَّ لَهُ أُقْنُومَيْنِ، لِكُلِّ جَوْهَرٍ أُقْنُومٌ عَلَى حِيَالِهِ، ثُمَّ لَمْ تَلْبَثُوا أَنْ رَجَعْتُمْ إِلَى مِثْلِ قَوْلِهِمْ فَقُلْتُمْ: إِنَّ الْمَسِيحَ وَإِنْ كَانَ مَخْلُوقًا مِنْ مَرْيَمَ مَبْعُوثًا، فَإِنَّهُ هَيْكَلٌ لِابْنِ اللَّهِ الْأَزَلِيِّ، وَنَحْنُ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عِنْدَكُمْ عَلَى هَذَا فَمَا تَنْقِمُونَ عَلَى الْمَلَكِيَّةِ، وَمَا مَعْنَى الِافْتِرَاقِ؟ وَقَدْ رَجَعْتُمْ فِي الِاتِّحَادِ إِلَى مِثْلِ قَوْلِهِمْ؟ إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ تَحَارُ فِيهِ الْأَفْهَامُ.

فَإِنْ كَانَتِ الشَّرِيعَةُ بِمَعْنَى الْأَمَانَةِ عِنْدَكُمْ حَقًّا، فَالْقَوْلُ مَا قَالَ يَعْقُوبُ، وَذَلِكَ أَنَّا إِذَا ابْتَدَأْنَا مِنَ الشَّرِيعَةِ فِي ذِكْرِ الْمَسِيحِ، ثُمَّ نَسَّقْنَا الْمَعَانِيَ نَسَقًا وَاحِدًا وَانْحَدَرْنَا فِيهَا إِلَى آخِرِهَا، وَجَدْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ أَلْقَوْهَا لَكُمْ قَدْ صَحَّحُوا أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ ابْنُ اللَّهِ وَهُوَ بِكْرُ الْخَلَائِقِ كُلِّهَا، وَهُوَ الَّذِي وُلِدَ مِنْ مَرْيَمَ لَيْسَ بِمَصْنُوعٍ، وَهُوَ إِلَهٌ حَقٌّ مِنْ إِلَهٍ حَقٍّ

ص: 115

مِنْ جَوْهَرِ أَبِيهِ، وَهُوَ الَّذِي أَتْقَنَ الْعَوَالِمَ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ عَلَى يَدِهِ، وَهُوَ الَّذِي نَزَلَ لِخَلَاصِكُمْ، فَتَجَسَّدَ وَحَمَلَتْهُ مَرْيَمُ وَوَلَدَتْهُ، وَقُتِلَ وَصُلِبَ، فَمَنْ أَنْكَرَ قَوْلَ الْيَعْقُوبِيَّةِ لَزِمَهُ أَنْ يُنْكِرَ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ الَّتِي تَشْهَدُ بِصِحَّةِ قَوْلِهِمْ وَيَلْعَنُ مَنْ أَلَّفَهَا.

قَالَ: وَإِنَّمَا أَخَذَتْ تِلْكَ الطَّائِفَةُ يَعْنِي الَّذِينَ وَضَعُوا الْأَمَانَةَ بِكَلِمَاتٍ وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ وَجَدُوهَا فِي الْإِنْجِيلِ مُشْكَلَاتٍ تَأَوَّلَتْ فِيهَا مَا وَقَعَ بِهَوَاهَا، وَتَرَكَتْ مَا فِي الْإِنْجِيلِ مِنَ الْكَلَامِ الْبَيِّنِ الْوَاضِحِ الَّذِي يَشْهَدُ بِعُبُودِيَّةِ الْمَسِيحِ وَشَهَادَتُهُ بِذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ وَشَهَادَةُ تَلَامِيذِهِ بِهِ عَلَيْهِ، فَأَخَذَتْ بِالْمُشْكَلِ الْيَسِيرِ، وَجَعَلَتْ لَهُ مَا أَحَبَّتْ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَأَلْغَتِ الْوَاضِحَ الْكَثِيرَ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ.

قَالَ: فَأَمَّا احْتِجَاجُكُمْ بِالشَّمْسِ، وَأَنَّهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ لَهُ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ، وَتَشْبِيهُكُمْ مَا يَقُولُونَهُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَقَانِيمِ بِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ تَمْوِيهٌ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ نُورَ الشَّمْسِ لَا يُحَدُّ بِحَدِّ الشَّمْسِ، وَكَذَلِكَ حَرُّهَا لَا يُحَدُّ بِحَدِّ الشَّمْسِ، إِذْ كَانَ حَدُّ الشَّمْسِ جِسْمًا مُسْتَدِيرًا مُضِيئًا مُسَخَّنًا دَائِرًا فِي وَسَطِ الْأَفْلَاكِ دَوَرَانًا دَائِمًا، وَيَتَهَيَّأُ أَنْ يُحَدَّ نُورُهَا وَحَرُّهَا بِمِثْلِ هَذِهِ الصِّفَةِ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ نُورَهَا أَوْ حَرَّهَا جِسْمٌ مُسْتَدِيرٌ مُضِيءٌ مُسَخَّنٌ دَائِمُ الدَّوَرَانِ، وَلَوْ كَانَ نُورُهَا وَحَرُّهَا شَمْسًا حَقًّا مِنْ شَمْسٍ حَقٍّ مِنْ جَوْهَرِ الشَّمْسِ، كَمَا قَالَتِ الشَّرِيعَةُ فِي الْمَسِيحِ: إِنَّهُ إِلَهٌ حَقٌّ مِنْ إِلَهٍ حَقٍّ مِنْ

ص: 116

جَوْهَرِ أَبِيهِ، لَكَانَ مَا قُلْتُمْ لَهُ مَثَلًا تَامًّا، وَالْأَمْرُ مُخَالِفٌ لِذَلِكَ فَلَا يُشْبِهُهُ وَلَا يَقَعُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ، وَالْحُجَّةُ مِنْكُمْ فِيهِ بَاطِلَةٌ.

قَالَ: وَوَجَدْنَاكُمْ تَذْكُرُونَ أَنَّ الْمَسِيحَ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ فَأَبْطَلَ بِنُزُولِهِ الْمَوْتَ وَالْآثَامَ، فَإِنَّ الْعَجَبَ لَيَطُولُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَأَعْجَبُ مِنْهُ مَنْ قَبِلَهُ وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهِ، وَمِمَّنْ لَمْ يَسْتَقْبِحْ أَنْ يَعْتَقِدَ دِيَانَةً لِلَّهِ تبارك وتعالى عَلَى مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ الْمُحَالِ الْبَائِنِ عَمَّا تَشْهَدُ بِهِ الْعُقُولُ وَتُنْبِئُ بِهِ الْمُشَاهَدَةُ، وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَيْهَا، فَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ مِنْ عَقْدِ مَا هُوَ أَمْحَلُ وَأَبْطَلُ مِنْهَا، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْخَطِيئَةُ بَطَلَتْ بِمَجِيئِهِ، فَالَّذِينَ قَتَلُوهُ إِذًا لَيْسُوا خَاطِئِينَ وَلَا مَأْثُومِينَ، لِأَنَّ لَا خَاطِئَ بَعْدَ مَجِيئِهِ وَلَا خَطِيئَةَ.

وَكَذَلِكَ أَيْضًا الَّذِينَ قَتَلُوا حَوَارِيَّهُ وَأَحْرَقُوا أَسْفَارَهُ غَيْرُ خَاطِئِينَ، وَكَذَلِكَ مَنْ نَرَاهُ مِنْ جَمَاعَتِكُمْ مُنْذُ ذَلِكَ الدَّهْرِ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ يَقْتُلُ وَيَسْرِقُ وَيَزْنِي وَيَلُوطُ، وَيَسْكَرُ وَيَكْذِبُ، وَيَرْكَبُ كُلَّ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنَ الْكَبَائِرِ وَغَيْرِهَا غَيْرُ خَاطِئِينَ، وَلَا مَأْثُومِينَ.

فَمَنْ جَحَدَ ذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى التَّسْبِيحَةِ الَّتِي تُقْرَأُ بِعَقِبِ كُلِّ قُرْبَانٍ، وَهُوَ أَنْ (يَا رَبَّنَا الَّذِي غَلَبَ بِوَجَعِهِ الْمَوْتَ الطَّاغِي) .

ص: 117

وَفِي الْأُخْرَى الَّتِي تُقَالُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْفِصْحِ: (إِنَّ فَخْرَنَا بِالصَّلِيبِ الَّذِي بَطَلَ بِهِ سُلْطَانُ الْمَوْتِ وَصِرْنَا إِلَى الْأَمْنِ وَالنَّجَاةِ بِسَبَبِهِ) . وَفِي بَعْضِ التَّسَابِيحِ (بِصَلَوَاتِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ بَطَلَ الْمَوْتُ، وَانْطَفَأَتْ فِتَنُ الشَّيْطَانِ، وَدَرَسَتْ آثَارُهَا) . فَأَيُّ خَطِيئَةٍ بَطَلَتْ؟ وَأَيُّ فِتْنَةٍ لِلشَّيْطَانِ انْطَفَأَتْ؟ أَوْ أَيُّ أَمْرٍ كَانَ النَّاسُ عَلَيْهِ قَبْلَ مَجِيئِهِ مِنَ الْمَحَارِمِ وَالْآثَامِ تَغَيَّرَ عَنْ حَالِهِ؟

قَالَ: فَإِذَا كَانَ التَّمْوِيهُ يَقَعُ فِيمَا يُلْحِقُهُ كُلُّ أَحَدٍ بِالْمَعْرِفَةِ وَالْبَيَانِ، فَهُوَ فِيمَا أُشْكِلَ مِنَ الْأُمُورِ وَفُعِلَ بِالتَّأْوِيلَاتِ الَّتِي تَأَوَّلَهَا أُولَئِكَ الْمُتَأَوِّلُونَ أَوْقَعُ.

وَإِذَا كُنْتُمْ قَدْ قَبِلْتُمْ هَذَا الْمُحَالَ الظَّاهِرَ الَّذِي لَا خَفَاءَ بِهِ عَنِ الصِّبْيَانِ، فَأَنْتُمْ لِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ مِنَ الْمُحَالِ أَقْبَلُ، وَهَذَا إِنْجِيلُكُمْ يُكَذِّبُ هَذَا الْقَوْلَ، حَيْثُ يَقُولُ الْمَسِيحُ فِيهِ:(مَا أَكْثَرَ مَنْ يَقُولُ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا سَيِّدَنَا أَلَيْسَ بِاسْمِكَ أَخْرَجْنَا الشَّيْطَانَ، فَأَقُولُ: اغْرُبُوا عَنِّي أَيُّهَا الْفَجَرَةُ الْغَاوُونَ، فَمَا عَرَفْتُكُمْ قَطُّ) فَهَذَا خِلَافُ قَوْلِ

ص: 118

عُلَمَائِكُمْ مَا قَالُوا، وَوَضَعِهِمْ لَكُمْ مَا وَضَعُوا، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: (إِنِّي جَامِعُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ مَيْمَنَتِي وَمَيْسَرَتِي وَقَائِلٌ لِأَهْلِ الْمَيْسَرَةِ: إِنِّي جُعْتُ فَلَمْ تُطْعِمُونِي، وَعَطِشْتُ فَلَمْ تَسْقُونِي، وَكُنْتُ غَرِيبًا فَلَمْ تَأْوُونِي، وَمَحْبُوسًا فَلَمْ تَزُورُونِي، وَمَرِيضًا فَلَمْ تَعُودُونِي، فَاذْهَبُوا إِلَى النَّارِ الْمُعَدَّةِ لَكُمْ مِنْ قَبْلِ تَأْسِيسِ الدُّنْيَا.

وَأَقُولُ لِأَهْلِ الْمَيْمَنَةِ: فَعَلْتُمْ بِي هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فَاذْهَبُوا إِلَى النَّعِيمِ الْمُعَدِّ لَكُمْ مِنْ قَبْلِ تَأْسِيسِ الدُّنْيَا) . فَهَلْ أَدْخَلَ أُولَئِكَ النَّارَ إِلَّا خَطَايَاهُمُ الَّتِي رَكِبُوهَا؟ وَهَلْ صَارَ هَؤُلَاءِ إِلَى النَّعِيمِ إِلَّا بِأَعْمَالِهِمُ الْجَمِيلَةِ الَّتِي قَدَّمُوهَا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ؟ فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْخَطِيئَةَ قَدْ بَطَلَتْ، فَقَدْ بَهَتَ، وَقَدْ خَالَفَ قَوْلَ الْمَسِيحِ، وَكَانَ هُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ.

وَقَالَ: وَيَا أَيُّهَا الْقَوْمُ الَّذِينَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبَابِ وَالْمَعْرِفَةِ، حَيْثُ يَنْسُبُونَهُ إِلَى الرُّبُوبِيَّةِ، وَيَنْحِلُونَهُ اللَّاهُوتِيَّةَ، وَيَجْعَلُونَهُ خَالِقَ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ وَإِلَهَهُمْ، بِمَاذَا سَاغَ ذَلِكَ لَكُمْ، وَمَا الْحُجَّةُ فِيهِ عِنْدَكُمْ؟

هَلْ قَالَتْ كُتُبُ النُّبُوَّاتِ فِيهِ ذَلِكَ؟ أَوْ هَلْ قَالَهُ عَنْ نَفْسِهِ؟ أَوْ قَالَهُ أَحَدٌ عَنْ تَلَامِذَتِهِ وَالنَّاقِلِينَ عَنْهُ الَّذِينَ هُمْ عِمَادُ دِينِكُمْ وَأَسَاسُهُ وَمَنْ أَخَذْتُمُ الشَّرَائِعَ وَالسُّنَنَ عَنْهُ؟ وَمَنْ كَتَبَ الْإِنْجِيلَ وَبَيَّنَهُ، قَدْ أَفْصَحَ فِي كُلِّ الْإِنْجِيلِ مِنْ كَلَامِهِ وَمُخَاطَبَتِهِ وَوَصَايَاهُ بِمَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً بِأَنَّهُ عَبْدٌ

ص: 119

مِثْلُكُمْ وَمَرْبُوبٌ مَعَكُمْ، وَمُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ وَرَبِّكُمْ، وَمُبْدِي مَا أَمَرَ بِهِ فِيكُمْ، وَحَكَى مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ حَوَارِيُّوهُ وَتَلَامِذَتُهُ وَوَصَفُوهُ لِمَنْ سَأَلَ عَنْهُ.

وَفِي كَلَامِهِمْ بِأَنَّهُ رَجُلٌ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عز وجل وَنَبِيٌّ لَهُ قُوَّةٌ وَفَضْلٌ، فَتَأَوَّلْتُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ أَخْرَجَ كَلَامَهُ عَلَى مَعْنَى النَّاسُوتِ، وَلَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُونَ، لَأَفْصَحَ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ إِلَهٌ، كَمَا أَفْصَحَ بِأَنَّهُ عَبْدٌ وَلَكِنَّهُ مَا ذَكَرَهُ وَلَا ادَّعَاهُ، وَلَا دَعَا إِلَيْهِ وَلَا ادَّعَتْهُ لَهُ كُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ وَلَا كُتُبُ تَلَامِذَتِهِ وَلَا حُكِيَ عَنْهُمْ، وَلَا أَوْجَبَهُ كَلَامُ جِبْرِيلَ الَّذِي أَدَّاهُ إِلَى مَرْيَمَ، وَلَا قَوْلُ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا.

قَالَ: فَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّكُمُ اسْتَدْلَلْتُمْ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ بِأَنَّهُ أَحْيَا الْمَوْتَى، وَأَبْرَأَ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَمَشَى عَلَى الْمَاءِ وَصَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ، وَصَيَّرَ الْمَاءَ خَمْرًا، وَكَثَّرَ الْقَلِيلَ، فَيَجِبُ الْآنَ أَنْ يُنْظَرَ إِلَى كُلِّ مَنْ فَعَلَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ فِعْلًا فَنَجْعَلَهُ رَبًّا وَإِلَهًا، وَإِلَّا فَمَا الْفَرْقُ؟

فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ كِتَابَ " سِفْرُ الْمُلُوكِ " يُخْبِرُ أَنَّ إِلْيَاسَ أَحْيَا ابْنَ الْأَرْمَلَةِ، وَأَنَّ الْيَسَعَ

ص: 120

أَحْيَا ابْنَ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ، وَأَنَّ " حِزْقِيَالَ " أَحْيَا بَشَرًا كَثِيرًا، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِمَنْ ذَكَرْنَا بِإِحْيَائِهِ الْمَوْتَى إِلَهًا.

وَأَمَا إِبْرَاءُ الْأَكْمَهِ فَهَذِهِ التَّوْرَاةُ تُخْبِرُ أَنَّ يُوسُفَ أَبْرَأَ عَيْنَ أَبِيهِ يَعْقُوبَ بَعْدَ أَنْ ذَهَبَتْ، وَهَذَا مُوسَى طَرَحَ الْعَصَا فَصَارَتْ حَيَّةً لَهَا عَيْنَانِ تُبْصِرُ بِهِمَا، وَضَرَبَ بِهَا الرَّمْلَ فَصَارَ قُمَّلًا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَيْنَانِ تُبْصِرُ بِهِمَا، وَلَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِذَلِكَ إِلَهًا.

ص: 121

وَأَمَّا إِبْرَاءُ الْأَبْرَصِ، فَإِنَّ كِتَابَ " سِفْرُ الْمُلُوكِ " يُخْبِرُ بِأَنَّ رَجُلًا مِنْ عُظَمَاءَ الرُّومِ بَرِصَ فَرَحَلَ مِنْ بَلَدِهِ قَاصِدًا الْيَسَعَ عليه السلام لِيُبْرِأَهُ مِنْ بَرَصِهِ، فَأَخْبَرَ الْكِتَابُ بِأَنَّ الرَّجُلَ وَقَفَ بِبَابِ الْيَسَعَ أَيَّامًا لَا يُؤْذَنُ لَهُ، فَقِيلَ لِلْيَسَعِ: إِنَّ بِبَابِكَ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ " نَعْمَانُ " وَهُوَ أَجَلُّ عُظَمَاءِ الرُّومِ، بِهِ بَرَصٌ وَقَدْ قَصَدَكَ لِتُبْرِأَهِ مِنْ مَرَضِهِ، فَإِنْ أَذِنْتَ لَهُ دَخَلَ إِلَيْكَ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ، وَقَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: اخْرُجْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فَقُلْ لَهُ: يَنْغَمِسُ فِي الْأُرْدُنِّ سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَأَبْلَغَ الرَّسُولُ لِنَعْمَانَ مَا أَمَرَهُ بِهِ الْيَسَعُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَذَهَبَ عَنْهُ الْبَرَصُ وَرَجَعَ قَافِلًا إِلَى بَلَدِهِ، فَأَتْبَعَهُ خَادِمُ الْيَسَعَ فَأَوْهَمَهُ أَنَّ الْيَسَعَ وَجَّهَ بِهِ إِلَيْهِ يُطْلَبُ مِنْهُ مَالَا، فَسُرَّ الرَّجُلُ بِذَلِكَ وَدَفَعَ إِلَى الْخَادِمِ مَالًا وَجَوْهَرًا، وَرَجَعَ فَأَخْفَى ذَلِكَ وَسَتَرَهُ.

ثُمَّ دَخَلَ إِلَى الْيَسَعَ، فَلَمَّا مَثُلَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ لَهُ: تَبِعْتَ نَعْمَانَ وَأَوْهَمْتَهُ عَنِّي كَذَا وَكَذَا، وَأَخَذْتَ مِنْهُ كَذَا وَأَخْفَيْتَهُ فِي مَوْضِعِ كَذَا، إِذْ فَعَلْتَ الَّذِي فَعَلْتَ بِهِ، فَلْيَصِرْ بَرَصُهُ عَلَيْكَ وَعَلَى نَسْلِكَ، فَبِرَصَ ذَلِكَ الْخَادِمُ عَلَى الْمَكَانِ.

قَالَ: فَهَذَا الْيَسَعُ قَدْ أَبْرَأَ أَبْرَصًا، وَأَبْرَصَ صَحِيحًا، وَهُوَ أَعْظَمُ

ص: 122

مِمَّا فَعَلَ الْمَسِيحُ عليه السلام فَلَمْ يَكُنْ فِي فِعْلِهِ ذَلِكَ إِلَهًا.

قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ أَنَّهُ مَشَى عَلَى الْمَاءِ، فَإِنَّ كِتَابَ سِفْرَ الْمُلُوكِ يُخْبِرُ بِأَنَّ إِلْيَاسَ عليه السلام سَارَ إِلَى الْأُرْدُنِّ وَمَعَهُ الْيَسَعُ تِلْمِيذُهُ، فَأَخَذَ عِمَامَتَهُ فَضَرْبَ بِهَا الْأُرْدُنَّ فَاسْتَيْبَسَ لَهُ الْمَاءَ حَتَّى مَشَى عَلَيْهِ هُوَ وَالْيَسَعُ، ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ عَلَى فَرَسٍ مِنْ نُورٍ وَالْيَسَعُ يَرَاهُ، وَدَفَعَ عِمَامَتَهُ إِلَى الْيَسَعَ، فَلَمَّا رَجَعَ الْيَسَعُ إِلَى الْأُرْدُنِّ ضَرَبَ بِهَا الْمَاءَ فَاسْتَيْبَسَ لَهُ حَتَّى مَشَى عَلَيْهِ رَاجِعًا وَلَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِمَشْيِهِ عَلَى الْمَاءِ إِلَهًا، وَلَا كَانَ إِلْيَاسُ بِصُعُودِهِ إِلَى السَّمَاءِ إِلَهًا.

قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ أَنَّهُ صَيَّرَ الْمَاءَ خَمْرًا، فَهَذَا كِتَابُ سِفْرَ الْمُلُوكَ يُخْبِرُ بِأَنَّ الْيَسَعَ نَزَلَ بِامْرَأَةٍ إِسْرَائِيلِيَّةٍ فَأَضَافَتْهُ وَأَحْسَنَتْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ قَالَ لَهَا: هَلْ لَكِ مِنْ حَاجَةٍ؟ فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ عَلَى زَوْجِي دَيْنًا قَدْ فَدَحَهُ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَدْعُوَ اللَّهَ لَنَا بِقَضَاءِ دَيْنَنَا فَافْعَلْ.

فَقَالَ لَهَا الْيَسَعُ: اجْمَعِي كُلَّ مَا عِنْدَكِ مِنَ الْآنِيَةِ، وَاسْتَعِيرِي مِنْ جِيرَانِكِ جَمِيعَ مَا قَدَرْتِ عَلَيْهِ مِنْ آنِيَتِهِمْ. فَفَعَلَتْ، ثُمَّ أَمَرَهَا فَمَلَأَتِ الْآنِيَةَ كُلَّهَا مَاءً فَقَالَ: اتْرُكِيهِ لَيْلَتَكِ هَذِهِ. وَمَضَى مِنْ عِنْدِهَا فَأَصْبَحَتِ الْمَرْأَةُ وَقَدْ صَارَ ذَلِكَ الْمَاءُ كُلُّهُ زَيْتًا، فَبَاعُوهُ فَقَضَوْا دَيْنَهُمْ

ص: 123

وَتَحْوِيلُ الْمَاءِ زَيْتًا أَبْدَعُ مِنْ تَحْوِيلِهِ خَمْرًا، وَلَمْ يَكُنِ الْيَسَعُ بِذَلِكَ إِلَهًا.

وَأَمَّا قَوْلُكُمُ: الْمَسِيحُ عليه السلام كَثَّرَ الْقَلِيلَ حَتَّى أَكَلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَرْغِفَةٍ يَسِيرَةٍ، فَإِنَّ كِتَابَ " سِفْرُ الْمُلُوكِ " يُخْبِرُ بِأَنَّ إِلْيَاسَ نَزَلَ بِامْرَأَةٍ أَرْمَلَةٍ، وَكَانَ الْقَحْطُ قَدْ عَمَّ النَّاسَ وَأَجْدَبَتِ الْبِلَادُ، وَمَاتَ الْخَلْقُ ضُرًّا وَهَزْلًا، وَكَانَ النَّاسُ فِي ضِيقٍ، فَقَالَ لِلْأَرْمَلَةِ: هَلْ عِنْدَكِ طَعَامٌ؟ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا عِنْدِي إِلَّا كَفٌّ مِنْ دَقِيقٍ فِي قِلَّةٍ، أَرَدْتُ أَنْ أَخْبِزَهُ لِطِفْلٍ لِي، وَقَدْ أَيْقَنَّا بِالْهَلَاكِ لِمَا النَّاسُ فِيهِ مِنَ الْقَحْطِ.

فَقَالَ لَهَا: أَحْضِرِيهِ فَلَا عَلَيْكِ. فَأَتَتْهُ بِهِ، فَبَارَكَ عَلَيْهِ، فَمَكَثَ عِنْدَهَا ثَلَاثَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ تَأْكُلُ هِيَ وَأَهْلُهَا وَجِيرَانُهَا مِنْهُ حَتَّى فَرَّجَ اللَّهُ عَنِ النَّاسِ، فَقَدْ فَعَلَ إِلْيَاسُ فِي ذَلِكَ أَكْثَرَ مِمَّا فَعَلَ الْمَسِيحُ، لِأَنَّ إِلْيَاسَ كَثَّرَ الْقَلِيلَ وَأَدَامَهُ، وَالْمَسِيحَ كَثَّرَ الْقَلِيلَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَكُنْ إِلْيَاسُ بِفِعْلِهِ هَذَا إِلَهًا.

قَالَ: فَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءَ لَيْسَ لَهُمْ صُنْعٌ فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ، وَإِنَّ الصُّنْعَ فِيهَا وَالْقُدْرَةَ لِلَّهِ عز وجل إِذْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَجْرَاهَا عَلَى أَيْدِيهِمْ فَقَدْ صَدَقْتُمْ، وَنَقُولُ لَكُمْ أَيْضًا: كَذَلِكَ الْمَسِيحُ لَيْسَ لَهُ صُنْعٌ فِيمَا ظَهَرَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْأَعَاجِيبِ، إِذْ كَانَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَظْهَرَهَا عَلَى يَدَيْهِ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسِيحَ وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ؟ وَمَا الْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ؟

قَالَ: وَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانَتْ إِذَا أَرَادَتْ أَنْ يُظْهِرَ اللَّهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ آيَةً تَضَرَّعَتْ إِلَى اللَّهِ وَدَعَتْهُ وَأَقَرَّتْ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَشَهِدَتْ عَلَى أَنْفُسِهَا بِالْعُبُودِيَّةِ.

ص: 124

قِيلَ لَكُمْ: وَكَذَلِكَ سَبِيلُ الْمَسِيحِ، سَبِيلُ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، قَدْ كَانَ يَدْعُو وَيَتَضَرَّعُ وَيَعْتَرِفُ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ، وَيُقِرُّ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ، فَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ الْإِنْجِيلَ يُخْبِرُ بِأَنَّ الْمَسِيحَ أَرَادَ أَنْ يُحْيِيَ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ الْعَازِرُ، فَقَالَ:(يَا أَبِي أَدْعُوكَ كَمَا كُنْتُ أَدْعُوكَ مِنْ قَبْلُ فَتُجِيبُنِي وَتَسْتَجِيبُ لِي، وَأَنَا أَدْعُوكَ مِنْ أَجْلِ هَؤُلَاءِ الْقِيَامِ لِيَعْلَمُوا) . وَقَالَ بِزَعْمِكُمْ وَهُوَ عَلَى الْخَشَبَةِ: (إِلَهِي إِلَهِي لِمَ تَرَكْتَنِي؟)، وَقَالَ:(يَا أَبِي اغْفِرْ لِلْيَهُودِ مَا يَعْمَلُونَ، فَإِنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا يَصْنَعُونَ) .

وَقَالَ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى: (يَا أَبِي أَحْمَدُكَ) . وَقَالَ: (يَا أَبِي إِنْ كَانَ بُدٌّ أَنْ يَتَعَدَّانِي هَذَا الْكَأْسُ، وَلَكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا، فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ) . وَقَالَ أَيْضًا: (أَنَا أَذْهَبُ إِلَى إِلَهِي الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ

ص: 125

مِنِّي) وَقَالَ: (لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَصْنَعَ شَيْئًا وَلَا أَتَفَكَّرَ فِيهِ إِلَّا بِاسْمِ إِلَهِي) . وَقَالَ يَعْنِي نَفْسَهَ: (لَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ، وَلَا لِلرَّسُولِ أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ مِمَنْ أَرْسَلَهُ) .

وَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ، وَلَمْ يَنَمْ وَلَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَيَرَاهُ أَحَدٌ إِلَّا مَاتَ) .

وَالْمَسِيحُ قَدْ أَكَلَ وَشَرِبَ وَوَلَدَ، وَرَآهُ النَّاسُ فَمَا مَاتُوا مِنْ رُؤْيَتِهِ وَلَا مَاتَ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَقَدْ لَبِثَ فِيهِمْ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً.

قُلْتُ: وَعَامَّةُ مَا ذَكَرَهُ هَذَا عَنِ الْكُتُبِ تَعْتَرِفُ بِهِ النَّصَارَى، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ يُنَازِعُهُ فِي يَسِيرٍ مِنَ الْأَلْفَاظِ، فَنَازَعَهُ هُنَا فِي قَوْلِهِ:

ص: 126

(لَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ) . وَقَالَ: هَذَا إِنَّمَا قَالَهُ الْمَسِيحُ لِلْحِوَارِيِّينَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ عَنْهُ لَفْظُ (لَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ) .

قَالَ: وَقَالَ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا: ": (إِنَّكُمْ مَتَى رَفَعْتُمُ ابْنَ الْبَشَرِ فَحِينَئِذٍ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ وَشَيْءٌ مِنْ قِبَلِ نَفْسِي لَا أَفْعَلُ، وَلَكِنْ كُلُّ شَيْءٍ كَالَّذِي عَلَّمَنِي أَبِي) . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أُرْسِلْتُ مُعَلِّمًا) . وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: (اخْرُجُوا بِنَا مِنْ هَذِهِ الْمَدِينَةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ لَا يُجَلُّ فِي مَدِينَتِهِ) وَأَخْبَرَ الْإِنْجِيلُ أَنَّ امْرَأَةً رَأَتِ الْمَسِيحَ فَقَالَتْ: إِنَّكَ لَذَلِكَ النَّبِيُّ الَّذِي كُنَّا نَنْتَظِرُ مَجِيئَهُ؟ فَقَالَ لَهَا الْمَسِيحُ: (صَدَقْتِ، طُوبَى لَكِ) . وَقَالَ لِتَلَامِذَتِهِ: (كَمَا بَعَثَنِي أَبِي كَذَلِكَ أَبْعَثُ بِكُمْ) .

قَالَ: فَاعْتَرَفَ بِأَنَّهُ نَبِيٌّ وَأَنَّهُ مَأْلُوهٌ وَمَرْبُوبٌ وَمَبْعُوثٌ، وَقَالَ

ص: 127

لِتَلَامِذَتِهِ: (إِنَّ مَنْ قَبِلَكُمْ وَآوَاكُمْ فَقَدْ قَبِلَنِي، وَمَنْ قَبِلَنِي فَإِنَّمَا يَقْبَلُ مَنْ أَرْسَلَنِي، وَمِنْ قَبِلَ نَبِيًّا بِاسْمِ نَبِيٍّ فَإِنَّمَا يَفُوزُ بِأَجْرِ مَنْ قَبِلَ النَّبِيِّ) .

فَبَيَّنَ هَاهُنَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَأَنَّ سَبِيلَهُ مَعَ اللَّهِ سَبِيلُهُمْ مَعَهُ، وَقَالَ مَتَّى التِّلْمِيذُ فِي إِنْجِيلِهِ، يَسْتَشْهِدُ عَلَى الْمَسِيحِ بِنُبُوَّةِ أَشْعِيَا عَنِ اللَّهِ عز وجل:(هَذَا عَبْدِي الَّذِي اصْطَفَيْتُهُ، وَحَبِيبِي الَّذِي ارْتَاحَتْ إِلَيْهِ نَفْسِي، أَنَا وَاضِعٌ رُوحِي عَلَيْهِ، وَيَدْعُو الْأُمَمَ إِلَى الْحَقِّ) . فَلَنْ يَحْتَاجَ إِلَى حُجَّةٍ أَوْضَحَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي جَعَلْتُمُوهُ حُجَّةً لَكُمْ، فَقَدْ أَوْضَحَ اللَّهُ أَمْرَهُ وَسَمَّاهُ عَبْدًا، وَأَعْلَمَ أَنَّهُ يَضَعُ عَلَيْهِ رُوحَهُ وَيُؤَيِّدُهُ بِهَا كَمَا أَيَّدَ سَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ بِالرُّوحِ فَأَظْهَرُوا الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ عَنْهُمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ يُوَافِقُ مَا بَشَّرَ بِهِ جِبْرِيلُ الْمَلَكُ مَرْيَمَ حِينَ ظَهَرَ لَهَا، وَقَالَ الْقَوْلَ الَّذِي سُقْنَاهُ فِي صَدْرِ كِتَابِنَا.

وَقَالَ يُوحَنَّا التِّلْمِيذُ فِي الْإِنْجِيلِ عَنِ الْمَسِيحِ عليه السلام: (إِنَّ كَلَامِي الَّذِي تَسْمَعُونَ هُوَ كَلَامُ مَنْ أَرْسَلَنِي) . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ

ص: 128

آخَرَ: (إِنَّ أَبِي أَجَلُّ وَأَعْظَمُ مِنِّي) . وَقَالَ أَيْضًا: (كَمَا أَمَرَنِي أَبِي كَذَلِكَ أَفْعَلُ أَنَا، أَنَا الْكَرْمُ وَأَبِي هُوَ الْفَلَّاحُ) . وَقَالَ يُوحَنَّا: (كَمَا لِلْأَبِ حَيَاةٌ فِي جَوْهَرِهِ، فَكَذَلِكَ أَعْطَى الِابْنَ أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي قَيْنُومِهِ) . قَالَ: فَالْمُعْطِي خِلَافَ الْمُعْطَى لَا مَحَالَةَ، وَالْفَاعِلُ خِلَافَ الْمَفْعُولِ.

قَالَ: وَقَالَ الْمَسِيحُ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا: (إِنِّي لَوْ كُنْتُ أَنَا الشَّاهِدَ لِنَفْسِي عَلَى صِحَّةِ دَعْوَايَ، لَكَانَتْ شَهَادَتِي بَاطِلَةً، لَكِنْ غَيْرِي يَشْهَدُ لِي، فَأَنَا أَشْهَدُ لِنَفْسِي وَيَشْهَدُ لِي أَبِي الَّذِي أَرْسَلَنِي) . وَقَالَ الْمَسِيحُ لَبَنِي

ص: 129

إِسْرَائِيلَ: (تُرِيدُونَ قَتْلِي، وَأَنَا رَجُلٌ قُلْتُ لَكُمُ الْحَقَّ الَّذِي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُهُ.!

قَالَ: وَقَالَ فِي الرَّجُلِ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الْمَوْتَى: (يَا أَبِي أَشْكُرُكَ عَلَى اسْتِجَابَتِكَ دُعَائِي وَأَعْتَرِفُ لَكَ بِذَلِكَ، وَأَعْلَمُ أَنَّكَ كُلَّ وَقْتٍ تُجِيبُ دَعْوَتِي، لَكِنْ أَسْأَلُكَ مِنْ أَجْلِ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ لِيُؤْمِنُوا بِأَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي) . قَالَ: فَأَيُّ تَضَرُّعٍ وَإِقْرَارٍ بِالرِّسَالَةِ وَالْمَسْأَلَةِ وَالطَّلَبِ لِلْإِجَابَةِ مِنَ اللَّهِ عز وجل أَشَدُّ مِنْ هَذَا أَوْ أَكْثَرُ؟

قَالَ: وَقَالَ فِي بَعْضِ مُخَاطَبَتِهِ لِلْيَهُودِ وَقَدْ نَسَبُوهُ إِلَى الْجُنُونِ: (أَنَا لَسْتُ بِمَجْنُونٍ، وَلَكِنْ أُكْرِمُ أَبِي وَلَا أُحِبُّ مَدْحَ نَفْسِي، بَلْ أَمْدَحُ أَبِي، لِأَنِّي أَعْرِفُهُ، وَلَوْ قُلْتُ: إِنِّي لَا أَعْرِفُهُ، لَكُنْتُ كَذَّابًا مِثْلَكُمْ، بَلْ أَعْرِفُهُ وَأَتَمَسَّكُ بِأَمْرِهِ) .

ص: 130

قَالَ: وَقَالَ دَاوُدُ فِي مَزْمُورِهِ الْمِائَةِ وَعَشْرَةٍ: (قَالَ الرَّبُّ اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِرِجْلَيْكَ، عَصَا الْعَظَمَةِ تَبْعَثُ الرَّبَّ مِنْ صِهْيُونَ، وَيُبْسَطُ عَلَى أَعْدَائِكَ شَعْبُكَ يَا مَسِيحُ يَوْمَ الرُّعْبِ فِي بَهَاءِ الْقُدْسِ مِنَ الْيَوْمِ الَّذِي وَلَدْتُكَ يَا صَبِيُّ، عَهْدُ الرَّبِّ وَلَا يَكْذِبُ أَنَّكَ أَنْتَ الْكَاهِنُ الْمُؤَيَّدُ يُشْبِهُ مَلَكْلِيزْ دَاقْ.)

قَالَ: فَهَذِهِ مُخَاطَبَةٌ يَنْسُبُونَهَا إِلَى اللَّاهُوتِ، وَقَدْ أَبَانَ دَاوُدَ فِي مُخَاطَبَتِهِ، أَنَّ لِرَبِّهِ الَّذِي ذَكَرَهُ رَبًّا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَأَعْلَى أَعْطَاهُ مَا حَكَيْنَاهُ، وَمَنَحَهُ ذَلِكَ وَشَهِدَ عَلَيْهِ، إِنَّ عَصَا الْعَظَمَةِ تَبْعَثُ رَبَّهُ هَذَا مِنْ صِهْيُونَ وَسَمَّاهُ صَبِيًّا مُحَقِّقًا لِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ: الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ وَنَسَقًا عَلَى أَوَّلِ كَلَامِهِ وَهُوَ رَبُّهُ، وَوَصَفَ أَنَّهُ الْكَاهِنُ الْمُؤَيَّدُ الَّذِي يُشْبِهُ مَلَكْلِيزْ دَاقْ.

ص: 131

قُلْتُ: قَالُوا: وَهَذَا الْكَاهِنُ هُوَ الَّذِي ذُكِرَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ الْخَلِيلَ أَعْطَاهُ الْقُرْبَانَ، وَإِذَا كَانَ الْمَسِيحُ مُشَبَّهًا بِهِ مَعَ تَسْمِيَتِهِ كَاهِنًا، كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ، قَالَ: فَأَمَّا قَوْلُهُ: (مِنَ الْبَدْءِ وَلَدْتُكَ)، فَهُوَ يُشْبِهُ قَوْلَ دَاوُدَ:(تَبَنَّنِي عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْبَدْءِ. ذَكَرْتُكَ وَهَدَيْتُ كُلَّ أَعْمَالِكَ) . وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: لَفْظُ النَّصِّ: (إِنَّ الرَّبَّ يَبْعَثُ عَصَاهُ مِنْ صِهْيُونَ) .

قَالَ: وَقَالَ شَمْعُونُ الصَّفَا رَئِيسُ الْحَوَارِيِّينَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ قَصَصِهِمْ: (يَا رِجَالَ بَنِي إِسْرَائِيلَ اسْمَعُوا مَقَالَتِي، إِنَّ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ رَجُلٌ ظَهِيرٌ لَكُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِالْقُوَّةِ وَالْأَيْدِي وَالْعَجَائِبِ الَّتِي أَجْرَاهَا عَلَى يَدَيْهِ، وَأَنَّكُمْ أَسْلَمْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ، فَأَقَامَ اللَّهُ يَسُوعَ هَذَا مِنْ

ص: 132

بَيْنِ الْأَمْوَاتِ) .

قَالَ: فَأَيُّ شَهَادَةٍ أَبْيَنُ وَأَوْضَحُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ؟ وَهُوَ أَوْثَقُ التَّلَامِيذِ عِنْدَكُمْ يُخْبِرُ كَمَا تَرَوْنَ أَنَّ الْمَسِيحَ رَجُلٌ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي ظَهَرَتْ مِنْهُ بِأَمْرِ اللَّهِ أَجْرَاهَا عَلَى يَدَيْهِ، وَأَنَّ الَّذِي بَعَثَهُ مِنْ بَيْنِ الْمَوْتَى هُوَ اللَّهُ عز وجل.

قَالَ: وَقَالَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ يَسُوعَ الَّذِي قَتَلْتُمُوهُ رَبًّا وَمَسِيحًا) . قَالَ: فَهَذَا الْقَوْلُ يُزِيلُ تَأْوِيلَ مَنْ لَعَلَّهُ يَتَأَوَّلُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ النَّاسُوتَ، لِأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ رَبًّا وَمَسِيحًا، وَالْمَجْعُولَ مَخْلُوقٌ مَفْعُولٌ، قَالَ أَبُو نَصْرٍ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ نَاصِرِيٌّ ; لِأَنَّ أُمَّهُ كَانَتْ مِنْ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: " نَاصِرَةُ "

ص: 133

فِي الْأُرْدُنِّ وَبِهَا سُمِّيَتِ النَّصْرَانِيَّةُ.

قَالَ: وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يُوسُفَ رَبًّا، قَالَ دَاوُدُ فِي مَزْمُورِ مِائَةٍ وَخَمْسَةٍ:(وَلِلْعُبُودِيَّةِ بِيعَ يُوسُفُ وَشَدُّوا بِالْكُبُولِ رِجْلَيْهِ وَبِالْحَدِيدِ دَخَلَتْ نَفْسُهُ حَتَّى صَدَّقَتْ كَلِمَتُهُ قَوْلَ الرَّبِّ جربهُ، بَعَثَ الْمَلِكُ فَخَلَّاهُ وَصَيَّرَهُ مُسَلَّطًا عَلَى شَعْبِهِ، وَرَبًّا عَلَى بَنِيهِ، وَمُسَلَّطًا عَلَى فِتْيَانِهِ) .

وَقَالَ لُوقَا فِي آخِرِ إِنْجِيلِهِ: (إِنَّ الْمَسِيحَ عَرَضَ لَهُ وَلِلُوقَا تِلْمِيذِهِ جِبْرِيلُ فِي الطَّرِيقِ وَهُمَا مَحْزُونَانِ، فَقَالَ لَهُمَا وَهُمَا لَا يَعْرِفَانِهِ: مَا بَالُكُمَا مَحْزُونَيْنِ؟ فَقَالَا: كَأَنَّكَ أَنْتَ وَحْدَكَ غَرِيبٌ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، إِذْ كُنْتَ لَا تَعْلَمُ مَا حَدَثَ فِيهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مِنْ أَمْرِ يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ، فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلًا نَبِيًّا قَوِيًّا فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الْأُمَّةِ، أَخَذُوهُ وَقَتَلُوهُ) عَلَى قَوْلِهِمْ فِيهِ.

ص: 134

قَالَ: فَهَذَا قَوْلُهُ وَأَقْوَالُ تَلَامِيذِهِ قَدْ تَرَكْتُمُوهَا وَعَقَدْتُمْ عَلَى بِدَعٍ ابْتَدَعَهَا لَكُمْ أَوَّلُوكُمْ تُؤَدِّي إِلَى الضَّلَالَةِ وَالشِّرْكِ بِاللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ. وَقَالَ دَاوُدُ فِي الْمَزْمُورِ الثَّانِي فِي زَبُورِهِ مُخَاطِبًا لِلَّهِ وَمُثْنِيًا عَلَى الْمَسِيحِ: (مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي ذَكَرْتَهُ وَالْإِنْسَانُ الَّذِي أَمَرْتَهُ وَجَعَلْتَهُ دُونَ الْمَلَائِكَةِ قَلِيلًا، وَأَلْبَسْتَهُ الْمَجْدَ وَالْكَرَامَاتِ؟)، وَقَالَ فِي الْمَزْمُورِ الثَّانِي:(قَالَ لِيَ الرَّبُّ: أَنْتَ ابْنِي وَأَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ، سَلْنِي فَأُعْطِيكَ)، فَقَوْلُهُ:" وَلَدْتُكَ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ غَيْرُ قَدِيمٍ، وَكُلُّ حَادِثٍ فَهُوَ مَخْلُوقٌ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:" الْيَوْمَ " فَحَدَّ بِالْيَوْمِ حَدًّا لِوِلَادَتِهِ أَزَالَ بِهِ الشَّكَّ فِي أَنَّهُ مَا كَانَ قَبْلَ الْيَوْمِ، وَدَلَّ بِقَوْلِهِ:" سَلْنِي فَأُعْطِيكَ " عَلَى أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى الْمَسْأَلَةِ غَيْرَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْعَطِيَّةِ، قَالَ: فَهَذَا مَا حَضَرَنَا مِنَ الْآيَاتِ فِي تَصْحِيحِ خَلْقِ الْمَسِيحِ وَعُبُودِيَّتِهِ، وَبُطْلَانِ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ رُبُوبِيَّتِهِ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْإِنْجِيلِ لَا يُحْصَى، فَإِذَا كَانَتِ الشَّهَادَاتُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَمِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِ، وَمِنْ تَلَامِيذِهِ بِمِثْلِ مَا قَدْ بَيَّنَاهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرْنَا عَلَى الِاحْتِجَاجِ عَلَيْكُمْ مِنْ كُتُبِكُمْ، فَمَا الْحُجَّةُ فِيمَا تَدَّعُونَهُ لَهُ وَمِنْ أَيِّ جِهَةٍ أَخَذْتُمْ ذَلِكَ وَاخْتَرْتُمُ الْكَلَامَ الشَّنِيعَ الَّذِي يَخْرُجُ عَنِ

ص: 135

الْمَعْقُولِ، وَتُنْكِرُهُ النُّفُوسُ، وَتَنْفِرُ مِنْهُ الْقُلُوبُ، الَّذِي لَا يَصِحُّ بِحُجَّةٍ وَلَا قِيَاسٍ وَلَا تَأْوِيلٍ عَلَى الْقَوْلِ الْجَمِيلِ الَّذِي تَشْهَدُ بِهِ الْعُقُولُ وَتَسْكُنُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ وَيُشَاكِلُ عَظَمَةَ اللَّهِ وَجَلَالَهُ.

قَالَ: وَإِذَا تَأَمَّلْتُمْ كُلَّ مَا بَيَّنَاهُ تَأَمُّلَ إِنْصَافٍ مِنْ أَنْفُسِكُمْ وَإِشْفَاقٍ عَلَيْهَا، عَلِمْتُمْ أَنَّهُ قَوْلٌ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُتَأَوَّلَ فِيهِ لِلنَّاسُوتِ شَيْئًا دُونَ اللَّاهُوتِ.

قَالَ: فَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّهُ يَثْبُتُ لِلْمَسِيحِ الْبُنُوَّةَ بِقَوْلِهِ: (أَبِي وَأَبِيكُمْ، وَيَا أَبِي، وَبَعَثَنِي أَبِي) . قُلْنَا: فَإِنْ كَانَ الْإِنْجِيلُ أُنْزِلَ عَلَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لَمْ تُبَدَّلْ وَلَمْ تُغَيَّرْ، فَإِنَّ اللُّغَةَ قَدْ أَجَازَتْ أَنْ يُسَمَّى الْوَلِيُّ ابْنًا، وَقَدْ سَمَّاكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا بَنِيهِ، وَأَنْتُمْ لَسْتُمْ فِي مِثْلِ حَالِهِ.

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل قَالَ لِإِسْرَائِيلَ فِي التَّوْرَاةِ: (أَنْتَ ابْنِي بِكْرِي) . وَقَالَ لِدَاوُدَ فِي الزَّبُورِ: (أَنْتَ ابْنِي وَحَبِيبِي) . وَقَالَ الْمَسِيحُ فِي الْإِنْجِيلِ لِلْحِوَارِيِّينَ: (أُرِيدُ أَنْ أَذْهَبَ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلَهِي وَإِلَهِكُمْ) . فَسَمَّى الْحَوَارِيِّينَ أَبْنَاءَ اللَّهِ، وَأَقَرَّ بِأَنَّ لَهُ إِلَهًا هُوَ اللَّهُ

ص: 136

وَمَنْ كَانَ لَهُ إِلَهٌ فَلَيْسَ بِإِلَهٍ كَمَا تَقُولُونَ، فَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْمَسِيحَ إِنَّمَا اسْتَحَقَّ الْإِلَهِيَّةَ بِأَنَّ اللَّهَ سَمَّاهُ ابْنًا، فَنَلْتَزِمُ ذَلِكَ وَنَشْهَدُ بِالْإِلَهِيَّةِ لِكُلِّ مَنْ سَمَّاهُ ابْنًا، وَإِلَّا فَمَا الْفَرْقُ؟

قَالَ: فَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّ إِسْرَائِيلَ وَدَاوُدَ وَنُظَرَاءَهُمْ إِنَّمَا سُمُّوا أَبْنَاءَ اللَّهِ عَلَى جِهَةِ الرَّحْمَةِ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ، وَالْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.

قُلْنَا: يَجُوزُ لِمُعَارِضٍ أَنْ يُعَارِضَكُمْ، فَيَقُولَ لَكُمْ: مَا تُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ إِسْرَائِيلُ وَدَاوُدُ ابْنَيِ اللَّهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَالْمَسِيحُ ابْنَ رَحْمَةٍ، وَمَا الْفَرْقُ؟

فَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَسِيحِ وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلُ، أَنَّ الْمَسِيحَ جَاءَ إِلَى مُقْعَدٍ فَقَالَ:(قُمْ قُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ، فَقَامَ الرَّجُلُ، وَلَمْ يَدْعُ اللَّهَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ) .

قُلْنَا لَكُمْ: هَذَا إِلْيَاسُ أَمَرَ السَّمَاءَ أَنْ تُمْطِرَ فَأَمْطَرَتْ، وَلَمْ يَدْعُ اللَّهَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَذَلِكَ الْيَسَعُ أَمَرَ نَعْمَانَ الرُّومِيَّ أَنْ يَنْغَمِسَ فِي

ص: 137

الْأُرْدُنِّ مِنْ غَيْرِ دُعَاءٍ وَلَا تَضَرُّعٍ، عَلَى أنَّا قَدْ وَجَدْنَاهُ فِي الْإِنْجِيلِ قَدْ تَضَرَّعَ، وَسَأَلَ مَسَائِلَ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا.

وَقَالَ فِي بَعْضِ الْإِنْجِيلِ: (يَا أَبِي أَشْكُرُكَ عَلَى اسْتِجَابَتِكَ دُعَائِي، وَأَعْلَمُ أَنَّكَ فِي كُلِّ وَقْتٍ تُجِيبُ دَعْوَتِي، لَكِنْ أَسْأَلُكَ مِنْ أَجْلِ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ لِيُؤْمِنُوا بِأَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي) .

فَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّ الْغُفْرَانَ مِنَ اللَّهِ عز وجل وَأَنَّ الْمَسِيحَ قَالَ لِبَعْضِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: (قُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ) وَاللَّهُ هُوَ الَّذِي يَغْفِرُ الذُّنُوبَ.

قُلْنَا: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ فِي السِّفْرِ الْخَامِسِ مِنَ التَّوْرَاةِ لِمُوسَى: (اخْرُجْ أَنْتَ وَشَعْبُكَ الَّذِي أَخْرَجْتَ مِنْ مِصْرَ، وَأَنَا أَجْعَلُ مَعَكُمْ مَلَكًا يَغْفِرُ ذُنُوبَكُمْ) .

فَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْمَسِيحَ إِلَهٌ لِأَنَّهُ غَفَرَ ذُنُوبَ الْمُقْعَدِ، فَالْمَلَكُ إِذًا إِلَهٌ، لِأَنَّهُ يَغْفِرُ ذُنُوبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَإِلَّا فَمَا الْفَرْقُ؟

ص: 138

فَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَسِيحِ وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلُ، أَنَّ اللَّهَ سَمَّاهُ رَبًّا فَقَالَ:(ابْنُ الْبَشَرِ رَبُّ السَّبْتِ) .

قُلْنَا: فَهَذِهِ التَّوْرَاةُ تُخْبِرُ بِأَنَّ لُوطًا عليه السلام لَمَّا رَأَى الْمَلَكَيْنِ قَدْ أَقْبَلَا مِنَ الْبَرِّيَّةِ لِهَلَاكِ قَوْمِهِ قَالَ لَهُمَا: (يَا رَبِّي مِيلَا إِلَى مَنْزِلِ عَبْدِكُمَا) . وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا احْتِجَاجٌ فِي هَذَا الْكِتَابِ بِذِكْرِ مَنْ سُمِّيَ فِي الْكُتُبِ رَبًّا مِنْ يُوسُفَ وَغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَسِيحُ إِلَهًا لِأَنَّهُ سُمِّيَ رَبًّا، فَهَؤُلَاءِ إِذًا آلِهَةٌ، لِأَنَّهُمْ سُمُّوا بِمِثْلِ ذَلِكَ.

فَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ قَدْ تَنَبَّأَتْ بِإِلَهِيَّةِ الْمَسِيحِ، فَقَالَ أَشْعِيَا:(الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَيُدْعَى اسْمُهُ " عَمَانْوِيلَ ")، وَتَفْسِيرُهُ:" مَعَنَا إِلَهُنَا ".

قُلْنَا: إِنَّ هَذَا اسْمٌ يَعَارُهُ السَّيِّدُ الشَّرِيفُ مِنَ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ

ص: 139

اللَّهُ عز وجل الْمُنْفَرِدَ بِمَعْنَى الْإِلَهِيَّةِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ لِمُوسَى عليه السلام: (قَدْ جَعَلْتُكَ لِهَارُونَ إِلَهًا، وَجَعَلْتُهُ لَكَ نَبِيًّا) .

وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: (قَدْ جَعَلْتُكَ يَا مُوسَى إِلَهًا لِفِرْعَوْنَ) . وَقَالَ دَاوُدُ فِي الزَّبُورِ لِمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ حِكْمَةٌ: (كُلُّكُمْ آلِهَةٌ وَمِنَ الْعَلِيَّةِ تُدْعَوْنَ) .

فَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّ اللَّهَ عز وجل جَعَلَ مُوسَى إِلَهًا لِهَارُونَ عَلَى مَعْنَى الرِّيَاسَةِ عَلَيْهِ.

قُلْنَا: وَكَذَلِكَ قَالَ أَشْعِيَا فِي الْمَسِيحِ إِنَّهُ إِلَهٌ لِأُمَّتِهِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَإِلَّا فَمَا الْفَرْقُ؟

فَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ قَالَ فِي الْإِنْجِيلِ: (مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى أَبِي، وَأَنَا وَأَبِي وَاحِدٌ) .

قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ: (أَنَا وَأَبِي وَاحِدٌ) إِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ أَنَّ قَبُولَكُمْ لِأَمْرِي هُوَ قَبُولُكُمْ لِأَمْرِ اللَّهِ، كَمَا يَقُولُ رَسُولُ الرَّجُلِ: أَنَا وَمَنْ أَرْسَلَنِي وَاحِدٌ،

ص: 140

وَيَقُولُ الْوَكِيلُ: أَنَا وَمَنْ وَكَّلَنِي وَاحِدٌ، لِأَنَّهُ يَقُومُ فِيمَا يُؤَدِّيِهِ مَقَامَهُ، وَيُؤَدِّي عَنْهُ مَا أَرْسَلَهُ بِهِ، وَيَتَكَلَّمُ بِحُجَّتِهِ وَيُطَالِبُ لَهُ بِحُقُوقِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:(مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى أَبِي) ، يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ مَنْ رَأَى هَذِهِ الْأَفْعَالَ الَّتِي أُظْهِرُهَا فَقَدْ رَأَى أَفْعَالَ أَبِي.

فَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ قَالَ فِي الْإِنْجِيلِ: (أَنَا قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ) ، فَكَيْفَ يَكُونُ قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ وَلَدِهِ؟ وَلَكِنْ لَمَّا قَالَ (قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ) عَلِمْنَا مَا أَرَادَ أَنَّهُ قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ مِنْ جِهَةِ الْإِلَهِيَّةِ.

قُلْنَا: هَذَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ يَقُولُ فِي حِكْمَتِهِ: (أَنَا قَبْلَ الدُّنْيَا وَكُنْتُ مَعَ اللَّهِ حَيْثُ بَدَأَ الْأَرْضَ)، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ قَالَ: إِنَّ سُلَيْمَانَ ابْنُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ: أَنَا قَبْلَ الدُّنْيَا بِالْإِلَهِيَّةِ، وَقَدْ قَالَ دَاوُدُ أَيْضًا فِي الزَّبُورِ:(ذَكَرْتُكَ يَا رَبِّ مِنَ الْبَدْءِ، وَهُدِيتُ بِكُلِّ أَعْمَالِكَ) .

ص: 141

فَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّ كَلَامَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ مُتَأَوَّلٌ، لِأَنَّهُمَا مِنْ وَلَدِ إِسْرَائِيلَ، وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا قَبْلَ الدُّنْيَا.

قُلْنَا: وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْمَسِيحِ أَنَا قَبْلَ الدُّنْيَا مُتَأَوَّلٌ، لِأَنَّهُ مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنْ تَأَوَّلْتُمْ تَأَوَّلْنَا، وَإِنْ تَعَلَّقْتُمْ بِظَاهِرِ الْخَبَرِ فِي الْمَسِيحِ تَعَلَّقْنَا بِظَاهِرِ الْخَبَرِ فِي سُلَيْمَانَ وَدَاوُدَ، وَإِلَّا فَمَا الْفَرْقُ؟

وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا الِاحْتِجَاجَ عَلَى تَأْوِيلِكُمْ لِتَعْلَمُوا بُطْلَانَ مَا ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ تَأْوِيلٌ غَيْرُ وَاقِعٍ بِحَقِّهِ، وَإِنَّمَا حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الِاسْمُ يَعْنِي " عَمَانْوِيلَ " لَمَّا وَقَعَ عَلَى الْمَسِيحِ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّ " إِلَهَنَا مَعَنَا " يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ مَعَهُ وَمَعَ شَعْبِهِ مُعِينًا وَنَاصِرًا.

وَمِمَّا يُصَحِّحُ ذَلِكَ أَنَّكُمْ تَتَّسِمُونَ بِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى مَا ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِ لَمَا جَازَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَسَمَّى بِهِ، كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَسَمَّى بِالْمَسِيحِ ; لِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَعْنَاهُ.

فَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّ تَلَامِيذَ الْمَسِيحِ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْآيَاتِ بِاسْمِ الْمَسِيحِ.

قُلْنَا لَكُمْ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا: (قَدْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَبِقُوَّةِ إِلْيَاسَ، وَهِيَ قُوَّةٌ تَفْعَلُ الْآيَاتِ) ، فَأَضَافَ الْقُوَّةَ إِلَى إِلْيَاسَ.

ص: 142

فَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْمَسِيحَ إِلَهٌ لِأَنَّهُ فُعِلَتِ الْآيَاتُ بِاسْمِهِ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مَنْ قَالَ: إِنَّ إِلْيَاسَ إِلَهٌ فَإِنَّهُ فُعِلَتْ بِقُوَّتِهِ الْآيَاتُ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّ الْخَشَبَةَ الَّتِي صُلِبَ عَلَيْهَا الْمَسِيحُ عَلَى زَعْمِكُمْ أُلْصِقَتْ بِمَيِّتٍ فَعَاشَ، فَإِنَّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إِلَهٌ. قُلْنَا لَكُمْ: فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْيَسَعَ إِلَهٌ؟ وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ (بِأَنَّ كِتَابَ سَفْرِ الْمُلُوكِ يُخْبِرُ بِأَنَّ رَجُلًا مَاتَ فَحَمَلَهُ أَهْلُهُ إِلَى الْمَقْبَرَةِ، فَلَمَّا كَانُوا بَيْنَ الْقُبُورِ رَأَوْا عَدُوًّا لَهُمْ يُرِيدُ أَنْفُسَهُمْ فَطَرَحُوا الْمَيِّتَ عَنْ رِقَابِهِمْ وَبَادَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي أَلْقَوْا عَلَيْهِ الْمَيِّتَ قَبْرَ الْيَسَعَ، فَلَمَّا أَصَابَ ذَلِكَ الْمَيِّتَ تُرَابُ قَبْرِ الْيَسَعَ عَاشَ وَأَقْبَلَ يَمْشِي إِلَى الْمَدِينَةِ، فَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْمَسِيحَ إِلَهٌ لِأَنَّ الْخَشَبَةَ الَّتِي ذَكَرُوا أَنَّهُ صُلِبَ عَلَيْهَا أُلْصِقَتْ بِمَيِّتٍ فَعَاشَ، فَالْيَسَعُ إِلَهٌ، لِأَنَّ تُرَابَ قَبْرِهِ لَصِقَ بِمَيِّتٍ فَعَاشَ.

فَإِنْ قُلْتُمْ: أَنَّ الْمَسِيحَ كَانَ مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ. قُلْنَا لَكُمْ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ أُعْجُوبَةُ الْوِلَادَةِ تُوجِبُ الْإِلَهِيَّةَ وَلَا الرُّبُوبِيَّةَ، لِأَنَّ الْقُدْرَةَ فِي

ص: 143

ذَلِكَ لِلْخَالِقِ تبارك وتعالى لَا لِلْمَخْلُوقِ، وَعَلَى أَنَّهُ يُوجِدُكُمْ لِأَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ فَحْلٍ بِلَا أُنْثَى، وَخَلْقُ أُنْثَى مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى، أَعْجَبُ مِنْ ذَكَرٍ مِنْ أُنْثَى بِغَيْرِ ذَكَرٍ، وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ آدَمَ خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ تُرَابٍ، وَخَلْقُ بَشَرٍ مِنْ تُرَابٍ أَعْجَبُ وَأَبْدَعُ مِنْ خَلْقِ ذَكَرٍ مِنْ أُنْثَى بِلَا فَحْلٍ، فَمَا الْفَرْقُ؟

قَالَ: وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا كُلُّهَا هِيَ الْأَسْبَابُ الَّتِي تَتَعَلَّقُونَ بِهَا فِي نِحْلَتِكُمُ الْمَسِيحَ الرُّبُوبِيَّةَ، وَإِضَافَتِكُمْ إِلَيْهِ الْإِلَهِيَّةَ، وَقَدْ وَصَفْنَاهَا عَلَى حَقَائِقِهَا عِنْدَكُمْ، وَقَبِلْنَا فِيهَا قَوْلَكُمْ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَشُكُّ فِي أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ حَرَّفُوا بَعْضَ مَا فِيهَا مِنَ الْكَلَامِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَأَوْجَدْنَاكُمْ بِطُولِ مَا تَنْتَحِلُونَهُ وَفَسَادِ مَا تَتَأَوَّلُونَهُ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي فِي أَيْدِيِكُمُ التَّوْرَاةِ وَالزَّبُورِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْإِنْجِيلِ، فَمَا الَّذِي يُثْبِتُ الْحُجَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ لَكُمْ؟

قَالَ: وَقَدْ قَالَ السَّيِّدُ الْمَسِيحُ فِي الْإِنْجِيلِ لِتَلَامِيذِهِ لَمَّا سَأَلُوهُ عَنِ السَّاعَةِ وَالْقِيَامَةِ: (إِنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَتِلْكَ السَّاعَةَ لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ، وَلَا الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ، وَلَا الِابْنُ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الْأَبَ وَحْدَهُ

ص: 144

يَعْرِفُهُ) . قَالَ: فَهَذَا إِقْرَارٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ مَنْقُوصُ الْعِلْمِ، وَأَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى أَعَزُّ وَأَعْلَمُ مِنْهُ، وَأَنَّهُ خِلَافُهُ وَأَعْلَا مِنْهُ، وَقَدْ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ (أَحَدٌ) عُمُومَهُ بِذَلِكَ الْخَلْقِ جَمِيعًا، ثُمَّ قَالَ:(وَلَا الْمَلَائِكَةُ) وَعِنْدَهُمْ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ مَا لَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ الْأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ:(وَلَا الِابْنُ) وَلَهُ مِنَ الْقُوَّةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ، وَشَهِدَ قَوْلُهُ هَذَا شَهَادَةً وَاضِحَةً عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ كُلَّ مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ، بَلْ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ وَأَطْلَعَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَجَعَلَهُ لَهُ، وَأَنَّهُ لِقُصُورِ مَعْرِفَتِهِ بِكُلِّ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ بِحَيْثُ يَصِفُونَهُ مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ، وَأَنَّهُ هُوَ اللَّهُ وَمِنْ جَوْهَرِ أَبِيهِ، تَعَالَى اللَّهُ الْخَالِقُ لِكُلِّ شَيْءٍ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَلَوْ كَانَ إِلَهًا كَمَا يَقُولُونَ، لَعَلِمَ مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ مِنْ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ وَسَرَائِرِ الْأُمُورِ وَعَلَانِيَتِهَا، إِذَا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي إِذَا سُئِلْتُمْ عَنْهُ تَعَلَّقْتُمْ بِأَنَّهُ قِيلَ لِلنَّاسُوتِ دُونَ اللَّاهُوتِ.

قُلْتُ: مَقْصُودُهُ بِذَلِكَ أَنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ، ثُمَّ خَصَّ

ص: 145

الْمَلَائِكَةَ بِالذِّكْرِ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ يَعْلَمُهُ، فَقَالَ:(وَلَا الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ)، ثُمَّ قَالَ:(وَلَا الِابْنُ يَعْرِفُهُ، وَأَنَّ الْأَبَ وَحْدَهُ يَعْرِفُهُ) ، فَنَفَى مَعْرِفَةَ الِابْنِ، وَأَثْبَتَ أَنَّ الْأَبَ وَحْدَهُ يَعْرِفُهُ، وَمُرَادُهُ بِالِابْنِ الْمَسِيحِ، فَعُرِفَ أَنَّ الْمَسِيحَ لَا يَعْرِفُهُ، وَأَثْبَتَ أَنَّ الرَّبَّ يَعْرِفُهُ دُونَ الِابْنِ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الِابْنِ عِنْدَ الْمَسِيحِ إِنَّمَا يُرَادُ بِهَا النَّاسُوتُ وَحْدَهُ، إِذْ كَانَ لَا يَجُوزُ نَفْيُ الْعِلْمِ عَنِ اللَّاهُوتِ، فَإِنَّ اللَّاهُوتَ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ، وَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ:(عَمِّدُوا النَّاسَ بِاسْمِ الْأَبِ وَالِابْنِ) ، الْمُرَادُ بِهِ النَّاسُوتُ وَحْدَهُ، كَمَا أُرِيدَ بِلَفْظِ الِابْنِ فِي سَائِرِ كَلَامِهِ وَكَلَامِ غَيْرِهِ لَمْ يُرِدْ قَطُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِلَفْظِ الِابْنِ اللَّاهُوتَ، بَلْ إِطْلَاقُ الِابْنِ عَلَى اللَّاهُوتِ مِمَّا ابْتَدَعَتْهُ النَّصَارَى وَحَمَلُوا عَلَيْهَا كَلَامَ الْمَسِيحِ، فَابْتَدَعُوا لِصِفَاتِ اللَّهِ أَسْمَاءً مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، وَحَمَلُوا عَلَيْهَا كَلَامَ الْمَسِيحَ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ كَلَامُ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام وَغَيْرِهِمْ عَلَى مَعْنَى لُغَتِهِمُ الَّتِي جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِالتَّكْلِيمِ بِهَا، لَا عَلَى لُغَةٍ يُحْدِثُهَا مَنْ بَعْدَهَمْ وَيُحْمَلُ كَلَامُهُمْ عَلَيْهَا.

قُلْتُ: فَإِنَّ هَذَا الَّذِي فَعَلَتْهُ النَّصَارَى وَأَشْبَاهُهُمْ يَفْتَحُ بَابَ الْإِلْحَادِ فِي كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:

" {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [فصلت: 40] ".

ص: 146

وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنِ اعْتَقَدَ مَعَانِيَ بِرَأْيِهِ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهَا بِأَلْفَاظٍ تُنَاسِبُهَا بِنَوْعِ مُنَاسَبَةٍ، وَتِلْكَ الْأَلْفَاظُ مَوْجُودَةٌ فِي كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام لَهَا مَعَانٍ أُخَرَ، وَيَجْعَلَ تِلْكَ الْأَلْفَاظَ دَالَّةً عَلَى مَعَانِيهِ الَّتِي رَآهَا، ثُمَّ يَجْعَلَ الْأَلْفَاظَ الَّتِي تَكَلَّمَتْ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ وَجَاءَتْ بِهَا الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ أَرَادُوا بِهَا مَعَانِيهِ هُوَ، وَهَكَذَا فَعَلَ سَائِرُ أَهْلِ الْإِلْحَادِ فِي سَائِرِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، كَمَا فَعَلَتْهُ النَّصَارَى مِثْلَ مَا عَمَدَتِ الْمَلَاحِدَةُ الْمُتَّبِعُونَ لِفَلَاسِفَةِ الْيُونَانَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْلَاكَ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالتَّوْرَاةِ وَلَا غَيْرِهَا مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَا هُوَ عَالِمٌ بِالْجُزْئِيَّاتِ لَا بِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَلَا بِغَيْرِهِ، وَلَا هُوَ قَادِرٌ أَنْ يَفْعَلَ بِمَشِيئَةٍ، وَلَا يُقِيمُ النَّاسَ مِنْ قُبُورِهِمْ، فَقَالُوا: خَلَقَ وَأَحْدَثَ وَفَعَلَ وَصَنَعَ وَنَحْوَ ذَلِكَ يُقَالُ عَلَى الْإِحْدَاثِ الذَّاتِيِّ، وَالْإِحْدَاثِ الزَّمَانِيِّ.

فَالْأَوَّلُ: هُوَ إِيجَابُ الْعِلَّةِ لِمَعْلُولِهَا الْمُقَارِنِ لَهَا فِي الزَّمَانِ.

وَالثَّانِي: إِيجَادُ الشَّيْءِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، ثُمَّ قَالُوا: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَأَحْدَثَ ذَلِكَ وَأَبْدَعَهَ وَصَنَعَهُ، كَمَا أَخْبَرَتْ بِذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ عليهم السلام، لَكِنْ مُرَادُهُمْ بِذَلِكَ الْإِحْدَاثُ الذَّاتِيُّ، وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ مَعْلُولٌ لَهُ لَمْ يَزَلْ مَعَهُ.

فَيُقَالُ لَهُمْ: لَمْ يَسْتَعْمِلْ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ

ص: 147

وَالسَّلَامُ بَلْ وَلَا أَحَدٌ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ لَفْظَ الْخَلْقِ وَالْإِحْدَاثِ إِلَّا فِيمَا كَانَ بَعْدَ عَدَمِهِ، وَهُوَ مَا كَانَ مَسْبُوقًا بِعَدَمِهِ وَوُجُودِ غَيْرِهِ، وَمَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ فِي جَمِيعِ لُغَاتِ الْأُمَمِ، وَأَيْضًا فَاللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي لُغَةِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَا لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا بَعْضُ النَّاسِ، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي يَدَّعُونَهُ لَوْ كَانَ حَقًّا لَمْ يَتَصَوَّرْهُ إِلَّا بَعْضُ النَّاسِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْعَامُّ الَّذِي تَدَاوَلَهُ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ مَوْضُوعًا لَهُ إِذَا كَانَ هَذَا يُبْطِلُ مَقْصُودَ اللُّغَاتِ، وَيُبْطِلُ تَعْرِيفَ الْأَنْبِيَاءِ لِلنَّاسِ، فَكَيْفَ وَهُوَ بَاطِلٌ فِي صَرِيحِ الْمَعْقُولِ؟ كَمَا هُوَ بَاطِلٌ فِي صَحِيحِ الْمَنْقُولِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّ أَحَدًا قَطُّ عَبَّرَ عَنِ الْقَدِيمِ الْأَزَلِيِّ الَّذِي لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا وَلَا يَزَالُ بِأَنَّهُ مُحْدَثٌ أَوْ مَخْلُوقٌ أَوْ مَصْنُوعٌ أَوْ مَفْعُولٌ، فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ كَذِبٌ صَرِيحٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام لِتُوهِمُوا النَّاسَ أَنَّكُمْ مُوَافِقُونَ لَهُمْ، وَالْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ كَالتَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَالْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ لَا يَكُونُ مَخْلُوقًا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَكَذَلِكَ الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ كَالتَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ قَدْ أَخْبَرَتْ بِتَكْلِيمِ اللَّهِ لِمُوسَى وَبِنِدَائِهِ إِيَّاهُ مِنَ الطُّورِ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّهَا شَجَرَةُ الْعُلَّيْقِ.

وَأَخْبَرَتْ بِأَنَّ مُوسَى عليه السلام كَانَ يُلْقِي عَصَاهُ فَتَصِيرُ حَيَّةً

ص: 148

تَسْعَى، وَيُخْبِرُ بِأَنَّ اللَّهَ فَلَقَ الْبَحْرَ، فَقَالَتِ الْمَلَاحِدَةُ: إِنَّ الشَّيْءَ الثَّابِتَ يُسَمَّى طُورًا، فَإِنَّهُ ثَابِتٌ كَالْجَبَلِ، وَالْقُلُوبَ تُسَمَّى أَوْدِيَةً، وَإِظْهَارَ الْعُلُومِ بِتَفْجِيرِ يَنَابِيعِ الْعِلْمِ، وَالْحُجَّةَ الْمُبْتَلِعَةَ كَلَامَ أَهْلِ الْبَاطِلِ هِيَ عَصًا مَعْنَوِيَّةٌ، فَمُرَادُ الْكُتُبِ بِالطُّورِ الْعَقْلُ الْفَعَّالُ الَّذِي فَاضَ مِنْهُ الْعِلْمُ عَلَى قَلْبِ مُوسَى عليه السلام، وَالْوَادِي قَلْبُ مُوسَى، وَالْكَلَامُ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى سَمِعَهُ مِنْ سَمَاءِ عَقْلِهِ، وَتِلْكَ الْأَصْوَاتُ كَانَتْ فِي نَفْسِهِ لَا فِي الْخَارِجِ، وَالْمَلَائِكَةُ الَّتِي رَآهَا كَانَتْ أَشْخَاصًا نُورَانِيَّةً تَمَثَّلَتْ فِي نَفْسِهِ لَا فِي الْخَارِجِ، وَالْبَحْرُ الَّذِي فَلَقَهُ هُوَ بَحْرُ الْعِلْمِ، وَالْعَصَا كَانَتْ حُجَّتَهُ، غَلَبَ عَلَى السَّحَرَةِ بِحُجَّتِهِ الْعِلْمِيَّةِ فَابْتَلَعَتْ حُجَّتُهُ شُبَهَهُمُ الَّتِي جَعَلُوهَا حِبَالًا يَتَوَسَّلُونَ بِهَا إِلَى نَيْلِ أَغْرَاضِهِمْ، وَعِصِيًّا يَقْهَرُونَ بِهَا مَنْ يُجَادِلُونَهُ.

أَفَلَيْسَ مَنْ قَالَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ يَكْذِبُ عَلَى الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي أَخْبَرَتْ بِقِصَّةِ مُوسَى كَالتَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مُرَادُ الرُّسُلِ بِمَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى هَذَا، بَلْ صَرَّحُوا بِأَنَّ مُوسَى سَمِعَ نِدَاءَ اللَّهِ لَهُ، وَأَنَّهُ كَلَّمَهُ مِنَ الطُّورِ طُورِ سَيْنَا الَّذِي هُوَ الْجَبَلُ، وَقَلَبَ عَصَاهُ الَّتِي كَانَ يَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِهِ ثُعْبَانًا عَظِيمًا، وَفَلَقَ لَهُ الْبَحْرَ وَأَغْرَقَ فِيهِ آلَ فِرْعَوْنَ فَغَرِقُوا وَمَاتُوا فِيهِ وَهَلَكُوا، وَأَمْثَالُ هَذَا مِنْ تَحْرِيفَاتِ الْمَلَاحِدَةِ كَثِيرٌ.

فَهَكَذَا النَّصَارَى حَرَّفُوا كُتُبَ اللَّهِ وَسَمَّوْا صِفَةَ اللَّهِ الْقَدِيمَةَ الْأَزَلِيَّةَ

ص: 149

الَّتِي هِيَ عِلْمُهُ أَوْ حِكْمَتُهُ ابْنًا، وَسَمَّوْهَا أَيْضًا كَلِمَةً، وَسَمَّوْا صِفَتَهُ الْقَدِيمَةَ الْأَزَلِيَّةَ، الَّتِي هِيَ حَيَاتُهُ رُوحَ الْقُدُسِ، وَتَسْمِيَةُ هَذِهِ الصِّفَاتِ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَا تُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا غَيْرِهِمْ وَلَا يُعْرَفُ أَنَّ أَحَدًا قَطُّ لَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا غَيْرِهِمْ سَمَّى عِلْمَ اللَّهِ الْقَائِمَ بِهِ ابْنَهُ، بَلْ وَسَمَّى عِلْمَ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ الْقَائِمَ بِهِ ابْنَهُ، وَلَكِنْ لَفْظُ الِابْنِ يُعَبَّرُ بِهِ عَمَّنْ وُلِدَ الْوِلَادَةَ الْمَعْرُوفَةَ، وَيُعَبَّرُ بِهِ عَمَّنْ كَانَ هُوَ سَبَبًا فِي وُجُودِهِ، كَمَا يُقَالُ: ابْنُ السَّبِيلِ، لِمَنْ وَلَدَتْهُ الطَّرِيقُ، فَإِنَّهُ لَمَّا جَاءَ مِنْ جِهَةِ الطَّرِيقِ جُعِلَ كَأَنَّهُ وَلَدُهُ.

وَيُقَالُ لِبَعْضِ الطَّيْرِ: ابْنُ الْمَاءِ، لِأَنَّهُ يَجِيءُ مِنْ جِهَةِ الْمَاءِ، وَيُقَالُ: كُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الِابْنَ يَنْتَسِبُ إِلَى أَبِيهِ وَيُحِبُّهُ وَيُضَافُ إِلَيْهِ، أَيْ كُونُوا مِمَنْ يَنْتَسِبُ إِلَى الْآخِرَةِ وَيُحِبُّهَا وَيُضَافُ إِلَيْهَا، وَهَذَا اللَّفْظُ مَوْجُودٌ فِي الْكُتُبِ الَّتِي بِأَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ فِي حَقِّ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ وَيُرَبِّيِهِمْ، كَمَا ذَكَرُوا أَنَّ الْمَسِيحَ قَالَ:(أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلَهِي وَإِلَهُكُمْ) . وَفِي التَّوْرَاةِ: أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِيَعْقُوبَ: (أَنْتَ ابْنِي بِكْرِي) .

وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُرَادُ بِهِ إِذَا كَانَ صَحِيحًا لَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ، وَهُوَ الْمَحَبَّةُ لَهُ وَالِاصْطِفَاءُ لَهُ، وَالرَّحْمَةُ لَهُ، وَكَانَ الْمَعْنَى مَفْهُومًا عِنْدَ

ص: 150

الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام وَمَنْ يُخَاطِبُونَهُ، وَهُوَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُتَشَابِهَةِ، فَصَارَ كَثِيرٌ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ يُرِيدُونَ بِهِ الْمَعْنَى الْبَاطِلَ.

وَزَعَمَ كَثِيرٌ مِنَ الْكُفَّارِ أَنَّ لِلَّهِ سبحانه وتعالى بَنِينَ وَبَنَاتٍ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُهُ، وَبَعْضُ مَنْ يَقُولُ بِقِدَمِ الْعَالَمِ مِنَ الْمُتَفَلْسِفَةِ يَقُولُونَ: الْعُقُولُ الْعَشَرَةُ هِيَ بَنُوهُ، وَالنُّفُوسُ الْفَلَكِيَّةُ هِيَ بَنَاتُهُ وَهِيَ مُتَوَلِّدَةٌ عَنْهُ لَازِمَةٌ لِذَاتِهِ، فَجَاءَ الْقُرْآنُ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْكُتُبِ وَأَكْمَلُهَا بِإِبْطَالِ هَذِهِ الْمَعَانِي وَمَنْعِ اسْتِعْمَالِ هَذَا اللَّفْظِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَنَزَّهَ اللَّهَ عَنْ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا، كَمَا نَزَّهَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، وَالْأَوَّلُ مِنْ بَابِ تَنْزِيهِهِ عَنِ الْأَفْعَالِ الْمَذْمُومَةِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمُ الَّذِينَ يُنَزِّهُونَ اللَّهَ وَيُقَدِّسُونَهُ عَنِ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ الَّتِي لَا تَلِيقُ بِهِ، بَلْ تُنَافِي مَا وَجَبَ لَهُ مِنَ الْكَمَالِ فِي أَفْعَالِهِ، كَمَا وَجَبَ لَهُ الْكَمَالُ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ لَا يُنَزِّهُ اللَّهَ عَنْ فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ إِلَّا مَا كَانَ مُمْتَنِعًا لِذَاتِهِ، فَأَمَّا الْمُمْكِنُ الْمَقْدُورُ فَيَقُولُ: لَا يُعْلَمُ انْتِفَاؤُهُ إِلَّا بِالْخَبَرِ أَوْ بِالْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ الَّتِي يُمْكِنُ انْتِقَاضُهَا، فَهَذَا لَا يَبْقَى مَعَهُ مَا يَنْفِي بِهِ عَنِ اللَّهِ الْأَفْعَالَ الْمَذْمُومَةَ الْقَبِيحَةَ، وَالْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ قَدْ نَزَّهَتِ الرَّبَّ عز وجل عَنِ الْأَفْعَالِ الْمَذْمُومَةِ، كَمَا نَزَّهَتْهُ عَنْ صِفَاتِ النَّقْصِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

ص: 151

{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26] .

وَقَالَ تَعَالَى:

{إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 171] .

كَمَا قَالَ تَعَالَى:

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام: 100]

وَقَالَ تَعَالَى:

{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] .

وَقَالَ تَعَالَى عَنِ الْمُؤْمِنِينَ:

{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران: 191] .

وَقَالَ تَعَالَى:

{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا - الَّذِي لَهُ مُلْكُ

ص: 152

السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 1 - 2] .

وَقَالَ تَعَالَى:

{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ - عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 91 - 92] .

وَقَالَ تَعَالَى:

{أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الصافات: 151] .

وَقَالَ تَعَالَى:

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]

فَكَمَا نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ الْوِلَادَةِ، نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ.

وَقَالَ تَعَالَى:

{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا - لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا - تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا - أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم: 88 - 91]

ص: 153

{وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا - إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا - لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا - وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 92 - 95] .

وَقَالَ تَعَالَى:

{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172] .

وَقَالَ تَعَالَى:

{وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 80] .

وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: أَنَّى يُعِيدُنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: أَنِّي اتَّخَذْتُ وَلَدًا، وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ» .

ص: 154

وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " «مَا أَحَدٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ لَيَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَشَرِيكًا، وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ» .

وَلِهَذَا كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَقُولُ: لَا تَرْحَمُوا النَّصَارَى، فَإِنَّهُمْ سَبُّوا اللَّهَ مَسَبَّةً مَا سَبَّهُ إِيَّاهَا أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ. فَجَاءَتْ هَذِهِ الشَّرِيعَةُ الْحَنِيفِيَّةُ الْقُرْآنِيَّةُ وَحَرَّمَتْ أَنْ يُتَكَلَّمَ فِي حَقِّ اللَّهِ بِاسْمِ ابْنٍ أَوْ وَلَدٍ، سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، كَمَا مَنَعَتْ أَنْ يَسْجُدَ أَحَدٌ لِغَيْرِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّحِيَّةِ، كَمَا مَنَعَتْ أَنْ يُصَلِّيَ أَحَدٌ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا، لِئَلَّا يُشْبِهَ عُبَّادَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، فَكَانَتْ بِسَدِّهَا لِلْأَبْوَابِ الَّتِي يُجْعَلُ لِلَّهِ فِيهَا

ص: 155

الشَّرِيكُ وَالْوَلَدُ أَكْمَلَ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الشَّرَائِعِ، كَمَا سَدَّتْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الذَّرَائِعِ، مِثْلَ تَحْرِيمِهَا قَلِيلَ الْمُسْكِرِ ; لِأَنَّهُ يَجُرُّ إِلَى كَثِيرِهِ، فَإِنَّ أُصُولَ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا:

{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] .

مِمَّا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ شَرَائِعُ الْأَنْبِيَاءِ بِخِلَافِ تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ عُقُوبَةً، فَإِنَّ هَذَا جَاءَ فِي شَرْعِ التَّوْرَاةِ دُونَ شَرْعِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَحَلَّ لِأَمَةِ مُحَمَّدٍ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ، وَكَذَلِكَ تَكْمِيلُ التَّوْحِيدِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ وَسَدُّ أَبْوَابِ الشِّرْكِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، جَاءَتْ بِهِ هَذِهِ الشَّرِيعَةُ مَعَ اتِّفَاقِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى إِيجَابِ التَّوْحِيدِ وَتَحْرِيمِ أَنْ يُجْعَلَ لِلَّهِ شَرِيكٌ أَوْ وَلَدٌ.

فَإِذَا كَانَ مُرَادُ الْمَسِيحِ عليه السلام بِالِابْنِ هُوَ النَّاسُوتُ، وَهُوَ لَمْ يُسَمِّ اللَّاهُوتَ ابْنًا، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ الِابْنَ لَا يَعْلَمُ السَّاعَةَ، فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَسِيحَ هُوَ النَّاسُوتُ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ السَّاعَةَ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَإِنْ قَالُوا: مُرَادُهُ بِالِابْنِ اللَّاهُوتُ أَوِ اللَّاهُوتُ وَالنَّاسُوتُ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّاهُوتَ أَوِ اللَّاهُوتَ وَالنَّاسُوتَ لَا يَعْلَمُ السَّاعَةَ وَهَذَا بَاطِلٌ،

ص: 156

وَكَذِبٌ، وَهُوَ أَيْضًا مُنَاقِضٌ لِقَوْلِهِمْ.

فَدَلَّ هَذَا النَّصُّ مِنَ الْمَسِيحِ مَعَ سَائِرِ نُصُوصِهِ وَنُصُوصِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى أَنَّ مُسَمَّى الِابْنِ هُوَ النَّاسُوتُ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ، وَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ مَخْلُوقٌ لَيْسَ بِخَالِقٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا خِطَابًا لِلنَّاسُوتِ الْمُتَّحِدِ بِاللَّاهُوتِ دُونَ اللَّاهُوتِ، كَمَا يَتَأَوَّلُهُ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّصَارَى، لِأَنَّ كُلَّ مَا عَلِمَهُ اللَّاهُوتُ الْمُتَّحِدُ بِالْمَسِيحِ عَلِمَهُ النَّاسُوتُ، وَلِأَنَّ النَّاسُوتَ لَيْسَ هُوَ الِابْنُ عِنْدَهُمْ دُونَ اللَّاهُوتِ الْمُتَّحِدِ بِهِ، بَلِ اسْمُ الِابْنِ عِنْدَهُمْ هُوَ اللَّاهُوتُ، وَلِأَجْلِ الِاتِّحَادِ دَخَلَ فِيهِ النَّاسُوتُ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُثْبِتْ إِلَّا عِلْمَ الْأَبِ وَحْدَهُ لَمْ يَسْتَثْنِ عِلْمَ الِابْنِ الْأَزَلِيَّ عِنْدَهُمْ، بَلْ نَفَى عِلْمَ مَا سِوَى الْأَبِ بِهِ، وَهَذَا مُنَاقِضٌ لِقَوْلِهِمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.

ص: 157