الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ: نَقْضُ دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ أَثْبَتَ فِي الْمَسِيحِ اللَّاهُوتَ وَالنَّاسُوتَ]
قَالُوا: وَقَدْ جَاءَ فِي هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي جَاءَ بِهِ هَذَا الْإِنْسَانُ يَقُولُ:
{إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171]
. وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَنَا: إِذْ قَدْ شَهِدَ أَنَّهُ إِنْسَانٌ مِثْلُنَا، أَيْ بِالنَّاسُوتِ الَّذِي أُخِذَ مِنْ مَرْيَمَ، وَكَلِمَةِ اللَّهِ وَرُوحِهِ الْمُتَّحِدَةِ فِيهِ، وَحَاشَا أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحُهُ الْخَالِقَةَ مِثْلَنَا نَحْنُ الْمَخْلُوقِينَ، وَأَيْضًا قَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ:
{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157]
. فَأَشَارَ بِهَذَا الْقَوْلِ إِلَى اللَّاهُوتِ الَّذِي هُوَ كَلِمَةُ اللَّهِ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ
عَلَيْهَا أَلَمٌ وَلَا عَرَضٌ، وَقَالَ أَيْضًا:
. وَقَالَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ عَنْ عِيسَى أَنَّهُ قَالَ:
{وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117] .
فَأَعْنَى بِمَوْتِهِ عَنْ مَوْتِ النَّاسُوتِ الَّذِي أُخِذَ مِنْ مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ.
وَقَالَ أَيْضًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ:
{وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 157] .
فَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى اللَّاهُوتِ الَّذِي هُوَ كَلِمَةُ اللَّهِ الْخَالِقَةُ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ نَقُولُ: إِنَّ الْمَسِيحَ صُلِبَ وَتَأَلَّمَ بِنَاسُوتِهِ، وَلَمْ يُصْلَبْ وَلَا تَأَلَّمَ بِلَاهُوتِهِ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ: دَعْوَاهُمْ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَثْبَتَ فِي الْمَسِيحِ اللَّاهُوتَ وَالنَّاسُوتَ، كَمَا يَزْعُمُهُ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى فِيهِ، هُوَ مِنَ الْكَذِبِ الْوَاضِحِ الْمَعْلُومِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الَّذِي يُعْلَمُ مِنْ دِينِهِ بِالِاضْطِرَارِ، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ دِينِهِ تَصْدِيقُ الْمَسِيحِ عليه السلام وَإِثْبَاتُ رِسَالَتِهِ، فَلَوِ ادَّعَى الْيَهُودُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يُكَذِّبُ الْمَسِيحَ وَيَجْحَدُ رِسَالَتَهُ، كَانَ كَدَعْوَى النَّصَارَى عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَأَنَّ اللَّاهُوتَ اتَّحَدَ بِالنَّاسُوتِ، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَخْبَرَ فِيمَا بَلَّغَهُ عَنِ اللَّهِ عز وجل بِكُفْرِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَبِمَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وقَوْلُهُ تَعَالَى:
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ - لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ
وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ - مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ - قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ - قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 72 - 77]
. وَقَالَ تَعَالَى:
وَقَالَ تَعَالَى:
وَقَالَ تَعَالَى:
فَأَخْبَرَ عَنِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، بِقَوْلِهِ: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ، وَكَانَ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دَامَ فِيهِمْ، وَبَعْدَ وَفَاتِهِ كَانَ اللَّهُ هُوَ الرَّقِيبُ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا كَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ غَلِطَ فِي النَّقْلِ عَنْهُ
أَوْ فِي تَفْسِيرِ كَلَامِهِ، أَوْ تَعَمَّدَ تَغْيِيرَ دِينِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَسِيحِ عليه السلام مِنْ ذَلِكَ دَرَكٌ، وَإِنَّمَا هُوَ رَسُولٌ عَلَيْهِ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ.
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سبحانه وتعالى أَنَّ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الْمَسِيحُ أَنَّهُ قَالَ:
ثُمَّ طَلَبَ لِنَفْسِهِ السَّلَامَ فَقَالَ:
{وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 33] .
وَالنَّصَارَى يَقُولُونَ: (عَلَيْنَا مِنْهُ السَّلَامُ) كَمَا تَقُولُهُ الْغَالِيَةُ فِيمَنْ يَدَّعُونَ فِيهِ الْإِلَآهِيَةَ كَالنُّصَيْرِيَّةِ فِي عَلِيٍّ، وَالْحَاكِمِيَّةِ فِي الْحَاكِمِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ الْمَسِيحَ مَاتَ وَلَا قُتِلَ
إِنَّمَا قَالَ:
{يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 55]
وَقَالَ الْمَسِيحُ:
{فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117]
وَقَالَ تَعَالَى:
فَذَمَّ اللَّهُ الْيَهُودَ بِأَشْيَاءَ مِنْهَا: قَوْلُهُمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ; حَيْثُ زَعَمُوا أَنَّهَا بَغِيٌّ، وَمِنْهَا: قَوْلُهُمْ: {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} [النساء: 157] .
قَالَ تَعَالَى:
{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] .
وَأَضَافَ هَذَا الْقَوْلَ إِلَيْهِمْ وَذَمَّهُمْ عَلَيْهِ.
وَلَمْ يَذْكُرِ النَّصَارَى ; لِأَنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا صَلْبَ الْمَصْلُوبِ الْمُشَبَّهِ بِهِ هُمُ الْيَهُودُ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ النَّصَارَى شَاهِدًا هَذَا مَعَهُمْ، بَلْ كَانَ الْحَوَارِيُّونَ خَائِفِينَ غَائِبِينَ، فَلَمْ يَشْهَدْ أَحَدٌ مِنْهُمُ الصَّلْبَ، وَإِنَّمَا شَهِدَهُ الْيَهُودُ وَهُمُ الَّذِينَ أَخْبَرُوا النَّاسَ أَنَّهُمْ صَلَبُوا الْمَسِيحَ، وَالَّذِينَ نَقَلُوا أَنَّ الْمَسِيحَ صُلِبَ مِنَ النَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ، إِنَّمَا نَقَلُوهُ عَنْ أُولَئِكَ الْيَهُودِ وَهُمْ شُرَطٌ مِنْ أَعْوَانِ الظَّلَمَةِ، لَمْ يَكُونُوا خَلْقًا كَثِيرًا يَمْتَنِعُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ.
قَالَ تَعَالَى:
{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] . فَنَفَى عَنْهُ الْقَتْلَ، ثُمَّ قَالَ:
{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] .
وَهَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مَعْنَاهُ قَبْلَ مَوْتِ الْمَسِيحِ، وَقَدْ قِيلَ قَبْلَ مَوْتِ الْيَهُودِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، كَمَا قِيلَ: أَنَّهُ قَبْلَ مَوْتِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَضْعَفُ، فَإِنَّهُ لَوْ آمَنَ بِهِ قَبْلَ الْمَوْتِ لَنَفَعَهُ إِيمَانُهُ بِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ.
وَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْإِيمَانُ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الْغَرْغَرَةِ، لَمْ يَكُنْ فِي
هَذَا فَائِدَةٌ، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ بَعْدَ مَوْتِهِ يُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ الَّذِي كَانَ يَجْحَدُهُ فَلَا اخْتِصَاصَ لِلْمَسِيحِ بِهِ، وَلِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَلَمْ يَقُلْ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ إِيمَانِهِ بِالْمَسِيحِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَسَلَامُهُ وَالْيَهُودِيُّ الَّذِي يَمُوتُ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ يَمُوتُ كَافِرًا بِمُحَمَّدٍ وَالْمَسِيحِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلِأَنَّهُ قَالَ:
{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159]
وَقَوْلُهُ: {لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} [النساء: 159]
فِعْلٌ مُقَسَمٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِيمَانَ بَعْدَ إِخْبَارِ اللَّهِ بِهَذَا، وَلَوْ أُرِيدَ بِهِ قَبْلَ مَوْتِ الْكِتَابِيِّ لَقَالَ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، لَمْ يَقِلْ:{لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} [النساء: 159]
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ " وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ " وَهَذَا يَعُمُّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُؤْمِنُونَ بِالْمَسِيحِ قَبْلَ مَوْتِ الْمَسِيحِ وَذَلِكَ إِذَا نَزَلَ آمَنَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ لَيْسَ كَاذِبًا كَمَا تَقُولُ الْيَهُودُ وَلَا هُوَ اللَّهُ كَمَا تَقُولُهُ النَّصَارَى.
وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى هَذَا الْعُمُومِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يُدَّعَى أَنَّ كُلَّ كِتَابِيٍّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ الْكِتَابِيُّ، فَإِنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ إِيمَانَ كُلِّ يَهُودِيٍّ
وَنَصْرَانِيٍّ، وَهَذَا خِلَافُ الْوَاقِعِ، وَهُوَ لَمَّا قَالَ:
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ
دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِإِيمَانِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ هُوَ، عُلِمَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْعُمُومِ عُمُومَ مَنْ كَانَ مَوْجُودًا حِينَ نُزُولِهِ ; أَيْ لَا يَتَخَلَّفُ مِنْهُمْ أَحَدٌ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ، لَا إِيمَانَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَيِّتًا.
وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: إِنَّهُ لَا يَبْقَى بَلَدٌ إِلَّا دَخْلَهُ الدَّجَّالُ إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، أَيْ مِنَ الْمَدَائِنِ الْمَوْجُودَةِ حِينَئِذٍ، وَسَبَبُ إِيمَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِهِ حِينَئِذٍ ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ يَظْهَرُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنَّهُ رَسُولٌ مُؤَيَّدٌ لَيْسَ بِكَذَّابٍ وَلَا هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
فَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ إِيمَانَهُمْ بِهِ إِذَا نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ رَفْعَهُ إِلَى اللَّهِ بِقَوْلِهِ:
{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]
وَهُوَ يَنْزِلُ إِلَى الْأَرْضِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَمُوتُ حِينَئِذٍ أَخْبَرَ بِإِيمَانِهِمْ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى:
{إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ - وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ - وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ - وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ - وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ - إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ
مُسْتَقِيمٌ - فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [الزخرف: 59 - 65] .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " «يُوشِكُ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا، وَإِمَامًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ» . " وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
بَيَانٌ أَنَّ اللَّهَ رَفَعَهُ حَيًّا وَسَلَّمَهُ مِنَ الْقَتْلِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا.
وَلَوْ مَاتَ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ.
وَلَفْظُ التَّوَفِّي فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مَعْنَاهُ: الِاسْتِيفَاءُ وَالْقَبْضُ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَحُدُهَا: تَوَفِّي النَّوْمِ، وَالثَّانِي: تَوَفِّي الْمَوْتِ، وَالثَّالِثُ: تَوَفِّي الرُّوحِ وَالْبَدَنِ جَمِيعًا، فَإِنَّهُ بِذَلِكَ خَرَجَ عَنْ حَالِ أَهْلِ الْأَرْضِ الَّذِينَ يَحْتَاجُونَ إِلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالنَّوْمِ، وَيَخْرُجُ مِنْهُمُ الْغَائِطُ وَالْبَوْلُ، وَالْمَسِيحُ عليه السلام تَوَفَّاهُ اللَّهُ وَهُوَ فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ إِلَى أَنْ يَنْزِلَ إِلَى الْأَرْضِ، لَيْسَتْ حَالُهُ كَحَالَةِ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالنَّوْمِ، وَالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ عَنَي بِمَوْتِهِ عَنْ مَوْتِ النَّاسُوتِ، كَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا عَلَى أَصْلِهِمْ: عَنَي بِتَوَفَّيْتُهُ عَنْ تَوَفِّي النَّاسُوتِ، وَسَوَاءٌ قِيلَ مَوْتُهُ أَوْ تَوَفَّيْتُهُ فَلَيْسَ هُوَ شَيْئًا غَيْرَ النَّاسُوتِ، فَلَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ غَيْرَهُ لَمْ يُتَوَفَّ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَالَ:
{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]
فَالْمُتَوَفَّى هُوَ الْمَرْفُوعُ إِلَى اللَّهِ، وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ الْمَرْفُوعَ هُوَ اللَّاهُوتُ، مُخَالِفٌ لِنَصِّ الْقُرْآنِ، لَوْ كَانَ هُنَاكَ مَوْتٌ فَكَيْفَ إِذَا لَمْ يَكُنْ، فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا الْمَرْفُوعَ غَيْرَ الْمُتَوَفَّى، وَالْقُرْآنُ أَخْبَرَ أَنَّ الْمَرْفُوعَ هُوَ الْمُتَوَفَّى. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:
{وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 157] .
هُوَ تَكْذِيبٌ لِلْيَهُودِ فِي قَوْلِهِمْ:
{إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} [النساء: 157] .
وَالْيَهُودُ لَمْ يَدَّعُوا قَتْلَ لَاهُوتٍ، وَلَا أَثْبَتُوا لِلَّهِ لَاهُوتًا فِي الْمَسِيحِ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ دَعْوَى قَتْلِهِ عَنِ النَّصَارَى حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ مَقْصُودَهُمْ قَتْلُ النَّاسُوتِ دُونَ اللَّاهُوتِ، بَلْ عَنِ الْيَهُودِ الَّذِينَ لَا يُثْبِتُونَ إِلَّا النَّاسُوتَ.
وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ، فَقَالَ تَعَالَى:
{وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 157] .
فَأَثْبَتَ رَفْعَ الَّذِي قَالُوا إِنَّهُمْ قَتَلُوهُ، وَإِنَّمَا هُوَ النَّاسُوتُ، فَعُلِمَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي نُفِيَ عَنْهُ الْقَتْلُ. وَهُوَ الَّذِي رُفِعَ، وَالنَّصَارَى مُعْتَرِفُونَ بِرَفْعِ النَّاسُوتِ، لَكِنْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ صُلِبَ، وَأَقَامَ فِي الْقَبْرِ إِمَّا يَوْمًا وَإِمَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ، وَقَعَدَ عَنْ يَمِينِ الرَّبِّ النَّاسُوتُ مَعَ اللَّاهُوتِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157]
مَعْنَاهُ: أَنَّ نَفْيَ قَتْلِهِ هُوَ يَقِينٌ لَا رَيْبَ فِيهِ، بِخِلَافِ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فَإِنَّهُمْ فِي شَكٍّ مِنْهُ مِنْ قَتْلِهِ وَغَيْرِ قَتْلِهِ فَلَيْسُوا مُسْتَيْقِنِينَ أَنَّهُ قُتِلَ ; إِذْ لَا حُجَّةَ مَعَهُمْ بِذَلِكَ.
وَلِذَلِكَ كَانَتْ طَائِفَةٌ مِنَ النَّصَارَى يَقُولُونَ: لَمْ يُصْلَبْ، فَإِنَّ الَّذِينَ صَلَبُوا الْمَصْلُوبَ هُمْ الْيَهُودُ، وَكَانَ قَدِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمُ الْمَسِيحُ بِغَيْرِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ اشْتَبَهَ بِغَيْرِهِ فَلَمْ يَعْرِفُوا مَنْ هُوَ الْمَسِيحُ مِنْ أُولَئِكَ حَتَّى قَالَ لَهُمْ بَعْضُ النَّاسِ: أَنَا أَعْرِفُهُ فَعَرَفُوهُ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى الْكَلَامِ مَا قَتَلُوهُ عِلْمًا بَلْ ظَنًّا قَوْلٌ ضَعِيفٌ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَالَ - تَعَالَى:
{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 55] .
فَلَوْ كَانَ الْمَرْفُوعُ هُوَ اللَّاهُوتَ، لَكَانَ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ لِنَفْسِهِ أَوْ لِكَلِمَتِهِ:" إِنِّي أَرْفَعُكَ إِلَيَّ "، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ فَالْمَسِيحُ عِنْدَهُمْ هُوَ اللَّهُ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ رَفْعُ نَفْسِهِ إِلَى نَفْسِهِ، وَإِذَا قَالُوا: هُوَ الْكَلِمَةُ فَهُمْ يَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ إِنَّهُ الْإِلَهُ الْخَالِقُ، لَا يَجْعَلُونَهُ بِمَنْزِلَةِ التَّوْرَاةِ
وَالْقُرْآنِ وَنَحْوِهِمَا، مِمَّا هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي قَالَ فِيهِ:
{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]
بَلْ عِنْدَهُمْ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الرَّازِقُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَرَفْعُ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ مُمْتَنِعٌ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 117] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ بَعْدَ تَوْفِيَتِهِ لَمْ يَكُنِ الرَّقِيبُ عَلَيْهِمْ إِلَّا اللَّهَ دُونَ الْمَسِيحِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ كُنْتَ أَنْتَ يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ، كَقَوْلِهِ:{إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ} [الأنفال: 32] وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمَسِيحَ بَعْدَ تَوْفِيُتِهِ لَيْسَ رَقِيبًا عَلَى أَتْبَاعِهِ، بَلِ اللَّهُ هُوَ الرَّقِيبُ الْمُطَّلِعُ عَلَيْهِمُ الْمُحْصِي أَعْمَالَهُمُ الْمُجَازِي عَلَيْهَا، وَالْمَسِيحُ لَيْسَ بِرَقِيبٍ فَلَا يَطَّلِعُ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَلَا يُحْصِيهَا وَلَا يُجَازِيهِمْ بِهَا.