الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ: بَيَانُ الْمَعْنَى الصَّحِيحِ لِتَشْبِيهِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عِيسَى بِآدَمَ وَرَدُّ تَفْسِيرِهِمْ لِذَلِكَ]
قَالُوا: وَقَالَ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ:
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران: 59]
فَأَعْنَى بِقَوْلِهِ: {مَثَلَ عِيسَى} [آل عمران: 59] إِشَارَةً إِلَى الْبَشَرِيَّةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ مَرْيَمَ الطَّاهِرَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هَاهُنَا اسْمَ الْمَسِيحِ، إِنَّمَا ذَكَرَ عِيسَى فَقَطْ.
كَمَا أَنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ وَلَا مُبَاضَعَةٍ، فَكَذَلِكَ جَسَدُ السَّيِّدِ الْمَسِيحِ خُلِقَ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ وَلَا مُبَاضَعَةٍ، وَكَمَا أَنَّ جَسَدَ آدَمَ ذَاقَ الْمَوْتَ، فَكَذَلِكَ جَسَدُ الْمَسِيحِ ذَاقَ الْمَوْتَ، وَقَدْ يُبَرْهَنُ بِقَوْلِهِ أَيْضًا قَائِلًا: إِنَّ اللَّهَ أَلْقَى كَلِمَتَهُ إِلَى مَرْيَمَ، وَذَلِكَ حَسْبَ قَوْلِنَا مَعْشَرَ النَّصَارَى: إِنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ الْأَزَلِيَّةَ الْخَالِقَةَ حَلَّتْ فِي مَرْيَمَ وَتَجَسَّدَتْ بِإِنْسَانٍ كَامِلٍ، وَعَلَى هَذَا الْمِثَالِ نَقُولُ: فِي السَّيِّدِ الْمَسِيحِ طَبِيعَتَانِ: طَبِيعَةٌ لَاهُوتِيَّةٌ:
الَّتِي هِيَ طَبِيعَةُ كَلِمَةِ اللَّهِ وَرُوحُهُ، وَطَبِيعَةٌ نَاسُوتِيَّةٌ: الَّتِي أُخِذَتْ مِنْ مَرْيَمَ الْعَذْرَاءَ وَاتَّحَدَتْ بِهِ، وَلِمَا تَقَدَّمَ بِهِ الْقَوْلُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ مُوسَى النَّبِيِّ، إِذْ يَقُولُ:(أَلَيْسَ هَذَا الْأَبُ الَّذِي خَلَقَكَ وَبَرَاكَ وَاقْتَنَاكَ) قِيلَ: وَعَلَى لِسَانِ دَاوُدَ النَّبِيِّ (رُوحُكَ الْقُدُسُ لَا تُنْزَعُ مِنِّي) وَأَيْضًا عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ النَّبِيِّ: (بِكَلِمَةِ اللَّهِ تَشَدَّدَتِ السَّمَاوَاتُ وَبِرُوحِ فَاهِ جَمِيعُ قُوَاهُنَّ) وَلَيْسَ يَدُلُّ هَذَا الْقَوْلُ عَلَى ثَلَاثَةِ خَالِقِينَ، بَلْ خَالِقٍ وَاحِدٍ: الْأَبُ وَنُطْقُهُ: أَيْ كَلِمَتُهُ وَرُوحُهُ: أَيْ حَيَاتُهُ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]
كَلَامٌ حَقٌّ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ هَذَا النَّوْعَ الْبَشَرِيَّ عَلَى الْأَقْسَامِ الْمُمْكِنَةِ ; لِيُبَيِّنَ عُمُومَ قُدْرَتِهِ، فَخَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى، وَخَلَقَ زَوْجَتَهُ حَوَّاءَ مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1]
وَخَلَقَ الْمَسِيحَ مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ، وَخَلَقَ سَائِرَ الْخَلْقِ مِنْ ذَكَرٍ
وَأُنْثَى، وَكَانَ خَلْقُ آدَمَ وَحَوَّاءَ أَعْجَبَ مِنْ خَلْقِ الْمَسِيحِ، فَإِنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ، وَهَذَا أَعْجَبُ مِنْ خَلْقِ الْمَسِيحِ فِي بَطْنِ مَرْيَمَ، وَخَلْقُ آدَمَ أَعْجَبُ مِنْ هَذَا وَهَذَا، وَهُوَ أَصْلُ خَلْقِ حَوَّاءَ.
فَلِهَذَا شَبَّهَهُ اللَّهُ بِخَلْقِ آدَمَ الَّذِي هُوَ أَعْجَبُ مِنْ خَلْقِ الْمَسِيحِ، فَإِذَا كَانَ سُبْحَانَهُ قَادِرًا أَنْ يَخْلُقَهُ مِنْ تُرَابِ، وَالتُّرَابُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ، أَفَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَخْلُقَهُ مِنَ امْرَأَةٍ هِيَ مِنْ جِنْسِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ؟ وَهُوَ سُبْحَانُهُ خَلَقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ، لَمَّا نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، فَكَذَلِكَ الْمَسِيحُ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَقَالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ، وَلَمْ يَكُنْ آدَمُ بِمَا نُفِخَ مِنْ رُوحِهِ لَاهُوتًا وَنَاسُوتًا، بَلْ كُلُّهُ نَاسُوتٌ، فَكَذَلِكَ الْمَسِيحُ كُلُّهُ نَاسُوتٌ، وَاللَّهُ تبارك وتعالى ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي ضِمْنِ الْآيَاتِ الَّتِي أَنْزَلَهَا فِي شَأْنِ النَّصَارَى، لَمَّا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَصَارَى نَجْرَانَ وَنَاظَرُوهُ فِي الْمَسِيحِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ مَا أَنْزَلَ، فَبَيَّنَ فِيهِ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي اخْتَلَفَتْ فِيهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَكَذَّبَ اللَّهُ الطَّائِفَتَيْنِ: هَؤُلَاءِ فِي غُلُوِّهِمْ فِيهِ، وَهَؤُلَاءِ فِي ذَمِّهِمْ لَهُ.
وَقَالَ عَقِبَ هَذِهِ الْآيَةِ:
. وَقَدِ امْتَثَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَوْلَ اللَّهِ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ فَعَرَفُوا أَنَّهُمْ إِنْ بَاهَلُوهُ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لَعْنَتَهُ، فَأَقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ وَهُمْ صَاغِرُونَ، ثُمَّ كَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى هِرَقْلَ مَلِكِ الرُّومِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا} [آل عمران: 64] إِلَى آخِرِهَا.
وَكَانَ أَحْيَانًا يَقْرَأُ بِهَا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَيَقْرَأُ فِي الْأُولَى: بِقَوْلِهِ:
وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ بِهِ أَنَّ الْمَسِيحَ عَبَدٌ لَيْسَ بِإِلَهٍ، وَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ كَمَا خُلِقَ آدَمَ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يُبَاهِلَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ إِلَهٌ، فَيَدْعُو كُلٌّ مِنَ الْمُتَبَاهِلَيْنِ أَبْنَاءَهُ وَنِسَاءَهُ وَقَرِيبَهُ الْمُخْتَصَّ بِهِ، ثُمَّ يَبْتَهِلُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وَيَدْعُونَ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لَعْنَتَهُ عَلَى الْكَاذِبِينَ، فَإِنْ كَانَ النَّصَارَى كَاذِبِينَ فِي قَوْلِهِمْ: هُوَ اللَّهُ، حَقَّتِ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ مَنْ قَالَ: لَيْسَ هُوَ اللَّهَ بَلْ عَبْدُ اللَّهِ، كَاذِبًا، حَقَّتِ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ، وَهَذَا إِنْصَافٌ مِنْ صَاحِبِ يَقِينٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ.
وَالنَّصَارَى لَمَّا لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ، نَكَلُوا عَنِ الْمُبَاهَلَةِ، وَقَدْ قَالَ عَقِبَ ذَلِكَ:
{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 62]
تَكْذِيبًا لِلنَّصَارَى الَّذِينَ يَقُولُونَ: هُوَ إِلَهٌ حَقٌّ مِنْ إِلَهٍ حَقٍّ، فَكَيْفَ يُقَالُ إِنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْمَسِيحَ فِيهِ لَاهُوتٌ وَنَاسُوتٌ، وَأَنَّ هَذَا هُوَ النَّاسُوتُ فَقَطْ دُونَ اللَّاهُوتِ؟ وَبِهَذَا ظَهَرَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ، قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ:
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59]
فَأَعْنَى بِقَوْلِهِ: عِيسَى، إِشَارَةً إِلَى الْبَشَرِيَّةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ مَرْيَمَ الطَّاهِرَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هَاهُنَا اسْمَ الْمَسِيحِ
إِنَّمَا ذَكَرَ عِيسَى فَقَطْ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: عِيسَى هُوَ الْمَسِيحُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ:
{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [المائدة: 75]
فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمَسِيحُ إِلَّا رَسُولًا لَيْسَ هُوَ بِإِلَهٍ وَأَنَّهُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَالَّذِي هُوَ ابْنٌ مِنْ مَرْيَمَ هُوَ النَّاسُوتُ وَقَالَ:
وَقَالَ تَعَالَى:
وَقَالَ تَعَالَى:
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ مَوْتِهِ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يَمُتْ بَعْدُ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّهُ صُلِبَ نَاسُوتُهُ دُونَ لَاهُوتِهِ بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
فَإِنَّ نَاسُوتَهُ لَمْ يُصْلَبْ، وَلَيْسَ فِيهِ لَاهُوتٌ، وَهُمْ ذَكَرُوا ذَلِكَ دَعْوًى مُجَرَّدَةً فَيُكْتَفَى فِي مُقَابَلَتِهَا بِالْمَنْعِ.
لَكِنْ نَقُولُ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ: إِنَّهُمْ فِي اتِّحَادِ اللَّاهُوتِ بِالنَّاسُوتِ يُشَبِّهُونَهُ تَارَةً بِاتِّحَادِ الْمَاءِ بِاللَّبَنِ، وَهَذَا تَشْبِيهُ الْيَعْقُوبِيَّةِ، وَتَارَةً بِاتِّحَادِ النَّارِ بِالْحَدِيدِ أَوِ النَّفْسِ بِالْجِسْمِ، وَهَذَا تَشْبِيهُ الْمَلِكَانِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَى الْمَاءِ شَيْءٌ إِلَّا وَصَلَ إِلَى اللَّبَنِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ النَّارُ الَّتِي فِي الْحَدِيدِ مَتَى طُرِقَ الْحَدِيدُ أَوْ بُصِقَ عَلَيْهِ لَحِقَ ذَلِكَ بِالنَّارِ الَّتِي فِيهِ، وَالْبَدَنُ إِذَا ضُرِبَ وَعُذِّبَ لَحِقَ أَلَمُ الضَّرْبِ وَالْعَذَابِ بِالنَّفْسِ، فَكَأَنَّ حَقِيقَةَ تَمْثِيلِهِمْ يَقْتَضِي أَنَّ اللَّاهُوتَ أَصَابَهُ مَا أَصَابَ النَّاسُوتَ مِنْ إِهَانَةِ الْيَهُودِ وَتَعْذِيبِهِمْ لَهُ وَإِيلَامِهِمْ لَهُ وَالصَّلْبِ الَّذِي ادَّعَوْهُ
وَهَذَا لَازَمٌ عَلَى الْقَوْلِ بِالِاتِّحَادِ، فَإِنَّ الِاتِّحَادَ لَوْ كَانَ مَا يُصِيبُ أَحَدَهُمَا لَا يُشْرِكُهُ الْآخَرُ فِيهِ لَمْ يَكُنْ هُنَا اتِّحَادٌ بَلْ تَعَدُّدٌ.
الرَّابِعُ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الضُّلَّالَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنْ جَعَلُوا إِلَهَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مُتَّحِدًا بِبَشَرٍ فِي جَوْفِ امْرَأَةٍ، وَجَعَلُوهُ لَهُ مَسْكَنًا، ثُمَّ جَعَلُوا أَخَابِثَ خَلْقِ اللَّهِ أَمْسَكُوهُ وَبَصَقُوا فِي وَجْهِهِ وَوَضَعُوا الشَّوْكَ عَلَى رَأْسِهِ وَصَلَبُوهُ بَيْنَ لِصَّيْنِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَسْتَغِيثُ بِاللَّهِ وَيَقُولُ:" إِلَهِي إِلَهِي لِمَ تَرَكْتَنِي " وَهُمْ يَقُولُونَ: الَّذِي كَانَ يَسْمَعُ النَّاسُ كَلَامَهُ هُوَ اللَّاهُوتُ، كَمَا سَمِعَ مُوسَى كَلَامَ اللَّهِ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَيَقُولُونَ: هُمَا شَخْصٌ وَاحِدٌ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: لَهُمَا مَشِيئَةٌ وَاحِدَةٌ وَطَبِيعَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَالْكَلَامُ إِنَّمَا يَكُونُ بِمَشِيئَةِ الْمُتَكَلِّمِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَكَلِّمُ الدَّاعِي الْمُسْتَغِيثُ الْمَصْلُوبُ هُوَ اللَّاهُوتُ وَهُوَ الْمُسْتَغِيثُ الْمُتَضَرِّعُ وَهُوَ الْمُسْتَغَاثُ بِهِ، وَأَيْضًا فَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّاهُوتَ وَالنَّاسُوتَ شَخْصٌ وَاحِدٌ، فَمَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُمَا شَخْصٌ وَاحِدٌ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَغِيثًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَغَاثًا بِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ دَاعِيًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَدْعُوًّا، فَإِذَا قَالُوا: إِنَّ الدَّاعِيَ هُوَ غَيْرُ الْمَدْعُوِّ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَا اثْنَيْنِ لَا وَاحِدًا، وَإِذَا قَالُوا: هَمَا وَاحِدٌ فَالدَّاعِي هُوَ الْمَدْعُوُّ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ يُقَالَ: لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ اللَّاهُوتَ كَانَ قَادِرًا عَلَى دَفْعِهِمْ عَنْ نَاسُوتِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا: لَمْ يَكُنْ قَادِرًا، فَإِنْ قَالُوا لَمْ يَكُنْ قَادِرًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ الْيَهُودُ أَقْدَرَ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ،
وَأَنْ يَكُونَ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَقْهُورًا مَأْسُورًا مَعَ قَوْمٍ مِنْ شِرَارِ الْيَهُودِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَالتَّنَقُّصِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ لِلَّهِ وَلَدًا، وَأَنَّهُ بَخِيلٌ، وَأَنَّهُ فَقِيرٌ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَسُبُّ بِهِ الْكُفَّارُ رَبَّ الْعَالَمِينَ.
وَإِنْ قَالُوا: كَانَ قَادِرًا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ عُدْوَانِ الْكُفَّارِ عَلَى نَاسُوتِهِ وَهُوَ كَارِهٌ لِذَلِكَ، فَسُنَّةُ اللَّهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ نَصْرُ رُسُلِهِ الْمُسْتَغِيثِينَ بِهِ، فَكَيْفَ لَمْ يُغِثْ نَاسُوتَهُ الْمُسْتَصْرِخَ بِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ قُتِلَ مِنَ النَّبِيِّينَ وَهُوَ صَابِرٌ، فَإِنَّ أُولَئِكَ صَبَرُوا حَتَّى قُتِلُوا شُهَدَاءَ، وَالنَّاسُوتُ عِنْدَهُمُ اسْتَغَاثَ وَقَالَ:" إِلَهِي إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي "، وَإِنْ كَانَ هُوَ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ مَكْرًا، كَمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ مَكَرَ بِالشَّيْطَانِ وَأَخْفَى نَفْسَهُ حَتَّى يَأْخُذَهُ بِوَجْهِ حَقٍّ، فَنَاسُوتُهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ، فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَجْزَعَ وَلَا يَهْرُبَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ، وَهُمْ يَذْكُرُونَ مِنْ جَزَعِ النَّاسُوتِ وَهَرَبِهِ وَدُعَائِهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَا جَرَى عَلَيْهِ كَانَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: مَشِيئَتُهُمَا وَاحِدَةٌ، فَكَيْفَ شَاءَ ذَلِكَ وَهَرَبَ مِمَّا يَكْرَهُهُ النَّاسُوتُ؟ بَلْ لَوْ يَشَاءُ اللَّاهُوتُ مَا يَكْرَهُهُ كَانَا مُتَبَايِنَيْنِ، وَقَدِ اتَّفَقَا عَلَى الْمَكْرِ بِالْعَدُوِّ وَلَمْ يَجْزَعِ النَّاسُوتُ، كَمَا جَرَى لِيُوسُفَ مَعَ
أَخِيهِ لَمَّا وَافَقَهُ عَلَى أَنَّهُ يَحْمِلُ الصُّوَاعَ فِي رَحْلِهِ، وَيُظْهِرُ أَنَّهُ سَارِقٌ لَمْ يَجْزَعْ أَخُوهُ لَمَّا ظَهَرَ الصُّوَاعُ فِي رَحْلِهِ، كَمَا جَزِعَ إِخْوَتُهُ حَيْثُ لَمْ يَعْلَمُوا، وَكَثِيرٌ مِنَ الشُّطَّارِ الْعَيَّارِينَ يُمْسَكُونَ وَيُصْلَبُونَ وَهُمْ ثَابِتُونَ صَابِرُونَ، فَمَا بَالُ هَذَا يَجْزَعُ الْجَزَعَ الْعَظِيمَ الَّذِي يَصِفُونَ بِهِ الْمَسِيحَ، وَهُوَ يَقْتَضِي غَايَةَ النَّقْصِ الْعَظِيمِ مَعَ دَعْوَاهُمْ فِيهِ الْإِلَهِيَّةَ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: قَوْلُهُمْ إِنَّهُ كَلِمَتُهُ وَرُوحُهُ تَنَاقُضٌ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ أُقْنُومُ الْكَلِمَةِ فَقَطْ لَا أُقْنُومَ الْحَيَاةِ.
الْوَجْهُ السَّابِعُ: قَوْلُهُمْ: وَقَدْ بَرْهَنَ بِقَوْلِهِ رَأْيَنَا أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَائِلًا: إِنَّ اللَّهَ أَلْقَى كَلِمَتَهُ إِلَى مَرْيَمَ، وَذَلِكَ حَسْبَ قَوْلِنَا مَعْشَرَ النَّصَارَى: إِنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ الْخَالِقَةَ الْأَزَلِيَّةَ حَلَّتْ فِي مَرْيَمَ وَاتَّحَدَتْ بِإِنْسَانٍ كَامِلٍ.
فَيُقَالُ لَهُمْ: أَمَّا قَوْلُ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ حَقٌّ، وَلَكِنْ ضَلَلْتُمْ فِي تَأْوِيلِهِ كَمَا ضَلَلْتُمْ فِي تَأْوِيلِ غَيْرِهِ مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَا بَلَّغُوهُ عَنِ اللَّهِ،
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:
فَفِي هَذَا الْكَلَامِ وُجُوهٌ تُبَيِّنُ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ وَلَيْسَ هُوَ مَا يَقُولُهُ النَّصَارَى:
مِنْهَا أَنَّهُ قَالَ: (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) وَقَوْلُهُ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ نَكِرَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ تَقْتَضِي أَنَّهُ كَلِمَةٌ مِنْ كَلِمَاتِ اللَّهِ، لَيْسَ هُوَ كَلَامَهُ كُلَّهُ كَمَا يَقُولُ النَّصَارَى.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُبَيِّنُ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ: بِكَلِمَةٍ مِنْهُ، وَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ حَيْثُ قَالَ:
{كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 47]
كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ كهيعص:
فَهَذِهِ ثَلَاثُ آيَاتٍ فِي الْقُرْآنِ تُبَيِّنُ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: (كُنْ فَيَكُونُ) وَهَذَا تَفْسِيرُ كَوْنِهِ كَلِمَةً مِنْهُ.
وَقَالَ " اسْمَهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ " أَخْبَرَ أَنَّهُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ وَجِيهٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرِّبِينَ، وَهَذِهِ كُلُّهَا صِفَةُ مَخْلُوقٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى وَكَلَامُهُ الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ لَا يُقَالُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَتْ مَرْيَمُ: أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ
فَبَيَّنَ أَنَّ الْمَسِيحَ الَّذِي هُوَ الْكَلِمَةُ هُوَ وَلَدُ مَرْيَمَ، لَا وَلَدَ اللَّهِ سبحانه وتعالى
وَقَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ:
فَقَدْ نَهَى النَّصَارَى عَنِ الْغُلُوِّ فِي دِينِهِمْ، وَأَنْ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى
مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ رَسُولُهُ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَقُولُوا ثَلَاثَةً، وَقَالَ:{انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} [النساء: 171]، {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171] ، وَهَذَا تَكْذِيبٌ لِقَوْلِهِمْ فِي الْمَسِيحِ أَنَّهُ إِلَهٌ حَقٌّ مِنْ إِلَهٍ حَقٍّ، مِنْ جَوْهَرِ أَبِيهِ، ثُمَّ قَالَ:{سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 171] ، فَنَزَّهَ نَفْسَهُ وَعَظَّمَهَا أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ كَمَا تَقُولُهُ النَّصَارَى، ثُمَّ قَالَ:{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [النساء: 171] فَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ مِلْكٌ لَهُ، لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ، ثُمَّ قَالَ:{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172] أَيْ: لَنْ يَسْتَنْكِفُوا أَنْ يَكُونُوا عَبِيدًا لِلَّهِ تبارك وتعالى فَمَعَ هَذَا الْبَيَانِ الْوَاضِحِ الْجَلِيِّ، هَلْ يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ (وَكَلِمَتُهُ) أَنَّهُ إِلَهٌ خَالِقٌ؟ أَوْ أَنَّهُ صِفَةٌ لِلَّهِ قَائِمَةٌ بِهِ؟ وَأَنَّ قَوْلَهُ:{وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ حَيَاتُهُ، أَوْ رُوحُهُ مُنْفَصِلَةٌ عَنْ ذَاتِهِ؟
ثُمَّ نَقُولُ أَيْضًا: أَمَّا قَوْلُهُ (وَكَلِمَتُهُ) فَقَدْ بَيَّنَ مُرَادَهُ أَنَّهُ خَلَقَهُ بِـ (كُنْ) وَفِي لُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ أَنْ يُسَمَّى الْمَفْعُولُ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ، فَيُسَمَّى الْمَخْلُوقُ خَلْقًا لِقَوْلِهِ: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ، وَيُقَالُ: دِرْهَمٌ ضَرْبُ الْأَمِيرِ، أَيْ: مَضْرُوبُ الْأَمِيرِ، وَلِهَذَا يُسَمَّى الْمَأْمُورُ بِهِ أَمْرًا، وَالْمَقْدُورُ قُدْرَةً وَقَدَرًا، وَالْمَعْلُومُ عِلْمًا، وَالْمَرْحُومُ بِهِ رَحْمَةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38]
وَقَوْلُهُ
{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1]
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " «يَقُولُ اللَّهُ لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي، أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَيَقُولُ لِلنَّارِ: أَنْتِ عَذَابِي، أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي.» وَقَالَ: "«إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ، أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً فَبِهَا يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ وَيَتَعَاطَفُونَ، وَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ هَذِهِ إِلَى تِلْكَ، فَرَحِمَ بِهَا الْخَلْقَ» وَيُقَالُ لِلْمَطَرِ: هَذِهِ قُدْرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَيُقَالُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ عِلْمَهُ فِيكَ، أَيْ مَعْلُومَهُ، فَتَسْمِيَةُ الْمَخْلُوقِ بِالْكَلِمَةِ كَلِمَةً مِنْ هَذَا الْبَابِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ (الرَّدُّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ) وَذَكَرَهُ غَيْرُهُ أَنَّ النَّصَارَى الْحُلُولِيَّةَ وَالْجَهْمِيَّةَ الْمُعَطِّلَةَ اعْتَرَضُوا عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ، فَقَالَتِ النَّصَارَى: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَالْمَسِيحُ كَلِمَةُ اللَّهِ فَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَقَالَتِ الْجَهْمِيَّةُ: الْمَسِيحُ كَلِمَةُ اللَّهِ وَهُوَ مَخْلُوقٌ، وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ فَيَكُونُ مَخْلُوقًا.
وَأَجَابَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ: بِأَنَّ الْمَسِيحَ نَفْسَهُ لَيْسَ هُوَ كَلَامًا، فَإِنَّ الْمَسِيحَ إِنْسَانٌ وَبَشَرٌ مَوْلُودٌ مِنِ امْرَأَةٍ، وَكَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ بِإِنْسَانٍ وَلَا بَشَرٍ وَلَا مَوْلُودٍ مِنِ امْرَأَةٍ، وَلَكِنَّ الْمَسِيحَ خُلِقَ بِالْكَلَامِ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ نَفْسُهُ كَلَامُ اللَّهِ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا؟
وَقَدْ قِيلَ: أَكْثَرُ اخْتِلَافِ الْعُقَلَاءِ مِنْ جِهَةِ اشْتِرَاكِ الْأَسْمَاءِ، وَمَا مِنْ عَاقِلٍ إِذَا سَمِعَ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي الْمَسِيحِ عليه السلام أَنَّهُ كَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، إِلَّا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْمَسِيحَ نَفْسَهُ كَلَامُ اللَّهِ، وَلَا أَنَّهُ صِفَةُ اللَّهِ وَلَا خَالِقٌ.
ثُمَّ يُقَالُ لِلنَّصَارَى: فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْمَسِيحَ نَفْسُ الْكَلَامِ، فَالْكَلَامُ لَيْسَ بِخَالِقٍ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِخَالِقٍ، وَالتَّوْرَاةُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَتْ بِخَالِقَةٍ، وَكَلِمَاتُ اللَّهِ كَثِيرَةٌ وَلَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ خَالِقٌ، فَلَوْ كَانَ الْمَسِيحُ نَفْسَ الْكَلَامِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا، فَكَيْفَ وَلَيْسَ هُوَ الْكَلَامَ، وَإِنَّمَا خُلِقَ بِالْكَلِمَةِ، وَخُصَّ بِاسْمِ الْكَلِمَةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ الَّذِي خُلِقَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، بَلْ خَرَجَ عَنِ الْعَادَةِ فَخُلِقَ بِالْكَلِمَةِ مِنْ غَيْرِ السُّنَّةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْبَشَرِ.
وَقَوْلُهُ: (بِرُوحٍ مِنْهُ) لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مُنْفَصِلًا مِنْ ذَاتِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]
وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]
وَقَالَ تَعَالَى:
{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]
فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا مِنَ اللَّهِ وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ، وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ رُوحُ اللَّهِ الَّتِي أَرْسَلَهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ.
فَالْمَسِيحُ الَّذِي هُوَ رُوحٌ مِنْ تِلْكَ الرُّوحِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا، قَالَ تَعَالَى:
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:
{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} [التحريم: 12] .
وَقَالَ:
{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91] .
فَأَخْبَرَ أَنَّهُ نَفَخَ فِي مَرْيَمَ مِنْ رُوحِهِ، كَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ نَفَخَ فِي آدَمَ مِنْ رُوحِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَيْهَا رُوحَهُ {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا - قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا - قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا - قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا - قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم: 17 - 21] فَحَمَلَتْهُ
فَهَذَا الرُّوحُ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَيْهَا لِيَهَبَ لَهَا غُلَامًا زَكِيًّا، مَخْلُوقٌ وَهُوَ رُوحُ الْقُدُسِ الَّذِي خُلِقَ الْمَسِيحُ مِنْهُ وَمِنْ مَرْيَمَ، فَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ مَخْلُوقًا فَكَيْفَ الْفَرْعُ الَّذِي حَصَلَ مِنْهُ وَهُوَ رُوحُ الْقُدُسِ؟ وَقَوْلُهُ عَنِ الْمَسِيحِ:(وَرُوحٌ مِنْهُ) خُصَّ الْمَسِيحُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ نَفَخَ فِي أُمِّهِ مِنَ الرُّوحِ، فَحَبِلَتْ بِهِ مِنْ ذَلِكَ النَّفْخِ، وَذَلِكَ غَيْرُ رُوحِهِ الَّتِي يُشَارِكُهُ فِيهَا سَائِرُ الْبَشَرِ فَامْتَازَ بِأَنْ حَبِلَتْ بِهِ مِنْ نَفْخِ الرُّوحِ، فَلِهَذَا سُمِّيَ رُوحًا مِنْهُ
وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: رُوحٌ مِنْهُ، أَيْ رَسُولٌ مِنْهُ سَمَّاهُ بِاسْمِ الرُّوحِ الرَّسُولِ الَّذِي نَفَخَ فِيهَا، فَكَمَا يُسَمَّى " كَلِمَةً " يُسَمَّى
" رُوحًا " لِأَنَّهُ كُوِّنَ بِالْكَلِمَةِ، لَا كَمَا يُخْلَقُ الْآدَمِيُّونَ غَيْرَهُ، وَيُسَمَّى " رُوحًا "، لِأَنَّهُ حَبِلَتْ بِهِ أُمُّهُ بِنَفْخِ الرُّوحِ الَّذِي نُفِخَ فِيهَا، لَمْ تَحْبَلْ بِهِ مِنْ ذَكَرٍ كَغَيْرِهِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ، وَعَلَى هَذَا فَيُقَالُ: لَمَّا خُلِقَ مِنْ نَفْخِ الرُّوحِ وَمِنْ مَرْيَمَ سُمَّيَ " رُوحًا " بِخِلَافِ سَائِرِ الْآدَمِيِّينَ، فَإِنَّهُ يُخْلَقُ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ بَعْدَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ.
وَالنَّصَارَى يَقُولُونَ فِي أَمَانَتِهِمْ: (تَجَسَّدَ مِنْ مَرْيَمَ وَمِنْ رُوحِ الْقُدُسِ) وَلَوِ اقْتَصَرُوا عَلَى هَذَا، وَفَسَّرُوا رُوحَ الْقُدُسِ بِالْمَلَكِ الَّذِي نَفَخَ فِيهَا وَهُوَ رُوحُ اللَّهِ، لَكَانَ هَذَا مُوَافِقًا لِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ، لَكِنَّهُمْ جَعَلُوا رُوحَ الْقُدُسِ حَيَاةَ اللَّهِ وَجَعَلُوهُ رَبًّا وَتَنَاقَضُوا فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا كَانَ يَنْبَغِي فِيهِ أُقْنُومَانِ: أُقْنُومُ الْكَلِمَةِ، وَأُقْنُومُ الرُّوحِ، وَهُمْ يَقُولُونَ: لَيْسَ فِيهِ إِلَّا أُقْنُومُ الْكَلِمَةِ، وَكَمَا يُسَمَّى الْمَسِيحُ كَلِمَةً لِأَنَّهُ خُلِقَ بِالْكَلِمَةِ، يُسَمَّى " رُوحًا " لِأَنَّهُ حَلَّ بِهِ مِنَ الرُّوحِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ:
{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام: 114]
وَقَالَ:
{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر: 1] .
وَقَدْ قَالَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَجُمْهُورُهُمْ: " الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ " وَقَالَ فِي الْمَسِيحِ: " {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] " قِيلَ: هَذَا بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْمُضَافِ إِلَى اللَّهِ إِنْ كَانَ عَيْنًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا أَوْ صِفَةً فِيهَا كَانَ مَخْلُوقًا، وَإِنْ كَانَ صِفَةً مُضَافًا إِلَى اللَّهِ كَعِلْمِهِ وَكَلَامِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ كَانَ إِضَافَةَ صِفَةٍ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِنْهُ إِنْ كَانَ عَيْنًا قَائِمَةً أَوْ صِفَةً قَائِمَةً بِغَيْرِهَا كَمَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالنِّعَمِ، وَالرُّوحِ الَّذِي أَرْسَلَهُ إِلَى مَرْيَمَ، وَقَالَ:" {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} [مريم: 19] " كَانَ مَخْلُوقًا، وَإِنْ كَانَ صِفَةً لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا وَلَا يَتَّصِفُ بِهَا الْمَخْلُوقُ كَالْقُرْآنِ لَمْ يَكُنْ مَخْلُوقًا، فَإِنَّ ذَلِكَ قَائِمٌ بِاللَّهِ، وَمَا يَقُومُ بِاللَّهِ لَا يَكُونُ مَخْلُوقًا، وَالْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ بُطْلَانِ احْتِجَاجِ النَّصَارَى وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ فِي ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَلَا بَاطِنِهِ حُجَّةٌ فِي سَائِرِ كُتُبِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا تَمَسَّكُوا بِآيَاتٍ مُتَشَابِهَاتٍ وَتَرَكُوا الْمُحْكَمَ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ:
وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي النَّصَارَى، فَهُمْ مُرَادُونَ مِنَ الْآيَةِ قَطْعًا، ثُمَّ قَالَ:
{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] .
وَفِيهَا قَوْلَانِ وَقِرَاءَتَانِ، مِنْهُمْ مَنْ يَقِفُ عِنْدَ قَوْلِهِ:(إِلَّا اللَّهُ)، وَيَقُولُ: الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ، لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقِفُ، بَلْ يَصِلُ بِذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] وَيَقُولُ: الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مَأْثُورٌ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: قَدْ يَكُونُ الْحَالُ مِنَ الْمَعْطُوفِ دُونَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى " وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا " أَيْ قَائِلِينَ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ بِاعْتِبَارِ، فَإِنَّ لَفْظَ التَّأْوِيلِ يُرَادُ بِهِ التَّفْسِيرُ وَمَعْرِفَةُ مَعَانِيهِ.
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَمْ يُنَزِّلِ اللَّهُ آيَةً إِلَّا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْلَمَ فِي مَاذَا نَزَلَتْ، وَمَاذَا عَنَى بِهَا.
وَقَدْ يُعْنَى بِالتَّأْوِيلِ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ مِنْ كَيْفِيَّةِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنِ الْيَوْمِ الْآخَرِ، وَوَقْتِ السَّاعَةِ وَنُزُولِ عِيسَى، وَنَحْوَ ذَلِكَ،
فَهَذَا التَّأْوِيلُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَأَمَّا لَفْظُ التَّأْوِيلِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَى مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ لِدَلِيلٍ يَقْتَرِنُ بِهِ، فَلَمْ يَكُنِ السَّلَفُ يُرِيدُونَ بِلَفْظِ التَّأْوِيلِ هَذَا وَلَا هُوَ مَعْنَى التَّأْوِيلِ فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل
وَلَكِنَّ طَائِفَةً مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ خَصُّوا لَفْظَ التَّأْوِيلِ بِهَذَا، بَلْ لَفْظُ التَّأْوِيلِ فِي كِتَابِ اللَّهِ يُرَادُ بِهِ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ الْكَلَامُ، وَإِنْ وَافَقَ ظَاهِرَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ} [الأعراف: 53] .
وَمِنْهُ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَا، كَقَوْلِ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ:
{هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 100]
وَكَقَوْلِهِ:
{إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 37] .
وَقَوْلِهِ:
{ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]
وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلنَّصَارَى حُجَّةٌ لَا فِي ظَاهِرِ النُّصُوصِ، وَلَا فِي بَاطِنِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171]
وَالْكَلِمَةُ عِنْدَهُمْ هِيَ جَوْهَرٌ، وَهِيَ رَبٌّ لَا يَخْلُقُ بِهَا الْخَالِقُ، بَلْ هِيَ الْخَالِقَةُ لِكُلِّ شَيْءٍ، كَمَا قَالُوا فِي كِتَابِهِمْ:(إِنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ الْخَالِقَةَ الْأَزَلِيَّةَ حَلَّتْ فِي مَرْيَمَ) ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ هُوَ الْخَالِقُ، وَالْكَلِمَةُ الَّتِي أَلْقَاهَا لَيْسَتْ خَالِقَةً، إِذِ الْخَالِقُ لَا يُلْقِيهِ شَيْءٌ بَلْ هُوَ يُلْقِي غَيْرَهُ، وَكَلِمَاتُ اللَّهِ نَوْعَانِ: كَوْنِيَّةٌ، وَدِينِيَّةٌ.
فَالْكَوْنِيَّةُ: كَقَوْلِهِ لِلشَّيْءِ: كُنْ فَيَكُونُ.
وَالدِّينِيَّةُ: أَمْرُهُ وَشَرْعُهُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ وَإِرَادَتُهُ وَإِذْنُهُ وَإِرْسَالُهُ وَبَعْثُهُ يَنْقَسِمُ إِلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى إِلْقَاءَ الْقَوْلِ فِي غَيْرِ هَذَا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:
{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94]
وَقَالَ تَعَالَى:
{وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا
الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ - وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} [النحل: 86 - 87]
وَقَالَ تَعَالَى:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1]
وَأَمَّا لَقَّنْتُهُ الْقَوْلَ وَلَقَّيْتُهُ فَتَلَقَّاهُ، فَذَلِكَ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَحَفَظَهُ بِخِلَافِ مَا إِذَا أَلْقَيْتَهُ إِلَيْهِ، فَإِنَّ هَذَا يَقُولُهُ فِيمَا يُخَاطِبُهُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْهُ، كَمَنْ أَلْقَيْتَ إِلَيْهِ الْقَوْلَ بِخِلَافِ الْقَوْلِ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ، وَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ السَّلَامَ، وَلَيْسَ هُنَا إِلَّا خِطَابٌ سَمِعُوهُ لَمْ يَحْصُلْ نَفْسُ صِفَةِ الْمُتَكَلِّمِ فِي الْمُخَاطَبِ، فَكَذَلِكَ مَرْيَمُ إِذَا أَلْقَى اللَّهُ كَلِمَتَهُ إِلَيْهَا وَهِيَ قَوْلُ:" كُنْ " لَمْ يَلْزَمْ أَنْ تَكُونَ نَفْسُ صِفَتِهِ الْقَائِمَةِ بِهِ حَلَّتْ فِي مَرْيَمَ، كَمَا لَمْ يَلْزَمْ أَنْ تَكُونَ صِفَتُهُ الْقَائِمَةُ بِهِ حَلَّتْ فِي سَائِرِ مَنْ أَلْقَى إِلَيْهِ كَلَامَهُ، كَمَا لَا تَحْصُلُ صِفَةُ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ فِيمَنْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَلَامُهُ.