الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قبل الانتقال للحديث عن هذه الصفات العشر بشيء من التفصيل هناك ملاحظة جديرة بلفت الانتباه إليها، وهي أن البعض منا قد يرى أن هناك صفات أخرى يمكنه إضافتها إلى هذه الصفات، سواء كانت فردية كالعلم والتوكل على الله، أو جماعية كالانضباط والطاعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
نعم، لا بأس من ذلك وبخاصة أن هذه الصفات - كما سيأتي بيانه - ما هي إلا ثمار تنطلق من محاور عدة، هذه المحاور عندما تتحقق في الجيل الموعود فإنها ستثمر بمشيئة الله هذه الصفات العشر وغيرها مما قد يضيفه، وبطريقة طبيعية وسلسة.
معنى هذا أن تلك الصفات ليست على سبيل الحصر، وإن كانت تشكل أهم ما يميز الجيل الموعود من سمات.
وفي الصفحات المقبلة سيتم - بعون الله - إلقاء الضوء على الصفات العشر للجيل الموعود، مع عرض لنماذج من الجيل الأول والذي تحققت فيه هذه الصفات.
أولًا: الإخلاص لله عز وجل
(جيل مخلص)
فالآية تخاطب المؤمنين وتبشرهم بالوعد الإلهي بالتمكين والاستخلاف في الأرض شريطة أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا.
والملاحظ أن الآية ذكرت كلمة "شَيْئًا" لتخرج بالشرك من الدائرة الضيقة -دائرة الشرك الظاهر- إلى الدائرة الواسعة التي تتضمن كل أنواع الشرك سواء كان ذلك في التوجه أو الاستعانة
…
- شرك التوجه والقصد:
وشرك التوجه هو أن يقصد المرء من أفعاله رضا الله من ناحية، ومن ناحية أخرى يريد بتلك الأفعال رضا الناس وحبهم له، وعلو منزلته عندهم
…
، أو يقصد بأعماله رضا الله، وكذلك الحصول على مغنم أو جاه، أو أي فائدة دنيوية.
فكل ما ينافي التوجه التام والمطلق لله عز وجل فهو شرك.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه)(1).
وعن شداد بن أوس قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يبكي، فقلت ما يبكيك يا رسول الله؟! قال:(إني تخوفت على أمتي الشرك أما أنهم لا يعبدون صنمًا ولا شمسًا ولا قمرًا ولا حجرًا ولكنهم يراءون بأعمالهم)(2).
- شرك الاستعانة:
وكما أننا مطالبون بإخلاص التوجه لله عز وجل، وأن يكون رضاه وحده هو المقصد في جميع أعمالنا، فإننا كذلك مطالبون بأن نستعين به وحده على أداء أي عمل، فلا حول ولا قوة لأحد إلا بالله، وعندما يستعين المرء بغير ربه ويظن أنه يصل لهدفه بدونه سبحانه فقد أشرك به
…
ومن الصور الخفية للاستعانة بغير الله:
الاستعانة بالنفس والاعتقاد بما حباها الله من إمكانات على أنها ملك ذاتّي للعبد يفضُلُ بها غيره، أو أنه يمكنه استخدامها والاعتماد عليها وقتما شاء، فإذا ما وصل لهدفه فرح بنفسه ونظر إليها بعين الرضا والإعجاب
…
فهذا هو الإعجاب بالنفس الذي يُعد من أخطر أنواع الشرك بالله.
إذن فالشرك بالله يشمل كل شيء يشترك في توجه العبد بأعماله إلى الله، ويشمل كذلك كل شيء يستعين به العبد على القيام بتلك الأعمال.
يقول ابن تيمية: الرياء من باب الإشراك بالخلق، والعُجب من باب الإشراك بالنفس.
(1) رواه مسلم.
(2)
رواه ابن ماجه الحاكم.
ويقول: المعجب بنفسه لا يحقق إياك نستعين، كما أن المرائي لا يحقق إياك نعبد (1).
- خطورة الشرك الخفي:
أما خطورة الشرك الخفي من رياء أو عجب وما يؤديان إليه من غرورو وكبر ونفاق فكبيرة، أقلها إحباط العمل، فكل عمل يخالطه رياء أو عجب فقد أُحبط، وصار هباءً منثورًا، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} (البقرة:264).
ومع إحباط العمل فإن العجب يؤدي إلى غضب الله ومقته، قال صلى الله عليه وسلم:(من تَعظَّم في نفسه، واختال في مشيته، لقي الله وهو عليه غضبان)(2) .. وقال: (النادم ينتظر الرحمة، والمعجب ينتظر المقت)(3).
ويؤدي العُجب أيضًا إلى الخذلان وحرمان التوفيق والتعرض للفتن، ولنا في قصة غزوة حنين أبلغ مثال:{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} (التوبة:25).
فليست القضية فقط في إخلاص التوجه لله، بل لابد كذلك من الاستعانة الصادقة به سبحانه، وعدم رؤية العمل أو رؤية النفس بعين الفرح والرضا والإعجاب
…
من هنا يتأكد لدينا ضرورة وجود صفة الإخلاص التام لله عز وجل في التوجه والاستعانة لأبناء الجيل الموعود وإلا فلا نصر ولا تمكين.
- من مظاهر الإخلاص:
عندما يسير العبد في طريق الإخلاص لله عز وجل فإن هذا من شأنه أن يترك عليه آثارًا وعلامات يشعر بها بداخله، ويلاحظها عليه من حوله
…
- من هذه العلامات أن العبد لن ينتظر من وراء عمله رضا رؤسائه عنه، أو توجيه الثناء له، أو خلع الألقاب عليه، أو تقديمه على غيره من زملائه.
- ومنها أن يسعى لإخفاء مكانه وعمله غاية الإمكان، فلا يتحدث به تلميحًا ولا تصريحًا.
- ومنه أنه لن يسعى لمعرفة رأي الناس في أعماله، بل يعمل العمل ويجتهد في نسيانه وإخفائه وعدم التحدث به.
- ومنها أيضًا: أن يخاف على نفسه من فتنة الشهرة والأضواء، فيدفعها عن نفسه غاية الإمكان.
- ومنها: أنه يستوي عنده العمل في المقدمة، مع العمل في المؤخرة، بل إن عمله في المؤخرة سيكون أحب إليه حيث لا يتعرض لنظر الناس أو ثنائهم عليه.
- ومنها: استواء المدح والذم لديه، حتى إنه ليدفع مدح الناس لخوفه على نفسه من آثاره السلبية.
- ومنها: عدم ضيقه إذا ما نُسب عمله إلى غيره.
- ومنها: مساعدته للآخرين في أعمالهم والعمل على إنجاحها دون أن يشعر به أحد.
- ومنها: وجود خبيئة من أعمال صالحة بينه وبين الله لا يعلمها أحد سواه.
- ومنها: أنه لن يضيق صدره إذا ما تخطاه الاختيار للقيام بعمل له فيه سابقة خبرة أكثر من غيره، بل إنه يساعد من اختير لذلك ويقدم له نصائحه وخبرته.
- ومنها: أنه لن يهتم برضا الناس عنه أو سخطهم عليه.
- ومنها: أنه لن يتحدث عن نفسه بما يزكيها، ولا يكثرمن قول أنا
…
لي
…
عندي
…
.
- ومنها: أنه لن يفتخر على أحد بشيء حباه الله به.
- ومنها: أنه لن يُحاول إظهار كل إمكاناته وما يعلمه أمام الآخرين.
- ومنها: أنه لن ينظر إلى مغنم من وراء عمله، ولن يستغل منصبه في تحقيق منافع دنيوية له أو لأقاربه وأصدقائه.
- ومنها: عدم المنِّ بالعطايا على الآخرين، وعدم تذكيرهم بها بأي شكل من الأشكال.
(1) العُحب لعمرو بن موسى الحافظ /11 نقلًا عن مجموع الفتاوى لابن تيمية 10/ 277.
(2)
صحيح. رواه الإمام أحمد في مسنده، والبخاري في الأدب المفرد عن ابن عمرو، وصححه الألباني في صحيح الجامع، ح (6157).
(3)
أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (7245).
- ومنها: أنه يكثر من الاستغفار بعد أعماله الصالحة.
- ومنها: أنه يجاهد نفسه ولا يستسلم لخواطر العُجب، بل يعالجها ويسقيها الشراب المضاد الذي يعيد لها التوازن ويضعها في قالب العبودية.
- ومنها أنه لن يرى أنه مخلص، بل يسيء دومًا الظن بنفسه، ويتهمها بالنفاق و
…
و
…
وأشياء كثيرة تدل على الإخلاص التام لله عز وجل في التوجه والاستعانة.
- الجيل الأول والإخلاص:
الناظر والمدقق في سيرة الصحابة - رضوان الله عليهم - وهم الجيل الذي تحقق فيهم وعد الله بالاستخلاف والتمكين، يجد أن مظاهر صفة الإخلاص قد تجلت فيهم بوضوح.
انظر مثلًا إلى حرصهم على إخفاء أعمالهم والذي يتجلى في هذا الأثر:
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة، ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه، قال: فنقبت أقدامنا، فنقبت قدماي، وسقطت أظافري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع لما كنا نعصب على أرجلنا من الخرق.
قال أبو بريدة: فحدث أبو موسى بهذا الحديث ثم كره ذلك، كأنه يكره أن يكون شيئًا من عمله أفشاه (1).
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدخل المسجد فيرى معاذ بن جبل رضي الله عنه يبكي عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما يبكيك؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن اليسير من الرياء شرك، وإن الله يحب الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يُعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، ينجون من كل غبراء مظلمة)(2).
لقد كانوا شديدي الحذر من أنفسهم، وكانوا يقفون بالمرصاد أمام كل خواطر العُجب، يقول عروة: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى عاتقه قربة ماء، فقلت: يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك هذا، فقال: لما أتتني الوفود بالسمع والطاعة دخَلَت في نفسي نخوة، فأحببت أن أكسرها، ومضى بالقربة إلى حجرة امرأة من الأنصار فأفرغها في إنائها
…
وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يبعث برسالة إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه بعد انتصاراته في العراق يقول له فيها: فليهنك أبا سليمان النية والحظوة فأتمم يتم الله لك، ولا يدخلنك عُجب فتخسر وتُخذل، وإياك أن تُدل بعمل فإن الله له المن وهو ولي الجزاء (3).
وهذا أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه يؤم قومًا، فلما انصرف قال: مازال الشيطان بي آنفًا حتى رأيت أن لي فضلًا على من خلفي، لا أَؤم أبدًا (4).
وكانوا يتدافعون المدح ولا يستسلمون له فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول لما أُثني عليه: اللهم اغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيرًا مما يظنون.
وقال رجل يومًا لابن عمر رضي الله عنهما: يا خير الناس، وابن خير الناس، فقال: ما أنا بخير الناس، ولا ابن خير الناس، ولكني عبد من عباد الله، أرجو الله وأخافه، والله لن تزالوا بالرجل حتى تُهلكوه.
أما خوفهم على أنفسهم من النفاق فإليك هذا الخبر:
قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لحذيفة رضي الله عنه: أُنشدك الله هل سمَّاني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني من المنافقين؟ فيقول: لا، ولا أُزكِّي بعدك أحدًا (5).
(1) رواه مسلم.
(2)
أخرجه الطبراني والحاكم واللفظ له، وقال صحيح الإسناد.
(3)
الأخفياء لوليد سعيد بالحكم / 129 - دار الأندلس الخضراء - جدة - نقلًا عن تاريخ الطبري 3/ 385.
(4)
الزهد لابن المبارك برقم (834) ص 287.
(5)
الداء والدواء لابن القيم / 83 - دار ابن كثير - دمشق.