الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك. وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئًا» (1).
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله على كلام ابن عباس قوله:
أي أحب أهل الإيمان بالله وطاعته من أجل ذلك .. قوله: «وأبغض في الله» أي أبغض من كفر بالله وأشرك به وفسق عن طاعته لأجل ما فعلوه مما يسخط الله وإن كانوا أقرب الناس إليه كما قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية .. قوله: «ووالى في الله» هذا والذي قبله من لوازم محبة العبد لله تعالى، فمن أحب الله تعالى أحب فيه ووالى أولياءه وعادى أهل معصيته وأبغضهم وجاهد أعداءه ونصر أنصاره، وكلما قويت محبة العبد لله في قلبه قويت هذه الأعمال المترتبة
(1) فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص 344.
عليها، وبكمالها يكمل توحيد العبد، ويكون ضعفها على قدر ضعف محبة العبد لربه، فمقل ومستكثر ومحروم».
تأمل قول الشيخ عبد الرحمن رحمه الله: «ولما قويت محبة العبد لله في قلبه قويت هذه الأعمال المترتبة عليها إلى قوله: ومحروم. فهو يقصد بالأعمال المترتبة عليها الحب في الله والموالاة فيه، والبغض في الله والمعاداة فيه، بخلاف كثير من أهل الوقت حيث يصفون من قام بشيء من المعاداة في الله والبغض فيه بأشنع الأوصاف» .
ثم قال الشيخ عبد الرحمن رحمه الله على قول ابن عباس رضي الله عنهما: «وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئاً» قال: أي لا ينفعهم بل يضرهم كما قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} فإذا كانت البلوى قد عمت بهذا من زمن ابن عباس خير
القرون، فما زاد الأمر بعد ذلك إلا شدة حتى وقعت الموالاة على الشرك والبدع والفسوق والعصيان. وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم بقوله:«بَدَأَ الإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ» وقد كان الصحابة رضي الله عنهم من المهاجرين والأنصار في عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم، وعهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، يؤثر بعضهم بعضاً على نفسه محبة في الله وتقرباً إليه كما قال تعالى:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «لقد رأيتنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من أحد يرى أنه أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم» رواه ابن ماجة انتهى المطلوب.
فقد تبين أن دعوى المحبة بلا بغض خداع وغرور من الشيطان، والصحيح أنه لو كان في قلب مدعي المحبة بغض لمعصية العاصي ونفره منها لأبغضه ونفر منه، ووجد وحشة بينه وبينه. لكن في الغالب تجده
مشاركاً له في مثل معصيته بالمقدار أو يزيد عليه، لكن تكون معصيته من نوع آخر، ولو لم يكن فيه إلا تركه بغض ما يبغض الله.
وقال عثمان بن أبي صفية: «إذا واخيت الرجل في الله فأحدث حدثاً فلم أجانبه لم تكن مؤاخاتي في الله» .
تأمل بأي شيء وزن محبته.
ومن كيد الشيطان ومكره لإبطال الغضب لله أن يصوره للإنسان بصورة منفرة للغاية، ويصور من قام به بأشنع الصور، وأنه جاف جاهل مفرق بين الناس، وأنه سيء الخلق ضيق العقل، ونحو ذلك من التشنيع وقد قال تعالى:{إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} فإذا لم تكن المحبة والموالاة لأولياء الله والبغض والمعاداة لأعداء الله وقعت الفتنة والفساد الكبير، كما ذكرنا ربنا عز وجل، فهذا لابد منه ولاشك فيه {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} .
وتارك البغض في الله أتاه الشيطان من جهة حسن الخلق. وحسن الخلق والرحمة ونحو ذلك هو بغض ما يبغضه الله ورسوله، ومن آثار ذلك الطيبة أن يستشعر العاصي بمخالفته، وإلا كيف يستشعر بذلك إذا لم ير جفوة من صديق، وتغيراً من صاحب وحبيب. فهذا كالمنبه والمحذر له.
قال السفاريني: «وكم إمام هجر لله خدنا كان أعز
عليه لولا انتهاكه لمحارم مولاه من روحه فصار بذلك كالجماد» (1).
وهذا هو حسن الخلق المقتبس من مشكاة النبوة لا الآراء والأهواء التي يظنها صاحبها عقلاً وديناً وهي ظلم وجهل.
ولو رأيت شخصاً عزيزاً عليك يسير في طريق محفوظة بالمخاوف والمخاطر، وهو قد يعرف أن الطريق كذلك، وقد لا يعرف، وقد تكون معرفته بذلك ضعيفة فهو إذا لم ير الجد منك والتغير يتساهل ولا يبالي؛ حيث لم يشعر منك بتغير يناسب الحال. فهل نصحته أو غششته ببرودة قلبك؟.
ومعلوم أن العاصي مطيع للشيطان وهو أعدى أعدائه يقوده إلى كل هلكة وعطب بزمام هواه
(1) غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب ج1 ص 221.
ومغضب للرحمن، وقد توعده إذا أغضبه بعذاب لا يطاق، وأنت أسير عدوه صريع هواه، وأنت بارد القلب، فهل يدل هذا على شفقة ورحمة أو حسن خلق بوجه من الوجوه أو يدل على ضد ذلك فهو رأي فاسد طلب صاحبه السلامة فوقع في موجب العتب والملامة.
فتأمل حكمة الحكيم ورحمة الرحيم، وأن وزن أمور الشريعة بالرأي والعقل مزلة ومضلة، ورضي الله عن أمير المؤمنين علي حيث قال:«لو أن الدين بالرأي لكان مسح أسفل الخف أولى من أعلاه .. » يقصد رضي الله عنه أن أسفل الخف هو الذي يباشر الأرض فيعلق به ما يُستقذر فيكون مسحه أولى من أعلاه الذي لا يباشر الأرض، ومع هذا أمر الشارع بمسح أعلاه دون أسفله؛ لأن الدين ليس بالرأي.
وكما صوّر الشيطان البغض في الله والغيرة إذا انتهكت محارمه بتلك الصورة الشنيعة، فإنه يصور
المداهنة بحسن الخلق واللطافة والأدب وتأليف الناس ونحو ذلك من العبارات الخادعة.
قال سفيان الثوري: «إذا أثنى على الرجل جيرانه أجمعون فهو رجل سوء قالوا له: كيف ذلك؟ قال: يراهم يعملون بالمعاصي فلا يغير عليهم ويلقاهم بوجه طليق» (1).
وهذا أيضاً مما يبين أن الدين ليس بالرأي؛ لأن رأي أكثر الخلق أن ثناء الجيران كلهم على جارهم مطلوب ومرغوب فيه، بل ومن الصفات الحميدة في الرجل وهو كما ترى في كلام العلماء، وتأمل قوله: يلقاهم بوجه طلق فإنه من المتقرر عند السلف أنه لا يلقى العاصي بوجه طلق ولا يفعل ذلك إلا المداهن.
وقد فهم أهل الوقت حسن الخلق بمفهوم يناسب
(1) الحلية لأبي نعيم.
حالهم وهو ألا تغضب مهما حصل، فإن غضبت فأنت سيء الخلق، اللهم إلا إذا كان غضبك من أجل دنياك فاغضب وأقم الدنيا وأقعدها، أما إذا كان لله فيا ويلك من كل لقب شنيع.
وحسن الخلق مطلوب شرعاً وعرفاً، ومن توفيق الله للعبد أن يكون حسن الخلق، لكن الشأن بمعنى هذه الصفة، هل معناها ألا تغضب ولا تبغض فيه ولا تمعر؛ إذ انتهكت محارم الله بدعوى أنك حسن الخلق. هذا مفهوم سيء، ويلزم منه أن من غضب لله وأبغض فيه وتمعر وجهه إذا انتهكت محارم الله أنه سيء الخلق، وهذا يأتي على أنبياء الله ورسله وأوليائه؛ لأن سِيْرهم وأحوالهم في بغضهم في الله وغضبهم إذا انتهكت محارمه معرفوة.
وقد قال الأوزاعي رحمه الله: «عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن
زخرفوا لك القول» (1).
والحقيقة أن حسن الخلق هو فعل ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي له الكمال من هذه الصفة، ومع هذا لا يقوم لغضبه شيء إذا انتهكت محارم الله، ويتغير وجهه للأمر المنكر، ويبغض في الله ويهجر في الله مع أنه لا ينتصف لحق نفسه.
والذي ذكره أهل العلم من أن الشخص الواحد يجتمع فيه موجب الحب والبغض، فيكون فيه طاعة ومعصية وسنة وبدعة وبر وفجور، فيَحب من وجه ويبغَض من وجه، قالوا هذا بياناً لمذهب أهل السنة للتفريق بينهم وبين الخوارج الذين لا يجعلون الشخص الواحد إلا موجباً للذم والبغض الذي يترتب عليه العقاب، أو موجبا للمحبة والثناء الذي يترتب
(1) جامع بيان العلم وفضله.
عليه الثواب، فهذا لا يعكر على البغض في الله والهجر الديني؛ لأن العلماء الذين يعتقدون هذا الاعتقاد يبغضون ويهجرون وتتمعر وجوههم للمنكر مع اعتقادهم القاعدة السابقة، لكن قصدهم بكلمة يحب بقدر ما فيه من الخير يعني لا يكون له البغض الكامل كالكافر والعاصي في مذهب الخوارج.
وسوف أذكر فيما بعد إن شاء الله أمثلة تبين ما كان عليه الأئمة وسلف الأمة الصحابة، فمن بعدهم كذلك ما ذكره العلماء من أن الهجر يكون بحسب الأحوال، ليس معناه كما يفهم أهل الوقت؛ حيث يكون الواحد منهم فارغ القلب من الغضب لله والغيرة على محارمه، بارد الهمة وكأن شيئاً لم يحصل، بدعوى وحجة أن الهجر يختلف باختلاف الأحوال والأزمان والأشخاص. فإذا لم تهجر بلسانك هل هجرت صاحب المنكر بلقلبك وفارقت، وذلك أن تجد نفرة ووحشة من المنكر وأهله وبغضه حقيقة لا
تستطيع دفعها عن قلبك، والأثر يدل على المسير والبعرة تدل البعير.
(1) هداية الطريق: عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين.
والجاهل لو سئل عن عز الإسلام وظهوره لقاسه بكثرة المساجد والمصلين والحجاج، ولكن نظر أهل العلم إلى غير هذا قال ابن عقيل:(1)
«إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع ولا ضجيجهم بلبيك، وإنما انظر إلى ماوطأتهم أعداء الشريعة .. » انتهى. والمواطأة هي المعاداة والبغض ونحو ذلك .. والأصل في هجر أهل المعاصي هجر النبي صلى الله عليه وسلم كعباً وصاحبيه، وأمره أصحابه بهجرهم لتخلفهم عنه في غزوة تبوك، كما ورد في الصحيحين.
كذلك فقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم نساءه شهراً من أجل كلام أغضبه، وهجرت عائشة ابن اختها عبد الله بن الزبير مدة (2).
(1) غذاء الألباب ج1 ص231.
(2)
صحيح البخاري.