المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الْمِائَة الْخَامِسَة   112 - سُلَيْمَان بن الحكم بن سُلَيْمَان بن عبد - الحلة السيراء - جـ ٢

[ابن الأبار]

الفصل: ‌ ‌الْمِائَة الْخَامِسَة   112 - سُلَيْمَان بن الحكم بن سُلَيْمَان بن عبد

‌الْمِائَة الْخَامِسَة

112 -

سُلَيْمَان بن الحكم بن سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن النَّاصِر المستعين بِاللَّه أَبُو أَيُّوب

قَدمته البرابرة عِنْد قتل عَمه هِشَام بن سُلَيْمَان بن النَّاصِر الْقَائِم على الْمهْدي مُحَمَّد بن هِشَام بن عبد الْجَبَّار بن عبد الرَّحْمَن النَّاصِر باعث الْفِتْنَة بالأندلس وموقد نارها الخامدة وشاهر سيفها المغمد

وَكَانَ الْمهْدي حاقداً على الْعَامِرِيين قَتلهمْ أَبَاهُ هشاماً فِي دولة المظفر عبد الْملك ابْن الْمَنْصُور مُحَمَّد بن أبي عَامر لاتهامهم إِيَّاه بمبالأة الْوَزير عِيسَى بن سعيد القطّاع قَتِيل عبد الْملك فَقَامَ على هِشَام الْمُؤَيد فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة تسع وَتِسْعين

ص: 5

وثلاثمائة وخلعه وحبسه عِنْد وزيره الْحُسَيْن بن حَيّ وَقتل عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن أبي عَامر وَهُوَ الملقب بالناصر وصلبه وَأدْركَ بِهِ ثَأْره

وَأقَام بقرطبة مدعوّاً لَهُ على منابرها وَسَائِر مَنَابِر الأندلس إِلَى أَن ثار عَلَيْهِ فِي آخر شَوَّال من السّنة هِشَام بن سُلَيْمَان الْمَذْكُور وحاربه فظفر بِهِ الْمهْدي وَعجل قَتله فهرب سُلَيْمَان المستعين بِاللَّه وَأهل بَيته خُفْيَة من الْمهْدي واضطربوا فِي نواحي قرطبة فالتف البربر على سُلَيْمَان هَذَا وقدموه خَليفَة وأصفقوا على بيعَته لانحرافهم عَن الْمهْدي وأضطغانهم عَلَيْهِ قتل عبد الرَّحْمَن بن أبي عَامر

وتعجل سُلَيْمَان بهم النهوض إِلَى الثغر مستجيشاً بالنصارى على محاربة الْمهْدي ثمَّ عَاد فَالْتَقوا جَمِيعًا بقنتيش فَكَانَت الْوَقْعَة الْمَشْهُورَة على أهل قرطبة قتل فِيهَا نَيف على عشْرين ألفا ذكر ذَلِك الْحميدِي وَغَيره

ص: 6

وَدخل سُلَيْمَان قصر قرطبة وبويع لَهُ بالخلافة لِلنِّصْفِ من شهر ربيع الأول سنة أَرْبَعمِائَة وَتسَمى حِينَئِذٍ ب الظافر بحول الله مُضَافا ذَلِك إِلَى لقب المستعين بِاللَّه واستتر المهديّ بعد انهزامه إِلَى أَن لحق بطليطلة والثغور بَاقِيَة على طَاعَته ودعوته من طرطوشة قاصية شَرق الأندلس إِلَى الأشبونة من غربها فاستجاش هُوَ أَيْضا النَّصَارَى وَأَقْبل بهم إِلَى قرطبة فَخرج إِلَيْهِ سُلَيْمَان فَهَزَمَهُ المهديّ بِموضع يعرف بعقبة الْبَقر وَدخل قرطبة كرة أُخْرَى والياً ومستولياً على الْخلَافَة فَلم يلبث أَن وثب عَلَيْهِ العبيد العامريون مَعَ وَاضح الصقلبي فَقَتَلُوهُ وصرفوا هشاماً الْمُؤَيد وَسليمَان المستعين أثْنَاء ذَلِك يجوس خلال الأندلس وَرِجَاله وَمن مَعَهم من البربر ينهبون وَيقْتلُونَ ويقفزون الْمَدَائِن والقرى بِالسَّيْفِ وينهبون كل مَا يَجدونَ من الْأَمْوَال إِلَى أَن دخلُوا مَعَه قرطبة عنْوَة فِي صدر شَوَّال سنة ثَلَاث وَأَرْبَعمِائَة فاستباحوها وَقتلُوا أَهلهَا وغيّب سُلَيْمَان هشاماً الْمُؤَيد فَلم يره أحد بعد ذَلِك وَكَانَ لدته ولدا جَمِيعًا فِي لَيْلَة وَاحِدَة ثمَّ تقاربا فِي الْوَفَاة وَأقَام سُلَيْمَان والياً إِلَى أَن ثار عَلَيْهِ عليّ بن حمود الْعلوِي الإدريسي وَكَانَ فِي جملَة جنده فَقتله بِيَدِهِ يَوْم الْأَحَد لثمان بَقينَ من الْمحرم سنة سبع وَأَرْبَعمِائَة وَقتل مَعَه أَبَاهُ حكم بن سُلَيْمَان وأخاه عبد الرَّحْمَن وَادّعى أَن هشاماً الْمُؤَيد عهد إِلَيْهِ بِالْأَمر من بعده

ص: 7

وَفِي ذَلِك الْيَوْم انقرض ملك بني مَرْوَان بالأندلس على رَأس مِائَتي سنة وثمان وَسِتِّينَ سنة وَثَلَاثَة وَأَرْبَعين يَوْمًا محصاة من يَوْم الْأَضْحَى الَّذِي تقدم فِيهِ عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة إِلَى مقتل سُلَيْمَان هَذَا ثمَّ عَاد بعد ذَلِك سِنِين يسيرَة وانقرض على الْأَثر فَلم يعد إِلَى الْيَوْم

وَكَانَ سُلَيْمَان المستعين من أهل الْعلم والفهم أديباً فصيحاً شَاعِرًا لَهُ رسائل وأشعار بديعة وَهُوَ الْقَائِل فِيمَا أَخْبرنِي بِهِ القَاضِي أَبُو الْخطاب أَحْمد بن مُحَمَّد ابْن وَاجِب الْقَيْسِي مناولة ببلنسية عَن القَاضِي أبي بكر بن الْعَرَبِيّ إجَازَة عَن أبي بكر مُحَمَّد بن طرخان عَن أبي عبد الله مُحَمَّد بن أبي نصر الْحميدِي وَأَخْبرنِي أَيْضا القَاضِي أَبُو بكر مُحَمَّد بن أَحْمد بن أبي جَمْرَة فِي كِتَابه من مرسية مرَّتَيْنِ عَن القاضيين أبي بكر بن الْعَرَبِيّ الْمَذْكُور وَأبي الْحسن شُرَيْح بن مُحَمَّد الرعيني وَأَخْبرنِي أَيْضا قَاضِي قُضَاة الْمغرب أَبُو الْقَاسِم أَحْمد بن يزِيد بن بَقِي فِي كِتَابه إليّ من قرطبة عَن أبي الْحسن شُرَيْح بن مُحَمَّد بن شُرَيْح كِلَاهُمَا عَن الْفَقِيه أبي مُحَمَّد عَليّ بن أَحْمد بن حزم قَالَ الْحميدِي مِنْهُمَا أَنْشدني أَبُو مُحَمَّد عَليّ بن أَحْمد قَالَ أَنْشدني فَتى من ولد إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق المنادى الشَّاعِر وَكَانَ يكْتب لأبي جَعْفَر أَحْمد بن سعيد الدب قَالَ أَنْشدني أَبُو جَعْفَر قَالَ أَنْشدني أَمِير الْمُؤمنِينَ سُلَيْمَان الظافر لنَفسِهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد هُوَ ابْن حزم وأنشدنيها قَاسم بن مُحَمَّد المرواني قَالَ أنشدنيها وليد بن مُحَمَّد الْكَاتِب لِسُلَيْمَان الظافر

ص: 8

(عجبا يهاب اللَّيْث حدّ سناني

وأهاب لحظ فواتر الأجفان)

(وأقارع الْأَهْوَال لَا متهيباً

مِنْهَا سوى الْإِعْرَاض والهجران)

(وتملّكت نَفسِي ثَلَاث كالدّمى

زهر الْوُجُوه نواعم الْأَبدَان)

(ككواكب الظلماء لحن لناظر

من فَوق أَغْصَان على كُثْبَان)

(هذي الْهلَال وَتلك بنت الْمُشْتَرى

حسنا وهذى أُخْت غُصْن البان)

(حاكمت فيهنّ السّلوّ إِلَى الْهوى

فَقضى بسُلْطَان على سلطاني)

(فأبحن من قلبِي الْحمى وثنينى

فِي عزّ ملكي كالأسير العاني)

(لَا تعذلوا ملكا تذلّل للهوى

ذلّ الْهوى عز وَملك ثَان)

(مَا ضرّ أَنِّي عبدهن صبَابَة

وَبَنُو الزَّمَان وهنّ من عبداني)

(إِن لم أطع فِيهِنَّ سُلْطَان الْهوى

كلفاً بِهن فلست من مَرْوَان)

(وَإِذا الْكَرِيم أحبّ أمّن إلفه

خطب القلى وحوادث السّلوان)

(وَإِذا تجارى فِي الْهوى أهل الْهوى

عَاشَ الْهوى فِي غِبْطَة وأمان)

قَالَ الْحميدِي وَهَذِه الأبيات مُعَارضَة للأبيات الَّتِي تنْسب إِلَى هَارُون الرشيد أنشدنيها لَهُ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عُثْمَان بن مَرْوَان الْعمريّ وَهِي

(ملك الثَّلَاث الآنسات عناني

وحللن من قلبِي بِكُل مَكَان)

(مَالِي تطاوعني الْبَريَّة كلّها

وأطيعهن وهنّ فِي عصياني)

(مَا ذَاك إِلَّا أنّ سُلْطَان الْهوى

وَبِه قوين أعزّ من سلطاني)

قلت وَقد صرح الرشيد بأسماء هَؤُلَاءِ الْجَوَارِي الثَّلَاث فِي قَوْله

(إِن سحرًا وضياء وخنث

هنّ سحر وضياء وخنث)

ص: 9

(أخذت سحر وَلَا ذَنْب لَهَا

ثُلثي قلبِي وترباها الثُّلُث)

وَقَالَ أَبُو بكر أَحْمد بن سعيد بن أبي الفيّاض الْمَعْرُوف بِابْن الغشّاء فِي كتاب العبر من تأليفه وَذكر سُلَيْمَان هَذَا لَهُ قصائد طَوِيلَة فِي فنون كَثِيرَة مَعَ الْمعَانِي العجيبة والألفاظ الغريبة إِلَّا أَنه تقلد فِي قِيَامه بِالْملكِ عَظِيما وَحمل إِلَى عُنُقه من دِمَاء الْمُسلمين جسيماً وَكَانَ قبل الْخلَافَة رُبمَا امتدح من خدمَة السُّلْطَان المستخدمين أخْبرت عَن الْوَزير ابْن صاعد أَنه امتدحه أَيَّام ولَايَته على جيّان وَكَانَ يبرّه فِي ضَيْعَة لَهُ وَلَا يكلفه عَلَيْهَا عشوراً وَلَا حشداً قَالَ وَكَأَنِّي أرَاهُ قَائِما بَين يَدي ابْن عَمه المهديّ الْقَائِم على بني أبي عَامر والمهديّ جَالس على مقْعد الْخلَافَة وَهُوَ أَمَامه قد لبس ثوب خزّ وَعَلِيهِ طاق خَز ملون وأخروف وشي وَقد رمى بثيابه على عَاتِقه وَبِيَدِهِ

ص: 10

سيف وَهُوَ ينشد شعر طَويلا يهنيه فِيهِ بالخلافة ويمتّ إِلَيْهِ بِالْقَرَابَةِ أَوله

(الْحَمد لله حمداً لَا نقلّله

هَذَا السرُور الَّذِي كُنَّا نؤمله)

وَهِي قصيدة كَبِيرَة رائقة واختراعاته فِيهَا فائقة مَعَ الْمعَانِي الجزلة وَرفع إِلَيْهِ بعض خدمته معتذراً فوقّع لَهُ على ظهر كِتَابه

(قَرَأنَا مَا كتبت بِهِ إِلَيْنَا

وعذرك وَاضح فِيمَا لدينا)

(وَمن يكن القريض لَهُ شَفِيعًا

فَترك عتابه فرض علينا)

قَالَ ابْن أبي الفيّاض وَأَخْبرنِي أحد إخْوَانِي قَالَ كتب إِلَيْهِ الْوَزير يُوسُف بن أَحْمد الْبَاجِيّ يذكرهُ بِزَمَانِهِ مَعَه ويمتّ بخدمته لَهُ ويسأله تَجْدِيد العارفة لَدَيْهِ ونظم أبياتاً أَولهَا

(قل للْإِمَام المستعين

وَرَسُول رب الْعَالمين)

فوقّع لَهُ سُلَيْمَان

(أَنْت المصدّق عندنَا

بِصَرِيح ودّ مستبين)

(فاربع عَلَيْك فهّمنا

توطيد أَمر الْمُسلمين)

(فَإِذا توطد واستقام

وخاب ظن الحاسدين)

(أَصبَحت من دنياك فِي

أَعلَى مَحل الآملين)

قَالَ وَكتب إِلَيْهِ القَاضِي أَبُو الْقَاسِم بن مِقْدَام يشكو إِلَيْهِ ضيق حَاله وَكَانَ مَعَه فِي تجوله مَعَ البربر بِشعر أَوله

(أهل ترْضى لعبدك أَن يذالا

وَأَن يبْقى على الدُّنْيَا عيالا)

فَبعث إِلَيْهِ بصلَة وَكِسْوَة ووقّع لَهُ على ظهر كِتَابه

ص: 11

(معَاذ الله أَن تبقى عيالا

وَأَن ترْضى لمثلك أَن يذالا)

(وَكَيف وَأَنت مُنْقَطع إِلَيْنَا

وَقد علقت يداك بِنَا حِبَالًا)

(ودونك من نوافلنا يسير

وَلَكنَّا انتقيناه حَلَالا)

وَلما نَهَضَ إِلَى قرطبة بعد تغلبه عَلَيْهَا وَأَخذه إِيَّاهَا عنْوَة بالفتكة الْأَخِيرَة الْقَاهِرَة خرج أَهلهَا إِلَيْهِ متلقين لَهُ ومسلمين عَلَيْهِ فَأَنْشد متمثلاً

(إِذا مَا رأوني طالعاً من ثنيّة

يَقُولُونَ من هَذَا وَقد عرفوني)

(يَقُولُونَ لي أَهلا وسهلاً ومرحباً

وَلَو ظفروا بِي سَاعَة قتلوني)

فَكَانَ بهما فِي هَذَا الموطن أَحَق من قَائِلهَا

113 -

عبد الرَّحْمَن بن هِشَام بن عبد الْجَبَّار ابْن عبد الرَّحْمَن النَّاصِر أَبُو الْمطرف المستظهر بِاللَّه

أَخُو أبي الْوَلِيد مُحَمَّد بن هِشَام الْمهْدي بُويِعَ لَهُ بالخلافة بقرطبة فِي رَمَضَان سنة أَربع عشرَة وَأَرْبَعمِائَة بعد ذهَاب دولة بني حمود وانقراضها من قرطبة وَهُوَ ابْن ثَلَاث أَو اثْنَتَيْنِ وَعشْرين سنة

ثمَّ ثار عَلَيْهِ ابْن عَمه المستكفي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن عبيد الله بن النَّاصِر عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد فِي طَائِفَة من أراذل الْعَوام فَقتل المستظهر لثلاث بَقينَ من ذِي الْقعدَة من السّنة فَكَانَت خِلَافَته سَبْعَة وَأَرْبَعين يَوْمًا وَلم يعقّب

ص: 12

قَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم الْفَقِيه كَانَ المستظهر فِي غَايَة الْأَدَب والبلاغة والفهم ورقة النَّفس وَقَالَ ابْن حيّان لم يكن فِي بَيته يَوْمئِذٍ أبرع مِنْهُ وَكَانَ قد نقّلته المخاوف وتقاذفت بِهِ الْأَسْفَار فتحنّك وتخرّج وتمرن وَكَاد يستولي على الْأَمر لَو أَن المنايا أنسأته وَقَالَ فِي مَوضِع آخر وَكَانَ فَتى أيّ فَتى لَو أخطأته المتالف

وَكَانَ قد أخرج رسله إِلَى جمَاعَة الرؤساء بالأندلس يلْتَمس الْبيعَة ويستنفر الكافة وَيَدْعُو إِلَى كرّة الدولة فأخفق مَا طلبه وعوجل وَلما تقتض الْأَجْوِبَة رسله واضمحل أمره والبقاء لله وَحده قَالَ وَكَانَت سنه يَوْم قتل ثَلَاثًا وَعشْرين سنة وَكَانَ على حُدُوث سنه يقظاً أديباً حسن الْكَلَام جيد القريحة مليح البلاغة يتَصَرَّف فِي مَا شَاءَ من الْخطاب بديهة وروية ويصوغ قطعا من الشّعْر مستجادة وَهُوَ الْقَائِل يُخَاطب شنف زوج سُلَيْمَان المستعين عِنْدَمَا خطب ابْنَتهَا مِنْهُ الْمُسَمَّاة حَبِيبَة وتكنّى أمّ الحكم فلوته وسوفته

ص: 13

(وجالية عذرا لتصرف رغبتي

وتأبى الْمَعَالِي أَن تجيز لَهَا عذرا)

(يكلفها الأهلون ردي جَهَالَة

وَهل حسن بالشمس أَن تمنع البدرا)

(وماذا على أم الحبيبة إِذْ رَأَتْ

جلالة قدري أَن أكون لَهَا صهرا)

(ربيبة ملك

حبه نكرا)

(جعلت لَهَا شرطا عليّ تعبّدي

وسقت إِلَيْهَا فِي الْهوى مهجتي مهْرا)

(تعلّقتها من عبد شمس غريرة

مخدرة من صيد آبائها غرّا)

(حمامة بَيت العبشميّين رفرفت

فطرت إِلَيْهَا من سراتهم صقرا)

(تقلّ الثريا أَن تكون لَهَا يدا

ويرجو الصَّباح أَن يكون لنا نحر)

(لقد طَال صَوْم الْحبّ عَنْك فَمَا الَّذِي

يَضرك مِنْهُ أَن تَكُونِي لَهُ فطرا)

(وَإِنِّي لأستشفي لما بِي بداركم

هدوءاً وأستسقي لساكنها القطرا)

(وألصق أحشائي بِبرد ترابها

لأطفىء من نَار الأسى بكم جمرا)

(فَإِن تصرفيني يَا ابْنة الْعم تصرفي

وعيشك كفوا مد رغبته سترا)

(وَإِنِّي لأرجو أَن أطوّق مفخري

بملكي لَهَا وَهِي الَّتِي عظمت فخرا)

(وَإِنِّي لطعّان إِذا الْخَيل أَقبلت

جرائدها حَتَّى ترى جونها شقرا)

(ومكرم ضَيْفِي حِين ينزل ساحتي

وجاعل وفري عِنْد سائله وفرا)

(وَإِنِّي لأولى النَّاس من قَومهَا بهَا

وأنبههم ذكرا وأرفعهم قدرا)

(وَعِنْدِي مَا يصبى الحليمة ثَيِّبًا

وَيُنْسِي الفتاة الخود عذرتها البكرا)

(جمال وأداب وَخلق موطّأ

وَلَفظ إِذا مَا شِئْت أسمعك السحرا)

ص: 14

وَله وَقد لمحها يَوْمًا وَأَوْمَأَ بِالسَّلَامِ فَلم ترد عَلَيْهِ خجلا

(سَلام على من لم يجد بِكَلَامِهِ

وَلم يُربي أَهلا لردّ سَلَامه)

(سَلام على الظبى الَّذِي كلما رمى

أصَاب فُؤَادِي عَامِدًا بسهامه)

(بنفسي حبيب لم يجد لمحبه

بطيف خيال زائر فِي مَنَامه)

(ألم تعلمي يَا عذبة الإسم أنني

فَتى فِيك مخلوع عذار لجامه)

(وَإِنِّي وفيّ حَافظ لأذمّتي

إِذا لم يقل غَيْرِي بِحِفْظ ذمامه)

(يبشّر ذَاك الشّعر شعري أَنه

سيوصل حبلي بعد طول انصرامه)

(وَمَا شكّ طرفِي أَن طرفك مسعدي

ومنقذ قلبِي من خبال غرامه)

(عَلَيْك سَلام الله من ذِي تَحِيَّة

وَإِن كَانَ هَذَا زَائِدا فِي اجترامه)

ص: 15

وَله أَيْضا فِيهَا

(تبسّم عَن درّ تنضّد فِي الورس

وأسفر عَن وَجه يَنُوب عَن الشَّمْس)

(غزال براه الله من نور عَرْشه

لتقطيع أنفاسي وَلَيْسَ من الْإِنْس)

(وهبت لَهُ روحي وملكي ومهجتي

وَنَفْسِي وَلَا شَيْء أعز من النَّفس)

وَله

(طَال عمر اللَّيْل عِنْدِي

مذ تولعت بصدي)

(يَا غزالا نقض الْعَهْد

وَلم يوف بعهدي)

(أنسيت الْعَهْد إِذْ بتنا

على مفرش ورد)

(واجتمعنا فِي وشاح

وانتظمنا نظم عقد)

(وتعانقنا كغصنين

وقدانا كقدّ)

(ونجوم اللَّيْل تحكي

ذَهَبا فِي لازورد)

وَرفع إِلَيْهِ شَاعِر مِمَّن هنأه بالخلافة يَوْم بيعَته شعرًا فِي رقّ مبشور وَاعْتذر من ذَلِك بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ

(الرّقّ مبشور وَفِيه بِشَارَة

ببقا الإِمَام الْفَاضِل المستظهر)

ص: 16

(ملكا أعَاد الْعَيْش غضّاً شخصه

وَكَذَا يكون بِهِ طوال الأدهر)

فأجزل صلته وَوَقع على ظهر رقعته بِهَذِهِ الأبيات

(قبلنَا الْعذر فِي بشر الْكتاب

لما أحكمت من فصل الْخطاب)

(وجدنَا بالجزا مِمَّا لدينا

على قدر الْوُجُود بِلَا حِسَاب)

(فَنحْن المنعمون إِذا قَدرنَا

وَنحن الغافرون أَذَى الذناب)

(وَنحن المطلعون بِلَا امتراء

شموس الْمجد من فلك التُّرَاب)

وَله يَوْم الْوُثُوب عَلَيْهِ

(يَا أَيهَا الْقَمَر الْمُنِير

كن نَحْو شبهك لي سفير)

(بِتَحِيَّة أودعتها

شوقاً بنيات الصُّدُور)

114 -

أَبُو الْحسن بن هَارُون

قَرَأت فِي تَارِيخ أبي بكر بن عِيسَى بن عِيسَى بن مزين أَن أَبَا جَعْفَر

ص: 17

أَحْمد بن سعيد الْمَعْرُوف بالدّب وَزِير سُلَيْمَان المستعين بِاللَّه وكاتبه الْخَاص بِهِ وَلما تحركت فتْنَة عَليّ بن حمود الْعلوِي بعث إِلَى شنتمريّة الغرب وَهِي مرسى أكشونبة مِمَّا يَلِي الْبَحْر الْمُحِيط الغربي ذَا الوزارتين أَبَا عُثْمَان سعيد بن هَارُون الماردي الدَّار وَكَانَت بَينهمَا مصاهرة قَالَ فَلم تطل الْمدَّة حَتَّى قتل الدّب ثمَّ قتل سُلَيْمَان فَملك ابْن هَارُون مَا بِيَدِهِ إِلَى أَن مَاتَ فِي سنة أَربع أَو خمس وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة فورث حَاله ابْنه مُحَمَّد بن سعيد وَحكى أَنه سمى بالمعتصم إِلَى أَن أخرجه عباد بن مُحَمَّد يَعْنِي المعتضد فِي سنة أَربع وَأَرْبَعين فَصَارَت فِي يَده ثمَّ فِي يَد ابْنه مُحَمَّد بن عباد

وَقَالَ ابْن بسام وَذكر أَبَا الْحسن بن هَارُون هَذَا وَلم ينْسبهُ وَهُوَ عليّ ابْن مُحَمَّد بن سعيد بن هَارُون جدّه لأمه أَبُو الْحسن بن الإستجّي فَأَما سلفه من قبل أَبِيه فقد انخدع لَهُم الزَّمَان بريهة وهينم بِأَسْمَائِهِمْ السُّلْطَان هنيهة بشنتمرية الغرب إِلَى أَن نبّه الدَّهْر الغافل على أَمرهم وأسكت عَن ذكرهم على يَدي المعتضد عباد بن مُحَمَّد مخلي الأوطان وملحق بالأقران

ص: 18

وَمن شعره

(عَادَتْ إِلَى أذنابها هيف

واطرد الْإِسْرَاف والحيف)

(وَامْتنع الإصبع من وصلنا

وَزَاد حَتَّى امْتنع الطيف)

(شنتمريّ الْقطر غربيّه

وَرُبمَا حنّ لَهُ الْخيف)

(ذُو لَحْظَة إِن لم تكن فِي الحشا

رمحاً وَإِلَّا فَهِيَ السَّيْف)

وَله

(يَا لَيْلَة الْعِيد عدت ثَانِيَة

وَعَاد إحسانك الَّذِي أذكر)

(إِذا أقبل النَّاس ينظرُونَ إِلَى

هلالك النّضو ناحلاً أصفر)

(وَفِيهِمْ من أحبه وأنما

أنظرهُ فِي السَّمَاء إِذْ ينظر)

(فَقلت لَا مُؤمنا بِقَوْلِي بل

معرضًا للْكَلَام لَا أَكثر)

(أثّر شهر الصّيام فِيك أَبَا

مُحَمَّد قَالَ لي وَمَا أثّر)

(بل أثّر الصَّوْم فِي هلالكم

هَذَا الَّذِي لَا يكَاد أَن يظْهر)

أحسن من هَذَا قَول أبي الْحسن بن الزّقّاق

ص: 19

(وَشهر أدرنا لارتقاب هلاله

جفوناً إِلَى نَحْو السَّمَاء موائلا)

(إِلَى أَن بدا أحوى المدامع أحور

يجر لأذيال الشَّبَاب ذلاذلا)

(فَقلت لَهُ أَهلا وسهلاً ومرحباً

ببدر حوى طيب الشُّمُول شمائلا)

(أتطلبك الْأَبْصَار فِي الجو نَاقِصا

وَأَنت هُنَا تمشي على الأَرْض كَامِلا)

وَذكرت بقول ابْن هَارُون مَا حكى أَن عبد الصَّمد بن المعذّل رأى مخنثاً لَيْلَة الرَّابِع عشر من رَمَضَان وَهُوَ مُضْطَجع على ظَهره يُخَاطب الْقَمَر وَهُوَ يَقُول لَا أماتني الله مِنْك بحسرة أَو تقع فِي السّلّ فَلَمَّا كَانَت لَيْلَة الْيَوْم السَّابِع وَالْعِشْرين مِنْهُ رأى عبد الصَّمد الْهلَال فَقَالَ

(يَا قمراً قد صَار مثل الْهلَال

من بعد مَا صيّرني كالخيال)

(الْحَمد لله الَّذِي لم أمت

حَتَّى أرانيك بِهَذَا السّلال)

وَلابْن هَارُون

(وحديقة شَرقَتْ بعدّ نميرها

يَحْكِي صفاء الجو صفو غديرها)

(تجْرِي الْمِيَاه بهَا أسود أحكمت

من خَالص العقيان فِي تصويرها)

(فَكَأَنَّهَا أَسد الشّرى فِي شكلها

وكأنّ وَقع الماءصوت زئيرها)

ص: 20

وَمن أُمَرَاء إفريقية فِي هَذِه الْمِائَة

115 -

الْمعز بن باديس بن الْمَنْصُور بن بلقين ابْنه تَمِيم بن الْمعز أَبُو الطَّاهِر

ولاه أَبوهُ المعزّ بن باديس المهدية سنة خمس وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَعشْرين سنة وَقد استفحل أَمر الْعَرَب بعد هزيمتهم إِيَّاه واستشرى شرهم وجدّوا فِي تخريب القيروان إِلَى أَن تمّ لَهُم ذَلِك ثمَّ تخلى أَبوهُ عَن القيروان وَخرج من المنصورية لائذاً بالمهدية فَنزل قصرهَا وَتَمِيم الْقَائِم بِالْأَمر فِي حَيَاة أَبِيه إِلَى أَن هلك سنة أَربع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة

ص: 21

فاستبد تَمِيم بالمملكة وَدخل إِلَيْهِ الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء ووجوه القواد والأجناد وَقد برز إِلَيْهِم من الطاق فعزّوه عَن الْمعز وهنّوه بِالْملكِ وأنشده الشُّعَرَاء فِي ذَلِك فأجزل جوائزهم وَأكْثر عطاياهم وَأقَام إِلَى أَن توفّي منتصف رَجَب سنة إِحْدَى وَخَمْسمِائة وَهُوَ ابْن تسع وَسبعين سنة

مولده بالمنصورية يَوْم الِاثْنَيْنِ لثلاث عشرَة خلت من رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة فَكَانَت مُدَّة ولَايَته بعد أَبِيه سبعا وَأَرْبَعين سنة غير أَرْبَعِينَ يَوْمًا وخلّف من الْوَلَد مَا جَاوز عَددهمْ الْمِائَة وطالت إمارته فتمهد سُلْطَانه وَعلا شانه وانتجع حَضرته جمَاعَة من شعراء الْمغرب والأندلس مِنْهُم أَبُو إِسْحَاق بن خفاجة فِي صباه وَعبد الله بن عبد الْجَبَّار الطرطوشي وَأَبُو الْحسن عَليّ بن عبد الْعَزِيز الْحلَبِي الْمَعْرُوف بالفكيك وَغَيرهم وخدمه بالشعر من أهل إفريقية جمَاعَة أَيْضا مِنْهُم أَبُو الْحُسَيْن بن خصيب وَأَبُو عبد الله مُحَمَّد ابْن عَليّ القفصي الْأَعْمَى وَأَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد الْحداد الأقطع ومدحه قبل هَؤُلَاءِ من شعراء الْمعز أَبِيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن شرف وَأَبُو عَليّ حسن بن رَشِيق وَفِيه يَقُول

ص: 22

(أصحّ وَأقوى مَا رَأَيْنَاهُ فِي النّوى

من الْخَبَر الْمَأْثُور مُنْذُ قديم)

(أَحَادِيث تمليها السُّيُول عَن الحيا

عَن الْبَحْر عَن جود الْأَمِير تَمِيم)

وَلأبي الْحُسَيْن عبد الْكَرِيم بن فضّال الْمَعْرُوف بالحلواني فِيهِ

(عرّسا بِي فَذا مناخ كريم

هَذِه جمّة وَهَذَا تَمِيم)

(هَذِه الْجنَّة الَّتِي وعد الله

وَهَذَا صراطه الْمُسْتَقيم)

وَكَانَ تَمِيم حَلِيمًا جواداً ممدحاً هجاه ابْن الْحداد الأقطع وَمِمَّا قَالَ فِيهِ

(الرّوم أحسن عِنْدِي

إِذا اختبرت الأمورا)

(من أَن يكون تَمِيم

على الثغور أَمِيرا)

فَطَلَبه ثمَّ استتر ثمَّ حبّر قصيدة يستعطفه بهَا وأنشده إِيَّاهَا فصفح عَنهُ وَأحسن إِلَيْهِ ذكر ذَلِك أَبُو الصَّلْت أُميَّة بن عبد الْعَزِيز بن أبي الصَّلْت فِي تَارِيخه قَالَ وَكَانَ يعْتَرض الشُّعَرَاء وينتقد عَلَيْهِم ألفاظهم فَلَا يتَخَلَّص مِنْهُ إِلَّا الماهر أنْشدهُ بَعضهم فِي وَقت هرج

(تثبّت لَا يخامرك اضْطِرَاب

إِلَيْك تمدّ أعينها الرّقاب)

فَقَالَ لَهُ أرأيتني وَيحك طرت خفَّة ورميت بنفسي من هَذَا الْعُلُوّ قلقاً واضطراباً وسكّته فَلم يسمع من قصيدته غير هَذَا الْبَيْت

وَكَانَ ابْنه يحيى بن تَمِيم وَأَبوهُ الْمعز بن باديس وَالْحسن بن عَليّ بن يحيى بن تَمِيم شعراء وَسَيَأْتِي ذكر كل وَاحِد مِنْهُم فِي بَابه إِن شَاءَ الله تَعَالَى

وَمن شعر تَمِيم

(بكرّ الْخَيل دامية النحور

وقرع الْهَام بالقضب الذُّكُور)

(لأقتحمنّها حَربًا عواناً

يشيب لهولها رَأس الصَّغِير)

ص: 23

(فإمَّا الْملك فِي شرف وعزّ

عليّ التَّاج فِي أَعلَى السرير)

(وَإِمَّا الْمَوْت بَين ظَبْي العوالي

فلست بِخَالِد أَبَد الدهور)

وَله

(سأسكت صبرا واحتساباً فإنني

أرى الصَّبْر سَيْفا لَيْسَ فِيهِ فلول)

(عداني أَن أَشْكُو إِلَى النَّاس أنني

عليل وَمن أَشْكُو إِلَيْهِ عليل)

(وَإِن امْرأ يشكو إِلَى غير نَافِع

ويسخو بِمَا فِي نَفسه لجهول)

وَله فِي غُلَام من موَالِيه اسْمه مدام وَهُوَ من مَشْهُور شعره ويغني بِهِ

(مدام يطوف بكأس المدام

فَلم أدر أيّهما أشْرب)

(فَهَذَا الصّديق وَهَذَا الرَّحِيق

وَهَذَا الْهلَال وَذي الْكَوْكَب)

(وَهَذَا يمدّ بألحاظه لي

وهذي بألبابنا تلعب)

(وَمَا الْبَدْر والنجم من ذَا وَذَاكَ

وَلكنه مثل يضْرب)

وَله

(قَامَ بكأس فَقلت غُصْن

عَلَيْهِ آس وجلّنار)

(كَأَنَّمَا الْفَرْع مِنْهُ ليل

وَالْوَجْه من تَحْتَهُ نَهَار)

(يَا غُصْن بَان على كثيب

لبّده الْغَيْم والقطار)

(هَل من نوال لمستهام

جَانِبه النّوم والقرار)

(لَيْسَ لَهُ فِي السّلوّ رَأْي

مَا اخْتلف اللَّيْل وَالنَّهَار)

وَله وَهُوَ مِمَّا يستحسن لَهُ

(لَهَا نهدان قد نجما

كنابي فيل شطرنج)

وَله

ص: 24

(إِلَى كم أقاسي الحبّ والشوق والوجدا

وَمَا أجملت جمل وَلَا أسعدت سعدى)

(وُجُوه كأقمار قمرن تجلّدى

على كلّ قدّ قدّ منى الحشا قدّا)

(وَكَانَ ابْتِدَاء الحبّ هزلا وَلم أكن

علمت بِأَن الْهزْل قد يبْعَث الجدّا)

وَله

(هم عرّضوني للصّبابة والهوى

وهم قطعُوا حبلي وهم صرفُوا رُسُلِي)

(جفوني جنت قَتْلَى عليّ صبَابَة

وَلم أر مقتولا بألحاظه قبلي)

وَله

(وَلما افترقنا وَسَارُوا ضحى

شققنا لوشك الْفِرَاق الجيوبا)

(وَلَو كَانَ فِينَا وَفَاء لَهُم

شققنا مَكَان الْجُيُوب القلوبا)

وَله

(أَقبلت بدر تَمام

بَعْدَمَا لاحت هلالاً)

(غادة ذَات محيّا

فِيهِ نور يتلالا)

(كتب الْحسن عَلَيْهِ

صَنْعَة الله تَعَالَى)

وَله

(لَو كنت حليا لَكُنْت عقدا

أَو كنت طيبا لَكُنْت ندّا)

(أَو كنت وقتا لَكُنْت صبحاً

أَو كنت نجماً لَكُنْت سَعْدا)

(أَو كنت غصناً لَكُنْت آساً

أَو كنت زهراً لَكُنْت وردا)

(وَكم طلبت السلو جهدي

لم أجد من هَوَاك بدّا)

وَله

(أَقُول لَهَا وَقد عرضت

فَكَانَت مُنْتَهى أملي)

ص: 25

(لَئِن أَصبَحت لاهية

فَإِنِّي مِنْك فِي شغل)

(وَلَا شغل سوى مَطْلِي

وليّ الْوَعْد بالعلل)

وَله يصف بركَة مَاء

(بركَة بِالْمَاءِ تطّرد

للصبا فِي متنها زرد)

(بَات فِي أحشائها قمر

مثل قلب الصبّ يرتعد)

116 -

إِدْرِيس بن يحيى الْعلوِي الحمّودي أَبُو رَافع ويلقب بالعالي

هُوَ إِدْرِيس بن يحيى بن عَليّ بن حمود بن أبي الْعَيْش مَيْمُون بن أَحْمد بن عَليّ بن عبد الله بن عمر بن إِدْرِيس بن إِدْرِيس بن عبد الله بن حسن بن حسن بن عَليّ بن أبي طَالب

أخرج من قرطبة مَعَ أَبِيه يحيى بعد خِلَافَته الأولى عِنْدَمَا خلعه البربر سنة ثَلَاث عشرَة وَأَرْبَعمِائَة وَاسْتقر فِي مالقة حَتَّى بُويِعَ لَهُ بالخلافة بمالقة

ص: 26

بعد أَبِيه يحيى المعتلي وَتسَمى بأمير الْمُؤمنِينَ وتلقب بالعالي ثمَّ خَلفه ابْن عَمه مُحَمَّد بن إِدْرِيس بن عَليّ بن حمود واعتقله ثمَّ عَاد ثَانِيَة إِلَى مالقة وَفِي ولَايَته يَقُول أَبُو مُحَمَّد غَانِم بن وليد المَخْزُومِي الأديب من أَبْيَات

(واستقبل الْملك إِمَام الْهدى

فِي أَربع بعد ثلاثينا)

(خلَافَة الله سمت نَحوه

وهوابن خمس بعد عشرينا)

(إِنِّي لأرجو يَا إِمَام الْهدى

أَن تملك الدُّنْيَا ثمانينا)

(لَا رحم الله امْرأ لم يقل

عِنْد دعائي لَك آمينا)

وَفِيه يَقُول أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن بن مقانا الأشبوني من قصيدته الْمَشْهُورَة الَّتِي يتداولها القوّالون لعذوبة ألفاظها وسلاستها

ص: 27

(وَكَأن الشَّمْس لما أشرقت

وانثنت عَنْهَا عُيُون الناظرين)

(وَجه إِدْرِيس بن يحيى بن عَليّ

بن حمود أَمِير الْمُؤمنِينَ)

(خطّ بالمسك على أبوابه

ادخلوها بِسَلام آمِنين)

(ملك ذُو هَيْبَة لكنه

خاشع لله رب الْعَالمين)

(وَإِذا مَا رفعت راياته

خَفَقت بَين جناحي جبرئين)

(وَإِذا أشكل خطب معضل

صرع الشكّ بمفتاح الْيَقِين)

(وَإِذا رَاهن فِي السَّبق أَتَى

وبيمناه لِوَاء السَّابِقين)

(يَا بني أَحْمد يَا خير الورى

بأبيكم كَانَ رفد الْمُسلمين)

(نزل الْوَحْي عَلَيْهِ فاحتبى

فِي الدجى فَوْقهم الرّوح الْأمين)

(خلقُوا من مَاء عدل وتقى

وَجَمِيع النَّاس من مَاء وطين)

وَأول هَذِه القصيدة

(ألبرق لائح من أندرين

ذرفت عَيْنَاك بالدمع الْمعِين)

(لعبت أسيافه عَارِية

كمخاريق بأيدي اللاعبين)

وَمِنْهَا

(ومصابيح الدّجى قد أطفئت

فِي بقايا من سَواد اللَّيْل جون)

(وَكَأن الطّلّ مسك فِي الثرى

وَكَأن النّور درّ فِي الغصون)

(والندى يقطر من نرجسه

كدموع أسلمتهنّ الجفون)

(والثريا علّقت فِي أفقها

كقضيب زَاهِر من ياسمين)

ص: 28

وَهَذَا من أحسن مَا قيل فِي تَشْبِيه الثريا

وَكَانَ إِدْرِيس هَذَا متناقض الْأُمُور كَانَ أرْحم النَّاس قلباً كثير الصَّدَقَة يتَصَدَّق كلّ يَوْم جُمُعَة بخمسائة دِينَار وردّ المطرودين إِلَى أوطانهم وَصرف إِلَيْهِم ضياعهم وأملاكهم وَلم يسمع بغياً فِي أحد من الرّعية وَكَانَ أديب اللِّقَاء حسن الْمجْلس يَقُول من الشّعْر الأبيات الحسان وَمَعَ هَذَا فَكَانَ لَا يصحب وَلَا يقرّب إِلَّا كل سَاقِط نذل وَلَا يحجب حرمه عَنْهُم وكل من طلب مِنْهُم حصناً أعطَاهُ إِيَّاه وسلّم وزيره ومدبر إِمَامَته وَصَاحب أَبِيه وجده مُوسَى بن عَفَّان إِلَى أَمِير صنهاجة فَقتله وَكَانَ الصنهاجي سَأَلَ ذَلِك مِنْهُ وَكتب إِلَيْهِ فِيهِ فَمَا أخبر إِدْرِيس مُوسَى بن عَفَّان بذلك وَبِأَنَّهُ لابد من تَسْلِيمه إِلَيْهِ قَالَ لَهُ افْعَل مَا تُؤمر ستجدني إِن شَاءَ الله من الصابرين وَهُوَ الْقَائِل بديهاً وَقد غنّى مَا لم يرضه فِي مدحه فَقَالَ للْمُغني أعد الصَّوْت وَقل

(إِذا ضَاقَتْ بك الدُّنْيَا

فعرّج نَحْو إدريسا)

(إِذا لاقيته تلقى

رَئِيسا لَيْسَ مرءوساً)

(إِمَام ماجد ملك

يزِيل الغمّ والبوسا)

هَؤُلَاءِ خَاتِمَة الأدباء من الْمُلُوك العلوية والمروانية لذهاب سلطانهم وانقراض ملكهم بالأندلس وَالْمغْرب فِي هَذِه الْمِائَة الْخَامِسَة واستيلاء الثوار على الأقطار

وفيهَا أَيْضا كَانَ انْقِرَاض الدولة العبيدية بإفريقية على يَدي الْمعز بن باديس الصنهاجي

وافترقت الْجَمَاعَة بالأندلس على رَأسهَا إِلَى وقتنا هَذَا وتسلّط العدوّ أثْنَاء ذَلِك فتحيّفها ثمَّ وَإِلَى مغاره وخساره حَتَّى أتلفهَا ونظمها فِي هَذِه الفترة ملك الْمغرب أَحْيَانًا وانفردت بالثائرين فِيهَا أَحْيَانًا وَفِي كل ذَلِك لم تقم

ص: 29

لَهَا قَائِمَة وَلَا أغنت عَنْهَا وَارِدَة وَلَا حائمة وَمَا بَرحت تخل بهَا وتؤذن بعطبها فَاتِحَة من فتنتها وخاتمة

ونعود إِلَى ذكر أُمَرَاء الْفِتْنَة

117 -

جهور بن مُحَمَّد بن جهور بن عبيد الله أَبُو الحزم رَئِيس قرطبة

قد تقدم ذكر جدّه أبي الحزم جهور بن عبيد الله وَالرَّفْع فِي نسبه وَكَانَ جدهم أَبُو أُميَّة عبد الغافر بن أبي عَبدة من وزراء عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة وَسَماهُ عِيسَى بن أَحْمد الرَّازِيّ فِي حجّاب هِشَام الرضي بن عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة قَالَ وَكَانَ من أهل الْخَيْر وَالدّين وَالْفضل وَهُوَ صَاحب الْخَاتم للْإِمَام هِشَام ولابنه الحكم يَعْنِي الرّبضي وسمّى أَيْضا فِي حجاب الحكم هَذَا عبد الْعَزِيز أَبَا عَبدة أَخا عبد الغافر

وَمَا زَالَ هَؤُلَاءِ الجهاورة يتعاقبون على الخطط السّنيَّة الشَّرِيفَة من الحجابة والوزارة والقيادة وَالْكِتَابَة إِلَى أَن وَقعت الْفِتْنَة الْعُظْمَى بالأندلس وَأول من أرّث نارها وأورث شنارها مُحَمَّد بن هِشَام بن عبد الْجَبَّار الْمهْدي فتناوب قصر قرطبة جمَاعَة من الأموية والعلوية فِي الْمدَّة الْقَرِيبَة آخِرهم هِشَام بن مُحَمَّد ابْن عبد الْملك بن عبد الرَّحْمَن النَّاصِر المعتدّ لم يكن عِنْدهم غناء وَلَا فقد بتوليتهم التواء وَلَا عناء وَحِينَئِذٍ استولى على الْأَمر بقرطبة دَار الْخلَافَة وقرارة الْملك أَبُو الحزم هَذَا الْأَخير زَمَانا الأول سُلْطَانا وَإِن كَانَ مَا فَارق رسم الوزارة وَلَا تحول عَن دَاره إِلَى قُصُور الْخُلَفَاء لَا تصافه بالرجاحة والدهاء

ص: 30

قَالَ ابْن حَيَّان وَذكر اجْتِمَاع الْمَلأ من أهل قرطبة على تَقْدِيمه أعْطوا مِنْهُ قَوس السياسة باريها وولوا من الْجَمَاعَة داهيتها فاخترع لَهُم لأوّل وقته نوعا من التَّدْبِير حملهمْ عَلَيْهِ فاقترن صَلَاحهمْ بِهِ وأجاد السياسة فانسدل بِهِ السّتْر على أهل قرطبة مدَّته وحصّل كل مَا يرْتَفع من الْبَلَد بعد إِعْطَاء مقاتلته وصيّر ذَلِك فِي أَيدي ثِقَات من الْخدمَة مشارفا لَهُم بضبطه فَإِن فضل شَيْء تَركه بِأَيْدِيهِم مثقفاً مشهوداً عَلَيْهِ لَا يتلبس لَهُم بِشَيْء مِنْهُ

وَمَتى سُئِلَ قَالَ لَيْسَ لي عَطاء وَلَا منع هُوَ للْجَمَاعَة وَأَنا أمينهم وَإِذا رابه أَمر عَظِيم أَو عزم على تَدْبِير أحضرهم وشاورهم وَإِذا خُوطِبَ بِكِتَاب لَا ينظر فِيهِ إِلَّا أَن يكون باسم الوزراء فَأعْطى السُّلْطَان حَقه من النّظر وَلم يخل مَعَ ذَلِك من نظره لمعيشته حَتَّى تضَاعف ثراؤه وَصَارَ لَا تقع عينه على أغْنى مِنْهُ حاط ذَلِك كلّه بالبخل الشَّديد وَالْمَنْع الْخَالِص اللَّذين لولاهما مَا وجد عائبه فِي طَعنا ولكمل لَو أَن بشرا يكمل

قَالَ وَكَانَ مَعَ براعته ورفعة قدره وتشييده لقديمه بحَديثه من أَشد النَّاس تواضعاً وعفة وأشبههم ظَاهرا بباطن وأولا بآخر لم تخْتَلف بِهِ حَال من الفتاء إِلَى الكهولة

وَاسْتمرّ فِي تَدْبيره قرطبة فأنجح سَعْيه بصلاحها ولمّ شعثها فِي الْمدَّة

ص: 31

الْقَرِيبَة وأثمر الثَّمَرَة الزكية ودب دَبِيب الشِّفَاء فِي السقام فنعش مِنْهَا الرفات وألحفها رِدَاء الْأَمْن ومانع عَنْهَا من كَانَ يطْلبهَا من أُمَرَاء البرابرة المتوزعين أسلابها بخفض الْجنَاح ومعاملة الرِّفْق حَتَّى حصل على سلمهم واستدرار مرافق بِلَادهمْ ودارى القاسطين من مُلُوك الْفِتْنَة حَتَّى حفظوا حَضرته وأوجبوا لَهَا حُرْمَة بمكابدته الشدائد حَتَّى ألانها بضروب احتياله فرخت الأسعار وَصَاح الرخَاء بِالنَّاسِ أَن هلموا فلبّوه من كل صقع فَظهر تزيّد النَّاس بقرطبة من أول تَدْبيره لَهَا وغلت الدّور وحرّكوا الْأَسْوَاق وتعجب ذَوُو التَّحْصِيل للَّذي أرى الله فِي صَلَاح النَّاس من الْقُوَّة ولمّا تعتدل حَال أَو يهْلك عَدو أوتقو جباية وَأمر الله تَعَالَى بَين الْكَاف وَالنُّون

وَقَالَ الْحميدِي لم يدْخل فِي أُمُور الْفِتَن قبل ذَلِك وَكَانَ يتصاون عَنْهَا

فَلَمَّا خلاله الجو وأمكنته الفرصة وثب عَلَيْهَا يَعْنِي قرطبة فَتَوَلّى أمرهَا واستضلع بحمايتها وَلم ينْتَقل إِلَى رُتْبَة الْإِمَارَة ظَاهرا بل دبرهَا تدبيراً لم يسْبق إِلَيْهِ وَجعل نَفسه ممسكاً للموضع إِلَى أَن يَجِيء مُسْتَحقّ يتَّفق عَلَيْهِ فَيسلم إِلَيْهِ

ورتّب البوابين والحشم على أَبْوَاب تِلْكَ الْقُصُور على مَا كَانَت عَلَيْهِ أَيَّام الدولة وَلم يتَحَوَّل من دَاره إِلَيْهَا وَجعل مَا يرْتَفع من الْأَمْوَال السُّلْطَانِيَّة بأيدي رجال رتّبهم لذَلِك وَهُوَ المشرف عَلَيْهِ وصيّر أهل الْأَسْوَاق جنداً وَجعل أَرْزَاقهم رُؤُوس أَمْوَال تكون بِأَيْدِيهِم محصاة عَلَيْهِم يَأْخُذُونَ ربحها فَقَط ورؤوس الْأَمْوَال بَاقِيَة مَحْفُوظَة يؤخذون بهَا ويراعون فِي الْوَقْت بعد الْوَقْت

ص: 32

كَيفَ حفظهم لَهَا وفرّق السِّلَاح عَلَيْهِم وَأمرهمْ بتفريقه فِي الدكاكين وَفِي الْبيُوت حَتَّى إِذا دهم أَمر فِي ليل أَو نَهَار كَانَ سلَاح كل وَاحِد مَعَه وَكَانَ يشْهد الْجَنَائِز وَيعود المرضى جَارِيا فِي طَريقَة الصَّالِحين وَهُوَ مَعَ ذَلِك يدبر الْأَمر بتدبير السلاطين المتغلبين وَكَانَ مَأْمُونا وقرطبة فِي أَيَّامه حريماً يَأْمَن فِيهِ كل خَائِف من غَيره إِلَى أَن مَاتَ فِي صفر وَقَالَ ابْن حيّان لَيْلَة الْجُمُعَة السَّادِسَة من محرم ثمَّ اتفقَا سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة

وَمن شعره وَكتب بِهِ إِلَى الْمَنْصُور مُحَمَّد بن أبي عَامر

(متع الله سَيِّدي بالسرور

وتولاه فِي جَمِيع الْأُمُور)

(وهنيئاً لَهُ بعزة دهر

تتوالي بظلّ تِلْكَ الْقُصُور)

(دَعْوَة أقبل الضَّمِير بنجواه

عَلَيْهَا لصفو مَا فِي الضَّمِير)

هَكَذَا وجدت هَذِه الأبيات منسوبة إِلَى جهور بن مُحَمَّد فِي كتاب مطمح الْأَنْفس لِلْفَتْحِ بن عبيد الله وَقد بيّنت غلطه فِيمَا نسب إِلَيْهِ مِمَّا ثَبت أَنه لجده جهور بن عبيد الله وَلغيره وَلَا يبعد أَن يهنيء الْمَنْصُور فِي آخر دولته لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ بل عَام وَفَاته كَانَ يشارف الثَّلَاثِينَ فِي سنّه وَلَعَلَّ هَذِه الأبيات على ضعفها لِأَبِيهِ أبي الْوَلِيد مُحَمَّد بن جهور بن عبيد الله الْوَزير فَإِنَّهُ كَانَ خاصّاً بالمنصور وَهُوَ الَّذِي أطلعه على أَمر جَعْفَر بن عَليّ الأندلسي صَاحب المسيلة وَاخْتِلَاف البربر إِلَيْهِ بقصر الْعقَاب وَاسْتَأْذَنَ على الْمَنْصُور فِي وَقت لم يكن يصل فِيهِ إِلَيْهِ أحد فَكسر رَائِحَة النَّبِيذ عَنهُ ووارى الْحرم وأصغى إِلَيْهِ وَقبل نصيحته فَقتل جَعْفَر على أثر ذَلِك

ص: 33

وَتوفى أَبُو الْوَلِيد سنة ثَلَاث وَسبعين وثلاثمائة ذكر ذَلِك ابْن حَيَّان فِي تَارِيخه الْكَبِير وصدّر بِهِ المتوفين فِي الدولة العامرية من الوزراء والخواصّ

وَلم ينشد الْحميدِي لأبي الحزم الْأَخير شعرًا وَأنْشد لِأَبِيهِ أبي الْوَلِيد هَذَا

(أبلغت فِي حبك أسماعي

فصرت لَا أصغي إِلَى الدَّاعِي)

(من صمم أورثنيه الأسى

وحرقة تشعل أوجاعي)

(كلفتني الصَّبْر وأنّى بِهِ

وَكَيف بِالصبرِ لمرتاع)

(جزعت فِي الْحبّ على أنني

فِي الْخطب جلد غير مجزاع)

وَسَيَأْتِي ذكر أبي الْوَلِيد مُحَمَّد بن جهور بن مُحَمَّد الَّذِي خلف أَبَاهُ فِي رئاسة قرطبة وتدبير أمرهَا إِلَى أَن قبض عَلَيْهِ الْمُعْتَمد مُحَمَّد بن عباد بعد هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى

118 -

مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن عبد اللَّخْمِيّ القَاضِي أَبُو الْقَاسِم

قَالَ أَبُو رَافع الْفضل بن عَليّ بن أَحْمد بن حزم فِي كِتَابه الموسوم بالهادي إِلَى معرفَة النّسَب الْعَبَّادِيّ هُوَ أَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد ذِي الوزارتين أبي الْوَلِيد إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن قُرَيْش بن عباد بن عَمْرو بن أسلم بن عَمْرو بن عطاف بن نعيم وعطاف وَضَبطه بِكَسْر الْعين وَتَخْفِيف الطَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ عَن غير أبي رَافع هُوَ الدَّاخِل مِنْهُم بالأندلس فِي طالعة بلج بن بشر الْقشيرِي وَقيل إِن عطافاً ونعيماً هما الداخلان مَعًا إِلَى الأندلس وَكَانَ عطاف من أهل حمص من صقع الشَّام لخميّ النّسَب صَرِيحًا وموضعه من حمص

ص: 34

الْعَريش والعريش فِي آخر الجفار بَين مصر وَالشَّام وَنزل بالأندلس بقرية يَوْمَيْنِ من إقليم طشانة من أَرض إشبيلية وعَلى ضفة نهرها الْأَعْظَم وَقَالَ غير أبي رَافع إِنَّهُم من ولد النُّعْمَان بن الْمُنْذر بن مَاء السَّمَاء وَبِذَلِك كَانُوا يفخرون ويمدحون وَهَذَا ابْن اللبانة يَقُول

(من بني الْمُنْذرين وَهُوَ انتساب

زَاد فِي فخره بَنو عباد)

(فتية لم تَلد سواهَا الْمَعَالِي

والمعالي قَليلَة الْأَوْلَاد)

وَقَالَ ابْن حيّان إِسْمَاعِيل بن عباد قاضيهم الْقَدِيم الْولَايَة وَرجل

ص: 35

الغرب قاطبة الْمُتَّصِل الرِّئَاسَة فِي الْجَمَاعَة والفتنة وَكَانَ أيسر من بالأندلس وقته ينْفق من مَاله وغلاّته لم يجمع درهما قطّ من مَال السُّلْطَان وَلَا خدمه وَكَانَ وَاسع الْيَد بالمشاركة آوى صنوف الجالية من قرطبة عِنْد احتدام الْفِتْنَة وَكَانَ مَعْلُوما بوفور الْعقل وسبوغ الْعلم والزكانة مَعَ الدهاء وَبعد النّظر وإصابة القرطسة

فَأَما ذُو الوزارتين أَبُو الْقَاسِم ابْنه فَأدْرك متمهلاً وسما بعد إِلَى بُلُوغ الْغَايَة فخلّط مَا شَاءَ وَركب الجرائم الصعبة وَكَانَ الْقَاسِم بن حمود قد اصطنعه بعد مهلك أَبِيه إِسْمَاعِيل ورد عَلَيْهِ مِيرَاثه من قَضَاء بَلَده بعد بعده عَنهُ مُدَّة وَحصل مِنْهُ بِمَنْزِلَة الثِّقَة فخانه تخوّن الْأَيَّام عِنْد إدبارها عَنهُ إيثاراً للحزم وطلباً للعافية وصدّه عَن إشبيلية بَلَده لما قَصده من قرطبة مفلولا

وَكَانَ الَّذِي وطّد لَهُ ذَلِك نفر من أكابرها المرتسمين بالوزارة مناغين فِي ذَلِك لوزراء قرطبة على تحميلهم لِابْنِ عباد كبر ذَلِك لإنافته عَلَيْهِم فِي الْحَال

ص: 36

وسعة النِّعْمَة وإحصائهم عَلَيْهِ ملك ثلث إشبيلية ضَيْعَة وغلة يخادعونه بذلك عَن نشبه إبْقَاء مِنْهُم على نعمهم وَهُوَ يَشْتَرِي بذلك أنفسهم وَلَا يَشْعُرُونَ إِلَى أَن وَقَعُوا فِي الهوة وَكَانُوا جمَاعَة مِنْهُم ولد أبي بكر الزبيدِيّ النَّحْوِيّ وَبَنُو يريم وَغَيرهم رَاض بهم الْأُمُور واستمال الْعَامَّة فَمَا توطأت لَهُ قبض أَيدي أَصْحَابه هَؤُلَاءِ وسما بِنَفسِهِ وَأسْقط جَمَاعَتهمْ

قَالَ وسلك سيرة أَصْحَاب المماليك الَّذين بالأندلس لأوّل وقته وَقَامَ بأصح عزم وَأَيْقَظَ جدّ واخترع فِي الرِّئَاسَة وُجُوهًا تقدم فِيهَا كثيرا مِنْهُم وامتثل رستم ابْن يعِيش صَاحب طليطلة من بَينهم فِي تمسكه بخطة الْقَضَاء وارتسامه

ص: 37

بهَا وأفعاله على ذَلِك أَفعَال الْجَبَابِرَة وَأَقْبل يضم الْأَحْرَار من كل صنف وَيَشْتَرِي العبيد وَالْجد يساعده والأمور تنقاد لَهُ إِلَى أَن سَاوَى مُلُوك الطوائف وَزَاد على أَكْثَرهم بكثافة سُلْطَانه وَكَثْرَة غلمانه فنفع الله بِهِ كَافَّة رَعيته ونجاهم من ملك البرابرة وَتوفى لليلة بقيت من جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَهُوَ الْقَائِل يفخر

(وَلَا بُد يَوْمًا أَن أسود على الورى

وَلَو رد عَمْرو للزمان وعامر)

(فَمَا الْمجد إِلَّا فِي ضلوعي كامن

وَلَا الْجُود إِلَّا من يَمِيني ثَائِر)

(فجيش الْعلَا مَا بَين جَنْبي جائل

وبحر الندى مَا بَين كفى زاخر)

وَله

(محبّ مَا يساعده الحبيب

رأى وَجه الْإِنَابَة لَو ينيب)

(ويبكي للصّبا إِذْ زَالَ عَنهُ

فيضحك فِي مفارقه المشيب)

(وَكم أحيت حشاشته أَمَان

يباعد بَينهَا الْأَجَل الْقَرِيب)

وَله فِي الياسمين

(وياسمين حسن المنظر

يفوق فِي المرأى وَفِي الْمخبر)

(كَأَنَّهُ من فَوق أغصانه

دَرَاهِم فِي مطرف أَخْضَر)

ص: 38

وَله فِيهِ

(يَا حبذا الياسمين إِذْ يزهر

فَوق غصون رطيبة نضّر)

(قد امتطى للجمال ذروتها

فَوق بِسَاط من سندس أَخْضَر)

(كَأَنَّهُ والعيون ترمقه

زمرد فِي خلاله جَوْهَر)

وَله فِي الظيان

(ترى نَاظر الظّيان فِي لون

إِذا مرّ مَاء السحائب يغتذي)

(وحفّت بِهِ أوراقه فِي رياضه

وَقد قدّ بعض مثل بعض وَقد حذى)

(كصغر من الْيَاقُوت يلمعن بالضحى

منضّدة من فَوق قضب الزمرد)

وَله فِيهِ

(كَأَن لون الظيّان حِين بدا

نوّاره أصفراً على ورقه)

(لون محبّ جفاه ذُو ملل

فاصفرّ من سقمه وَمن أرقه)

وَله فِي النيلوفر

(يَا حسن منظر ذَا النيلوفر الأرج

وَحسن مخبره فِي الفوج والأرج)

(كَأَنَّهُ جَام درّ فِي تألّقه

قد أحكموا وَسطه فصّا من السّبج)

119 -

ابْنه عباد بن مُحَمَّد المعتضد بِاللَّه أَبُو عَمْرو

قَالَ ابْن بسام فِي كِتَابه الموسوم ب الذَّخِيرَة فِي محَاسِن أهل الجزيرة تسمّى أَولا بفخر الدولة ثمَّ بالمعتضد قطب رحى الْفِتْنَة ومنتهى غَايَة المحنة

ص: 39

من رجل لم يثبت لَهُ قَائِم وَلَا حصيد وَلَا سلم عَلَيْهِ قريب وَلَا بعيد جَبَّار أبرم الْأَمر وَهُوَ متناقض وَأسد فرس الطّلى وَهُوَ رابض متهور تتحاماه الدهاة وجبار لَا تأمنه الكماة متعسف اهْتَدَى ومنبت قطع فَمَا أبقى ثار وَالنَّاس حَرْب وكل شَيْء عَلَيْهِ ألب فَكفى أقرانه وهم غير وَاحِد وَضبط شانه بَين قَائِم وقاعد حَتَّى طَالَتْ يَده واتسع بَلَده وَكثر عديده وعدده افْتتح أمره بقتل وَزِير أَبِيه حبيب طعنة فِي ثغر الْأَيَّام ملّك بهَا كفّه وجباراً من جبابرة الْأَنَام شرّد بهَا من خَلفه فاستمر يفري ويخلق وَأخذ يجمع وَيفرق لَهُ فِي كل نَاحيَة ميدان وعَلى كل رابية خوّان حربه سم لَا يبطىء وَسَهْم لَا يخطىء وَسلمهُ شَرّ غير مَأْمُون ومتاع إِلَى أدنى حِين

وَذكره ابْن حَيَّان فَقَالَ وَقد نعي إِلَيْهِ بقرطبة وعشيّ يَوْم الْأَحَد لستّ خلت لجمادى الْآخِرَة سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ يَعْنِي وَأَرْبَعمِائَة طرق قرطبة نعى المعتضد عباد زعيم جمَاعَة أُمَرَاء الأندلس فِي وقته أَسد الْمُلُوك وشهاب الْفِتْنَة وراحض الْعَار ومدرك الأوتار وَذُو الأنباء البديعة والجرائر الشنيعة والوقائع المبيرة والهمم الْعلية والسطوة الأبية فَرَمَاهُ الله بِسَهْم من مراميه المصمية أمدّ مَا كَانَ فِي اعتلائه وأرقى مَا كَانَ إِلَى سمائه وأطمع مَا كَانَ فِي الاحتواء على الجزيرة محتفزاً لَهَا عِنْد تشميره الذيل بفتنة لَا كفاء

ص: 40

لَهَا فتوفاه الله على فرَاشه من عِلّة ذبحة قَصِيرَة الأمد وحية الإجهاض اتّفقت الحكايات على أَنَّهَا كَانَت شبه البغت وَكَانَت ولَايَته بعد موت أَبِيه يَوْم الِاثْنَيْنِ غرَّة جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَقضى نحبه يَوْم السبت الثَّانِي من جُمَادَى الْآخِرَة سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَدفن عشيّ يَوْم الْأَحَد بعده تغمد الله خطاياه فَلَقَد حمل عَنهُ على مر الْأَيَّام فِي بَاب فرط الْقَسْوَة وَتجَاوز الْحُدُود والإبلاغ فِي الْمثلَة وَالْأَخْذ بالظّنة والإخفار للذمة حكايات شنيعة لم يبد فِي أَكْثَرهَا للْعَالم بصدقها دَلِيل يقوم عَلَيْهَا فَالْقَوْل ينشاع فِي ذكرهَا وَمهما برىء من مغبتها فَلم يبرأ من فظاعة السطوة وَشدَّة الْقَسْوَة وَسُوء الاتهام على الطَّاعَة سجايا من جبلّته لم يحاش فِيهِنَّ ذَوي رحم وَلَا غلبهن بحيلة

وَقد كَانَ تقيّل سيرة أحد بن أبي أَحْمد بن المتَوَكل آخر أشداء خلائف العباسيين الَّذِي ضمّ نشر المملكة بالمشرق وسطا بالمنتزين عَلَيْهَا وبفقده انْهَدَمت الدولة فَحمل عبّاد سمته المعتضدية وطالع بِفضل نظره أخباره السياسية الَّتِي أضحت عِنْد أهل النّظر أَمْثِلَة هادية إِلَى الاحتواء على أمد الرِّئَاسَة فِي صلابة الْعَصَا وشناعة السّطا فجَاء مِنْهَا بمهولات تذْعَر من سَمعهَا فضلا عَمَّن عاينها نسبوا إِلَى هَذَا الْأَمِير الشهم عبار امتثالها من غير دلَالَة وَلم يقصر فِي دولته الَّتِي مهدها فَوق أَطْرَاف الأسنة وصيرا أَكثر شغله فِيهَا شبّ الحروب وكياد الْمُلُوك وانهراج الْبِلَاد وإحراز التّلاد من توفّر حَظه من الْأُمُور الملوكية وَالْعدَد السُّلْطَانِيَّة والآلات الرياسية

ص: 41

وَمن نَادِر أخباره المتناهية فِي الغرابة أَن نَالَ بغيته وَأهْلك تِلْكَ الْأُمَم العاتية وَإنَّهُ لغَائِب عَن مشاهدتها مترفه عَن مكابدتها مدبّر فَوق أريكته منفذ لحيلها من جَوف قصره مَا مَشى إِلَى عدوّ أَو مغلوب من أَمْثَاله غير مرّة أَو مرَّتَيْنِ ثمَّ لزم عريسته يدبر داخلها أُمُوره جرّد نَهَاره لإبرام التَّدْبِير وأخلص لَيْلَة لتملّي السرُور فَلَا يزَال تدار عَلَيْهِ كؤوس الراح ويحيا عَلَيْهِ بِقَبض الْأَرْوَاح لَهُ فِي كل شان شوين وعَلى كل قلب سمع وَعين مَا إِن سبر أحد من دهاة رِجَاله غوره وَلَا أدْرك قَعْره وَلَا أَمن مكره لم يزل ذَلِك دأبة مُنْذُ ابْتِدَائه إِلَى انتهائه

قَالَ وَكَانَ عباد أُوتى من جمال الصُّورَة وَتَمام الْخلقَة وفخامة الهيأة وسباطة الْبُنيان وثقوب الذِّهْن وَحُضُور الخاطر وَصدق الْحس مَا فاق أَيْضا على نظرائه

وَنظر مَعَ ذَلِك فِي الْأَدَب قبل ميل الْهوى بِهِ إِلَى طلب السُّلْطَان أدنى نظر بأذكى طبع حصل مِنْهُ لثقوب ذهنه على قِطْعَة وافرة علقها من غير تعهد لَهَا وَلَا إمعان فِي غمارها وَلَا إكثار من مطالعتها وَلَا مُنَافَسَة فِي اقتناء صحائفها أَعطَتْهُ نتيجتها على ذَلِك مَا شَاءَ من تحبير الْكَلَام وقرض قطع من الشّعْر ذَات طلاوة فِي معَان أمدّته فِيهَا الطبيعة وَبلغ مِنْهَا الْإِرَادَة واكتتبها الأدباءللبراعة

جمع هَذِه الْخلال الظَّاهِرَة والباطنة إِلَى جود كفّ باري السَّحَاب وأخبار عبّاد فِي جَمِيع أَفعاله وضروب أنحائه عالناته وخافياته غَرِيبَة بعيدَة

ص: 42

وَكَانَ على تجرّده فِي إحكام التَّدْبِير لسلطانه ذَا كلف بِالنسَاء فاستوسع فِي اتخاذهن وخلّط فِي أجناسهن فَانْتهى فِي ذَلِك إِلَى مدى لم يبلغهُ أحد من نظرائه فَقيل إِنَّه خلف من صنوفهن السّريريّات خَاصَّة نَحوا من سبعين جَارِيَة إِلَى حرّته الحظيّة لَدَيْهِ الفذّة من حلائله بنت مُجَاهِد العامري أُخْت عَليّ بن مُجَاهِد أَمِير دانية فَفَشَا نسل عباد لتوسّعه فِي النِّكَاح وقوته عَلَيْهِ

وَقَالَ غير ابْن حيّان افتض ثَمَانمِائَة بكر وَفِي موت المعتضد يَقُول أَبُو الْوَلِيد بن زيدون وَلم يظهره سُرُورًا بذلك واستراحة مِنْهُ لِأَنَّهُ كَانَ غير مَأْمُون على الدِّمَاء وَلَا حَافظ لحُرْمَة الْأَوْلِيَاء

(لقد سرّني أنّ النّعيّ موكّل

بطاغية قد حمّ مِنْهُ حمام)

(تجانب صوب الْغَيْث عَن ذَلِك الصدا

ومرّ عَلَيْهِ المزن وَهُوَ جهام)

وَمن شعره وَقد جمعه ابْن أَخِيه إِسْمَاعِيل فِي ديوَان

(حميت ذمار الْمجد بَال // بيض والسّمر

وقصّرت أَعمار العداة على قسر)

(ووسّعت سبل الْجُود طبعا وصنعة

لِأَشْيَاء فِي العلياء ضَاقَ بهَا صَدْرِي)

(فَلَا مجد للْإنْسَان مَا كَانَ ضدّه

يُشَارِكهُ فِي الدَّهْر بِالنَّهْي وَالْأَمر)

وَله

(رعى الله حالينا حَدِيثا وماضيا

وَإِن كنت قد جردت عزمي مَاضِيا)

(فَمَا لليالي لَا تزَال ترومني

ويرمين مني صائب السهْم قَاضِيا)

(وَقد علمت أنّ الخطوب تطوعني

وَمَا زلت من لبس الدنيّات عَارِيا)

(أجدد فِي الدُّنْيَا ثيابًا جَدِيدَة

يجدد مِنْهَا الْجُود مَا كَانَ بَالِيًا)

ص: 43

(فَمَا مرّ بِي بخل يخاطر مهجتي

وَلَا مرّ بخل النَّاس قطّ بباليا)

(أَلا حبذا فِي الْمجد إِتْلَاف طارفي

وبذلي عِنْد الْحَمد نَفسِي وماليا)

وَله

(لقد بسط الله المكارم من كفيّ

فلست على العلات عَنْهَا أَخا كفّ)

(تنادي بيُوت المَال من فرط بذلها

يَمِيني قد أسرفت ظالمتي كفّي)

(فتغري يَمِيني بالسّماح فتنهمي

وَلَا تَرْتَضِي خلاّ يَقُول لَهَا: يَكْفِي

لعمرك مَا الْإِسْرَاف فيّ طبيعة

ولكنّ طبع الْبُخْل عِنْدِي كالحتف)

وَله

(يصبّرني أهل الْمَوَدَّة دائبا

وَإِن فُؤَادِي والإله صبور)

(أغار على مغنى الرِّئَاسَة إِنَّنِي

على كلّ حسن فِي الزَّمَان غيور)

(أصرّف ذهني فِي أُمُور جليلة

وَأعلم أنّ الدائرات تَدور)

وَله

(أقوم على الْأَيَّام خير مقَام

وأوقد فِي الْأَعْدَاء شرّ ضرام)

(وَأنْفق فِي كسب المحامد مهجتي

وَلَو كَانَ فِي الذّكر الْجَمِيل حمامي)

(وأبلغ من دنياي نَفسِي سؤلها

وأضرب فِي كلّ الْعلَا بسهامي)

(إِذا فَضَح الْأَمْلَاك نقصا فَإِنَّهُ

يبيّنه عِنْد الْأَنَام تمامي)

وَله

(عَن الْقَصْد قد جاروا وَمَا جرت عَن قصدي

إِذا خفيت طرق الفرائس عَن أَسد)

(إِذا اعْترضُوا للبخل أَعرَضت عَنْهُم

وَإِن منّ أَقوام كتمت الَّذِي أسدى)

ص: 44

(فَللَّه مَا أُخْفِي من الْعدْل والنّدى

وَللَّه مَا أبدي من الْفضل وَالْمجد)

(وَلَا ألتقي ضَيْفِي بِغَيْر بشاشة

إِذا فَجحدت الله مَعْرُوفَة عِنْدِي)

وَله

(أَنَام وَمَا قلبِي عَن الْمجد نَائِم

وإنّ فُؤَادِي بالمعالي لهائم)

(وَإِن قعدت بِي عِلّة عَن طلابها

فإنّ اجتهادي فِي الطلاب لدائم)

(يعز على نَفسِي إِذا رمت رَاحَة

براح فتثنيني الطباع الكرائم)

(وأسهر ليلِي مفكراً غير طاعم

وغيري على العلات شبعان نَائِم)

(يُنَادي اجتهادي إِن أحسّ بفترة

أَلا أَيْن يَا عبّاد تِلْكَ العزائم)

(فتهتز آمالي وتقوي عزيمتي

وتذكرني لذاتهنّ الهزائم)

وَله

(زهر الأسنة فِي الهيجا غَدَتْ زهري

غرست أشجارها مستجزل الثّمر)

(مَا إِن ذكرت لَهَا من معرك جلل

إِلَّا تجلّلته بالصارم الذّكر)

(حَتَّى غَدَوْت وأعدائي تخاطبني

يَا قَاتل النَّاس بالأجناد والفكر)

وَله

(هذي السَّعَادَة قد قَامَت على قدم

وَقد جَلَست لَهَا فِي مجْلِس الْكَرم)

(فَإِن أردْت إلهي بالورى حسنا

فملكني زمَان الْعَرَب والعجم)

(فإنني لَا عدلت الدَّهْر عَن حسن

وَلَا عدلت بهم عَن أكْرم الشيم)

(أقارع الدَّهْر عَنْهُم كلّ ذِي طلب

وَأطْرد الدَّهْر عَنْهُم كلّ مَا عدم)

ص: 45

وَله

(وَإِذا توعّرت المسالك لم أرد

فِيهَا السّرى إِلَّا بِرَأْي مقمر)

(وَإِذا طلبت عَظِيمَة فمفاتحي

فِيهَا الْعَزِيمَة والسّنان السّمهري)

وَله

(لعمرك إِنِّي بالمدامة قوّال

وَإِنِّي لما يهوي النّدامى لفعّال)

(قسمت زماني بَين كدّ وراحة

فللرأي أسحار وللطّيب آصال)

(فأمسي على اللَّذَّات وَاللَّهْو عاكفاً

وأضحي بساحات الرِّئَاسَة أختال)

(وَلست على الإدمان أغفل بغيتي

من الْمجد إِنِّي فِي الْمَعَالِي لمحتال)

وَله يُخَاطب أَبَاهُ القَاضِي أَبَا الْقَاسِم وَقد عتب عَلَيْهِ

(أطعتك فِي سري وجهري جاهداً

فَلم يَك لي إِلَّا الملام ثَوَاب)

(وأعملت جهدي فِي رضاك مشّمراً

وَمن دون أَن أفضي إِلَيْهِ حجاب)

(وَمَا كبا جدّي إِلَيْك وَلم يسغْ

لنَفْسي على سوء الْمقَام شراب)

(وقلّ اصْطِبَارِي حِين لَا لي عنْدكُمْ

من الْعَطف إِلَّا قسوة وعتاب)

(فَرَرْت بنفسي أَبْتَغِي فُرْجَة لَهَا

على أَن حُلْو الْعَيْش بعْدك صاب)

(وَمَا هزني إِلَّا رَسُولك دَاعيا

فَقلت أَمِير الْمُؤمنِينَ مجاب)

(فَجئْت أغذّ السّير حَتَّى كَأَنَّمَا

يطير بسرجي فِي الفلاة عِقَاب)

(وَمَا كنت بعد الْبَين إِلَّا موطناً

بعزمي على أَن لَا يكون إياب)

(وَلَكِنَّك الدُّنْيَا على حَبِيبَة

فَمَا عَنْك لي إِلَّا إِلَيْك ذهَاب)

(أصب بِالرِّضَا عني مسرّة مهجتي

وَإِن لم يكن فِيمَا أتيت صَوَاب)

(وفضلك فِي ترك الملام فَإِنَّهُ

وحقّك فِي قلبِي ظَبْي وحراب)

(إِذا كَانَت النّعمى تكدّر بالأذى

فَمَا هِيَ إِلَّا محنة وَعَذَاب)

(وَلَا تقبضن بِالْمَنْعِ كفي فَإِنَّهُ

وجدّك نقض للعلا وخراب)

ص: 46

(فكلّ نوال لي إِلَيْك انتسابه

وَأَنت عَلَيْهِ بالثناء مثاب)

(بقيت مكين الْأَمر مَا ذرّ شارق

وَمَا لَاحَ فِي أفق السَّمَاء ربَاب)

وَله إِلَى صهره مُجَاهِد العامري

(عرفت عرف الصّبا إِذْ هبّ عاطره

من أفق من أَنا فِي قلبِي أشاطره)

(أَرَادَ تَجْدِيد ذكرَاهُ على شحط

وَمَا تيقّن أَنى الدَّهْر ذاكره)

(قصاره قَيْصر ان قَامَ مفتخراً

لله أَوله مجداً وَآخره)

(خلّى أَبَا الْجَيْش هَل يقْضى اللِّقَاء لنا

فيشتفي مِنْك طرف أَنْت ناظره)

(شطّ المزار بِنَا وَالدَّار دانية

يَا حبذا الفال لَو صحّت زواجره)

وَله أَيْضا

(أَتَرَى اللِّقَاء كَمَا نحب يوفّق

فنظل نصبح بالسرور وتغبق)

(أفدي أَبَا الْجَيْش الموفّق إِنَّه

للمكرمات ميسّر وموفّق)

(باهي بِهِ الزَّمن البهيّ كَأَنَّهُ

بشر على وَجه الزَّمَان ورونق)

(ملك إِذا فَهُنَا بِطيب ثنائه

ظلت لَهُ أفواهنا تتمطّق)

(حسب الرِّئَاسَة أَن عدت مزادنة

بسناه فَهُوَ التَّاج وَهِي المفرق)

وَله فِي النسيب

(يجور على قلبِي هوى وَيُجِير

ويأمرني إِن الحبيب أَمِير)

(أغار عَلَيْهِ من لحاظي صِيَانة

وأكرمه إِن المحبّ غيور)

(أخفّ على لقيا الحبيب وإنني

لعمرك فِي جلّى الْأُمُور وقور)

وَله

(رعى الله من يُصَلِّي فُؤَادِي بحبه

سعيراً وعيني مِنْهُ فِي جنَّة الْخلد)

ص: 47

(غزاليّة الْعَينَيْنِ شمسيّة السّنا

كثيبيّة الرّدفين غصنيّة الْقد)

(شَكَوْت إِلَيْهِ حبّها بمدامعي

وأعلمتها مَا قد لقِيت من الوجد)

(فصادف قلبِي قَلبهَا وَهُوَ عَالم

فأعدي وَذُو الشوق المبرّح قد يعدي)

(فجادت وَمَا كَادَت على بخدها

وَقد يَنْبع المَاء النمير من الصّلد)

(فَقلت لَهَا هَاتِي ثناياك إِنَّنِي

أفضّل نوّار الأقاحي على الْورْد)

(وميلي على جسمي بجسمك فانثنت

تعيد الَّذِي أمّلت مِنْهَا كَمَا تبدي)

(عنَاقًا ولثماً أرّثاً الشوق بَيْننَا

فُرَادَى ومثنى كالشرار من الزّند)

(فيا سَاعَة مَا كَانَ أقصر وَقتهَا

لديّ تقضّت غير مذمومة الْعَهْد)

وَله

(تنام ومدنفها يسهر

وتصبر عَنهُ وَلَا يصبر)

(لَئِن دَامَ هَذَا وَهَذَا بِهِ

سيهلك وجدا وَلَا يشْعر)

وَله

(يَا قمراً قلبِي لَهُ مطلع

وشادناً فِي مهجتي يرتع)

(وَالله مَا أطمع فِي الْعَيْش مذ

أَصبَحت فِي وصلك لَا أطمع)

(لَيْت كَمَا يرتع فِي مهجتي

أَنى فِي ريقته أكرع)

ص: 48

وَله

(يطول عليّ الدَّهْر مَا لم ألاقها

وَيقصر إِن لاقيتها أطول الدَّهْر)

(لَهَا غرّة كالبدر عِنْد تَمَامه

، صدغا عبير نمّقا صفحة الْبَدْر)

(وقدّ كَمثل الْغُصْن مَالَتْ بِهِ الصِّبَا

يكَاد لفرط اللين ينقدّ فِي الخصر)

(وَمَشى كَمَا جَاءَت تهادى غمامة

وَلَفظ كَمَا انحلّ النظام عَن الدّرّ)

وَله، وَهُوَ من جيد شعره

(شربنا وجفن اللَّيْل يغسل كحله

بِمَاء الصَّباح والنسيم رَقِيق)

(معتّقة كالتّبر أما بخارها

فضخم وَأما جسمها فدقيق)

وَله فِي الياسمين

(كَأَنَّمَا ياسميننا الغضّ

كواكب فِي السَّمَاء تبيضّ)

(والطّرق الْحمر فِي جوانبه

كخد عذراء مَسّه عضّ)

وَله وَأنْشد على مِنْبَر مالقة ودعي لَهُ بهَا وبخمسة وَعشْرين حصناً من حصونها جُمُعَة وَاحِدَة

(عتادي أجر مَا أوليت فيهم

من الفتكات بكر أَو عوان)

(وحسبي فِي سَبِيل الله موت

يكون ثَوَابه دَار الْجنان)

وَهَذَا مثل قَوْله عِنْدَمَا ظفر بحصن رندة من أَبْيَات كَانَ يعجب بهَا وَيَأْخُذ النَّاس بحفظها

(سأفنى مُدَّة الْأَعْدَاء

إِن طَالَتْ بِي المدّة)

(وتبلى بِي ضلالتهم

لِيَزْدَادَ الْهدى جده)

ص: 49

(فكم من عدَّة قتلت

مِنْهُم بعْدهَا عدّة)

(نظمت رؤوسهم عقدا

فحلّت لبة الشده)

وَكَانَت لَهُ خزانَة أكْرم لَدَيْهِ من خزانَة جَوْهَر فِي جَوف قصره أودعها هام الْمُلُوك الَّذين أبادهم بِسَيْفِهِ مِنْهَا رَأس مُحَمَّد بن عبد الله البرزالي ورؤوس الحجّاب ابْن خزرون وَابْن نوح وَغَيرهم الَّذين قرن الله رؤوسهم بِرَأْس إمَامهمْ الْخَلِيفَة يحيى بن عَليّ بن حمّود وَكَانَ الَّذِي يغريه بطلبهم أَن بعض الراصدين مولده أخبر أَن انْقِضَاء دولته يكون على أَيدي قوم يطرأون على الجزيرة من غير سكانها فَكَانَ لَا يشك أَنهم تِلْكَ البرازلة الطارئون عَلَيْهَا على عهد

ص: 50

ابْن أبي عَامر فأعمل فِي نكالهم وُجُوه سياسته وَاتفقَ أَن دخل عَلَيْهِ يَوْمًا بعض وزرائه وَبَين يَدَيْهِ كتاب قد أَطَالَ فِيهِ النّظر فَإِذا كتاب سقّوت المنتزي

ص: 51

يَوْمئِذٍ بسبتة يذكر أَن الملثمين المدعوين بالمرابطين قد وصلت مقدمتهم رحبة مراكش فَأخذ الْوَزير يهون أَمرهم ويخبر أَن دونهم اللّجج والمهامة فَقَالَ لَهُ المعتضد هُوَ وَالله الَّذِي أتوقعه وأخشاه وَإِن طَالَتْ بك حَيَاة فستراه اكْتُبْ إِلَى فلَان يعْنى عَامله على الجزيرة بِحِفْظ جبل طَارق حَتَّى يَأْتِيهِ أَمْرِي فَقضى أَن خلعوا وَلَده وقرضوا أمره

120 -

ابْنه مُحَمَّد بن عباد الْمُعْتَمد على الله

ويلقب أَيْضا بالظافر وبالمؤيدأبو الْقَاسِم

بُويِعَ لَهُ بالإمارة بعد أَبِيه المعتضد إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة

قَالَ ابْن حيّان وَذكر المعتضد عباد بن مُحَمَّد هَلَكت لَهُ بنت أثيرة لَدَيْهِ أبدى لَهَا حزنا شَدِيدا امتثله أهل مَمْلَكَته فِي إِظْهَاره وَحضر خواصّهم شُهُود جنازتها بداخل قصره عَشِيَّة الْجُمُعَة غرَّة جُمَادَى الأولى يَعْنِي من سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة فاستنفروا فِي تعزيته فَلَمَّا انفضّوا شكا ألماً بِرَأْسِهِ من زكام ثقيل انصبّ عَلَيْهِ فهدّه وأحضر لَهُ طبيبه وَقد ازْدَادَ

ص: 52

قلعة وَأنكر نَفسه فغصّ عَلَيْهِ بهجمة من دَمه وَأَشَارَ بتسريح شَيْء مِنْهُ فَرَأى تَأْخِير ذَلِك إِلَى غَد يَوْمه وَأمسى لَيْلَة السبت وَقَضَاء الله قد حاق بِهِ بخنق مزعج أغصّه بريقه وَمنعه الْكَلَام فَقضى نحبه يَوْم السبت وَعلا النوح من قصره بحينه فَلم ينكتم مَوته حينا لشهود خَلِيفَته وقائد جيوشه وحامل كَلمته المرشح لمكانه مُحَمَّد بن عباد المتسمي الظافر الْمُؤَيد بِاللَّه فاستقرت دولته ليومها وَأَلْقَتْ مراسيها وَقَامَ فِي جهاز وَالِده ومواراته فدفنه بداخل قصره وَفِي تربة أَبِيه القَاضِي مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل وَتَوَلَّى الصَّلَاة عَلَيْهِ فِي جمَاعَة الأشهاد من أهل مَمْلَكَته وَذَلِكَ عشيّ يَوْم الْأَحَد لثلاث خلون من جُمَادَى الْأَخِيرَة

وأفضى الْأَمر إِلَى وَلَده وَهُوَ فِي ريعان شبابه وَكَمَال جماله ابْن تسع وَعشْرين سنة وشهرين وَأَيَّام زَائِدَة مولده فِي الْعشْر الْأُخَر من شهر ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَقَالَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن أبي الْوَلِيد بن زيدون مولده سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو بكر بن اللبّانة

قَالَ ابْن حيّان وَكَانَت سنّ عبّاد سبعا وَخمسين سنة وَثَلَاثَة شهور وَتِسْعَة أَيَّام تأقيتاً من مولده يَوْم الثُّلَاثَاء لسبع بَقينَ من صفر سنة سبع وَأَرْبَعمِائَة إِلَى وَفَاته يَوْم السبت لليلتين خلتا من جُمَادَى الْأَخِيرَة وَمُدَّة إمارته مِنْهَا من يَوْم بيعَته بوفاة وَالِده يَوْم الِاثْنَيْنِ غرَّة جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ ثَمَان وَعِشْرُونَ سنة ويومان

ويحكى عَن المعتضد خبر غَرِيب فِي تطيّره عِنْد انصرام أَيَّامه وَبَين يَدي هجوم حمامه وَهُوَ انْعِقَاد نِيَّته على استحضار مغن يَجْعَل مَا يَبْتَدِئ بِهِ فألا فِي

ص: 53

أمره وَقد استشعر انْقِرَاض ملكه وحلول هلكه فَأرْسل فِي الصّقلّي الْمُغنِي وَكَانَ قد قدم عَهده بِهِ فأجلسه وأنّسه وَأمره بِالْغنَاءِ فغنى

(نطوي اللَّيَالِي علما أَن ستطوينا

فشعشعيها بِمَاء المزن واسقينا)

غنّى من ذَلِك خَمْسَة أَبْيَات ولخمسة أَيَّام مَاتَ

وَفِي وَفَاة المعتضد عبّاد وَقيام ابْنه الْمُعْتَمد مُحَمَّد يَقُول أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد الْغَنِيّ الحصري الكفيف

(مَاتَ عباد وَلَكِن

بقى الْفَرْع الْكَرِيم)

(فكأنّ الْمَيِّت حيّ

غير أنّ الضَّاد مِيم)

وَكَانَ الْمُعْتَمد من الْمُلُوك الْفُضَلَاء والشجعان الْعُقَلَاء والأجواد الأسخياء المأمونين عفيف السَّيْف والذيل مُخَالفا لِأَبِيهِ فِي الْقَهْر والسفك وَالْأَخْذ بِأَدْنَى سِعَايَة رد جمَاعَة مِمَّن نفى أَبوهُ وسكّن وَمَا نفّر وَأحسن السِّيرَة وَملك فَأَسْجِحْ إِلَّا أَنه كَانَ مُولَعا بِالْخمرِ منغمساً فِي اللَّذَّات عاكفاً على البطالة مخلداً إِلَى الرَّاحَة فَكَانَ ذَلِك سَبَب عطبه وأصل هَلَاكه

وَمِمَّا يُؤثر من فضائله ويعد فِي زهر مناقبه استعانته على الرّوم بِملك الْمغرب

ص: 54

حِينَئِذٍ وَهُوَ يُوسُف بن تاشفين وسعيه فِي استقدامه وجده فِي ملاقاة الطاغية ملك النَّصَارَى والإيقاع بِهِ بالموضع الْمَعْرُوف بالزلاّقة فِي رَجَب سنة تسع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة وبدخول اللمتونيين إِذْ ذَاك الأندلس تسببوا إِلَى خلعه مَعَ مَعْرفَته بحسدهم لَهُ وانعكاس نَصرهم إِيَّاه خذلاناً وقهراً وتنبيه وزرائه على مَا كَانَ مِنْهُم قبل استجاشتهم والاسنتصار بهم فآثر الدّين على الدُّنْيَا وأنف لِلْإِسْلَامِ من الاصطلام وَتمّ فِيهِ قَضَاء الله فخلعوه بعد حصاره مُدَّة يَوْم الْأَحَد لإحدى وَعشْرين لَيْلَة خلت من رَجَب سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَاحْتَمَلُوهُ وَأَهله إِلَى الْمغرب وأسكنوه أغمات وَبهَا مَاتَ والمقدور كَائِن وَكَانَت وَفَاته فِي شهرربيع الأول سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ على حَال يوحش سماعهَا فضلا عَن مشاهدتها وَهَذَا بعد أَن خلع عَن ثَمَانمِائَة امْرَأَة أُمَّهَات الْأَوْلَاد وجواري مُتْعَة وإماء تصرّف ورزق من النَّاس حبّاً وَرَحْمَة فهم يبكونه إِلَى الْيَوْم

وَكَانَ لَهُ فِي الْأَدَب بَاعَ وسباع ينظم وينثر وَفِي أَيَّامه نفقت سوق الأدباء فتسابقوا إِلَيْهِ وتهافتوا عَلَيْهِ وشعره مدوّن مَوْجُود بأيدي النَّاس وَلم يَك فِي مُلُوك الأندلس قبله أشعر مِنْهُ وَلَا أوسع مَادَّة وَهُوَ الْقَائِل فِي صباه بديهة وَقد سمع الْأَذَان لبَعض الصَّلَوَات

(هَذَا الْمُؤَذّن قد بدا بأذانه

يَرْجُو الرِّضَا وَالْعَفو من رحمانه)

(طُوبَى لَهُ من نَاطِق بِحَقِيقَة

إِن كَانَ عقد ضَمِيره كلسانه)

وَله يصف ترسا لازوردي اللَّوْن مطوقاً بِالذَّهَب فِي وَسطه مسامير مذهبَة وَيُقَال إِن أَبَاهُ المعتضد أمره بوصفه فَقَالَ بديها

ص: 55

(مجنّ حكى صانعوه السَّمَاء

لتقصر عَنهُ طوال الرماح)

(وصاغوا مِثَال الثريا عَلَيْهِ

كواكب تقضى لنا بالنجاح)

(وَقد طوّقوه بذوب النّضار

كَمَا جلّل الْأُفق ضوء الصَّباح)

وَله يستعطف أَبَاهُ المعتضد لما فرّط فِي أَمر مالقة وخذله أَصْحَابه فَأخْرج مِنْهَا ولجأ إِلَى رندة فَأَقَامَ بهَا مُدَّة تَحت موجدة أَبِيه

(سكّن فُؤَادك لَا تذْهب بك الْفِكر

مَاذَا يُعِيد عَلَيْك البثّ والحذر)

(وازجر جفونك لَا ترض الْبكاء لَهَا

واصبر فقد كنت عِنْد الْخطب تصطبر)

(فَإِن يكن قدر قد عَاق عَن وطر

فَلَا مردّ لما يَأْتِي بِهِ الْقدر)

(وَإِن تكن خيبة فِي الدَّهْر وَاحِدَة

فكم غزوت وَمن أشياعك الظّفر)

(إِن كنت فِي حيرة عَن جرم مجترم

فَإِن عذرك فِي ظلمائها قمر)

(فوّض إِلَى الله فِيمَا أَنْت خائفة

وثق بمعتضد بِاللَّه يغْتَفر)

(وَلَا يروعنك خطب إِن عدا زمن

فَالله يدْفع والمنصور ينتصر)

(واصبر فَإنَّك من قوم أولى جلد

إِذا أَصَابَتْهُم مَكْرُوهَة صَبَرُوا)

(من مثل قَوْمك من مثل الْهمام أبي

عَمْرو أَبِيك لَهُ مجد ومفتخر)

ص: 56

(سميدع يهب الآلاف مبتدئاً

ويستقلّ عطاياه ويحتقر)

(لَهُ يَد كلّ جَبَّار يقبّلها

لَوْلَا نداها لقلنا إِنَّهَا الْحجر)

(يَا ضيغماً يقتل الْأَبْطَال مفترساً

لَا توهننّي فَإِنِّي الناب والظّفر)

(وفارساً تحذر الأقران صولته

صن حدّ عَبدك فَهُوَ الصارم الذّكر)

(هُوَ الَّذِي لم تشم يمناك صفحته

إِلَّا تأتّي مُرَاد وانقضى وطر)

(قد أخلفتني ظروف أَنْت تعلمهَا

وغال مورد آمالي بهَا كدر)

(فَالنَّفْس جازعة وَالْعين دامعة

وَالصَّوْت منخفض والطّرف منكسر)

(قد حلت لوناً وَمَا بالجسم من سقم

وشبت رَأْسا وَلم يبلغنِي الْكبر)

(ومت إِلَّا ذماء فيّ يمسِكهُ

أَنِّي عهدتك تَعْفُو حِين تقتدر)

(لم يَأْتِ عَبدك ذَنبا يسْتَحق بِهِ

عتباً وَهَا هُوَ قد ناداك يعْتَذر)

(مَا الذَّنب إِلَّا على قوم ذَوي دغل

وَفِي لَهُم عفوك الْمَعْهُود إِذْ غدروا)

(قوم نصيحتهم غشّ وحبهم

بغض ونفعهم إِن صرّفوا ضَرَر)

(تميز الغيظ فِي الْأَلْفَاظ إِن نطقوا

وتعرف الحقد فِي الألحاظ إِن نظرُوا)

(إِن يحرق الْقلب نبز من مقالهم

فَإِنَّمَا ذَاك من نَار القلى شرر)

(أجب نِدَاء أخي قلب تملّكه

أسى وَذي مقلة أودي بهَا سهر)

(لم أوت من زمني شَيْئا ألذّ بِهِ

فلست أعرف مَا كأس وَلَا وتر)

(وَلَا تملّكني دلّ وَلَا خفر

وَلَا تمرّس بِي غنج وَلَا حور)

ص: 57

(رضاك رَاحَة نَفسِي لَا فجعت بِهِ

فَهُوَ العتاد الَّذِي للدهر أدّخر)

(وَهُوَ المدام الَّتِي أسلو بهَا فَإِذا

عدمتها وقدت فِي قلبِي الْفِكر)

(أجل ولي رَاحَة أُخْرَى كلفت بهَا

نظم الكلى فِي القنا والهام تبتدر)

(كم وقْعَة لَك فِي الْأَعْدَاء وَاضِحَة

تفنى اللَّيَالِي وَلَا يفنى بهَا الْخَبَر)

(سَارَتْ بهَا العيس فِي الْآفَاق فانتشرت

فَلَيْسَ فِي كل حيّ غَيرهَا سمر)

(مَا تركى الْخمر عَن زهد وَلَا ورع

فَلم يُفَارق لعمري سنّي الصّغر)

(وَإِنَّمَا أَنا ساع فِي رضاك فَإِن

أخفقت فِيهِ فَلَا يفسح لي الْعُمر)

(إِلَيْك رَوْضَة فكري جاد منبتها

ندى يَمِينك لَا ظلّ وَلَا مطر)

(جعلت ذكرك فِي أرجائها زهراً

فَكل أَوْقَاتهَا للمجتنى سحر)

وَذكر أَبُو بكر مُحَمَّد بن عِيسَى بن مُحَمَّد اللَّخْمِيّ الداني الْمَعْرُوف بِابْن اللبانة أَن رجلا من أهل إشبيلية كَانَ يحفظ هَذَا الشّعْر فِي ذَلِك الأمد ثمَّ خرج مِنْهَا لنِيَّة مِنْهُ إِلَى أقْصَى حيّ فِي الْعَرَب فأوى إِلَى خيمة من خيماتهم ولاذ بِذِمَّة رَاع من رعاتهم فَلَمَّا توَسط الْقَمَر فِي بعض اللَّيَالِي وهجع السامر تذكر الدولة العبّادية ورونقها فَطَفِقَ ينشد القصيدة بِأَحْسَن صَوت وأشجاه فَمَا أكملها حَتَّى رفع رواق الْخَيْمَة الَّتِي أَوَى إِلَيْهَا عَن رجل وسيم ضخم تدل سِيمَا فَضله على أَنه سيد أَهله قَالَ يَا حضريّ حيّاك الله لمن هَذَا الْكَلَام الَّذِي أعذوذب مورده واخضوضل منبته وتحلّت بقلادة الْحَلَاوَة بكره وهدر بشقشقة

ص: 58

الجزالة بكره فَقَالَ هُوَ لملك من مُلُوك الأندلس يعرف بِابْن عبّاد فَقَالَ الْعَرَبِيّ أَظن هَذَا الْملك لم يكن لَهُ من الْملك إِلَّا حَظّ يسير وَنصِيب حقير ممثل هَذَا الشّعْر لَا يَقُوله من شغل بشئ دونه فعرّفه الرجل بِعظم رئاسته وَوصف لَهُ بعض جلالته فتعجب العربيّ من ذَلِك ثمَّ قَالَ وَمِمَّنْ الْملك إِن كنت تعلم فَقَالَ الرجل هُوَ فِي الصميم من لخم والذؤابة من يعرب فَصَرَخَ الْعَرَبِيّ صرخة أيقظ الحيّ بهَا من هجعته ثمَّ قَالَ هلموا هلموا فتبادر الْقَوْم إِلَيْهِ ينثالون عَلَيْهِ فَقَالَ معشر قومِي اسمعوا مَا سمعته وعوا مَا وعيته فَإِنَّهُ لفخر طَلَبكُمْ وَشرف تلاصق بكم يَا حضري أنْشد كلمة ابْن عمنَا فأنشدهم القصيدة وعرّفهم العربيّ بِمَا عرّفه الرجل بِهِ من نسب الْمُعْتَمد فخامرتهم السّراء وداخلتهم الْعِزَّة وركبوا من طربهم متون الْخَيل وَجعلُوا يتلاعبون عَلَيْهَا بَاقِي اللَّيْل فَلَمَّا رسل اللَّيْل نسيمه وشق الصَّباح أوكاد أديمة عمد زعيم الْقَوْم إِلَى عشْرين من الْإِبِل فَدَفعهَا إِلَى الرجل وَفعل الْجَمِيع مثل مَا فعل فَمَا كَانَ رأد الضُّحَى إِلَّا وَعِنْده هنيدة من الْإِبِل ثمَّ خلطوه بِأَنْفسِهِم وجعلوه مقرّ سرورهم وتأنّسهم

وللمعتمد أَيْضا يستعطف أَبَاهُ المعتضد

(مولَايَ أَشْكُو إِلَيْك دَاء

أصبح قلبِي بِهِ جريحاً)

(إِن لم يرحه رضاك عني

فلست أَدْرِي لَهُ مريحاً)

(سخطك قد زادني سقاماً

فَابْعَثْ إليّ الرِّضَا مسيحاً)

(واغفر ذُنُوبِي وَلَا تضيّق

عَن حملهَا صدرك الفسيحا)

(لَو صوّر الله للمعالي

جسماً لأصبحت فِيهِ روحا)

وَله فِي النسيب

(دَاري الغرام ورام أَن يتكتما

وأبى لِسَان دُمُوعه فتكلما)

ص: 59

(رحلوا وأخفى وجده فأذاعه

مَاء الشؤون مصرّحاً ومجمجما)

(سايرتهم وَاللَّيْل غفل ثَوْبه

حَتَّى ترَاءى للنواظر معلما)

(فوقفت ثمَّ محيرا وتسلبت

منى يَد الإصباح تِلْكَ الأنجما)

وَله

(أكثرت هجري غير أَنَّك رُبمَا

عطفتك أَحْيَانًا عليّ أُمُور)

(فَكَأَنَّمَا زمن التهاجر بَيْننَا

ليل وساعات الْوِصَال بدور)

وَله

(عَفا الله عَن سحر على كلّ حَالَة

وَلَا حوسبت عني بِمَا أَنا وَاجِد)

(أَسحر ظلمت النَّفس واخترت فرقتي

فَجمعت أحزاني وَهن شوادر)

(وَكَانَت شجوني باقترابك نزحا

فهاهن لما أَن نأيت شَوَاهِد)

(فَإِن تستلذّي برد مَا بك بَعدنَا

فبعدك مَا نَدْرِي مَتى مَا المَاء بَارِد)

وَله

(قَامَت لتحجب قرص الشَّمْس قامتها

عَن ناظري حجبت عَن نَاظر الْغَيْر)

(علما لعمرك مِنْهَا أَنَّهَا قمر

هَل تحجب الشَّمْس إِلَّا غرَّة الْقَمَر)

وناولته إِحْدَى جواريه كأس بلور مترعة خمرًا ولمع الْبَرْق فارتاعت فَقَالَ

(ريعت من الْبَرْق وَفِي كفها

برق من القهوة لمّاع)

(يَا لَيْت شعري وَهِي شمس الضُّحَى

كَيفَ من الْأَنْوَار ترتاع)

وَله ويغني بِهِ

(تظنّ بِنَا أمّ الرّبيع سآمة

أَلا غفر الرَّحْمَن ذَنبا تواقعه)

ص: 60

(أأهجر ظَبْيًا فِي فُؤَادِي كناسه

وَبدر تَمام فِي ضلوعي مطالعه)

(وروضة حسن أجتنيها وبارداً

من الظّلم لم تحظر عليّ شرائعه)

(إِذا عدمت كفّي نوالا تفيضه

على معتفيها أَو كميّاً تقارعه)

وَله فِيهَا وضمّن أَوَائِل الأبيات حُرُوف اسْمهَا

(أغائبة الشَّخْص عَن ناظري

وحاضرة فِي صميم الْفُؤَاد)

(عَلَيْك السَّلَام بقدرالشجون

ودمع الشؤون وَقدر السّهاد)

(تملّكت مني صَعب المرام

وصادفت من سهل القياد)

(مرادي أعياك فِي كلّ حِين

فياليت أَنِّي أعْطى مرادي)

(أقيمي على الْعَهْد فِي بَيْننَا

وَلَا تستحيلي لطول البعاد)

(دسست اسْمك الحلو فِي طيّه

وألّفت فِيك حُرُوف اعْتِمَاد)

وإليها يُشِير بقوله فِي رثاء ابنيه الْمَأْمُون والراضي بعد خلعه

(معي الْأَخَوَات الهالكات عَلَيْكُمَا

وأمّكما الثكلى المضرّمة الصَّدْر)

(تبكّي بدمع لَيْسَ للغيث مثله

وتزجرها التَّقْوَى فتصغي إِلَى الزّجر)

(تذللها الذكرى فتفزغ للبكا

وتصبر فِي الأحيان شحّاً على الْأجر)

(أَبَا خَالِد أورثتني البثّ خَالِدا

أَبَا النَّصْر مذ ودّعت ودّعني نصري)

(وقبلكما مَا أودع الْقلب حسرة

تجدّد طول الدَّهْر ثكل أبي عَمْرو)

ص: 61

يَعْنِي ابْنه سراج الدولة أَبَا عَمْرو عباد بن مُحَمَّد قَتِيل ابْن عكاشة بقرطبة وَأَبُو خَالِد هُوَ ابْنه يزِيد الملقب بالراضي وَهُوَ الَّذِي قَتله قرور اللّمتوني غدراً برندة وَأَبُو نصر هُوَ ابْنه الْفَتْح الملقب بالمأمون وَقتل أَيْضا بقرطبة فِي آخر دولتهم وإخوتهم أَبُو الْحُسَيْن عبيد الله الملقب بالرشيد حمل مَعَ أَبِيه إِلَى العدوة وَأَبُو بكر عبد الله الملقب بالمعتدّ وَأَبُو سُلَيْمَان الرّبيع تَاج الدولة وَأَبُو هَاشم المعلّى زين الدولة وَكلهمْ لجاريته هَذِه الحظية عِنْده الْغَالِبَة عَلَيْهِ اعْتِمَاد وَهِي أم الرّبيع وتعرف بالسيدة الْكُبْرَى وتلقب بالرّميكيّة نِسْبَة لمولاها رميك ابْن حجاج وَمِنْه ابتاعها الْمُعْتَمد فِي أَيَّام أَبِيه المعتضد وَكَانَ مفرط الْميل إِلَيْهَا حَتَّى تلقّب بالمعتمد لينتظم اسْمه حُرُوف اسْمهَا وَهِي الَّتِي أغرت سَيِّدهَا بقتل أبي بكر ابْن عمار لذكره إِيَّاهَا فِي هجائه الْمُعْتَمد الَّذِي أَوله

ص: 62

(أَلا حَيّ بالغرب حَيا حَلَالا

أناخو جمالاً وحازوا جمالا)

يَقُول فِيهِ

(تخيّرتها من بَنَات الهجين

رميكيّة مَا تَسَاوِي عقَالًا)

وَهُوَ شعر أقذع فِيهِ وَقد قيل إِنَّه منحول اليه ومقول عل لِسَانه فَالله أعلم

وَتوفيت أمّ الرّبيع هَذِه بأغمات قبل الْمُعْتَمد سَيِّدهَا لم ترقأ لَهَا عِبْرَة وَلَا فارقتها حسرة حَتَّى قَضَت أسفا وَهَلَكت حزنا رَحمهَا الله

ومحاسن الْمُعْتَمد فِي أشعاره كَثِيرَة وخصوصا مراثيه لأبنائه وثفجعه لزوَال سُلْطَانه وَحكى أَن بعض بني عبّاد أنْشد فِي النّوم قبل حُلُول الفاقرة بهم هَذِه الأبيات

(مَا يعلم الْمَرْء وَالدُّنْيَا تمرّ بِهِ

بأنّ صرف ليَالِي الدَّهْر مَحْذُور)

(بَينا الْفَتى متردّ فِي مسرّته

وافي عَلَيْهِ من الْأَيَّام تَغْيِير)

ص: 63

(وفر من حوله تِلْكَ الجيوش كَمَا

تَفِر عَايَنت الصَّقْر العصافير)

(وخرّ خسراً فَلَا الْأَيَّام دمن لَهُ

وَلَا بِمَا وعد الْأَبْرَار محبور)

(من بعد سبع كأحلام تمرّ وَمَا

يرقى إِلَى الله تهليل وتكبير)

(يحلّ سوء بِقوم لَا مردّ لَهُ

وَمَا تردّ من الله الْمَقَادِير)

وَكَذَلِكَ حكى أَيْضا عَن آخر أَنه رأى فِي مَنَامه كَأَن رجلا صعد مِنْبَر جَامع قرطبة واستقبل النَّاس ينشدهم

(ربّ ركب قد أناخوا عيسهم

فِي ذرى مجدهم حِين بسق)

(سكت الدَّهْر زَمَانا عَنْهُم

ثمَّ أبكاهم دَمًا حِين نطق)

فَلَمَّا سمع الْمُعْتَمد ذَلِك أَيقَن أَنه نعى لملكه وإعلام بِمَا انتثر فِي سلكه فَقَالَ

(من عزا الْمجد إِلَيْنَا قد صدق

لم يلم من قَالَ مهما قَالَ حقّ)

(مَجدنَا الشَّمْس سناء وسنا

من يرم ستر سناها لم يطق)

(أَيهَا الناعي إِلَيْنَا مَجدنَا

هَل يضرّ الْمجد أَن خطب طرق)

(لَا نرع للدمع فِي آماقنا

مزجته بِدَم أَيدي الحرق)

(حنق الدَّهْر علينا فسطا

وَكَذَا الدَّهْر على الحرّ حنق)

(وقديماً كلف الْملك بِنَا

وَرَأى من شموساً فعشق)

(قد مضى منا مُلُوك شهروا

شهرة الشَّمْس تجلّت فِي الْأُفق)

ص: 64

(نَحن أَبنَاء بني مَاء السما

نحونا تطمح ألحاظ الحدق)

(وَإِذا مَا اجْتمع الدّين لنا

فحقير مَا من الدُّنْيَا افترق)

وَمِنْهَا فِي ذكر مُدَّة إمارتهم

(حجَجًا عشرا وَعشرا بعْدهَا

وَثَلَاثِينَ وَعشْرين نسق)

(أشرقت عشرُون من أَنْفسهَا

وَثَلَاث نيّرات تأتلق)

وَكَانَ ملك بني عباد ثَلَاثًا وَسبعين سنة للمعتمد مِنْهَا ثَلَاث وَعِشْرُونَ

وَله

(لما تماسكت الدُّمُوع

وتنبّه الْقلب الصديع)

(وتناكرت هممي لما

يستامها الْخطب الفظيع)

(قَالُوا الخضوع سياسة

فليبد مِنْك لَهُم خضوع)

(وألذّ من طعم الخضوع

على فمي السّمّ النقيع)

(إِن تستلب عني الدّنا

ملكي وتسلمني الجموع)

(فالقلب بَين ضلوعه

لم تسلم الْقلب الضلوع)

(لم أستلب شرف الطباع

أيسلب الشّرف الرفيع)

(قد رمت يَوْم نزالهم

أَلا تحصنني الدروع)

(وبرزت لَيْسَ سوى الْقَمِيص

على الحشا شَيْء دفوع)

(وبذلت نَفسِي كي تسيل

إِذا يسيل بهَا النّجيع)

ص: 65

(أَجلي تأخّر لم يكن

بهواي ذليّ والخشوع)

(مَا سرت قطّ إِلَى الكماة

وَكَانَ من أملي الرُّجُوع)

(شيم الأولى أَنا مِنْهُم

وَالْأَصْل تتبعه الْفُرُوع)

وَله

(لَك الْحَمد من بعد السيوف كبول

بساقيّ مِنْهَا فِي السجون حجول)

(وَكُنَّا إِذا حانت لِحَرْب فَرِيضَة

وَنَادَتْ بأوقات الصَّلَاة طبول)

ص: 66

(شَهِدنَا فكبّرنا فظلّت سُيُوفنَا

تصلّي بهامات العدا فتطيل)

(سُجُود على إِثْر الرُّكُوع متابع

هُنَاكَ وأرواح الكماة تسيل)

وعَلى هَذِه الْحَال من الاعتقال كَانَ الشُّعَرَاء ينتجعونه ويمتدحونه فيصل بِمَا لَدَيْهِ من يفد عَلَيْهِ أَو يوجّه بِشعرِهِ إِلَيْهِ وتعرّض لَهُ أَبُو الْحسن الحصري فِي طَرِيقه إِلَى أغمات بعد الْقَبْض عَلَيْهِ بِشعر يمدحه فِيهِ فوجّه إِلَيْهِ بِسِتَّة وَثَلَاثِينَ مِثْقَالا لم يكن عِنْده سواهَا وأدرج قِطْعَة شعر طيّها معتذراً من قلتهَا وتسامع الشُّعَرَاء بذلك فقصدوه من كل نَاحيَة فَقَالَ

(شعراء طنجة كلّهم وَالْمغْرب

ذَهَبُوا من الإغراب أبعد مَذْهَب)

(سَأَلُوا العسير من الْأَسير وإنّه

بسؤالهم لأحقّ فاعجب واعجب)

(لَوْلَا الْحيَاء وَعزة لخميّة

طيّ الحشا ناغاهم فِي الْمطلب)

(قد كَانَ إِن سُئِلَ الندى يجزل وَإِن

نَادَى الصَّرِيخ بِبَابِهِ اركب يركب)

وَله فِي الزّهْد

(أرى الدُّنْيَا لَا تواني

فأجمل فِي التصرّف والطّلاب)

(وَلَا يغررك مِنْهَا حسن برد

لَهُ علمَان من ذهب الذّهاب)

(فأوّلها رَجَاء من سراب

وَآخِرهَا رِدَاء من تُرَاب)

ص: 67

أَبنَاء الْمُعْتَمد رحمه الله

121 -

عبيد الله بن مُحَمَّد الرشيد أَبُو الْحسن

ذكر أَبُو بكر بن اللبانة أَن كبار أَوْلَاد الْمُعْتَمد مُحَمَّد بن عبّاد عبيد الله الرشيد هَذَا ثمَّ المعتدّ أَبُو بكر عبد الله ثمَّ الْمَأْمُون أَبُو نصر الْفَتْح ثمَّ الراضي أَبُو خَالِد يزِيد هَكَذَا أسماهم وَقد قيل إِن المعتدّ أَصْغَرهم وَإِنَّمَا أَرَادَ بعد أبي عَمْرو عباد بن مُحَمَّد سراج الدولة قَتِيل ابْن عكاشة بقرطبة وَإِلَّا فَهُوَ بكر أَوْلَاده والمسمّى باسم أَبِيه المعتضد

قَالَ وَولد للرشيد سَبْعَة وَأَرْبَعُونَ ولدا وَكَانَ دمثاً رَقِيق حَاشِيَة الطَّبْع طالع شَيْئا من الْعُلُوم الرياضية وكشف لَهُ عَن غيب الأغاني حَتَّى قيل إِنَّه يجيد ضرب الْعود وَكَانَ لَهُ أدب وَشعر

وَذكر غَيره أَن أَبَاهُ الْمُعْتَمد ولاه عَهده وَأَنه قدّمه أَيْضا إِلَى خطة الْقَضَاء بإشبيلية مُحَافظَة على رسم سلفه فِي ذَلِك فَكَانَ يجلس للْأَحْكَام جُلُوسًا عامّاً يَوْم الْخَمِيس ويحضر عِنْده أَعْيَان الْفُقَهَاء وَأهل الْعلم وثقات الشُّهَدَاء وتتجاذب عِنْده النَّوَازِل فَيحكم فِيهَا ويستفتي الْفُقَهَاء ويمضي من ذَلِك مَا يجب على مَذْهَب مَالك وَأَصْحَابه وتنعقد عَلَيْهِ السجلات بِالْأَحْكَامِ وَكَانَ الَّذِي يتَوَلَّى الْقَضَاء للرشيد الْفَقِيه المشاور أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن جَابر اللّخمي ثمَّ صرف عَن ذَلِك وَولى أَبُو الْقَاسِم أَحْمد بن مَنْظُور الْقَيْسِي وَلما نقل بَنو عبّاد إِلَى الْمغرب أسكن الرشيد مِنْهُم بقلعة مهْدي وَكَانَ هُنَالك إِلَى أَن توفّي فِي حُدُود الثَّلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَقد نَيف على السّبْعين فِي سنه وَمن شعره يُخَاطب أمّ ابْنه الْمُعَلَّى عِنْد وِلَادَتهَا إِيَّاه

ص: 68

(أهنيك بل نَفسِي أهنّي فإنني

بلغت الَّذِي كَانَ اقتراحي على الدَّهْر)

(خلاصك من أَيدي الْمنون وغرة

بَدَت للمعلّى مثل دَائِرَة الْبَدْر)

(كأنّي بِهِ عَمَّا قريب مملّكاً

زِمَام الْمَعَالِي نَافِذ النهى وَالْأَمر)

(يَقُود إِلَى الهيجاء كلّ غضنفر

وَيضْرب من ناواه بالبيض والسّمر)

(فقرّت بِهِ عَيْني وعينك فِي الْعلَا

وَلَا زَالَ أسمي فِي المحلّ من الغفر)

وَجرى بِمَجْلِس أَبِيه قسيم فِي صفة الْقبَّة الْمُسَمَّاة بِسَعْد السُّعُود وَهِي قبَّة بِالْقصرِ الزاهي فعجز من حضر من الشُّعَرَاء عَن إِجَازَته فَقَالَ الرشيد مرتجلاً

(سعد السُّعُود يتيه فَوق الزاهي

وَكِلَاهُمَا فِي حسنه متناه)

(وَمن اغتدى وطناً لمثل مُحَمَّد

قد جلّ فِي علياه عَن أشباه)

(لَا زَالَ يخلد فيهمَا مَا شاءه

ودهت عداهُ من الخطوب دواه)

وَله

(قَالُوا غَدا يَوْم الرحيل فأمطرت

عَيْنَايَ دمعاً واكف العبرات)

(لم لَا وأنأي عَن أحبه مهجتي

كرها فقلبي دَائِم الحسرات)

(من كلّ بَيْضَاء الْعَوَارِض طفلة

مثل البدور تضيء فِي الظُّلُمَات)

(لَوْلَا الرَّجَاء بِأَن يعجّل بَيْننَا

وَشك التلاقي لاشتهيت مماتي)

وعتب عَلَيْهِ أَبوهُ الْمُعْتَمد فِي طَرِيقه من مكناسة إِلَى أغمات عتباً أفرط فِيهِ فَكتب إِلَيْهِ يستعطفه

(يَا حَلِيف الندى وربّ السّماح

وحبِيب النُّفُوس والأرواح)

ص: 69

(من تَمام النّعمى عليّ التماحي

لمحة من جبينك الوضاح)

(قد غنينا ببشره وسناه

عَن ضِيَاء الصَّباح والمصباح)

(ذَاك حظي من الزَّمَان فَإِن جاد

بِهِ لي بلغت كلّ اقتراحي)

فَأَجَابَهُ الْمُعْتَمد

(كنت حلف الندى وربّ السماح

وحبِيب النُّفُوس والأرواح)

(إِذْ يَمِيني للبذل يَوْم العطايا

ولقبض الْأَرْوَاح يَوْم الكفاح)

(وشمالي لقبض كلّ عنان

يقحم الْخَيل فِي مجَال الرماح)

(وَأَنا الْيَوْم رهن أسر وفقر

مستباح الْحمى مهيض الْجنَاح)

(لَا أُجِيب الصَّرِيخ إِن حضر الباس

وَلَا المعتفين يَوْم السماح)

(عَاد بشرى الَّذِي عهِدت عبوسا

شغلتي الأشجان عَن أفراحي)

(فالتماحي إِلَى الْعُيُون كريه

وَلَقَد كَانَ نزهة اللّماح)

122 -

يزِيد بن مُحَمَّد الراضي أَبُو خَالِد

ولاه أَبوهُ الجزيرة الخضراء وَكَانَ بهَا عِنْد إجَازَة عَسَاكِر ابْن تاشفين اللمتوني الْبَحْر واشتراطه إِيَّاهَا فنقله إِلَى رندة وَهُوَ شَقِيق عبّاد وَالْفَتْح وَعبيد الله المعتدّ بني الْمُعْتَمد أمّهم اعْتِمَاد وَقد تقدم ذكر ذَلِك وَذكر حظوتها لَدَيْهِ وَقيل إِن المعتضد غاظه مَا بلغه من غلبتها على الْمُعْتَمد أول مَا اشْتَرَاهَا

ص: 70

فَتوجه إِلَيْهِ عَازِمًا على عِقَابه ومعتقداً التنكيل بِهِ وَالْمُعْتَمد إِذْ ذَاك بشلب عَامل لَهُ وَقد ولدت مِنْهُ أكبر أَوْلَاده سراج الدولة عباداً فَأمرهَا أَن تتلقاه بِهِ لتعطفه رُؤْيَته عَلَيْهَا فَكَانَ ذَلِك كَذَلِك ورقّ لَهُ المعتضد وفتر عزمه على الْإِيقَاع بِهِ

وَكَانَ الراضي من أهل الْعلم وَالْأَدب كلفاً بالمطالعة والدراسة قَرَأَ كتب القَاضِي أبي بكر بن الطّيب وأشرف على مَذْهَب أبي مُحَمَّد بن حزم الظَّاهِرِيّ فمهر فِي الْأُصُول وَذهب إِلَى النّظر وَالِاخْتِيَار

قَالَ ابْن اللبانة ولد الراضي سَبْعَة من الْبَنِينَ وَهُوَ أقل بني عباد الرؤساء ولدا وَكَانَ عالي الهمة عَالما بالشرعيات وَاقِفًا على الطبيعيات ذَاكِرًا للْعَرَب وأنسابها حَافِظًا للغاتها وآدابها

قَالَ وَهُوَ شَاعِر بني عبّاد بعد أَبِيه على أَنه أقوى عارضة مِنْهُ وَأَبوهُ ألطف طبعا وأرق صنعا واستنزل الراضي من رندة عِنْد خلع أَبِيه وَبعد مخاطبته إِيَّاه بذلك على عهود أخفرت ومواثيق نقضت فَقتل صبرا فِي رَمَضَان سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَهُوَ الْقَائِل فِي النسيب

(مرّوا بِنَا أصلا من غير ميعاد

فأوقدوا نَار شوقي أيّ إيقاد)

(وأذكروني أَيَّامًا لهوت بهم

فِيهَا ففازوا بإيثاري وإحمادي)

(لَا غرو أَن زَاد فِي وجدي مرورهم

فرؤية المَاء تذكي غلّة الصادي)

وَله يُخَاطب أَبَاهُ وَقد أنهض جمَاعَة من اخوته دونه وَبعث بهَا مَعَ بعض بنيه

ص: 71

(أعينك أَن يكون بِنَا خمول

ويطلع غَيرنَا وَلنَا أفول)

(حنانك إِن يكن جُرْمِي قبيحاً

فَإِن الصفح عَن جُرْمِي جميل)

(وَإِن عثرت بِنَا قدم سفاهاً

فَإِنِّي من عثاري مستقيل)

(وَأحسن مَا سَمِعت بِهِ عَزِيز

يُنَادِيه فيرحمه ذليل)

(وهأنذا أناديكم فَهَل لي

إِلَى قرب من الرّحمى سَبِيل)

(وَأَنت الْملك تَعْفُو عَن كثير

فمالك ظلت يغضبك الْقَلِيل)

(أَلَسْت بفرعك الزاكي وماذا

يرجّى الْفَرْع خانته الْأُصُول)

(بعثت برقعتي هَذِه رَسُولا

صَغِير السّنّ لَيْسَ لَهُ حويل)

(لترحمه وأفراخاً إِذا مَا

عتبت عليّ عَاد لَهُم عويل)

(بقيت لَهُم على عتب وعتبي

فإنّ حياتك الظلّ الظليل)

وَله يخاطبه أَيْضا مسلّياً عَن هزيمَة جَيش لَهُ بِنَاحِيَة لورقة كَانَ عَلَيْهِ ابْنه المعتدّ

(لَا يكرثنّك خطب الْحَادِث الْجَارِي

فَمَا عَلَيْك بِذَاكَ الْخطب من عَار)

(مَاذَا على ضيغم أمضى عزيمته

أَن خانه حدّ أَنْيَاب وأظفار)

(من يوقظ الْحَرْب لَا يُنكر حوادثها

قد تحرق النَّار يَوْمًا موقد النَّار)

(لَئِن أتوك فَمن جبن وَمن خور

قد ينْهض العير نَحْو الضيغم الضاري)

(عَلَيْك للنَّاس أَن تسْعَى لنصرهم

وَمَا عَلَيْك لَهُم إسعاد أقدار)

(لَو يعلم النَّاس مَا فِي أَن تدوم لَهُم

بكوا لأنّك من ثوب الصّبا عَار)

(وَلَو أطاقوا انتقاصاً من حياتهم

لم يتحفوك بِشَيْء غير أَعمار)

ص: 72

وَهِي طَوِيلَة وَجل شعره فِي استعطاف أَبِيه الْمُعْتَمد لطول موجدته عَلَيْهِ والاعتذار فِي كل حِين إِلَيْهِ وَمن ذَلِك قَوْله

(سجية ذِي الدُّنْيَا عَدَاوَة ذِي الْفضل

ورومك نقل الطَّبْع من أعظم الْجَهْل)

(فصبراً على ضيقاتها فلعلّها

تفرّج يَوْمًا والعقود إِلَى حلّ)

(وَلَا تضمرنّ الثّكل إِن كنت ذَا حجا

فَلَيْسَ لبيباً من يبيت على ثكل)

(سأشكو إِلَى مشكي فُؤَادِي بعتبه

وَمن عجب شكوى الجريح إِلَى النّصل)

(أمعتمد الْأَمْلَاك دَعْوَة آمل

رضاك فَلَا ضَاقَتْ إِلَى غَيره سبلي)

(وَلست وَإِن أضحي بَعيدا بيائس

فَإِن دموع المزن تهوي إِلَى سفل)

(لَك الْخَيْر لم أعلم بأنك مُنكر

إِذا الشَّمْس آذتني فراري إِلَى الظلّ)

(فَإِن كنت ذَا ذَنْب فحسبي عفوكم

وقلبي مَا زلّ الرِّجَال ذَوُو الْعقل)

(وَكم حقن الْأَمْلَاك قبلك من دم

وَكَانَ لديهم سفكه كجني النَّحْل)

(يؤرّقني ظَنِّي بجدّي ونقصه

ويرقدني علمي بِمَا لَك من فضل)

(لعمري لَئِن كنت الجدير بزلفة

لديك فَهَذَا الْفَرْع من ذَلِك الأَصْل)

وَله من قصيدة

(مَالِي أرى ذَا السَّيْف عنْدك عاطلاً

وَهُوَ المصمم إِن سواهُ تبلدا)

(مَا لي حرمت رضاك لي وَهُوَ الَّذِي

قد كنت أرهب من زمَان أنكدا)

(إِنِّي وحقّك وَاجِد بَين الحشا

من أجل سخطك مثل حزّ بالمدى)

(إِن كَانَ لي ذَنْب فعفوك وَاسع

أَو إِن يكن بغض فقد بَان الرّدى)

(قد كَانَ من حَقي لعمرك أَن أرى

من بَين أَبنَاء الْمُلُوك محسّداً)

(فَأَنا الْجواد مَتى أجئ فِي حلبة

فَاتَت عُيُون الناظرين لي المدى)

ص: 73

(لَا تنحلوا شعري سواي تشكّكاً

فالسّقط قد يعشي الْعُيُون إِذا بدا)

وَقَوله يصف نكد أَيَّامه

(هِيَ الدَّار غادرة بِالرِّجَالِ

وقاطعة لحبال الْوِصَال)

(وكل سرُور بهَا نَافِذ

وكلّ مُقيم بهَا لارتحال)

(وموعدها أبدا كَاذِب

فَإِن أنجزته فَبعد المطال)

(فَمن رام مِنْهَا وَفَاء يَدُوم

ومكثاً لَهَا رام عين الْمحَال)

(خلقنَا نياماً وظلّت خيالا

وأوشك شَيْء فِرَاق الخيال)

(نعذّب مِنْهَا بِغَيْر اللذيذ

ونشرق مِنْهَا بِغَيْر الزلَال)

(ونزداد مَعَ ذَاك عشقا لَهَا

أَلا إِنَّمَا سعينا فِي ضلال)

وَقَوله فِي مثل ذَلِك

(يحلّ زمَان الْمَرْء مَا هُوَ عَاقد

ويسهر فِي إهلاكه وَهُوَ رَاقِد)

(ويغري بِأَهْل الْفضل حَتَّى كَأَنَّهُمْ

جناة ذنُوب وَهُوَ للكلّ حاقد)

(سينهدّ مبنيّ ويقفر عَامر

ويصفر مَمْلُوء ويخمد رَاقِد)

(ويفترق الآلاف من بعد صُحْبَة

وَكم شهِدت مِمَّا ذكرت الفراقد)

وَله فِي قصيدة يُجَاوب بهَا أَبَاهُ وَقد خاطبه طاعناً عَلَيْهِ وهازئا بِهِ

(أَتُرِيدُ مني أَن أكون

كمن غَدا فِي الدَّهْر نَادِر)

ص: 74

(هَيْهَات ذَلِك مطمع

أعيا الْأَوَائِل والأواخر)

(لَا تنس يَا مولَايَ قولة

ضارع لَا قَول فَاجر)

(ضبط الجزيرة عِنْدَمَا

نزلت بعقوتها العساكر)

(هبني أَسَأْت كَمَا أَسَأْت

أما لهَذَا العتب آخر)

(هَب زلّتي لبنوتي

واغفر فَإِن الله غَافِر)

وَأول قصيدة أَبِيه

(الْملك فِي طيّ الدفاتر

فتخلّ عَن قَود العساكر)

(طف بالسرير مُسلما

وارجع لتوديع المنابر)

(واطعن بأطراف اليراع

نصرت فِي ثغر المحابر)

(وَاضْرِبْ بسكين الدواة

مَكَان ماضي الحدّ باتر)

(أولست رسطاليس إِن

ذكر الفلاسفة الأكابر)

(وكذاك إِن ذكر الْخَلِيل

فَأَنت نحويّ وشاعر)

(وَأَبُو حنيفَة سَاقِط

فِي الرَّأْي حِين تكون حَاضر)

(من هرمس من سِيبَوَيْهٍ

من ابْن فورك إِذْ تناظر)

(هَذِه المكارم قد حويت

فَكُن لمن حاباك شَاكر)

(واقعد فَإنَّك طاعم

كاس وَقل هَل من مفاخر)

ص: 75

123 -

يحيى بن مُحَمَّد الْمَدْعُو بشرف الدولة أَبُو بكر

قَرَأَ فِي حَيَاة أَبِيه على أبي عبد الله مَالك بن وهيب وَأبي الْحسن بن الْأَخْضَر بإشبيلية وَنَشَأ خاملاً وتعيّش من كتب الوثائق بمرّاكش وَهُوَ الْقَائِل وَقد دَعَاهُ الْمُقدم للحسبة من قبل القَاضِي أبي مُحَمَّد بن أبي عرجون ليكتب لَهُ وَكَانَ أميّاً جَاهِلا

(عجبا لدهر كلّ مَا فِيهِ عجب

فدم سما وَنبيه قوم قد رسب)

(لَا تَنْفَع الْآدَاب فِيهِ وَإِن غَدَتْ

تعزى إِلَى ذِي همة عالي النّسَب)

(أوليس من نكد الزَّمَان بِأَن أرى

أدعى لأكتب صاغراً للمحتسب)

ص: 76

(خسف أسام بِهِ وتأبى همة

لخمية إِلَّا الصيانة للحسب)

أَرَادَ بالمحتسب مَفْتُوح السِّين أَنه لفدامته كالميت الَّذِي احتسب

124 -

حكم بن مُحَمَّد الْمَدْعُو بذخر الدولة أَبُو المكارم

قَرَأَ أَيْضا على ابْن وهيب وتأدب بِهِ وَمَال إِلَى الهحاء فِي خمولة فتحومي لِسَانه وتجول بأقطار الْمغرب ثمَّ اسْتَقر بِمَدِينَة فاس يكْتب الوثائق كأخيه الْمَذْكُور قبله إِلَى أَن توفّي وَكتب إِلَيْهِ بعض أَصْحَابه

(تتسامى الحكم

مذ وشاها حكم)

(فَخر الطّرس بِهِ

وتباهى الْقَلَم)

(وزهت لخم بِهِ

فَهُوَ فِيهَا علم)

(من صَنَادِيد علا

بِالثُّرَيَّا خيّموا)

(آل عباد وَقل

آل أمجاد هم)

(إِن سَطَا الدَّهْر بهم

فَكفى مجدهم)

فجاوبه بقوله

(مَا لمجد علم

وَالزَّمَان حكم)

(وقضاياه غَدا

جورها يحتكم)

(رائد الشؤم بِهِ

محبر أَو قلم)

(وَنبيه فطن

بَيت شعر ينظم)

ص: 77

(درس الْفضل بِهِ

وتفانى الْكَرم)

(وَغدا كلّ أَخ

ودّه يتّهم)

(غير خلّ ماجد

فَضله مُنْتَظم)

(سفرت عَنهُ لنا

كلم بل حكم)

(عظمت إِذْ نظمت

مجد قوم عدموا)

(صَاح إِنَّا عرب

ملكتها عجم)

(كلّ فضل وَنهى

عدم عِنْدهم)

(آه من دهر غَدا

جرّه يهتضم)

(آل عباد بِهِ

غائر بحمهم)

(لعب الدَّهْر بهم

ومحا رسمهم)

(لَيْت شعري والمنى

خلّب أَو حلم)

(هَل إِلَى أندلس

نظرة تغتنم)

125 -

مُحَمَّد بن معن بن صمادح التّجيبي المعتصم بِاللَّه الواثق بِفضل الله أَبُو يحيى

هُوَ مُحَمَّد بن معن بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن صمادح بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن المُهَاجر بن عميرَة الدَّاخِل إِلَى الأندلس ابْن المُهَاجر بن سريح بن حَرْمَلَة بن تَمِيم وَفِي عبد الرَّحْمَن بن

ص: 78

عبد الله يَجْتَمعُونَ مَعَ مُحَمَّد بن هَاشم وَأهل بَيته التجيبيين وُلَاة سرقسطة

ص: 79

وأمرائها فِي الْفِتْنَة وَقبلهَا وَأمه بريهة بنت النَّاصِر عبد الرَّحْمَن بن الْمَنْصُور مُحَمَّد ابْن أبي عَامر وَكَانَ جده أَبُو يحيى مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن والياً على وشقة وَهِي وَمَا والاها دَار هَؤُلَاءِ التّجيبيين من الثغر الشَّرْقِي بالأندلس

وَلما أخرج مِنْهَا فِي الْفِتْنَة صَار إِلَى أبي الْحسن عبد الْعَزِيز بن عبد الرَّحْمَن ابْن أبي عَامر صَاحب بلنسية ويلقّب بالمنصور فَأكْرمه وأوطنه بَلَده وصاهر ابنيه مَعنا أَبَا الْأَحْوَص وصمادحاً أَبَا عتبَة زوّجهما أختيه ثمَّ رأى اللحاق بالمشرق فَهَلَك غرقاً فِي الْبَحْر وَكَانَ اليمّ أقْصَى أَثَره

وَبَقِي ابْنه معن فِي كنف صهره عبد الْعَزِيز ابْن أبي عَامر فقدّمه على المريّة لما صَارَت من عمله بعد مقتل زُهَيْر العامري بِمدَّة قريبَة وَذَلِكَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَقيل ثَلَاث وَثَلَاثِينَ فاستبد بضبطها إِلَى أَن هلك سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين فأجلس بَنو عَمه وَرِجَاله ابْنه أَبَا يحيى مُحَمَّد بن معن هَذَا وَهُوَ لم يستكمل ثَمَان عشرَة سنة

وَقد كَانَ أَبوهُ أَخذ الْبيعَة لَهُ فِي حَيَاته وَأحكم أمرهَا بعد أَن عرضهَا على أَخِيه أبي عتبَة صمادح فَدَفعهَا وأبى قبُولهَا فتمت لَهُ الْإِمَارَة بعد أَبِيه وسمّى نَفسه ب معز الدولة فَلَمَّا تلقب سَائِر أُمَرَاء الأندلس بِالْأَلْقَابِ الخلافية تلقب هُوَ أَيْضا ب المعتصم بِاللَّه والواثق بِفضل الله لقبين من ألقاب خلفاء بني الْعَبَّاس مناغاة لصَاحب إشبيلية عباد بن مُحَمَّد لما تلقب ب المعتضد بِاللَّه الْمَنْصُور بِفضل الله

ص: 81

وَكَانَ حسن السِّيرَة فِي رَعيته وجنده وقرابته فانتظمت أَيَّامه واتصلت دولته واستقامت أُمُوره

وَقَالَ أَبُو عَامر مُحَمَّد بن أَحْمد بن عَامر السالمي فِي تَارِيخه وَذكر المعتصم هَذَا كَانَ رحب الفناء جزيل الْعَطاء حَلِيمًا عَن الدِّمَاء والدهماء فطافت بِهِ الآمال واتسع فِيهِ الْمقَال وأعملت إِلَى حَضرته الرّحال قَالَ وَلم يكن من فحولة مُلُوك الأندلس بل أخلد إِلَى الدعة وَاكْتفى بالضيق من السعَة وَاقْتصر على قصر يبنيه وعلق يعنيه

وَكَانَت بَينه وَبَين أَصْحَابه مُلُوك الطوائف فتن مبيرة غلبوه عَلَيْهَا وأخرجوه من سجيته مكْرها إِلَيْهَا قَالَ وصاهر المعتصم إقبال الدولة على بن مُجَاهِد العامري وأنكحه ابْنَته وخاطب عَنهُ أَبُو مُحَمَّد بن عبد الْبر من دانية يَعْنِي عِنْد زفافها إِلَيْهِ برسالة بديعة

وَقَالَ غَيره كَانَ المعتصم سَاكن الطَّائِر مَأْمُون الْجَانِب حصيف الْعقل طَاهِرا معنيّاً بِالدّينِ وَإِقَامَة الشَّرْع يعْقد الْمجَالِس بقصره للمذاكرة وَيجْلس يَوْمًا فِي كل جُمُعَة للفقهاء والخواص فيتناظرون بَين يَدَيْهِ فِي كتب التَّفْسِير والْحَدِيث وَلزِمَ حَضرته فحول من الشُّعَرَاء كَأبي عبد الله بن الْحداد

ص: 82

وَفِيه استفرغ شعره وكابن عبَادَة وَابْن ملك والأسعد بن بلّيطة وَأبي الْعَبَّاس أَحْمد بن قَاسم الْمُحدث رغم اتصافه بِكَثْرَة الْجُبْن وَقلة الْجُود وعَلى ذَلِك قَصده الْعلمَاء والأدباء

وصدمته خيل المرابطين فِي آخر دولته وَهُوَ عليل علته الَّتِي مَاتَ مِنْهَا فحاصروه وقاتلوه من مقَامه فِي قَصَبَة المرية وَهُوَ يعالج الْمَوْت وَيَقُول أثْنَاء

ص: 83

ذَلِك نغص علينا كل شَيْء حَتَّى الْمَوْت إِلَى أَن هلك بعد ذهَاب المرابطين عَنهُ وَقيل توفّي وهم يحاصرونه فِي شهر ربيع الآخر سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة فَكَانَت مُدَّة إمارته بالمرية أَرْبَعِينَ سنة أشبه فِي ذَلِك خَاله عبد الْعَزِيز بن الْمَنْصُور صَاحب بلنسية فَإِنَّهُ ولّى سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَأَرْبَعمِائَة وَتُوفِّي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين

وَمن شعر المعتصم وَقد توفيت إِحْدَى كرائمة فَركب من قصره وَأمر بمواراتها

(لما غَدا الْقلب مفجوعاً بأسوده

وفضّ كلّ ختام من عَزَائِمه)

(ركبت ظهر جوادي كي أسلّيه

وَقلت للسيف كن لي من تمائمه)

وَله وَكتب بِهِ إِلَى بعض حرمه فِي رقْعَة طيرها إِلَيْهَا فِي جنَاح حمامة

(وحمّلت ذَات الطوق مني تَحِيَّة

تكون على أفق المرية مجمراً)

(تبلّغ من ودّي إِلَيْكُم رسائلاً

بأعبق من نشر العبير وأعطرا)

وَكتب إِلَى ذِي الوزارتين أبي بكر بن عمار مراجعاً ومعاتباً

(وزهّدني فِي النَّاس معرفتي بهم

وَطول اختباري صاحباً بعد صَاحب)

(فَلم ترني الْأَيَّام خلاًّ تسرّني

مباديه إِلَّا سَاءَنِي فِي العواقب)

ص: 84

(وَلَا قلت أرجوه لدفع ملمة

من الدَّهْر إِلَّا كَانَ إِحْدَى النوائب)

وَكتب إِلَيْهِ ابْن عمار يسْأَله السراح وَهُوَ ضيف عِنْده

(يَا واثقا فَضَح السَّحَاب

الْجُود فِي معنى السماح)

(ومطابقا يَأْتِي وُجُوه

الجدّ من طرق المزاح)

(أسرفت فِي برّ الضيوف

فَخذ قليلاّ فِي السّراح)

فَرَاجعه المعتصم بقوله وَهُوَ أشعر مِنْهُ فِي الْجَواب

(يَا فَاضلا فِي شكره

أصل الْمسَاء مَعَ الصَّباح)

(هلا رفقت بمهجتي

عِنْد التَّكَلُّم فِي السّراح)

(إِن السماح ببعدكم

وَالله لَيْسَ من السّماح)

وَله فِي جدول

(انْظُر إِلَى حسن هَذَا المَاء فِي صببه

كَأَنَّهُ أَرقم قد جدّ فِي هربه)

كَذَا قَالَ هَذَا الْبَيْت فَردا وَقد تقدم ذكر الْخلاف فِي مثله هَل هُوَ شعر أم لَا

وَكَانَ الَّذِي بَينه وَبَين الْمُعْتَمد مُحَمَّد بن عباد غير صَالح فَكتب إِلَيْهِ الْمُعْتَمد وَقد اتهمه بالسعي عَلَيْهِ عِنْد يُوسُف بن تاشفين أَمِير الْمغرب

(يَا من تمرس بِي يُرِيد مساءتي

لَا تقرضنّ فقد نصحت لمندم)

(من غرّه مني خلائق سهلة

فالسّم تَحت ليان مسّ الأرقم)

ثمَّ تحرّك ابْن تاشفين من العدوة بعد وقيعة الزلافة وَأَجَازَ الْبَحْر إِلَى الأندلس وتقدمه سير بن أبي بكر فَلم يخرج إِلَيْهِ الْمُعْتَمد لبطالة كَانَ فِيهَا منغمساً وَكَانَت أول وَحْشَة وَقعت بَينهمَا ثمَّ توجهوا جَمِيعًا إِلَى حصن

ص: 85

ألييط من أَعمال لورقة وَقد تغلب عَلَيْهِ النَّصَارَى فَخرج المعتصم ليلقاهم وينزلهم مُؤديا حقّ ابْن تاشفين وَمن مَعَه فأخجله الْمُعْتَمد بتياسره عَن طَرِيق لِقَائِه فَكتب إِلَيْهِ

(يَا بَعيدا وَإِن دنا

كم تمنيت قربكا)

(أَنْت حسبي من المنى

لَيْتَني كنت حسبكا)

وتلاقيا بعد ذَلِك عِنْد ابْن تاشفين فِي تِلْكَ الْغَزْوَة والمعتصم قد تزيى بِحمْل

ص: 86

الْعِمَامَة وَلبس الْبُرْنُس يتَقرَّب بذلك على عزمه فَنظر إِلَيْهِ الْمُعْتَمد وَفهم المعتصم أَنه يهزأ بِهِ وَانْصَرف فضاحك الْمُعْتَمد فِي ذَلِك من جالسه من وزرائه وَأهْدى ذُو الوزارتين أَبُو الْحسن بن اليسع مِنْهُم عشيّ ذَلِك الْيَوْم منّ نرجس فَكتب إِلَيْهِ الْمُعْتَمد معرّضاً بِابْن صمادح

(أزف الصّيام وزار نور النّرجس

فَلَقِيت زورته بحثّ الأكؤس)

(فِي لَيْلَة دارت عليّ نجومها

حَتَّى سكرت بكفّ قوت الْأَنْفس)

(خود تملّكت الْفُؤَاد فريدة

بندى الثنايا والمحيّا المشمس)

(وَجعلت نقلي ذكر موصل زفرتي

فَجمعت أشتات المنى فِي مجلسي)

(وَلَقَد ذكرت فَزَاد عَيْني قرّة

هون السّبال وخزي ربّ الْبُرْنُس)

وَحكى أَبُو بكر بن اللبانة أَن المعتصم كتب إِلَى الْمُعْتَمد

(شكري لبرّك شكر الرَّوْض للمطر

ونفح بشرى بِهِ أذكى من الزّهر)

(وَجَاءَنِي مخبر عَنهُ فَقلت لَهُ

بِاللَّه قل وَأعد يَا طيّب الْخَبَر)

(يَا وَاحِدًا علما فِي كلّ منقبة

جلّت وَيَا ثَالِثا للشمس وَالْقَمَر)

(لَئِن حرمت لِقَاء مِنْك أشكره

لقد حللت سَواد الْقلب وَالْبَصَر)

فَرَاجعه الْمُعْتَمد

(أنفحة الرَّوْض رقّت فِي صبا السّحر

من بعد مَا بَات والأنداء فِي سمر)

(لَا بل تَحِيَّة مَحْض الودّ بلّغها

برّ شرِيف الْمَعَالِي ماجد النّفر)

(أما لعمر أبي يحيى لقد وصلت

من بره صلَة أحلى من الظّفر)

(يَا من وَردت الْوَفَاء الْغمر مرتويا

من عهد إِذْ يساقي النَّاس بالغمر)

(أحرزت سرو السجايا ثمَّ قارنه

ظرف اللِّسَان اقتران الكأس بالوتر)

ص: 87

(إِذا اعْتبرت من الْأَخْلَاق أَنْفسهَا

كنت المنافس فِيهِ السَّامِي الْقدر)

(عَلَيْك مني سَلام لَا يزَال لَهُ

فرض تُؤَدِّيه آصال إِلَى بكر)

وقصده أَبُو الْوَلِيد النّحلي فِي أسمال دنسة وَالنَّاس بالمريّة قد لبسوا الْبيَاض فَكتب إِلَيْهِ

(أيا من لَا يُضَاف إِلَيْهِ ثَان

وَمن فتح الْعلَا بَابا فبابا)

(أيجمل أَن تكون سَواد عَيْني

وَأبْصر دون مَا أبغي حِجَابا)

(وَيَمْشي النَّاس كلهم حَماما

وأمشي بَينهم وحدي غرابا)

فوصله المعتصم وكساه وَكتب إِلَيْهِ مراجعاً

(وَردت ولليل البهيم مطارف

عَلَيْك وهذي للصباح برود)

(وَأَنت لدينا مَا بقيت مقرب

وعيشك سلسال الجمام برود)

126 -

ابْنه عبيد الله عز الدولة أَبُو مَرْوَان

كَانَ أَبوهُ المعتصم قد أنفذه فِي آخر دولته رَسُولا إِلَى يُوسُف بن تاشفين عِنْد كَونه بغرناطة فاعتقل وَقيد فَكتب إِلَى أَبِيه

(أبعد السّنا والمعالي خمول

وَبعد ركُوب المذاكي كبول)

ص: 88

(وَمن بعد مَا كنت حرّاً عَزِيزًا

أَنا الْيَوْم عبد أَسِير ذليل)

(حللت رَسُولا بغرناطة

فحلّ بهَا بِي خطب جليل)

(وثقّفت إِذْ جِئْتهَا مُرْسلا

وَقد كَانَ يكرم قبلي الرَّسُول)

(فقدت المرية أكْرم بهَا

فَمَا للوصول إِلَيْهَا سَبِيل)

فَرَاجعه أَبوهُ

(عَزِيز عليّ ونوحي ذليل

على مَا أقاسي ودمعي يسيل)

(لقطّعت الْبيض أغمادها

وشقّت بنود وناحت طبول)

(لَئِن كنت يَعْقُوب فِي حزنه

ويوسف أَنْت فَصَبر جميل)

ثمَّ لم يزل المعتصم يتحيّل فِي تخليصه حَتَّى أَخذ من حراسه وهرب بِهِ على الْبَحْر فَوَافى المرية وهنىء أَبوهُ بخلاصه وبعقب ذَلِك توفّي المعتصم وَقد حاصره اللمتونيون وبارزوه بالعداوة

وَكَانَ ابْنه معز الدولة أَحْمد وليّ عَهده والمرشح لمكانه من بعده فعهد إِلَيْهِ أَن يلْحق بِبِلَاد ابْن حَمَّاد من شَرْقي العذوة إِذا سمع بخلع ابْن عباد فامتثل ذَلِك لأشهر من وَفَاة أَبِيه

وَذكر أَبُو عَامر السالمي عَن معز الدولة مثل هَذَا وَأَنه ولى بعد أَبِيه المعتصم

ص: 89

وَبَقِي بالمرية إِلَى وَقت الْقَبْض على الْمُعْتَمد مُحَمَّد بن عباد ثمَّ ركب الْبَحْر على وَجهه فِي قطع أعدّها لفراره وَأسلم المرية وأعمالها وَذَلِكَ فِي رَمَضَان من سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَقد قيل فِي شعْبَان

قَالَ وليوم آخر دَخلهَا أَصْحَاب ابْن تاشفين وَكَانَ إِذْ ذَاك يحاصر مندوشر على عشْرين ميلًا مِنْهَا

وَقصد معز الدولة بجاية فَأَقَامَ فِيهَا تَحت رِعَايَة الْمَنْصُور بن النَّاصِر بن علناس ابْن حَمَّاد بن بلقين بن زيري بن مُنَاد الصّنهاجي وَفِي كنفه وَقد كَانَ مَا بَينهمَا قبل ذَلِك جميلاً وَيُقَال إِن الْمَنْصُور أنزلهُ بتنس من أَعماله الغربية

قَالَ السالمي وَعز الدولة أَبُو مَرْوَان عبيد الله بن المعتصم كَانَ رَسُول أَبِيه إِلَى ابْن تاشفين وَذكر اعتقاله والأبيات الَّتِي خَاطب بهَا أَبَاهُ ومراجعته إِيَّاه وَوصف خلاصه كَمَا تقدم قَالَ وبقى إِلَى أَن فرّ أَخُوهُ يَعْنِي معز الدولة إِلَى بجاية ولجأ هُوَ إِلَى أحد المرابطين لأذمّة كَانَت بَينهمَا إِلَى أَن انقرض أمده بَين آس وكاس قَالَ وَحضر مَعَ الْأَمِير يحيى بن أبي بكر غزوته إِلَى طليطلة

ص: 90

فَلَمَّا شارفها وَضرب بساحتها أخبيته سقط أحد ألويته من يَد حامله وانكسر الرمْح فتطير قوم وتفاءل آخَرُونَ فَقَالَ عز الدولة

(لم ينكسر عود اللِّوَاء لطيرة

يخْشَى عَلَيْك بهَا وَأَن تتأوّلا)

(لَكِن تحقّق أَنه يندقّ فِي

نحر الْعَدو لَدَى الوغى فتعجّلا)

وَنَظِير هَذَا مَا ذكر عَن أبي الشّمقمق فِي خُرُوجه مَعَ خَالِد بن يزِيد بن مزِيد الشَّيْبَانِيّ إِلَى الْموصل عِنْدَمَا قلّدها فَلَمَّا دَخلهَا وَمر بِأول درب مِنْهَا اندق اللِّوَاء فَاغْتَمَّ خَالِد لذَلِك وَعظم عَلَيْهِ فَقَالَ أَبُو الشمقمق بديهاً يسليه عَن ذَلِك وأجاد مَا أَرَادَ

(مَا كَانَ مندقّ اللِّوَاء لريبة

تخشى وَلَا أَمر يكون مزيّلا)

(لَكِن هَذَا الرمْح أَضْعَف مَتنه

صغر الْولَايَة فاستقلّ الموصلا)

فسرّ خَالِد بِمَا صدر مِنْهُ فِي الْحِين وسرّى عَنهُ وَأحسن إِلَيْهِ

وقرأت فِي بعض مَا طالعته من أَخْبَار مُلُوك الطوائف بالأندلس أَن أَبَا بكر ابْن اللبانة كتب إِلَى عز الدولة هَذَا لما توفّي أَبوهُ المعتصم وخلع هُوَ وَسَائِر إخْوَته وَقد وافاه منتجعاً

(يَا ذَا الَّذِي هزّ أمداحي بحليته

وعزّه أَن يهزّ الْمجد والكرما)

(واديك لَا زرع فِيهِ كنت تبذله

فَخذ عَلَيْهِ لأيام المنى سلما)

فَوجه إِلَيْهِ بِمَا أمكنه وَكتب مَعَه

ص: 91

(الْمجد يخجل من يفديك فِي زمن

ثناه عَن وَاجِب الْبر الَّذِي علما)

(فدونك النّزر من مصف مودّته

حَتَّى يوفيك أَيَّام المنى السّلما)

127 -

أَخُوهُ رفيع الدولة بن المعتصم

ذكره أَبُو عَمْرو عُثْمَان بن عَليّ بن الإِمَام فِي كِتَابه الموسوم ب سمط الجمان وَسقط الأذهان وَلم يسمّه وكنّاه أَبَا يحيى وَكَذَلِكَ كنّاه أَبُو عَامر السالمي فِي تَارِيخه وكنّاه صَاحب المطمح أَبَا زَكَرِيَّا وَلم يكن فِي بني صمادح أشعر مِنْهُ إِلَّا أَن الخمول أخنى على محاسنه وَبَقِي إِلَى آخر دولة اللمتونيين

وَذكر أَبُو عَليّ حسن بن عبد الله الأشيري فِي كتاب نظم اللآلي فِي فتوح الْأَمر العالي من تأليفه أَن رفيع الدولة هَذَا كَانَ بتلمسان أثيراً عِنْد واليها حِينَئِذٍ أبي بكر بن مزدلي وَذَلِكَ فِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة والموحدون

ص: 92

أعزهم الله إِذْ ذَاك بِالْجَبَلِ الْمَعْرُوف بِمَا بَين الصخرتين يحاصرونها وَحكى أَن ابْن أَخِيه أَبَا يحيى بن عز الدولة كَانَ مَعَه وأنهما قَالَا شعرًا فِي ذَلِك شاركهما فِيهِ ابْن الأشيري وَسَيَأْتِي بعد بحول الله عِنْد ذكر ابْن عز الدولة فِي الْمِائَة السَّادِسَة

وَمِمَّا أنْشدهُ السالمي لرفيع الدولة هَذَا

(سَطَا ظَبْي الخميلة يَا لقومي

على أَسد العرينة واستطالا)

(فأوتر قَوس حَاجِبه اختيالاً

وفوّق من لواحظه نبالا)

وَله

(وأهيف لَا يلوي على عتب عَاتب

وَيَقْضِي علينا بالظنون الكواذب)

(يحكّم فِينَا أمره فنطيعه

ونحسب مِنْهُ الحكم ضَرْبَة لازب)

وَله

(مَالِي وللبدر لم يسمح بزورته

لَعَلَّه ترك الْإِجْمَال أَو هجرا)

ص: 93

(إِن كَانَ ذَاك لذنب مَا شَعرت بِهِ

فَأكْرم النَّاس من يعْفُو إِذا قدرا)

وَله

(هذي دِيَارهمْ الَّتِي ذكّرنني

عهد الصِّبَا وَحَدِيثه المعسولا)

(مَا كَانَ أجمل عَهدهم وفعالهم

لَو كَانَ فعلك يَا زمَان جميلا)

وَله

(حبيب إِذا ينأى عَن الْعين شخصه

يكَاد فُؤَادِي أَن يطير من الْبَين)

(ويسكن مَا بَين الضلوع إِذا بدا

كأنّ على قلبِي تمائم من عَيْني)

وَله

(أَلا أَيهَا الظبي الَّذِي راق وَجهه

ورقّت حَوَاشِيه وناهيك من حسن)

(يظنّ أنَاس أنني بك مغرم

لعمر الْهوى مَا أَخطَأ الْقَوْم فِي الظنّ)

وَله

(وعلقته حُلْو الشَّمَائِل مَاجِنًا

خنث الْكَلَام مرنّح الأعطاف)

(مَا زلت أنصفه وَأوجب حقّه

لكنه يَأْبَى من الْإِنْصَاف)

وَله وَقد رويت لغيره

(سل الركب عَن نجد فَإِن تَحِيَّة

لساكن نجد قد تحمّلها الركب)

(وَإِلَّا فَمَا بَال المطيّ على الوجا

خفافاً وَمَا للريح حرجفها رطب)

وَله

(أَبَا الْعَلَاء كؤوس الراح مترعة

وللنّدامى سرُور فِي تعاطيها)

ص: 94

(وللغصون تثنّ فَوْقهَا طَربا

وللحمائم سجع فِي أعاليها)

(فَاشْرَبْ على النَّهر من صهباء صَافِيَة

كَأَنَّمَا عصرت من خد سَاقيهَا)

وَله

(باكر إِلَى القصف أَبَا عَامر

فَإِنَّمَا نجح الْفَتى فِي الْبكر)

(من قبل أَن يمسح كفّ الصّبا

دمع الغوادي من خدود الزّهر)

هَذَا الْبَيْت مثل قَول عبد الْجَبَّار بن حمديس الصّقليّ فِي قصيدة يمدح بهَا الرشيد عبيد الله بن الْمُعْتَمد مُحَمَّد بن عباد أَولهَا

(قُم هَاتِهَا من كفّ ذَات الوشاح

فقد نعى اللَّيْل بشير الصَّباح)

(واحلل عرى نومك عَن مقلة

تمقل أحداقاً مراضاً صِحَاح)

(خلّ الْكرَى عَنْك وَخذ قهوة

تهدي إِلَى الرّوح نسيم ارتياح)

(هَذَا صبوح وصباح فَمَا

عذرك فِي ترك صبوح الصّباح)

(بَادر إِلَى اللَّذَّات واركب لَهَا

سوابق اللَّهْو ذَوَات المراح)

(من قبل أَن ترشف شمس الضُّحَى

ريق الغوادي من ثغور الأفاح)

أردْت هَذَا الْبَيْت

ولرفيع الدولة يعْتَذر عَن وسيم فِي إِنْسَان عينه مَا يشينه

(قَالُوا حبيتك فِي إِنْسَان مقلته

مثل الحبابة إِذا تطفو على الراح)

(فَقلت بَينهمَا فِي ذَلِكُم شبه

كلتاهماتبعثان السّكر للصاحي)

وَله

(لَئِن منعُوا عني زِيَارَة طيفهم

وَلم ألف فِي تِلْكَ الديار مقيلا)

(فَمَا منعُوا ريح الصّبا سوق عرفهم

وَقد بكرت تندى عليّ بليلا)

ص: 95

وَلَا مَنَعُونِي أَن أعلّ بذكرهم

فؤاداً بِمَا يجني الصدود عليلا)

وَله يُعَاتب

(أفدي أَبَا عَمْرو وَإِن كَانَ جانياً

عليّ ذنوباً لَا تعدّد بالعتب)

(فَمَا كَانَ ذَاك الودّ إِلَّا كبارق

أَضَاء لعَيْنِي ثمَّ أظلم عَن قرب)

وَله فِي الْمَدْح

(تزهى إِذا علقت أسيافه علقا

كَأَنَّهُ فِي خدود الْبيض توريد)

(يَهْتَز عطفاك فِي يَوْم الوغى طَربا

كَأَن وَقع سيوف الْهِنْد تغريد)

(تَعْنِي بذكرك أزمان وألسنة

كَأَن ذكرك إِيمَان وتوحيد)

وَله

(إِذا مَا الْأَمر أخفق فِيهِ سعي

وضاق مرامه من كلّ بَاب)

(فَلَا تقنط فَإِن الله يَأْتِي

بِفَتْح لم يكن لَك فِي حِسَاب)

128 -

المتَوَكل بن المظفر بن الْمَنْصُور أَبُو مُحَمَّد

عمر بن مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن مسلمة التجِيبِي بن الْأَفْطَس

قَالَ ابْن حَيَّان كَانَ عبد الله بن مسلمة رجلا من مكناسة وَكَانَ سَابُور العامري أحد صبيان فائق الْخَادِم فَتى الحكم يَعْنِي الْمُسْتَنْصر بِاللَّه قد انتزى ببطليوس وثغر الغرب فصحبه عبد الله وَظَاهره وَرمى إِلَيْهِ بأموره فدبّر أَعماله وتزيّد فِي الْغَلَبَة عَلَيْهِ حَتَّى صَار كالمستبد بِهِ فَلَمَّا هلك سَابُور

ص: 96

ورث سُلْطَانه بعده فاستولى على الْأُمُور وتلقب بالمنصور ثمَّ أفْضى الْأَمر لِابْنِهِ مُحَمَّد وتلقب بالمظفر

وَلابْن حَيَّان أَيْضا قَول أبسط من هَذَا فِي أوّلية بني الْأَفْطَس يَأْتِي ذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَالَ وَمن النَّادِر الْغَرِيب انتماؤه فِي تجيب وبهذه النِّسْبَة مدحته الشُّعَرَاء إِلَى آخر وقته مِنْهُم ابْن شرف القيرواني حَيْثُ يَقُول

(يَا ملكا أمست تجيب بِهِ

تحسد قحطان عَلَيْهَا نزار)

(لولاك لم تشرق معدّ بهَا

جلّ أَبُو ذرّ فجلّت غفار)

وَكَانَت وَفَاة المظفر سنة سِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة فولى بعده ابْنه يحيى بطليوس وَتسَمى بالمنصور وَكَانَ أَخُوهُ عمر المتَوَكل بيابرة وَمَا إِلَيْهَا من الثغر الغربي

ص: 97

ثمَّ استوثق لَهُ الْأَمر بِمَوْت أَخِيه يحيى بعد مُنَافَسَة طَوِيلَة بَينهمَا كَادَت تفْسد حَالهمَا واحتل حَاضِرَة بطليوس وَجعل ابْنه الْعَبَّاس عمر بيابرة وَصَارَ اليه أَمر طليطة وقتا وجلّ شَأْنه

وَلما عظم عيث الطاغية أذفونش بن فرذلند وتطاول إِلَى الثغور وَلم يقنع بضرائب المَال انتدب للتطوّف على أُولَئِكَ الرؤساء القَاضِي أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ يندبهم إِلَى لم الشعث ومدافعة الْعَدو وَيَطوف عَلَيْهِم وَاحِدًا وَاحِدًا وَكلهمْ يصغي إِلَى وعظه

وازدلف خلال ذَلِك إِلَى سبتة أَمِير الْمغرب حِينَئِذٍ أَبُو يَعْقُوب يُوسُف ابْن تاشفين اللمتوني حسبَة ورغبة فِي الْجِهَاد وَقد دَانَتْ لَهُ بِلَاد العدوة وَسَأَلَ من سقّوت بن مُحَمَّد صَاحب سبتة أَن يُبِيح لَهُ فرض الْإِجَازَة إِلَى الأندلس فَأبى وتمنع من ذَلِك فَأفْتى الْفُقَهَاء بقتاله لصده عَن سَبِيل الله فَقتل هُوَ وَابْنه فِي خبر طَوِيل وَفتح الله على ابْن تاشفين سبتة وَأمكنهُ الْحُصُول على مُرَاده بذلك

وَعلم الْمُعْتَمد مُحَمَّد بن عباد تصميمه على نِيَّته فخاطب جاريه صَاحب

ص: 98

بطليوس وَصَاحب غرناطة فِي تَحْرِيك قاضييها إِلَى حَضرته للاجتماع بقاضي الْجَمَاعَة بقرطبة فوصل من بطليوس قاضيها أَبُو إِسْحَاق بن مقانا وَمن غرناطة قاضيها القليعي واجتمعا فِي إشبيلية بِالْقَاضِي أبي بكر بن أدهم وانضاف إِلَيْهِم الْوَزير أَبُو بكر مُحَمَّد بن أبي الْوَلِيد أَحْمد بن عبد الله بن زيدون وتوجهوا جَمِيعًا إِلَى ابْن تاشفين على شُرُوط لَا تتعدى إِلَى غَيرهَا ووصلوا إِلَى الجزيرة الخضراء وَعَلَيْهَا يزِيد بن الْمُعْتَمد الملقب بالراضي ثمَّ أَجَازُوا الْبَحْر مِنْهَا واجتمعوا بِابْن تاشفين مرّة بعد مرّة وتفاوضوا فِي مَكَان تنزله العساكر فَأَشَارَ ابْن زيدون بجبل طَارق وَسُئِلَ الجزيرة الخضراء فَلم يُوجد سَبِيلا إِلَيْهَا فَمَا قوبل بشكر وَلَا لوم وأصدر هُوَ وَأَصْحَابه دون علم بالمراد ومشاورة الْفُقَهَاء من ابْن تاشفين تستتب وفتواهم لَا تغب فَلم يرع إِلَّا الشُّرُوع فِي الْإِجَازَة وَلم يشْعر إِلَّا والجزيرة الخضراء فِي مثل حَلقَة الْخَاتم من الجيوش الكثيفة

ص: 99

وَفتحت لَهُم أَبْوَابهَا وأخرجت إِلَيْهِم مرافقها فطيّر الراضي حَماما إِلَى أَبِيه بذلك فأذنه بِتَرْكِهَا والارتحال عَنْهَا إِلَى رندة فَفعل

واطردت الْإِجَازَة ثمَّ تحركت العساكر إِلَى إشبيلية وردفهم ابْن تاشفين وَنزل بظاهرها وبلغه على أثر ذَلِك موت ابْنه أبي بكر فحيّره حَتَّى لهمّ بالانصراف عَن وَجهه ثمَّ آثر الْجِهَاد وأنفذ مزدلي إِلَى مراكش

وَبعد قراره بِظَاهِر إشبيلية لحق صَاحب غرناطة فِي نَحْو ثَلَاثمِائَة فَارس وَأَخُوهُ تَمِيم من مالقة فِي نَحْو مِائَتَيْنِ فَنزلَا على ضفة النَّهر الْأَعْظَم ثمَّ لحق لصَاحب المرية عدد من الْخَيل صُحْبَة وَلَده وَتقدم ابْن تاشفين مستعجلاً فِي حركته إِلَى بطليوس وَابْن عباد وَرَاءه فَخرج إِلَيْهِم المتَوَكل وأوسعهم برّاً وتضييفاً وتلومت العساكر بظاهرها فِي الْمضَارب أَيَّامًا إِلَى أَن قصدهم أذ فونش وتلاقوا

ص: 100

بالزّلاّقة على مقربة من بطليوس يَوْم الْجُمُعَة فِي رَجَب سنة تسع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة فَكَانَ الظُّهُور للْمُسلمين وَفِي ذَلِك يَقُول ابْن جُمْهُور أحد أدباء إشبيلية

(لم تعلم الْعَجم إِذْ جَاءَت مصممة

يَوْم الْعرُوبَة أَن الْيَوْم للْعَرَب)

وَنكل المتَوَكل يَوْمئِذٍ وَغَيره من الرؤساء وَكَانَ فِيهِ للمعتمد ظُهُور مَشْهُور

ثمَّ صدر ابْن تاشفين ظافراً وَأَجَازَ الْبَحْر إِلَى العدوة صادراً وتحرك إِلَى الأندلس بعد مُجَاهدًا لأعدائها وناظراً فِي خلع رؤسائها وَالْمُعْتَمد إِذْ ذَاك أعظمهم شَوْكَة وأشهرهم نجدة فَلَمَّا قبض عَلَيْهِ لم تقم لسائرهم قَائِمَة ومزّقوا كل ممزّق وَفِي ذَلِك يَقُول ذُو الوزارتين أَبُو الْحسن جَعْفَر بن إِبْرَاهِيم بن أَحْمد الْمَعْرُوف بِابْن الْحَاج اللورقي

ص: 101

(كم بالمغارب من أشلاء مخترم

وعاثر الجدّ مصبور على الْهون)

(أَبنَاء معن وَعباد ومسلمة

والحميرّيين باديس وَذي النُّون)

(راحوا لَهُم فِي هضاب الْعِزّ أبنية

وَأَصْبحُوا بَين مقبور ومسجون)

وَكَانَ سير بن أبي بكر أحد رُؤَسَاء اللمتونيين هُوَ الَّذِي حاصر إشبيلية حَتَّى استولى عَلَيْهَا وَقبض على الْمُعْتَمد وتقلد إمارتها بعده دهراً ثمَّ تولى محاصرة بطليوس إِلَى أَن دخلت عنْوَة يَوْم السبت لثلاث بَقينَ من الْمحرم سنة سبع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَقيل يَوْم السبت السَّابِع من صفر وَقيل فِي شهر ربيع الأول مِنْهَا وَقبض على المتَوَكل فقيد وأهين بِالضَّرْبِ فِي اسْتِخْرَاج مَا عِنْده ثمَّ أزعج عَنْهَا وَقتل هُوَ وابناه الْفضل وَالْعَبَّاس على مقربة مِنْهَا ذبحا وَكَانَ ذَلِك مِمَّا نعي على ابْن تاشفين وَقيل إِنَّه رغب فِي تَقْدِيم ولديه هذَيْن بَين يَدَيْهِ ليحتسبهما ثمَّ قَامَ بعد قَتلهمَا ليُصَلِّي فبادره الموكلون بِهِ وطعنوه برماحهم حَتَّى فاضت نَفسه وغربت شمسه وَقد رثاهم أَبُو مُحَمَّد عبد الْمجِيد بن عبدون بقصيدة فريدة أنشدناها شَيخنَا أَبُو الرّبيع بن سَالم الكلَاعِي

ص: 102

بحاضرة بلنسية مرَارًا قَالَ أنشدناها القَاضِي أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سعيد بن زرقون فِي مَسْجده بإشبيلية قَالَ أنشدناها الْوَزير الْكَاتِب أَبُو مُحَمَّد بن عبدون وأولها

(الدَّهْر يفجع بعد الْعين بالأثر

فَمَا الْبكاء على الأشباح والصور)

يَقُول فِي آخرهَا

(وَيْح السّماح وويح الباس لَو سلما

وَالْمجد وَالدّين وَالدُّنْيَا على عمر)

(سقت ثرى الْفضل وَالْعَبَّاس هامية

تعزى إِلَيْهِم سماحاً لَا إِلَى الْمَطَر)

وأنشدني أَبُو الرّبيع شَيخنَا وحَدثني لفظا قَالَ حَدثنِي الْفَقِيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سعيد شَيخنَا يَعْنِي ابْن زرقون عَن الْوَزير أبي بكر ابْن القبطورنة أَنه حَدثهُ أَنه دخل على نجم الدولة سعد بن المتَوَكل وَهُوَ

ص: 103

مَحْبُوس فِي سجن الملثّمة بعد غلبتهم على أَبِيه المتَوَكل وقتلهم إِيَّاه وابنيه الْعَبَّاس وَالْفضل فَلَمَّا رَآهُ أجهش باكياً ثمَّ أنْشدهُ

(بأبيك قدّس روحه وضريحه

يَا سعد ساعدني وَلست بَخِيلًا)

(واسفح على دموع عَيْنك سَاعَة

وامنت بهَا حمراً تفيض همولا)

(إِن يصبح الْفضل الْقَتِيل فإنني

أمسيت من كمد عَلَيْهِ قَتِيلا)

(كم قد وقيتكم الْحمام بمهجتي

وحميت شول علائكم معقولا)

(قدمت نَفسِي للمنايا دونكم

بَدَلا فَلم ترد الْمنون بديلا)

وَمن شعر المتَوَكل وَكتب بِهِ إِلَى أَخِيه يحيى الْمَنْصُور من يابرة مَعَ نثر وَقد بلغه أَنه قدح فِيهِ بمجلسه

(فَمَا بالهم لَا أنعم الله بالهم

ينوطون بِي ذمّاً وَقد علمُوا فضلي)

(يسيئون فيّ القَوْل جهلا وضلّة

وَإِنِّي لأرجو أَن يسوءهم فعلي)

ص: 104

(طغام لئام أم كرام برغمهم

سواسية مَا أشبه الْحول بالقبل)

(لَئِن كَانَ حَقًا مَا أذاعوا فَلَا خطت

إِلَى غَايَة العلياء من بعْدهَا رجْلي)

(وَلم ألق أضيافي بِوَجْه طلاقة

وَلم أمنح العافين فِي زمن الْمحل)

(وَكَيف وراحي درس كلّ غَرِيبَة

وَورد التّقى شمّي وَحرب العدا نقلي)

(ولي خلق فِي السّخط كالشّرى طعمه

وَعند الرِّضَا أحلى جنى من جنى النَّحْل)

(وَإِنِّي وَإِن كنت الْأَخير زَمَانه

لآت بِمَا أعي الصناديد من قبلي)

(وَمَا أَنا إِلَّا الْبَدْر تنبح نوره

كلاب عدا تأوى اضطراراً إِلَى ظلّي)

(فيا أَيهَا الساقي أَخَاهُ على النَّوَى

كؤوس القلى مهلا رويدك بالعلّ)

(لتطفئ نَارا أضرمت فِي صدورنا

فمثلي لَا يقلى وَمثلك لَا يقلي)

(أَلَسْت الَّذِي أصفاك قدماً وداده

وَألقى إِلَيْك الْأَمر فِي الكثر والقلّ)

(وصيّرك الذّخر الغبيط لدهره

وَمن لي ذخْرا غَيْرك الْيَوْم لَا من لي)

(وَقد كنت تشكيني إِذا جِئْت شاكياً

فَقل لي لمن أَشْكُو صنيعك بِي قل لي)

(فبادر إِلَى الأولى وَإِلَّا فإنني

سأشكوك يَوْم الْحَشْر للْملك الْعدْل)

وَله وَقد ارتقب قدوم أَخِيه عَلَيْهِ من شنترين يَوْم الْجُمُعَة فوفد عَلَيْهِ يَوْم السبت

ص: 105

(تخيّرت الْيَهُود السبت عيداً

وَقُلْنَا فِي الْعرُوبَة يَوْم عيد)

(فَلَمَّا أَن طلعت السبت فِينَا

أطلت لِسَان محتجّ الْيَهُود)

وَمن مليح مَا فِي هَذَا الْمَعْنى

(وحبّب يَوْم السبت عِنْدِي أنني

ينادمني فِيهِ الَّذِي أَنا أَحْبَبْت)

(وَمن أعجب الْأَشْيَاء أَنِّي مُسلم

حنيف وَلَكِن خير أيامي السبت)

وَكتب أَبُو مُحَمَّد بن عبدون إِلَى المتَوَكل وَقد انسكب الْمَطَر إِثْر قحط خيف قبل ذَلِك وَاتفقَ أَن وافي بطليوس حِينَئِذٍ مغنّ محسن يعرف بِأبي يُوسُف

(ألمّ أَبُو يُوسُف والمطر

فياليت شعري مَا ينْتَظر)

(وَلست بآب وَأَنت الشَّهِيد

حُضُور نديّك فِي من حضر)

(وَلَا مطلعي وسط تِلْكَ السَّمَاء

بَين النُّجُوم وَبَين الْقَمَر)

(وركضي فِيهَا جِيَاد المدام

محثوثة بسياط الْوتر)

فَبعث إِلَيْهِ المتَوَكل مركوباً وَكتب مَعَه

(بعثت إِلَيْك جنَاحا فطر

على خُفْيَة من عُيُون الْبشر)

(على ذلل من نتاج البروق

وَفِي ظلل من نَسِيج الشّجر)

(فحسبي عمّن نأى من دنا

فَمن غَابَ كَانَ فدا من حضر)

وَتوجه إِلَى شنترين وَمَعَهُ أَبُو مُحَمَّد بن عبدون فَتَلقاهُ ابْن مقانا قاضى

ص: 106

حَضرته وأنزله وَقدم طَعَاما ثمَّ قعد بِبَاب الْمجْلس ملازماً لَهُ إِلَى اللَّيْل والمتوكل محتشم مِنْهُ فَخرج أَبُو مُحَمَّد لمّا أبرمه إِلَى بعض أَصْحَابه وَقد أعد لَهُ مجْلِس أنس فَقعدَ يشرب مَعَه وَقد وجّه من يرقب انْفِصَال ابْن مقانا فَلَمَّا عرّفه بذلك بعث إِلَى المتَوَكل بقطيع خمر وطبق ورد وَكتب مَعَهُمَا

(إليكهما فاجتلها منيرة

وَقد خبا حَتَّى الشهَاب الثاقب)

(واقفة بِالْبَابِ لم تَأذن لَهَا

إِلَّا وَقد كادلب ينَام الْحَاجِب)

(فبعضها من المخاف جامد

وَبَعضهَا من الْحيَاء ذائب)

فقبلها وَكتب إِلَيْهِ

(قد وصلت تِلْكَ الَّتِي زففتها

بكرا وَقد شابت لَهَا ذوائب)

(فهبّ حَتَّى نستردّ ذَاهِبًا

من أنسنا إِن استردّ الذَّاهِب)

وقرأت فِي كتاب الذَّخِيرَة لِابْنِ بسام أَخْبرنِي الْوَزير أَبُو طَالب بن غَانِم قَالَ لَا أنسى وَالله خطّ المتَوَكل بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ فِي ورقة بقلة الكرنب وَقد كتب إليّ بهما من بعض الْبَسَاتِين

(انهض أَبَا طَالب إِلَيْنَا

واسقط سُقُوط الندى علينا)

(فَنحْن عقد بِغَيْر وسطي

مَا لم تكن حَاضرا لدينا)

وَحكى غَيره أَنه كتبهما بِطرف غُصْن وروى الْبَيْت الأول

(أقبل أَبَا طَالب إِلَيْنَا

وَقع وُقُوع الندى علينا)

ص: 107

129 -

عبد الْملك بن هُذَيْل بن رزين ذُو الرياستين حسام الدولة أَبُو مَرْوَان

ولى بعد أَبِيه الْحَاجِب عز الدولة أبي مُحَمَّد هُذَيْل بن عبد الْملك بن خلف ابْن لب بن رزين شنتمرية الشرق مَوضِع إِمَارَة سلفه وَكَانَ ظُهُورهمْ فِي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعمِائَة أول افْتِرَاق الْجَمَاعَة وانبعاث الْفِتْنَة ويعرفون ببني الأصلع وانتماؤهم فِي هوّارة

وَقد ذكر ابْن حيّان طرفا من خبرهم فَقَالَ وَأَبُو مُحَمَّد هُذَيْل بن خلف ابْن لب بن رزين الْمَعْرُوف بِابْن الأصلع صَاحب السّهلة موسطة مَا بَين الثغر الْأَعْلَى والأدنى لقرطبة كَانَ من أكَابِر برابر الثغر ورث ذَلِك عَن سلفه ثمَّ سما لأوّل الْفِتْنَة إِلَى اقتطاع عمله والإمارة لجماعته والتقيّل لجاره إِسْمَاعِيل بن ذِي النُّون فِي الشرود عَن سُلْطَان قرطبة فَاسْتَوَى لَهُ من ذَلِك مَا أَرَادَ هُوَ وَغَيره من جَمِيع من انتزى فِي الْأَطْرَاف وتمرس بِهِ الْحَاجِب مُنْذر بن يحيى مدرجاً لَهُ فِي طيّ من استتبعه واشتمل عَلَيْهِ من أصاغر أُمَرَاء

ص: 108

الثغر فَأَبت نَفسه البخوع لَهُ والانضمام إِلَيْهِ فَرد أمره وحدده وَصَارَ ندّه وَأَجَارَهُ مَنْعَة معقله

قَالَ وَلَيْسَ فِي ذَلِك الثغر أخصب بقْعَة من سهلته المنسوبة إِلَى بني رزين فِي اتِّصَال عمارتها فَكثر مَاله وَكَانَ مَعَ ذَلِك شَابًّا جميل الْوَجْه صَار إِلَيْهِ أَمر وَالِده منبعث الْفِتْنَة وَهُوَ فَتى مَعَ الْعشْرين من سنه وَأطَال ابْن حَيَّان فِي وَصفه بالقسوة والفظاظة ورفعة الهمة فاقتصرت من ذَلِك على مَا أثبتّ

وهذيل هَذَا هُوَ عَم هُذَيْل وَالِد أبي مَرْوَان الْمَذْكُور وَبعده ولى أَخُوهُ عبد الْملك بن خلف أَبُو مَرْوَان وَيعرف بعبود ثمَّ ولى ابْنه هُذَيْل ثمَّ ابْنه عبد الْملك ثمَّ ابْنه يحيى وَعَلِيهِ انقرض ملكهم

ص: 109

وَكَانَ أَبُو مَرْوَان مَعَ شرفه وأدبه متعسفاً على الشُّعَرَاء ومتعسراً بمطلوبهم من ميسور الْعَطاء وَضَعِيف منظومه أَكثر من قَوِيَّة

وَكَانَت وَفَاته سنة سِتّ وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة وَقد صَار إِلَيْهِ من أَعمال بلنسية بَعْضهَا وَولى بعده ابْنه فَأَقَامَ يَسِيرا وتغلّب على مَا بِيَدِهِ ابْن تاشفين بعد أَن أَقَامَ هُوَ وَأَبوهُ فِي أَعمالهَا وَمن شعره يفخر

(أَنا ملك تجمّعت فيّ خمس

كلّها للأنام مُحي مميت)

(هِيَ ذهن وَحِكْمَة ومضاء

وَكَلَام فِي وقته وسكوت)

وَله مجاوباً

(رغبتم وأرغبناكم وَهِي الْخمر

فَمن لم يكن سَكرَان فَلْيَكُن السّكر)

(إِلَيْكُم فَإِنِّي فِي الوغى والندى فَتى

هُوَ الْبَحْر إِن أعْطى وَإِن صال فالدهر)

ص: 110

وَله

(شأوت أهل رزين غير محتفل

وهم على مَا علمْتُم أفضل الْأُمَم)

(قوم إِذا حوربوا أفنوا وَإِن سئلوا

أغنوا وَإِن سوبقوا حازوا مدى الْكَرم)

(جادوا فَمَا يتعاطى جود أنملهم

مدّ الْبحار وَلَا هطّالة الدّيم)

(وَمَا ارتقيت إِلَى الْعليا بِلَا سَبَب

هَيْهَات هَل أحد يسْعَى بِلَا قدم)

(فَمن يرم جاهداً إِدْرَاك منزلتي

فليحكني فِي الندى وَالسيف والقلم)

وَله

(من كثّر الْجهد يرى سعده

يصعد حَتَّى يَنْتَهِي حدّه)

(وَمن أذلّ المَال عزّت بِهِ

أَيَّامه وانصرفت جنده)

(فاهدم بِنَاء الْبُخْل وَارْفض بِهِ

من هدم الْبُخْل بني مجده)

(لَا عَاشَ إِلَّا جائعاً نائعاً

من عَاشَ فِي أَمْوَاله وَحده)

وَله يصف روضاً

(وَروض كَسَاه الطلّ وشياً مجدّداً

فأضحى مُقيما للنفوس ومقعدا)

(إِذا صافحته الرّيح ظلت غصونه

رواقص فِي خضر من العصب ميّدا)

(إِذا مَا انسياب المَاء عَايَنت خلته

وَقد كسّرته رَاحَة الرّيح مبردا)

(وَإِن سكنت عَنهُ حسبت صفاءه

حساماً صقيلاً صافي الْمَتْن جردا)

(وغنت بِهِ وزق الحمائم حولنا

غناء ينسّينا الْغَرِيض ومعبدا)

ص: 111

(فَلَا تجفونّ الدَّهْر مَا دَامَ مسعداً

ومدّ إِلَى مَا قد حباك بِهِ يدا)

(وخذها مداماً من غزال كَأَنَّهُ

إِذا مَا سعى بدر تحمّل فرقدا)

وَله

(أدرها مداماً كالغزالة مرّة

تبين لرائيها وتأبى على اللَّمْس)

(وتبدو إِلَى الْأَبْصَار دون تجسّم

على أَنَّهَا تخفى على الذِّهْن والحسّ)

(إِذا شعشعت فِي الكأس خلت حبابها

لآلىء قد رفّعن فِي لبّة الشَّمْس)

(موكلة بالهمّ تهزم جَيْشه

بِجَيْش الْأَمَانِي والمسرة والأنس)

(فَإِن شِئْت قل فِيهَا أرق من الْهوى

وَإِن شِئْت قل فِيهَا أرق من النَّفس)

وَله فِي النسيب

(أنحى على جسمي النحول فَلم يدع

متوهمّاً من رسمه الْمَعْلُوم)

(عبثت بِهِ أَيدي الصِّبَا فَكَأَنَّهُ

سرّ خفيّ فِي ضمير كتوم)

وَله

(يزهدني فِي الزّهْد عين مَرِيضَة

يمرّضني من لحظها مَا أعلّني)

(وَلم يبْق نَفسِي غير عطفة شادن

عسابي أفديه بهَا ولعلّني)

(شَكَوْت إِلَى فِيهِ الَّذِي بِي من الظما

فأنهلني عذب الرّضاب وعلّني)

وَله

(دع الدمع يفن الجفن لَيْلَة ودّعوا

إِذا انقلبوا بِالْقَلْبِ لَا كَانَ مدمع)

(سروا كاغتداء الطير لَا الصَّبْر بعدهمْ

جميل وَلَا طول الندامة ينفع)

ص: 112

(أضيق بِحمْل الفادحات من النَّوَى

وصدري من الأَرْض البسيطة أوسع)

(وَإِن كنت خلاّع العذار فإنني

لبست من العلياء مَا لَيْسَ يخلع)

(إِذا سلّت الألحاظ سَيْفا خَشيته

وَفِي الْحَرْب لَا أخْشَى وَلَا أتوقع)

وَله

(برح السقم بِي فَلَيْسَ صَحِيحا

من رَأَتْ عينه عيُونا مراضا)

(إنّ للأعين المراض سهاماً

صيّرت أنفس الورى أغراضا)

وَله فِي شمعة

(ربّ صفراء تردّت

برداء العاشقينا)

(مثل فعل النَّار فِيهَا

تفعل الْآجَال فِينَا)

وحَدثني القَاضِي أَبُو عَامر نَذِير بن وهب بن نَذِير الفِهري وَدَار سلفه شنتمرية المنسوبة إِلَى بني رزين غير مرّة بِلَفْظِهِ قَالَ حَدثنِي أبي أَنه كَانَ بشنتمرية معلم كتاب يؤدبهم ويؤمّ فِي مسجدين أَحدهمَا يُصَلِّي فِيهِ نَهَارا وَالثَّانِي لَيْلًا فَكتب إِلَى الْحَاجِب ذِي الرئاستين أبي مَرْوَان عبد الْملك بن الْحَاجِب ذِي المجدين عز الدولة أبي مُحَمَّد هُذَيْل بن رزين يسْأَله التَّقْدِيم فِي الْمَسْجِد الْجَامِع للصَّلَاة فِي دولة مَعَ سَائِر الْأَئِمَّة فوقّع لَهُ فِي مكتوبه

ص: 113

(أيطيق تأديباً وَعقد إِمَامَة

فِي مسجدين وجامع إِنْسَان)

(اثْبتْ على إِحْدَى الْمَرَاتِب لَا تزد

فَمن الزِّيَادَة يتّقى النّقصان)

وَحكى لي غَيره أَن أَبَا مَرْوَان هَذَا كَانَت لَهُ نجدة وصرامة وإقدام قرّب جنده من نَفسه وتحبب إِلَيْهِم وَاخْتَلَطَ بهم حَتَّى كَانَ لَا يمتاز مِنْهُم فِي مركب وَلَا ملبس وَوَقَائعه فِي الثغر مَشْهُورَة وَجرى عَلَيْهِ خطب كَبِير فِي صغر سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة قبل وَفَاته بِيَسِير دبّر عَلَيْهِ صهره عبيد الله الْقَائِم بأذكون وَأَرَادَ اغتياله مَعَ طَائِفَة من رِجَاله ليرث مَكَانَهُ وَكَانَ قد أحضرهُ لدَعْوَة

ص: 114

احتفل فِيهَا مَعَ جمَاعَة مِنْهُم أَبُو عِيسَى بن لبّون صَاحب مربيطر فَلَمَّا أمكنتهم الغرّة فِيهِ بِأخذ الشَّرَاب مِنْهُ وَثبُوا عَلَيْهِ وخبطوه بسيوفهم حَتَّى أنخنوه جراحاً وَاتفقَ أَن كَانَت أُخْته حَاضِرَة وَهِي زوج عبيد الله هَذَا فَصَعدت إِلَى علّيّة هُنَاكَ وصرخت واقتيلاه فتبادر النَّاس لتعرّف الْقِصَّة ودخلوا على أبي مَرْوَان وَبِه رَمق فأرادوا قتل قاتلية بأجمعهم فَأَمرهمْ بترك صهره وَابْنه وَالْقَبْض عَلَيْهِمَا وَلم يزل يعالج من جراحه إِلَى أَن برىء وصحّ وَقد غيّرت من شكله وشانت وَجهه فَأمر بصهره فَقطعت يَدَاهُ وَرجلَاهُ وسملت عَيناهُ وصلب وَأمر بِقطع رجل ابْنه وخلّى سَبيله

ص: 115

130 -

مُحَمَّد بن أَحْمد بن إِسْحَاق بن زيد بن طَاهِر الْقَيْسِي أَبُو عبد الرَّحْمَن

قَرَأت فِي تَارِيخ أبي بكر مُحَمَّد بن عِيسَى بن مزين الْكَاتِب وَأَبوهُ عِيسَى هُوَ مخلوع المعتضد عباد بن مُحَمَّد من شلب وَكَانَ صهره أَن ابْن طَاهِر يَعْنِي أَبَا بكر أَحْمد بن إِسْحَاق وَالِد أبي عبد الرَّحْمَن كَانَ من أَعْلَام تدمير وبياضها فاستبد بهَا إِلَّا أَنه لم يعد اسْم الوزارة فِيهَا والمظالم إِلَى أَن مَاتَ

وَخَلفه ابْنه أَبُو عبد الرَّحْمَن مُحَمَّد فتمادت حَاله على رسم أَبِيه ووسمه فِي الْمَظَالِم إِلَى أَن أخرجه عَنْهَا أَبُو بكر بن عمار فِي قصَص طَوِيلَة سنة إِحْدَى وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة

وقرأت بخطّ القَاضِي أبي الْقَاسِم بن حُبَيْش فِي بعض معلقاته من تَارِيخ أبي مَرْوَان بن حيّان خَافَ زُهَيْر يَعْنِي الصقلبي صَاحب المرية ومرسية انْتِقَاض أبي عَامر بن خطاب رَئِيس عَلَيْهِ مرسيه إِن تَركه خَلفه لصغوه إِلَى

ص: 116

مُجَاهِد يَعْنِي العامري مناوئه فأسكنه مَعَه المرية دون أَن يغيّر لَهُ حَالا وَلَا نعْمَة وَترك بمرسية ابْن طَاهِر ندّ ابْن خطاب ومناوئه بعد أَن انْطلق ابْن طَاهِر وَمن يَد مُجَاهِد بفدية غَلِيظَة وَعَاد إِلَى حَاله وَنعمته وأعانه زُهَيْر على لم شعثه وَفِي بعهده فاطمأنت قدمه بمرسية فِيمَا بعد وَارْتَفَعت حَاله وَبعد عَنْهَا عدوّه ابْن خطاب آخر الْأَيَّام فَلم يقْض لَهُ رُجُوع إِلَيْهَا إِلَى أَن مضى لسبيله

قَالَ وَفِي صدر شهر رَمَضَان يَعْنِي من سنة خمس وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة بلغت قرطبة وَفَاة الشَّيْخ أبي بكر أَحْمد بن طَاهِر المتأمرّ قَدِيما بِبَلَدِهِ مرسية بعد طول علته الفالجية وَكَانَ من آخر من أنظر إِلَى هَذِه الْمدَّة من بقايا رُؤَسَاء الكور فَكَانَ يعْتد بعد انْقِرَاض دولة الصقالبة الْعَامِرِيين فِي جملَة الْمَنْصُور عبد الْعَزِيز بن عبد الرَّحْمَن بن أبي عَامر وَولده عبد الْملك على استبداده عَلَيْهِمَا وامتناعه من تَنْفِيذ مَالا يُوَافقهُ من أَمرهمَا وإرساله إِلَيْهِمَا من خلال ذَلِك مُفَارقَته عَمَّا فِي يَده من بَلَده وقيامه بِالْإِنْفَاقِ على من ينزله من جنده وتفرّده بقود جند الْبَلَد وجباية مَاله يُرْسل من فَضله إِلَى كل مِنْهُمَا فِي وقته مَا فَارقه عَلَيْهِ فَلَا يمكنهما خِلَافه لقُوَّة مَنْكِبه ووفور مَاله واجتماع أهل بَلَده على طَاعَته واعترافهم بِحقِّهِ قد أصلح الله بِهِ على جَمَاعَتهمْ وعمرت بِلَادهمْ بجميل سيرته ثمَّ اتسعت مكاسبه حَتَّى صَار نصف بَلَده ضَيْعَة لَهُ وَأحسن ارتباط الْجند بإنصافهم وَالْإِحْسَان إِلَيْهِم فَأَحبُّوهُ وناصحوه فاستقام أمره وضخمت نعْمَته

وعضده ابْن صدق لَهُ نجيب لَبِيب يُسمى مُحَمَّدًا ويكنى أَبَا عبد الرَّحْمَن

ص: 117

سلك سَبيله وَاتبع سيرته وَزَاد عَلَيْهِ بِفضل علم وأدب فحجبه أَيَّام تعطله وسدّ مسدّه فَلَمَّا مضى لسبيله قعد مَكَانَهُ وجبر ثلمه واستقام النَّاس لَهُ كَأَنَّهُمْ مَا فقدوا أَبَاهُ

وَهلك هَذَا الشَّيْخ عَن نَحْو تسعين سنة

قَالَ وَآل طَاهِر ذَوُو بَيت عَامر وَعدد وافر يفخرون بالعروبية وينتمون فِي قيس عيلان

انْتهى كَلَام ابْن حيّان وَهَذَا خلاف معتقده فِي بني خطاب وَسَيَأْتِي ذكر ذَلِك إِن شَاءَ الله

وَكَانَ أَبُو عبد الرَّحْمَن من أهل الْعلم وَالْأَدب البارع يتَقَدَّم رُؤَسَاء عصره فِي الْبَيَان والبلاغة ويماثل الصاحب إِسْمَاعِيل بن عباد وَأَمْثَاله فِي الْكتب عَن نَفسه ورسائله مدونة وَلأبي الْحسن بن بسام فِيهَا تأليف سَمَّاهُ ب سلك الْجَوَاهِر من ترسيل ابْن طَاهِر وروى الحَدِيث عَن أبي الْوَلِيد بن ميقل وَقد أَخذ عَنهُ واستجازه أَبُو عَليّ بن سكّرة لِابْنِهِ وَذكره أَبُو الْقَاسِم بن بشكوال فِي تَارِيخه وحَدثني الْمُقْرِئ المعمر أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز بن

ص: 118

سَعَادَة الشاطبي عَن الْخَطِيب أبي الْوَلِيد مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن عريب عَن أبي عبد الرَّحْمَن بن طَاهِر بِجَمِيعِ رِوَايَته عَن ابْن ميقل وَكَانَت فِيهِ دعابة غالبة عَلَيْهِ لَا يَدعهَا بِحَال وأجود رسائله مَا اشْتَمَل على الْهزْل لميل طبعه إِلَيْهِ

وَكَانَ على ذَلِك جواداً ممدحاً ينتجعه الشُّعَرَاء ويقصده الأدباء وَقد انتجعه أَبُو بكر بن عمار أَيَّام خموله ثمَّ قضى أَن خلعه عَن سُلْطَانه فَلهُ مَعَه نَوَادِر مَذْكُورَة مِنْهَا قَوْله بعد خُلَاصَة من اعتقاله وانخلاع ابْن عمار عَن مرسية واجتماعهما عِنْد الْوَزير الْأَجَل أبي بكر بن عبد الْعَزِيز أَيَّام رياسته ببلنسية أَبَا العيناء لَا أَنْت وَلَا أَنا وَكَانَ ابْن عمار أخفش وَمِنْهَا وَقد أرسل إِلَيْهِ وَقت الْقَبْض عَلَيْهِ يخيره فِي خلعة يلبسهَا فَقَالَ لرَسُوله لَا أخْتَار

ص: 119

من خلعه أعزه الله إِلَّا فَرْوَة طَوِيلَة وغفارة ضئيلة فعرفها ابْن عمار واعترف بهَا وَقَالَ نعم إِنَّمَا عرض بزيى يَوْم قصدته وبهيئتي حِين أنشدته وَقد جرى لَهُ مَعَ أبي بكر بن عبد الْعَزِيز فِي معنى الدعابة والمطايبة مَا احتمله لَهُ بِفضل رجاحته وَأَبُو بكر حَرَكَة فَذكر الفول وَكَانَ أَبُو عبد الرَّحْمَن مُولَعا بِهِ ومكثراً لأكله فَعرض لَهُ هُوَ بل صرّح بِمَا كَانَ فِي لِسَانه من عقلة وَهُوَ إِذْ ذَاك ضَيفه وَخبر خلعه وَذكر ابْن بسام وَغَيره وقرأت فِي تَارِيخ الْكَاتِب أبي بكر مُحَمَّد بن يُوسُف بن قَاسم الشلبي تلميذ الْكَاتِب أبي بكر ابْن القصيرة وَأحد كتاب الْمُعْتَمد مُحَمَّد بن عباد قَالَ كَانَ ابْن عمار قد نزل ضيفاً على ابْن طَاهِر فِي صُعُوده إِلَى ابْن ريمند صَاحب برشلونة فاستبان ضعفه فداخل أَعْيَان مرسية مخبّلاً ومخذّلاً

ثمَّ وصل ذَلِك عِنْد اجتماعه بريمند بمعاقدته على أَن يُعينهُ فِي محاصرته وبذل لَهُ عَن ذَلِك عشرَة آلَاف مِثْقَال

ص: 120

على أَن ينحدر بعسكره إِلَى مرسية وَيَأْتِي هُوَ فِي عَسْكَر ابْن عباد ويرهن كلّ وَاحِد مِنْهُمَا معاقدة مَا يَثِق بِهِ فرهن البرشلوني ابْن عَمه وأصعد ابْن عباد ابْنه الْمُسَمّى بالرشيد فِي جَيش إشبيلية وَابْن عمار مَعَه فاجتمعا بريمند عَلَيْهَا على ميعاد عيّناه وحاصرا مرسية وشنّا الغارات عَلَيْهَا فَلم ينالوا مِنْهَا أَكثر من ذَلِك

وَكَانَ ابْن عمار عِنْد فصوله من إشبيلية قد قدّر أَن ينظر لَهُ فِي المَال الْمَذْكُور وَيلْحق بِهِ وَذَلِكَ لأجل ضربه البرشلوني فانصرم الْأَجَل وَلم يصل المَال وتحرك الْمُعْتَمد إِلَى قرطبة ثمَّ إِلَى جيّان وَمَعَهُ الرهينة على عَادَته من التؤدة والالتواء وَأَبْطَأ على ريمند مَا عوقد عَلَيْهِ واعتقد أَن ابْن عمار مكر بِهِ فَقبض عَلَيْهِ وعَلى الرشيد وقيدهما

وانقلب عَسْكَر إشبيلية مفلولا وَالْمُعْتَمد قد فصل من جيّان وشارف

ص: 121

عمل شقورة فَلَمَّا وصل إِلَى وَادي آنة لم يُمكنهُ خوضه لمدّة بالسيول فَأَقَامَ على شاطئه الغربي وَإِذا سرعَان فلّ الْعَسْكَر قد أطلوا على الشاطىء الشَّرْقِي فاقتحمه مِنْهُم فارسان أجازا إِلَيْهِ وأخبراه بالنبأ الكريه فَسقط فِي يَده ونكص على عقبه وَقد استوثق من الرهينة وَرجع إِلَى جيّان وَقد كَانَ ابْن عمار أوصى إِلَيْهِ مَعَ هذَيْن الفارسين أَن يُقيم لَعَلَّه يلْحق بِهِ فورد عَلَيْهِ بعد تَمام عشرَة أَيَّام وَنزل على وَادي بلّون وَكتب كتابا وطواه وَبعث بِهِ أحد فرسَان عبيده إِلَى جيّان وَفِيه شعر يَأْتِي ذكره بعد وأوله

(أصدّق ظنى أم أصيخ إِلَى صحبي

)

فجاوبه الْمُعْتَمد عَنهُ بِمَا أنّسه فوصل إِلَيْهِ وَبكى بَين يَدَيْهِ ثمَّ اعْترف بالْخَطَأ فِي السالف وتوافق مَعَه على إِطْلَاق رهينة البرشلوني مَعَ المَال لينطلق الرشيد بصولهما من الاعتقال فَكَانَ ذَلِك وَانْصَرف البرشلوني إِلَى بِلَاده وَعَاد الرشيد إِلَى إشبيلية

وَحكى غَيره أَن ابْن عباد سعى فِي خلاص الرشيد حَتَّى فدَاه بِثَلَاثِينَ ألفا ضربهَا زُيُوفًا وَلحق الرشيد بِأَبِيهِ الْمُعْتَمد

ص: 122

قَالَ ابْن الْقَاسِم الْمَذْكُور فِي تَارِيخه وَعَاد لِابْنِ عمار فِي مرسية رَأْيه الدبرى ولج بِهِ ميلانه فَذكر للمعتمد أَو زوّر أَن أهل مرسية قد داخلوه وخاطبوه وَأظْهر لَهُم كتبا ذكر أَنهم كتبوها إِلَيْهِ زَاد غَيره وَذَلِكَ فِي سنة أَربع وَسبعين

قَالَ وَأَشَارَ إِلَيْهِ بتجهيز عَسْكَر ثَان يتقلده فَلم يُخَالِفهُ يَعْنِي الْمُعْتَمد وَفصل عَن إشبيلية بعسكرها وَوصل إِلَى قرطبة وَعَلَيْهَا الْفَتْح ابْن الْمُعْتَمد وَهُوَ يَوْمئِذٍ حَاجِب أَبِيه فضم خيل قرطبة إِلَى عَسْكَر إشبيلية وسهر فِي اجتيازه هَذَا لَيْلَة عِنْد الْفَتْح إِلَى أَن شَارف الصُّبْح فَقَالَ أحد الخصيان قد انصدع الْفجْر فَأَنْشَأَ ابْن عمار يَقُول

(إِلَيْك عني فليلي كُله صبح

وَكَيف لَا وسميري الْحَاجِب الْفَتْح)

قَالَ ثمَّ تقدم ابْن عمار إِلَى مرسية واجتاز فِي طَرِيقه على حصن بلج وعامله يَوْمئِذٍ عبد الله بن رَشِيق وَهَكَذَا سَمَّاهُ ابْن قَاسم الشلبي هَذَا وَغَيره يَقُول فِيهِ عبد الرَّحْمَن وَهُوَ الصَّحِيح قَالَ فَلَمَّا سمع بِهِ ابْن رَشِيق خرج إِلَيْهِ على أَمْيَال من الْحصن وَرغب إِلَيْهِ فِي النُّزُول عِنْده فَأَجَابَهُ ابْن عمار إِلَى ذَلِك

واحتفل ابْن رَشِيق فِي إنزاله احتفالاً استطرفه ابْن عمار وَآل بِهِ إِلَى أَن قدمه على جَيْشه وَلم يعلم أَنه يحمل مِنْهُ الداهية الدهياء والداء العياء فوصل إِلَى مرسية وضايقها مُدَّة غدر لَهُ فِي أَثْنَائِهَا حصن مولة فَاسْتعْمل عَلَيْهِ ابْن

ص: 123

رَشِيق وَترك مَعَه جملَة من الْخَيل وَصدر إِلَى إشبيلية وَقد برّح بمرسية تكرّر الْحصار وَانْقِطَاع الْموَاد بانخزال مولة عَنْهَا

وَمَا زَالَ ابْن رَشِيق يغاديها ويراوحها بالغارات ويداخل أَهلهَا فِي الْقيام على ابْن طَاهِر ويمنيهم الحظوة حَتَّى لَان قيادهم وصرحوا لَهُ بالانحياز ووصلت كتبهمْ على يَدَيْهِ إِلَى ابْن عمار وَهُوَ بإشبيلية قَالَ ابْن قَاسم وَلَقَد شهِدت ابْن عمار فِي الْقصر بإشبيلية يقْرَأ هَذِه الْكتب وَكَانَت أَزِيد من عشْرين فَلَمَّا استوفاها قَالَ لنا كأنكم بِفَتْح مرسية من غَد إِلَى بعد غَد فَكَانَ كَذَلِك

وَلما تمّ لأهل مرسية تدبيرهم مَعَ ابْن رَشِيق تحرّك من مولة نحوهم على وَقت معِين فَلَمَّا وصل إِلَى ظَاهرهَا صرخوا بدعوة ابْن عبّاد وفتحوا أَبْوَابهَا لذَلِك الميعاد فَدخل ابْن رَشِيق فِي أنصاره بشعاره وَأخرج ابْن طَاهِر من دَاره إِلَى السجْن وَكتب من قصر مرسية وَقد تَملكهَا وَأخذ لِابْنِ عباد بيعَة أَهلهَا

وَحكى غَيره أَن ابْن طَاهِر لما قبض عَلَيْهِ اعتقل بحصن منت أقوط إِلَى أَن ورد كتاب الْمُعْتَمد بتسريحه فلحق بِأبي بكر بن عبد الْعَزِيز ببلنسيّة لسعيه فِي ذَلِك وشفاعته فِيهِ وَقد قيل إِن ابْن طَاهِر هرب من معتقله بإعانة ابْن عبد الْعَزِيز وتنبيهه على الْوُجُوه الميسّرة لخلاصه

ص: 124

قَالَ ابْن بسام فِي كتاب الذَّخِيرَة من تأليفه وَمد لأبي عبد الرَّحْمَن بن طَاهِر هَذَا فِي الْبَقَاء حَتَّى تجَاوز مصَارِع جمَاعَة الرؤساء وَشهد محنة الْمُسلمين ببلنسية على يَدي الطاغية الَّذِي كَانَ يدعى الكنبيطور وَحصل لَدَيْهِ أَسِيرًا سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ يَعْنِي وَأَرْبَعمِائَة كَذَا قَالَ ابْن بسام وَإِنَّمَا دخل الكنبيطور بلنسية سنة سبع وَثَمَانِينَ

وَتُوفِّي أَبُو عبد الرَّحْمَن ببلنسية وَصلى عَلَيْهِ بقبلة الْمَسْجِد الْجَامِع مِنْهَا إِثْر صَلَاة الْعَصْر من يَوْم الْأَرْبَعَاء الرَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْأَخِيرَة سنة ثَمَان وَخَمْسمِائة ثمَّ سير بِهِ إِلَى مرسية وَدفن بهَا وَقد نَيف على الثَّمَانِينَ

وعَلى مَكَانَهُ من البراعة والبلاغة فِي الرسائل فَلم أَقف لَهُ على شعر سوى قَوْله فِي مقتل الْقَادِر يحيى بن إِسْمَاعِيل بن الْمَأْمُون يحيى بن ذِي النُّون على يَدي أبي أَحْمد جَعْفَر بن عبد الله بن جحاف الْمعَافِرِي عِنْد انتزائه ببلنسية وانتقاله من خطة الْقَضَاء إِلَى خطة الرِّئَاسَة وَكَانَ أخيف

(أَيهَا الأخيف مهلا

فَلَقَد جِئْت عويصا)

ص: 125

(إِذْ قتلت الْملك يحيى

وتقمّصت القميصا)

(رب يَوْم فِيهِ تجزى

لم تَجِد عَنهُ محيصا)

فَقضى الله أَن تسلط عَلَيْهِ الطاغية الكنبيطور بعد أَن أَمنه فِي نَفسه وَمَاله عِنْد دُخُوله بلنسية صلحا وَتَركه على الْقَضَاء نَحوا من عَام ثمَّ اعتقله وَأهل بَيته وقرابته وَجعل يطلبهم بِمَال الْقَادِر بن ذِي النُّون وَلم يزل يسْتَخْرج مَا عِنْدهم بِالضَّرْبِ والإهانة وغليظ الْعَذَاب ثمَّ أَمر بإضرام نَار عَظِيمَة كَانَت تلفح الْوُجُوه على مَسَافَة بعيدَة وجىء بِالْقَاضِي أبي أَحْمد يُوسُف فِي قيوده وَأَهله وَبَنوهُ حوله فَأمر بإحراقهم جَمِيعًا فَضَجَّ الْمُسلمُونَ وَالروم وَقد اجْتَمعُوا وَرَغبُوا فِي ترك الْأَطْفَال والعيال فأسعفهم بعد جهد شَدِيد

واحتفر للْقَاضِي حُفْرَة وَذَلِكَ بولجة بلنسية وَأدْخل فِيهَا إِلَى حجزته وسوّى التُّرَاب حوله وضمت النَّار نَحوه

فَلَمَّا دنت مِنْهُ ولفحت وَجهه قَالَ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَقبض على أقباسها وَضمّهَا إِلَى جسده يستعجل الْمنية فَاحْتَرَقَ رحمه الله وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الأولى سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَيَوْم الْخَمِيس منسلخ جُمَادَى الأولى من السّنة قبلهَا كَانَ دُخُول الكنبيطور الْمَذْكُور بلنسية

ص: 126

ثمَّ ملكهَا الرّوم ثَانِيَة بعد أَن حاصرها الطاغية جاقم البرشلوني من يَوْم الْخَمِيس الْخَامِس من شهر رَمَضَان سنة خمس وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة إِلَى يَوْم الثُّلَاثَاء السَّابِع عشر من صفر سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَفِي هَذَا الْيَوْم خرج أَبُو جميل زيان ابْن مدافع بن يُوسُف بن سعد الجذامي من الْمَدِينَة وَهُوَ يَوْمئِذٍ أميرها فِي أهل بَيته ووجوه الطّلبَة والجند وَأَقْبل الطاغية وَقد تزيّي بِأَحْسَن زِيّ فِي عُظَمَاء قومه من حَيْثُ نزل بالرصافة أول هَذِه المنازلة فتلاقيا بالولجة واتفقا على أَن يتسلم الطاغية الْبَلَد سلما لعشرين يَوْمًا ينْتَقل أَهله أثناءها بِأَمْوَالِهِمْ وأسبابهم

وَحَضَرت ذَلِك كُله وتوليت العقد عَن أبي جميل فِي ذَلِك وابتدئ بضعفة النَّاس وسيّروا فِي الْبَحْر إِلَى نواحي دانية واتصل انْتِقَال سَائِرهمْ برّاً وبحراً

وصبيحة يَوْم الْجُمُعَة السَّابِع وَالْعِشْرين من صفر الْمَذْكُور كَانَ خُرُوج أبي جميل بأَهْله من الْقصر فِي طَائِفَة يسيرَة أَقَامَت مَعَه وَعند ذَلِك استولى عَلَيْهَا الرّوم أحانهم الله

ص: 127

131 -

أَحْمد بن رَشِيق الْكَاتِب أَبُو الْعَبَّاس

كَانَ أَبوهُ من موَالِي بني شَهِيد وَنَشَأ بمرسية وانتقل إِلَى قرطبة وَطلب الْأَدَب فبرز فِيهِ وبسق فِي صناعَة الرسائل مَعَ حسن الْخط الْمُتَّفق على نهايته

وشارك فِي سَائِر الْعُلُوم وَمَال إِلَى الْفِقْه والْحَدِيث وَبلغ من رياسة الدُّنْيَا أرفع

منزلَة وَقدمه الْأَمِير أَبُو الْجَيْش مُجَاهِد بن عبد الله العامري على كل من فِي دولته وولاة جَزِيرَة ميورقة فَكَانَ ينظر فِيهَا نظر الْعدْل والسياسة ويشتغل بالفقه والْحَدِيث وَيجمع الْعلمَاء وَالصَّالِحِينَ ويؤثرهم وَيصْلح الْأُمُور جهده

وَهُوَ آوى الْفَقِيه أَبَا مُحَمَّد بن حزم حِين نعى عَلَيْهِ بقرطبة وَغَيرهَا خلَافَة مَذْهَب مَالك وَبَين يَدَيْهِ تناظر هُوَ وَالْقَاضِي أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ

قَالَ الْحميدِي فِي تَارِيخه وَأكْثر خَبره عَنهُ مَا رَأينَا من أهل الرِّئَاسَة من يجْرِي مجْرَاه مَعَ هَيْبَة مفرطة وتواضع وحلم عرف بِهِ مَعَ الْقُدْرَة وَله رسائل مَجْمُوعَة متداولة

وَذكر أَنه مَاتَ بعيد الْأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة عَن سنّ عالية وَهُوَ الْقَائِل يُرَاجع أَبَا الْحسن ابْن سَيّده الضَّرِير معتذراً عَن صلَة وَجه بهَا إِلَيْهِ من ميورقة وَكَانَ قد كتب إِلَيْهِ من دانية يستمنحه

(أدأب دهري وَلَو تطاول لي

فِي حطّ ثقل من الغرامة بِي)

(أحدثه لي تصاون وَهوى

فِي عفة من دميم مكتسب)

ص: 128

(فَمن رَآنِي وظاهري لغنى

فباطني قلَّة على رتب)

(أسْتَغْفر الله بل لَهُ نعم

وَهِي بذنبي إِلَيْهِ لم تجب)

132 -

مُحَمَّد بن مَرْوَان بن عبد الْعَزِيز الْكَاتِب أَبُو عبد الله

أَصله من قرطبة وَسكن بلنسية وَيعرف بِابْن روبش وَسَيَأْتِي ذكر نسبه عِنْد ذكر ابْنه الْوَزير الْأَجَل أبي بكر أَحْمد بن مُحَمَّد

وَكَانَ أَبُو عبد الله هَذَا قد رَأس فِي آخر دولة الْمَنْصُور عبد الْعَزِيز بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن أبي عَامر صَاحب بلنسية فَلَمَّا توفّي الْمَنْصُور وَملك ابْنه المظفر عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز تمشّت حَاله مَعَه على مَا كَانَت عَلَيْهِ فِي حَيَاة أَبِيه وَكَانَ عبد الْملك ضَعِيفا فخلعه صهره الْمَأْمُون يحيى بن إِسْمَاعِيل بن ذِي النُّون صَاحب طليطلة فِي سنة سبع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَفِي ليله عَرَفَة لتسْع خلون من ذِي الْحجَّة مِنْهَا وَملك بلنسية وَمَا إِلَيْهَا من بِلَاد الشرق فاستخلف عَلَيْهَا أَبَا عبد الله بن عبد الْعَزِيز هَذَا وَجعل إِلَيْهِ تَدْبِير أمرهَا

ثمَّ انْتقل ذَلِك عِنْد وَفَاته إِلَى أبي بكر ابْنه فتناهت فِيهَا حَاله بعد موت الْمَأْمُون بن ذِي النُّون واستبد بالرئاسة وَجرى على أَحْمد سنَن من السياسة ذكر هَذَا الْخَبَر أَبُو بكر مُحَمَّد بن عِيسَى بن مزين فِيمَا وَقعت عَلَيْهِ من تأليف لَهُ مُخْتَصر فِي التَّارِيخ

وَأما ابْن حَيَّان فَذكر هَذَا المخلوع عبد الْملك وأساء الثَّنَاء عَلَيْهِ وَحكى أَنه كَانَ فِي مصير ملك أَبِيه إِلَيْهِ قد تخلى عَن أَمر الْإِمَارَة أجمعه وفوضه إِلَى وزيره أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز الْمَاضِي لعبد الْملك مَكَانَهُ عِنْد توليه

ص: 129

وَأَشْبع الْكَلَام فِي صفة خلع عبد الْملك وَنسب محاولته إِلَى أبي بكر دون أَبِيه فَدلَّ ذَلِك على وَفَاته قبلهَا وَالله أعلم

وَمن شعر أبي عبد الله بن عبد الْعَزِيز مَا جاوب بِهِ الْوَزير أَبَا عَامر بن عَبدُوس وَقد كتب إِلَيْهِ

(يَا أطيب النَّاس أغصاناً وأعراقاً

وأعذب الْخلق آداباً وأخلاقاً)

(وَيَا حَيا الأَرْض لم نكّبت عَن سُنَنِي

وسقت نحوي إرعاداً وإبراقا)

(وَيَا سنا الشَّمْس لم أظلمت فِي بَصرِي

وَقد وسعت بِلَاد الله إشراقا)

(من أَي بَاب سعت عين الزَّمَان إِلَى

رحيب صدرك حَتَّى قيل قد ضاقا)

(قد كنت أحسبني فِي حسن رَأْيك لي

أَنِّي أخذت على الْأَيَّام ميثاقا)

(فَالْآن لم يبْق لي بعد انحرافك مَا

آسى عَلَيْهِ وأبدي مِنْهُ إشفاقا)

(قد كنت أوليك إحساناً وإشفاقا

وأنثني عَنْك مهما غبت مشتاقا)

(وَمَا ألوتك نصحاً لَو جزيت بِهِ

وَلم يكن من ذميم الْغدر مَا عاقا)

(وَكَانَ من أملي أَن أقتنيك أَخا

فأخفق الأمل المأمول إخفاقا)

(وَقلت غرس من الإخوان أكلؤه

حَتَّى أرى مِنْهُ إثمارا وإيراقا)

(فَكَانَ لما انْتهى إزهاره ودنا

إثماره خنظلا مرّاً لمن ذاقا)

ص: 130

(فَالْآن أخلق مَا بيني وَبَيْنك من

ثوب الوداد لسوء الْفِعْل إخلاقا)

(وَلست أول إخْوَان سقيتهم

صفوي وأعلقتهم بِالنَّفسِ إعلاقا)

(فَمَا جزوني بِإِحْسَان وَلَا عرفُوا

قدري وَلَا حفظوا عهدا وميثاقا)

133 -

مُحَمَّد بن عمار بن الْحُسَيْن بن عمار الْمهرِي ذُو الوزارتين أَبُو بكر

أَصله من قَرْيَة بشلب تعرف بشنّبوس وَنَشَأ خاملاً ينتجع بِشعرِهِ وَيَطوف على مُلُوك الطوائف عصره وَقد تقدم ذكر اعترافه بِقصد ابْن طَاهِر ب 93 فِي الْهَيْئَة الَّتِي عرّض لَهُ بهَا فِي نادرته

وَتعلق فِي أول أمره بالمعتمد مُحَمَّد بن عباد حِين وَجهه أَبوهُ المعتضد مُحَاربًا لشلب فَنزع إِلَيْهِ وَبلغ من الْمنزلَة لَدَيْهِ أَن غلب عَلَيْهِ ثمَّ صَحبه بإشبيلية وَكَانَ يحضرهُ مجَالِس أنسه ويستدعيه إِلَيْهَا ويؤثره على خاصته ويستريح إِلَيْهِ بسره وَمن ذَلِك قَوْله وَكتب بِهِ إِلَيْهِ

(قد زارنا النرجس الذكيّ

وحان من يَوْمنَا العشيّ)

(وَنحن فِي مجْلِس أنيق

وَقد عطشنا وثمّ ريّ)

(ولي خَلِيل غَدا سمي

ياليته ساعد السمي)

ص: 131

فَأَجَابَهُ واصلاً وقائلاً

(لبيْك لبيْك من مُنَاد

لَهُ الندى الرحب والنديّ)

(هَا أَنا بِالْبَابِ عبد قنّ

قبلته وَجهك السنيّ)

(شرّفه والداه باسم

شرّفته أَنْت والنبيّ)

وسرى إِلَى ابْن عمار أَن الْمُعْتَمد كتب من قرطبة إِلَى بعض كرائمه شعرًا يعْتَذر فِيهِ من اللحاق بهَا آخِره إِن شَاءَ رَبِّي أَو شَاءَ ابْن عمار فَقَالَ

(مولَايَ عِنْدِي لما تهوى مساعدة

كَمَا تتَابع خطف البارق الساري)

(إِن شِئْت فِي الْبَحْر فاركب ظهر سابحة

أَو شِئْت فِي الْبر فاركب ظهر طيار)

(حَتَّى تحلّ وَحفظ الله يكلؤنا

ساحات قصرك واتركني إِلَى دَاري)

(وَقبل خلع نجاد السَّيْف فاسع إِلَى

ذَات الوشاح وَخذ للحب بالثار)

(ضماّ ولثماً يغنّي الحلى بَيْنكُمَا

كَمَا تجاوب أطيار بأسحار)

كَمَا حكى أَبُو الطَّاهِر التَّمِيمِي السَّرقسْطِي فِي ديوَان شعر ابْن عمار من جمعه عِنْد إِيرَاد هَذِه الْقطعَة

وَقَالَ ابْن بسام فِي كتاب الذَّخِيرَة ذكر أَن الْمُعْتَمد أَقَامَ بُرْهَة بقرطبة يرفع بعض الْأُمُور السُّلْطَانِيَّة فسئم طلقه وتذكر على عَادَته خلقه ودعته دواعي نَفسه إِلَى قَيْنَته وكأسه فَاسْتَشَارَ يَوْمئِذٍ ابْن عمار وَكَانَ خاطبه فِي ذَلِك بِشعر وَظن عِنْده أهبة إِذْ كَانَت عَلَيْهِ مِنْهُ بعض الرَّقَبَة فَوَجَدَهُ

ص: 132

أهتك سترا وأقلّ عَن اللَّذَّات صبرا وَأَشَارَ عَلَيْهِ بتعطيل الثغر وإضاعة الْأَمر وجاوبه على ذَلِك بِهَذَا الشّعْر وَذكر الأبيات

ووجّه الْمُعْتَمد أَبَا بكر بن عمار إِلَى شلب متفقداً لأعمالها فَلَمَّا ودعه أنْشدهُ وَقد اهتاج شوقه إِلَيْهَا وتذكر معاهد صباه وعهوده فِيهَا إِذْ كَانَ والياً من قبل أَبِيه المعتضد عَلَيْهَا

(أَلا حيّ أوطاني بشلب أَبَا بكر

وسلهن هَل عهد الْوِصَال كَمَا أَدْرِي)

(وسلّم على قصر الشّراجب عَن فَتى

لَهُ أبدا شوق إِلَى ذَلِك الْقصر)

(منَازِل آساد وبيض نواعم

فناهيك من غيل وناهيك من خدر)

(وَكم لَيْلَة قد بتّ أنعم جنحها

بمخصبة الأرداف مُجْدِبَة الخصر)

(وبيض وَسمر فاعلات بمهجتي

فعال الصّفاح الْبيض والأسل السّمر)

(لَيَال بسدّ النَّهر لهواً قطعتها

بِذَات سوار مثل منعطف الْبَدْر)

(نضت بردهَا عَن غُصْن بَان منعّم

نضير كَمَا انْشَقَّ الكمام عَن الزهر)

واتصل بالمعتمد فِي بعض سفاراته عَنهُ إِلَى جليقية أَن الطاغية أذفونش ثقفه هُنَالك ثمَّ ورد الْخَبَر بعد بضدّ ذَلِك فَلَمَّا قدم ابْن عمار كتب إِلَيْهِ الْمُعْتَمد

(لما نأيت نأى الْكرَى عَن ناظري

وصرفته لما انصرفت عَلَيْهِ)

(طلب البشير بِشَارَة يحظى بهَا

فَوهبت قلبِي واعتذرت إِلَيْهِ)

إِلَى غير مَا أوردت من الدَّلَائِل على لطف الْمنزلَة وَتمكن الحظوة وتضاعف الأثرة وَحب الرِّئَاسَة فِي رَأسه يَدُور إِلَى أَن نفذ بمصرعه على يَدَيْهِ الْمَقْدُور

وَمن بديع صَنِيع ابْن عمار إِتْلَاف أشعاره المقولة فِي الامتياح وقصائده

ص: 133

94 -

ب المصوغة فِي الانتجاع ومحو آثارها فَمَا يُوقف مِنْهَا الْيَوْم على شَيْء سوى أمداحه فِي المعتضد عباد وَمَا لَا اعْتِبَار بِهِ لنزوره

وَقد ألّف أَبُو الطَّاهِر مُحَمَّد بن يُوسُف التَّمِيمِي شعره ورتبه على حُرُوف المعجم وَلَا شكّ أَنه بحث عَنهُ فِي مظانّه واستفرغ جهده فِي جمعه فَلم يَقع لَهُ على غير تقريظ المعتضد وَأرى ذَلِك خدمَة مِنْهُ لِابْنِهِ الْمُعْتَمد

وَكَانَ ابْن عمار شَاعِر الأندلس غير مدافع وَلَا مُنَازع إِلَّا أَن مساوئ أَفعاله ذهبت بمحاسن أَقْوَاله أدمن الْخمر وهوّن على نَفسه الْغدر فأداه ذَلِك إِلَى رداه وَكَانَ كَالَّذي نفخ فوه وأوكت يَدَاهُ قَالَ ابْن بسام وَلما خبط أَبُو بكر بن عمار سمُرَات مُلُوك الأندلس بعصاه وَتردد ينتجعهم بمكائده ورقاه وَإِنَّمَا كَانَ يطْلب سُلْطَانا ينثر فِي يَده سلكه وملكاً يخلع على نَفسه ملكه جعل أَبَا عبد الرَّحْمَن بن طَاهِر موقع همّه وَوجه أمّه

وَلما ألْقى الْمُعْتَمد لِابْنِ عمار مَا بِيَدِهِ بَعثه على حَرْب ابْن طَاهِر بغاء لنَفسِهِ وَبِنَاء على أسّه فأقبله وُجُوه الْجِيَاد وَأخذ عَلَيْهِ بالثغور والأسداد حَتَّى فتّ فِي عضده وانتزع سُلْطَانه من يَده وَلما قَالَ عزمه وَفعل وَقَامَ وزن أمره واعتدل مد يَده وبسطها وَكفر نعْمَة ابْن عباد وغمطها وانتزى لَهُ من

ص: 134

حِينه على مرسية وَقعد بهَا مقْعد الرؤساء وخاطب سُلْطَانه مُخَاطبَة الْأَكفاء مستظهراً على ذَلِك بجر الأذيال وإفساد قُلُوب الرِّجَال مُعْتَقدًا أَن الرِّئَاسَة كأس يشْربهَا وملاءة مجون يسحبها فقيض لَهُ يَوْمئِذٍ من عبد الرَّحْمَن بن رَشِيق عدوّ فِي ثِيَاب صديق من رجل مدره ختر وجذيل خديعة ومكر فَلم يزل يطلع عَلَيْهِ من الثنايا والشّعاب حَتَّى أخرجه من مرسية لَا كالشهاب قَالَ فَصَارَ ابْن عمار مَعَ ابْن رَشِيق تَحت الْمثل أنفقت مَالِي وحجّ الْجمل وَقد تقدم ذكر السَّبَب فِي اعتقال الرشيد بن الْمُعْتَمد وحصوله مَعَ ابْن عمار بأيدي الرّوم وانهزام عسكره المحاصر لمرسية قَالَ ابْن بسام وَفِي أثْنَاء تِلْكَ الْحَال الَّتِي أفضت بالرشيد إِلَى الاعتقال كتب يَعْنِي ابْن عمار إِلَى الْمُعْتَمد بِهَذِهِ الأبيات

(أصدّق ظَنِّي أم أصيخ إِلَى صحبي

وأقضي غريمي أم أَعْوَج مَعَ الركب)

(إِذا انقدت فِي رَأْيِي مشيت مَعَ الْهوى

وَإِن أتعقبه نكصت على عَقبي)

(وَإِنِّي لتثنيني إِلَيْك مَوَدَّة

يغيّرها مَا قد تعرّض من ذَنبي)

ص: 135

(فَمَا أغرب الْأَيَّام فِيمَا قَضَت بِهِ

تريني بعدِي عَنْك آنس من قربي)

(أخافك للحق الَّذِي لَك فِي دمي

وأرجوك للحب الَّذِي لَك فِي قلبِي)

قَالَ وَهَذَا الْبَيْت على سهولة مبناه من أحسن مَا قيل فِي مَعْنَاهُ وبمثله فلتخدع الْأَلْبَاب وتستعطف الْأَعْدَاء للأحباب إِلَّا أَن المصراع الأول كَأَنَّهُ شَيْء تكهّنه من شانه وطيرة أَلْقَاهَا الله على لِسَانه وَصدق كَانَ لَهُ فِي عُنُقه ربق وَفِي دَمه حق حَتَّى احتال لَهُ فناله والمرء يعجز لَا المحالة وفيهَا يَقُول

(وَكم قد فرت يمناك بِي من ضريبة

وَلَا غرو يَوْمًا أَن يفلّل من غربي)

(وَأعلم أَن الْعَفو مِنْك سجية

فَلم يبْق إِلَّا أَن تخفّف من عتبي)

(ولي حَسَنَات لَو أمتّ بِبَعْضِهَا

إِلَى الدَّهْر لم يرتع لنائبة سربي)

فَأَجَابَهُ الْمُعْتَمد بقوله

(تقدم إِلَى مَا اعْتدت عِنْدِي من الرحب

ورد تلقك العتبى حِجَابا عَن العتب)

(مَتى تلقني تلق الَّذِي قد بلوته

صفوحاً عَن الْجَانِي رؤوفاً عَن الصحب)

(سأوليك مني مَا عهِدت من الرِّضَا

وأصفح عَمَّا كَانَ إِن كَانَ من ذَنْب)

(فَمَا أشعر الرَّحْمَن قلبِي قسوة

وَلَا صَار نِسْيَان الأذمّة من شعبي)

(تكلّفته أبغي بِهِ لَك سلوةً

وَكَيف يعاني الشّعْر مُشْتَرك اللب)

فَلم يزده جواد حواب الْمُعْتَمد إِلَّا توحشاً ونفاراً وتوقفاً عَن اللحاق بِهِ وازوراراً

هَذَا مَا أورد ابْن بسام من خبر ابْن عمار فِي هَذِه الْقَضِيَّة وَابْن قَاسم الشّلبي فِي تَارِيخه الْمَجْمُوع فِي أَخْبَار الْمُعْتَمد مُحَمَّد بن عباد أمتن علما بهَا وَأحسن سرداً لَهَا وَقد مضى من ذَلِك وَيَأْتِي مَا يَصح بِهِ قولي إِن شَاءَ الله تَعَالَى

ص: 136

وَأما أَبُو الطَّاهِر التَّمِيمِي فَحكى أَن ابْن عمار كتب إِلَى الْمُعْتَمد بِحَال أوجبت إيحاشاً

(أصدّق ظَنِّي أم أصيخ إِلَى صحبي

)

الأبيات الْمُتَقَدّمَة إِلَى آخرهَا وَزَاد فِيهَا بَيْتا وَهُوَ

(وَلَا بُد مَا بيني وَبَيْنك من نَثَا

يطبّقها مَا بَين شَرق إِلَى غرب)

وَأورد جَوَاب الْمُعْتَمد عَنْهَا كَمَا تقدم ثمَّ قَالَ بعقب ذَلِك وَقَالَ أَيْضا وَكتب بهَا إِلَيْهِ يَعْنِي الْمُعْتَمد وَقد ارْتهن زعيم برشلونة ابْنه الرشيد لمَال توقّف لَهُ عَنهُ وَظن بِابْن عمار فِي ذَلِك سعي قَالَ وَذَلِكَ فِي سنة إِحْدَى وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة

(أأركب قصدي أَو أَعْوَج مَعَ الركب

فقد صرت من أَمْرِي على مركب صَعب)

(وأصبحت لَا أَدْرِي أَفِي الْبعد راحتي

فأجعله حظي أم الْخَيْر فِي الْقرب)

(على أنني أَدْرِي بأنك مُؤثر

على كل حَال مَا يزحزح من كربي)

(أيظلم فِي عَيْني كَذَا قمر الدجى

وتنبو بكفي شفرة الصارم العضب)

(حنانيك فِيمَن أَنْت شَاهد جده

وَلَيْسَ لَهُ حاشا انتصاحك من حسب)

(وَمَا جِئْت شَيْئا فِيهِ بغى بطالب

يُضَاف بِهِ رَأْيِي إِلَى الضعْف والخب)

ص: 137

سوى أنني أسلمتني لملمة فللت بهَا حدي وكسّرت من غربي أما إِنَّه لَوْلَا عوارفك الَّتِي جرت فِي جري المَاء فِي الْغُصْن الرطب لما سمت نَفسِي مَا أسوم من الْأَذَى وَلَا قلت إِن الذَّنب فِي مَا جرى ذَنبي سأستمنح الرحمى لديك ضراعة وأسأل سقيا من تجاوزك العذب وَإِن نفحتني من سمائك وحرجف سأهتف يَا برد النسيم على قلبِي فَأَجَابَهُ الْمُعْتَمد لديّ لَك العتبى تزاح عَن العتب وسعيك عِنْدِي لَا يُضَاف إِلَى ذَنْب وأعزز علينا أَن تصيبك وَحْشَة وأنسك مَا تدريه فِيك من الْحبّ فدع عَنْك سوء الظنّ بِي وتعدّه إِلَى غَيره فَهُوَ الممكّن فِي الْقلب قريضك قد أبدى توحّش جَانب فجاوبت تأنيساً وعلمك بِي حسبي تكلّفته أبغي بِهِ لَك سلوة وَكَيف يعاني الشّعْر مُشْتَرك اللب هَكَذَا أَتَى بالقطعتين وجوابهما على نسق وَترْجم فِي الثَّانِيَة بالتفرقة بَينهمَا وَبَين الأولى فَخَالف ابْن قَاسم وَابْن بسام كَمَا ترى وَيحْتَمل أَن تَكُونَا فِي قصَّة وَاحِدَة قَالَ أَبُو الطَّاهِر وَقد كَانَ خَاطب أَبَا الْوَلِيد بن زيدون فِي أول تعلقه يَعْنِي بالسطان بِأَبْيَات استعاد بَعْضهَا فِي هَذِه الْقطعَة وَهِي

ص: 138

(تَأَمَّلت مِنْك الْبَدْر فِي لَيْلَة الْخطب

ونلت لديك الخصب فِي زمن الجدب)

(وجرّدت من محروس جاهك مرهفاً

تولّت بِهِ خيل الْحَوَادِث عَن حَرْبِيّ)

(وَمَا زلت من نعماك فِي ظلّ لَذَّة

تذكّرني أَيَّامهَا زمن الْحبّ)

(إِذْ الْعَيْش فِي أفياء ظلك بَارِد

فَمن مرتع خصب إِلَى مورد عذب)

(أحين سقى صوب اعتنائك ساحتي

فنعّمها واهتزّ روضي فِي تربي)

(ثنيت لعطف قد ثنيت مدائحي

عَلَيْهِ وسرب قد بدلت بِهِ سربي)

(أما إِنَّه لَوْلَا عوارفك الَّتِي

جرت فِي جري المَاء فِي الْغُصْن الرطب)

(لما ذدت طير الودّ عَن شجر القلى

وَلَا صنت وَجه الْحَمد عَن كلف العتب)

(وَلَكِن سأكني بِالْوَفَاءِ عَن الجفا

وأرضى ببعد بعد مَا كَانَ من قرب)

(وَإِن لفحتني من سمائك حرجف

سأهتف يَا برد النسيم على قلبِي)

(وَإِنِّي إِذا قلدت جاهك مطلبي

وأخفقت فِيهِ قلت يَا زمني حسبي)

(أيظلم فِي عَيْني كَذَا قمر الدجى

وتنبو بكفي شفرة الصارم العضب)

وَهَذَا أَيْضا مِمَّا نبّهت عَلَيْهِ قبل وعَلى وُقُوعه نَادرا حَتَّى لَا تعتل صِحَة المحكي عَنهُ من ضيَاع منظوماته فِي الانتجاع على أَن حكم العتاب خَارج عَن هَذَا الْبَاب

وَأما قصائده الشهيرة فِي الْمُعْتَمد وبنيه فلتوفيه حق الاصطناع وتعفيه مَا أوقعه فِي الارتياع وَدفعه إِلَى الاستعطاف والاستشفاع وَإِن أطلت 96 ب بِحَسب الِاضْطِرَار الْكَلَام واستسهلت فِي دَعْوَى الِاخْتِصَار الملام فلغرابة هَذِه الْأَخْبَار وبراعة مَا يتخللها من الْأَشْعَار

ص: 139

ونعود إِلَى خبر ابْن رَشِيق مَعَ ابْن عمار وَمَا آل إِلَيْهِ أمره بعد ذَلِك ذكر أَبُو بكر مُحَمَّد بن يُوسُف بن قَاسم الشلبي مَا تلخيصه وإيجازه مَعَ زيادات تخيرتها وَبَعضه على الْمَعْنى دون اللَّفْظ أَن ابْن رَشِيق لما قرئَ كِتَابه المتضمن دُخُوله مرسية بإشبيلية ارْتَاحَ ابْن عمار وأعمل نظره فِي اللحاق بهَا وَأَشَارَ على الْمُعْتَمد بذلك فَمَا خَالفه فواقاً فَلم يتْرك ابْن عمار بإشبيلية فِي ملك سُلْطَانه وَلَا ملك أحد من معارفه فرسا عتيقاً وَلَا مَطِيَّة وَلَا زاملةً إِلَّا استخرج ذَلِك من أَيْديهم رَغْبَة وَرَهْبَة حَتَّى لاجتمع لَهُ مائَة جنيبة وَمِائَة زاملة وأحضر لَهُ التُّجَّار مَا بِأَيْدِيهِم على اخْتِلَاف بضائعهم من الديباج والخز إِلَى مَا دون ذَلِك من نَفِيس الكسا ليعمّ بذلك أهل مرسية على قدر مَنَازِلهمْ عِنْده وَلم يخف عَن ابْن عباد وَجه مُرَاده فَلَمَّا سلم عَلَيْهِ مودعاً قَالَ لَهُ سر إِلَى خيرة الله وَلَا تظن أَنِّي مخدوع فَقَالَ لست بمخدوع وَلَكِنَّك مُضْطَر فحلم عَنهُ

وَخرج من إشبيلية على بَاب مقرانة وَأقَام بظاهرها أَرْبَعَة أَيَّام يَسْتَوْفِي أغراضه ثمَّ رفع ألويته وقرع طبوله وَسَار لَا يمر بِبَلَد من أَعمال ابْن عباد إِلَّا استخرج مِنْهُ كل ذخيرة حَتَّى وصل إِلَى مرسية فَدَخلَهَا فِي يَوْم مَشْهُور وَابْن رَشِيق بَين يَدَيْهِ قد برز لَهُ وَخرج يزفه إِلَى الْقصر وَجلسَ فِي الْيَوْم الثَّانِي مجْلِس التهنئة للخواص والعوام فسجعت الشُّعَرَاء بأمداحه وَقد تزييّ بزيّ

ص: 140

ابْن عباد فِي حمل الطّويلة على رَأسه وَحَكَاهُ فِي التَّعْبِير وَكتب ينفذ هَذَا إِن شَاءَ الله فِي أَسْفَل قرطاسه وتحتّم فِي كلتا يَدَيْهِ وبلغه أَن ابْن عبد الْعَزِيز عَابَ ذَلِك عَلَيْهِ فَكتب إِلَيْهِ

(قل للوزير وَلَيْسَ رَأْي وَزِير

أَن يتبع التنزير بالتندير)

(إِن الوزارة لَو سلكت سَبِيلهَا

وقف على التعزيز والتوقير)

(وَأرى الفكاهة جلّ مَا تَأتي بِهِ

رحماك فِي التَّعْجِيز والتصدير)

(وصلت دعابتك الَّتِي أَهْدَيْتهَا

فِي خَاتم التَّأْمِين والتأمير)

(وأظنها للطاهريّ فَإِن تكن

فخليقة التَّقْدِيس والتطهير)

(وَلَعَلَّ يَوْمًا أَن يصيّر نَعته

فِي طِينَة التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير)

(وَترى بلنسية وَأَنت قدارها

سينالها التّدمير من تدمير)

ص: 141

وَحكى غَيره أَن ابْن طَاهِر هُوَ الَّذِي غمز على رَسُول ابْن عمار الْمعلم بخاتميه وَأَنه نسب أَحدهمَا للمؤتمن بن هود وَالثَّانِي لأذفونش بن فردلند وَترْجم أَبُو الطَّاهِر التَّمِيمِي على هَذِه الْقطعَة فِي مَجْمُوعَة من شعر ابْن عمار قَالَ وَله للوزير الْأَجَل أبي بكر بن عبد الْعَزِيز وَقد ندّر فِيهِ حِين بلغه أَن أذفونش ملك الرّوم أعطَاهُ خَاتمًا عِنْد اجتماعه بِهِ ولياذه فِرَارًا من الوحشة الْوَاقِعَة بَينه وَبَين ابْن عباد وتخوفاً مِنْهُ فَقَالَ أخاتم التأمير أم خَاتم التَّأْمِين فَقَالَ ابْن عمار واعتقد إنفاذها إِلَيْهِ وَذكر الأبيات وَزَاد فِي آخرهَا

(فرسا رهان أَنْتُمَا فتجاريا

لنقول فِي التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير)

قَالَ ابْن بسام وَاسْتعْمل ابْن عمار خساس عبيده على الْحُصُون وأقطعهم الضّيَاع وَأعْرض عَن النصيح وَأَقْبل على الغبوق والصّبوح وَابْن رَشِيق فِي خلال ذَلِك يسْتَبْدل أُولَئِكَ الأوباش ببني أخوته وأخواته وَكَانُوا جمَاعَة حَتَّى إِذا صَارَت عَن آخرهَا فِي ضَبطه وَعلم أَن أَمر ابْن عمار قد نقل لِابْنِ عباد

ص: 142

قطع عَنهُ تِلْكَ الْموَاد وأغرى الأجناد بِطَلَب أَرْزَاقهم مِنْهُ فأيقظته الضَّرُورَة من سنة البطالة وَفِي مُدَّة إقباله على سفاهته كَانَ ابْن عباد يستلطفه بأعيان الْأَصْحَاب فيذكّرونه بالأذمّة ويوعدونه على وجاهر بِهِ وَكتب إِلَيْهِ الْمُعْتَمد

(تغيّر لي فِيمَن تغير حَارِث

وَرب خَلِيل غيرته الْحَوَادِث)

(أحارث إِن شوركت فِيك فطالما

نعمنا وَمَا بيني وَبَيْنك ثَالِث)

فجاوبه ابْن عمار

(لَك الْمثل الْأَعْلَى وَمَا أَنا حَارِث

وَلَا أَنا مِمَّن غيرته الْحَوَادِث)

(وَلَا شاركتك الشَّمْس فيّ وَإنَّهُ

لينأى بحظي مِنْك ثَان وثالث)

(فديتك مَا للبشر لم يسر برقه

وَلَا نفحت تِلْكَ السجايا الدمائث)

(أَظن الَّذِي بيني وَبَيْنك أذهبت

حلاوته عني الرِّجَال الأخابث)

(تنكّرت لَا أَنِّي لفضلك ناكر

لديّ وَلَا أَنِّي لعهدك ناكث)

(وَلَكِن ظنون ساعدتها نمائم

كَمَا ساعدت صَوت المثاني المثالث)

(أبعد انقضا خمس وَعشْرين حجَّة

تجافت لنا عَنْهَا الخطوب الكوارث)

(مَضَت لم ترب مني أُمُور شوائب

وَلَا تليت عني مساع خبائث)

ص: 143

(حللت يدا بِي هَكَذَا وتركتني

نهاباً وللأيام أيد عوابث)

(وَهل أَنا إِلَّا عبد طَاعَتك الَّتِي

إِذا مت عَنْهَا قَامَ بعدِي وَارِث)

(أعد نظرا لَا توهن الرَّأْي إِنَّه

قَدِيما كبا هاف وَأدْركَ رائث)

(ستذكرني إِن بَان حبلي وأصبحت

تَئِنُّ بكفيك الحبال الرثائث)

(وتطلبني إِن غَابَ للرأي حَاضر

وَقد غَابَ مني للخواطر باعث)

(أعوذ بِعَهْد نطته بك أَن ترى

تحل عراه العاقدات النوافث)

وَذكر ابْن بسام هَذَا الشّعْر بعد أَن قَالَ وأفضت الْحَال بالرشيد إِلَى الاعتقال بأيدي نَصَارَى الإفرنجة فِي جملَة من المَال كَانُوا أَكْثرُوا بهَا فَحَسبُوا الرشيد بِسَبَبِهَا إِلَى أَن افتكّه أَبوهُ الْمُعْتَمد فِي خبر طَوِيل وَابْن عمار صَاحب ذَلِك الرحيل والملوم فِي الْمَعْلُوم من أمره والمجهول وَفَسَاد حَاله عِنْد الْمُعْتَمد يتزايد وتدابره يتساند وَفِي أثْنَاء مَا وَقع من تَدْبِير تِلْكَ الْأُمُور ونجوم ذَلِك الاستيحاش والتغيير خاطبه الْمُعْتَمد عاتباً متمثلاً بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ وَقد كَانَ خرج عَنهُ وأوردهما وَجَوَاب ابْن عمار إِلَى آخِره

ص: 144

قَالَ ابْن قَاسم فَكَانَ لَا ينثني عَن هَوَاهُ وَلَا يزلّ عَن مرقاة حَتَّى قَالَ لَهُ من كَانَ يعصيه من نصّاحه تعرف الْحصن الْفُلَانِيّ قَالَ نعم أَلَيْسَ صَاحبه فلَان من عَبِيدِي فَيَقُول لَهُ لَا وَالله مَا فِيهِ إِلَّا فلَان ابْن أخي ابْن رَشِيق أَو ابْن أُخْته وَجعل يعدد لَهُ المعاقل وَيذكر خُرُوجهَا من أَيدي ثقاته وَرِجَاله فَسقط فِي يَده وفر على وَجهه من مرسية إِلَى جليقية لاحقاً بأذفونش بن فردلند وشاكياً إِلَيْهِ غدر ابْن رَشِيق رَجَاء إعدائه عَلَيْهِ لم يذكر ابْن قَاسم مروره ببلنسّية فِي خُرُوجه من مرسية وَهُوَ صَحِيح وَفِي ذَلِك يَقُول يُخَاطب ابْن عبد الْعَزِيز صَاحبهَا وَقد أخرج إِلَى لِقَائِه رجلا استجهله

(تناهيتم فِي برنا لَو سمحتم

بِوَجْه صديق فِي اللِّقَاء وسيم)

(وسلسلتم رَاح البشاشة بَيْننَا

لَو أَنكُمْ ساعدتم بنديم)

(سألتمس الْعذر الْجَمِيل عَن الْعلَا

وأحتال للفضل احتيال كريم)

(وأثني على روض الطلاقة بالجني

وَإِن لم أفز من نشره بنسيم)

ص: 145

(بخلتم بأعيان الرِّجَال على النَّوَى

فَلم تصلونا مِنْهُم بزعيم)

(وَلَكِن سأستعدي الْوَفَاء وأقتضي

سماحك بالأنس اقْتِضَاء غَرِيم)

وَحكى ابْن بسام فِي أَخْبَار ابْن عمار من تأليفه أَنه قَالَ هَذَا الشّعْر فِي بعض رسالاته عَن الْمُعْتَمد واجتيازه ببلنسية لَا عِنْد فراره من مرسية

قَالَ ابْن الْقَاسِم وَقد كَانَ ابْن رَشِيق قدّم الحزم فاستمال أذفونش بألطافه وهداياه وغيّره على ابْن عمار فَانْصَرف خائباً وَيُقَال إِنَّه قَالَ لَهُ بِلِسَانِهِ يَا ابْن عمار مثلك مثل السَّارِق سرق السّرقَة فضيّعها حَتَّى سرقت مِنْهُ

وَعند ذَلِك عدل إِلَى سرقسطة بِظَاهِر الْخدمَة لواليها المؤتمن أبي عمر يُوسُف بن المقتدر بن هود والنيابة عَنهُ بالوزارة فَأمر لَهُ بدار تحمله وَمن مَعَه وأدرّ عَلَيْهِ من الإجراء مَا وسعهم ووسعه وتجافى عَنهُ مَعَ ذَلِك فَأَقَامَ على البطالة مُقبلا وَفِي ذَلِك يَقُول وَقد عذل عَن الإدمان

(نقمتم عليّ الراح أدمن شربهَا

وقلتم فَتى لَهو وَلَيْسَ فَتى مجد)

(وَمن ذَا الَّذِي قاد الْجِيَاد إِلَى الوغى

سواي وَمن أعْطى كثيرا وَلم يكد)

(فديتكم لم تفهموا السرّ إِنَّمَا

قليتكم جهدي فأبعدتكم جهدي)

وَحكى غَيره أَنه سئم تِلْكَ الْحَالة فَرَحل إِلَى صَاحب لاردة المظفر حسام الدولة أبي عمر يُوسُف بن سُلَيْمَان المستعين وَكَانَ أكبر أَوْلَاده وَالَّذِي يحادّ المقتدر لما كَانَ عَلَيْهِ من الشجَاعَة وَالْأَدب الْمفضل بِهِ على أهل بَيته فَأكْرمه

ص: 146

وأنزله ثمَّ وكرّ عَائِدًا إِلَى سرقسطة وبلاردة قَالَ قصيدته الفريدة الَّتِي أَولهَا

(عليّ وَإِلَّا مَا بكاء الغمائم

وفيّ وَإِلَّا مَا نياح الحمائم)

وأنفذها إِلَى الْمُعْتَمد وَهِي تنيف على تسعين بَيْتا مر لَهُ فِيهَا إِحْسَان كثير وَمن فَاحش الْغَلَط قَول ابْن بسام أَن ابْن عمار قَالَ هَذِه القصيدة لما خَافَ من المعتضد لغلبته على ابْنه الْمُعْتَمد ففر من إشبيلية وَلحق بشرق الأندلس وَتمكن من المؤتمن بن هود قَالَ وَمن هُنَالك خاطبه بهَا فَلَمَّا قرعت سمع الْمُعْتَمد وجّه عَن ابْن عمار على التَّرْغِيب والتمكين واستوزره عدَّة سِنِين إِلَى الْمِيقَات الْمَضْرُوب وَالْأَجَل الْمَكْتُوب حكى ذَلِك فِي كتاب الذَّخِيرَة

وَفِي أَخْبَار ابْن عمار من تأليفه وَلَا أَدْرِي كَيفَ غَابَ عَنهُ أَن مَا ادَّعَاهُ لوصح كَانَ قبل السِّتين أَو الْخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَولَايَة المؤتمن فِي جمادي الأول سنة أَربع وَسبعين وَلقَائِل أَن يَقُول لَعَلَّ ابْن عمار صَحبه فِي حَيَاة أَبِيه المقتدر وَهُوَ إِذْ ذَاك مرشح لمكانه فَيلْزمهُ أَن يَأْتِي على مقاله بِمَا يؤمنّه من إِبْطَاله والمتعارف أَن ابْن عمار لم يصحب المؤتمن بسرقسطة إِلَّا عِنْد فراره من مرسية فغلط ابْن بسام لَا خَفَاء بِهِ وَلَا امتراء فِيهِ

قَالَ ابْن قَاسم وَاتفقَ أَن انتزى عَام لِابْنِ هود يَعْنِي المؤتمن

ص: 148

فِي معقل منيع من أَعماله وَكَانَت بَينه وَبَين ابْن عمار معرفَة فضمن لَهُ استنزاله وَسَار إِلَيْهِ فَلَمَّا نزل بساحته تشوّف ذَلِك الْعَامِل إِلَى برّه وَلم ير بَأْسا فِي إرقائه إِلَى قَصَبَة حصنه فِي رجلَيْنِ من جملَته فأوعز ابْن عمار إِلَى الصاعدين مَعَه أَن صبا سيفكما عَلَيْهِ إِذا رأيتماني أماشيه ويدي فِي يَده وَلَو قتلتماني وإياه ففعلا ذَلِك وفر أَصْحَابه عِنْد قَتله وألقوا بِأَيْدِيهِم إِلَى ابْن عمار متطارحين عَلَيْهِ ومستشفعين بِهِ إِلَى المؤتمن فضمن لَهُم تأمينه إيَّاهُم وصفحه عَن جنايتهم وخاطبه بذلك فورد جَوَابه بإمضاء مَا ألتزمه عَنهُ من الإغضاء ولطف محلّه عِنْده واستأنف الاعتناء بشؤونه فخاطب الْمُعْتَمد فِي تَسْرِيح عِيَاله وأبنائه الَّذين بإشبيلية فَلم يبعد لَهُ عَن الْإِسْعَاف على أَنه كتب فِي أثْنَاء مُرَاجعَته يحذرهُ مِنْهُ

(وَالشَّيْخ لَا يتْرك أخلاقه

حَتَّى يواري فِي ثرى رمسه)

(إِذا ارعوى عَاد إِلَى ضِدّه

كذى الضّنى عَاد إِلَى نكسه)

قَالَ وَكَانَ إقبال الدولة عليّ بن مُجَاهِد صَاحب دانية قبل غَلَبَة ابْن هود عَلَيْهِ يَعْنِي المقتدر وَذَلِكَ فِي شعْبَان من سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة قد اسْتعْمل ابْنه سراج الدولة على معقل شقورة فَلَمَّا استولى المقتدر على دانية وَاحْتمل أَبَاهُ إِلَى سرقسطة انْفَرد هُوَ بشقورة وضبطها ثمَّ مَاتَ حتف أَنفه وَخلف على حرمه وَولده فِي قصبتها عَبْدَيْنِ أَبوهُمَا عبد لِأَبِيهِ من سبى سردانية هما إِبْرَاهِيم وَعبد الْجَبَّار ابْنا سُهَيْل فرأيا أَنَّهُمَا لَا يستقلان بضبط المعقل فَجعلَا يساومان بِهِ الرؤساء المحيطين بهما حَتَّى وصلت إشارتهما إِلَى المؤتمن بن هود فللذي اتّفق لِابْنِ عمار قبل مَعَ عَامل المؤتمن المنتزى عَلَيْهِ

ص: 149

سَوَّلت لَهُ نَفسه الخائنة إِعْمَال تِلْكَ الْحِيلَة فِي ابْني سُهَيْل أَو استنزالهما بالإرغاب فِي الثّمن فضمن لِابْنِ هود أَمرهمَا وَطلب مِنْهُ تَجْهِيزه فِي عَسْكَر يَسْتَعِين بِهِ على محاولته فأسعفه وَلما وصل إِلَى حضيض شقورة لم يقدّم شَيْئا على الصعُود إِلَيْهِمَا مَعَ صَاحِبيهِ الملازمين لَهُ وهما جَابر وهاد اللَّذَان يَقُول فيهمَا من كلمة لَهُ

(عطّلت من حلي الرّكاب جيادي

وسلبت أَعْنَاق الرِّجَال صعادي)

(فَإِذا كسرت فثمّ خدن جَابر

وَإِذا ضللت فثم آخر هاد)

كَذَا أنْشد ابْن قَاسم وَلَا يعرف هَذَا الْبَيْت فِي قصيدته وَهِي شهيرة جليلة يُرَاجع بهَا أَبَا عِيسَى بن لبّون أَو أَخَاهُ أَبَا مُحَمَّد وَالْبَيْت الأول يرويهِ أَبُو الطَّاهِر التَّمِيمِي

(عطّلت من حلي السُّرُوج جيادي

وسلبت أَعْنَاق الْمطِي صعادي)

قَالَ وَلما انْتهى ابْن عمار من مصعدها إِلَى درج لَا يتخطاه الصاعد حَتَّى يجذب بضبعه تقدم هُوَ فَرفع بِالْأَيْدِي وأشير على صَاحِبيهِ فولّيا منحدرين وَاحْتمل هُوَ إِلَى ذرْوَة القصبة فَشد وثَاقه وَانْصَرف عَسْكَر سرقسطة وَكَانَ ابْن عمار قد أحقد هذَيْن الْعَبْدَيْنِ حِين كتب أَيَّام رئاسته بمرسية إِلَيْهِمَا بِشعر أَوله

(شمخت بكم فشمختم الأجبال

تستنزل الْأَفْعَال)

وَبعد قبضهما عَلَيْهِ طلبا بَيْعه من رُؤَسَاء الأندلس فتثاقلوا جَمِيعًا عَن ذَلِك وخفّ ابْن عباد إِلَيْهِ فأنفذ نَحْوهمَا بِكُل مَا سألاه ابْنه يزِيد الْمُسَمّى بالراضي فَنزلَا على حكمه وأسلماها إِلَيْهِ وإياه إِلَيْهِ فقدّم على الْحصن وَانْصَرف إِلَى أَبِيه

ص: 150

الْمُعْتَمد وَهُوَ بقرطبة وَابْن عمار بَين يَدَيْهِ مُقَيّد بَين عدلي تبن على هجن زوامل الْعَسْكَر وميل بِهِ إِلَى سجن قد أعد لَهُ وَعند قدوم الراضي شقورة لتسلمه كتب إِلَيْهِ

(قَالُوا أَتَى الراضي فَقلت لَعَلَّهَا

خلعت عَلَيْهِ من صِفَات أَبِيه)

(فال جرى فَعَسَى الْمُؤَيد واهباً

لي من رِضَاهُ وَمن أَمَان أَخِيه)

(قَالُوا نعم فَوضعت خدي فِي الثرى

شكرا لَهُ وتيمّناً ببنيه)

(يَا أَيهَا الراضي وَإِن لم تلقني

من صفحة الراضي بِمَا أدريه)

(هبك احْتَجَبت لوجه عذر بيّن

بذل الشَّفَاعَة أيّ عذر فِيهِ)

(سهل على يدك الْكَرِيمَة أحرفاً

فِي من أسرت فتنثني تفديه)

وَلما قَارب قرطبة قَالَ يُخَاطب الْمَأْمُون الْفَتْح بن الْمُعْتَمد مستشفعاً بِهِ

(هلا سَأَلت شَفَاعَة الْمَأْمُون

أَو قلت مَا فِي نَفسه يَكْفِينِي)

(مَا ضرّ لَو نبّهته بِتَحِيَّة

يسري النسيم بهَا على دارين)

يَقُول فِيهَا

(بيد من الْمَأْمُون أوثق عصمَة

لَو أَن أَمْرِي فِي يَد الْمَأْمُون)

ص: 151

(أَمْرِي إِلَى ملك إِلَيْهِ أمره

وَكَفاهُ من فَوق كَفاهُ وَدون)

(يَا فتح جرّدها عناية فَارس

درب على نصر الوليّ أَمِين)

(واقرن شفاعتك الْكَرِيمَة عِنْده

بتواضع عَن عزة لَا هون)

(فِي شكة من هَيْبَة وسكينة

وبضجة من رَحْمَة وحنين)

(يَا فتح إِن نازلته مستنزلاً

فاهنأ بِفَتْح من رِضَاهُ مُبين)

(وليخلصنّ إِلَيْك من أنفاله

علق يشد عَلَيْهِ كفّ ضنين)

وَكتب إِلَى الرشيد بن الْمُعْتَمد يستشفع بِهِ

(قل لبرق الْغَمَام ظَاهر بريدي

قَاصِدا بِالسَّلَامِ قصر الرشيد)

(فتقلّب فِي جوّه كفؤادي

وتناثر فِي صحنه كالفريد)

ص: 152

(وانتحب فِي صلاصل الرَّعْد تحكي

ضجّتي فِي سلاسلي وقيودي)

(فَإِذا مَا اجتلاك أَو قَالَ مَاذَا

قلت إِنِّي رَسُول بعض العبيد)

(بعض من أبعدته عَنْك اللَّيَالِي

فاجتني طَاعَة الْمُحب الْبعيد)

ثمَّ قَالَ يُخَاطب الْمُعْتَمد وَهُوَ بقرطبة

(سجاياك إِن عافيت أندى وأسمح

وعذرك إِن عَاقَبت أجلى وأوضح)

(وَإِن كَانَ بَين الخطّتين مزية

فَأَنت إِلَى الْأَدْنَى من الله أجنح)

(حنانيك فِي أخذي بِرَأْيِك لَا تُطِع

وشاتي وَلَو أثنوا عليّ وأفصحوا

وإنّ رجائي أنّ عنْدك غير مَا

يَخُوض عدوي الْيَوْم فِيهِ ويمرح)

(وَلم لَا وَقد أسلفت ودّاً وخدمة

يكرّان فِي ليل الْخَطَايَا فَيُصْبِح)

(وهبني قد أعقبت أَعمال مُفسد

أما تفْسد الْأَعْمَال ثمّت تصلح)

(أَقلنِي بِمَا بيني وَبَيْنك من رضَا

لَهُ نَحْو روح الله بَاب مفتّح)

(وعفّ على آثَار جرم جنيته

بهبّة رحمى مِنْك تمحو وتمصح)

(وَلَا تستمع زور الوشاة وإفكهم

فَكل إِنَاء بِالَّذِي فِيهِ يرشح)

(سيأتيك فِي أَمْرِي حَدِيث وَقد أَتَى

بزور بني عبد الْعَزِيز موشّح)

(تخيّلتهم لَا درّ لله درّهم

أشاروا تجاهي بالشمات وصرحوا)

ص: 153

(وَمَا ذَاك إِلَّا مَا علمت فإنني

إِذا ثَبت لَا أَنْفك آسو وأجرح)

(وَقَالُوا سيجزيه فلَان بِذَنبِهِ

فَقلت وَقد يعْفُو فلَان ويصفح)

(أَلا إِن بطشاً للمؤيد يرتمي

وَلَكِن عفوا للمؤيد يرجح)

(وَبَين ضلوعي من هَوَاهُ تَمِيمَة

ستنفع لَو أَن الْحمام يجلّح)

(وماذا عَسى الْأَعْدَاء أَن يتزيدوا

سوى أَن ذَنبي ثَابت متصحّح)

(نعم لي ذَنْب غير أَن لحلمه

صفاة يزلّ الذَّنب عَنْهَا فيفصح)

(سَلام عَلَيْهِ كَيفَ دَار بِهِ الْهوى

إليّ فيدنو أَو عليّ فينزح)

(ويهنيه إِن متّ السّلوّ فإنني

أَمُوت وَبِي شوق إِلَيْهِ مبرّح)

وكل مَا صدر عَن ابْن عمار فِي نكبته فَمن حرّ كَلَامه وَكفى بِهَذِهِ القصيدة حسن براعة ولطف ضراعة وَقد كَانَ خَاطب الْمُعْتَمد قبل ذَلِك من معتقله بِأَبْيَات مِنْهَا

(وَالله مَا أَدْرِي إِذا

قَالُوا غَدا يَوْم اللِّقَاء)

(مَا أقتل الْحَالين لي

إِن كَانَ خوفي أَو حيائي)

فَمَا أصغي إِلَيْهِ وَلَا أُبْقِي عَلَيْهِ

وَحكى أَبُو مُحَمَّد عبد الْملك بن أَحْمد بن صَاحب الصَّلَاة الْبَاجِيّ عَن بعض الكتّاب أَنه ماشى أَبَا جَعْفَر بن عَطِيَّة الْوَزير فِي صَدره عَن الأندلس

ص: 154

إِلَى مراكش وَقد أحس بالتغير عَلَيْهِ وتمكّن أعدائه مِنْهُ فِي مغيبه وَذَلِكَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَخَمْسمِائة قَالَ فرأيته مستوحشاً قلقاً فاستدناني واستنشدني قَول ابْن عمار

(سجاياك إِن عافيت أندى وأسجح

وعذرك إِن عَاقَبت أجلى وأوضح)

فَأَنْشَدته القصيدة إِلَى آخرهَا فَلَمَّا أكملتها قَالَ لقد كَانَ ابْن عباد قاسي الْقلب

وَقَول ابْن عمار فِيهَا سيأتيك فِي أَمْرِي حَدِيث الْبَيْت أَرَادَ بِهِ الْوَزير الأجلّ أَبَا بكر أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز وَكَانَ وَاحِد وقته رفْعَة وجلالة وضدّ ابْن عمار صِيَانة وأصالة فتولّع بانتقاصه وغرى بذمّه فَكَانَ لَا يصدر عَنهُ مجتاز بِهِ إِلَّا أبلغه قدحه وَلَا يرد عَلَيْهِ شَاعِر إِلَّا ألزمهُ ثلبه وَلَا يحضرهُ ضيف إِلَّا أسمعهُ استراحته فِيهِ تعرّض المشروف للشريف حَتَّى لخاطب أهل بلنسية يغريهم بِهِ ويحضهم على الْقيام عَلَيْهِ وَقيل إِنَّمَا قَالَ ذَلِك حِين غدره ابْن عبد الْعَزِيز فِي حصن جملّة من أَعمال مرسية

(خبّر بلنسية وَكَانَت جنَّة

أَن قد تدلّت فِي سَوَاء النَّار)

(غدرت وفياًّ بالعهود وقلما

عثر الوفيّ سعى إِلَى الغدّار)

(يَا أَهلهَا من غَائِب أَو حَاضر

وقطينها من راسخ أَو طَار)

ص: 155

(جازوا بني عبد الْعَزِيز فَإِنَّهُم

جرّوا إِلَيْكُم أَسْوَأ الأقدار)

يَقُول فِيهَا

(جَاءَ الْوَزير بهَا يكشّف ذيله

عَن سوءة سوءي وعار عَار)

(نكث الْيَمين وجار عَن سنَن التقى

وَقضى على الإقبال بالإدبار)

(آوى لينصر من نبا المثوى بِهِ

ودهاه خذلان من الْأَنْصَار)

(مَا كُنْتُم إِلَّا كأمةٍ صَالح

فرماكم من طَاهِر بقدار)

(هَذَا وخصّكم بأشام طَائِر

وَرمى دِيَاركُمْ بألام جَار)

وَفِي هَذِه القصيدة

(كَيفَ التفلّت بالخديعة من يَدي

رجل الْحَقِيقَة من بني عمار)

فذيّله الْمُعْتَمد لما اتَّصل بِهِ هَذَا الشّعْر بقوله معرّضاً بِابْن عمار وزارياً عَلَيْهِ

(الْأَكْثَرين مسوّداً ومملّكاً

ومتوجاً فِي سالف الْأَعْصَار)

(والمؤثرين على الْعِيَال بزادهم

والضاربين لهامة الْجَبَّار)

(الناهضين من المهود إِلَى الْعلَا

والمنهضين الْغَار بعد الْغَار)

(إِن كوثروا كَانُوا الْحَصَى أوفوخروا

فَمن الأكاسر من بني الْأَحْرَار)

(يُضحي مؤمّلهم يؤمّل سيبه

ويبيت جارهم عَزِيز الْجَار)

ص: 156

(تبْكي عَلَيْهِم شنّبوس بعبرة

كأتيّها المتدافع التيار)

يَقُول فِيهَا

(يَا شمس ذَاك الْقصر كَيفَ تخلّصت

فِيهِ إِلَيْك طوارق الأقدار)

(لما تنلك شعوب حَتَّى جَاوَزت

غلب الرّقاب وسامي الأسوار)

يُرِيد بشمس أمّ ابْن عمار وبشنّبوس قَرْيَة أَوَائِله من نواحي شلب فاهتاج ابْن عمار لذَلِك واستوحش وَبَلغت أَبْيَات الْمُعْتَمد إِلَى ابْن عبد الْعَزِيز فطار بهَا سُرُورًا وأحدثت لَهُ فِي نَفسه على ابْن عمار مكيدة وَذَلِكَ أَنه دس إِلَى مرسية نبيلاً من يهود الشرق لابس ابْن عمار حَتَّى اطْمَأَن إِلَيْهِ وأحله محلى الرِّوَايَة لأشعاره فِي هجاء ابْن عباد وَمن ذَلِك قَوْله

(أَلا حيّ بالغرب حياًّ حَلَالا

أناخوا جمالاً وحازوا جمالا)

(وعرّج بيومين أمّ الْقرى

ونم فَعَسَى أَن ترَاهَا خيالا)

ص: 157

(لتسأل عَن ساكنيها الرماد

وَلم تَرَ للنار فِيهَا اشتعالا)

وفيهَا إقذاع وَمِنْهَا

(سأكشف عرضك شَيْئا فَشَيْئًا

وأهتك سترك حَالا فحالا)

ويومين اسْم قَرْيَة مِنْهَا أوّليّة بني عباد فَلَمَّا حصل الْيَهُودِيّ مِنْهَا وَهِي بِخَط يَده على بغيته طَار بهَا صادراً إِلَى ابْن عبد الْعَزِيز فطيّرها مدرجة طيّ كِتَابه إِلَى الْمُعْتَمد فَكَانَ ذَلِك مِمَّا أحنقه على ابْن عمار وأحفظه

وَلما أَتَاهُ بِهِ ابْنه يزِيد الراضي أَقَامَ بقرطبة عدَّة لَيَال يحضرهُ فِي كل لَيْلَة مِنْهَا راسفاً فِي قيوده فيقرره على غدره ويوبخه بِفِعْلِهِ ويوقفه على أشعاره المدرجة إِلَيْهِ طيّ كتاب ابْن عبد الْعَزِيز ثمَّ انحدر بِهِ إِلَى إشبيلية فسجنه فِي بَيت خامل من بيُوت الْقصر أَيَّامًا ثمَّ قَتله بِيَدِهِ وَكَانَ أسره بشقورة لست بَقينَ من شهر ربيع الأول سنة سبع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة وقدوم الراضي بِهِ على قرطبة يَوْم الْجُمُعَة السَّادِس من رَجَب فِيهَا

وَقيل إِن القادمين بِهِ مَعَ الراضي لما سلموه إِلَى الْقصر دعوا ذَلِك الْيَوْم بعد الْعَصْر فِي سلَاح شَاك وتعبئة ظَاهِرَة ليصحبوه إِلَى إشبيلية فأقاموا على ذَلِك إِلَى اللَّيْل ينتظرون تَسْلِيمه إِلَيْهِم ثمَّ لم يرعهم إِلَّا خُرُوج الْمُعْتَمد والشمع بَين يَدَيْهِ وَالْحرم حواليه وَابْن عمار بَينهُنَّ على بغل وَهن يهزأن بِهِ ويتضاحكن مِنْهُ فأعربت حَاله يَوْمئِذٍ بمبادئها عَن سوء الْعَاقِبَة فِيهَا وَورد على الْمُعْتَمد غير مَا خطاب فِيهِ بالشفاعة فسدّ الْبَاب فِي ذَلِك وشدّ صفاده هُنَالك

ص: 158

وَحدث أَبُو بكر المنجم أَن ابْن عمار استدعى سحاءة ودواة فِي اعتقاله بقصر إشبيلية فَبعث الْمُعْتَمد إِلَيْهِ بِزَوْج كاغد فَكتب إِلَيْهِ شعرًا بستعطفه بِهِ فعطف عَلَيْهِ وأحضره ليلته تِلْكَ ووعده الْعَفو عَنهُ فخاطب ابْن عمار الرشيد بن الْمُعْتَمد بذلك فلمح المخاطبة وزيره عِيسَى ابْن الْأُسْتَاذ أبي الْحجَّاج الأعلم فأشاع الحَدِيث وَبلغ ذَلِك أَبَا بكر بن زيدون وَكَانَ شَدِيد الْعَدَاوَة لِابْنِ عمار فتخلّف عَن الرّكُوب إِلَى الْقصر حَتَّى وجّه فِيهِ الْمُعْتَمد فعرّفه أَن مَجْلِسه مَعَ ابْن عمار وصل إِلَيْهِ فازداد الْمُعْتَمد حنقاً عَلَيْهِ وحرّك ذَلِك من ضغنه وَقَالَ لأحد المجابيب سل ابْن عمار كَيفَ وجد السَّبِيل مَعَ الترقيب إِلَى إفشاء مَا أخذت مَعَه البارحة فِيهِ فسلك سَبِيل الْإِنْكَار ثمَّ قَالَ إِنِّي خاطبت الرشيد وأعلمته بِمَا وَعَدَني بِهِ مَوْلَانَا من الْعَفو فاتقّد الْمُعْتَمد وَقَامَ من فوره وَأخذ زَعَمُوا طبرزيناً وَدخل إِلَيْهِ فَفَزعَ

ص: 159

كَمَا كَانَ فِي قيوده إِلَى تَقْبِيل رجلَيْهِ فَضَربهُ بِهِ ثمَّ أَمر فأجهز عَلَيْهِ

وَمِمَّا يشْهد أَنه بَاشر قَتله قَول عبد الْجَلِيل بن وهبون يرثيه بِبَيْت مُفْرد وَهُوَ

(عجبا لمن أبكيه ملْء مدامعي

وَأَقُول لَا شلت يَمِين الْقَاتِل)

وَأخْبر ذُو الوزارتين صَاحب الْمَدِينَة أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن سَلام بتَخْفِيف اللَّام الشّلبي وَكَانَ من صميم إخْوَان ابْن عمار قَالَ إِنِّي لفي أَرْجَى مَا كنت لإقالة ابْن عمار وَقد هيأت لِخُرُوجِهِ مَجْلِسا من أحسن مجَالِس دوري يُقيم فِيهِ ريثما تخلى لَهُ دوره إِذا رَسُول الْمُعْتَمد بستدعيني فَمَا شَككت فِي تَمام مَا كنت أريده لِابْنِ عمار فَلَمَّا وصلت فصيل الْقصر إِذا هُوَ متشحّط فِي دمائه ممرّغ فِي ثِيَابه طريح فِي قَيده فَقَالَ لي الفتيان يَقُول لَك السُّلْطَان هَذَا صديقك الَّذِي كنت أَعدَدْت لَهُ سر بِهِ وأنزله فَأمرت من حضرني من الحرس بسحبه فِي أسماله طوراً على وَجهه وَتارَة على قذاله إِلَى أساس جِدَار قريب من سواقي الْقصر فَطرح فِي حَوْض محتفر للجيّار وَهدم عَلَيْهِ شفيره

قَالَ ابْن قَاسم الشّلبي وَأكْثر خبر ابْن عمار عَنهُ إِلَى مَا تخلله من الزِّيَادَات المفيدة عَن ابْن بسام وَغَيره وَوجد لَهُ فِي قرَابه بعد قَتله بِخَط يَده

ص: 160

(يَقُول قوم إِن الْمُؤَيد قد

أحَال فِي فديتي على نَقده)

(فَقلت مَاذَا الشِّرَاء ثَانِيَة

ترى لِمَعْنى يريب من عِنْده)

(أوحشني والسماح عَادَته

سماحه بِالْعَلَاءِ فِي عَبده)

(الْحَمد لله إِن يكن حرجاً

فَلَيْسَ فِي مثلهَا سوى حَمده)

(وحيلة إِن وصلت حَضرته

أجعلها رَغْبَة إِلَى جنده)

(لَو سامحوا فِي الفرند أرمقه

من طرفه لم أخفه من غمده)

(لَكِن على الغرب عَارض زجل

مرتمياً بالشرار من زنده)

(أَخْضَر يفترّ من جوانبه

كالبحر فِي جزره وَفِي مدّه)

(يَا ربّ بشّر برحمة وَحيا

يُونُس من برقه وَمن رعده)

ويحكي عَن الْمُعْتَمد فِي قتل ابْن عمار خبر طريف من الْحدثَان تلخيصه أَنه كَانَ أَيَّام مقَامه بشلب قد أَخذ عَلَيْهِ وَأمره إِذا دَعَا أَصْحَابه أَن يكون أول دَاخل وَآخر خَارج ليأنس بِهِ ويتمتع بأدبه فَكَانَ يجده ينفر من ذَلِك وَيكثر التسلل من مَجْلِسه فَتقدم لَيْلَة إِلَى أَصْحَاب سدّته بترقّبه وَمنعه بعد وَعِيد شَدِيد وَقَامَ ابْن عمار على عَادَته فَلم يحفل الْمُعْتَمد بذلك حَتَّى إِذا انفضّ من كَانَ عِنْده طلبه فَمَا وجده فأحضر الموكلين بترقبه وَأخذ فِي تعنيفهم فَأخْبرُوا أَنهم لم يعاينوه وَلَا خرج عَلَيْهِم فراب الْمُعْتَمد أمره وَشهر سَيْفه وَجعل يَطْلُبهُ والشمع بَين يَدَيْهِ فَلَمَّا انْتهى إِلَى بعض الدهاليز إِذا بحصير مطويّ وَابْن عمار فِيهِ أغمض من سر خفيّ عُرْيَان كَأَنَّهُ أفعوان فَأمر بِحمْلِهِ وَجعل يعجب من

ص: 161

فعله وَلابْن عمار بكاء وروع مفرط فَلَمَّا أفرخ روعه ورقأ دمعه سَأَلَهُ عَن شَأْنه فَأخْبر أَنه كلما أخذت مِنْهُ الشُّمُول سمع كَأَن قَائِلا يَقُول هَذَا يقتلك فينفر عِنْد ذَلِك وينفر وَيحمل نَفسه على الْقَرار فَلَا تقر حَتَّى أمضى الله عَليّ يَدَيْهِ مَا كتب من ذَلِك عَلَيْهِ والمقدر كَائِن

أتيت بِخَبَر ابْن عمار على الْكَمَال فكثيراً مَا يتشوف إِلَيْهِ وَلَا يُوقف عَلَيْهِ وَمَا أعلم أحد سَاقه هَذَا المساق وَلَعَلَّ عذر الإفادة يُقَاوم لوم الإطالة وَمن شعره فِي غير مَا تقدم أهْدى إِلَى الْمُعْتَمد ثوب صوف بحري يَوْم نيروز وَكتب مَعَه

(لما رَأَيْت النَّاس يحتشدون فِي

إتحاف يَوْمك جِئْته من بَابه)

(فَبعثت نَحْو الشَّمْس شبه أياتها

وكسوت متن الْبَحْر بعض ثِيَابه)

فوجّه إِلَيْهِ الْمُعْتَمد بمكبّة فضَّة فِيهَا خَمْسمِائَة دِينَار وَقيل خَمْسَة آلَاف دِينَار ذَهَبا وَكتب مَعهَا

(هبة أتتك من النضار ألوفها

فاغنم جزيل المَال من وهّابه)

ص: 162

(فَلَو أَن بَيت المَال يحوي قفله

أضعافها لكسرته عَن بَابه)

(وملأت مِنْهُ يَديك لَا مستأثراً

فِيهِ عَلَيْك لكَي ترى أولى بِهِ)

(فالبحر يطفح جوده لَك زاخراً

لما كسوت الْبَحْر بعض ثِيَابه)

وَأهْدى أَيْضا تفاحاً وإجّاصاً إِلَى بعض أَصْحَابه وَكتب مَعهَا

(خُذْهَا كَمَا سفرت إِلَيْك خدود

أَو أوجست فِي راحتيك نهود)

(درراً من التفاح تنثر بَيْننَا

وَلها بأجياد الغصون عُقُود)

(خُذْهَا وناولها النّدام فَإِنَّهَا

رَاح دهاها فِي الشتَاء جمود)

(وشفعت بالإجاص قصدا إِنَّه

وشكل الْجمال وحدّه الْمَحْدُود)

(عذرا إِلَيْك فَإِنَّمَا هِيَ أوجه

بيض تقارنها عُيُون سود)

وأهدي أَيْضا خمرًا طبقًا فِيهِ تفاحتان ورمانتان وَكتب مَعهَا

(خذوها مِثْلَمَا استهديتموها

عروساً لَا تزفّ إِلَى اللئام)

(ودونكم بهَا ثديى فتاة

أضفت إِلَيْهِمَا خدّي غُلَام)

وَله فِي الخرشف

(وَنبت مَاء وترب جودها أبدا

لمن يرجّيه فِي ثوب من الْبُخْل)

(كَأَنَّهَا فِي جمال وَامْتِنَاع ذري

خود من الرّوم فِي درع من الأسل)

ص: 163

وَله فِي طبق من الْفضة مذهّب الْبَاطِن

(وسماء من الْغنى قد أسالت

ذَهَبا فِي قرارة من لجين)

(فاجتنت حولهَا الْعُيُون بلطف

زهر الْحسن من بنان الْيَدَيْنِ)

وَله فِي زورق

(وَجَارِيَة مثل الْهلَال ألفتها

على نهر مثل السَّمَاء رَقِيق)

(تجلّى لنا الإصباح وَهُوَ زمرد

فَأَلْقَت عَلَيْهِ الشَّمْس ثوب عقيق)

وَله وضمّن أَوَائِل الأبيات اسْم قينة

(نَفسِي وَإِن عذبتها تهواك

ويهزها طرب إِلَى لقياك)

(عجبا لهَذَا الْوَصْل أصبح بَيْننَا

متعذراً ومناي فِيهِ مناك)

(مَا بَال قلبِي حِين رامك لم ينل

وَلَقَد ترومك مقلتي فتراك)

(الله أعلم مَا أَزور لحَاجَة

ذَاك المحلّ لغير أَن أَلْقَاك)

(لَيْت الرَّقِيب إِذا الْتَقَيْنَا لم يكن

فأنال رياًّ من لذيذ لماك)

(متنزهاً فِي روض خدك شارباً

كأس الفتور تديرها عَيْنَاك)

(حكت الغصون جمال قدك فانثنت

وَالْفضل للمحكىّ لَا للحاكي)

(لَا تعزبي يَا رَوْضَة ممطورة

حَتَّى أمدّ يَدي إِلَى مجناك)

وَله

(أَنا ابْن عمار لَا أُخْفِي على بشر

إِلَّا على جَاهِل بالشمس وَالْقَمَر)

(وَبَين طبعي وذهني كلّ سَابِقَة

كالسهم يبعد بَين الْقوس وَالْوتر)

(إِن كَانَ أخّر فِي دهري فَلَا عجب

فَوَائِد الْكتب يستلحقن فِي الطّرر)

ص: 164

لم أجد هَذِه الأبيات الثَّلَاثَة فِي مَا جمع أَبُو الطَّاهِر التَّمِيمِي من شعر ابْن عمار فأضفتها إِلَيْهِ وكتبتها فِي نُسْخَتي مِنْهُ وَقد وَقعت فِي بعض نسخه وَكَذَلِكَ قَوْله مبتدهاً فِي المعتصم مُحَمَّد بن معن بن صمادح وَقد مرّ بقصره وَحَوله جمَاعَة من الشُّعَرَاء كَانُوا قد مدحوه وَأَبْطَأ عَنْهُم عطاؤه وَتعذر عَلَيْهِم القَوْل فِي استنجازه فارتجل على ألسنتهم

(يَا أَيهَا الْملك الَّذِي شاد الْعلَا

معن أَبوهُ وخاله الْمَنْصُور)

(بِفنَاء قصرك عصبَة أدبية

لَا زَالَ وَهُوَ بِجَمْعِهِمْ معمور)

(زفّوا إِلَيْك بَنَات أفكار لَهُم

واستبطأوك فَهَل لَهُنَّ مُهُور)

134 -

أَبُو مُحَمَّد بن هود الجذامى ذُو الوزارتين

لم أَقف على اسْمه وَهُوَ أحد النجباء الأدباء من أهل بَيته مُلُوك سرقسطة والثغر الْأَعْلَى وَنبت بِهِ دَرَاهِم فتجوّل بموسطة الأندلس وغربها قَاصِدا رؤساءها واختص مِنْهُم بالمتوكل عمر بن مُحَمَّد بن الْأَفْطَس فولاه مَدِينَة الأشبونة من أَعماله ثمَّ صرف عَنْهَا وَصدر مَحْمُود السِّيرَة مَعْرُوف النزاهة

وَهُوَ الْقَائِل فِي خُرُوجه من سرقسطة يُخَاطب قومه

(ضللتم جَمِيعًا آل هود عَن الْهدى

وضيّعتم الرَّأْي الْمُوفق أجمعا)

(وشنتم يَمِين الْملك بِي فقطعتم

بِأَيْدِيكُمْ مِنْهَا وبالغدر إصبعا)

(وَمَا أَنا إِلَّا الشَّمْس غير غياهب

دجت فَأَبت لي أَن أنير وأسطعا)

(وَإِن طلعت تِلْكَ البدور أهلة

فَلم يبْق إِلَّا أَن أغيب وأطلعا)

(وَلَا تقطعوا الْأَسْبَاب بيني وَبَيْنكُم

فأنفكم مِنْكُم وَإِن كَانَ أجدعا)

ص: 165

وَله وَقد احْتَرَقَ بَيته أَيَّام مقَامه بطليطلة

(تركت محلي جنَّة فَوَجَدته

على حكم أَيدي الحادثات جهنما)

(لتصنع بِي الْأَيَّام مَا شئن آخرا

فَمَا صنعت بِي أَولا كَانَ أعظما)

وَله فِي المتَوَكل أَيَّام سُلْطَانه بيابرة

(

...

...

. .

... . . فَالَّذِي يخْشَى من الحذر)

(

...

...

.

...

بِالْخَيرِ)

وَله مِمَّا نقش على رئاس سيف المتَوَكل

(لَا تخش ضيماً وَلَا تصبح أَخا فرق

إِذا رياسى فِي يمني يَديك بَقِي)

(أَصبَحت أمضي من الْحِين المتاح فصل

على الكماة وَبِي عِنْد الوغى فثق)

(لَوْلَا فتور بألحاظ الظباء إِذا

لَقلت إِنِّي أمضي من ظَبْي الحدق)

وَله وَقد سُئِلَ عَمَّا اكْتَسبهُ فِي ولَايَته

(وَسَائِل لي لما

صدرت عَمَّا وليت)

(مَا نلْت قلت ثَنَاء

يبْقى معي مَا بقيت)

(فَإِن أمت كَانَ بعدِي

مخلداً لَا يَمُوت)

(عفت الفضول لعلمي

أَن لَيْسَ يعْدم قوت)

(وصنت قدري عَنْهَا

مُجملا فغنيت)

ص: 166

135 -

أَبُو عِيسَى بن لبّون ذُو الوزارتين

هُوَ لبّون بن عبد الْعَزِيز بن لبّون وَكَانَ من جملَة أَصْحَاب الْقَادِر يحيى

ص: 167

ابْن ذِي النُّون وَرَأس بمربيطر من أَعمال بلنسية ثمَّ تخلّى عَنْهَا لأبي مَرْوَان عبد الْملك بن رزين صَاحب شنتمريّة الشرق أَيَّام تغلب رذريق الْمَعْرُوف بالكنبيطور على بلنسية وإحرافه لرئيسها أبي أَحْمد بن جحاف وَسَار مَعَه إِلَى شنتمريّة ثمَّ نَدم بعد ذَلِك واستقل مَا كَانَ يجْرِي عَلَيْهِ فَقَالَ

(ذروني أجب شَرق الْبِلَاد وغربها

لأشفي نَفسِي أَو أَمُوت بدائي)

(فلست ككلب السوء يرضيه مربض

وَعظم وَلَكِنِّي عِقَاب سَمَاء)

(تحوم لكيما يدْرك الخصب حومها

أَمَام أَمَامِي أَو وَرَاء ورائي)

(وَكنت إِذا مَا بَلْدَة لي تنكرت

شددت إِلَى أُخْرَى مطي إبائي)

(وسرت وَلَا ألوي على مُتَعَذر

وصممت لَا أصغي إِلَى النصحاء)

(كشمس تبدت للعيون بمشرق

صباحا وَفِي غرب أصيل مسَاء)

وَله من أُخْرَى فِي مثل ذَلِك

(خليلي مَا بالي على صدق عزمتي

أرى من زماني وَنِيَّة أَو تعذرا)

(وَوَاللَّه مَا أَدْرِي لأي جريمة

تجنى وَلَا عَن أَي ذَنْب تغيرا)

(وَلم أك عَن كسب المكارم عَاجِزا

وَلَا كنت فِي نيل أنيل مقصرا)

(لَئِن شان تمزيق الزَّمَان لدولتي

لقد رد عَن جهل كثير وبصرا)

(وَأَيْقَظَ من نوم الغرارة نَائِما

وَكسب علما بِالزَّمَانِ وبالورى)

ص: 168

وَكَانَ أَبُو عِيسَى معدوداً فِي الأجواد مَوْصُوفا بتجويد القريض وطالت إِقَامَته فِي كنف ابْن رزين إِلَى أَن توفى هُنَالك وَقيل بل توفى بسرقسطة

وَأما أَخُوهُ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن لبون فَكَانَ واليا على لورقة وَتوفى بهَا بعد وقيعة الزلاقة بِيَسِير وَسَيَأْتِي ذكره فَقَالَ أَبُو عِيسَى يرثيه وَيذكر أَخَوَيْهِ المتوفيين قبله أَبَا وهب عَامِرًا وَكَانَ ضابطا لقصر بلنسية وَأَبا شُجَاع أَرقم وَكَانَ واليا على وبذة من سنت ابرية وَكَانَ إِبْرَاهِيم أَبُو الْأَصْبَغ من كبار أَصْحَاب الْمَأْمُون بن ذى النُّون وَهُوَ الَّذِي اسْتخْلف على بلنسية فِي خُرُوجه لتملك شاطبة

(قل لصرف الْحمام لم ذَا التناهي

فِي تلقيك لي بهذى الدَّوَاهِي)

(كَانَ فِي عَامر وأرقم مَا يَكْفِي

فَهَلا أبقيت عبد الْإِلَه)

(فبه بعد كنت أستدفع الْخطب

وأسطو على العدا وأباهي)

(أَي شمس وافي عَلَيْهَا أفول

فل غربي عزائمي ونواهي)

وَله يُخَاطب أَبَا اليسع كَاتب أَخِيه وَالَّذِي خَلفه بعد على لورقة

(لَو كنت تشهد يَا هَذَا عشيّتنا

والمزن يمسك أَحْيَانًا وينحدر)

(وَالْأَرْض مصفرة بالقطر كاسية

أَبْصرت تبراً عَلَيْهِ الدرّ ينتثر)

وَهَذَا كَقَوْل الأسعد بن بلّيطة وأجاد مَا أَرَادَ

(لَو كنت شاهدنا عَشِيَّة أمسنا

والمزن يبكينا بعيني مذنب)

ص: 169

(وَالشَّمْس قد مدت أَدِيم شعاعها

فِي الأَرْض تجنح غير أَن لم تغرب)

(خلت الرذاذ برادة من فضَّة

قد غربلت من فَوق نطع مَذْهَب)

وَلابْن لبّون

(سقى أَرضًا ثووها كلّ مزن

وسايرهم مُرُور وارتياح)

(فَمَا ألوي بهم هلك وَلَكِن

صروف الدَّهْر وَالْقدر المتاح)

(سأبكي بعدهمْ حزنا عَلَيْهِم

بدمع فِي أعنّته جماح)

وَله

(يَا لَيْت شعري وَهل فِي لَيْت من أرب

هَيْهَات لَا تبتغي من لَيْت آرَاب)

(أَيْن الشموس الَّتِي كَانَت تطالعنا

والجو من فَوْقه لِليْل جِلْبَاب)

(وَأَيْنَ تِلْكَ اللَّيَالِي إِذْ تلمّ بِنَا

فِيهَا وَقد نَام حرّاس وحجّاب)

(تهدي إِلَيْنَا لجيناً حشوه ذهب

أنامل العاج والأطراف عنّاب)

وَله

(قُم يَا نديم أدر عليّ القرقفا

أَو مَا ترى زهر الرياض مفوّفا)

(فتخال محبوباً مدلاًّ وردهَا

وتظن نرجسها محباًّ مدنفا)

(والجلّنار دِمَاء قَتْلِي معرك

والياسمين حباب مَاء قد طفا)

وَله

(يَا رب ليل شربنا فِيهِ صَافِيَة

حَمْرَاء فِي لَوْنهَا تَنْفِي التباريحا)

ص: 170

(ترى الْفراش على الأكواس سَاقِطَة

كَأَنَّمَا أَبْصرت مِنْهَا مصابيحا)

وَله يُعَاتب

(لحا الله قلبِي كم يحنّ إِلَيْكُم

وَقد بعتم حظي وَضاع لديكم)

(إِذا نَحن أنصفناكم من نفوسنا

وَلم تنصفونا فالسلام عَلَيْكُم)

وَله فِي زهده وإقلاعه والتزامه بَيته عِنْد انخلاعه

(نفضت كفي من الدُّنْيَا وَقلت لَهَا

إِلَيْك عني فَمَا فِي الْحق أغتبن)

(من كسر بَيْتِي لي روض وَمن كتبي

جليس صدق على الْأَسْرَار مؤتمن)

(أَدْرِي بِهِ مَا جرى فِي الدَّهْر من خبر

فَعنده الْحق مسطور ومختزن)

(وَمَا مضى بِي سوى موتِي ويدفنني

قوم وَمَا لَهُم علم بِمن دفنُوا)

136 -

أَبُو عَامر بن الْفرج ذُو الوزارتين

كَانَ من بَيت رئاسة تصرّف آباؤه وَقَومه مَعَ بني ذِي النُّون مُلُوك طليطلة

وَإِلَى أبي سعيد مِنْهُم وَهُوَ وَال على كونكة توجّه المظفر عبد الْملك ابْن الْمَنْصُور عبد الْعَزِيز بن أبي عَامر حِين خلعه الْمَأْمُون بن ذِي النُّون من

ص: 171

بلنسية فِي ذِي الْحجَّة سنة سبع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَأَبُو عَامر هَذَا هُوَ الْقَائِل يَسْتَدْعِي أَبَا مُحَمَّد الْمصْرِيّ إِلَى مجْلِس أنس

(أَنا قد أهبت بكم وكلّكم هوى

وأحقّكم بالشكر مني السَّابِق)

(وَالشَّمْس أَنْت وَقد أطلّ طُلُوعهَا

فَاطلع وَبَين يَديك فجر صَادِق)

وَله يعْتَذر

(مَا تخلّفت عَنْك إِلَّا لعذر

ودليلي فِي ذَاك حرصي عليكا)

(هبك أَن الْفِرَار عَن غير عذر

أتراه يكون إِلَّا إليكا)

وَله إِلَى وسيم من معارفه يَسْتَدْعِي مِنْهُ خمرًا لعلاج ابْنه

(أرسل بهَا مثل ودّك

أرقّ من مَاء خدك)

(شَقِيقَة النَّفس فانضح

بهَا جوى ابْني وَعَبْدك)

137 -

أَبُو الْحسن بن اليسع الْكَاتِب ذُو الوزارتين

كتب لأبي مُحَمَّد بن لبّون صَاحب لورقة وَخَلفه عَلَيْهَا بعد وَفَاته واستبد

ص: 172

بضبطها دون بنيه إِلَى أَن تخلى عَنْهَا للمعتمد مُحَمَّد بن عباد وَنَدم عَلَيْهِ بقرطبة وَحضر غَزْوَة الزّلاّقة مَعَه وَذكر أَبُو بكر بن قَاسم الشّلبي فِي تَارِيخه الْمَجْمُوع فِي أَخْبَار ابْن عمّار مَا يُخَالف هَذَا وَسَيَأْتِي نَصه بعد إِن شَاءَ الله تَعَالَى كَانَ ابْن اليسع مَاجِنًا صَاحب بطالة وراحة أديباً شَاعِرًا وَهُوَ الْقَائِل يُخَاطب أَبَا بكر ابْن اللبانة

(تشرق آمالي وسعيى يغرّب

وتطلع أوجالي وأنسي يغرب)

(سريت أَبَا بكر إِلَيْك وَإِنَّمَا

أَنا الْكَوْكَب الساري تخطاه كَوْكَب)

(فبالله إِلَّا مَا منحت تَحِيَّة

تكرّ بهَا السّبع الدراري وَتذهب)

(وَبعد فعندي كلّ علق تصونه

خلائق لَا تفني وَلَا تتقلب)

(كتبت على حَالين بعد وعجمة

فيا لَيْت شعري كَيفَ ندنو فنعرب)

وَكَانَ فِي لَيْلَة الشَّك من شعْبَان بِخَارِج قرطبة إِذْ قدم على الْمُعْتَمد فِي لمّة من أعيانها مِنْهُم أَبُو الْحُسَيْن بن سراج وَقد غلبوه على الْمسير مَعَهم فَخرج مكْرها وغرضه الاسْتِرَاحَة وَكَانَ تَحْتَهُ فرس عَتيق فَأخذ مَعَهم فِي أمره حِيلَة فِي إجرائه والانفصال عَنْهُم على تِلْكَ الْحَال وركضه موليا عَنْهُم وراجعاً إِلَى منزله ليخلو براحته فَمَا انصرفوا إِلَّا وهلال رَمَضَان ظَاهر فَكتب إِلَيْهِ أَبُو الْحُسَيْن ابْن سراج

(عمري أَبَا حسن لقد جِئْت الَّتِي

عطفت عَلَيْك ملامة الإحوان)

(لما رَأَيْت الْيَوْم ولّى عمره

وَاللَّيْل مقتبل الشبيبة دَان)

(وَالشَّمْس تنفض زعفراناً بالرّبى

وتفتّ مسكتها على الْغِيطَان)

ص: 173

(أطلعتها شمسا وَأَنت عُطَارِد

وخففتها بكواكب النّدمان)

(وأتيت بدعاً فِي الْأَنَام مخلداً

فِيمَا قرنت ولات حِين قرَان)

(ولهيت عَن خلّي صفاء لم يكن

يلهيهما عَنْك اقتبال زمَان)

(غَنِيا بذكرك عَن رحيق سلسل

وَحَدَائِق خضر وعزف قيان)

(ورضيت فِي دفع الْمَلَامَة أَن ترى

مُتَعَلقا بالعذر من حسّان)

فَرَاجعه بقوله

(وَأَنا أَسَأْت فَأَيْنَ عفوك مُجملا

هبني عصيت الله فِي شعْبَان)

(لَو زرتني والآن تحمد زورتي

كنت الْهلَال أَتَى بِلَا رَمَضَان)

وَله فِي أبي بكر بن القبطورنة يستهدي مشروباً وَهُوَ ببطليوس فِي غزَاة الزلاّقة

(عطشت أَبَا بكر وكفّك دِيمَة

وذبت اشتياقاً والمزار قريب)

(فخفّف وَلَو بعض الَّذِي أَنا وَاجِد

فَلَيْسَ بحقّ أَن يضاع غَرِيب)

(ووفّر لنا من تِلْكَ حظاًّ نرى بِهِ

نشاوي وَبعد الْغَزْو سَوف نتوب)

فوجّه إِلَيْهِ مَطْلُوبه وتضييفاً مَعَه وَكتب إِلَيْهِ

(أَبَا حسن مثلي بمثلك عَالم

وَمثلك بعد الْغَزْو لَيْسَ يَتُوب)

(فَخذهَا على مَحْض الصفاء كَأَنَّهَا

سنا مَالهَا بعد الْحساب ثؤوب)

وَله إِلَى أبي بكر بن عمار

(لما دَنَوْت وَعِنْدِي

حَظّ من الشوق واف)

(قدّمت قلبِي قبلي

فصنه حَتَّى أوافي)

وَلما تحرّك الْمُعْتَمد إِلَى لورقة فِي الْجَيْش الَّذِي ترك عِنْده ابْن تاشفين

ص: 174

بعد غَزْوَة الزلافة وغرضه التَّمَكُّن من ابْن رَشِيق لتمنّعه عَلَيْهِ بمرسية كتب إِلَيْهِ أَبُو الْحسن بن اليسع وَقد قرب مِنْهُ

(هذي سماؤك فلتصعد إِلَى أمل

أمنيتي مِنْهُ رعيي فِي كواكبها)

(منعتها وملوك الْوَقْت تطلبها

سعياً لملكك فلتهنأ بِهِ وَبهَا)

وَقصد الْمُعْتَمد مرسية فِي هَذِه الْحَرَكَة فَلم يظفر مِنْهَا بطائل وخدعه ابْن رَشِيق وداخل الواصلين مَعَه من المرابطين على جَيش ابْن تاشفين فَانْصَرف إِلَى إشبيلية وَفِي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة حرك الْمُعْتَمد ابْن تاشفين للغزو بعد أَن أجَاز إِلَيْهِ الْبَحْر ولقيه على وَادي سبوا وبمنعطف مِنْهُ يعرف بالدّخلة فقصدوا جَمِيعًا حصن ألييط وَبَينه وَبَين لورقة اثْنَا عشر ميلًا وَالروم يعيثون مِنْهُ فِيمَا حوله وَابْن رَشِيق يعينهم وَعلم الطاغية أذفونش بذلك فَتحَرك لغياث الْحصن والدفاع عَن أَهله فَوَقع الانزعاج واستراب ابْن تاشفين وتحيز إِلَى لورقة وَأقَام هُنَاكَ أَيَّامًا وَيُقَال إِن جَيش الطاغية فِي حركته هَذِه نيّف على ثَمَانِيَة عشر ألفا بَين خيل وَرجل فأهلكهم الله بالوباء وَلم ينْصَرف إِلَّا فِي أقل من خَمْسَة آلَاف وَلما فصلت جيوش الْمُسلمين مَعَ ابْن تاشفين وَقد صَار أَمر مرسية إِلَى الْمُعْتَمد وَكَانَ ابْن رَشِيق فِي قَبضته ترك ابْن اليسع على لورقة والياً وَترك ابْن رَشِيق مسجوناً عِنْده فَقَالَ فِي ذَلِك أَبُو الْحسن جَعْفَر بن إِبْرَاهِيم بن الْحَاج اللورقي

ص: 175

(قل لي ابْن لي هَل تأملتها

أَو هَل تدبرت لَهَا عاقبه)

(بالْأَمْس أعيتك رشيقية

وَالْيَوْم أحدثت لَهَا صَاحبه)

هَذَا خبر ابْن الشّلبي مَعَ مَا انضاف إِلَيْهِ من غَيره

138 -

حريز بن حكم بن عكّاشة

صحب أَبوهُ حكم أَبَا الْحسن إِبْرَاهِيم بن يحيى الْمَعْرُوف بِابْن السّقاء وَزِير أبي الْوَلِيد بن جهور رَئِيس قرطبة فسجن عِنْد قَتله مَعَ أَصْحَاب الجرائم

ص: 176

إِلَى أَن هرب من محبسه وَلحق بالمأمون بن ذِي النُّون فنصح لَهُ وَكَانَ شهماً صَارِمًا فولاه بعض الْحُصُون الْمُجَاورَة لقرطبة فَدَخلَهَا بعد خلع بني جهور فِي خبر طَوِيل وَقتل أميرها حِينَئِذٍ عبّاداً الملقب بسراج الدولة بن الْمُعْتَمد مُحَمَّد ابْن عباد وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى الْمَأْمُون وَهُوَ ببلنسية وَذَلِكَ فِي سنة سبع وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة فورد الْمَأْمُون قرطبة وَأقَام بهَا نَحوا من سِتَّة أشهر تمّ توفّي فِي ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة وَاحْتمل إِلَى طليطلة فَدفن بهَا وَبَقِي حكم ابْن عكاشة بقرطبة نَائِبا عَن الْقَادِر يحيى بن إِسْمَاعِيل بن الْمَأْمُون بن ذِي النُّون بعد أَن جددت لَهُ الْبيعَة بهَا وَبلغ ذَلِك الْمُعْتَمد مُحَمَّد بن عباد فَأقبل فِي جموعه طَالبا بثأر ابْنه عباد وَعلم ابْن عكّاشة أَنه لَا طَاقَة لَهُ بِهِ فهرب عِنْد ذَلِك وَأسلم قرطبة فَدَخلَهَا الْمُعْتَمد وَأتبعهُ خيلاً لحقته فَقتل وَجِيء لَهُ بِهِ فصلب مَعَ كلب

وَولى ابْنه حريز هَذَا قلعة رَبَاح للقادر بن ذِي النُّون وَهُوَ الَّذِي

ص: 177

امتحن أَبَا الْحسن بن السّيد البطليوسي لما اتهمه وكاتبه بمداخلة المتَوَكل بن الْأَفْطَس صَاحب بطليوس فبطش بالكاتب وأفات نَفسه وَحبس أَبَا الْحسن فِي بَيت ضيق وَكَانَ يجْرِي عَلَيْهِ رغيفا لَا شَيْء مَعَه إِلَّا أَن ضعف وَهلك

وَقتل حريز فِي سنة ثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة على حصن مسطاسة وَقد كَانَ

ص: 178

أهل فحص البلوط أسروه وسيق إِلَى الْمُعْتَمد فمنّ عَلَيْهِ وَأطْلقهُ وَمن شعره مَا حكى الْفَتْح بن عبيد الله فِي كتاب مطمح الْأَنْفس من تأليفه أَن الْوَزير أَبَا مَرْوَان بن مثنى كتب إِلَيْهِ

(يَا فريداً دون ثَان

وهلالاً فِي العيان)

(عدم الراح فَصَارَت

مثل دهن البلسان)

فَبعث بمطلوبه وجاوبه بقوله

(جَاءَ من شعرك روض

جاده صوب الْبَيَان)

(فبعثناها سلافاً

كسجاياك الحسان)

(يَا فريداً لَا يجاري

بَين أَبنَاء الزَّمَان)

ص: 179

139 -

عبد الله بن عبد الْعَزِيز الْبكْرِيّ أَبُو عبيد الْوَزير

هُوَ عبد الله بن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بن أَيُّوب بن عَمْرو من أَبنَاء الْأُمَرَاء يكنى أَبَا عبيد الله ولى أَبُو زيد مُحَمَّد بن أَيُّوب ولبة وشلطيش وَمَا بَينهمَا من الثغر الغربي وأصلهم من لبلة

ص: 180

وَكَانَ أَيُّوب بن عَمْرو قد ولى خطة الردّ بقرطبة وَولى أَيْضا الْقَضَاء بِبَلَدِهِ وَسَماهُ ابْن حيّان فِي الَّذين سمعُوا من هِشَام الْمُؤَيد مَا أَمر بعقده للمنصور مُحَمَّد بن أبي عَامر مجدّداً للألفة وسمّى مَعَه مُحَمَّد بن عَمْرو وأخاه وتاريخ هَذَا العقد شهر صفر سنة سبع وَثَمَانِينَ وثلاثمائة وَذكر أَبُو الْقَاسِم بن بشكوال أَيُّوب بن عَمْرو الْمَذْكُور فِي تَارِيخه

قَالَ ابْن حَيَّان لما تولى الْوَزير أَبُو الْوَلِيد بن جهور الْإِصْلَاح بَين ابْن الْأَفْطَس والمعتضد بعد امتداد شأوهما فِي الْفِتْنَة وسنى الله السّلم بَينهمَا فِي شهر ربيع الأول سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين يَعْنِي وَأَرْبَعمِائَة اعْتدى إِثْر ذَلِك المعتضد على جَارِيَة ابْن يحيى أَمِير لبلة وَأبي زيد الْبكْرِيّ أَمِير شلطيش وولبة فأخرجهما عَن سلطانهما الْمَوْرُوث وَحصل لَهُ عملهما بِلَا كَبِير مؤونة وضمه إِلَى سَائِر عمله العريض وازداد بذلك المعتضد سُلْطَانا وَقُوَّة وَذَلِكَ أَنه لما خلا وَجهه من المظفر بن الْأَفْطَس فرغ لِابْنِ يحيى بلبلة وصمّم فِي قَصده بِنَفسِهِ فَنزل لَهُ عَن لبلة وَخرج عَن الْبَلَد وانزعج إِلَى قرطبة مسلوب الْإِمَارَة لائذاً بكنف ابْن جهور سادّ الخلّة ومأوى الطريد وَكَانَ من الْغَرِيب النَّادِر أَن شَاركهُ المعتضد بِقِطْعَة من خيله وصّلته إِلَى مأمنه بقرطبة

ثمَّ سقط إِلَيْنَا النبأ بعد بامتداد يَده إِلَى الْبكْرِيّ بولبة وشلطيش وَكَانَ

ص: 181

هَذَا الْفَتى وَارِث ذَلِك الْعَمَل لِأَبِيهِ وَكَانَ أَبوهُ من بَيت الشّرف والحسب والجاه وَالنعْمَة والاتصال الْقَدِيم بسُلْطَان الْجَمَاعَة وَكَانَ لَهُ ولسلفه إِلَى إِسْمَاعِيل بن عبّاد جدّ المعتضد وَسَائِل وأذمّة خلّفاها فِي الأعقاب اغترّ بهَا عبد الْعَزِيز الْبكْرِيّ فبادر الْبعْثَة إِلَى المعتضد سَاعَة دخل لبلة يهنئه بِمَا تهَيَّأ لَهُ مِنْهَا وذكّره بالذّمام الْمَوْصُول بَينهمَا واعترف بِطَاعَتِهِ وَعرض عَلَيْهِ التخلي عَن ولبة وَإِقْرَاره بشلطيش إِن شَاءَ فَوَقع ذَلِك من المعتضد موقع إِرَادَة ورد الْأَمر إِلَيْهِ فِيمَا يعزم عَلَيْهِ وَأظْهر الرَّغْبَة فِي لِقَائِه وَخرج نَحوه يَبْغِي ذَلِك فَلم يطمئن عبد الْعَزِيز إِلَى لِقَائِه وتحمّل بسفنه جَمِيع مَاله إِلَى جَزِيرَة شلطيش وتخلى للمعتضد عَن ولبة فحازها حوزه للبلة وَبسط الْأمان لأَهْلهَا وَاسْتعْمل عَلَيْهَا ثِقَة من رِجَاله ورسم لَهُ الْقطع بالبكري وَمنع النَّاس طراًّ من الدُّخُول إِلَيْهِ فَتَركه محصوراً وسط المَاء إِلَى أَن ألْقى بِيَدِهِ من قرب وَلم يعزب عَنهُ الحزم فَسَأَلَ المعتضد أَن ينْطَلق انطلاق صَاحبه فأمّنه وَلحق بقرطبة

وبوشر مِنْهُ رجل سريّ عَاقل عفيف أديب يفوت صَاحبه ابْن يحيى خلالاً وخصالاً إِلَى زِيَادَة عَلَيْهِ بِبَيْت السرو والشرف وبابن لَهُ من الفتيان بذّ الأقران جمالاً وبهاء وسرواً وأدباً وَمَعْرِفَة يكنى أَبَا عبيد

وتحدث النَّاس من حزم عبد الْعَزِيز يَوْمئِذٍ أَنه لما احتل شلطيش علم أَنه لَا يُقَاوم عبّاداً فَأخذ بالحزم أَولا وتخلى لَهُ عَنْهَا بِشُرُوط وفى لَهُ بهَا فَبَاعَ مِنْهُ

ص: 182

سفنه وأثقاله بِعشْرَة آلَاف مِثْقَال واحتل قرطبة فِي كنف ابْن جهور الْمَأْمُون على الْأَمْوَال والأنفس وصفت لعبّاد تِلْكَ الْبِلَاد لَو أَن شَيْئا يَدُوم صفاؤه وَالْملك الْبَاقِي لله وَحده

وَحكى غَيره أَن الْبكْرِيّ فِي قَصده قرطبة اجتاز بإقليم البصل وطلياطة وَقد أعدّ المعتضد لَهُ النزل والضيافة هُنَالك ومذهبه الْقَبْض عَلَيْهِ وعَلى نعْمَته فقدّم إِلَى صَاحب قرمونة مُحَمَّد بن عبد الله البرزالي يُعلمهُ باجتيازه عَلَيْهِ وَبِأَنَّهُ لَا يَأْمَن غائلة عبّاد وَسَأَلَهُ مشاركته وخفارته فعجّل لَهُ

ص: 183

قِطْعَة من خيل مُجَرّدَة لَقيته بِموضع اتفقَا عَلَيْهِ وَلم يلو الْبكْرِيّ على مَوضِع النزل وحث حمولته حَتَّى لفيته خيل ابْن عبد الله فوصل مَعهَا إِلَى قرمونة ثمَّ توجه مِنْهَا إِلَى قرطبة وَنَجَا من حبائل المعتضد

قَالَ وَكَانَت مُدَّة البكرتيين بشلطيش وَمَا إِلَيْهَا إِحْدَى وَأَرْبَعين سنة

فِي أول هَذَا الْخَبَر عَن ابْن حَيَّان ذكر ابْن يحيى وَأبي زيد الْبكْرِيّ

وَأَبُو زيد إِنَّمَا هُوَ مُحَمَّد بن أَيُّوب وَالِد عبد الْعَزِيز وَلم يدْرك المعتضد زَمَانه وَأما عبد الْعَزِيز فكنيته أَبُو المصعب وَكَانَ جواداً ممدحاً وَفِيه يَقُول أَبُو عَليّ إِدْرِيس بن الْيَمَانِيّ من قصيدة فريدة وَكَانَ إِدْرِيس هَذَا مقدما فِي فحول شعراء الأندلس

(فدى للَّتِي لم يثن لين فؤادها

على كبد جَار الْفِرَاق فآدها)

(من الْبيض ريا فِي رِدَاء ذوائب

يباري سَواد الْعين مِنْهَا سوادها)

يَقُول فِيهَا

ص: 184

(

...

. الرَّوْض

... .

سَقَاهَا الصِّبَا السلسال حَتَّى أنادها)

(تقود بِلَا رفق خُيُول مدامعي

لتورد هيجاء الملام ورادها)

(وَمَا أنصفتها حِين ضنت بجودها

عَلَيْهَا وحثّت بالطّراد جيادها)

(أفدت غَدَاة الْبَين مِنْهَا التماحة

شكرت صَنِيع الْبَين بِي إِذْ أفادها)

(أعيدي سقِِي مثواك ألعس أشنب

إِذا مَرضت أَرض الْأَحِبَّة جادها)

(يضوع بواديك الأغنّ أغانياً

مَتى مَا يعدها لم تملّ معادها)

(إِذا مَا أجادت كفّه حول رَوْضَة

حَسبنَا جدي عبد الْعَزِيز أجادها)

ثمَّ تصرف فِي المديح تصرفه فِي النسيب وَأحسن وأبدع

وَابْن يحيى هُوَ يحيى بن أَحْمد بن يحيى اليحصبيّ من أهل لبلة استولى عَلَيْهَا أَحْمد أَبوهُ فِي بضع عشرَة وَأَرْبَعمِائَة وملكها نَحوا من عشْرين سنة إِلَى أَن مَاتَ سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ فوليها بعده

وَكَانَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ من مفاخر الأندلس وَهُوَ أحد الرؤساء الْأَعْلَام وتواليفه قلائد فِي أجياد الْأَيَّام ذكره ابْن بشكوال فِي تَارِيخه وَحكى أَنه كَانَ يمسك كتبه فِي سنباني الشّرب وَغَيرهَا إِكْرَاما لَهَا قَالَ وَجمع كتابا فِي إِعْلَام

ص: 185

نبوة نَبينَا صلى الله عليه وسلم أَخذه النَّاس عَنهُ وَتُوفِّي فِي شَوَّال سنة تسع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة

وَحكى الْفَتْح بن عبيد الله فِي مَا وجد بِخَط ابْن حيّان على زَعمه أَن أَبَا عبيد صَار إِلَى مُحَمَّد بن معن صَاحب المرية فاصطفاه لصحبته وآثر مُجَالَسَته والأنس بِهِ وَرفع مرتبته ووفر طعمته وَمن شعره يُخَاطب أَبَا الْحسن إِبْرَاهِيم ابْن مُحَمَّد بن يحيى الْمَعْرُوف بِابْن السّقاء وَزِير أبي الْوَلِيد بن جهور بقرطبة وَقد خرج رَسُولا إِلَى باديس بن حبّوس بغرناطة أنشدها لَهُ ابْن حيّان فِي تَارِيخه الْكَبِير ونقلتها من خطّ أبي الْوَلِيد بن الدّباغ المحدّث

(كَذَا فِي بروج السعد ينْتَقل الْبَدْر

وتحسن حَيْثُ احتلّ آثاره الْقطر)

(وتقتسم الأَرْض الحظوظ فبقعة

لَهَا وافر مِنْهَا وَأُخْرَى لَهَا نزر)

(لذلّ مَكَان غَابَ عَنهُ مملّكي

وعزّ مَكَان حلّه ذَلِك الْبَدْر)

(فَلَو نقلت أَرض خطاها لأقبلت

تهنيه بَغْدَاد بقربك أَو مصر)

وَله فِي الْمُعْتَمد مُحَمَّد بن عباد عِنْد إِجَازَته الْبَحْر مستجيراً بِيُوسُف بن تاشفين

يهون علينا مركب الْفلك أَن يرى

محيي الْعلَا لما نبا مركب الجدّ

ص: 186

(فجزت أجاج الْبَحْر تبغي زلاله

وذقت جني الْأَهْوَال تبغي جني الشهد)

(يذكرنَا ذَاك الْعباب إِذا طما

ندى كفك الهامي على الْقرب والبعد)

وَمِنْهَا

(مُحَمَّد يَا ابْن الأكرمين أرومة

لِيَهنك تشييد المكارم وَالْمجد)

(فَلَو خلّد الْإِنْسَان بالمجد والتّقى

وآلائه الْحسنى لهنّئت بالخلد)

وَله

(أجدّ هوى لم يأل شوقاً تجدداً

ووجداً إِذا مَا أتهم الحبّ أنجدا)

(وَمَا زَالَ هَذَا الدَّهْر يلحن فِي الورى

فيرفع مجروراً ويخفض مبتدا)

(وَمن لم يحط بِالنَّاسِ علما فإنني

بلوتهم شَتَّى مسوداً وَسَيِّدًا)

وَله وَكَانَ مُولَعا بِالْخمرِ منهمكا فِيهَا

(خليلي إِنِّي قد طربت إِلَى الكاس

وتقت إِلَى شم البنفسج والآس)

(فَقومُوا بِنَا نَلْهُو ونستمع الْغِنَا

ونسرق هَذَا الْيَوْم سراًّ من النَّاس)

(فَلَيْسَ علينا فِي التّعلّل سَاعَة

وَإِن وَقعت فِي عقب شعْبَان من باس)

ص: 187