الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمِائَة السَّادِسَة
140 -
يحيى بن تَمِيم بن الْمعز الصنهاجي أَبُو عَليّ
أَمِير إفريقية ملك بعد أَبِيه تَمِيم فِي منتصف رَجَب سنة إِحْدَى وَخَمْسمِائة وَتُوفِّي ثَانِي عيد الْفطر سنة سبع وَخَمْسمِائة وتخلف من الْوَلَد الذُّكُور نيفاً وَثَلَاثِينَ
وَلم يطلّ أمد ولَايَته
استغرقت عمره إِمَارَة أَبِيه فَلم يَرث سُلْطَانه إِلَّا وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَأَرْبَعين وَسَبْعَة أشهر إِلَّا أَيَّامًا
مولده بالمهدية لأَرْبَع بَقينَ من ذِي الْقعدَة سنة سبع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وبرز للنَّاس رَاكِبًا ثمَّ عَاد إِلَى قصره فَخلع على وزرائه خلعاً نفيسة ووهب للأجناد وَالْعَبِيد أَمْوَالًا جمة وَمِمَّا أنْشد فِي ذَلِك الْيَوْم
(سقى الْغَيْث قبراً ضم أكْرم مَفْقُود
…
يعزّي بِهِ فِي النَّاس أفضل مَوْجُود)
(مضى فائزاً بالخلد أفضل وَالِد
…
وشرّف هَذَا الْملك أشرف مَوْلُود)
(وأحياه يحيى من ردى كل ملحد
…
وولّى تَمِيم عَنهُ أكْرم ملحود)
(فقد طابت الدُّنْيَا بِأَعْلَى مؤيّد
…
كَمَا فازت الْأُخْرَى بأكرم موءود)
(أرى النشأة الأولى أُعِيدَت فَأَقْبَلت
…
بِملك سُلَيْمَان وفقدان دَاوُود)
وليحيى هَذَا شعر ضَعِيف مِنْهُ قَوْله
(أَلا يَا مُنْتَهى طربى
…
وَمن لم يعدها أربي)
(إِذا مَا كنت حَاضِرَة
…
شربت الراح بالنّخب)
(وَمهما غبت عَن بَصرِي
…
فواحزني وواحربي)
(فجودي بالوصال على
…
شرِيف الْقدر والحسب)
(وسقّيه معتّقة
…
لَهَا تَاج من الحبب)
(مليك ملّكت كَفاهُ
…
رقّ الْعَجم وَالْعرب)
وَله
(أَلا حبذا يَوْمنَا بالحمى
…
وَقد قَارن الْقَمَر المُشْتَرِي)
(وَجَاء الحبيب إِلَى منزلي
…
برياّ القرنفل والعنبر)
(وغنت لنا قينة حلوة
…
بنظم من الشّعْر كالجوهر)
(إِذا كَانَ حبي حذا ناظري
…
شربت المدام وَلم أسكر)
قَالَ أَبُو الصَّلْت وَكُنَّا بَين يَدَيْهِ فِي يَوْم من شعْبَان شَدِيد الْبرد فَقَالَ بديهاً
(أما ترى القرّ قد وافت عساكره
…
فادفعه منتصراً بالفرو والشّرر)
(وقهوة عتّقت فِي الدّنّ صَافِيَة
…
يصفو بهَا عَيْش حاسيها من الكدر)
وَقَالَ لي ولبعض كِتَابه أجيزا فعملنا على جِهَة الِاشْتِرَاك وجلّه لِلْكَاتِبِ
(يَا من حلاه جمال الْكتب والسّير
…
وَمن ندى يَده مغن عَن الْمَطَر)
(ذعرت عبديك لما قلت مرتجلا
…
ضربا من الشّعْر يعيي أشعر الْبشر)
أما ترى القرّ قد وافت عساكره الْبَيْت وَالَّذِي بعده
(فطاوعاك وَقَالا تابعين وَمن
…
يجار سحبان لَا يَأْمَن من الْحصْر)
(تسْعَى عَلَيْك بهَا هيفاء ناعمة
…
تسبي الْعُقُول بِحسن الدّلّ والحور)
(كَأَن غرتها الغراء شمس ضحى
…
تبدو لعينك فِي ليل من الشّعر)
141 -
رشيد الدولة أَبُو يحيى مُحَمَّد بن عز الدولة أبي مَرْوَان عبيد الله بن المعتصم مُحَمَّد بن معن بن صمادح
ذكره أَبُو عَامر السالمي فِي تَارِيخه وَقَالَ نَشأ بعد انْقِرَاض ملكهم فكلف بالآداب وبرز فِيهَا ثمَّ تاق إِلَى الرِّئَاسَة فقيّد فَمن قَوْله فِي السجْن
(أحبّتنا الْكِرَام بغوا علينا
…
وبغى الْمَرْء معطبة ونار)
(وَقَالُوا الهجر لمّا يعلموه
…
وهجر القَوْل منقصة وعار)
(صبرت على مقارعة الدَّوَاهِي
…
وطبع الحرّ صَبر وائتجار)
(وَقلت لَعَلَّهَا ظلم ألمّت
…
وَحَال اللَّيْل آخرهَا النَّهَار)
(فَإِن يكن الردى يكن اصطبار
…
وَإِن تكن المنى يكن اغتفار)
وَله فِي ذَلِك
(صبرا على نائبات الدَّهْر إنّ لَهُ
…
يَوْمًا كَمَا فتك الإصباح بالظّلم)
(إِن كنت تعلم أَن الله مقتدر
…
فثق بِهِ تلق روح الله من أُمَم)
(وقلما صَبر الْإِنْسَان محتسباً
…
إِلَّا وَأصْبح فِي فضفاضة النّعم)
وَذكر أَبُو عَليّ بن الأشيري أَنه كَانَ مَعَ أبي يحيى هَذَا وعمّه رفيع الدولة بن المعتصم بداخل تلمسان فِي حصارها سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وتاشفين ابْن عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين فِي ذَلِك الْوَقْت بظاهرها فِي محلاته وجموعه قَالَ فورد على الْمُوَحِّدين أعزهم لله فتح ضربوا لَهُ طبولهم
فَقَالَ رفيع الدولة وَكَانَ مسناًّ لِابْنِ أَخِيه أبي يحيى لَوْلَا كبر سني وضعفي لَكُنْت عِنْدهم حرصاً عَلَيْهِم ونظراً لنَفْسي فَقَالَ أَبُو يحيى تعال نقل شعرًا نجعله عدّة فَقَالَ رفيع الدولة وَكَانَ ذَا بديهة
(لعبد الْمُؤمن الْملك
…
يَدُور السعد فِي الْفلك)
فَقَالَ أَبُو يحيى
(همام نور غرّته
…
كضوء الْبَدْر فِي الحلك)
فَقَالَ ابْن الأشيري
(فيمّمه تَجِد ملكا
…
عَلَيْهِ سكينَة الْملك)
(وَلَا تجزع فَلَيْسَ لَهُ
…
على القصاد من دَرك)
قَالَ وشاعت هَذِه الأبيات وَإِلَى تلمسان وَبَلغت أَبَا بكر بن مزدلي فخاف قائلوها وَكَانَ رفيع الدولة إِذْ ذَاك مقدّماً على بُنيان سور الرّبص مِنْهَا بحيلة قَالَ ابْن الأشيري وَكنت أرى فِي النّوم من يَقُول
.. . بِهِ
…
سفر فارغة فَذكرت ذَلِك لأبي يحيى بن صمادج
…
من خصّه بِالنعَم السابغة
…
فَجرى الْقدر بذلك
…
فيسير والربرتير هَذَا علج لبني تاشفين من كبار قوادهم وأبطال رِجَالهمْ كَانَت لَهُ
فِي الحروب مقاوم شهيرة وَكَانَ مقتل تاشفين لَيْلَة سبع وَعشْرين من شهر رَمَضَان من سنة تسع وَثَلَاثِينَ الْمَذْكُورَة
وجّه ابْنه إِبْرَاهِيم وليّ عَهده إِلَى مراكش خوفًا عَلَيْهَا فِي شعْبَان وَسَار كَاتبا مَعَه أَبُو جَعْفَر بن عَطِيَّة وَاسْتقر هُوَ
بوهران ولجأ إِلَى حصن شرع فِي بُنْيَانه فِي تِلْكَ الْأَيَّام
فقصده الموحدون وأضرموا النَّار حوله فَلَمَّا رأى ذَلِك ودع أَصْحَابه لَيْلًا واقتحم وَالنَّار محتدمة بَاب الْحصن فَوجدَ من الْغَد مَيتا لَا أثر فِيهِ لضربة وَلَا طعنة
وَيُقَال إِن فرسه صرعه وسيق فصلب
وَقَالَ غير ابْن الأشيري كَانَ مهلك تاشفين بِخَارِج مَدِينَة وهران تردى بِهِ فرسه فِي الْبَحْر فَهَلَك وتكسّرا جَمِيعًا وَكَانَ قصد الرّباط بِخَارِج وهران على الْبَحْر فِي قِطْعَة من أَصْحَابه ليقوم بِهِ لَيْلَة سبع وَعشْرين من رَمَضَان الْمَذْكُور فنبّه عَلَيْهِ الموحدون أعزهم الله فطرقوهم لَيْلًا فِي جمع وافر وَأَحْدَقُوا بالرّباط وَفِيهِمْ أَمِير الْأُمَرَاء والمخصوص بنصر الْأَوْلَوِيَّة ونجح الآراء الشَّيْخ الْمُعظم الْمُجَاهِد الْمُقَدّس المرحوم أَبُو حَفْص عمر بن يحيى رضوَان الله عَلَيْهِ وراث الممالك ومورثها ومطفئ نَار الْفِتَن والتجسيم مؤرّثها الَّذِي كَانَت الْفتُوح تنثال عَلَيْهِ وتتلاقي لَدَيْهِ وكتائب النَّصْر والرعب تسير خَلفه وَبَين يَدَيْهِ
فَلَمَّا علم تاشفين بهم ركب وَخرج هُوَ وَأَصْحَابه مستميتين فَوَقع تاشفين على من يَلِيهِ
من محاربيه وَظن الأَرْض مُتَّصِلَة فهوى بِهِ فرسه وتمزق بِأَسْفَل المهوى وَانْهَزَمَ عسكره
وَذَلِكَ بعد مكنه فِي الْحَرْب خَمْسَة أَعْوَام إِلَّا أشهراً ثَلَاثَة مَا آوى إِلَى بلد وَلَا عرّج على أهل وَلَا ولد وَمن يحارب أَمر الله محروب
واتصل مَقْتَله بِابْن أَخِيه يحيى بن أبي بكر بن عَليّ بن يُوسُف وَهُوَ الْمَعْرُوف بِابْن الصّحراوية وَكَانَ بتلمسان فَخرج مِنْهَا فِي أَصْحَابه وأسلمها
وَخرج أَبُو يحيى بن صمادح وَابْن الأشيري مُهَاجِرين فَقبلا
وَلأبي يحيى مِنْهُمَا قصائد مطولات فِي مدح الْأَمر العالي
وَفِي هَذَا الْخَبَر أَن ابْن الصحراوية كَانَ بتلمسان وَقد تقدم عَن ابْن الأشيري أَن أَبَا بكر بن مزدلي كَانَ والياً عَلَيْهَا فِي هَذِه السّنة الْمَذْكُورَة فَلَعَلَّهُ ولى بعده أَو كَانَ مدَدا لَهُ فِي تِلْكَ الْمدَّة
142 -
أَحْمد بن الْحُسَيْن بن قسيّ أَبُو الْقَاسِم
أول الثائرين بالأندلس عِنْد اختلال دولة الملثمين وَهُوَ رومي الأَصْل من بادية شلب
نَشأ مشتغلاً بِالْأَعْمَالِ المخزنية ثمَّ تزهد بِزَعْمِهِ وَبَاعَ مَاله وَتصدق بِثمنِهِ وساح فِي الْبِلَاد
وَلَقي أَبَا الْعَبَّاس بن العريف بالمرية قبل إشخاصه إِلَى مراكش ثمَّ انْصَرف إِلَى قريته
وَأَقْبل على قِرَاءَة كتب أبي حَامِد الْغَزالِيّ فِي الظَّاهِر وَهُوَ يستجلب أهل هَذَا الشَّأْن محرضاً على الْفِتْنَة وداعياً إِلَى الثورة فِي الْبَاطِن
ثمَّ ادّعى الْهِدَايَة مخرقة وتمويهاً على الْعَامَّة وَتسَمى بِالْإِمَامِ وَطلب فاستخفى وَقبض على طَائِفَة من أَصْحَابه فأزعجوا إِلَى إشبيلية
وَلما دخلت سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة أَشَارَ من مَوضِع استخفائه على أَصْحَابه المريدين أَن يَسِيرُوا مَعَ مُحَمَّد بن يحيى الشّلطيشي الْمَعْرُوف بِابْن الْقَابِلَة وَكَانَ يُسَمِّيه بالمصطفى لاختصاصه الْكُلِّي بكتابته واطلاعه على أُمُوره ثمَّ قَتله بعد ذَلِك وَأمرهمْ أَن يغدروا قلعة ميرتلة وَهِي إِحْدَى القلاع المنيعة بغرب الأندلس فِي وَقت رسمه لَهُم من هَذِه السّنة القارضة ملك اللمتونيين بمقتل تاشفين أَمِيرهمْ فِي رَمَضَان مِنْهَا
فكمنوا فمكنوا بالرّبض وهم نَحْو من سبعين رجلا وتغلبوا عَلَيْهَا سحر لَيْلَة الْخَمِيس الثَّانِي عشر من صفر مِنْهَا بعد أَن قتلوا بوّاب القلعة وأعلنوا بدعوة ابْن قسيّ وَأَقَامُوا على ذَلِك إِلَى أَن وصلهم فِي غرَّة شهر ربيع الأول فِي جمع وافر من المريدين شعارهم التهليل وَالتَّكْبِير فَصَعدَ إِلَى قصبتها واحتل بقصرها وَشرع فِي مُخَاطبَة أَعْيَان الْبِلَاد مخبّباً وللفتنة محزباً فَاسْتَجَاب لَهُ كثير مِنْهُم وأولهم أهل يابرة
ثمَّ أهل شلب واتسع على المرابطين خرق لم يرفعوه وهجم عَلَيْهِم حَادث طالما توقعوه
وآلت الْحَال بِابْن قسيّ إِلَى أَن خلع بميرتلة ثمَّ أُعِيد وَمِنْهَا هَاجر إِلَى الْمُوَحِّدين أعزهم الله فَقدم عَلَيْهِم بسلا متبرئاً من دعاويه وتائباً مِمَّا أسلفه من مساويه فِي ربيع الآخر سنة أَرْبَعِينَ ثمَّ انْصَرف فِي الْمحرم سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين صُحْبَة الْجَيْش الَّذِي افْتتح جَزِيرَة طريف ثمَّ الجزيرة الخضراء
وَلما فتحت شلب ترك ابْن قسيّ عَلَيْهَا والياً وَمِنْهَا كَانَ قدومه فِي شهر رَمَضَان من السّنة مهنئاً بِفَتْح إشبيلية وَكَانَ فتحهَا يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّالِث عشر من شعْبَان
وَبعد عوده إِلَى شلب ظهر مِنْهُ غير مَا فورق عَلَيْهِ إِلَى أَن صرّح بِالْخِلَافِ وداخل الطاغية ابْن الرّيق صَاحب قلنبرية فِي إعانته وإمداده فأظهر إجَابَته إِلَى مُرَاده وَبعث إِلَيْهِ بفرس وَسلَاح فَأنْكر ذَلِك أهل شلب وفتكوا بِهِ فِي قصر الشّراجب مِنْهَا مَوضِع سكناهُ فِي قصَّة طَوِيلَة ونصبوا مَكَانَهُ ابْن الْمُنْذر الْأَعْمَى معلنين بدعوة الْمُوَحِّدين وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الأولى من سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَمن شعر ابْن قسيّ بَين يَدي ثورته
(إِذا صفر الأصفار جَاءَ فَإِنَّمَا
…
يَجِيء بِأَمْر لَا يمرّ وَلَا يحلي)
(وشهرا ربيع فيهمَا كلّ آيَة
…
وَعند جُمَادَى يَنْقَضِي أمد الخبل)
وَله
(وَمَا تدفع الْأَبْطَال بالوعظ عَن حمى
…
وَلَا الْحَرْب تطفي بالرّقي والتمائم)
(وَلَكِن ببيض مرهفات وذبل
…
مواردها مَاء الطّلي والغلاصم)
(وَلَا صلح حَتَّى نطعن الْخَيل بالقنا
…
ونضرب بالبيض الرّقاق الصوارم)
(وَنحن أنَاس قد حمتنا سُيُوفنَا
…
عَن الظُّلم لما جرم بالمظالم)
وَكَانَ أَبُو عمر أَحْمد بن عبد الله بن حربون الشلبي من كتّابه وَفِيه يَقُول
(اهرب إِلَى الله وابرأ
…
من أَحْمد بن قسيّ)
(أَو فاتخذه إِمَامًا
…
واكفر بِكُل نبيّ)
وَكتب إِلَيْهِ يمدحه
(لم أر جوداً لمستماح
…
علّمني صَنْعَة امتداح)
(قد خلق الله راحتيه
…
من طِينَة الْبَأْس والسماح)
(ألْقى على الْجُود نور بشر
…
فجَاء كالغيث فِي الصَّباح)
(راش إِمَام الْهدى جناحي
…
وَلَيْسَ فِي الْحق من جنَاح)
(أريتني الْيَوْم كَيفَ أوري
…
وَكنت أصلدت فِي اقتداحي)
(تبَارك الله أيّ جدّ
…
أفرغ فِي قالب المزاح)
فَقَالَ ابْن قسيّ يجِيبه
(جددت جداًّ بِلَا مزاح
…
ورضت مُعْتَادَة الجماح)
(حليته من نتاج فكر
…
حوليّه ثقفة القداح)
(دهماء قد لطمت بلَيْل
…
وخوضت لجة الصَّباح)
(إِن سوبقت بالرياح جَاءَت
…
بلقاء فِي مقدم الرِّيَاح)
(أَهْدَيْتهَا وَالزَّمَان باد
…
صَلَاحه لِذَوي الصّلاح)
(فَكَانَت الزّهر لانتسام
…
وَكَانَت الزّهر لالتماح)
(فَأَقْبَلت بِي على اغتباق
…
لَيْلًا وَيَوْما على اصطباح)
(وَكنت أعتدّ أنّ رُمْحِي
…
فِي الطعْن من أثقف الرماح)
(حَتَّى طلعتم لَدَى عجاج
…
كالليل غشّى من النواحي)
(فَمن لموح من العوالي
…
وَمن لموع من الصّفاح)
(فثم كسّرت من صعادي
…
وَثمّ ألقيت بِالسِّلَاحِ)
(وَبعد يَا من أعَار خلقي
…
حلى من أخلاقه السّماح)
(فها أَنا الْيَوْم فِي بساطي
…
هزل وجدّ من امتداح)
(أعطي إِلَى الْجد صفح رسم
…
بَاقٍ وللهزل صفح ماح)
(فأعقب المزح حَال جدّ
…
والجدّ أولى من المزاح)
143 -
مُحَمَّد بن عمر بن الْمُنْذر أَبُو الْوَلِيد
أحد أَعْيَان شلب ونبهائها من بَيت قديم فِي المولّدين وَكَانَ من أحسن النَّاس وَجها ولازم التَّعَلُّم بإشبيلية فِي صغره حَتَّى تميز بالمعارف الأدبية والفقهية
وَولى خطة الشورى بِبَلَدِهِ ثمَّ تزهد وانزوى ورابط على سَاحل الْبَحْر فِي
رِبَاط الرّيحانة وَتصدق بِمَالِه وَصَاحب أَحْمد بن قسيّ الدّعي وامتحن من أَجله ثمَّ خلص من ذَلِك واتّبعه عِنْد ثورته وَقَامَ فِي بَلَده بدعوته مستعيناً على ذَلِك بِأبي مُحَمَّد سيدراي بن وَزِير الثائر بيابرة قبله وَكَانَت بَينهمَا قيل صُحْبَة وصداقة ثمَّ سَار إِلَى حصن مرجيق من أَعمال شلب وَقد ضَبطه الملثمون فتغلب عَلَيْهِم وقتلهم
وسرى خبرهم إِلَى من كَانَ مِنْهُم بباجة فطلبوا من أَهلهَا تأمينهم على أَن يلْحقُوا بإشبيلية وإثرخروجهم مِنْهَا دَخلهَا ابْن الْمُنْذر فِي الْعَسْكَر الَّذِي أمده بِهِ ابْن وَزِير وَعَلِيهِ أَخُوهُ أَحْمد وخاله عبد الله بن عَليّ بن الصّميل ثمَّ قدم هُوَ وَأَبُو مُحَمَّد بن وَزِير على ابْن قسيّ فِي أول شهر ربيع الآخر من سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَقد اسْتَقر بقلعة مبرتلة قبل ذَلِك بِشَهْر فسلما عَلَيْهِ بالإمارة وأذعنا لَهُ بِالطَّاعَةِ فَأقر ابْن وَزِير على باجة وَمَا والاها أَمِيرا وَابْن الْمُنْذر على شلب وَمَا والاها كَذَلِك
ثمَّ انْصَرف ابْن وَزِير وتلوّم ابْن الْمُنْذر بميرتلة أَيَّامًا وَقد أبدى مُنَافَسَة ابْن وَزِير وحسادته ثمَّ لحق بِبَلَدِهِ حَتَّى إِذا اجْتمع عَسْكَر أكشونبة
إِلَى من عِنْده من الشّلبيين وَأَصْحَابه المريدين قدم على ابْن قسيّ ثَانِيَة يظْهر الْجد فِي نصرته وَالْعَمَل على نشر دَعوته فسرّ بمقدمه وجدد لَهُ عَهده على مَا بِيَدِهِ وسّماه الْعَزِيز بِاللَّه ثمَّ عبر وَادي آنة مُتَقَدما فِي جمعه إِلَى ولبة فَدَخلَهَا وامتد مِنْهَا إِلَى لبلة فقاتلها حَتَّى ملكهَا بمعاونة يُوسُف بن أَحْمد البطروجي أحد مَرَدَة الثوار من هَؤُلَاءِ المريدين وَأنزل من تمنع فِي بروجها من الملثمين
وطمح بِهِ الاغترار إِلَى إشبيلية وَقد نمى إِلَيْهِ أَنَّهَا حِينَئِذٍ دون أَمِير يضبطها فَتحَرك من لبلة نَحْوهَا وَدخل حصن الْقصر وطلياطة من أَعمال شرفها وَقد كثف جمعه وَكثر حشده فَانْتهى إِلَى الْحصن الزَّاهِر ودخله
وبظاهر اطريانة انْكَشَفَ أَصْحَابه أَمَام طَائِفَة من جَيش أبي زَكَرِيَّاء يحيى بن عَليّ بن غانية
وَكَانَ لما بلغه أَمر لبلة وبلاد الغرب قد بَادر من قرطبة بِالْخرُوجِ لغزو أَهلهَا فَوَافى إشبيلية وَابْن الْمُنْذر يعيث فِي نَوَاحِيهَا فعيّن من أَصْحَابه لاتّباعهم وعبور الْوَادي نحوهم من هَزَمَهُمْ وطردهم وَقتل عدد وافر مِنْهُم فَأسْرى ابْن الْمُنْذر لَيْلَة إِلَى لبلة وَأقَام بهَا يَوْمَيْنِ يحصنها ثمَّ لحق بشلب وَترك يُوسُف البطروجي بهَا فنازله ابْن غانية فِي جيوشه ثَلَاثَة أشهر وَذَلِكَ فِي كلب الشتَاء وحدّته إِلَى أَن بلغه قيام ابْن حمدين بقرطبة فَانْصَرف عَنْهَا إِلَى إشبيلية وَقد تغير على النَّاس وَاشْتَدَّ حذره مِنْهُم فجرت لَهُ مَعَهم وَلَهُم مَعَه قصَص طَوِيلَة
وَلما سمع ابْن قسيّ بِقِيَام ابْن حمدين أَمر ابْن الْمُنْذر هَذَا أَن يعسكر ويسير هُوَ وَمُحَمّد بن يحيى الْمَعْرُوف بِابْن الْقَابِلَة كَاتب ابْن قسيّ وَصَاحبه إِلَى قرطبة طَمَعا فِي دُخُولهَا وخاطب مَعَهُمَا أَهلهَا يرغبهم فِي أمره ويحرضهم على الْقيام بدعوته وَكَانَ بالرّبض الشَّرْقِي من لَهُ حرص عَلَيْهِ ورغبة فِيهِ كَأبي الْحسن ابْن مُؤمن وَغَيره فَتحَرك ابْن الْمُنْذر وَصَاحبه بعسكر شلب ولبلة فوجدوا أَحْمد بن عبد الْملك بن هود سيف الدولة قد جَاءَ بِهِ أهل قرطبة من بعض ثغورها الْمُجَاورَة لَهَا وملكوها عَلَيْهِم وطردوا ابْن حمدين فانحاز إِلَى الْحصن
الْمَعْرُوف بفرنجولش وَمِنْهَا أعادته الْعَامَّة لما قَامَت على ابْن هود وَقتلت وزيره ابْن شمّاخ وفر هُوَ بعد اثْنَي عشر يَوْمًا من دُخُولهَا وَلم يعد إِلَيْهَا بعد
وَانْصَرف أَصْحَاب ابْن قسيّ خائبين وَبعد وصولهم إِلَيْهِ استدعى أَبَا مُحَمَّد سيدراي بن وَزِير للاجتماع بِهِ فتوقف وارتاب لما كَانَ من قَبضه عَلَيْهِ بقصبة مبرتلة وخلعه ثمَّ صرفه إِلَى حَاله أثْنَاء مغيب ابْن الْمُنْذر فِي قصد إشبيلية
وَلما يئس مِنْهُ ابْن قسيّ أَمر ابْن الْمُنْذر بمحاربته فَهَزَمَهُ ابْن وَزِير وَقبض عَلَيْهِ واعتقله بِمَدِينَة باجة ثمَّ تذكر يَوْمًا خَاله وَقد صَارَت إِلَيْهِ بطليوس وأعمالها إِلَى مَا كَانَ بِيَدِهِ من بِلَاد الغرب فَأمر خَاله عبد الله بن الصّميل الْمَذْكُور قبل بِأَن يسير إِلَى باجة ويستخرج ابْن الْمُنْذر من سجنه ويسمل عَيْنَيْهِ فَفعل ذَلِك وَأقَام فِي معتقله إِلَى أَن فتح الموحدون أعزهم الله باجة وَسَائِر بِلَاد الغرب فأنقذه الله على أَيْديهم وَعَاد إِلَى شلب
وَكَانَ يُجَالس ابْن قسيّ فِي ولَايَته عَلَيْهَا من قبل الْمُوَحِّدين إِلَى أَن خلع دعوتهم وانسلخ من طاعتهم وداخل النَّصَارَى فاستراح ابْن الْمُنْذر إِلَى وُجُوه بَلَده بِمَا كَانَ عِنْده من بَاطِن أُمُوره ودبر مَعَهم وَهُوَ ذَاهِب الْبَصَر قَتله فتم ذَلِك كَمَا تقدم ذكره وَخَلفه فِي ولَايَته قَائِما بالدعوة المهدية خلّدها الله وَذَلِكَ فِي جمادي الأولى سنة سِتّ وَأَرْبَعين مخيف مِنْهُ أَن يثور ثَالِثَة فَنقل إِلَى إشبيلية بعد أَن خلعه ابْن وَزِير وَملك شلب دونه فِي خبر ذكره ابْن صَاحب
الصَّلَاة فِي كتاب ثورة المريدين من تأليفه وَبعد ذَلِك أجَاز الْبَحْر إِلَى سلا فَتوفي بهَا سنة ثَمَان وَخَمْسمِائة
وَمن شعره يُخَاطب ابْنَته وَتوفيت بعد خلعه وسمل عَيْنَيْهِ
(أواحدتي قد كنت أرجوك خلفة
…
لعينيّ أختيك اللَّتَيْنِ سبا الدَّهْر)
(رضيت بِحكم الله فِيمَا أصابني
…
إِذا لم يكن يسر فيا حبذا الْعسر)
وَله وَبعث بِهِ إِلَى أبي بكر بن المنخّل فِي نكبته وَكَانَ قد استوزره فِي ولَايَته
(يَا واحدي من ذَا الورى بولاته
…
ووحيدهم إِن ناظروا بذكائه)
(أما الْكَلَام فقد ملكت زَمَانه
…
نوعا فنوعاً فَانْفَرد بلوائه)
(إِن شِئْت فانظم درّ لفظ رائق
…
يحْكى حمام الأيك حَال غنائه)
(أَو شِئْت فانثر من كلامك جوهراً
…
تغلو بِهِ الأرباح عِنْد شِرَائِهِ)
(يَا طَالبا علم الْكَلَام تحققاً
…
أبشر فقد أَدْرَكته بلقائه)
(إِن كنت تبغي كشف غامضه فقد
…
أنجحت فَانْزِل وارتبط بفنائه)
(واسمع إِذا ألقِي إِلَيْك معلما
…
والقن هديت الحقّ من إلقائه)
(من كَانَ يرتاد الشِّفَاء لنَفسِهِ
…
فلديه مِنْهُ مَا يَفِي بشفائه)
(مَا إِن يناظر حائراً فِي دينه
…
إِلَّا اهْتَدَى وشفاه من أدوائه)
(وَإِذا تخطّ يَمِينه فِي مهرق
…
أهْدى لنا الْحسنى بِحسن رُوَائِهِ)
(إبه أَبَا بكر وماذا من أَخ
…
ناديت غَيْرك لم يجب لندائه)
(عثرت بِي الدُّنْيَا فَأصْبح معرضًا
…
عني كَأبي لم أدن بإخائه)
(ومنحته ودي وصنت إخاءه
…
من نائبات الدَّهْر حَال بلائه)
(ورعيت ظهر الْغَيْب حقّ جواره
…
وحفظته من خَلفه وورائه)
(فَعدا عليّ وَلم أظنّ ببغيه
…
وَأَنا بِحَال من أَمَان عدائه)
(لَو أنني مِمَّن تسوء ظنونه
…
مَا نالني مَا نَالَ من تلقائه)
(مَا سَاءَ فعلي مرّة فيسوء بِي
…
ظنّ بِمن قدمتّ لي بولائه)
فَأَجَابَهُ بقصيدة مِنْهَا
(يَا ملبسي النّعمى بِحسن ثنائه
…
ومميّزي نَقْدا بِصدق ولائه)
(ألْقى عليّ مديحه فلبسته
…
بردا وردّ عليّ فضل رِدَائه)
(وأعارني من خلقه وَصِفَاته
…
فسحبت ذيل الوشي من صنعائه)
(لبيْك من دَاع تيم حبّه
…
قلبِي فصيّره إِلَى سودائه)
(إِن كَانَ أَبنَاء الزَّمَان تشبهوا
…
بأبيهم مَا أَنْت من أبنائه)
(فذر الحسود لما بِهِ فدواؤه
…
فِي مَوته وحياته من دائه)
(لله درّك من فَتى عبثت بِهِ
…
أَيدي الزَّمَان فأخلفت بعلائه)
(أفديه من حرّ جفاه زَمَانه
…
لَو كَانَ يسمح دَهْرنَا بفدائه)
(قد كَانَ مثل السهْم ينفذ فِي الوغى
…
والنصر مَعْقُود بِرَأْس لوائه)
(شهماً إِذا دجت الخطوب تبلّجت
…
لعقولنا الأقمار من لألائه)
(شيم كأزهار الرّبيع وَرَاءَهَا
…
همم تحطّ النَّجْم من غلوائه)
(وَإِذا ترقّى منبراً لملمة
…
عطف الْقُلُوب على مناهج رائه)
(كَانَت لياليه نُجُوم زَمَاننَا
…
فتناثرت حمماً على ظلمائه)
وَله إِلَى ابْن المنخّل أَيْضا
(لَئِن غضّ مِنْك الدَّهْر يَوْمًا بأزمة
…
فحسبك أَن تلقى وَأَنت صبور)
(فَلَيْسَ أسى يبْقى وَإِن جلّ مثل مَا
…
على كل حَال لَا يَدُوم سرُور)
(أيوجد فِي الدُّنْيَا من النَّاس صَاحب
…
إِذا أَعرَضت أبقى لذاك عسير)
(طلبت عَزِيزًا لَا ينَال فَإِن يكن
…
فَإِن أَبَا بكر بِذَاكَ جدير)
(رضيت بِهِ حظاًّ من النَّاس كلهم
…
فَمَا بعده حرّ إِلَيْهِ نشِير)
فَأَجَابَهُ بقوله
(تجاف عَن الدُّنْيَا وَعَن برد ظلّها
…
فإنّ بروداً لَا يَدُوم حرور)
(فديتك لَا تأسف لدُنْيَا تقلّصت
…
وأوحش يَوْمًا مِنْبَر وسرير)
(وَإِن عريت جرد المذاكي وذلّلت
…
أسود فَلم يسمع لَهُنَّ زئير)
(وغودرت الرَّايَات تهفو كَأَنَّهَا
…
جوابح من ذعر عَلَيْك تطير)
(وَكَانَت وَلم تذْعَر عَلَيْك كَأَنَّهَا
…
إِذا رفرفت يَوْم الْهياج نسور)
(طلبت وَفَاء وَالْوَفَاء سجية
…
وَلكنهَا أمّ الْوَفَاء نزور)
(رَأَيْتُك تبغي مثل نَفسك فِي الْعلَا
…
طلاب لعمري مَا أردْت عسير)
(وَمن ذَا الَّذِي يسمو سمّوك للعلا
…
وَيَعْفُو عَن الزلات وَهُوَ قدير)
وَلابْن المنخّل فِيهِ يرثيه من قصيدة
(بأيّ حسام أدفَع الْخطب بعد مَا
…
فقدت الحسام المنذريّ اليمانيا)
(وَمن لي بِمثل المنذريّ مُحَمَّد
…
صديقا صَدُوقًا أَو خَلِيلًا مصافياً)
(وَقد كنت أستدني الْبعيد بِرَأْيهِ
…
فَيَأْتِي على حكم الْإِرَادَة دانيا)
144 -
عَليّ بن عمر بن أضحى الْهَمدَانِي أَبُو الْحسن
هُوَ عَليّ بن عمر بن مُحَمَّد بن مشرّف بن أَحْمد بن أضحى بن عبد اللَّطِيف بن غَرِيب بالغين الْمُعْجَمَة ابْن يزِيد بن الشّمر من هَمدَان فِي ذؤابة شرفها وصميم بيوتاتها وَقد تقدم ذكر نباهة سلفه وَقيام مُحَمَّد بن أضحى بِأَمْر الْعَرَب بعد سعيد بن جوديّ السّعديّ فِي خلَافَة الْأَمِير عبد الله بن مُحَمَّد وَلم سميّ وَالِد عبد اللَّطِيف غَرِيبا حَتَّى غلب عَلَيْهِ وَإِنَّمَا اسْمه خَالِد وَيزِيد بن الشّمر أَبوهُ هُوَ الدَّاخِل إِلَى الأندلس
وَولد أَبُو الْحسن على بن عمر هَذَا بالمريّة فِي شهر ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة وَولى قضاءها بعد أبي عبد الله مُحَمَّد بن يحيى بن الفرّا الزَّاهِد ثمَّ صرف بِعَبْد الْمُنعم بن سمجون وأعيد بعده ثَانِيَة
وَلما انْقَضتْ دولة الملثمين فِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة ودعا ابْن حمدين
لنَفسِهِ بقرطبة خَاطب أَبَا الْحسن بن أضحى يحضه على اتّباعه وَهُوَ إِذْ ذَاك بغرناطة وقاضيها أَبُو مُحَمَّد بن سماك فَقَامَ بدعوة ابْن حمدين وَتَابعه أهل بَلَده وأخرجوا الملثمين من الْمَدِينَة فَتَحَصَّنُوا بالقصبة ونشب الْقِتَال بَين الطَّائِفَتَيْنِ فاتصل ذَلِك مُدَّة
وَذكر أَبُو مُحَمَّد بن صَاحب الصَّلَاة أَن الَّذِي قَامَ عَلَيْهِ ابْن أضحى من الملثمين هُوَ على بن أبي بكر الْمَعْرُوف بِابْن فنوا وَهِي أُخْت عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين كَانَ أَمِيرا عَلَيْهَا بعد أبي زَكَرِيَّاء بن غانية قَالَ واستصرخ يَعْنِي ابْن أضحى بِابْن حمدين بقرطبة وبابن جزيّ قَاضِي جيّان فوجّه إِلَيْهِ ابْن حمدين ابْن أَخِيه عليّ بن أبي الْقَاسِم أَحْمد الْمَعْرُوف بِابْن أم الْعِمَاد فِي عَسْكَر قرطبة وَعلم بذلك سيف الدولة أَحْمد بن هود فعجّل وَدخل مَدِينَة غرناطة وَانْصَرف ابْن أم الْعِمَاد خائباً
وتعاون ابْن هود مَعَ ابْن أضحى على قتال الملثمين وحصارهم بالقصبة أشهراً وَفِي أثْنَاء ذَلِك جرحوا ولد ابْن هود وأسروه وأدخلوه القصبة فَمَاتَ من جراحه فغسلوه وكفنوه وجعلوه فِي نعش ودفعوه إِلَى أَبِيه فدفنه
قَالَ ثمَّ مَاتَ القَاضِي ابْن أضخى وَتقدم ابْنه مُحَمَّد بعده مَعَ الرّعية فِي معاونة ابْن هود ثمَّ إِن ابْن أبي جَعْفَر قَاضِي مرسية الثائر بهَا جَيش لمعونة أهل غرناطة فَلَمَّا وصل إِلَى مَا يقرب مِنْهَا وَهُوَ فِي ألفى فَارس من أهل الشرق خرج الملثمون إِلَيْهِ فهزموه وقتلوه وَكَثِيرًا مِمَّن كَانَ مَعَه وَدفن هُوَ بغرناطة وَعجز ابْن هود ففر إِلَى جيّان وَكَانَ قد ترك بهَا ابْن عَمه نَائِبا عَنهُ وَابْن مشرف البراجلي
فوفيا لَهُ وتغلب الملثمون على مَدِينَة غرناطة وفر مُحَمَّد بن عَليّ بن أضحى إِلَى المنكّب ثمَّ مِنْهَا إِلَى حصن بني بشير
وَحكى غَيره أَن ابْن أضحى لما دَعَا لِابْنِ حمدين فِي رَمَضَان سنة تسع وَثَلَاثِينَ تمنع الملثمون بقصبة غرناطة وَكَانُوا جمَاعَة أهل بَأْس ونجدة فيهم بَقِيَّة أمرائهم ونقاوة أبطالهم فحاربوه ثَمَانِيَة أَيَّام إِلَى أَن وصل من جيّان بعض قواد الثغر مدَدا لِابْنِ أضحى فاضطربت محلته بالمصلى وانضاف إِلَيْهِ من غرناطة جمع وافر فَخرج إِلَيْهِم الملثمون من الْغَد وهزموهم أقبح هزيمَة وَقتلُوا مِنْهُم مقتلة عَظِيمَة ثمَّ عَادوا إِلَى القصبة وضيقوا على ابْن أضحى وَأهل الْبَلَد ومنعوهم الْمرَافِق ودامت الْحَرْب بَين الطَّائِفَتَيْنِ بداخل الْمَدِينَة وخارجها إِلَى أَن ورد ابْن أبي جَعْفَر الْقَائِم بمرسية فِي جموع وافرة يُقَال إِنَّهُم كَانُوا اثْنَي عشر ألفا بَين خيل وَرجل فَخرج إِلَيْهِ الملثمون مستميتين وَقد اشتدت شوكتهم وكثفت جَمَاعَتهمْ فهزموه وَقتل ابْن أبي جَعْفَر وَلم ينج من عسكره إِلَّا الْقَلِيل وَانْصَرف الملثمون إِلَى معقلهم ظَاهِرين على عداتهم ظافرين فِي حركاتهم
ثمَّ قدم ابْن هود وَدخل غرناطة من بَاب مورور وَمَعَهُ ابْنه عماد الدولة فَخرج إِلَيْهِ ابْن أضحى رَاجِلا وَسلم عَلَيْهِ وأنزله واستسقى ابْن هود فأمرله ابْن أضحى بقدح زجاج فِيهِ مَاء معدّ لإتلاف من يشربه فَعِنْدَ إِخْرَاجه صاحت بِهِ الْعَامَّة لَا تشربه يَا سُلْطَان وحذّرته الْعَاقِبَة فَخَجِلَ ابْن أضحى وَتَنَاول الْقدح وعبّ فِيهِ يَنْفِي الظّنّة بذلك عَنهُ فَمَاتَ من ليلته
وَنزل ابْن هود بعض الْبَسَاتِين بِظَاهِر غرناطة وَأقَام هُنَالك عشرَة أَيَّام
ثمَّ انْتقل إِلَى القصبة الْحَمْرَاء والقتال بَين الملثمين وَأهل الْمَدِينَة مُتَّصِل وَفِي بعض تِلْكَ الْأَيَّام أثخنوا ابْنه جراحاً وأسروه فَمَاتَ من ليلته فدفعوه إِلَى أهل الْبَلَد مكفناً ليدفنوه أَو يحملوه وَلم يقم ابْن هود بعد ذَلِك إِلَّا نَحْو شهر فِي مظالم وتنويع مغارم حَتَّى لهمّ بِهِ أهل غرناطة فانخزل عَنْهُم لَيْلًا وفر إِلَى مرسية وَقيل إِلَى جبان
وَقَامَ بعده بِأَمْر غرناطة أَبُو بكر مُحَمَّد بن أبي الْحسن بن أضحى وَذَلِكَ فِي أول سنة أَرْبَعِينَ وَخَمْسمِائة وَأقَام ثَمَانِيَة أَيَّام يغادي ويراوح بِالْقِتَالِ حَتَّى هرب من لَيْلَة الْجُمُعَة الْقَابِلَة إِلَى المنسكب وَعند هربه تصالح أهل الْمَدِينَة والملثمون وأميرهم عَليّ بن فنّو قد توفّي فخلفه مَيْمُون بن يدّر بن وَرْقَاء وَقيل بل دَخلهَا عنْوَة على أبي عَليّ الْمَنْصُور بن مُحَمَّد بن الْحَاج فِي نيابته عَن يحيى بن عَليّ ابْن غانية وَأقَام إِلَى أَن أسلمها إِلَى الْمُوَحِّدين أعزهم الله سنة إِحْدَى وَخمسين وَخَمْسمِائة
وَكَانَ أَبُو الْحسن بن أضحى فِي حداثته وَبعدهَا أبي النَّفس عَليّ الهمة فَقِيها يناظر عَلَيْهِ أديباً صَاحب بديهة قَرَأت بِخَط أبي عبد الله مُحَمَّد بن أبي عمر يُوسُف بن عبد الله بن عبّاد البلنسيّ وحَدثني الْحَافِظ أَبُو الرّبيع ابْن سَالم عَنهُ وأنشدني ذَلِك غير مرّة قَالَ قَالَ أبي أنشدنا صاحبنا أَبُو بكر بن الغفائري ببلنسيّة وكتبها لي بِخَطِّهِ قَالَ أَنْشدني الشَّيْخ الْمُحدث
أَبُو حَفْص عمر بن مُحَمَّد بن عمر الْيحصبِي قَالَ أَنْشدني القَاضِي أَبُو الْحسن بن أضحى لنَفسِهِ وَقد دخل مجْلِس عليّ بن يُوسُف بمراكش فَلم يهتبل بِهِ أحد وَنزل حَيْثُ انْتهى بِهِ الْمجْلس فحضره هَذَانِ البيتان فَاسْتَأْذن الْأَمِير فِي إنشادهما فَأذن لَهُ فَقَالَ
(نَحن الأهلّة فِي ظلام الحندس
…
حَيْثُ احتللنا ثمّ صدر الْمجْلس)
(إِن يبخل الزَّمن الخؤون بعزّنا
…
ظلما فَلم يذهب بعزّ الْأَنْفس)
فَأمر بترفيعه فِي الْمجْلس لَو قَالَ يذهب مَكَان يبخل لَكَانَ أَجود
وَله
(يَا سَاكن الْقلب رفقا كم تقطّعه
…
الله فِي منزل قد ظلّ مثواكا)
(يشيّد النَّاس للتحصين منزلهم
…
وَأَنت تهدمه بالعنف عيناكا)
(وَالله وَالله مَا حبي لفاحشة
…
أعاذني الله من هَذَا وعافاكا)
وَله
(أزف الْفِرَاق وَفِي الْفُؤَاد كلوم
…
ودنا الترحّل وَالْحمام يحوم)
(قل للأحبة كَيفَ أنعم بعدكم
…
وَأَنا أسافر والفؤاد مُقيم)
(قَالُوا الْوَدَاع يهيج مِنْك صبَابَة
…
ويثير مَا هُوَ فِي الْهوى مَكْتُوم)
(قلت اسمحوا لي أَن أفوز بنظرة
…
ودعوا الْقِيَامَة بعد ذَاك تقوم)
وَله
(روحي لديك فردّية إِلَى جَسَدِي
…
من لي على فَقده بِالصبرِ وَالْجَلد)
(بِاللَّه زوري كئيباً لَا عزاء لَهُ
…
وشرّفيه ومثواه غَدَاة غَد)
(لَو تعلمين بِمَا أَلْقَاهُ يَا أملي
…
بايعتني الودّ تصفيه يدا بيد)
(عَلَيْك مني سَلام الله مَا بقيت
…
آثَار عَيْنَيْك فِي قلبِي وَفِي كَبِدِي)
وَله
(وشمعة يحملهَا شادن
…
يستر وَجها قمريا بهَا)
(فَكَانَ كَالشَّمْسِ على نورها
…
يكسف مِنْهَا الْبَدْر حَيْثُ انْتهى)
وَله وَكتب بِهِ إِلَى ذِي الوزارتين أبي جَعْفَر بن أبي الْقُرْطُبِيّ معتذراً
(ومستشفع عِنْدِي الورى بِخَبَر عِنْدِي
…
وأولاهم بالشكر مني وبالحمد)
(وصلت فَلَمَّا لم أقِم بجزائه
…
لففت لَهُ رَأْسِي حَيَاء من الْمجد)
وَله فِي الزّهْد يُخَاطب
(عليّ قد آن أَن تَتُوبَا
…
مَا أقبح الشيب والعيوبا)
(شبت وَمَا تبت من بعيد
…
سَوف ترى نَادِما قَرِيبا)
(تركب للهو والمعاصي
…
صعباً وتستهل الذنوبا)
145 -
مَرْوَان بن عبد الله بن مَرْوَان بن مُحَمَّد بن مَرْوَان ابْن عبد الْعَزِيز أَبُو عبد الْملك
لما انْتهى إِلَى بلنسية الْخَبَر بِقِيَام أبي جَعْفَر حمدين بن مُحَمَّد بن حمدين وبيعته بقرطبة وبجامعها الْأَعْظَم فِي يَوْم السبت الْخَامِس من شهر رَمَضَان سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وبانصراف ابْن غانية عَن لبلة وَقد أعجزه أمره وَتعذر عَلَيْهِ فتحهَا اضْطربَ أهل بلنسية وواليها حِينَئِذٍ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ ابْن أخي أبي زَكَرِيَّاء بن غانية وقاضبها أَبُو عبد الْملك هَذَا ولاه تاشفين بن عَليّ بن يُوسُف فِي الرَّابِع وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة فاجتمعا فِي الْحِين على مُنَافَسَة كَانَت بَينهمَا فِي الْبَاطِن واتفقا على الائتلاف وَترك الْخلاف وَحضر النَّاس بِالْمَسْجِدِ الْجَامِع فَقَامَ فيهم مَرْوَان خَطِيبًا يذكّر بجهاد اللمتونيين للروم ونصرهم للجزيرة واستنقاذهم بلنسية من أَيْديهم ويحض على التَّمَسُّك بدعوتهم وَالْوَفَاء لَهُم ثمَّ قَامَ عبد الله بن مُحَمَّد الْوَالِي وَتكلم بِمَا حَضَره فِي هَذَا الْمَعْنى وَذكر النَّاس بِمَا انتظم بَينهم وَبَين عَمه من الصُّحْبَة وانفصلوا
فنمى إِلَى عبد الله من القَوْل عَن القَاضِي وَغَيره مَا أزعجه وَلَيْلَة يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّامِن عشر من رَمَضَان أنفذ عِيَاله وأثقاله إِلَى شاطبة وَأصْبح هُوَ بالولجة فدار بَينه وَبَين الْجند مَا أوجب تمزيق خبائه وللفوز أَخذ فِي الْفِرَار مَعَ قومه فَلَمَّا استقروا بشاطبة أغارت خيله على جِهَات بلنسية فاكتسحت مَا وجدت وتظلم النَّاس إِلَى ابْن عبد الْعَزِيز وَرغب إِلَيْهِ الْجند وَالْعرب ووجوه أهل الْبَلَد فِي التأمر عَلَيْهِم فَأبى وَقَالَ اخْتَارُوا من شيوخكم من تقدّمونه فاتفقوا على بعض اللّمتونيين البَاقِينَ ببلنسية بعد فرار عبد الله ابْن مُحَمَّد وتمشّت الْحَال على هَذَا أَيَّامًا
وَأَرَادَ هذاا لمجتمع عَلَيْهِ من لمتونة أَن يقبض على ابْن عبد الْعَزِيز فَلم يسْتَطع ثمَّ خامره الروع فلحق بشاطبة هُوَ وَالْبَاقُونَ مَعَه من أشياعه وَحِينَئِذٍ وَقع الْإِجْمَاع على ابْن عبد الْعَزِيز فاستخفى إِلَى أَن انْفَرد بِهِ أَبُو مُحَمَّد عبد الله ابْن عِيَاض قَائِد الثغر وَعبد الله بن مردنيش وَقَالا لَهُ هَذَا الْأَمر لابد لَك مِنْهُ والرأي الْمُبَادرَة فَقبل ذَلِك وَتمّ أمره والبيعة لَهُ يَوْم الِاثْنَيْنِ الثَّالِث من شَوَّال وولّى عبد الله بن عِيَاض الثغر وَمَا وَالَاهُ وَضم إِلَى نظره مَا كَانَ بأيدي أصهاره بني مردنيش قبل ظُهُورهمْ والملثمون أثْنَاء ذَلِك يغيرون على جِهَات ويعيثون فِيمَا يجاورهم من البسائط والمعاقل فاستدعى ابْن عبد الْعَزِيز أجناد الثغر ونهض بهم إِلَى منازلة شاطبة فانحدر الملثمون من قصبتها إِلَى الْمَدِينَة
ونبهوا الديار وَسبوا النِّسَاء وَقدم ابْن عبد الْعَزِيز على هَذِه الْحَال يَوْم الْجُمُعَة الثَّامِن عشر من شهرشوال فَكَانَت بَينه وَبينهمْ مواقفات ظهر فِيهَا عَلَيْهِم حَتَّى لجأوا إِلَى القصبة منهزمين
وَوصل أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عبد الله بن أبي جَعْفَر بعسكر مرسية فِي آخر شَوَّال فأقاما على حِصَار شاطبة متفقين فِي الظَّاهِر مُخْتَلفين فِي الْبَاطِن وكل وَاحِد مِنْهُمَا يرى أَنه أولى بهَا
واضطربت مرسية إِثْر ذَلِك فَتوجه إِلَيْهَا ابْن أبي جَعْفَر مصلحاً ومسكّناً ثمَّ عَاد إِلَى حِصَار شاطبة وَوصل ابْن عِيَاض بِأَهْل الثغر معينا لأميره ابْن عبد الْعَزِيز فَلم يجد عبد الله بن مُحَمَّد بداًّ من الْفِرَار وَلحق بالمريّة فِي خبر طَوِيل وَمِنْهَا ركب الْبَحْر إِلَى أَبِيه مُحَمَّد بن عَليّ وَهُوَ بميورقة قد ملكهَا وَاسْتقر فِيهَا بِرَأْي أَخِيه أبي زَكَرِيَّاء يحيى بن عَليّ عِنْد ثورة الْعَامَّة بإشبيلية منصرفة من حِصَار لبلة
وَلما هرب عبد الله من قَصَبَة شاطبة استولى عَلَيْهَا ابْن عبد الْعَزِيز صلحا فحصّنها وعيّن لَهَا ضابطاً وَصدر إِلَى بلنسية فَيُقَال إِنَّه دَخلهَا رَاكِبًا على جمل فِي زِيّ الْجند وجددت لَهُ الْبيعَة يَوْم قدومه وَذَلِكَ فِي صفر سنة أَرْبَعِينَ وَانْصَرف ابْن أبي جَعْفَر إِلَى مرسية ثمَّ قتل على إِثْر ذَلِك بِجِهَة غرناطة فانضافت لقنت وأعمال شاطبة إِلَى ابْن عبد الْعَزِيز
وَعند استقلاله بالرئاسة خانه الْجند وَلم تف الجباية بالواجبات فتعللوا عَلَيْهِ بذلك وعزموا على خلعه وخاطبوا ابْن عِيَاض يستعجلونه فِي الْوُصُول إِلَيْهِم من مرسية وَكَانَ قد ملكهَا بمداخلة أَهلهَا وخلع أَبَا عبد الرَّحْمَن بن طَاهِر مِنْهَا فِي الْعَاشِر من جمادي الأول من سنة أَرْبَعِينَ الْمَذْكُورَة فَلم يرع ابْن عبد الْعَزِيز إِلَّا إحداق الْجند بقصره يَوْم الثُّلَاثَاء السَّادِس وَالْعِشْرين من شهر جُمَادَى الأولى الْمَذْكُور وَحكى ابْن صَاحب الصَّلَاة أَن ذَلِك كَانَ فِي الْخَامِس وَالْعِشْرين مِنْهُ فَخرج رَاجِلا متنكراً وتدلّى من سور بلنسية لَيْلًا واعتسف الطَّرِيق دون دَلِيل حَتَّى لحق بجبال المريّة وَاجْتمعَ بالقائد مُحَمَّد بن مَيْمُون فَقبض عَلَيْهِ وَقَيده وَفَاء لبني غانية وَأقَام عِنْده إِلَى أَن دَفعه إِلَى عبد الله بن مُحَمَّد عدوّ ابْن عبد الْعَزِيز وطريده من بلنسية وشاطبة وَقد ورد على المرية فِي قطع
ميورقة برسم اتّباع الْعَدو فعفّ عبد الله عَن دَمه واحتمله مَعَه مُقَيّدا ونقم النَّاس على ابْن مَيْمُون فعله
وَيُقَال إِن عبد الْعَزِيز لما غدر بِهِ الْجند فر إِلَى قلييرة ثمَّ رَجَعَ إِلَى بلنسية مستتراً وَدخل دَاره الْقَدِيمَة فعثر على خَبره وَطلب حَتَّى أحرق بعض دوره فَخرج ثَانِيَة مستخفياً إِلَى مرسية واقتفى أَثَره يُوسُف بن هِلَال إِلَى مقربة مِنْهَا ففاته وَأقَام هُوَ بمرسية ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ خرج مِنْهَا إِلَى المرية فَقبض عَلَيْهِ ابْن مَيْمُون
وَلما خلعه الْجند قدّموا عبد الله بن مُحَمَّد بن سعد بن مردنيش نَائِبا عَن ابْن عِيَاض وأسكنوه قصر بلنسية وَقدم ابْن عِيَاض فِي آخر جُمَادَى الأولى وَقد وافته بيعَة أَهلهَا فِي طَرِيقه إِلَيْهَا فَأَقَامَ بهَا نَاظرا فِي أمورها ومصلحاً لثغورها ثمَّ عَاد إِلَى مرسية وَترك صهره أَبَا مُحَمَّد بن سعد ببلنسية أَمِيرا عَلَيْهَا من قبله وَهُوَ عمّ أبي عبد الله بن سعد أَمِير الشرق بعد ذَلِك وَالْمَعْرُوف
بِصَاحِب الْبَسِيط لِأَنَّهُ اسْتشْهد فِيهِ مَعَ سيف الدولة بن هود وَقبض أهل
الثغر على أبي جَعْفَر أَحْمد بن جُبَير وَهُوَ وَالِد أبي الْحُسَيْن الأديب الزَّاهِد وَاحْتَمَلُوهُ مُقَيّدا إِلَى حصن مطرنيش وَهُوَ من أمنع معاقل بلنسية وسجن فِيهِ إِلَى أَن فدى نَفسه بِثَلَاثَة آلَاف دِينَار إِلَى مَا نهب لَهُ من دفاتر وذخائر فسرّح وَتوجه إِلَى شاطبة واتخذها دَارا
واستطالت الْأَيْدِي على سَائِر أَصْحَاب ابْن عبد الْعَزِيز وانتهب الْقصر أَيَّامًا وَعند إشخاصه مَقْبُوضا عَلَيْهِ إِلَى ميورقة سجن فِي بَيت مظلم مطبق كَانَ لَا يعرف النَّهَار فِيهِ من اللَّيْل وَترك أوقاتاً دون غذَاء وَلَا مَاء وَأقَام مسجوناً نَحوا من عشرَة أَعْوَام وَقيل اثْنَي عشر عَاما وَفِي سجنه ذَلِك قَالَ قصيدة يُعَارض بهَا أَبَا مَرْوَان الجزيري أَولهَا
(يَا نفس دُونك فاجزعي أَو فاصبري
…
طلع الزَّمَان بِوَجْهِهِ المتنمّر)
وَهِي طَوِيلَة ضَعِيفَة لم يمر لَهُ فِيهَا كَبِير إِحْسَان فَلذَلِك تركتهَا ثمَّ إِنَّه تخلص من معتقله بسعي أبي جَعْفَر بن عَطِيَّة الْوَزير فِي ذَلِك حَتَّى خُوطِبَ إِسْحَاق بن مُحَمَّد بن عَليّ بتسريحه وَقد ولى ميورقة بعد قتل أَبِيه مُحَمَّد وأخيه عبد الله فِي سنة سِتّ بل سبع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وجنح إِلَى الْمُوَحِّدين أعزهم الله فامتثل إِسْحَاق ذَلِك ووجّه بِهِ إِلَى بجاية وَمِنْهَا توجّه إِلَى مراكش
فسعى لَهُ ابْن عَطِيَّة فِي حُضُور الْمجْلس السلطاني وَلما طُولِبَ قَالَ يغري بِهِ ويحرض عَلَيْهِ غامطاً حقّه وكافراً يَده
(قل للْإِمَام أَطَالَ الله مدَّته
…
قولا تبين لذِي لبّ حقائقه)
(إِن الزّراجين قوم قد وثرتهم
…
وطالب الثأر لَا تؤمن بوائقه)
(وللوزير إِلَى أربابهم ميل
…
لذاك مَا كثرت فيهم علائقه)
(فبادر الحزم فِي إخماد نارهم
…
فَرُبمَا عَاق عَن أَمر عوائقه)
(الله يعلم أَنِّي نَاصح لكم
…
وَالْحق أَبْلَج لَا تخفي طرائقه)
(هم العدوّ وَمن ولاهم كهم
…
فاحذر عدوّك وَاحْذَرْ من يصادفه)
فَكَانَت هَذِه الأبيات من أقوى الْأَسْبَاب فِي قتل ابْن عَطِيَّة رحمه الله وَله أَيَّام خموله بالمغرب يصف حَاله
(أفّ لدُنْيَا تقلّبت بِي
…
تقلّب المسي والغدوّ)
(قد كنت فِيمَا مضى عَزِيزًا
…
مسامي النَّجْم فِي العلوّ)
(فحالي الْآن لَو رَآهَا
…
بَكَى لَهَا رَحْمَة عدوّي)
وَتُوفِّي بمراكش سنة ثَمَان وَسبعين وَخَمْسمِائة ومولده سنة خمس وَخَمْسمِائة
146 -
مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن ابْن طَاهِر الْقَيْسِي أَبُو عبد الرَّحْمَن
لأهل بَيته فِي قدم الرِّئَاسَة وكرم السياسة ذكر مأثور وَأثر مَذْكُور وَقد أوردت كَلَام أبي مَرْوَان بن حيّان فِي أوّليتهم وَكَانَ أَبُو عبد الرَّحْمَن الأول مِنْهُم فِي الرسائل كَأبي عبد الرَّحْمَن الْأَخير فِي عُلُوم الْأَوَائِل ذَلِك للْبَيَان والتشقيق وَهَذَا للنَّظَر وَالتَّحْقِيق
وَأول من ثار بمرسية بعد انْقِرَاض الدولة اللمتونية أَبُو مُحَمَّد بن الْحَاج اللورقي وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن جَعْفَر بن إِبْرَاهِيم قدّمه أهل مرسية فَدَعَا لِابْنِ حمدين أَيَّامًا من شَهْري رَمَضَان وشوال سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَهِي السّنة الَّتِي كثر فِيهَا الثوار بشرق الأندلس وغربها من الْقُضَاة وَغَيرهم ثمَّ أظهر التبرم بِمَا حمّل وَأحب الانخلاع مِمَّا قلّد
وَاتفقَ أَن وجّه سيف الدولة بن هود قائداً من قواده يعرف بِعَبْد الله بن فتوح الثّغري إِلَى مرسية فَأخْرج ابْن الْحَاج مِنْهَا لِلنِّصْفِ من شَوَّال الْمَذْكُور ودعا لِابْنِ هود ثمَّ أخرج
وقدّم أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عبد الله بن أبي جَعْفَر الْخُشَنِي الْفَقِيه فِي آخر شَوَّال هَذَا فَتَوَلّى بِالتَّدْبِيرِ بَقِيَّة الْعَام وأشهراً من سنة أَرْبَعِينَ وَكَانَ يَقُول فِي قِيَامه بالإمارة لَيست تصلح لي وَلست لَهَا بِأَهْل وَلَكِنِّي أُرِيد أَن أمسك النَّاس بَعضهم عَن بعض حَتَّى يَجِيء من يكون لَهَا أَهلا وَتوجه إِلَى شاطبة يعين أَبَا عبد الْملك مَرْوَان بن عبد الْعَزِيز على محاصرة من بهَا من الملثمين ثمَّ خرج غازياً إِلَى غرناطة ومعيناً للْقَاضِي أبي الْحسن بن أضحى فِي جَيش ضخم وَجمع كثيف يحْكى أَنه بلغ اثْنَي عشر ألفا من خيل وَرجل وَقد اشتدت شَوْكَة الملثمين بقصبتها وانضاف إِلَيْهِم من قَومهمْ خلق كثير فبالغوا فِي التَّضْيِيق على مدينتها وَأَكْثرُوا الْقَتْل فِي أَهلهَا وَلما سمعُوا بمسير ابْن جَعْفَر نحوهم تأهبوا لَهُ وبرزوا لدفاعه وَيُقَال إِن عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بن غانية كَانَ فيهم قبل لحاقه بِأَبِيهِ وقدومه عَلَيْهِ ميورقة إِلَى أَمْثَاله من الْأَعْيَان ولاتهم ومشاهير حماتهم فهزموا ذَلِك الْجمع بمقربة من غرناطة وَقتل ابْن أبي جَعْفَر
وَذكر ابْن صَاحب الصَّلَاة أَن عبد الله الثّغري كَانَ قائداً بكونكة فَلَمَّا سمع بِقِيَام ابْن حمدين خرج إِلَيْهِ وَأقَام لَدَيْهِ وَاتفقَ أَن وصلته مُخَاطبَة أهل
مرسية يذكرُونَ تقديمهم أَبَا مُحَمَّد بن الْحَاج وَأَنه استعفى من ذَلِك فأنفذ إِلَيْهِم الثّغري والياً وقدّم أَبَا جَعْفَر بن أبي جَعْفَر قَاضِيا قَالَ فورد يَوْم الثُّلَاثَاء منتصف شَوَّال سنة تسع وَثَلَاثِينَ
وَظهر من أبي جَعْفَر حبّ الرِّئَاسَة فحشد النَّاس لقِتَال الملثمين بأوريولة وغدر بهم عِنْد نزولهم على الْأمان فَقَتلهُمْ ثمَّ دَاخل أهل بَلَده مرسية فِي أَن يؤمّروه ويتقدم للْقَضَاء أَبُو الْعَبَّاس بن الحلاّل ولقيادة الْخَيل عبد الله الثغري فَلم يخالفوه
وَبعد انْعِقَاد الْبيعَة لَهُ نبذ طَاعَة ابْن حمدين ودعا لنَفسِهِ وَاقْتصر لقبه على الْأَمِير النَّاصِر لدين الله وَأسْقط مِنْهُ الدَّاعِي لإِمَام الْمُسلمين وَقبض على الثغري فسجنه وصهريه ابْني مسلوقة وصيّر قيادة الْخَيل لزعنون أحد وُجُوه الْجند
ثمَّ توجّه إِلَى شاطبة معينا لِابْنِ عبد الْعَزِيز فِي حِصَار الملثمين الممتنعين بقصبتها وَرَئِيسهمْ إِذْ ذَاك عبد الله بن مُحَمَّد بن غانية فثارت الْعَامَّة بمرسية عِنْد مغيب ابْن أبي جَعْفَر عَنْهَا وسرّحوا الثّغري وصهريه من معتقلهم فلحق بهَا وأطفأ تِلْكَ النائرة وهرب الثّغري إِلَى كونكة وَعَاد هُوَ إِلَى حِصَار شاطبة إِلَى أَن هرب عبد الله بن غانية مِنْهَا فَأتبعهُ ابْن أبي جَعْفَر خيلاً سلبت مَا تجمّل من المَال وأفلت هُوَ فلحق بالمرية
وَلما تغلب ابْن عبد الْعَزِيز على شاطبة عَاد ابْن أبي جَعْفَر إِلَى مرسية وَذَلِكَ فِي صفر سنة أَرْبَعِينَ ثمَّ توجه بعد ذَلِك إِلَى غرناطة مغيثاً أَهلهَا فَلَقِيَهُ الملثمون بخارجها فهزموا جموعه وقتلوه
وَعند انصراف الفلّ إِلَى مرسية أجمع أَهلهَا على تأمير أبي عبد الرَّحْمَن بن طَاهِر هَذَا وَذَلِكَ فِي أَوَاخِر شهر ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة فانتقل إِلَى الْقصر ودعا لِابْنِ هود ثمَّ لنَفسِهِ بعده وقدّم أَخَاهُ أَبَا بكر على الْخَيل وَكَانَ ابْن حمدين قد وجّه ابْن أَخِيه وَهُوَ الْمَعْرُوف بِابْن أم الْعِمَاد بعسكر فَرد خائباً ثمَّ أعَاد تَوْجِيه عَسْكَر آخر مَعَ ابْن عَمه الْمَعْرُوف بالفلفلي صُحْبَة أبي مُحَمَّد ابْن الْحَاج وَابْن سوّار وَغَيرهمَا من الواصلين من أهل مرسية إِلَيْهِ فصد عَن دُخُولهَا وطولب المائلون إِلَيْهِ
وَأقَام ابْن طَاهِر فِي إمرته أَيَّامًا ريمثا خُوطِبَ أَبُو مُحَمَّد بن عِيَاض بتعجيل الْوُصُول إِلَيْهِم فَعجل الْمسير نحوهم وتلقاه زعنون وَهُوَ وَال على أوريولة
فبرىء مِنْهَا إِلَيْهِ وملّكه إِيَّاهَا وَلحق بِهِ الَّذين خاطبوه من مرسية يحرضونه على قَصدهَا وَلَا علم لِابْنِ طَاهِر بذلك بل تَمَادى على تَحْسِين الظَّن بالذين قدمُوا من لِقَاء ابْن عِيَاض وَقد برز النَّاس إِلَى لِقَائِه ثمَّ دخل الْقصر الْكَبِير لَا يدافعه عَنهُ أحد وَذَلِكَ فِي الْعَاشِر من جُمَادَى الأولى من السّنة وانتقل ابْن طَاهِر إِلَى الدَّار الصُّغْرَى ثمَّ خَافَ على نَفسه فَتَركهَا وانتقل إِلَى دَاره وعفّ ابْن عِيَاض عَن دَمه لعلمه بضعفه وَكَانَ مَعَ شهامته حسن السِّيرَة
وَفِي هَذَا الشَّهْر خلع الْجند مَرْوَان بن عبد الْعَزِيز ببلنسية واستدعوا ابْن عِيَاض فأمّروه وَأقَام أَمِيرا على شَرق الأندلس دَاعيا لِابْنِ هود إِلَى أَن قتل بالبسيط وداعياً بعد ذَلِك لنَفسِهِ
وَخَالفهُ عبد الله الثّغري إِلَى مرسية فِي بعض أَسْفَاره مِنْهَا فَدَخلَهَا وانتزى فِيهَا وَكَانَ قد أنفذه رَسُولا إِلَى الطاغية أذفونش ليعقد مَعَه السّلم ويمالئه على صَاحب برشلونة فَعَاد من سفارته هَذِه وَزعم أَن أذفونش أمّره على مرسية واستعان على دُخُولهَا بطَائفَة من أهل الْفساد كَانُوا يشايعونه فتم ذَلِك وهرب مُحَمَّد بن
سعد بن مردنيش نَائِب بني عِيَاض فِيهَا فلحق بلقنت وَذَلِكَ فِي أَوَائِل ذِي الْحجَّة من سنة أَرْبَعِينَ
ثمَّ قتل الثّغري سَابِع رَجَب سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَاسْتولى ابْن عِيَاض ثَانِيَة على مرسية وَسَائِر بِلَاد الشرق إِلَى أَن قضى نحبه من سهم رمي بِهِ فِي بعض حروبه مَعَ الرّوم يَوْم الْجُمُعَة الثَّانِي وَالْعِشْرين من شهر ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين فَكَانَت ولَايَته عَاما وَتِسْعَة أشهر وَعشْرين يَوْمًا وَحمل إِلَى بلنسية فَدفن بهَا وَمُحَمّد بن سعد إِذْ ذَاك وَال عَلَيْهَا فَقَامَ بمواراته وَعلم أَهلهَا بِعَهْد ابْن عِيَاض إِلَيْهِ بالإمارة من بعده فَبَايعُوا لَهُ وَيُقَال بل نَصبه أَهلهَا لذَلِك دون عهد
وَأما أهل مرسية فأمضوا نِيَابَة عليّ بن عبيد عَن ابْن عِيَاض بعد وَفَاته إِلَى أَن تخلى هُوَ فِي أَوَاخِر جُمَادَى الأولى من السّنة عَمَّا بِيَدِهِ لأبي عبد الله مُحَمَّد بن سعد ابْن مُحَمَّد بن سعد الجذامى بن مرذنيش وجدّه هُوَ الْمَعْرُوف بذلك
فقوى سُلْطَانه وَعظم شَأْنه وَاشْتَدَّ حذر ابْن طَاهِر هَذَا مِنْهُ لما كَانَ يسمع ويبصر من شهامته وحزامته وَرُبمَا عرض لَهُ ابْن سعد بِمَا يزِيدهُ حذرا مِنْهُ وانقباضاً عَنهُ فَأخذ فِي التلون وَأَقْبل على الانهماك والإدمان وزهد فِي الْإِمَارَة وَطلب السَّلامَة من غائلتها وَقطع مَعَه مدَّته خَائفًا إِلَى أَن توفّي ابْن سعد منسلخ رَجَب سنة سبع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة فأفرخ روعه ورسخ بِالدُّخُولِ فِي الدعْوَة المهدية أَمَنَة وَتُوفِّي بمراكش سنة أَربع وَسبعين أَكثر هَذَا الْخَبَر المنسوق عَن ابْن صَاحب الصَّلَاة وجلّه مَعَ مَا اندرج فِيهِ زِيَادَة عَن غَيره مستفادة
وَمن شعر ابْن طَاهِر
(تأيّد على الشطرنج إِن كنت لاعباً
…
)
(فَمَا أمره مِمَّا يعز وَإِنَّمَا
…
يعزّ علينا فِيهِ نقض القرائح)
وَله وَقد جرى ذكر سُلْطَان الْمغرب بَينه وَبَين قينة فِي مَجْلِسه فَقَالَ
(إِمَام تناهى فِي الْأَئِمَّة فَضله
…
فَأصْبح منا النَّوْع يفخر بالشخص)
وَقَالَت الْقَيْنَة
(تَكَامل حَتَّى جلّ عَن وصف واصف
…
وَأبْدى لنا مَا فِي الْأَنَام من النَّقْص)
ولابنه أبي مُحَمَّد عبد الْحق بن أبي عبد الرَّحْمَن وهولبنت القَاضِي أبي مُحَمَّد عبد الْحق بن غَالب بن عَطِيَّة الْمحَاربي وباسمه وكنيته سمى وكنى
(اختر مَكَان الْعِزّ فاحلله وَلَو
…
عوّضت مِنْهُ شقاوة بنعيم)
(هَذَا الحبيب وَفِيه أفضل أُسْوَة
…
وَهُوَ المفدّى عِنْد كل كريم)
(لم يرض عضوا للمحب يحله
…
غير الْفُؤَاد وَفِيه نَار جحيم)
وَله يمدح
(لما وجدت الْعَالمين تقسموا
…
قسمَيْنِ من حزب وَمن أَعدَاء)
(قسّمت عدلك فيهمو قسمَيْنِ قد
…
شملاهم من نعْمَة وشقاء)
(لِلْأجرِ جاهدتم عداة الدّين لَا
…
أَن العداة لكم من الْأَكفاء)
وَله من قصيدة
(هجرت من الدُّنْيَا لذيذ نعيمها
…
لِأَنَّك لَا ترضاه إِلَّا مخلّدا)
(وقضّيت شهر الصَّوْم بِالنِّيَّةِ الَّتِي
…
رقيت بهَا فِي رُتْبَة الْقُدس مصعدا)
(وودّع عَن شوق إِلَيْك مبرّح
…
فَلَو كَانَ ذَا جفن لبات مسهّدا)
يَقُول فِيهَا
(تفقّد بِحسن الرَّأْي عبدا مؤمّلا
…
دَعَاهُ رَجَاء الْفَوْز أَن يتعبدا)
(وَإِن كَانَ عظم الذَّنب صغّر قدره
…
فَإِن سليماناً تفقد هدهدا)
وَهَذَا نَحْو مَا أنشدنا الْأُسْتَاذ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْجَبَّار بن مُحَمَّد الرعيني بِحَضْرَة تونس حرسها الله قَالَ أنشدنا أَبُو البركات الْوَاعِظ الْمصْرِيّ الْمَعْرُوف بالزيزاري وَقد رَأَيْت أَنا أَبَا البركات هَذَا وَسمعت وعظه بِجَامِع بلنسية فِي سنة ثَمَان وسِتمِائَة
(وَمن عَادَة السادات أَن يتفقدوا
…
أصاغرهم والمكرمات مصائد)
(سُلَيْمَان فِي ملك تفقد هدهداً
…
وأصغر مَا فِي الطائرات الهداهد)
وكل مَا عثرت عَلَيْهِ من منظوم عبد الْحق هَذَا ومنثوره مَنْصُوص فِي كتابي المترجم ب إيماض الْبَرْق فِي أدباء الشرق
147 -
عبد الله بن خِيَار الجياني أَبُو مُحَمَّد
عداده فِي المتوثبين وَكَانَ عَاملا على مَدِينَة فاس فِي دولة الملثمين ثمَّ استبد بهَا يَسِيرا فِي قِيَامه عَلَيْهِم بالدعوة المهدية وعَلى يَدَيْهِ كَانَ فتحهَا والموحدون
أعزهم الله إِذْ ذَاك بمكناسة فَأَسْرعُوا الْوُصُول إِلَيْهَا وأمنوا أَهلهَا عِنْد دُخُولهَا عصر يَوْم الْأَرْبَعَاء الرَّابِع عشر من ذِي قعدة سنة أَرْبَعِينَ وَخَمْسمِائة وَقيل عِنْد الْفجْر مِنْهُ
وَذَلِكَ أَن واليها يحيى بن أبي بكر بن عَليّ بن يُوسُف الْمَعْرُوف بِابْن الصحراوية أعرس تِلْكَ اللَّيْلَة بِامْرَأَة من قومه فَشَغلهُ ابْن خِيَار بِكَثْرَة مَا أهْدى إِلَيْهِ عَن النّظر لنَفسِهِ وَقد وَاعد الْمُوَحِّدين تمكينهم من الْبَلَد لما أمكنته الفرصة فَدَخَلُوا عِنْد الْفجْر وَلم يكن ليحيى محيص عَن الْفِرَار والنجاة بِنَفسِهِ فِيمَن خفّ مَعَه من أَصْحَابه وانتهوا إِلَى طنجة ثمَّ أَجَازُوا الْبَحْر مِنْهَا إِلَى الأندلس
وجلّت حَال ابْن خِيَار هَذَا بعد وَكَانَت لَهُ من الدولة الْعلية مكانة سنية وَهُوَ الْقَائِل فِي محاولته
(لنا فِي جناب الدّين وَالْخَيْر أمال
…
تكنّفها سعد عتيد وإقبال)
(نحوز بهَا فوزاً ونحرز غِبْطَة
…
فَعِنْدَ الإِمَام الْعدْل صفح وإفضال)
(وَإِنِّي لأرجو أَن أفوز بليلة
…
فيشرق عسّال ويشبع عَسَّال)
وَفِيه يَقُول أَبُو بكر يحيى بن سهل اليكّي عِنْد تناهي حَاله فِي الحظوة والوجاهة
(أيا ابْن خِيَار بلغت المدى
…
وَقد يكسف الْبَدْر عِنْد التَّمام)
(فَأَيْنَ الْوَزير أَبُو جَعْفَر
…
وَأَيْنَ المقرّب عبد السَّلَام)
يُرِيد أَبَا جَعْفَر أَحْمد بن جَعْفَر بن عَطِيَّة الْوَزير الْكَاتِب ونكب فِي صفر من سنة ثَلَاث وَخمسين وَخَمْسمِائة وَفِيه قتل هُوَ وَأَخُوهُ أَبُو عقيل عَطِيَّة بِخَارِج مراكش وَلأبي جَعْفَر إِذا ذَاك سِتّ وَثَلَاثُونَ سنة مولده سنة سبع عشرَة وَخَمْسمِائة ولأخيه ثَلَاث وَعِشْرُونَ سنة وأصلهما من قمرلة قَرْيَة بطرطوشة من شَرق الأندلس ونسبهما فِي قضاعة
وَيُرِيد بالمقرّب عبد السَّلَام بن مُحَمَّد الكومي وَهُوَ أَخُو بندة لأمها وتقلد الوزارة بعد أبي جَعْفَر بن عَطِيَّة وَكَانَ كثير السّعَايَة بِهِ شَدِيد الْحَسَد لَهُ لَا يُطيق الصَّبْر عَلَيْهِ وَلَا إمهاله فِيمَا وصل إِلَيْهِ فَلَمَّا صَارَت إِلَيْهِ الوزارة أدل بِقُرْبِهِ وقرابته واستبد بالأموال وَكثر التظلم من عماله فسجن بتلمسان
عِنْد الِانْصِرَاف من غَزْوَة المهدية فِي سنة خمس وَخمسين إِلَى أَن سم فِي طَعَامه فَهَلَك وَقيل إِنَّه قتل بالأرجل
وَمن بَين مَا قَرَأت فِي بعض المعلقات أَن عبد السَّلَام هَذَا قَصده جمَاعَة من أهل سلا فِي وزارته فَقعدَ عَن برّهم وَلم يقْض حَاجتهم فَكتب إِلَيْهِ أحدهم
(يَا من يرى خيبة الراجين تكرمة
…
ونيل مَا أمّلوا عَجزا وتقصيرا)
(مهلا فَإنَّك خام فِي يَدي زمن
…
وَقد أعدّ لَهُ كمداً وتقصيرا)
فَقتل فِي الْيَوْم الثَّانِي من دفع الرقعة إِلَيْهِ بالأرجل
وَاتفقَ أَيْضا مثل هَذَا لأبي الْعلَا إِدْرِيس بن أبي إِسْحَاق بن جَامع فِي
وزارته قَصده بعض معارفه الناشئين مَعَه فَلم يرفع بِهِ رَأْسا فَكتب إِلَيْهِ
(شغلت بِخِدْمَة السُّلْطَان عَنَّا
…
وَلم تدر العدوّ من الصّديق)
(رويدك عَن طَرِيق أَنْت فِيهَا
…
فَإِن النائبات على الطَّرِيق)
فنكب بعد ذَلِك بِيَوْم وَهَذَا من طريف مُوَافقَة الشُّعَرَاء فِي زجرهم للْقَضَاء
وَكَانَت نكبة أبي الْعلَا هَذَا فِي سنة ثَلَاث وَسبعين وَخَمْسمِائة بعد أَن
اسْتكْمل فِي وزارته خمس عشرَة سنة وشهراً وَعشْرين يَوْمًا واعتقل هُوَ وَابْنه يحيى وَأَقَامَا مغرّبين بِجِهَة إشبيلية سِتَّة أَعْوَام وَثَلَاثَة أشهر وَثَمَانِية عشر يَوْمًا إِلَى أَن صفح عَنْهُمَا وَقت الِانْصِرَاف من غَزْوَة شنترين سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
148 -
أخيل بن إِدْرِيس الرّندي الْكَاتِب أَبُو الْقَاسِم
كتب فِي أول أمره للملثمين ثمَّ اسْتَكْتَبَهُ أَبُو جَعْفَر حمدين بن مُحَمَّد بن حمدين فِي إمارته ورعى لَهُ صحبته إِيَّاه أَيَّام قَضَائِهِ فَلَمَّا دخل ابْن غانية قرطبة وَأخرج ابْن حمدين لحق أخيل برندة بَلَده واستبد بضبطها مديدة
فحسده أَهلهَا وداخلوا أَبَا الْغمر بن السَّائِب بن غرّون فِي التَّمْكِين مِنْهَا وَهُوَ يَوْمئِذٍ قَائِم بدعوة ابْن حمدين فِي شريش وأركش فتم ذَلِك وَاسْتولى أَبُو الْغمر على قَصَبَة رندة الشهيرة المنعة دون قتال وَلَا نزال لركون أخيل إِلَيْهِ وثقته بِهِ فنجا بِنَفسِهِ وَمَا كَاد وَنهب أَبُو الْغمر ديار أَصْحَابه وخلع طَاعَة ابْن حمدين ودانت لَهُ المعاقل الْمُتَّصِلَة بِهِ فأمن أمره وَقيل بل سجن أخيل ثمَّ سرّحه فَكَانَ عِنْد أبي الحكم بن حسّون بمالقة وَمِنْهَا توجه إِلَى مراكش فأوطها واتصل بِأبي جَعْفَر بن عَطِيَّة الْوَزير وعَلى يَدَيْهِ أُعِيد مَاله وَلم يزل هُنَاكَ مكرماً وَفِي طبقته مقدما إِلَى أَن ولى قَضَاء قرطبة ثمَّ قَضَاء إشبيلية وَكَانَ سَمحا جواداً بليغاً مدْركا
وَحكى لي أَنه لما أَرَادَ الِانْفِصَال من مراكش لقى أَبَا جَعْفَر بن عَطِيَّة فأنشده
(يَا من يعز علينا أَن نفارقهم
…
وجداننا كلّ شَيْء بعدكم عدم)
فَأَجَابَهُ أخيل
(إِذا ترحّلت عَن قوم وَقد قدرُوا
…
أَلا تفارقهم فالراحلون هم)
وَتُوفِّي بإشبيلية سنة سِتِّينَ أَو إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَمن يُرَاجع بعض الأدباء
(وفاؤك قد رضيت بِهِ حبيباً
…
ورأيك قد قنعت بِهِ نَصِيبا)
(وودّك لَا أُرِيد بِهِ بديلاً
…
وبرّك لَا أقوم بِهِ مثيبا)
(مَكَارِم مِنْك قد عبّت عبابا
…
على العافين وانهالت كثيبا)
(وطبعك لَو نفحت بِهِ هشيما
…
لعاد الرَّوْض مطلولا خصيبا)
(وعهدك كالشباب وَلَيْسَ مِمَّا
…
يكون مآل نضرته المشيبا)
(وَذَاكَ الشّعر أم سحر حَلَال
…
فتنت بِهِ المساكت والمجيبا)
وَله أَيْضا
(إِلَيْك أخذت حبال الذّمام
…
وفيك تعلمت نظم الْكَلَام)
(فأرسلته جائلاً كالرماح
…
وصلت بِهِ ثائراً كالحسام)
(وَمَا كنت مِنْهُ وَلكنهَا
…
أياد تفجّر صمّ السَّلَام)
(تروم الإصارة فِي كل يَوْم
…
فنلت الْإِصَابَة من كل رام)
(وتثنى الغصون على هزة
…
كَأَن بهَا سَكَرَات المدام)
(وكلّ تهنّأ إقباله
…
وَلَا كإياب الْأَمِير الْهمام)
(فَتى المكرمات تصدّى لَهَا
…
بِحكم الكهول وَسن الْغُلَام)
(فأغنى تعشر مَضَت من سنيه
…
وأبلغ فِي النائبات العقام)
(وسَاق إِلَى الْمُسلمين الَّتِي
…
أنارت لَهُم فِي اعتكار الظلام)
(وشوّق أَضْعَاف مَا اشتاقه
…
وَلَوْلَا التصبر كَانَ الغرام)
(وقاسي ليتّدع الْمُسلمُونَ
…
وأنكى ليهلك أهل اللثام)
(ونافر مِنْهُم أفاعي الرِّجَال
…
تبْعَث من ضغنها بالسّمام)
(وجاراهم طلق المكرمات
…
فَكَانَ على الرغم مِنْهُم إِمَام)
(وأعشاهم فِي سَمَاء الْعلَا
…
بِنور هِلَال كبدر التَّمام)
وَوجدت مَنْسُوبا إِلَيْهِ وَالصَّحِيح أَن ذَلِك لأبي جَعْفَر عبد الله بن مُحَمَّد ابْن جرج الْقُرْطُبِيّ وَهُوَ عِنْدِي بِالْإِسْنَادِ إِلَيْهِ
(أما ذكاء فَلم تصفرّ إِذْ جنحت
…
إِلَّا لفرقة ذَاك المنظر الْحسن)
(ربى تروق وقيعان مزخرفة
…
وسائح مدّ بالهطّالة الهتن)
(وللنسيم على أرجائه حبب
…
يكَاد من رقة يجلى على الْغُصْن)
149 -
أَحْمد بن يُوسُف بن هود الجذامي أَبُو جَعْفَر
هُوَ أَحْمد بن حسام الدولة أبي عَامر يُوسُف بن عضد الدولة أبي أَيُّوب سُلَيْمَان ابْن المؤتمن أبي عَامر وَيُقَال فِي كنيته أَبُو عمر يُوسُف بن المقتدر بِاللَّه أبي جَعْفَر أَحْمد بن المستعين بِاللَّه أبي أَيُّوب سُلَيْمَان بن مُحَمَّد بن هود الجذامي
وَكَانَ آباؤه وَأهل بَيته أُمَرَاء سرقسطة والثغر الشَّرْقِي غلبت عَلَيْهِم دون مُلُوك الطوائف الشجَاعَة والشهامة وقبضوا أَيْديهم فقلّت أمداحهم وَترك الشُّعَرَاء انتجاعهم إِلَّا فِي الغبّ والنادر على سَعَة مملكتهم ووفور جبايتهم
وَأول مُلُوكهمْ أَبُو أَيُّوب سُلَيْمَان بن مُحَمَّد المتلقّب من الألقاب السُّلْطَانِيَّة بالمستعين بِاللَّه صَاحب لاردة وَصَارَ إِلَيْهِ ملك سرقسطة وَمَا مَعهَا بعد مقتل مُنْذر بن يحيى بن مُنْذر بن يحيى التجِيبِي الْأَخير فتك بِهِ ابْن عَم لَهُ يُسمى عبد الله بن حكم وحز رَأسه وسط قصره وَذَلِكَ غرَّة ذِي الْحجَّة سنة ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة ودعا لِابْنِ هود أول أمره ثمَّ ثار بِهِ أهل سرقسطة فلحق بحصن روطة الْيَهُود أحد معاقلها المنيعة وَقد كَانَ أعده لنَفسِهِ وَنَجَا بفاخر مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ من ذخائر آل مُنْذر وَنهب الْعَوام قصر سرقسطة إِثْر خُرُوجه حَتَّى قلعوا مرمره
وطمسوا أَثَره لَوْلَا تَعْجِيل سُلَيْمَان بن هود فَملك الْبَلَد فِي الْمحرم سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وأورثه بنيه حِين توفّي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ
وحظي بولايته دون إخْوَته ابْنه أَبُو جَعْفَر أَحْمد الملقب بالمقتدر وَكَانَ أقواهم سُلْطَانا وَهُوَ الَّذِي اسْترْجع مَدِينَة بربشتر وافتتحها على النَّصَارَى
عنْوَة وخلع إقبال الدولة عليّ بن مُجَاهِد من دانية وسيّره إِلَى سرقسطة دَار ملكه وهنالك هلك سنة أَربع وَسبعين وفيهَا توفّي المقتدر
وَولى بعده ابْنه أَبُو عَامر يُوسُف بن أَحْمد الملقب بالمؤتمن فَلم تطل مدَّته وَتُوفِّي سنة ثَمَان وَسبعين
وَولى بعده ابْنه أَبُو جَعْفَر أَحْمد الملقب بالمستعين بِاللَّه وَاسْتشْهدَ على مقربة من تطيلة يَوْم الِاثْنَيْنِ أول رَجَب من سنة ثَلَاث وَخَمْسمِائة
وَولى بعده ابْنه الْحَاجِب عماد الدولة أَبُو مَرْوَان عبد الْملك بن أَحْمد وَشرط عَلَيْهِ أهل سرقسطة أَلا يستخدم الرّوم وَلَا يلابسهم فنقض بعد أَيَّام يسيرَة ذَلِك لما استشعر من ميل النَّاس إِلَى الملثمين وَأقَام بحصن روطة واستدعى أهل سرقسطة مُحَمَّد بن الْحَاج اللمتوني وَالِي بلنسية فوافاهم صَبِيحَة يَوْم السبت الْعَاشِر من ذِي قعدة سنة ثَلَاث وَخَمْسمِائة فأمكنوه من الْبَلَد وَجَرت قصَص طَوِيلَة أفضت إِلَى تغلب الرّوم على سرقسطة فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء الرَّابِع من شهر رَمَضَان سنة اثْنَتَيْ عشرَة
وَقد كَانَ عبد الْملك هَذَا وجّهه أَبوهُ المستعين أَحْمد بن يُوسُف المؤتمن إِلَى يُوسُف بن تاشفين فِي سنة سِتّ وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة بهدية سنية من جُمْلَتهَا أَرْبَعَة عشر ربعا من آنِية الْفضة مطرزة باسم جدّه المقتدر وَالِد جدّه المؤتمن فقبلها
ابْن تاشفين وَأمر بضربها قراريط فرقت لَيْلَة عيد النَّحْر فِي أطباق على رُؤَسَاء قومه وَهُوَ إِذْ ذَاك بقرطبة وَقد أَشَارَ إِلَى بيعَة ابْنه عَليّ بن يُوسُف بالعهد فَحَضَرَ عبد الْملك ذَلِك
وَلما توفّي بروطة فِي شعْبَان سنة أَربع وَعشْرين وَخَمْسمِائة ولى بعده ابْنه أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن عبد الْملك سيف الدولة الْمُسْتَنْصر بِاللَّه ويلقب أَيْضا بالمستعين بِاللَّه وَهُوَ آخر بني هود ملكا فَأَقَامَ بروطة إِلَى أَن تخلى عَنْهَا للطاغية أذفونش بن رمند الْمَعْرُوف بالسّليطين وعوضه مِنْهَا بِنصْف مَدِينَة
طليطلة وَذَلِكَ فِي شهر ذِي قعدة سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَسَار مَعَه فأنزله بهَا
وَفِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ أخذت دولة الملثمين فِي الانتقاض والانقراض
فَخرج سيف الدولة هَذَا تأثرا بالثغور الجوفيّة وَمِنْهَا ورد على قرطبة فَدَخلَهَا بمداخلة أَهلهَا إِيَّاه وممالأة ملإها على ذَلِك وانزعج ابْن حمدين أَمَامه فلحق بالمعقل الْمَعْرُوف بفرنجولش ثمَّ خرج مِنْهَا بعد اثْنَي عشر يَوْمًا ناجياً بِنَفسِهِ وَقد ثارت بِهِ الْعَامَّة وَقتلت وزيره ابْن شمّاخ وَطَائِفَة من أَصْحَابه
فقصد جيان وَقد ثار بهَا قاضيها ابْن جزيّ فتغلب عَلَيْهِ وملكها ثمَّ سَار إِلَى غرناطة فملكها واضطربت عَلَيْهِ بهَا الْأُمُور فأسلمها وَعَاد إِلَى جيّان فداخله أهل مرسية واستدعوه فورد عَلَيْهِم ودخلها يَوْم الْجُمُعَة الثَّامِن عشر من رَجَب سنة أَرْبَعِينَ وَلم يستكمل فِي جَمِيعهَا حولا وَاحِدًا
وَقد كَانَ ابْن عِيَاض تأمّر بمرسية ودعا لِابْنِ هود هَذَا فوجّه إِلَيْهِ ابْنه أَبَا بكر فبرز للقائه وَأظْهر الاحتفاء بمقدمه وَسَار بِهِ إِلَى بلنسية حِين أمّره أَهلهَا وخلعوا مَرْوَان بن عبد الْعَزِيز قاضيها ثمَّ ولاه دانية وَبلغ ابْن عِيَاض وُرُود ابْن هود وحلوله بقصر مرسية فَعجل بِهِ اللحاق وَقدم يَوْم الْأَحَد الموفّى عشْرين من رَجَب مظْهرا طَاعَته وممتثلاً أمره وَنزل الْقصر الصَّغِير فَألْقى إِلَيْهِ ابْن هود بالأمور كلهَا وَخَصه باسم الرِّئَاسَة وَبعد لَيَال قَلَائِل توجها جَمِيعًا إِلَى شاطبة وَقد سبقهما إِلَيْهَا عبد الله بن سعد بعسكر بلنسية فِي اتّباع الرّوم المغيرين على نَوَاحِيهَا أَصْحَاب الطاغية أذفونش فاستشهد ابْن هود وَابْن سعد لما التقى الْجَمْعَانِ وَنَجَا ابْن عِيَاض وَكَانَت هَذِه الوقيعة الْكُبْرَى على الْمُسلمين بالموضع الْمَعْرُوف
باللّجّ وبالبسيط على مقربة من جنجالة يَوْم الْجُمُعَة الموفّى عشْرين لشعبان من سنة أَرْبَعِينَ وَقيل يَوْم السبت بعده
وَأَبُو جَعْفَر بن حسام الدولة هُوَ الْقَائِل يمدح من قصيدة
(عَلَوْت فَمَا تسمو لمقدارك الشّهب
…
وَقد قصّرت فِي مَا تسطّره الْكتب)
(وَأَنت إِذا وجهت جيشك رائداً
…
تقدّمه من بعض أنصارك الرعب)
(أَقمت لنا الدّين الحنيفيّ ماثلاً
…
كأنّا نرى المهديّ مَا ضمّه التّرب)
(إِذا خلصت نفس الوليّ لربّه
…
فَغير عَجِيب أَن يوفقه الربّ)
وَله
(يَا باكياً عمر الطلول بدمعه
…
أسفا على ذَاك الدَّم المطلول)
(أودت بلبّك لوعة صديت لَهَا
…
صفحات ذَاك الخاطر المصقول)
وَله
(لَيْت شعري وَنحن بالمغرب الْأَقْصَى
…
مَتى تزجر الفلاة الأمون)
(بفلاة ترى الرِّيَاح بهَا الهوج
…
عرتهنّ فَتْرَة وَسُكُون)
(وتلوح البروق مثل سيوف الْهِنْد
…
فِيهَا أجفانهن الجفون)
(والسراب الرقراق فِي صفحة الْبَيْدَاء
…
يغشى الهضاب مَاء معِين)
(تتبدّى لَك الظعائن فِيهِنَّ
…
فَقل أينق بهَا أَو سفين)
(خطرت خطرة الغرام عَليّ الْقلب
…
وَحسب الْفَتى لَهَا يستكين)
(أذكرتني بلجاء ورق تجاوبن
…
بِنَجْد حديثهن شجون)
(أطربتني أصواتهن على الأيكة
…
قد يطرب الحزين الحزين)
وَمِنْهَا
(يامة الْقَوْم والمنى يطْمع الْمَرْء
…
إِذا مَا اسْتَقل يَوْمًا قطين)
(إِن تَكُونِي قد اسْتَقر بك الرّبع
…
فقلبي مَعَ الرفاق رهين)
(أَو تَكُونِي سلوت عَنَّا فَلَا وَالله
…
لم تسلك الظباء الْعين)
(أَيْن للشمس أَن تنَال محياك
…
وتعزي لمعطفيك الغصون)
(غرر لحن من دجي الشّعر بيض
…
مَا تجلّت عَن مِثْلهنَّ الدّجون)
150 -
أَحْمد بن قَامَ الْكَاتِب أَبُو الْعَبَّاس
دَار سلفه بياسة وَكَانَت لَهُم بهَا فِي الْفِتْنَة رئاسة وَذكر أَبُو عَمْرو بن
الإِمَام فِي كتاب سمط الجمان وَسقط الأذهان من تأليفه أَن أَبَا الْعَبَّاس هَذَا رَحل عَن الأندلس لبأو كَانَ فِيهِ استهواه وزهو جَاوز بِهِ غَايَته ومداه
قَالَ وَكَثِيرًا مَا كَانَ يلحظ الجزيرة بِعَين الاحتقار وينزلها وَأَهْلهَا منزلَة الصّغار ويأنف أَن تكون لَهُ دَار قَرَار فَلَا يمتثل إِلَّا
(أَنا فِي أمة تداركها الله
…
غَرِيب كصالح فِي ثَمُود)
حَتَّى قوّض عَنْهَا خيامه وَمَشى مَا مَشى ظلّه أَمَامه فَمَا عرف أَيْن صقع وَلَا فِي أَي الْبَوَار وَقع وَهُوَ الْقَائِل من أَبْيَات
(هم وصلوا لبلي بلَيْل ابْن حندج
…
وَقد كَانَ لَوْلَا بَينهم ليل متبج)
(ليَالِي لَا نجم الزجاجة آفل
…
هُنَاكَ وَلَا بدر النّديّ بمدلج)
(أردد طرفِي بَين برق مدامة
…
وبرقة ثغر مِنْهُ تحمى بأدعج)
(فأرشفة من تياك ريقة سلسل
…
وأرشف من ذياك ريقة أفلج)
(وَلَا شدو إِلَّا صَوت حلي بلبّة
…
وَلَا نقل إِلَّا ورد خدّ مضرج)
(ووجنة تفاح وألحاظ نرجس
…
وأصداغ ريحَان وخال بنفسج)
أَرَادَ بلَيْل ابْن حندج ليل امْرِئ الْقَيْس حَيْثُ يَقُول
(وليل كموج الْبَحْر أرْخى سدوله
…
عليّ بأنواع الهموم ليبتلي)
وَأَشَارَ بلَيْل منبج إِلَى قَول عبد الْملك بن صَالح الْهَاشِمِي حَيْثُ سَأَلَهُ الرشيد عَن دارة منبج فَكَانَ من وَصفه لَهَا أَن قَالَ لَيْلهَا سحر كُله
وَله فِي الْمَدْح
(رصانة حلم سفهت كلّ أحنف
…
وديمة جود بخّلت كلّ حَاتِم)
(وفطنة علم تحتهَا إِن دجا الوغى
…
جَهَالَة رمح أَو سفاهة صارم)
151 -
مُحَمَّد بن حمدين بن عَليّ بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز ابْن حمدين التغلبي أَبُو الْحسن
هُوَ ابْن عَم أبي جَعْفَر حمدين بن مُحَمَّد بن عَليّ بن حمدين الثائر بقرطبة والمدعوّ لَهُ بِأَكْثَرَ قَوَاعِد الأندلس
وَيعرف مُحَمَّد هَذَا بالفلفلي فِي أهل بَيته وللمنصور مُحَمَّد بن أبي عَامر عَلَيْهِ ولادَة وَكَانَ ابْن عَمه قد ولاه مرسية بعد مقتل ابْن أبي جَعْفَر بِنَاحِيَة غرناطة وَبَعثه بعسكر مَعَ طَائِفَة من أَعْيَان مرسية فَلَمَّا دنا مِنْهَا صدّ عَنْهَا وقاتله الْعَرَب الَّذين كَانُوا بهَا فَانْهَزَمَ جمعه وَانْصَرف مفلولا وأمير مرسية حِينَئِذٍ أَبُو عبد الرَّحْمَن بن طَاهِر مخلوع أبي مُحَمَّد بن عِيَاض بعد خمسين يَوْمًا أَو نَحْوهَا من ولَايَته وَذَلِكَ كلّه فِي سنة أَرْبَعِينَ وَخَمْسمِائة
ثمَّ سكن ابْن حمدين هَذَا مراكش مجاوراً لأبي عبد الْملك مَرْوَان بن
عبد الْعَزِيز وَبني سيدراي بن وَزِير رُؤَسَاء الغرب قَالَه ابْن صَاحب الصَّلَاة
وَحكى أَنهم باتوا لَيْلَة فِي أنس جمعهم فِيهَا انقلاب الزَّمَان وَابْن حمدين غَائِب عَنْهُم فَلَمَّا حضر كتبُوا إِلَيْهِ معرّفين بذلك فجاوب ابْن وَزِير مِنْهُم بِأَبْيَات مِنْهَا
(يَا وَاحِد الْفضل والسماح
…
وَيَا فَتى الجدّ والمزاح)
(سَأَلت مستفهماً رَسُولا
…
فهزّ مني عطف ارتياح)
(وَلَيْلَة الْأنس لَو أُعِيدَت
…
أصبح عِنْدِي من الصَّباح)
(شربت فِيهَا السرُور صرفا
…
وَأَنت ريحانتي وراحي)
(فهاج حبي ولذّ شربي
…
بِغَيْر إِثْم وَلَا جنَاح)
(إيه وقلتم فِي وصف ظَبْي
…
يبسم عَن درّ أَو أفاح)
(جديب خصر خصيب ردف
…
ينْهض عَن مثقل رداح)
(شَكَوْت مِنْهُ وَرب شكوى
…
أليمة من هوى الملاح)
(وَمن رأى اللَّيْث فِي محلّ
…
يَقُودهُ جائل الوشاح)
(يَا فَارس الْخَيل إِذْ تلاقى
…
فِي مأزق الْبَأْس والكفاح)
(إنّ صفاح الحسان أنكى
…
فِي الْقلب قرحاً من الصّفاح)
(أشفار ألحاظها شفار
…
تندقّ مِنْهَا سمر الرماح)
(أيّ الْقُلُوب الصّحاح يبْقى
…
على جفون مرضى صِحَاح)
(أفديك من عاشق عفيف
…
غير مُبِيح سوى الْمُبَاح)
(ينقاد للبر والمراضي
…
وَهُوَ عَن النكر ذُو جماح)
(فانعم هَنِيئًا قرير عين
…
مَا اهتزت القضب بالرياح)
152 -
أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد الوقّشيّ الْوَزير أَبُو جَعْفَر
أحد الكفاة الأمجاد والدهاة الأنجاد وَهُوَ من بَيت القَاضِي أبي الْوَلِيد هِشَام بن أَحْمد الوقّشيّ وَهِي قَرْيَة بنواحي طلبيرة مُشَدّدَة الْقَاف
وَأرَاهُ ابْن أَخِيه ونسبهم فِي كنَانَة قَامَ بِأَمْر أبي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن أَحْمد بن همشك ضابطاً لأعماله ومصلحاً لأحواله وَلما هزم ابْن سعد وَابْن همشك مَعَه بغرناطة صَبِيحَة يَوْم الْجُمُعَة الثَّامِن وَالْعِشْرين لرجب سنة سبع وَخمسين وَخَمْسمِائة وَهِي وقيعة السّبيكة إِثْر هزيمَة مرج الرقاد
عزم على استئصال ابْن همشك ومنازلة بِلَاده فلاذ بالفرار وَأسلم جيّان لوزيره الأخصّ أبي جَعْفَر هَذَا فنازلها الموحدون أعزهم الله وَهُوَ بضبطها مستبد وَإِلَى مؤمّره عَلَيْهَا مُسْتَند إِلَى أَن صدورا عَنْهَا لعمارة قرطبة ودخلوها ضحوة يَوْم الْأَحَد الثَّانِي عشر من شَوَّال من السّنة وَبهَا إِذْ ذَاك فِيمَا حكى نَحْو من ثَمَانِينَ رجلا قد أكلتهم الْفِتْنَة وشردتهم المجاعة من طول إلحاح ابْن همشك عَلَيْهِم بالحروب وَشن الغارات مَعَ الشروق والغروب رَجَاء انتظامها مَعَ جيّان وَسَائِر بِلَاده فنفّس عَن أبي جَعْفَر وَقد نَاب أحسن مناب وَحل من صَاحبه آثر مَحل
وَلم يزل بعد ذَلِك يحسن الضَّبْط لبلاده وَيظْهر الْكِفَايَة فِي كَافَّة محاولاته إِلَى أَن اعتلق ابْن همشك بالدعوة المهدية خلدها الله ونابذ صهره مُحَمَّد بن سعد وَذَلِكَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ بعد الوقيعة الْعُظْمَى بفحص الجلاّب على مقربة من مرسية وَكَانَت يَوْم الْجُمُعَة سَابِع ذِي الْحجَّة من سنة سِتِّينَ ووجّه وزيره أَبَا جَعْفَر هَذَا وافداً عَنهُ إِلَى مراكش ومستصرخاً على صهره ابْن سعد وَكَانَ قد وطئ أَعماله ودوخها وتغلب على كثير من معاقله وَكَانَت تَحْتَهُ بنت ابْن همشك فَطلقهَا ثمَّ نَدم وَهدم رحى الوقّشيّ بولجة بلنسية فَقَالَ فِي ذَلِك
(أَلا أبلغا عني الشّريق وَأَهله
…
بِأَنِّي لَا أثني عناناً عَن الغرب)
(لأجلبها خزر الْعُيُون ضوامراً
…
وأوطئها أجسادكم بدل التّرب)
(هدمتم رحى من لَا يزَال بسعيه
…
وأفكاره يحني عَلَيْكُم رحى الْحَرْب)
(رحى شدّ مَا يفني الرِّجَال بطحنها
…
وَلَيْسَ لَهَا قطب سوى الطعْن وَالضَّرْب)
(ألم أجلب الْجَيْش العرمرم نحوكم
…
وصيّرتكم فِي مَا علمْتُم من الكرب)
(وَإِنِّي مليّ أَن أكدّر مَا صفا
…
لكم بعد هَذَا فِي الْبِلَاد من الشّرب)
(فَإِن يَك عَن أوطانكم عمر نأى
…
فَإِن أَمِير الْمُؤمنِينَ على قرب)
وَله فِي وفادته على مراكش سنة أَربع وَسِتِّينَ يهنىء بعيد الْفطر من قصيدة طَوِيلَة
(تحنّ إِلَيْكُم وافدات المواسم
…
فتهدى إِلَى كفيّكم ثغر باسم)
(ومنهن عيد الْفطر جَاءَ مسلّماً
…
عَلَيْك فحيّا مِنْك أفضل طاعم)
(وَمن قبله وافي الصّيام بشهره
…
على خير أواب وَأفضل صَائِم)
يَقُول فِيهَا
(تقبّلت أَخْلَاق الكهولة ناشئاً
…
فَلم تدر يَوْمًا مَا منَاط التمائم)
(وَلَو لم تشأ وَطْء التُّرَاب بإخمس
…
لسرت على هام الْمُلُوك الخضارم)
وَله وَقد أحضر لمعاينة قتل أَسد هائل المنظر يصفه من كلمة
(جهم المحيّا إِن تبسّم هِبته
…
وَمن الْعَجَائِب هَيْبَة المتبسّم)
(وَيُقَال كل الصَّيْد فِي جَوف الفرا
…
وَأرى الْفراء لَدَيْهِ بعض الْمطعم)
(وكأنما هُوَ نَاظر عَن زئبق
…
وكأنما هُوَ كاشر عَن مخدم)
(وَكَأن لبدته بَقِيَّة فَرْوَة
…
قصرت على طول الزَّمَان الأقدم)
(لما تمرد فِي العرينة فتّحت
…
أَبْوَابهَا فانساب مثل الأرقم)
(وَعلا زئير مِنْهُ حَتَّى خلته
…
كالفحل يهدر عِنْد شول هيّم)
(وظننت أَن الرَّعْد من حَيْثُ الحيا
…
حَتَّى سَمِعت الْيَوْم رعداً من فَم)
(وتناولت زرق الأسنة زرقه
…
حَتَّى بدا فِي شكله كالشيهم)
ولي فِي هَذَا الْمَعْنى من كلمة قلتهَا عِنْد وفادتي على حَضْرَة تونس أيدها الله رَسُولا عَن وَالِي بلنسية ودانية أبي جميل بن سعد وَقد أحضرت لمثل ذَلِك فِي أَوَاخِر شعْبَان سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
(تحنّ إِلَى ملعب للظباء
…
بكثبان رامة أَو غرّب)
(فهلاّ إِلَى ملعب للأسود
…
سعدت بمنظره المعجب)
(يُقَام الْجِهَاد بِهِ والجلاد
…
لكلّ فَتى مدره محرب)
(ويضري على الفتك بالضاريات
…
فَإِن غَالب الْقرن لم يغلب)
(ضوار ضوارب أظفارها
…
تعير الظّبي رقة المضرب)
(فَمن أَسد شرس محنق
…
وَمن نمر حرد مغضب)
(أثيرت حفائظها فانبرت
…
تسابق فِي شأوها الأرحب)
(تصم المسامع من زأرها
…
عوادي كالضّمّر الشّزّب)
(وتنبو الْعُيُون لإقدامها
…
مذربة الناب والمخلب)
(كواشر عَن مرهفات حداد
…
مَتى تصدع الْهَام لَا تنشب)
(نيوب نبتن من النائبات
…
وأزرين بالصارم المقضب)
(تنوء ثقالاً وَلكنهَا
…
أخفّ وثوباً من الجندب)
وَمِنْهَا فِي وصف ملاعب لَهَا من أهل الثقافة وَكَانَت فِي ذَلِك الْيَوْم الْمُبَارك أَرْبَعَة آساد ونمرين يدحرج إِلَيْهَا كرة مُتَّصِلَة من خشب محكمَة الصَّنْعَة تحجبه
من بأسها وَهِي رابضة وَبِيَدِهِ حدائد طوال فِي نِهَايَة الإرهاف معدة لَهَا فَإِذا أحسّت بِهِ وَثَبت على الكرة فألقم أفواهها تِلْكَ الحدائد ودحرج الكرة فتباعدت عَنهُ تمجّ الدَّم وَأَحْيَانا يُجهز بهَا عَلَيْهَا إِذا لم يَأْمَن عاديتها وَقد حفر بمجالها الرحب لآخرين مهاو تسع جثثهم وَلها أَبْوَاب صغَار يطبقونها عَلَيْهِم فَإِذا ربضت على بعد صِيحَ بأحدهم فَفتح بَاب تِلْكَ الهوة وهجهج بهَا وَرُبمَا ألمع لَهَا بِمَا يكون فِي يَده فَمَا هُوَ إِلَّا أَن ترَاهُ فيكاد وثوبها إِلَيْهِ يعجله عَن إطباق الْبَاب عَلَيْهِ ثمَّ تَنْصَرِف عَنهُ يائسة مِنْهُ وَقد اشْتَدَّ حنقها وَعظم زئيرها فيعاين من ذَلِك آنق منظر وأبدع مرأى
(ومقتحم غَمَرَات الرّدى
…
إِذا مَا ادّعى الباس لم يكذب)
(يلاعبها حَيْثُ جد الْحمام
…
فتفرغ مِنْهُ إِلَى مهرب)
(يكرّ عَلَيْهَا وَلَا جنّة
…
سوى كرة سهلة المجذب)
(يدحرجها مَاشِيا ثنيها
…
على حذر مشْيَة الأنكب)
(عجبت لَهَا أحجمت رهبة
…
وأقدم بَأْسا وَلم يرهب)
(وقته الأواقي على أنّه
…
تسنّمها صعبة الْمركب)
(وثاو بمطبقة فَوْقه
…
مَتى تطف هامته ترسب)
(يهجهج بالليث كَمَا يهيج
…
ويأوي إِلَى الْكَهْف كالثعلب)
(كَذَلِك حَتَّى هوت نَحْوهَا
…
عِقَاب الْمنية من مرقب)
(وعاجت عَلَيْهَا قواسي القسيّ
…
فعبّت من الْحِين فِي مشرب)
(وشالت هُنَاكَ بأذنابها
…
لياذاً من الْعقر كالعقرب)
(فيا لقساور قد صيّرت
…
فرائس للأسهم الصيب)
وللوقّشيّ تحقق بِالْإِحْسَانِ وَتصرف فِي أفانين الْبَيَان وكتابي الْمُؤلف فِي أدباء الشرق المترجم بإيماض الْبَرْق مُشْتَمل على كثير من شعره ومدحه أَبُو عبد الله الرّصافي بِمَا ثَبت فِي ديوانه وأعرب عَن جلالة شانه وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ وَأَبُو جَعْفَر بن عَطِيَّة من مفاخر الأندلس وَكَانَا متعاصرين وَفِي الْكِفَايَة متكافئين وَلذَلِك فِي النثر مزية هَذَا فِي الشّعْر وَله يصف الزرافة من أَبْيَات
(لبست من الصّفر الأنيق ملاءة
…
مرقومة الجنبات بالعقيان)
(وَكَأَنَّهَا قد قسّمت فِي خلقهَا
…
فأتتك بَين الْخَيل والبقران)
(وَكَأن قرينها إِذا شالتهما
…
قلمان قلّم مِنْهُمَا الطرفان)
(طَالَتْ قَوَائِمهَا وَطَالَ تليلها
…
حَتَّى لقد أوفى على الجدران)
(وتفاوتت فِي سمكها فوارؤها
…
ثلث لَهَا وأمامها ثلثان)
وَله فِي حفظ السِّرّ
(ومستودع عِنْدِي حَدِيثا يخَاف من
…
إذاعته فِي السّر أَن ينْفد الْعُمر)
(فَقلت لَهُ لَا تخش مني فضيحة
…
لسرّ غَدا مَيتا وصدري لَهُ قبر)
(على أَن من فِي الْقَبْر يُرْجَى نشوره
…
وسرّك مَا يُرْجَى لَهُ أبدا نشر)
وَله مِمَّا استفدته من أبي رحمه الله وأنشدنيه
(أَلا قرّب الله الديار وَأَهْلهَا
…
وَمن حلّ فِي شقّ من الغرب نازح)
(أعانق صَدْرِي فِي الْخَلَاء تشوّقاً
…
لكَوْنهم مَا بَين طيّ الجوانح)
وَبَينهمَا بَيت ثَالِث ذهب من حفظي
وَله فِي النسيب أَيْضا
(لعلّ فِي الظاعنين سارا
…
من كَانَ لي بالعقيق جارا)
(إِن صَحَّ هَذَا خُذُوا بذحلي
…
من بَينهم حادي المهارى)
يَقُول فِيهَا
(مَا بَال عينيّ مُنْذُ بنتم
…
لم تطعما للكرى غرارا)
(وَمَا لورد بوجنتيكم
…
أنبت فِي وجنتي بهارا)
(أيا نديميّ أخبراني
…
فَإِن فِيمَا أرى اعْتِبَارا)
(أبصرتما قبلهَا قَضِيبًا
…
قد أثمر اللَّيْل والنهارا)
(أَو وجنة وَهِي جسم مَاء
…
تعود إِثْر الْحيَاء نَارا)
وَله فِي الشقائق
(وشقائق لاحت على الأغصان
…
مثل الخدود تزان بالخيلان)
(يهفو النسيم مَعَ الأصائل وَالضُّحَى
…
فيهز مِنْهَا معطف النّشوان) فَكَأَنَّهَا قضب الزّمرّد ألصقت
…
بالمسك فِيهَا أكؤس العقيان)
وَله فِي غُصْن منّور بيد حبشِي طلع بِهِ وَهُوَ فِي مجْلِس أنسه مَعَ ندمائه
(وزنجيّ ألمّ بِغُصْن نور
…
وَقد زفّت لنا بنت الكروم)
(فَقَالَ فَتى من الندماء صفه
…
فَقلت اللَّيْل أقبل بالنجوم)
وَقد أنشدنيهما صاحبنا أَبُو عَليّ بن سُلَيْمَان الْأمين الشّريشي بمنزلي من حَضْرَة تونس قَالَ أنشدنيهما الْأُسْتَاذ أَبُو عَليّ عمر بن عبد الْمجِيد الرّندي بمالقة لأبي عبد الله الرّصافي وَحكى لي عَنهُ أَنه كَانَ بِظَاهِر مالقة مَعَ طَائِفَة من أَصْحَابه على أنس فَصَعدَ غُلَام أحدهم إِلَى شَجَرَة لوز منورّة فاقتطع غصناً مِنْهَا وأتاهم بِهِ فَسَأَلُوهُ وَصفه فَقَالَ بديهاً
(وزنجيّ ألمّ بِنور لوز
…
وَفِي كاساتنا بنت الكروم)
وَمَا بعده كَمَا تقدم إِلَّا أَنه قَالَ من الفتيان مَكَان قَوْله من الندماء وَغلط أَبُو مَرْوَان بن صَاحب الصَّلَاة الإشبيلي فنسبها فِي تَارِيخه إِلَى بعض الْأُمَرَاء وَزعم أَنه قَالَهَا فِي حبشيّ بِيَدِهِ شمعة وَلَا يَلِيق هَذَا التَّشْبِيه بذلك
وَتُوفِّي أَبُو جَعْفَر الوقّشيّ بمالقة صادراً عَن مراكش فِي سنة أَربع وَسبعين وَخَمْسمِائة
وحَدثني شَيخنَا أَبُو الرّبيع بن سَالم أَنه اجتاز ببقيع مالقة فَاسْتحْسن مَا رأى من زخرفة الْقُبُور بِهِ واغتراس الْأَشْجَار ذَات النواوير والأزهار أثناءها فتمنى أَن يدْفن هُنَالك فوفت الأقدار بأمنيته عِنْد موافاة منيته
وَكَانَت وَفَاة أبي إِسْحَاق بن همشك قبله بمكناسة فِي صفر سنة ثِنْتَيْنِ وَسبعين وَخَمْسمِائة
153 -
أَحْمد بن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن سُفْيَان المَخْزُومِي أَبُو بكر
صحب أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن معدّ الأقليشيّ الزَّاهِد وَمَال إِلَى طَرِيقَته وَأنْفق فِي أَبْوَاب الْخَيْر وَالْمَعْرُوف أَمْوَالًا جليلة سَمِعت شَيخنَا أَبَا الْخطاب بن وَاجِب وَغَيره يذكرُونَ ذَلِك وَكَانَ يعرف بالعابد لِكَثْرَة إيثاره وَطول صحبته الْفُقَرَاء وإكبابه على الْأَعْمَال الصَّالِحَة وداره جَزِيرَة شقر من أَعمال بلنسية وبيته شهير النباهة
وَلما ضعف أَمر أبي عبد الله مُحَمَّد بن سعد بشرق الأندلس وانسلخ من طَاعَته أَبُو إِسْحَاق بن همشك صهره بجيّان وَمَا إِلَيْهَا ثمَّ ابْن عَمه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن سعد بالمريّة واستوحش حَتَّى من نَفسه أخرج أهل بلنسية مِنْهَا وأسكنهم ظَاهرهَا وشحنها بالروم وأتباعهم وَنوى ذَلِك فِي غَيرهَا فخاف أَبُو بكر بن سُفْيَان هَذَا أَن يُخرجهُ من بَلَده وَكَانَ فِيهَا متّبعاً فَدَعَا للموحدين أعزهم الله وخلع ابْن سعد وَرَأس بموضعه ومالأ جِيرَانه
فأنفذ إِلَيْهِ الرئيس أَبُو الحجاح يُوسُف بن سعد قائداً من كبار أَصْحَابه فِي جملَة من خيله ورسم لَهُ حصاره والتضييق عَلَيْهِ فَبَدَأَ بمنازلة منتصف شَوَّال من سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَأقَام على ذَلِك إِلَى منتصف ذِي الْحجَّة وَابْن سُفْيَان يقاومه وَيقوم بتدبير بَلَده والأمداد تتلاحق فِي كل حِين وتحدق بِهِ وَابْن سعد وَأَخُوهُ أَبُو الْحجَّاج قد اكتنفاه فِي الجموع الكثيفة حَتَّى خيف من الوهن
فاقتحم الْبَلَد ذُو الوزارتين أَبُو أَيُّوب بن هِلَال مقوياً عزائم أَهله وضامناً لَهُم الِاسْتِقْلَال بضبطه فتخلى ابْن سُفْيَان لَهُ عَنهُ رَاضِيا فِي الظَّاهِر متبرماً فِي الْبَاطِن وَتَوَلَّى ابْن هِلَال من المصابرة فِي تِلْكَ المحاصرة والمحاولة لتِلْك المصاولة مَا أبقاه أثرا مَشْهُورا وخبراً تداولته الألسن دهوراً واعتل ابْن سعد خلال ذَلِك فلحق بمرسية وألزم أَخَاهُ مُلَازمَة الْبَلَد فتنفس الخناق ثمَّ انتعشت بوفاته الأرماق
وَلابْن سُفْيَان حَظّ من النّظم قصره على الزّهْد وَهُوَ الْقَائِل من أَبْيَات
(كلّ عَطاء فَإلَى عِلّة
…
لَا شكّ يُفْضِي ولوجه السّقم)
(إِلَّا الَّذِي مِنْك بِلَا عِلّة
…
يَا خَالق الْعَرْش ومجري الْقَلَم)
(كلّ الورى لابس ثوب الدجى
…
لَوْلَا سنا مِنْك يجلّي الظّلم)
وَأما ابْنه أَبُو الْمطرف مُحَمَّد فقويّ الْعَارِضَة معِين الطَّبْع حسن التَّصَرُّف وَله عَن أَبِيه وَسَائِر أهل بَلَده عِنْد اشتداد الْحصار وتمادي المضايقة رِسَالَة حَسَنَة فِي الاستصراخ والاستنصار أودعها أبياتاً مِنْهَا
(تدارك أَمِير الْمُؤمنِينَ دماءنا
…
فَإنَّك لِلْإِسْلَامِ وَالدّين نَاصِر)
(ووجّه إِلَى استنقاذنا بكتيبة
…
يهاب الردى مِنْهَا العدوّ المحاصر)
(تنفّس من ضيق الخناق بقطرنا
…
فتدرك آمال وترعى أواصر)
(إِذا مَا انكفى بالخزي وارتد خائباً
…
فمطمحه عَن نيلها متقاصر)
(فليت ابْن سعد إِذْ تألف مَا نعت
…
فَلم تتمخص عَن قواه العناصر)
(ستذهب أنوار الْخلَافَة ظلمه
…
وتلفظه بعد الْخُيُول المقاصر)
(ويهدم مَا قد أسس الْكفْر عِنْده
…
كريم السّنا تثني عَلَيْهِ الخناصر)
(فَهَذَا الَّذِي يَبْنِي الْمَسَاجِد أمره
…
وَأمر ابْن سعد أَن تشاد المعاصر)
(وَذَا الْملك آيَات المثاني تهزّه
…
وَذَاكَ بِأَصْوَات المثاني البناصر)
(بقيت أَمِير الْمُؤمنِينَ مخلّداً
…
وكلّ الورى عَن كنه وصفك قَاصِر)
وَمَاله عِنْدِي ولأخويه أبي مُحَمَّد عبد الله وَأبي جَعْفَر أَحْمد وَكَانُوا جَمِيعًا أدباء نجباء فِي كتاب إيماض الْبَرْق من تأليفي مُسْتَوْفِي وَالْحَمْد لله
154 -
نَفِيس بن مُحَمَّد الرّبعي الْبَغْدَادِيّ أَبُو الْفضل يعرف بِابْن قمّونة
وَنسبه صَرِيح فِي ربيعَة وَقدم على الْمغرب فَتلقى بِالْقبُولِ وَولى الجزيرة الخضراء وَكَانَ أديباً فصيحاً وَهُوَ الْقَائِل فِي مقتل عمر الْمَعْرُوف بالرشيد سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
(فَللَّه درّك من عَادل
…
أقرّ عيُونا وأذكى عيُونا)
(سَطَا بالرشيد فَكَانَ الرشيد
…
وَلَو فَاتَهُ الحزم كَانَ الأمينا)
وَله
(لَوْلَا خِيَانَة حيّون لَقلت لكم
…
هُوَ الْأَمَانَة مِمَّا فِيهِ من ثقل)
(هُوَ الطَّوِيل وَفِي معروفه قصر
…
كَأَنَّهُ ليل مشتاق بِلَا أمل)
155 -
عبد الرَّحِيم بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الخزرجي الغرناطي أَبُو الْقَاسِم الْمَعْرُوف بِابْن الْفرس
ثار بِنَاحِيَة مرّاكش من الْمغرب واشتملت عَلَيْهِ طوائف من البربر ثمَّ غدر بِهِ بَعضهم فَقتل وحز رَأسه وسيق إِلَى مراكش وَذَلِكَ فِي نَحْو الستمائة وَهُوَ الْقَائِل فِي ثورته وَكَانَ شَاعِرًا مطبوعاً
(قُولُوا لأبناء عبد الْمُؤمن بن عَليّ
…
تأهبوا لوُقُوع الْحَادِث الجلل)
(أَتَاكُم خير قحطان وعالمها
…
وَصَاحب الْوَقْت والغلاّب للدول)
(وَالنَّاس طوع عَصَاهُ وَهُوَ قائدهم
…
بِالْأَمر وَالنَّهْي نَحْو الْعلم وَالْعَمَل)
(فبادروا أمره فَالله ناصره
…
وَالله خاذل أهل الزّيغ والزلل)
وَهِي طَوِيلَة
وَله أَيْضا
(عَسى عطفة من جَانب الْقُدس تسمح
…
وبارقة من جَانب اللطف تلمح)
(عَسى الله يدنيني إِلَى ساحة الرِّضَا
…
فأقرع أَبْوَاب الغيوب فتفتح)
(وَمَا زَالَ فضل الله يغمر ساحتي
…
وَيظْهر لي من حَيْثُمَا أتلمّح)
(إِلَى الملإ الْأَعْلَى سموت بهمتي
…
كَذَلِك شَأْن الشّكل للشكل يجنح)
156 -
مُحَمَّد بن سيدراي بن عبد الْوَهَّاب ابْن وَزِير الْقَيْسِي أَبُو بكر
كَانَ أَبوهُ أَبُو مُحَمَّد سيدراي أَمِيرا بغرب الأندلس فِي الْفِتْنَة وتغلب على أبي الْقَاسِم بن قسيّ فِي شعْبَان سنة أَرْبَعِينَ وَخَمْسمِائة ثمَّ نظمته الدعْوَة المهدية مَعَ رُؤَسَاء الأندلس وَحضر حِصَار إشبيلية هُوَ وَابْن قسيّ فِي العساكر المحيطة بهَا مَعَ الأساطيل براًّ وبحراً إِلَى أَن فتحت يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّانِي عشر من شعْبَان سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وفر الملثمون عصر ذَلِك الْيَوْم إِلَى قرمونة وتخلى أَبُو مُحَمَّد الْمَذْكُور عَن شلب سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين فملكت مَعَ قلعة ميرتلة
وَكَانَ من رجالات الأندلس رجامه وشهامة وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنه أَبُو بكر
هَذَا وَولى قصر الْفَتْح الْمَنْسُوب إِلَى أبي دانس عِنْد استرجاعه من أَيدي
الرّوم فِي جُمَادَى الأولى سنة سبع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَكَانُوا قد تغلبُوا عَلَيْهِ سنة خمس وَخمسين وَأقَام والياً عَلَيْهِ سامي الرُّتْبَة نامي الحظوة إِلَى أَن توفّي فِي صدر الْمِائَة السَّابِعَة بعد حُضُوره بوقيعة الْعقَاب وَكَانَت يَوْم الِاثْنَيْنِ منتصف صفر سنة تسع وسِتمِائَة وَهُوَ الْقَائِل فِي حَرْب ظهر فِيهَا على الرّوم
(وَلما تلاقينا جرى الطعْن بَيْننَا
…
فمنا وَمِنْهُم طائحون عديد)
(وجال غرار الْهِنْد فِينَا وَفِيهِمْ
…
فمنا وَمِنْهُم قَائِم وحصيد)
(فَلَا صدر إِلَّا فِيهِ صدر مثقّف
…
كِلَانَا على حرّ الطعان جليد)
(وَلَكِن شددنا شدَّة فتبلّدوا
…
وَمن يتبلّد لَا يزَال يحيد)
(فولّوا وللبيض الرقَاق بهامهم
…
صليل وللسّمر الطوَال وُرُود)
وَله فِي النسيب
(ومرنّح الأعطاف تحسب أَنه
…
متعلّل أبدا بِصَرْف مدامه)
(خنث المحاجر والجفون كَأَنَّمَا
…
يسري فتور جفونه لكَلَامه)
(فَضَح الْهلَال بِوَجْهِهِ ولربما
…
فَضَح الْقَضِيب بلينه وقوامه)
(وَغدا شَقِيق سميّه فِي حسنه
…
وَغدا العنا وَقفا على لوّامه)
وَله
(وبتنا جَمِيعًا مثل مَا لّفت الصّبا
…
قضيبين من نَوْعَيْنِ ذاو وناضر)
(فطوراً أمصّ الشهد من جَوْهَر اللّمى
…
وَيَا عجبا للشهد بَين الْجَوَاهِر)
(وطوراً عنَاقًا لَا تنفس بَيْننَا
…
وَلَكِن نتاجينا بسر الضمائر)
(أَقُول أما للصبح من متنفّس
…
وَعِنْدِي أنّ اللَّيْل لمحة نَاظر)
وَله وَقد فصدت أم وَلَده وَكَانَت غالبة عَلَيْهِ
(يَا من علا فحلا فِي النَّفس موقعه
…
وَمن هُوَ الْقلب أوفى الْقلب مرتعه)
(لم تملإ الطّست لما أَن فصدت دَمًا
…
وَإِنَّمَا الصّبّ ذَابَتْ فِيهِ أدمعه)
(فَلَا تخف بعْدهَا من حَادث نبأ
…
فَالله والفلك الْمَأْمُور يَدْفَعهُ)
وَمَا أحسن قَول الْحُسَيْن بن عبد السَّلَام فِي هَذَا الْمَعْنى وَقد فصدت محبوبته
(مَا أَنْت شاكية حَقًا أَنا الشاكي
…
عافاني الله مِمَّا بِي وعافاك)
(حللت مني فؤاداً حشوه لَهب
…
فَإِن حممت فَهَذَا أصل حماك)
(قَالُوا مددت إِلَى الحجّام جارحة
…
وَمَوْضِع الفصد مِنْهَا عين مضناك)
(أسأَل من فضَّة بَيْضَاء فِي ذهب
…
ياقوتة هِيَ دمع المشفق الباكي)
وَلأبي بكر فِي كلب صيد وَطئه فرس لَهُ حول خبائه فَهَلَك وَهُوَ من جيد شعره
(يَا مجهد النَّفس فِي إِدْرَاك مطلوبي
…
ومسعدي حِين إدلاجي وتأويبي)
(وحارسي ورداء اللَّيْل مُشْتَمل
…
من كل مستلب فِي زيّ مسلوب)
(وَيَا وفياًّ بِمَا خَان الرِّجَال بِهِ
…
وراثة عَن مطاويع مناجيب)
(كنت المصيخ لأمري والمطيع لَهُ
…
وَإِن تعرّض فِيهِ كلّ مرهوب)
(ففاجأتك المنايا حَيْثُ تأمنها
…
من طَالب لم تفته عين مَطْلُوب)
(لَئِن طوتك اللَّيَالِي طيّ بردتها
…
لقد طوت فِيك أنسي طيّ مَكْتُوب)
(وأودعتني سراًّ من سجيّتها
…
بأنّ رغبتها نكل لمرغوب)
(فكم غنينا وَقد رحنا إِلَى قنص
…
بِبَعْض حضرك عَن قرع الظنابيب)
(وناب نابك فِي مَا كنت تفرسه
…
من الظباء عَن الصمّ الأنابيب)
(قد كنت تولي الرّدى من حَان موعده
…
حَتَّى أَتَاك لوعد غير مَكْذُوب)
وَمِمَّنْ كَانَ بإفريقية فِي آخر هَذِه الْمِائَة من رجال الدعْوَة المهدية خلّدها الله
157 -
عمر بن جَامع أَبُو عَليّ
هُوَ ابْن أخي أبي العلى إِدْرِيس بن أبي إِسْحَاق بن جَامع الْوَزير وَكَانَ بإفريقية فطال مكثه بهَا وحنّ إِلَى بنيه فاستدعاهم من مراكش وَقَالَ فِي ذَلِك شعرًا خطه فِي رقْعَة ثمَّ نشأت لَهُ قبل وصولهم غزَاة إِلَى سليم من الْعَرَب فَقتل فِيهَا وَوجدت الرقعة فِي جيبه وَمن أبياتها
(سقتنا بعدكم أَيدي الْفِرَاق
…
كؤوساً طعمها مرّ المذاق)
(فأضرمت الحشا نَارا وأجرت
…
دموعاً تستهلّ من المآقي)
(فلولا النَّار متّ غريق دمع
…
وَلَوْلَا الدمع متّ من احتراق)
(وَلَكِن حِين حمّ النأى عَنْكُم
…
وَأَعْلَى صَوته حادي الرفاق)
(خشيت خُرُوج قلبِي من ضلوعي
…
وَخفت بُلُوغ نَفسِي للتراقي)
(وَلَكِن لَا احتكام على اللَّيَالِي
…
وَهل مِمَّا قَضَاهُ الله واق)
158 -
عبد الْوَاحِد بن عبد الله أَبُو مُحَمَّد الْمَعْرُوف بوامجور
ولى تونس وَكَانَ شهماً صَارِمًا سفاكاً للدماء ونكب بعد محاصرة قفصة وَالظفر بهَا وبالثائرين فِيهَا بدعوة عليّ بن غانية وَذَلِكَ سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَمَات بنواحي بجاية فِي طَرِيقه إِلَى الْمغرب مسخوطاً عَلَيْهِ وينسب إِلَيْهِ أَنه قَالَ فِي محبسه
(نصحت فَلم أَفْلح وخانوا فأفلحوا
…
فأنزلني نصحي بدار هوان)
(فَإِن عِشْت لم أنصح وَإِن متّ فالعنوا
…
ذَوي النصح من بعدِي بكلّ لِسَان)
وَهَذَا عِنْدِي كَمَا ينْسب إِلَى أبي بكر بن إِبْرَاهِيم المسّوفي الْمَعْرُوف بِابْن تافلويت وَالِي سرقسطة فِي صدر هَذِه الْمِائَة سنة ثَمَان والمتوفى بهَا فِي رَجَب
سنة إِحْدَى عشرَة مِنْهَا أَنه قَالَ فِي سيف ووقفت على ذَلِك من وُجُوه
(هززت حساماً فشبهّته
…
غديراً من المَاء لَكِن جمد)
(وَمهما بدا لي مِنْهُ فرند
…
لهيباً من النَّار لَكِن خمد)
(فلولا الجمود وَلَوْلَا الخمود
…
لَسَالَ لَدَى الهز أَو لاتقد)
وكما ينْسب أَيْضا إِلَى يحيى بن إِسْحَاق بن غانية المسّوفي أَنه قَالَ
(وَإِذا تجيش النَّفس قلت لَهَا قرى
…
فموت يريحك أَو ركُوب الْمِنْبَر)
(مَا قد قضى لابد أَن تلقينه
…
وَلَك الْأمان من الَّذِي لم يقدر)
وَهَذَا الشّعْر الْأَخير إِنَّمَا هُوَ لأبي الْحسن التّهامي وَهُوَ مَوْجُود فِي ديوانه وَالَّذِي قبله يروي لِابْنِ المعتز وَلغيره وَالظَّاهِر أَنهم يتمثلون بِمَا يحفظون فيتوهم سامعهم أَن ذَلِك لَهُم وَإِلَّا فرفعة الْحَال تنزههم عَن الانتحال وَلَو أَنِّي اجْتنبت مَا اجتلبت من هَذَا وَشبهه لأوجدت للمعترض سَبِيلا إِلَى الْمقَال