المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الْمِائَة السَّابِعَة   نبدأ بالذين يبْدَأ بهم الذّكر الْجَمِيل أَو يخْتم وَمن - الحلة السيراء - جـ ٢

[ابن الأبار]

الفصل: ‌ ‌الْمِائَة السَّابِعَة   نبدأ بالذين يبْدَأ بهم الذّكر الْجَمِيل أَو يخْتم وَمن

‌الْمِائَة السَّابِعَة

نبدأ بالذين يبْدَأ بهم الذّكر الْجَمِيل أَو يخْتم وَمن منثور حكمهم ومنظومها ينثر فِي أوصافهم وينظم أهل الْبَيْت الْمُبَارك الحفصي المستولي بِأَدْنَى السَّعْي على الأمد القصيّ بَيت الْخلَافَة السعيدة والإمارة التليدة ذَات المحاتد

ص: 279

الظَّاهِرَة والمحامد المتظاهرة لَا زَالَت منحها صوراً مجلوة ومدحها سوراً متلوة فأوّلهم وأولاهم بالتقديم للاشتراك فِي شرف الْأُبُوَّة والانفراد بكرم الأخوّة

159 -

أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن ابْن الشَّيْخ الْمُجَاهِد المقدّس أبي مُحَمَّد

ولى بعد أَبِيه رضوَان الله عَلَيْهِ إفريقية فِي غرَّة الْمحرم سنة ثَمَان عشرَة وسِتمِائَة وإثر دَفنه فِي الْيَوْم الَّذِي توفّي فِيهِ وَذَلِكَ ضحى يَوْم الْخَمِيس منسلخ شهر ذِي الْحجَّة من السّنة قبلهَا فَكَانَ لَهُ الْأَثر الحميد والصيت الْبعيد وَبلغ فِي السماح والبأس مَا لَيْسَ عَلَيْهِ مزِيد ثمَّ صرف وانتقل إِلَى الْمغرب وَولى بطليوس وثغورها بالأندلس وَلحق بمرّاكش بعد ذَلِك فاستشهد هُنَالك سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة وَهُوَ الْقَائِل من قصيدة فِي شكاية أَصَابَت أَبَاهُ لَا زَالَ صوب الْغَمَام يسْقِي ثراه

(يَا دهر مَالك ضَاحِكا وعبوساً

أتعيرنا بعد النَّعيم البوسا)

(وَلَقَد عهدتك ضَاحِكا متهللاً

تهدي الْقبُول وتبذل التأنيسا)

(أتراك تجزع من شكاية ماجد

أضحى لزهر النيّرات جَلِيسا)

(ملك تدرّع من عناية ربّه

درعاً غَدَتْ للْعَالمين لبوسا)

(لَو جَاءَهُ عِيسَى بزيّ معالج

قصدا لأفحم بالتوكّل عِيسَى)

(سَاس الزَّمَان فَكَانَ من عبدانه

والصعب منقاد إِذا مَا سيسا)

ص: 280

(ناهيك من متبرّع متورّع

كسر الصَّلِيب وأفحم الناقوسا)

(ملك حمى إفريقية وذمارها

لما غَدا ليثاً وتونس خيسا)

(لَا يرتضي العضب المهنّد خَادِمًا

إِلَّا إِذا اقتحم الكماة وطيسا)

(فإليه تستبق الْجَوَارِي شرعا

وَإِلَيْهِ تحتث الحداة العيسا)

وَله أَيْضا من قصيدة

(هَل الْمجد إِلَّا مَا تجرّ العزائم

وَإِن ريع يَوْمًا فالسيوف تمائم)

(وَإِن لَاحَ من وَجه الزَّمَان تجهم

فوجهك وضاح وثغرك باسم)

وَمِنْهَا

(سأفري أَدِيم الأَرْض فِي طلب الْعلَا

وأركب عزماً لم تقده العزائم)

(وأخطب آمالي بِمَا هُوَ مطلبي

وَلَو منعتني الفاتكات الصوارم)

(وحسبي عضب صَادِق الْعَزْم صارم

ألدّ إِذا كَانَ الزَّمَان يُخَاصم)

(أَشْيَم بِهِ الْبَرْق اليمانيّ موهناً

وأهدي بِهِ السارين وَاللَّيْل عاتم)

وَله أَيْضا

(أيا حمام هَل لَك من ضلوعي

زفير أَو لَك الدمع السّفوح)

(فقد أشبهتني مَاء وَنَارًا

وهيهات المعنّى والسريح)

ص: 281

160 -

أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن ابْن الشَّيْخ المكرّم أبي مُوسَى

كَانَ بقرطبة فِي إياله عَمه الشَّيْخ المكرّم أبي الْعَبَّاس وَبعد ذَلِك صَار إِلَى مرّاكش عِنْد انبعاث الْفِتْنَة المبيرة بالمغرب فَهَلَك هُنَالك وَكَانَ لِدَة أَخِيه الْمَذْكُور بعده ولدا جَمِيعًا سنة ثَلَاث وَسبعين وَخَمْسمِائة وَهُوَ الْقَائِل فِي وسيم شاكّ السِّلَاح وأجاد مَا أَرَادَ

(يَكْفِيك يَا معتقل السّمهري

مَا نالنا من طرفك الأحور)

(إِن كنت من جندك فِي قلَّة

فَأَنت من لحظك فِي عَسْكَر)

161 -

أَخُوهُ أَبُو عَليّ عمر

ولى بالأندلس جيّان وَغَيرهَا وَكَانَ فِي سنتي ثَمَان عشرَة وتسع عشرَة وسِتمِائَة على خيل بلنسية فِي إيالة عَمه الشَّيْخ المكرّم أبي سعيد رضوَان الله على جَمِيعهم ثمَّ ولى فِي هَذِه الدولة الْمُبَارَكَة الَّتِي بهَا انتصار الْإِسْلَام وافتخار الْأَيَّام مَدِينَة بجاية وقتا وَهُوَ على قَاعِدَة المهدية من شهر الله الْأَصَم رَجَب سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة إِلَى وقتنا هَذَا وَهُوَ شهر الله الْمحرم من سنة سِتّ وَأَرْبَعين

وَفِي شهر ولَايَته ثمَّ فِي يَوْم الْخَمِيس الثَّانِي مِنْهُ كَانَت الْبيعَة الْمُبَارَكَة بِولَايَة الْعَهْد الْكَرِيم لمولانا الْأَمِير الْأَجَل الأسعد الْمُبَارك الأرصي الأمجد أبي يحيى أيد الله مقَامه وَقصر على نظم الْفتُوح ونثر المنوح ظعنه ومقامه وَكَانَ لأبي عليّ هَذَا وصل الله علاءه فِي ذَلِك الْيَوْم الْأَعَز الْأَغَر مقَام مَحْمُود ومقال مَحْمُول

ص: 282

ولعبدهم المقتصر على خدمَة مجدهم بِمَا لَا يقصّر فِيهِ من تحبير مدحهم وتحرير حمدهم كلمة إِذْ ذَاك يَرْجُو لِأَن يَتَجَدَّد لَهُ بهَا قبُول ويسعد مأمول بمأمول أَولهَا

(أشاد بهَا الدَّاعِي المهيب إِلَى الرّشد

فهبّ لَهَا أهل السَّعَادَة بالخلد)

(ولَايَة عهد أنْجز الحقّ وعده

بتقليدها من أَهله الصَّادِق الْوَعْد)

(وبيعة رضوَان تبلّج صبحها

عَن الْقَمَر الوضّاح فِي أفق الْمجد)

(تجلّت وجلّت عزة فليومها

من الدَّهْر تفويف الطّراز من الْبرد)

(وحلّت بِسَعْد الأسعد الشَّمْس عِنْدهَا

فأيّد فِي أَثْنَائِهَا السعد بالسعد)

(وَلما أَتَت بَين التهاني فريدة

تخيّرها التَّوْفِيق فِي رَجَب الْفَرد)

وَمِنْهَا

(أَبى الدّين وَالدُّنْيَا وُلَاة سوى بني

أبي حَفْص الأقمار والسّحب والأسد)

(وَإِن ضايقت فِيهَا الْمُلُوك وعّددت

مَنَاقِب تحكي الشّهب فِي الظّلم الرّبد)

(فَإِن كتاب الله يفضل كلّه

وَقد فضلته بَينهَا سُورَة الْحَمد)

(وَفِي شجرات الرَّوْض طيب معطّر

صباه وللأترجّ مَا لَيْسَ للرّند)

(وكلّ سلَاح الْحَرْب باد غناؤه

وَلَكِن لِمَعْنى أوثر الصارم الْهِنْدِيّ)

(على زكريّاء بن يحيى التقى الرّضا

كَمَا الْتَقت الأنداء صبحاً على الْورْد)

(على المرتضى بن المرتضى فِي أرومة

نمت صعداً بالنّجل وَالْأَب والجدّ)

(على المكتفي والمقتفي نهج قَصده

ومشبهه فِي الْبَأْس والجود والجدّ)

ص: 283

وَشعر أبي عليّ أعزه الله كثير وَقد وقفت على ديوانه وَسمعت مِنْهُ غير قصيدة وَقطعَة بِلَفْظِهِ وَمن ذَلِك كلمة بعث بهَا إِلَى قبر النَّبِي صلى الله عليه وسلم صُحْبَة الْحَاج أبي بكر بن الْعَرَبِيّ الإشبيلي أوّلها وأنشدني جَمِيعهَا

(أصبح من صبره على أمل

قسّم بَين الْوُجُود والعدم)

(إِلَيْك ألْقى بِعُذْر محتشم

مرتحل الْقلب سَاكن الْقدَم)

(يتبع ركب الْهوى إِلَيْك أسى

مَا شَاءَ من حسرة وَمن نَدم)

(برح شوق بِهِ إِلَيْك فَمَا

يَنْفَكّ مَا لم يزرك فِي ضرم)

(ألوي بِهِ عَن بُلُوغ نِيَّته

حكم زمَان عَلَيْهِ محتكم)

(فعزمة تلتوي على عقب

وهمة ترتمي إِلَى أُمَم)

وَمِنْهَا

(يَا خير من تعْمل المطيّ لَهُ

عُذْري فِي اللّّبْث غير متّهم)

(عَبدك لَو يَسْتَطِيع جاب إِلَيْك

القفر فِي غيهب من الظّلم)

(يمسح مَا بَين حمص مِنْهُ إِلَى

يثرب مرّاً بوجنة وفم)

(ولي ذنُوب وقصنني ثقلاً

لَوْلَا أَذَى ثقلهن لم أقِم)

(يرجوك يَا شَافِع الْبَريَّة أَن

تشفع فِيهَا لبارئ النّسم)

(عَسى قبُول لديك يلحقني

بقبرك المستنير وَالْحرم)

(وصاحبيك اللَّذين خصّهما

بِنِعْمَة الْقرب مِنْك ذُو النعم)

(فقد توسلت بِالَّذِي لَك عِنْد

الله من رفْعَة وَمن عظم)

ص: 284

(صلى عَلَيْهِ الْإِلَه مَا اتصفت

أَوْصَافه بالجلال وَالْكَرم)

وَله فِي وصف سيف

(يسيل إِذا مَا سلّ مَاء ويلتظي

لهيباً على الْإِتْلَاف يأتلفان)

(كَأَن جدولاً مُسْتَقْبلا شفق الدجى

فَلَا يققٌ مِنْهُ الْعباب وقان)

وَله فِي صناب أهْدى إِلَيْهِ وألغز بوصفه من أَبْيَات

(بعثت بِمَا يَشْتَهِي يَا ابْن عمّ

فدمت ودامت عَلَيْك النّعم)

(بأبيض كالمخض لكنه

بِهِ شدَّة تستثير القرم)

(طفاوته تحتهَا لجة

بِلَا ضرم دهرها تضطرم)

(كثير الحرافة مستعذب

عَلَيْهَا وللملح فضل علم)

(لسورته سطوة بالأنوف

وَلَيْسَ لعمرك مِمَّا يشمّ)

(شِفَاء ولكنّ نعم الشِّفَاء

لمن ظلّ يشكو بداء البشم)

(وَقد يجتزي الجفلى باليسير

مِنْهُ وَلَيْسَ لأمر يذمّ)

وَكتب إليّ مَعَ تمر أهداه حرس الله سناه وسنّاه

(أتتك خليقات بِحسن الْخَلَائق

بهَا غنية عَن كل مَا فِي الحدائق)

(سليلات جَبَّار حكى وسط دوحه

خوافق بالمرّان فَوق الفيالق)

(حوامل لم تعلم مَوَاقِيت حملهَا

وَلَا حمّلت من فَم حكم طَالِق)

(تجود إِذا مَا الْجُود عمّ بعزّه

وسحّ من الخضراء سحّ بوادق)

(ممنّعة فِي سامق مَا ارتقت لَهَا

بنان وَلَا بَانَتْ بهَا يَد سَارِق)

ص: 285

(عثاكلها مثل الشذور تذلّلت

بسالفة الغيداء أَو كالقراطق)

(فللنضر مِنْهَا حسن لون لناظر

وللزّهو مِنْهَا طيب طعم لذائق)

(كَأَن بِمَا تبدي وتضمر أنسبت

شمائلها من مُؤمن ومنافق)

(لَهَا جسم أوّاه شحوباً وَمن نوى

فؤاد حكى من قسوة قلب فَاسق)

(وَمَا ضرّها إِذْ قد أَبَاحَتْ لطاعم

حلاوتها أَلا تفوح لناشق)

وَمِنْهَا

(فصفحاً عَن الْمهْدي ومهدي ورقعة

أتتك بعجز لَا بإعجاز خارق)

(وَيَرْمِي إِذا يَرْمِي القوافي بصائب

من الْفِكر لم يصحب بفوق مُوَافق)

(وَقد كَانَ يصمي حِين يَرْمِي كَأَنَّمَا

لَهُ خاطر أفكاره من جلاهق)

(سري دهره فِي نشره فتفرقت

شبيبته إِذْ لَاحَ شيب المفارق)

فراجعته بِأَبْيَات مِنْهَا

(أمولاي حق العَبْد تَقْرِير عذره

إِذا هُوَ لم يلق الْحُقُوق بلائق)

(منائح أسدتها مناح كَرِيمَة

تفوّف للأحداق مثل الحدائق)

(وتبريّة الأكمام شهديّة الجنى

حلت وتحلّت زاكيات الْخَلَائق)

(لَهَا عجم فِي الْعَرَب ولّد منجباً

وحسبك مِنْهَا بالسّوامي السّوامق) كأنّ بِأَعْلَاهَا إِذا احمرّ بشرها

مشاعل تهدي فِي الدجى كلّ طَارق

(كَأَن بهَا الماذي يجمد تَارَة

ويقطر من راقي المكانة رائق)

(كأنّ الَّذِي تهديه من تمرها اغتذى

بريقة موموق ورقة وامق)

ص: 286

(مننت بهَا منثورة وشفعتها

بمنظومة كالعقد فِي نحر عاتق)

(من الْكَلم اللائي انتمين إِلَى الْعلَا

وشرّفن بالتسديد بيض المهارق)

فَكتب مجاوباً وللتشريف المنيف واهباً

(أَتَت فخبا من نورها نور شارق

ولاحت فَلم يلمح وميض لبارق)

(وَجَاءَت موشاة من أقلامك الَّتِي

بريقتها راقت صفاح المهارق)

(فَمَا شِئْت من لفظ لمعناه حَافظ

وخطّ لَهُ حظّ من الْحسن فائق)

(فروض بنان فاتن حسن زهره

وَروض بَيَان مثمر بالحقائق)

(جلوتهما فِي رقْعَة فأرت لنا

محلّ محلاّة وأوراق رائق)

(وكالخمر إطراباً ولكنّ سكرها

تحوّل شكرا للمدير الْمُوَافق)

(كأنّ بريق الحبر فِي صفحاتها

يريق على رأد الضّحى ريق عاشق)

(غَدَتْ باحورار تستبي كلّ مقلة

وتغري بتبريح الْهوى كلّ رامق)

(تميس برِيح الْحسن زهواً سطورها

كَمَا مَاس خوط البان وسط الحدائق)

(من اللُّؤْلُؤ المنظوم لفظا تعطلت

بلألائه لألاء درّ المخانق)

(تبدّت فأسلت عَن هوى كلّ عاشق

وأغرى بصمت قَوْلهَا كلّ نَاطِق)

(مطرزة مَا الْبرد مِنْهَا وَإِنَّهَا

لمنه وَمَا سبق العصور بلائق)

(لَهَا نَغمَة تهدي بهَا أكؤس الطّلا

وتحدي المهاري بَين سَاق وسائق)

(كَأَن بهَا نَارا تشعشع للقرى

فيعشو إِلَيْهَا كلّ سَار وطارق)

(أهبت بهَا سراًّ فلبّت مجيبة

بهزّة معشوق وَطَاعَة عاشق)

ص: 287

(فَجَاءَت كَمَا شَاءَت وشئت مُقِيمَة

وخافقة بالْحسنِ فِي كلّ خافق)

(وَجئْت بهذي مثل هاد وصائد

وَقد شاف أظلال الْعقَاب بباشق)

(وَمن يقتحم مَا لَا يُطيق اقتحامه

يلاق الَّذِي بِالْحرِّ لَيْسَ بلائق)

فَكتبت إِلَيْهِ ممتدحا مستمنحاً

(لمن كلم كَاللُّؤْلُؤِ المتناسق

لَهَا فضل موصوفاتهنّ البواسق)

(نفائس كالأعلاق تجتذب النّهى

لفتنتها من حسنها بعلائق)

(جلائل أَلْفَاظ إِذا مَا قرأتها

قريت معينا من معَان دقائق)

(يَجِيش بهَا بَحر من الْعلم والندى

حبا كلّ أفق من حلاه بفائق)

(ملاكيّة سيقت لتشريف سوقة

وَحسب الْأَمَانِي من مسوق وسائق)

(مطهرة الأعراق لَيْسَ لمعبد

بأبياتها شدو وَلَا لمخارق)

(نمتها الْمَعَالِي وَالْهِدَايَة والتّقى

فَجَاءَت لعادات القريض بخارق)

(أَلا بِأبي مِنْهَا هديّ بلاغة

تناغى المهى محجوبة فِي المهارق)

(شَقِيقَة روض الْحزن باكره الحيا

فحيّا بغضّى نرجس وشقائق)

(أطالع من قرطاسها كلّ غارب

محَاسِن تَلقانِي بطلعة شارق)

(وألثم من أسطارها كلّ فاتن

بِمَا يجتلي من رقمها كلّ رامق)

(ولوعاً بيمنى نمنمتها حديقة

تزهّد أحداق الورى فِي الحدائق)

(كَأَنِّي مِنْهَا فِي نسيم نوافح

تهبّ أصيلاً أَو شميم نوافق)

(تدانت رحيباً شأوها وَتَبَاعَدَتْ

فَضَاقَ نطاقاً عِنْدهَا كل نَاطِق)

ص: 288

(رشفت بهَا مثل الثغور عذوبة

فأقصرت عَن ذكر العذيب وبارق)

(وملت إِلَيْهَا والفصاحة ملؤُهَا

صحيفَة ضخم السّرو ضخم السّرادق)

(يشقق أَطْرَاف الْكَلَام لِسَانه

فيثني الفحول اللّسن خرس الشّقاشق)

(وقور فَإِن هزّته نَغمَة صادح

رَأَيْت قَضِيبًا مِنْهُ أثْنَاء شَاهِق)

(سما بِأَبِيهِ حِين سمّوه باسمه

فَللَّه من سامي الْمَرَاتِب سامق)

(ميمّم مرضاة الإِمَام بِسَيْفِهِ

وموضح خافي الْهدى فِي كلّ خافق)

(سميّ الَّذِي استسقى بعم نبيه

فأخمد برد الودق حرّ الودائق)

(وَوَافَقَ فِي عهد الرسَالَة ربّه

وناهيك من توفيق ذَاك الْمُوَافق)

(من الصفوة الْأَبْرَار صيغوا وصوروا

لمَوْت أعَاد أَو حَيَاة أصادق)

(إِذا حقّ أَو حاف اضطهاد بِأمة

تخلصها مِنْهُم حماة الْحَقَائِق)

(أمولاي إغضاء فللفكر نبوة

وَلَا نبو إِلَّا لاعتراض الْعَوَائِق)

(على أَنَّهَا الغايات أعيا لحاقها

فَلَا سبق فِيهَا للوجيه وَلَا حق)

(إِلَى الْعَجز يلوي بعد لأي عنانه

وَإِن عدّ صَدرا فِي الْعتاق السوابق)

(وأنّي لمثلي أَن يساوق مثلهَا

وَمَا قس البراسا من مسَاوٍ مساوق)

(ولكنني فِيهَا على نهج خدمَة

لأنعم من أرفاقها بمرافق)

(سَلام عَلَيْهَا ساحة مولوية

ملم لهاها الْبيض غير مفارق)

(تجود بِوَضْع الدّين من سَعَة الندى

وتضرب صفحاً عَن تقاضي المضايق)

ص: 289

فراجع مشرّفاً عَنْهَا بقصيدة مباركة مِنْهَا

(أَتَت كَثْرَة كالجحفل المتضايق

وَقد سَالَ مِنْهَا كلّ شعب وشاهق)

(وفاض على شهب المهارق سيبها

كَمَا فاض بعد الْفجْر نور الْمَشَارِق)

(كأنّ بصيص الحبر فَوق اسوداده

مذاب زجاج إثمديّ المعالق)

(جرى فَوْقه دهن فخطّت بِمَا جرى

وَمَا ذاب فِي القرطاس أَقْلَام ماشق)

(وَلَا عيب فِيهِ غير أَن رقومه

تلوح احوراراً فِي لحاظ المهارق)

(وتبلغ سرّ العاشقين وَلم يغب

رَقِيب فيشقى من تنعم عاشق)

(غَدَتْ كغصون الشوك شعثاً سطوره

وَفِي ضمنهَا مَا ضم زهر الحدائق)

(وَمَا هِيَ إِلَّا معجزات تظاهرت

لتعجيز ذِي دَعْوَى وتصديق صَادِق)

(أتيت بِمَا لَا يُسْتَطَاع تحدياً

وَجئْت ببدع للعوائد خارق)

(فتبنا من الدَّعْوَى وَلَا من معاند

وثبنا لإيمان وَمَا من مُنَافِق)

وَله أعزه الله وَكتب إليّ بِهِ مُلْتَزما فِيهِ مَا لَا يلْزم

(أنفذت نظمي قبل تَنْقِيح لَهُ

فئوت بِهِ أَذَى مليّاً تعرك)

(وأخو البديهة لَيْسَ يَخْلُو قَوْله

مِمَّا يعوّض عَنهُ أَو يسْتَدرك)

(وأصحّ حَال فِيهِ مَا روّيته

وَرَأَيْت وقتا فِيهِ وقتا يُشْرك)

(فلئن كَفَفْت عَن القريض فَصَالح

وَلَئِن تركت الكفّ عَنهُ لأنرك)

(وَأرى الْإِصَابَة كالهديّ وروحها

طوراً تهيم بِهِ وطوراً تفرك)

(إِن البديع لمدرك لكنه

مَعَ ذَاك مَا فِي كلّ وَقت يدْرك)

ص: 290

وَله فِي حلواء

(خُذْهَا إِلَيْك شَقِيقَة لسجية

لَك طالما سرّت فِرَاق فريقها)

(تتحلب الأفواه عِنْد مذاقها

طيبا تحلّبها لرشف رحيقها)

(وافتك فِي أفق الخوان وَقد حكت

للشمس عِنْد غُرُوبهَا وشروقها)

(تعزى إِلَى عذب المجاجة مِثْلَمَا

نفث البلاغة قَائِم بحقوقها)

(من كل خافقة الْجنَاح لتجتني

زهر الخمائل من أعالي نيقها)

(تنمي لآل الْوَحْي آيَة سنخها

فتسلّم اللهوات فِي تصديقها)

(لَا غرو فِي بشر الطباع لوقدها

فَالنَّفْس تأنس بالتماح رفيقها)

(وترقّ إِذْ يشدي لَهَا بنسيمها

كالنحل تلهج إِذْ يجاء بريقها)

وَله من أَبْيَات فِي المجبّنات

(وربّ زائرة معسولة الْخلق

تعزى لزهر الرّبى والوابل الغدق)

(جَاءَت وَفصل الرّبيع الطلق يحفزها

كالطيف يطْرق من أغفى على قلق)

(محمرة اللَّوْن وَالْفضل الْمُبين لَهَا

على الغرالة إِذْ تبدو على الْأُفق)

(كَأَنَّهَا هِيَ إِلَّا أَن بَينهمَا

مَا بَين مَحْض النَّعيم العذب والحرق)

ص: 291

(كَأَنَّهَا وبنان الْقَوْم يغمزها

بدر تشقّق عَنهُ حمرَة الشَّفق)

وَهَؤُلَاء خَاتِمَة الشُّعَرَاء من الْأُمَرَاء وَأَبْنَائِهِمْ على الشَّرْط الَّذِي لَا يسوغ معنى الْتِزَامه لفظ أسمائهم

وَلَو نسئت بالأندلس إيالة الْإِسْلَام لنسقت على الْعَادة محَاسِن الْكَلَام

وَلَكِن فِي هَذِه الْمِائَة الْأَخِيرَة أدْرك مرامهم الرّوم فِي الجزيرة واستحكمت إبارتهم لَهَا بِحكم الْفِتْنَة المبيرة حَتَّى ملكوها وجزائرها بَين الصُّلْح والعنوة وَغَايَة أَهلهَا إِلَى هَذِه الْغَايَة أَن يتساقطوا على العدوة وكل مِنْهُم مفلت بجريعة الذّقن ومسلّم لعَدوه الْكَافِر مَحْبُوب الوطن

كم تركُوا من جنّات يدوسون غلالها وديار يجوسون خلالها وعيون يفجر تغويرها الْعُيُون دَمًا وزروع مَا عدا وجودهَا أَن عَاد عدماً ثمَّ لَا انتصار بِغَيْر العبرات وَلَا اقْتِصَار إِلَّا على الزفرات والحسرات وَلم يبْق الْآن إِلَّا إشبيلية أمّ الْقَوَاعِد والمدائن ومأمّ الركائب والسّفائن وَقد أشفت على الذّهاب واستوفت على الخراب فِي حسن المصابرة ورزؤها خَاتم الأرزاء وثكلها الدَّافِع فِي صدر العزاء نَعُوذ بِاللَّه من بأسه وتنكيله ونعود إِلَى مَا كُنَّا بسبيله

ص: 292

162 -

إِبْرَاهِيم بن إِدْرِيس بن أبي إِسْحَاق ابْن جَامع أَبُو إِسْحَاق

ولى سبتة إِلَى أشغال بحرها فِي آخر وزارة أَخِيه أبي الْحسن عَليّ بن أبي الْعلَا وَأول الْفِتْنَة المنبعثة صدر سنة إِحْدَى وَعشْرين وَفِي ذَلِك الْعَام صرفا جَمِيعًا وَقتل عليّ مِنْهُمَا بِجَزِيرَة طريف فِي رَمَضَان سنة سِتّ وَعشْرين وَتُوفِّي إِبْرَاهِيم فِيمَا أَحسب قبل ذَلِك وَكَانَ فِي بَيته الْمَخْصُوص بالوزارة مَوْصُوفا بِحسن الإدارة على أَن جَمِيعهم لأشتات السّرو جَامع وَمَا مِنْهُم إِلَّا لَهُ حلم أصمّ وجود

ص: 293

سامع أبقت على بقاياهم الدولة الحفصية فَأَصْبَحت أيامهم العصية وأكثبت آمالهم القصية وَهَا هم قد نهضوا بالأعباء وانفردوا بالمحاباة فِي الأحبّاء حَتَّى جرى الْأَبْنَاء مجْرى الْآبَاء

وَلأبي إِسْحَاق هَذَا امتياز بِفضل أدب واعتلاق مِنْهُ بِسَبَب وَهُوَ الْقَائِل يُخَاطب أَبَا بكر بن يزِيد بن مُحَمَّد بن صقْلَابٍ عَامل المريّة

(يَا نازحاً حبّه وَكيد

وَمن تراعى لَهُ العهود)

(حللت مني مَحل نَفسِي

فَأَنت دَان مني بعيد)

(إِن قَالَ إلْف قد ملّ إلفي

وودّه نَاقص يبيد)

(قلت لَهُ زارياً عَلَيْهِ

يزِيد فِي حبّه يزِيد)

فَكتب إِلَيْهِ مَعَ نثر بِأَبْيَات مِنْهَا

(قدك اتّئب أَيهَا الحسود

دارت على راحتي السُّعُود)

(واهتز عطف الزَّمَان لينًا

وَكم عسا للزمان عود)

(أجني يَدي بعد مَا تجنّى

زهر الْأَمَانِي كَمَا أُرِيد)

(فمسرحي ممرع جميم

ومشرعي سلسل برود)

(وكل ليل عليّ صبح

وكل يَوْم لدىّ عيد)

ص: 294

163 -

سُلَيْمَان بن الْحَاج عبد الله ابْن ويفتن أَبُو الرّبيع

عَامل إفريقية وَكَانَ قبل ذَلِك والياً على قابس وَغَيرهَا واستنيب على حَضْرَة تونس أيدها الله وَمن شعره يُخَاطب بعض الْمُلُوك وَقد قَصده فحجبه وأنشدني ذَلِك لَهُ من سَمعه مِنْهُ

(يَا أَيهَا الْملك الَّذِي

ضنّت بِهِ حجب الجلاله)

(جد لي بِإِحْدَى الحسنيين

من الرَّسُول أَو الرسَالَة)

164 -

عبد الله بن مُحَمَّد بن وَزِير أَبُو مُحَمَّد

قد تقدم ذكر أَبِيه أبي بكر فِي آخر الْمِائَة السَّادِسَة وَأَنه كَانَ والياً على قصر الْفَتْح وَمَا إِلَيْهِ من الثغر الغربي وَبعد وَفَاته ولى عبد الله ذَلِك وَكَانَ أكبر بنيه وَالْوَارِث دون إخْوَته أدبه ورتبه

وَلم تطل ولَايَته وَلَا كَادَت تتبين كِفَايَته حَتَّى نازله الإفرنج وتغلبوا عَلَيْهِ فِي جُمَادَى الأولى سنة أَربع عشرَة وسِتمِائَة بعد وقيعة هُنَالك فقد فِيهَا آلَاف من الْمُسلمين بتخاذل رُؤَسَائِهِمْ يَوْم التقى الْجَمْعَانِ وَهِي إِحْدَى الكوائن المنذرة حِينَئِذٍ بِمَا آل إِلَيْهِ أَمر الأندلس الْآن وَأسر عبد الله هَذَا وَمن كَانَ مَعَه ثمَّ تخلص من تِلْكَ الْحَال بحيلة تَوَجَّهت لَهُ

ص: 295

وَاسْتعْمل بعد وفادته على مرّاكش إِثْر خلاصه وقبضت عَلَيْهِ الْعَامَّة بإشبيلية بَلَده بتحريك مُحَمَّد بن يُوسُف بن هود الملقب بالمتوكل إِيَّاهَا عَلَيْهِ وعَلى أهل بَيته وسيق إِلَيْهِ فَقتله وأخاه أَبَا عَمْرو عبد الرَّحْمَن مُنْصَرفه من الوقيعة الْعُظْمَى عَلَيْهِ بماردة من الثغر الجوفيّ فِي سنة سبع وَعشْرين وسِتمِائَة

وَهُوَ الْقَائِل فِي عُثْمَان بن نصر أَمِير قومه الرّياحييّن عِنْد الصفح عَنهُ بعد الْقَبْض عَلَيْهِ

ص: 296

(قَالُوا عَفا الْأَمِير عَن عُثْمَان قلت لَهُم

سيوسع الْملك الْإِحْسَان والصّفدا)

(مَا كَانَ أولاه من عَفْو وأوقعه

لَو أَن ذَلِك فِي الْيَوْم الَّذِي وردا)

(لكِنهمْ لحظوا لحظ الرءوف أما

يُؤَدب الْوَالِد المستصلح الولدا)

(كالبحر لَا تقذف المرجان لجته

إِلَّا إِذا قذفت أمواجه الزبدا)

وحدّثت أَن أَبَاهُ أَبَا بكر مرّ فِي بعض أَسْفَاره بوادي الْحمام وَهُوَ مَا بَين أركش وَبَين مَدِينَة ابْن السّليم فَسمع غناء حمامة فَقَالَ

(أحمامة ناحت على وَادي الْحمام

خلّى ادّعاء جوى المشوق المستهام)

(أَيْن الدُّمُوع وَأَيْنَ لبس الْحزن أم

أَيْن التلذّذ بَين أثْنَاء الْخيام)

(أحللت أَنْضَرُ أيكة تهفو على

وَاد تصفّق إِذْ خلوت من الغرام)

(وصدحت بالكف الخضيب كموقع

ببنانه يَتْلُو بهَا نغم الْكَلَام)

وَزَعَمت أَنَّك هَامة لليوم أَو

غده وشأنك يَا حمام سوى الْحمام)

(أَنا ذَاك لي جسم عَفا بالسّقم إِذْ

وفّى لعلوة غير مَذْمُوم الذمام)

(مَا كنت أعلم قبله أنّ الجوى

يبري الجسوم كَمثل مَا يبري الحسام)

ص: 297

ثمَّ إِن عبد الله ابْنه هَذَا مرّ بِهِ بعد حِين فَتذكر قَول أَبِيه فِيهِ فَقَالَ

(أحمامة الْوَادي أخفت من الْحمام

فشكوت مَا تلقين شكوى المستهام)

(كذب الْحمام فَأَيْنَ دَعْوَى مظهر

أشجانه من ذِي خَفَاء واكتتام)

(شهِدت دموعي والجوى وَلَو أنني

خَاصَمت بالجسم السقيم كفى السّقام)

(بل قد عذرتك يَا حمام فَلم تطق

عوناً يبين عَن الَّذِي بك من أوام)

(مَا باختيارك خضّبت كف وَلَا

قلّدت طوقاً مَا لَهُ عَنْك انفصام)

(أَو مَا ترى الكحلاء طبعا تَشْتَكِي

ثكلاً وناظرها يدل على اتهام)

(ردي الهديل فإنني أشجي بِهِ

يَا لَيْتَني لم أدر يَوْمًا مَا الغرام)

وَوجدت مَنْسُوبا إِلَيْهِ

(بدا محيّا جَابر

وَاللَّيْل ملق أزره)

(والبدر قد قابله

وَالْمُشْتَرِي والزّهره)

(فَقلت ذَا أَضْوَأ من

تِلْكَ الثَّلَاث النيّرة)

(فَقَالَ صحبي كلّهم

إِي وَالَّذِي قد صورّه)

وَهَذِه الأبيات قد أنشدنيها أَبُو بكر مُحَمَّد بن الْحَاج أبي عَامر مُحَمَّد بن حسن ابْن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الفِهري ببلنسيّة بعد سنة عشر وسِتمِائَة لشَيْخِنَا أبي الْحسن بن حريق وحَدثني أَنه سَمعهَا مِنْهُ عِنْد ارتجاله إِيَّاهَا فِي شبيبة أبي

ص: 298

الْحسن قَالَ وَكَانَ يمِيل إِلَى وسيم يعرف بِجَعْفَر الخضري فَقعدَ وَأَنا مَعَه فِي إِحْدَى اللَّيَالِي المقمرة بَين العشاءين ومعنا طَائِفَة من أترابنا ترتقب وُصُول جَعْفَر هَذَا فَلَمَّا أطل قَالَ ذَلِك وَأول الأبيات

(بدا محيا جَعْفَر

)

إِلَى آخرهَا إِلَّا أَنه قَالَ فَقلت ذَا أجمل مَكَان أَضْوَأ وَهِي بِابْن حريق أولى مَعَ أَنِّي لم أَجدهَا فِي ديوَان شعره إِذْ قرأته عَلَيْهِ وَلَا أَدْرِي كَيفَ نسبت إِلَى ابْن وَزِير

165 -

إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن صنانيد الْأنْصَارِيّ أَبُو إِسْحَاق

كَانَ أَبوهُ والياً على جيّان وَقد وَليهَا هُوَ بِآخِرهِ وَتصرف قبل ذَلِك بثغر بطليوس وهنالك صاحبته وَمِنْه خاطبني وخاطبته وأصل أوّليتّه من شقورة

ص: 299

وَكَانَت لِأَبِيهِ نكايات فِي العداة وعنايات بالعفاة حَتَّى لدوّنت أمداحه وَشهر بأسه وسماحه

وَأما ابْنه هَذَا فغلب الْأَدَب عَلَيْهِ وانتسب السّرو إِلَيْهِ وَإِلَّا يكن مَعَه بَأْس أَبِيه ومضاؤه فمعه معروفه الْمَعْرُوف وسخاؤه

حَدثنِي شَيخنَا أَبُو الْحسن بن حريق أَنه أَيَّام اشْتِغَاله بِجِهَة جيّان وتردده عَلَيْهَا فِي صدر هَذِه الْمِائَة لقى أَبَا إِسْحَاق هَذَا فأفهمه بِمُقْتَضى سروه الْحِرْص على مدحه ثمَّ بعث قريحته على ذَلِك بجزيل من منحه فَقَالَ فِيهِ قصيدته الفريدة الَّتِي أَولهَا وأنشدني جَمِيعهَا

(أعرى من الْمَدْح الطّرف الَّذِي ركبا

لماجرى فِي ميادين الصبّا فكبا)

(تمرّ وثباً بِهِ خيل الشَّبَاب فَلَا

يسطيع من مربط الْخمسين أَن يثبا)

(وَرُبمَا شقّ أسداف الظلام بِهِ

ركضاً وشقّ بِهِ الأستار والحجبا)

يَقُول فِيهَا

(يلقى الغواني بإنكار معارفه

وهنّ أقرب خلق مِنْهُ منتسبا)

(إِن كنّ سّمينه عصر الشَّبَاب أَخا

لَهُنَّ فاليوم أَحْرَى أَن يكون أَبَا)

(رعينه خضرًا رطبا فحين عسا

أتين يرعين ذَاك الإل والنسبا)

ص: 300

وَفِي مدحها

(لَا بُد أَن ينصر الْآدَاب مشترط

للمجد أَن ينصر العلياء والحسبا)

(ندب لآل صنانيد بِهِ رتب

فَاتَت برفعتها الأقدار والرتبا)

(تقدّمت بهم من فَضله قدم

داسوا بإخمصها الأقمار والشهبا)

(نالوا بسعي أبي إِسْحَاق مَا طلبُوا

ونال عفوا أَبُو إِسْحَاق مَا طلبا)

(يَا ضَاحِكا للمنى من مبسم لقطت

من لَفظه الدرّ واشتارت بِهِ الضّربا)

(ومفصحاً بنعم فِي كل مَسْأَلَة

إِلَّا لمن لامه فِي الْجُود أَو عتبا)

(كن لي كَمَا أَنْت فِي نَفسِي فقد عقدت

بيني وَبَيْنك أَسبَاب الْعلَا قربا)

(وَذَاكَ أَنَّك تهدي البرّ منتخباً

نحوي وأهدي إِلَيْك الْحَمد منتخبا)

وَمِنْهَا

(وسامع بك فِي أقْصَى مَنَازِله

أَفَادَ من رفدك الْأَمْوَال والنشبا)

(رجاك فامتلأت أرجاؤه بَدْرًا

وَلم يشدّ لَهَا رحلاً وَلَا قتبا)

(سوى قصائد والاها منقحة

أدَّت إِلَى راحتيه ثروة عجبا)

(صاغت لَهُ كيمياء الْجُود إِذْ وَردت

مِنْهَا نضاراً وَكَانَت قبلهَا كتبا)

(فَأَشْبَهت حَال بنت الْكَرم إِذْ خلصت

فِي الدّنّ خمرًا وَكَانَت قبله عنبا)

وَمن شعر أبي إِسْحَاق يعْتَذر إِلَى بعض الرؤساء من ترك زيارته لنقرس كَانَ يلازمه

(كم رام كاتبها زِيَارَة مجدكم

فتفوق عَن آماله آلامه)

ص: 301

(يَا ماجداً عذرا إِلَيْك فَإِنَّهُ

لَا تستقلّ بِحمْلِهِ أقدامه)

وَكتب إليّ مجاوباً فِي سنة سبع عشرَة وسِتمِائَة

(أَتَتْنِي فَقلت لَهَا مرْحَبًا

تَحِيَّة صدق تحلّ الحبا)

(يسير بهَا الْعَهْد مستحفظاً

ويسري النسيم بهَا طيّبا)

(يهبّ الْوَفَاء بهَا بارقاً

فيلثمني ثغره أشنبا)

(تأرّج لما سرى موهناً

يُؤَدِّي أمانات زهر الرّبى)

(وَقد نضح الطلّ أعطافه

فأنساك حسنا عهود الصّبا)

(تحمّل عَن ذِي الْهوى لوعة

يضيق عَلَيْهَا النَّوَى مذهبا)

(وزار فأدنى بعيد النَّوَى

وبعّد بالشوق مَا قرّبا)

(وَأهْدى من الود عرفا بليلاً

عليلاً يصحّ بِهِ من صبا)

(وذكّرني بالسّري مخلصاً

أسامر وجدا بِهِ الكوكبا)

(وَمَا كنت عَنهُ لبعد المزار

ذهولاً فأطلب مستعتبا)

(وَكَيف التناسي لمن قد غَدا

طرازاً بكمّ الْعلَا مذهبا)

(وقرطا عَليّ مسمعي ذكره

، معني على الْقلب مستعذبا)

(فبلّغه عني سَلاما جزيلاً

يسير مَعَ الْقلب مستصحبا)

(وَلَو كنت فِي ودّه منصفاً

لما نَاب عني نسيم الصّبا)

ص: 302

166 -

يحيى بن أَحْمد بن عيسي الخزرجي أبوالحسين

منتماه إِلَى قيس بن سعد بن عبَادَة صَرِيح وَحَدِيث نداه عِنْد رُوَاة علاهُ حسن صَحِيح وَولد بدانية دَار آبَائِهِ وَبهَا نَشأ ثمَّ أوطن شاطبة وأصهر بهَا إِلَى شَيخنَا أبي عمر بن عَاتٍ وَمَال إِلَى خدمَة السُّلْطَان فَمَا زَالَ يرتقي فِي معالي الْأُمُور دَرَجَة بعد أُخْرَى حَتَّى سَاد أَهلهَا ووليها من قبل مُحَمَّد بن يُوسُف بن هود الملقب بالمتوكّل إِلَى أَن توفّي فِي آخر شعْبَان سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة ووليها بعده أبناؤه والرئاسة مِنْهُم لأبي بكر مُحَمَّد

وَصَارَت إِلَيْهِ دانية مُدَّة يسيرَة إِلَى أَن تغلب الرّوم عَلَيْهَا مستهلّ ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين ثمَّ تملّك الرّوم أَيْضا شاطبة فِي آخر صفر من سنة أَربع وَأَرْبَعين بعد مهادنة ومداراة لطاغيتهم البرشلوني من حِين تغلبه على بلنسيّة فِي صفر أَيْضا وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء السَّابِع عشر مِنْهُ سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَكَانُوا قد شارطوا على سكانها بإتاوة مَعْلُومَة

وَفِي وقتنا هَذَا وصل بعض الشاطبيين يخبر أَنه أجلاهم عَنْهَا مَعَ أهل جهاتها وهم أُلُوف من الْمُسلمين فَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَاد وَأَوَى أَبُو بكر هَذَا فِي خاصته إِلَى حصن بمقربة مِنْهَا وَذَلِكَ فِي رَمَضَان من سنة خمس وَأَرْبَعين

ص: 303

وَلأبي الْحُسَيْن فَضَائِل مَذْكُورَة ومآثر مأثورة ورزق قبولا مازال بِهِ مأمولا من رجل يجْرِي على أعراقه فيدع الضّنانة بأعلاقه ويسع النَّاس بأمواله كَمَا يسعهم بِحسن أخلاقه يلقِي الْوُفُود مرْحَبًا ويلفي كَمَا عوّد الْجُود الَّذِي تقيّل فِيهِ الجدود منسحباً

(وَكلما لَقِي الدِّينَار صَاحبه

فِي ملكه افْتَرقَا من قبل يصطحبا)

وَأول ظُهُوره فَفِي الْفِتْنَة المنبعثة فِي أول سنة إِحْدَى وَعشْرين وَكَانَت بضاعته الْأَدَب مَعَ مشاركته فِي غَيره ويغلب عَلَيْهِ تحبير النثر أَكثر من تجويد الشّعْر

وَهُوَ الْقَائِل معتذراً إِلَى بعض الْأُمَرَاء

ص: 306

(إِن قصّرت فِي خدمَة محسوسة

فِيمَا مضى من دهري الْمُتَقَدّم)

(فلنيّتي مَكْنُون خدمتها الَّتِي

عقلت وَإِن حجبت لمن لم يفهم)

(ولديّ عذر فِي التَّخَلُّف أولاّ

وَلكم حلوم فَوق جرم المجرم)

(وَإِذا محا مَا قد تقدّم عفوكم

فولاء رقّي ثَابت للمنعم)

(وَلَقِيت عِنْد لقائكم مَا أمّلت

نَفسِي وَلَكِن كَيفَ لي بمسلّم)

(وضراعتي فِي أَن يكون قبولكم

فَوقِي بِمَنْزِلَة الرِّدَاء الْمعلم)

وَله يُخَاطب أَبَا عبد الله بن عَيَّاش الْكَاتِب من قصيدة

(مَالِي يَد بجزاء مَا أسديته

والكفّ تقصر عَن محلّ الْكَوْكَب)

(إِنِّي وقفت على جنابك همتي

وَجعلت ربعك كعبتي ومحصّبي)

(وَلَئِن سَأَلت عَن الَّذِي أَنا طَالب

مَالِي سوى نيل الْعلَا من مطلب)

وَله

(عزاء أَبَا عَامر إِنَّه

وَإِن كَانَ رزؤك رزءاً جَلِيلًا)

(فَإِن الرَّسُول قضى فاجعلن

عزاءك عَمَّن يَمُوت الرسولا)

(وَقدر التصّبر قدر الثَّوَاب

فصبراً توفّ الثَّنَاء الجميلا)

وأنشدني لَهُ ابْن أَخِيه أَبُو الْحُسَيْن عَزِيز بن أبي عَمْرو سعد بن أَحْمد فِي وسيم أسمر أَزْرَق أرمد

ص: 307

(عابوه أسمر ناحلاً ذَا زرقة

رمداً وظنوا أَن ذَاك يشينه)

(جهلوا بِأَن السّمهريّ شبيهه

وخضابه بِدَم الْقُلُوب يزينه)

167 -

عَزِيز بن عبد الْملك بن مُحَمَّد ابْن خطاب أَبُو بكر

كَانَ لَهُ مَعَ شرف الْبَيْت ونباهة السّلف تقدم مَعْلُوم فِي الْعُلُوم وتميز بالمشاركة فِي المنثور والمنظوم وَولى مرسية بَلَده من قبل ابْن هود المتَوَكل وَهُوَ الثائر بِموضع مِنْهُ يعرف بالصخور فِي آخر رَجَب سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة وَدخل مرسية بمواطأة قاضيها حِينَئِذٍ أبي الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد القسطلّي قتيله بعد وَقبض على واليها وَذَلِكَ فِي أول يَوْم من شهر رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَمِنْهَا ملك بِلَاد الأندلس بأسرها إِلَّا بلنسيّة إِلَى أَن هلك بقصبة المريّة لَيْلَة الْخَمِيس السَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى سنة خمس

ص: 308

وَثَلَاثِينَ وَكَانَ أمره عجبا لَوْلَا أَنه أورث عطباً وأعقب شجباً وَفِي ولَايَة أبي بكر هَذِه قدم عَلَيْهِ أَبُو بكر مُحَمَّد بن أَحْمد بن الصَّابُونِي الإشبيلي شَاعِر وقته وَذَلِكَ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ فامتدحه بقصيد فريد أَوله

(أَهلا بطيف خيال مِنْك منساب

أدال عتبك عِنْدِي حِين إعتابي)

يَقُول فِيهِ

(لَا درّ درّ ليَالِي الْبعد من زمن

يطول فِيهِ اجتراع الصّبّ للصّاب)

(نابت صروف نبا بِي عِنْدهَا وطني

قرعت نابي لَهَا من رحلي النابي)

(جوّابة الأَرْض لَا ألوي على سكن

تمْضِي الركاب وتجري بِي لتجوابي)

(فِي الْفلك أَو فِي ظُهُور العيس منتقلاً

فِي مذهل اللّب بَين الموج واللاب)

(لَا أستكنّ بكانون لقرّته

وَلست آبي من التهجير فِي آب)

ص: 309

(فَكُن بإدلاج تأويبي على ثِقَة

من أوبتي شجو أَعدَاء لأحباب)

(وَيَا معنّي بريب الدَّهْر يرهبه

لَا تبتئس بعد من إرهاق إرهاب)

(إِن أغريت بك أبكار الخطوب فلذ

مِنْهَا بمجد أبي بكر بن خطاب)

(بالسّيد الأوحد النّدب الَّذِي كملت

بِهِ الْعلَا بَين أَخْلَاق وأحساب)

(يلقِي بِهِ سَائِلًا جود وَمَعْرِفَة

طبّاً بتلقيح أَحْوَال وألباب)

(يحر من الْعلم يسْقِي من يلمّ بِهِ

وَيُرْسل السّحب للنائي بتسكاب)

(وعندما راعت الدُّنْيَا إيالته

)

(نَام الْأَنَام سكوناً بالمنى وهفت

بِالْمَالِ هَيْبَة غمر الْجُود وهّاب)

وَمِنْه

(لَوْلَا اعتناء عَزِيز مَا عززت على

دهري وَقد بزّ لمّا عزّ أسلابي)

(تقلّبت حركات الدَّهْر بِي غيراً

حَتَّى كَأَنِّي مِنْهَا حرف إِعْرَاب)

ثمَّ انْفَرد بتدبير مرسية بعد وَفَاة ابْن هود وطرد عَنْهَا أَخَاهُ عليّ بن يُوسُف الملقب بعضد الدولة ودعا لنَفسِهِ وبويع لَهُ فِي الرَّابِع من الْمحرم سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وتغلب عَلَيْهِ أَبُو جميل زيان بن مدافع بن يُوسُف بن سعد الجذامي فِي يَوْم الْجُمُعَة الْخَامِس عشر من شهر رَمَضَان من السّنة واعتقله قَلِيلا ثمَّ قَتله صبرا على أثر ذَلِك لَيْلَة الِاثْنَيْنِ السَّادِس وَالْعِشْرين من الشَّهْر

وَكَانَ فِي أول أمره أبعد النَّاس مِمَّا صَار إِلَيْهِ وتورط فِيهِ يؤذّن فِي

ص: 310

الْمَسَاجِد ويحيك الحلفاء ويصحب المتعبدين والرئاسة تهيب بِهِ لاحتيازه إِيَّاهَا من طَرفَيْهِ فَمَا لبث أَن أجابها مُقبلا عَلَيْهَا ومهرولاً إِلَيْهَا ليَكُون فِيهَا حتفه وَالله غَالب على أمره

وأخواله بَنو عِيسَى الخولانيون فتيَان الصَّباح وفرسان الكفاح وَأما آباؤه فكفاهم مجداً تالداً وذكراً خَالِدا مَا حكى ابْن حيّان فِي تَارِيخه الْكَبِير وقرأته بِخَط القَاضِي أبي الْقَاسِم بن حُبَيْش أَن أَبَا عمر أَحْمد بن خطاب وَهُوَ الْمَعْرُوف بالخازن ضيّف مُحَمَّد بن أبي عَامر وَرِجَال عسكره فِي اجتيازه إِلَى برشلونة فجَاء فِي الاقتدار على ذَلِك بِمَا صَار حَدِيثا بعده وَكَانَ فِي نِهَايَة من الثراء والسّرو والسماحة مَخْصُوصًا بصداقة ابْن شَهِيد

قَالَ وَكَانَ وَلَده أَبُو الْأَصْبَغ مُوسَى يحتذي حذوه فِي الدّهقنة وَهُوَ الَّذِي ضيّف أَيْضا طرفَة الْخَادِم مولى عبد الْملك بن أبي عَامر وَرِجَاله فِي اجتيازه بِهِ غازياً قوم أعانهم على الْحسب الثراء فَلهم فِي الْفضل مقاوم مَذْكُورَة وهم موَالٍ لبني مَرْوَان من ولد عبد الْجَبَّار الَّذِي ينْسب إِلَيْهِ الْبَاب المسدود من أَبْوَاب قرطبة وخلفهم الْيَوْم يدْفَعُونَ ذَلِك ويزعمون أَنهم عرب من الأزد تموّلوا للْقَوْم إيثاراً للدنيا فَالله أعلم بذلك

وَحكى ابْن حيّان أَيْضا فِي الدولة العامرية وَذكر غَزْوَة الْمَنْصُور مُحَمَّد ابْن أبي عَامر إِلَى برشلونة فِي سنة خمس وَسبعين وثلاثمائة وَهِي الثَّالِثَة عشْرين من غَزَوَاته فَجعل طَرِيقه على شرقيّ الأندلس وسلك طَرِيق إلبيرة إِلَى بسطة إِلَى تدمير فتضيّف بِمَدِينَة مرسية قَاعِدَة تدمير الْمَعْرُوف بِابْن خطّاب وَلم يسمّه وَكَانَ ذَا نعْمَة ضخمة وصنيعة وَاسِعَة وهمة علية فَمَكثَ عِنْده ثَلَاثَة عشر يَوْمًا يقوم بِهِ وبجنده وبخدمته جَمِيعًا على مقاديرهم

ص: 311

وَينفذ إِلَى بَاب كلّ وَاحِد مِنْهُم كلّ يَوْم وَظِيفَة من الدَّقِيق وَاللَّحم والفاكهة والقضيم وَصَارَ جَمِيعهم فِي كَفَالَة ابْن خطاب مَا بَين الْوَزير والشّرطيّ فَلم ينْفق أحد مِنْهُم لنَفسِهِ طول هَذِه الْمدَّة مِثْقَال ذرة وَكَانَ يجدد للمنصور كل يَوْم نوعا من الْأَطْعِمَة والفواكه لَا يشبه الَّذِي قبله نعم وَزَعَمُوا أَن ظروفه وأوعيته كَانَت تخْتَلف بِحَسب اخْتِلَاف أَنْوَاعه إِلَى أَن رَحل ابْن أبي عَامر مُتَعَجِّبا بِمَا تبرع بِهِ مستغرباً لمذهبه فِي التحدث بِنِعْمَة ربه بعد أَن أثنى عَلَيْهِ وحطّه جملَة من خراج ضيَاعه وَأمر لَهُ بكساً ولجماعة بني أُميَّة

قَالَ وَسَأَلَ الْمَنْصُور ابْن خطاب أَن يعْمل لَهُ بقرطبة خبيصاً استجاده من حلوائه فأنفذ إِلَيْهِ جَارِيَة اتخذته فِي قصره فقارب التدميريّ وَلم تكمل صِفَاته فَحكم للهواء فِي تجويده

وَكَانَ الْمَنْصُور فِيمَا بعد يصف نعْمَة ابْن خطاب وسروه وَيَقُول هِيَ أَحَق نعْمَة بِالْحِفْظِ وأولاها بِالزِّيَادَةِ لسلامتها من الغمط وَبعدهَا من الْجُحُود وقيامها بِفَرْض التَّزْكِيَة ويوعز إِلَى عماله بتدمير بِحِفْظ أَسبَابه وتحرّي مُوَافَقَته وَالْأَخْبَار عَنهُ فِي ذَلِك طَوِيلَة

وَقَالَ أَبُو بكر أَحْمد بن سعيد بن أبي الفيّاض وَيعرف بِابْن الغشّاء فِي تَارِيخه المترجم بالعبر وَذكر أَيْضا غَزْوَة الْمَنْصُور إِلَى برشلونة خرج إِلَيْهَا من قرطبة يَوْم الثُّلَاثَاء لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة خلت لذِي الْحجَّة من سنة أَربع وَسبعين وثلاثمائة وَهُوَ الْخَامِس من ماية وَأخذ على إلبيرة إِلَى بسطة إِلَى

ص: 312

لورقة إِلَى مرسية فَأَقَامَ بهَا ثَلَاثًا وَعشْرين يَوْمًا فِي ضِيَافَة أَحْمد بن دُحَيْم ابْن خطاب وَابْنه أبي الْأَصْبَغ مُوسَى بن أَحْمد لم ينْفق أحد من عسكره لنَفسِهِ درهما وَاحِدًا فَمَا فَوْقه من الْوَزير إِلَى الشّرطيّ وَكَانَ يجدد كل يَوْم للمنصور نوعا من الطَّعَام والفواكه بآلات مُخْتَلفَة كاختلاف الْأَطْعِمَة والفواكه حَتَّى صَار خَبرا فِي حَدِيث الْمَنْصُور ومفخراً عِنْده يباهي بِهِ وَبلغ أمره إِلَى أَن صنع لَهُ مَاء الْحمام من مَاء الْورْد وأبلغ فِي الإفراط فِي ضيافته فَكَانَ الْمَنْصُور يصفه فِيمَا بعد وَيَقُول نعْمَة ابْن خطاب أَحَق نعْمَة بِالْحِفْظِ وأحرمها على التَّغْيِير وأولاها بِالزِّيَادَةِ والتثمير لسلامتها وَبعدهَا من الْجُحُود وقيامها بِفَرْض التَّزْكِيَة وَكَانَ يُوصي عماله على تدمير ابْن خطاب وتحريّ مُوَافَقَته فِي كل مَا يرغبه

وَمن شعر أبي بكر فِي الطَّرِيقَة الصُّوفِيَّة

(لي حبيب أرَاهُ فِي كل آن

هُوَ أنسي وبغيتي وجناني)

(رام قوم أَن يحجبوني عَنهُ

فاختفى عَن عيونهم وأتاني)

(فَأَنا والحبيب متصلان

وبظنّ الوشاة منفصلان)

(فَإِذا مَا سكرت لم أر غَيْرِي

وَإِذا مَا صحوت فالحب ثَان)

(جلّ سكري عَن أَن ترَاهُ عُيُون

حجبت بالحروف دون الْمعَانِي)

وَهَذَا ينحو إِلَى قَول الآخر

(أقصروا عَن لومكم يَا لومه

وذروا الْقلب وَمن قد تيّمه)

(إِن من أمرض قلبِي حبّه

قَادر إِن شَاءَ يَوْمًا رَحمَه)

(لي حبيب يتجلّى سحرًا

وَلأَهل الودّ بعد الْعَتَمَة)

ص: 313

(خَالق الْعَرْش مَعَ الْفرش فقد

فهم الْمَقْصُود من قد فهمه)

وَمَا أحسن قَول أبي الْعَبَّاس بن العريف الزَّاهِد فِي هَذَا المنحى

(فاح الندى بمنطقي فتنازعوا

أبإسحل أستاك أم بأراك)

(هَيْهَات عهدي بالسّواك وَإِنَّمَا

شفة الحبيب جَعلتهَا مسواكي)

(ويظن من سمع الحَدِيث بِأَنَّهُ

حق بلَى ومدبّر الأفلاك)

(رُؤْيا رَأَيْت وإنّ من أبصرته

لمنزه عَن مهنة الْإِدْرَاك)

168 -

مُحَمَّد بن عَليّ بن أحلى أَبُو عبد الله

تأمّر بلورقة متنقلاً إِلَى الرِّئَاسَة من الدراسة وَكَانَ يجْتَمع إِلَيْهِ فِي علم الْكَلَام وَيُؤْخَذ عَنهُ وَله فِيهِ تواليف وبيته فِي المولّدين تليد النباهة وَبِذَلِك اسْتَعَانَ على مرامه إِلَى مَا لأهل بَلَده من بَأْس شَدِيد وَكَثْرَة عديد

وَلما أمكن أهل مرسية مِنْهَا الرّوم فِي شَوَّال سنة أَرْبَعِينَ وسِتمِائَة ضلّل رَأْيهمْ وَأبْدى مخالفتهم وَجعل يجادلهم بِلِسَانِهِ ويجالدهم بسنانه فَدَعَا ذَلِك إِلَى قَصده والعيث فِي جِهَته حَتَّى اضْطر إِلَى المسالمة وعَلى ذَلِك بَقِي إِلَى أَن توفّي فِي أول سنة خمس وَأَرْبَعين وَله أشعار بمقصده شاهدة وعَلى معتقده متواردة مِنْهَا قَوْله

ص: 314

(الْمَرْء يعلم بِالضَّرُورَةِ نَفسه

وَالثَّابِت الْمَوْجُود حيّ وَاحِد)

(والخلق بَين حَقِيقَة ومقدّر

تقضي عَلَيْهِ بالافتقار شَوَاهِد)

(فَانْظُر بعقلك إِن بدا لَك شرح ذَاك

فَأَنت حبر مُسْتَقِيم رَاشد)

وأنشدني لَهُ بعض أَصْحَابنَا

(تقطعت الْأَسْبَاب ثمَّ بقيت لي

فَهَل أشتكي يَوْمًا من الذل والفقر)

(لَئِن لم يكن مِنْك البعاد فإنني

سيغبطني أهل الْمَلَامَة فِي أَمْرِي)

(فَلَو عرفُوا مِنْك الَّذِي قد عَرفته

للاح لَهُم تفريطهم وبدا عُذْري)

(سَوَاء لعمري ذمهم وثناؤهم

إِذا كنت تَدْرِي من عبيدك مَا تَدْرِي)

وَله

(خليليّ قد ضَاقَتْ عليّ مذاهبي

وكفكفت نَفسِي عَن جَمِيع مطالبي)

(وضافت جفون الْعين عَن عبراتها

لأمر يرَاهُ الْخَبَر ضَرْبَة لازب)

ص: 316

(وشبت وَلم أبلغ ثَلَاثِينَ حجّة

لحجة جَبَّار على الْخلق غَالب)

(دَعَاني وشجوي والأسى وبلابلي

فَلَا تعذلاني فِي الدُّمُوع السواكب)

(أألتذّ بالدنيا وأرنو لحسنها

وَلست إِلَيْهَا بعد موتِي بآيب)

(لعمري لقد أَصبَحت سَكرَان حائراً

جَدِيرًا بِمَا عِنْدِي وَلست بشارب)

169 -

مُحَمَّد بن سبيع بن يُوسُف بن سعد بن مُحَمَّد بن سعد الجذامي أَبُو عبد الله

ولى دانية لِابْنِ عَمه أبي جميل زيّان بن مدافع بن يُوسُف أَمِير بلنسيّة وانتزى عَلَيْهِ فِيهَا ثمَّ هرب وأسلمها وَكَانَ قد انتزى قبل ذَلِك بمرسية فقيّد وَاحْتمل إِلَى مرّاكش وَحبس بهَا مُدَّة وَله مُشَاركَة فِي الْأَدَب ومطالعة لغيره وَمن شعره

(لما رَأَيْت الْقرب دون مناله

عوائق دنيا تلْحق الحرّ بالتّرب)

(تَوَجَّهت للمحراب أبغي وجاهة

لعَلي بهَا أرق إِلَى رُتْبَة الْقرب)

ص: 317

وَتُوفِّي بِحَضْرَة تونس كلأها الله فِي شهر ربيع الآخر سنة ثَلَاث وَخمسين وسِتمِائَة

170 -

سعيد بن حكم بن عمر بن حكم الْقرشِي أبوعثمان

أَصله من طبيرة بغرب الأندلس وَبهَا ولد وَكَانَ بإفريقية لما خَافَ من وَالِي إشبيلية ثمَّ قدم على ميورقة قبل أَن يدخلهَا الرّوم عنْوَة فِي منتصف صفر سنة سبع وَعشْرين وسِتمِائَة بِيَسِير فقدّم مِنْهَا عَاملا على منورقة إِلَى أَن تغلب على قاضيها أبي عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن هِشَام وَقد صَارَت إِلَيْهِ رئاستها فِي قصَّة طَوِيلَة وَانْفَرَدَ بضبطها من ثَانِي عيد الْفطر سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة إِلَى وقتنا هَذَا وَأخرج ابْن هِشَام وَابْنه ثمَّ استرجعهما فَكَانَ ذَلِك آخر الْعَهْد بهما

ص: 318

ودعي بالرئيس وشارط الرّوم على متاركته وبتّ مساكنته بإتاوة لم يخلّ بحملها إِلَيْهِم فِي كل سنة فامتد مهله وحمدت سيرته وَكثر الِانْتِفَاع بِهِ فِي جزيرته حَتَّى يمّمت منتجعاً وَصَارَت للمنقطع بِهِ مفزعاً وَأما العناة فَكَأَنَّمَا فكّهم عَلَيْهِ دين هَذَا وَلَا ورق بنواحيه يَتَّسِع فِيهِ وَلَا عين

ص: 319

وَكثير من الأدباء استرقّهم بإعتاقهم فنوهت بصنيعه أمداحهم وَآخَرُونَ ركبُوا إِلَيْهِ ثبج الْبَحْر ففازت بجميل اصطناعه قداحهم وَبِالْجُمْلَةِ فالجود الْمَحْض صناعته وَالْأَدب الغض بضاعته وَمن شعره

(أما الْهوى فسجيتي إضماره

لَوْلَا الدُّمُوع لما فَشَتْ أسراره)

(مَا عيل بِالْكِتْمَانِ صبري إِنَّمَا

عظم الغرام فَضَاقَ عَنهُ قراره)

(ينهلّ دمعي مَا تشبّ جوانحي

والغصن يندي إِذْ تأجّج ناره)

(جمحت جِيَاد الْحبّ بِي حَتَّى أَتَت

مضمار قيس والردى مضماره)

(لله غُصْن ناعم قلبِي لَهُ

مثوى غَدا بردا عَلَيْهِ أواره)

(أظمأته بالعتب ثمَّ سقيته

دمعي فَأصْبح وَالرِّضَا إثماره)

وَله

(نقط المداد على برود الْكَاتِب

كالخال فِي خد الفتاة الكاعب)

(لَا شَيْء يحسن بالمداد كثوبه

إِن المداد لوشي ثوب الْكَاتِب)

وَله

(إِنِّي لأعجب من مُلُوك أَصْبحُوا

وهم موَالٍ أعبد الشَّهَوَات)

(الأطيبان مُرَادهم ومرادهم

أرب الْفروج وإربة اللهوات)

(لَو وقفُوا وقفُوا اجْتِمَاعهم على

نفي الْهوى فضلا عَن الخلوات)

(مرت سنُون وهم ملاك للورى

يَا ليتهم مروا مَعَ السنوات)

(مَا نَحن إِلَّا فِي فلاة للردى

فلتحذر الشَّهَوَات فِي الفلوات)

ص: 320