الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الضابط الأول: عرض الرواية على النبي صلى الله عليه وسلم حال حياته:
وهذا من أعظم أسباب حماية السنَّة، فهم وإنْ كانوا خير ناس، ولم يفشي بينهم الكذب، إلاّ أنهم تحرجوا من كثرة التحديث، والقبول من كل أحد، فكان بعضهم يأتي النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن أمر ينسب إليه صلى الله عليه وسلم،ومن ذلك:
ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة، قال: كنا قعوداً حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، معنا أبو بكر، وعمر في نفر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا، فأبطأ علينا، وخشينا أن يقتطع دوننا، وفزعنا، فقمنا، فكنت أوّل من فزع، فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتيت حائطا للأنصار لبني النجار، فدرت به هل أجد له باباً؟ فلم أجد، فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجة - والربيع الجدول - فاحتفزت، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"أبو هريرة" فقلت: نعم يا رسول الله، قال:"ما شأنك؟ " قلت: كنت بين أظهرنا، فقمت فأبطأت علينا، فخشينا أن تقتطع دوننا، ففزعنا، فكنت أول من فزع، فأتيت هذا الحائط، فاحتفزت كما يحتفز الثعلب، وهؤلاء الناس ورائي، فقال:"يا أبا هريرة" وأعطاني نعليه، قال:"اذهب بنعلي هاتين، فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أنْ لا إله إلاّ الله مستيقناً بها قلبه، فبشره بالجنة". فكان أوّل من لقيت عمر، فقال: ما هاتان النعلان يا أبا هريرة؟ فقلت: هاتان نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعثني بهما من لقيت يشهد أنْ لا إله إلاّ الله مستيقناً بها قلبه، بشرته بالجنة، فضرب عمر بيده بين ثديي فخررت لاستي، فقال: ارجع يا أبا هريرة، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجهشت بكاء، وركبني عمر، فإذا هو على أثري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما لك يا أبا هريرة؟ " قلت: لقيت عمر، فأخبرته بالذي بعثتني به، فضرب بين ثديي ضربة خررت لاستي، قال: ارجع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا عمر، ما حملك على ما فعلت؟ " قال: يا رسول الله، بأبي أنت، وأمي، أبعثت أبا هريرة بنعليك، من لقي يشهد أنْ لا إله إلاّ الله مستيقناً بها قلبه بشره بالجنة؟ قال:"نعم ".قال: فلا تفعل، فإني أخشى أن يتكل الناس عليها، فخلهم يعملون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فخلهم"(1).
فعمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يقبل الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم من أبي هريرة رضي الله عنه أولاً، حتى عرضه على النبي صلى الله عليه وسلم ليتأكد من صحة الخبر، وهذا لا يعني تهمة لأبي هريرة، فربما لو جاء بهذا الخبر من جاء من الصحابة لتثبت عمر رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم، اللهم إلاّ ابا بكر الصديق، لعظم مكانته عندهم، وقد مرت أمثلة تؤيد ذلك.
(1) أخرجه مسلم، المسند الصحيح 1/ 59 (31)،وغيره.
فكان عمر - الملهم- قد اجتهد في احتمال استغلال بعض ضعاف القلوب لهذا الحديث في التسويف في الاعمال، والتقصير في الطاعات (الاتكال)،كما عبر عنه عمر رضي الله عنه، فأقره النبيُّ صلى الله عليه وسلم على اجتهاده.
وقد فعل مثل فعل عمر رضي الله عنه بعض الصحابة، ومن ذلك انّ معاذ بن جبل رضي الله عنه حين حضرته الوفاة قال: اكشفوا عني سجف القبة أحدثكم حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ". وقال مرة: أخبركم بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمنعني ان أحدثكموه إلاّ أنْ تتكلوا سمعته يقول: "من شهد ان لا إله الا الله مخلصا من قلبه أو يقينا من قلبه لم يدخل النار أو دخل الجنة" وقال مرة:"دخل الجنة ولم تمسه النار " (1).
قال النووي:" وأما دفع عمر رضي الله عنه له-يريد أبا هريرة- فلم يقصد به سقوطه وإيذاءه بل قصد رده عما هو عليه وضرب بيده في صدره ليكون أبلغ في زجره "(2).
وهنا نكتة عظيمة وهي سماع النبيِّ صلى الله عليه وسلم لرأي أصحابه والنزول عنده! وهذا في منتهى الرحمة والتواضع النبوي، وهو تربية لأمته من بعده.
قال القاضي عياض:" وليس فعل عمر ومراجعة النبيِّ صلى الله عليه وسلم في ذلك اعتراضاً عليه ورد الأوامر، إذ ليس فيما وجّه به أبا هريرة (3) غير تطييب قلوب أمته وبشراهم، فرأى عمر أنّ كتم هذا عنهم أصلح لهم، وأذكى لأعمالهم، وأوفر لأجورهم ألاّ يتكلوا، وأنه أعود بالخير عليهم من مُعَجَّلة هذه البشرى، فلما عرض ذلك على النبيِّ صلى الله عليه وسلم صوّبه له، وقد يكون رأي عمر للعموم وأمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم للخصوص، وخشى عمر إنْ حصل فى الخصوص أنْ يفشو ويتسع. وفى هذا الحديث من الفقه والذى قبله: إدخال المشورة على الإمام من أهل العلم والدين ومن وزرائه وخاصته .. "(4).
وتأمل بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ، وكان رديفه على الرحل:"يا معاذ بن جبل. قال: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: يا معاذ. قال: لبيك يا رسول الله وسعديك- ثلاثا- قال: "ما من أحد يشهد أنْ لا إله
(1) اخرجه أحمد، المسند 5/ 235.
(2)
النووي، شرح مسلم 1/ 228.
(3)
في المطبوع (معاذ)،والصواب ما أثبتناه، وهو في إحدى نسخ الكتاب كما نبه المحقق في الهامش.
(4)
القاضي عياض، إكمال المعلم شرح صحيح مسلم1/ 264.