المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الضابط الرابع: عرض الرواية على كبار الصحابة - الدراية في بيان ضوابط نقد الرواية عند الصحابة

[عبد القادر المحمدي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌المبحث الأول: مفهوم الصحبة، ودور الصحابة في كتابة السنة النبوية وحفظها

- ‌المطلب الأول: من هو الصّحابيّ

- ‌أولاً: الصّحابيّ لغة:

- ‌ثانياً: الصّحابيّ في اصطلاح المحدثين:

- ‌المطلب الثاني: طرق ثبوت الصحبة

- ‌أولاً: التّواتر

- ‌ثانياً: الشّهرة أو الاستفاضة

- ‌ثالثاً: أن يروى عن آحاد الصّحابة أنّه صحابي

- ‌رابعاً: أنْ يخبر أحد التّابعين بأنّه صحابي

- ‌خامساً: أن يخبر هو عن نفسه بأنّه صحابيٌّ

- ‌المطلب الثالث: فضلهم ومنزلتهم في الكتاب والسنة:

- ‌المطلب الرابع: مراتب الصحابة، وعقيدة أهل السّنّة في تفضيل الصّحابة

- ‌المبحث الثاني: جهود الصحابة في تدوين السنة:

- ‌1 - حفظ الروايات، وأعني به حفظ الصدر وحفظ الكتاب

- ‌2 - تدوينهم الحديث في صحف:

- ‌3 - دقتهم وتحريهم وأمانتهم:

- ‌4 - احتياط الصحابة والتابعين في رواية الحديث:

- ‌المبحث الثالث: ضوابط نقد الرواية عند الصحابة الكرام:

- ‌الضابط الأول: عرض الرواية على النبي صلى الله عليه وسلم حال حياته:

- ‌الضابط الثاني: عرض الرواية على القرآن الكريم

- ‌الضابط الثالث: عرض الرواية على المحفوظ من السنة النبوية (بعد وفاته صلى الله عليه وسلم

- ‌الضابط الرابع: عرض الرواية على كبار الصحابة

- ‌الضابط الخامس: عرض الرواية على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الضابط السادس: التحري من صاحب القصة التي جاء في الرواية

الفصل: ‌الضابط الرابع: عرض الرواية على كبار الصحابة

وقد يعارض هذا الحديث بحديث إمامة النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، وقد وجهه العلماء بتوجيهات عدة، منها أن حديث المنبر منسوخ، يقول الإمام القرطبي:" قلت: فهؤلاء ثلاثة من الصحابة قد أخبروا بالنهي عن ذلك، ولم يحتج أحد منهم على صاحبه بحديث المنبر فدل على أنه منسوخ، ومما يدل على نسخه أن فيه عملا زائداً في الصلاة، وهو النزول والصعود، فنسخ كما نسخ الكلام والسلام"(1).

ومنه أيضاً ما أخرجه أحمد من حديث ابن المسيب قال: خرج عثمان رضي الله عنه حاجاً حتى إذا كان ببعض الطريق قيل لعلي رضوان الله عليهما أنّه قد نهى عن التمتع بالعمرة إلى الحج. فقال علي رضي الله عنه لأصحابه: إذا ارتحل فارتحلوا فأهل علي وأصحابه بعمرة فلم يكلمه عثمان رضي الله عنه في ذلك، فقال له علي رضي الله عنه ألم أخبر إنّك نهيت عن التمتع بالعمرة؟ قال: فقال: بلى. قال: فلم تسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم تمتع؟ قال: بلى " (2).

قال السندي:" والحاصل أنّ عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما كانا يريان أن التمتع في وقته صلى الله عليه وسلم كان بسبب من الأسباب وتركه أفضل وعلي كان يراه أنه السنة أو أفضل، والله تعالى أعلم"(3).

وعلي أية حال فالذي يعنينا معارضة علي لنهي عثمان رضي الله عنهما عن التمتع بالعمرة إلى الحج بما يحفظ من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

‌الضابط الرابع: عرض الرواية على كبار الصحابة

.

من البدهي أن حفظ الصحابة الكرام متفاوت وأن فقههم متفاوت، نصّ عليه القرآن الكريم بقوله تعالى {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَاّ قَلِيلاً} (4).

فلو كان الصحابة كلهم على قدر متساوٍ من الفقه والحفظ والاستنباط لما أمرهم رب العزة بردّ الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حضوره حال حياته، وإلى فقهاء الصحابة وأهل العلم منهم في غياب النبي صلى الله عليه وسلم أو بعد وفاته.

أخرج أحمد وغيره من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن

(1) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن11/ 58،وينظر: ابن رجب، فتح الباري2/ 455،والشيقينطي، أضواء البيان3/ 373.

(2)

أخرجه أحمد، المسند 1/ 54،والنسائي، السنن 5/ 153،وغيرهما.

(3)

السندي، شرح سنن النسائي 5/ 152.

(4)

سورة النساء/83.

ص: 22

ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ألا وإن لكل أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح" (1).

وهذا التكامل بين الصحابةالكرام هو من بلغ بهم ما بلغ، لذا كان بعض الصحابة يتحرى من الصحابي الأخر صحة حديث طرق سمعه لم يكن سمعه من قبل، إما لكونه لم يحضر ذلك المجلس كلّه أو بعضه، أو لتأخر اسلامه عن زمن تحديث النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا ضابط معتبر عند الصحابة الكرام في قبول الأحاديث.

ومن ذلك: ما أخرجه عبد الررزاق في مصنفه من حديث قبيصة بن جابر الأسدي، قال: كنت محرماً فرأيت ظبياً فرميته، فأصبت خُشَشَاءَهُ -يعني أصل قرنه- فركب ردعه، فوقع في نفسي من ذلك شيء، فأتيت عمر بن الخطاب أسأله فوجدت لما جئته رجلا أبيض رقيق الوجه، وإذا هو عبد الرحمن بن عوف قال: فسألت عمر فالتفت إلى عبد الرحمن، فقال:"ترى شاة تكفيه؟ " قال: نعم فأمرني أن أذبح شاة "، فقمنا من عنده، فقال صاحب لي: إنّ أمير المؤمنين لم يحسن أنْ يفتيك حتى سأل الرجل فسمع عمر كلامه، فعلاه عمر بالدرة ضربا، ثم أقبل علي عمر ليضربني، فقلت: يا أمير المؤمنين لم أقل شيئا إنما هو قاله قال: فتركني، ثم قال: "أردت أن تقتل الحرام وتتعدى الفتيا" قال: " إن في الإنسان عشرة أخلاق، تسعة حسنة، وواحدة سيئة، فيفسدها ذلك السيئ، وقال: إياك، وعثرة الشباب" (2).

ومن ذلك ما أخرجه الشيخان من حديث مالك بن أوس بن الحدثان قال: جئت بدنانير لي فأردت ان أصرفها فلقينى طلحة بن عبيد الله فاصطرفها وأخذها، فقال: حتى يجئ سلم خازني -قال أبو عامر من الغابة- وقال فيها كلها: هاء وهاء. قال فسألت عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن ذلك، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" الذهب بالورق ربا إلاّ هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلاّ هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلاّ هاء وهاء والتمر بالتمر رباً إلاّ هاء وهاء"(3).

(1) أخرجه أحمد 3/ 184،و3/ 281،وابن ماجه (154) والترمذي (3791) و، وغيرهم، وفي إسناده كلام طويل، بعضهم صححه كالترمذي وابن حبان وغيرهما، وبعضهم ضعفه بالإرسال.

(2)

أخرجه عبد الرزاق، المصنف 4/ 407،والطبراني، المعجم الكبير 1/ 127 (259)،والحاكم، المستدرك 3/ 305،وغيرهم

(3)

أخرجه أحمد-واللفظ له- المسند 1/ 45،والبخاري، الجامع الصحيح (2027)،ومسلم، المسند الصحيح 3/ 1209

(1586)

، وغيرهم.

ص: 23

فتأمل في قوله (فسألت عمر)،فالرجل إراد الاطمئنان لهذا الحكم (الحديث)،أنه صدر من النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل بعض الأصحاب عنه.

ويتضح هذا الضابط بشكل أجلى في قول أم المؤمنين لسائل يسألها عن مسألة، فتحيله إلى من هو أعرف بها، لتعلق المسألة بأمر ما، إذ أخرج الإمام أحمد بسند صحيح من حديث القاسم بن مخيمرة عن شريح بن هانئ قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن المسح على الخفين، فقالت: سلْ علياً فهو أعلم بهذا منّي، هو كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألت علياً رضي الله عنه،فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"للمقيم يوم وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن "(1).

فلما كان السؤال يتعلق بمسألة تقع في الغالب في السفر، فالسيدة عائشة رضي الله عنه أرجعت السائل إلى صحابي آخر أعرف منها بهذه المسألة؛ لأنه كان يسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم.

ومنه: ما أخرجه الشيخان من حديث أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري، قال: جاء أبو موسى إلى عمر بن الخطاب فقال: السلام عليكم هذا عبد الله بن قيس، فلم يأذن له، فقال: السلام عليكم هذا أبو موسى، السلام عليكم هذا الأشعري، ثم انصرف، فقال: ردوا علي ردوا علي، فجاء فقال: يا أبا موسى ما ردك؟ كنا في شغل، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك، وإلا فارجع" قال: لتأتيني على هذا ببينة، وإلا فعلت وفعلت، فذهب أبو موسى. قال عمر: إن وجد بينة تجدوه عند المنبر عشية، وإن لم يجد بينة فلم تجدوه، فلما أن جاء بالعشي وجدوه، قال: يا أبا موسى، ما تقول؟ أقد وجدت؟ قال: نعم، أبي بن كعب، قال: عدل، قال: يا أبا الطفيل ما يقول هذا؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، يا ابن الخطاب فلا تكونن عذابا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: سبحان الله إنما سمعت شيئا، فأحببت أن أتثبت" (2).

وفي قول عمر رضي الله عنه: (أتثبت) تصريح واضح باعتبار هذا الضابط المهم عندهم.

ومنه ما أخرجه أحمد من حديث الوليد بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة، حدّث عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنّه قال:"من صلّى على جنازة فله قيراط، ومن صلّى عليها وتبعها فله قيراطان". فقال له عبد الله بن عمر: انظر ما تحدّث به يا أبا هريرة، فإنك تكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بيده، فذهب به إلى عائشة، فصدقت

(1) أخرجه أحمد، المسند 1/ 149.

(2)

أخرجه البخاري، الجامع الصحيح (5891)،ومسلم –واللفظ له- المسند الجامع 3/ 1694 (2153)،وغيرهما.

ص: 24

أبا هريرة، فقال أبو هريرة:"والله يا أبا عبد الرحمن، ما كان يشغلني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفق في الأسواق، ما كان يهمني من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كلمة يعلمنيها، أو لقمة يلقمنيها"(1).

فمن يتأمل صنيع أبي هريرة رضي الله عنه يجد بوضوح اعتمادهم –أحياناً-في صحة الراوية وتصحيحيها على اقرار الصحابة الكبار.

ومنه أيضاً ما أخرجه ابن سعد وغيره من حديث سالم أبي النضر، قال: لما كثر المسلمون في عهد عمر ضاق بهم المسجد فاشترى عمر ما حول المسجد من الدور إلا دار العباس بن عبد المطلب وحجر أمهات المؤمنين، فقال عمر للعباس: يا أبا الفضل إن مسجد المسلمين قد ضاق بهم وقد ابتعت ما حوله من المنازل نوسع به على المسلمين في مسجدهم إلا دارك وحجر أمهات المؤمنين، فأما حجر أمهات المؤمنين فلا سبيل إليها وأما دارك فبعنيها بما شئت من بيت مال المسلمين أوسع بها في مسجدهم. فقال العباس: ما كنت لأفعل. قال فقال له عمر:"اختر مني إحدى ثلاث: إما أن تبيعنيها بما شئت من بيت مال المسلمين، وإما أن أخططك حيث شئت من المدينة وأبنيها لك من بيت مال المسلمين، وإما أن تصدق بها على المسلمين فنوسع بها في مسجدهم" فقال: "لا، ولا واحدة منها"، فقال عمر:"اجعل بيني وبينك من شئت"، فقال:"أبي بن كعب"، فانطلقا إلى أبي، فقصا عليه القصة فقال أبي:" إن شئتما حدثتكما بحديث سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم "، فقالا:"حدثنا"، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إنّ الله أوحى إلى داود أن ابن لي بيتاً أذكر فيه». فخط له هذه الخطة، خطة بيت المقدس فإذا تربيعها بيت رجل من بني إسرائيل. فسأله داود أن يبيعه إياه، فأبى، فحدث داود نفسه أن يأخذ منه فأوحى الله إليه أنْ يا داود: أمرتك أنْ تبني لي بيتاً أُذكر فيه، فأردت أنْ تدخل في بيتي الغصب، وليس من شأني الغصب، وإنّ عقوبتك أنْ لا تبنيه. قال: يا رب فمن ولدي؟ قال: من ولدك". قال: فأخذ عمر بمجامع ثياب أبي بن كعب وقال: "جئتك بشيء فجئت بما هو أشد منه". لتخرجن مما قلت. فجاء يقوده حتى أدخله المسجد فأوقفه على حلقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أبو ذر فقال: "إني نشدت الله رجلا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر حديث

بيت المقدس حين أمر الله داود أن يبنيه إلا ذكره". فقال أبو ذر: "أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ".وقال آخر: "أنا سمعته". وقال آخر: "أنا سمعته". يعني من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأرسل عمر أبياً، قال: وأقبل أُبي على عمر فقال: " يا عمر أتتهمني على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم! "، فقال عمر: " يا أبا المنذر، لا والله ما أتهمتك عليه، ولكني كرهت أن يكون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهراً". قال: وقال عمر للعباس: " إذهب فلا

(1) أخرجه أحمد، المسند 2/ 387.

ص: 25